Translate

الثلاثاء، 21 مارس 2023

ج1. مجلة التاريخ العربي{آفاق التوسع الفلاحي وآثاره البيئية في الوطن العربي -الدكتور عبد الله العوينة{كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط

ج1. مجلة التاريخ العربي{آفاق التوسع الفلاحي وآثاره البيئية في الوطن العربي -الدكتور عبد الله العوينة{كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط

مقدمة:

يعتبر الوطن العربي من أقدم المجالات التي اشتغل فيها الإنسان بالزراعة والرعي المنظم للماشية. بل قد قامت على النشاط الفلاحي حضارات راقية، مثل حضارة النيل، أو أرض ما بين الرافدين، أو الحضارات الجبلية في الشام والمغرب العربي.

وقد أدى التوسع الفلاحي ودقة التقنيات التي رافقته، إلى تحولات في المشهد والبيئة، من أشهرها تحول الصحاري إلى

(1/1)

واحات، وتحول السفوح الوعرة إلى جنان متدرجة. كما أن الرعي المتنقل في الصحراء وهوامشها مثل تكيفا عجيبا مع البيئة الجافة، حيث سمح بالحفاظ على الثروات النباتية واستمرار تجددها.

كما أن التوسع الزراعي الذي كان ملازما لفترات الرقي الحضاري والازدهار السكاني، تلازم مع تمديد وتطير أساليب ري الأراضي الجافة، وتصريف الماء عن الأراضي المغمورة أوقات الفيض. وهكذا اقترن التطور الحضاري بتطوير تقنيات التمكن من الماء، وقاية واستعمالات، من بينها تقنيات الحفاظ على الماء من السيل أو التبخر، رجاء في الرفع من استفادة

(1/2)

النباتات منه. وفي تفادي السيل المباشر حد من خطورة الجريان في الرفع من استفادة النباتات منه. وفي تفادي السيل المباشر حد من خطورة الجريان التي يتسبب في انجراف الأتربة كما يتسبب في ضياع التجهيزات والمشيدات.

في الوقت الحاضر، صار للتوسع الفلاحي مدلول آخر، صار مبنيا على مفهوم الحاجة إلى المزيد من الإنتاج، جريا وراء ضمان الغذاء، من أجل الحصول على اكتفاء غذائي نسبي. ذلك أن الوطن العربي يشمل رقعة زراعية لا تتعدى 9.4 % من مساحته الإجمالية، الشيء الذي يجد المساحة بالنسبة للفرد الواحد في 0.6 هكتار. وهو

(1/3)

مقدار هزيل جدا، ناتج عن جفاف أغلب أراضي الوطن العربي ووعورة الباقي منها. لهذا السبب فإن العجز الغذائي مهم. ويخص مواد استراتيجية مثل الحبوب واللحوم والزيوت والسكر. فالأمة العربية تستورد أكثر من نصف احتياجاتها من الحبوب وخمس احتياجاتها من اللحوم. وللحد من هذا العجز، عملت كثير من الدول العربية على سن برامج استثمار زراعية طموحة، جعلت البعض منها يتمكن من دخول صف المصدرين لبعض المواد الزراعية، مثل شمال إفريقيا بالنسبة للخضر والفواكه وبعض المزروعات الصناعية.

(1/4)

وتنبني هذه البرامج الزراعية أساسا على تكثيف الفلاحة للرفع من المحصول، إما عن طريق تحسين التقنيات أو عن طريق تمديد قنوات الري.

لكن لوحظ كذلك بأن التوسع الزراعي على حساب الأراضي السهوبية المستعملة كمراعي، اعتبر أحد سبل الرفع من الإنتاج. فتحولت كثير من أراضي الرعي المتنقل إلى مزارع دائمة، بعضها يحمل مزروعات بعلية خفيفة، والبعض الآخر زراعات مسقية بعد النجاح في اكتشاف واستخراج مياه باطنية. هذا التوسع الذي يحمل في طياته أهدافا تنموية لا تناقش، قد تكون له عواقب بيئية خطيرة إذا لم تراع المنظومات

(1/5)

البيئية المعقدة، وتم الاستعمال بشكل جائر.

والأراضي الجافة هي مجالات حيث تركز الأمطار في وقت محدود، يجعل النباتات تتكيف مع هذا التركز، وتنمو بأسرع ما يمكن لتفادي حصول خصاص يكون مآله ذبولها وهلاكها. فهي تنمو في أقل من ثلث السنة، أي في أقل من 120 يوما. بل تنزل مدة الإنبات إلى ما دون ذلك في الصحاري القاحلة جدا. وهذا ما يجعل التربة الزراعية عارية مدة طويلة تتعرض خلالها إلى مختلف آليات الاقتلاع والإزالة.

(1/6)

وضمان النماء المستديم للزراعة في هذه المجالات يتوقف على صيانة التربة الجيدة القابلة لخزن الماء وقت الشح، وعلى تطبيق تقنيات زراعية تستهلك أقل ما يمكن من الماء مع ضمان إنتاجية مرتفعة، أو تقنيات رعي تحافظ على جودة المراعي وتنوع منتوجها النباتي.

والهدف من هذا المقال التنبيه إلى مخاطر سن سياسية تنموية غير وقائية للموارد الطبيعية.

I - واقع الفلاحة في الوطن العربي: ضيق الرقعة وصعوبة التوسع:

يتمتع العالم العربي بموقع متميز يمنح له فرصة التنوع المناخي والتكامل بين بيئات مختلفة، الشيء الذي ينتج عنه تنوع

(1/7)

الإنتاج واختلاف فصول المحصول.

لكن جل الأراضي تشكو من الجفاف. وتندمج المجالات الجافة في الوطن العربي أساسا ضمن النطاق الحار وهوامشه المتوسطية شمالا، أو المدارية جنوبا، وهي تتلقى أقل من 100 أو 150 مم سنويا، وتضاف إليها المجالات نصف الجافة الهامشية والتي تستقبل أقل من 500-600 مم.

جدول 1 : نسبة الأراضي الجافة في الوطن العربي

القطر

أراضي جافة

أراضي شبه جافة

الجزائر

92

3 %

مصر

100

-

ليبيا

98

1

موريتانيا

94

5

المغرب

54

10

الصومال

93

7

السودان

55

11

تونس

66

16

البحرين

100

-

العراق

73

9

فلسطين

(1/8)

53

11

الأردن

85

7

لبنان

0

2

الكويت

100

-

عمان

100

-

قطر

100

-

السعودية

97

2

سوريا

49

34

الإمارات

100

-

اليمن

56

25

المصدر: الكتاب المرجع في جغرافية الوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

ويشتمل الوطن العربي على ما مقداره 1393 مليون من الهكتارات وتتميز هذه الأراضي بغلبة المجالات القاحلة وغير المنتجة داخلها إذ تغطي حوالي 67% من المساحة الإجمالية، مكونة من صحاري أو قمم جبلية وعرة. ولا تمثل الأراضي الزراعية (52 مليون هكتار) سوى 4% من المساحة الشمولية، الشيء الذي ينذر

(1/9)

بمحدودية الإنتاج. أما المراعي الدائمة فهي أوفر حظا وتغطي 311 مليون هكتار (22% من المساحة). ومن الواجب أن نضيف إليها حوالي 80 مليون من الهكتارات تغطيها الغابات ومراعي أخرى غير دائمة (6% من المساحة).

الجدول 2 : مساحة ونسبة الأراضي حسب نوعيتها بآلاف الهكتارات في الوطن العربي.

المساحة العامة

أراضي منتجة

مراعي دائمة

أراضي زراعية

نسبة %

مساحتها

نسبة %

مساحتها

نسبة %

مساحتها

البحرين

68

10

7

6

4

الكويت

1782

8

142

2

26

قطر

1100

5

55

5

49

السعودية

214969

41

87277

40

84912

1

1200

الإمارات

8360

3

225

(1/10)

2

200

الجزائر

238174

18

42871

13

3096

3

7500

العراق

43832

26

11396

9

4032

12

5400

ليبيا

17594

9

16011

8

13372

1

2100

عمان

21246

5

1062

5

998

0

مصر

100145

3

2603

2

2500

الأردن

8921

13

1159

8

722

5

414

لبنان

1040

38

395

1

9

29

301

المغرب

71000

55

38700

30

21000

13

9200

سوريا

18518

79

14573

45

8351

30

5630

تونس

16361

53

8736

20

3190

29

4680

اليمن

52797

39

20749

30

16050

جيبوتي

2320

9

206

9

199

موريتانيا

102552

53

54147

38

39072

0

199

الصومال

63766

62

39407

46

29332

1

933

السودان

(1/11)

250581

49

1217823

24

59137

5

12480

الوطن العربي

1393486

33

461511

22

311625

4

52584

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة، المكتب الإقليمي، القاهرة، 1994

لكن هذا التوزيع يختلف حسب الأقطار، وذلك تبعا لموقفها. ففي البلدان الصحراوية كدول الخليج العربي، تتسم الأراضي المنتجة بمحدوديتها، عدا في المملكة العربية السعودية، حيث تغطي المراعي 40% من المساحة الإجمالية. وترتفع نسبة الأراضي المنتجة في الشرق الأدنى لتصل إلى أقصاها (79%) في سوريا التي تغطي بها الأراضي المنتجة (30 مليون هكتار من المراعي في الجزائر،

(1/12)

21 مليون في المغرب، أكثر من 21 مليون من الهكتارات المستعملة في الزراعة في دول شمال غرب إفريقيا الثلاث). لكن شساعة القسط الصحراوي من هذه البلدان، يجعل نسبة الأراضي المنتجة لا تتعدى 18% في الجزائر.

وينفرد السودان، أوسع قطر عربي، باحتوائه على أراضي منتجة شديدة التنوع. فهو يضم 12.5 مليون هكتارا من الأراضي الزراعية، أي أكثر من خمس الأراضي الزراعية العربية. ويضم إلى جانبها مراعي صحراوية، ومراعي عشبية مدارية، وغابة مدارية في أقصى جنوبه. وهذا يجعل من هذا البلد، القطر الذي يحتوي على الإمكانات الطبيعية

(1/13)

لتنمية الزراعة الأكثر امتدادا وتطورا. والمقارنة مع مصر تبين شساعة الفرق على مستوى الإتاحات، حيث لا يضم هذا البلد الأخير سوى 2.5 مليون من الأراضي الزراعية، بينما تغيب الأنواع الأخرى من الأراضي المنتجة، ورغم ذلك، وبسبب ارتفاع الإنتاجية، استطاعت مصر أن ترقى إلى درجة عالية على مستوى المردود الزراعي.

وهذا يدل على أن امتداد المساحات المنتجة ليس وحده الكفيل بضمان الإنتاج المرتفع. فالكثافة الزراعية عامل أساس لتحديد هذا الإنتاج. ولا شك أن عامل ماء السقي في الدول العربية التي تشكو غالبا من الجفاف، له

(1/14)

مفعول كبير، حيث يسمح بمردود عال من جهة ومن تعدد المحصول في نفس الأرض مرتين أو ثلاثا في السنة الواحدة (كما هو الحال في دلتا النيل).

وتمثل نسبة الأراضي المسقية من مجموع الأراضي الزراعية 100% في مصر. وانخفاض هذه النسبة إلى ما دون ذلك بكثير في دول الخليج لا يعني أن بعض الأراضي تستعمل بعلية، بل يدل على أن قسطا هاما من أراضي هذه الأقطار يبقى مستريحا، وذلك لارتفاع تكلفة الري، خاصة في المجالات حيث تستعمل تقنية تحلية مياه البحر لهذا الغرض. وهكذا لا تستعمل من الأراضي الصالحة للزراعة سوى 50% في البحرين،

(1/15)

25% في الكويت والإمارات، و36% في السعودية. أما في الشرق الأدنى والمغرب العربي، فإن الأراضي البعلية تمثل المساحات الغالبة، في مجالات تتلقى تساقطات كافية للحصول على مردود زراعي سنوي. لكن في هذه البلدان كثيرا ما تم تمديد الأرض الزراعية البعلية على حساب المراعي والغابات، الشيء الذي ينذر بحدوث آليات تدهور للتربة.

لكل هذا تعتبر الموارد الزراعية والرعوية في الوطن العربي محدودة بسبب شح التهاطلات وندرة المياه القابلة للاستعمال من أجل السقي. ويبقى قطاع الرعي، يشغل جل المساحات. وهذا ينم عن إمكانية إنتاج

(1/16)

حيواني لا بأس بها، تثبتها أعداد الماشية التالية (22 مليون من الأبقار، و33 مليون من الغنم والماعز في السودان، إضافة إلى 29 مليون من الجمال، 6 مليون من الأبقار في الصومال، 21 مليون من الغنم والماعز في المغرب، 11 مليون من الغنم في السعودية...). لكن إنتاجية هذا القطيع من الحيوانات تبقى محدودة ومعتمدة أساسا على الغذاء الذي توفره المراعي السهوبية والصحراوية.

والمعروف أن الوحدات العلفية التي تنتجها هذه المراعي الجافة قليلة وقابلة للتراجع في سنوات الجفاف، بينما تخضر المراعي نسبيا في السنوات الممطرة.

(1/17)

إلا أن ارتفاع عدد رؤوس الماشية يتسبب في تدهور هذه المراعي وتناقص مردودها.

كما أن الاحتياطي من الأراضي القابلة للزراعة محدود جدا. فقد ارتفعت الرقعة الزراعية في المغرب الأقصى من 7.9 مليون هكتار خلال السبعينات إلى 9.2 مليون في التسعينات. وقد تم غالبا على حساب السهوب والمراعي الجماعية. إلا أن إمكانيات تمديد الأرض الزراعية إلى ما فوق ذلك يعتبر صعبا، لأن هذا التمديد لن يتم إلا على أراضي شديدة الهشاشة والحساسية. وبالتالي سوف تكون له عواقب بيئية وخيمة.

(1/18)

والاحتياطي الوحيد من الأراضي الذي يمكن اعتباره مهما هو ذاك الذي يحتويه القطر السوداني حيث لا يستغل حاليا سوى خمس الأراضي القابلة للزراعة. إلا أن عدم الاستقرار لم يسمح أبدا بإقامة مشاريع زراعية تذكر، بل عرفت البلاد أزمات إنتاجية شديدة كان من جرائها خصاص قومي عام، بل مجاعات إقليمية خطيرة.

والمقارنة بين الساكنة والموارد الفلاحية يثبت أكثر محدودية الإمكانات المتوفرة

... ... ... الجدول 3 : السكان والأرض الزراعية

القطر

السكان بالملايين سنة 1996

سكان الأرياف %

الأراضي الزراعية هكتار / نسمة

البحرين

(1/19)

0,7

الكويت

2,8

4

قطر

0,5

السعودية

20

23

0,1

إمارات

2

الجزائر

32

48

0,31

العراق

25

29

0,3

ليبيا

6

30

0,5

عمان

2

89

0,03

مصر

65

43

0 0.05(في توسع)

الأردن

6

32

0,1

لبنان

3,5

16

0,1

المغرب

30

48

0,35

سوريا

17,5

50

0,47

تونس

9

46

0,50

اليمن

14

71

جيبوتي

0,5

موريتانيا

2,5

53

0,1

الصومال

9,5

64

0,13

السودان

33

87

0,51

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة، المكتب الإقليمي، القاهرة، 1994.

ذلك أن النمو الديموغرافي خلال العقود الأخيرة جعل نصيب المساحة الزراعية لكل فرد يتضاءل بشكل سريع. هذا

(1/20)

النصيب يصل إلى أقصاه في السودان بمقدار نصف هكتار للفرد الواحد، ويتراوح في دول المغرب العربي بين 0.31 و0.5 وينزل إلى 0.1 هكتار في الدول الصحراوية مثل السعودية أو موريتانيا أو الدول الجبلية مثل لبنان.

وينزل إلى ما دون ذلك في مصر، البلد الذي يعتمد فيه التوسع الزراعي على تمديد الري، وهو ما يتم فعلا بسبب إقامة مشاريع ضخمة للسقي في الصحراء وسيناء.

هذا النمو السريع في الساكنة (مثلا مرور عدد سكان مصر من 54 مليون نسمة سنة 1985 إلى 65 مليون اليوم) يخلق وضع عدم توازن بين الحاجة إلى الغذاء وإنتاجه. كما أن

(1/21)

النمو الحضري يتزايد بوثيرة سريعة بسبب الهجرة القروية ويستنزف اليد العاملة للأرياف، الشيء الذي يؤدي إلى انخفاض الإنتاج نحو بعض البقاع المفروغة، كما هو الحال في السودان والصومال.

أما الاعتماد على الموارد الزراعية في الإنتاج القومي العام فهو جد مختلف حسب الأقطار. ففي بلدان الخليج العربي حيث الدخل القومي مرتفع (فوق 6000 دولار للفرد في السنة) لا تساهم الزراعة إلا بأقل من 5% من قيمة الناتج الإجمالي والوضع صحيح كذلك بالنسبة لليبيا. أما في البلدان المتوسطة الدخل القومي، مثل مصر، والجزائر، والعراق

(1/22)

والمغرب، حيث يتراوح نصيب الفرد ما بين 500 و6000 دولار، فإن الاعتماد على الإنتاج الزراعي يكون مهما عادة (ما بين 10 و27% ). وهو يساوي 12% في الجزائر، 18% في العراق، 19% في المغرب، 21% في مصر و27 % في سوريا. وفي البلدان ضعيفة الدخل القومي (أقل من 500 دولار للفرد) ترتفع حصة الفلاحة من الناتج القومي الإجمالي (37% في موريتانيا والسودان، 65% في الصومال).

وهذا ينبئ بحدوث كوارث بيئية هامة في الدول التي تعتمد كثيرا على الفلاحة للرفع من إنتاجها القومي. ذلك أنه، بحثا عن الحفاظ على مدخول الفلاحة مرتفعا،

(1/23)

وجريا وراء الرفع من الإنتاج، تضطر هذه المجتمعات إلى التكثيف من الاقتلاع والاستغلال، وهذا لا يمكن أن يتم - في هذه البلدان التي لا تتمتع بالتقدم التكنولوجي الكافي - إلا على حساب الموارد الطبيعية وبالتالي على الرأسمال الذي تمثله.

كما تشير نسبة مساهمة الفلاحة في الاقتصاد القومي إلى مدى تأثر هذا الاقتصاد بكل ما يطرأ على المنتوج الفلاحي من تغيرات مؤقتة من جراء كوارث طبيعية، كالجفاف أو الفيضانات، ومن تغيرات على المدى الطويل، تتمثل في عدة جوانب:

(1/24)

- تناقص المحصول الزراعي ببعض المواقع الهشة بسبب التصحر أو تدهور الأتربة،

- اللزوم إلى التخلي عن بعض الأراضي بسبب تمليحها من جراء سقي غير متقن،

- نفاذ الموارد المائية لبعض الفرشات الباطنية بسبب الضخ المفرط الذي طبق عليها.

في كل هذه الحالات، تدهور الأتربة أو المياه ينذر بتضاؤل المنتوج المحلي وقد تكون له عواقب فيما بعد على المنتوج القومي إذا ما اتسعت رقعة التدهور.

ولقد انهارت النظم التقليدية القائمة على الزراعة المقلالة (زراعة بأساليب عتيقة في إطار مشارات مجهزة وبمردود ضعيف) أو على الرعي المتنقل،

(1/25)

بعد أن انخفضت إنتاجية التربة وتلاشى الغطاء النباتي الموفر للكلأ. وقد اقترن ذلك بالمنافسة التي مثلتها الزراعة العصرية المحلية من جهة واستيراد المواد الغذائية من الخارج من جهة ثانية.

وهكذا صارت الفلاحة تتسم بالازدواجية بين قطاعين أولهما متأزم اقتصاديا واجتماعيا، والثاني يستخدم تكنولوجيا متطورة ورؤوس أموال عالية. إلا أن كليهما قد يكون له تأثير سالب على البيئة الطبيعية.

- القطاع التقليدي المقلال، في جبال وسهوب الوطن العربي، قائم على أسس التكامل بين زراعة محدودة المردود، ورعي تكميلي يدر على صاحبه

(1/26)

مداخيل مؤقتة أساسية تسمح له بمواجهة المتطلبات العاجلة، واقتطاع للخشب من الغابة للتدفئة وإيقاد النار. فهو يتم على حساب الموارد الطبيعية أساسا بحثا عن المزيد من المردود للرفع من مستوى العيش.

- والقطاع العصري في السهول المسقية قائم على أساس التفاعل مع سوق الاستهلاك الوطنية والأجنبية ويبحث على الرفع من المدخول عن طريق التصدير.

وللاستجابة لهذا الهدف فإن الإنتاج مطالب بالتكثيف عن طريق استعمال المزيد من ماء الري والمزيد من المخصبات والمبيدات الحيوية. وهذا ما يفسر النزعة نحو تلوث مياه الفرشات الباطنية

(1/27)

بموارد النيترات خصوصا وبعدد من المركبات الكيماوية السامة، ونحو تمليح أراضي المجالات المسقية.

وإغلاق الفجوة بين القطاعين يقتضي تصحيح التعامل مع الطبيعة في كلتا الحالتين. فبالنسبة للقطاع الأول، الإصلاح الاجتماعي عن طريق الرفع من الاهتمام بالمجالات العطوبة والهامشية، وذلك بتجهيزها على مستويات وسائل النقل والمواصلات، والتجهيز المدرسي والصحي، كفيل بأن يرد لها الاعتبار ويسمح لسكانها بإقامة زراعات ثمينة (فواكه - خضروات) بمردود جيد، وبقيمة خاصة اعتبارا لجودة بعض المواقع على المستوى الإيكولوجي، أو

(1/28)

اعتمادا على تفادي استعمال المواد الكيماوية التي صارت معتادة في الإنتاجات العصرية.

أما بالنسبة للقطاع العصري فإن الحل يكمن في محاولة تحقيق توازن دائم. وقار بين الرغبة في الرفع من الإنتاجية والموارد التي يقوم عليها المحصول. وهذا يقتضي تهيئة على المستوى المجالي والمؤسساتي أي على مستوى السياسة الفلاحية والتجارية.

II - إشكالية تدهور الأراضي والتصحر:

تشهد العديد من الأراضي في الوطن العربي توسعا زراعيا غير محافظ على الثروات يسمح بانطلاق مسلسل للتدهور قد يصل إلى بلوغ درجة التصحر. وهذا يدعونا إلى

(1/29)

التذكير بخواص البيئة الجافة وما تتسم به من هشاشة.

1.2 - الأراضي الجافة، خواصها:

تتلقى الأراضي الصحراوية العربية أقل من 100 مم من الأمطار سنويا، وتضاف إليها المجالات نصف الجافة الهامشية والتي تستقبل أقل من 300-400 مم. عنف التشميس وارتفاع الحرارة مسؤولان عن قوة التبخر وبالتالي ضعف حضور المياه السطحية. فالتشميس السنوي يتعدى 3250 ساعة في وسط الصحراء ولا ينزل دون 3000 ساعة سنوية إلا في الهوامش المتوسطية. هذا الصفاء الجوي يسمح بتسجيل حرارات جد عالية قد تصل إلى 50 درجة تحت المخبأ، لتصل حتى °78 فوق

(1/30)

الرمال أو الصخور العارية. وحرارات الليل تبقى عالية في المجالات المدارية، بينما تنخفض في الهوامش الشمالية حيث تسجل حرارات دنيا تحت الصفر، وتتعد أيام الصقيع. أما قلة الأمطار فهي راجعة لديمومة الضغط الجوي المرتفع وندوة وصول اضطرابات جوية من أصل قطبي أو مداري. وتغطي الصحراء الإفريقية - العربية مساحة 12 مليون كلم 2 وتمتد على مسافة 7500 كلم بين المحيط الأطلنتي والخليج العربي (أبراهامس وآخرون، 1990 ). وهي صحراء دائمة الجفاف قد تنزل أمطارها إلى ما دون 10 مم سنويا في بعض أجزاء الصحراء المصرية.

(1/31)

أما المظاهر الصحراوية فهي موروثة عن فترات مطيرة، كانت فيها المجاري أوفر وأعم، خلال الهلوسيين، والرباعي والثلاثي الأعلى ويتضح ذلك من خلال توفر أودية وخوانق في المناطق الجبلية والهضبية، وحقول من الجلاميد والحصى تكون الرق الصحراوي الغريني عند سافلة الأودية الكبرى. وكلها أشكال غير نشيطة حاليا، بها عتبات مملوءة بتراكمات رملية.

ذلك أن آليات النقل الريحي وترسيب الرمال معممة في مجالات ممتدة. فهناك التراكمات الواسعة (عروق) والسطوح المنحوتة من طرف الرمال. أما عروق الجنوب (موريتانيا - السودان) فهي تتميز

(1/32)

باستقرارها النسبي، الشيء الذي تدل عليه ظاهرة التحام الرمال، وتعرضها للتفسخ والاحمرار، تحت ظروف أرطب من الحالية. وقد عرفت هذه العروق المثبتة في سنوات الجفاف، تراجعا للغطاء النباتي أدى إلى إعادة تحريك رمالها.

وفي الهامش الشمالي من الحزام الجاف العربي، توجد صحاري أصل جفافها راجع لموقعها وراء حاجز تضاريسي. تلك حالة عدد من المنخفضات الداخلية في شمال إفريقيا، مثل السهول العليا المغربية الجزائرية، وسهول الشام والعراق، وهي مجالات توجد عند عروض متوسطية، تتميز حرارتها بالاعتدال وبنزول رياح جافة إليها على

(1/33)

إثر مرور اضطرابات تصيب المرتفعات التي تحدها.

2.2 - تدهور الأراضي الهامشية والتصحر:

تصيب الأراضي غير الصحراوية آليات تدهور جد متنوعة، يدخل ضمنها تراجع المراعي، وتأثر الأراضي الزراعية وخاصة المسقية منها. وهذه العوامل مجتمعة تهدد ساكنة مهمة بتضاؤل المردودية والمدخول، كما تهدد المنظومات الحيوية بالتقهقر، والإفقار.

والتصحر هو النهاية القصوى لهذا التدهور، عندما يضطر الإنسان إلى مغادرة تلك المجالات القاحلة، بعد نضوب كل إمكانات الحياة بها. وهكذا يصبح التصحر نتاجا لاستعمال مفرط، دهور الموارد وقضى عليها.

(1/34)

والإنسان هو المسؤول أصلا، لكنه يصبح بعد ذلك ضحية.

في سنة 1977 اقترح مؤتمر الأمم المتحدة التعريف التالي للتصحر واعتبر أنه

تضاؤل تهدم الإمكانات البيولوجية للأرض بشكل يؤدي إلى بروز مظاهر صحراوية، في وقت كانت فيه الحاجة إلى مزيد من الموارد والإنتاج لإشباع الحاجيات المتزايدة للسكان (منظمة الفاو، روما). أما تعريف 1992 فهو كالتالي: "التصحر عبارة عن تدهور الأراضي في المنظومات البيئية الجافة، نصف الجافة وشبه الرطبة، تحت تأثير عوامل متعددة تضم إلى جانب الأنشطة البشرية التغيرات المناخية (مؤتمر الأمم

(1/35)

المتحدة حول البيئة والتنمية). وهذا التعريف الثاني نتاج اصطدامات فكرية وسياسية بين دول الجنوب والشمال ويضم في طياته اتهاما للمعطيات المناخية الكونية ونوعا من تبرئة الإنسان. كما يضم هذا التعريف ظاهرة استحالة الرجعة في إطار الظروف الاقتصادية والتنمية الحالية. ذلك أن التصحر يؤدي إلى المجاعة في المناطق الفقيرة (السودان - الصومال) بينما تأثيره الاقتصادي محدود في البلدان الغنية، وله مفعول بيئي واجتماعي في البلدان المتوسطة.

(1/36)

وامتداد المجالات المتصحرة لا يتم بالإلزام عند الهوامش المباشرة للصحراء، بل على شكل جيوب بعيدة في بعض الحالات. ذلك أن التدهور يصيب بعض النقاط الهشة من سطح الأرض، حيث تتخذ الآليات الطبيعية سرعة وعنفا خاصين بسب الظروف المحلية للمجال. هذه الجيوب قد تتصل فيما بينها بعد ذلك مؤدية إلى تعميم ظاهرة التصحر في الهوامش الأصلية للصحراء.

ومن بين مؤشرات التدهور هذا: تراجع الغطاء النباتي تحت وطأة الاستغلال إلى حين انطلاق عوامل انجراف مائية تقتلع التربة، أو عوامل ريحية تقتلع من تلك التربة عناصرها الدقيقة

(1/37)

الخصبة. من هذه المؤشرات كذلك تمليح الأراضي تحت وطأة نمط سقي غير رشيد لم يرافقه تصريف دائم للمياه في مجالات أصلا غنية. كما أن نزول مستوى الفرشة المائية الباطنية وتجفيف القطاع الترابي، يعتبر مؤشرا هاما لانطلاق مسلسل التصحر. وتوالي السنوات الجافة (مثلا الثمانينات في السودان - كردفان رهين بإبراز ميكنزمات التصحر).

لقد اعتبر الرعي من الأسباب الأساسية لتوسع ظاهرة التصحر باعتبار أن المراعي موجودة بحاشية الصحراء وتضم أراضي جد هشة. لكن الأبحاث الحديثة أظهرت عكس ذلك بمعنى أن التصحر يصيب أساسا الأراضي التي

(1/38)

بحثت وتستعمل للزراعة.

3.2 - التصحر في العالم، محاولة تقويم:

حسب معطيات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، مجموع الأراضي المتصحرة لبغ 950 مليون هكتار في نهاية الثمانينات، بينما توجد 4500 مليون هكتار أخرى مهددة بالتصحر. وإذا اعتبرنا المجالات الجافة وحدها، فإن 61% من 3.3 مليار هكتار من الأراضي المنتجة قد بلغت حد التصحر. ويضاف إليها الأراضي التي هي في طور التدهور والتي تضاءلت إنتاجيتها.

أما عن عدد السكان الذين تصيبهم آفة التصحر، فهم يقدرون بحوالي سدس ساكنة الأرض (حوالي 900 مليون من السكان). وحسب برنامج

(1/39)

الأمم المتحدة للبيئة لقد مرت تكلفة إصلاح الأراضي المتدهورة من 26 إلى 42 مليار دولار في السنة ما بين 1980 و1991. أما الخسارات السنوية الناجمة عن تدهور الأراضي في المجالات الجافة فهي تقدر بستة وعشرين مليار دولار وهو ما يمثله تراجع الإنتاجية الفلاحية.

4.2 - الجفاف والتصحر في الوطن العربي:

لقد عرفت الصحراء العربية - الإفريقية وهوامشها عدة مراحل جفاف خطيرة منذ بداية القرن، كانت أخطرها الفترة ما بين 1985 و1988.

(1/40)

- بالنسبة لعدد من البلدان يجب اعتبار -لتفسير هذه الظاهرة- ظرف الأزمنة الاقتصادية والأسباب السياسية مثل عدم الاستقرار (حالة السودان والصومال).

- بالنسبة للرعي، تدهور المراعي يجب اعتبار تزايد أعداد الماشية وعدم تطبيق مبدأ التناوب عند استعمال المراعي، وبالنسبة لتضاؤل الموارد المائية في الفرشات الباطنية يجب اعتبار تكاثر الآبار وتزايد الضخ.

- في حالات كثيرة سياسات فلاحية غير متكيفة، مثلا التشجيعات المعطاة للزراعات غير الغذائية (القطن - الفول السوداني). وهي زراعات وحيدة تنهك التربة ولا تساهم في تغذية

(1/41)

السكان والماشية.

- تمليح الأراضي من بين الأسباب للتصحر مثال ذلك ما أصاب أراض واسعة من سهول العراق، فكثافة القنوات وآثار المباني المهدمة في سهول الفرات ودجلة، تدل على زراعة كانت نامية في منطقة صحراوية حاليا. وقد تأكد بأن تمليح الأرض وترسب الغرين هما سبب الأزمة التي أصابت الحضارات القديمة. وتوجد ظاهرة التمليح كأصل لتدهور الأراضي موصوفة في عدة نصوص تاريخية. والقنوات المبنية بانحدار ضعيف جدا هي الأصل في التدهور. لأنها كانت تمتلئ بسرعة بالأوحال. وتتطلب المزيد من اليد العاملة ومن مجهود الإصلاح. أما

(1/42)

السقي المفرط بدون ضمان التصريف فقد تسبب في تراكم الأملاح في التربة وبالتالي تحولها إلى أرض عقيمة.

- استمرار النمو الديموغرافي المفرط بشكل يتعدى الإمكانات الإنتاجية للغذاء. والنمو الديموغرافي يتسبب في الضغط المتزايد على الأرض (حرث أراضي غير صالحة، هامشية)، تضاؤل كثافة الغطاء النباتي، تراجع المدة المخصصة لاستراحة الأراضي، وبالتالي تناقص خصوبة الأراضي ومدى مقاومتها لمكنزمات التدهور والإزالة. العوينة 3

(1/43)

ودراسة الصور الجوية توضح أن المجالات نصف الجافة هي الأكثر تضررا بآليات التصحر. لأن هذه المناطق الصاحة نسبيا هي التي تتركز بها الماشية ويجتمع بها الرعاة والمزارعون الفارون من المناطق الأكثر جفافا. فهي إذن قابلة لأن تتحول من أراضي منتجة في إطار رعي متنقل إلى أراضي قاحلة تماما بعد زرعها بعلية وتعقيم أتربتها ونضوب مياهها واقتلاع كل غطائها النباتي.

5.2 - العلاقة بين التصحر ، مستوى النمو والمجاعة:

المجاعة في بعض الدول العربية - الإفريقية (الصومال - السودان) نتائج سلسلة من التطورات السالبة والتي

(1/44)

انطلقت بجفاف نهاية الستينات في الساحل الإفريقي. وقد تأثر القرن الإفريقي خاصة خلال الثمانينات. هذه المجاعات ليست نتاج تناقص المطر وحده. فالمزدوج جفاف - مجاعة لا يتم إلا في حالة تهيئة غير متزنة للمجال وعدم انتظام الإطار الاقتصادي والسياسي. والتصحر يصيب خاصة البلدان الفقيرة حيث الإمكانات المالية والتقنية محدودة وحيث الاختيارات السياسية لا تضع التنمية في المقام الأول. ولذا فالخطوات اللازم إتباعها هي قبل كل شيء سياسية واقتصادية واجتماعية.

خاتمة :

(1/45)

لقد توالت على بلدان الوطن العربي عدة تجارب (الفاو، 1992) تسعى إلى تنمية الأراضي الجافة، تنمية زراعية ورعوية، تهدف إلى سن أنظمة ريفية مستديمة، في مجالات تتسم بالهشاشة من جهة وبارتفاع الساكنة من جهة ثانية. ومن أهم هذه التجارب، تلك البرامج التي أعدتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة والتي كان الهدف منها في نفس الوقت، البحث عن توازن بين الضغط السكاني وإنتاج الغذاء وإيقاف مسلسل تدهور التربة والغطاء النباتي.

(1/46)

وهذا الهدف ينبني على سن أنماط لاستعمال الأراضي، تتوخى الرفع من المردود المحلي لكل نوع من الأراضي والإنتاج الشمولي للبلد، بشكل مستديم أي غير مهدد لاستمرار الإنتاجية وبدون آثار سلبية على جودة وتوازن الأوساط البيئية. وهذا يقتضي تدخلا شموليا يراعي كل المعطيات في تعقيدها وتداخلها:

- فهو أولا تدخل تقني متكيف مع الظروف البيئية الجافة ومع هشاشة الأراضي، بحيث لا يستوردها كما هي، تقنيات صالحة في المجالات الرطبة، ويطبقها بدون تكييفها مع الأوضاع المحلية.

(1/47)

- وهو تدخل يراعي الواقع البشري والاجتماعي ولا يتعارض مع استراتيجيات المجتمعات البشرية المختلفة داخل الأرياف العربية، بل يدخل هذه الاستراتيجيات ضمن رؤيا شمولية مستقبلية.

- وهو يهيء الجوانب المؤسساتية والقانونية الكفيلة بتسهيل التطورات الإيجابية ويزيل المعوقات التنظيمية من أجل ضمان نجاح التهيئة والإعداد.

- وهو أخيرا يشرك المجتمع المحلي في الاختيارات وكذا في تطبيقها ضمانا لرضى السكان عن أساليب التهيئة وتشجيعا لهم على تنفيذها، بل توسيعها وإنجاحها. ويمكن القول، إن هذه البرامج تجعل الإنسان العربي في

(1/48)

مقدمة أهدافها، وتؤكد على ضرورة سن تنمية شمولية اقتصادية واجتماعية وثقافية.

مراجع:

- أبراهام أ.د. وبارسونز أ.ج.، جيومرفلوجية البيئة الصحراوية، شامبان وهول، لندن، 1994، 674 صفحة.

- منظمة الفاو، روما، تحسين إنتاجية الأراضي الجافة، نايروبي كينيا، 1987.

- منظمة الفاو، روما، المفاتيح الاستراتيجية للتنمية المستديمة في الأراضي الجافة، 60 صفحة، 1992.

- مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية، ريو دي جانيرو، البرازيل، 1992.

(1/49)

أبحاث تادِيوش لفيتسكي في فجر العلاقات التجارية بين ضفتي الصحراء الكبرى

... ... ... ... الأستاذة فريدة بنعزوز

... ... ... كلية الآداب ـ تطوان

... يطيب عادة لعموم المهتمين بعلاقات المغرب ببلاد السودان الغربي والأوسط خلال القرون الوسطى، تناولها ضمن تاريخ المرابطين والسعديين، فلا نكاد نعثر على أبحاث تعنى بالتاريخ المبكر لهذه العلاقات. ولا يعود السبب في ذلك إلى ندرة المصادر أو إلى شُحها في الإخبار عن هذا الموضوع فقط، بقدر ما يرجع إلى تعود هؤلاء الاهتمام بتاريخ قيام الدول المغربية الكبرى وأمرائها

(1/50)

وحروبها. لذلك، فإن أبحاث تاديوش لفيتْسْكي (Tadeusz Lewicki) التي انصبت في مجملها على التنقيب في فجر العلاقات المعنية، والحفر فيها، لا يمكن إلا أن تستوقف الباحث الذي تُهمه بدوره مثل هذه العلاقات. ففي بحر النصف الثاني من هذا القرن، عمل لفيتْسْكي على إعادة تشكيل هذه العلاقات وتأسيس معناها من خلال عنايته بالتاريخ العام لإباضية بلاد المغرب. لماذا اهتم لفيتسكي بمجمل هذا التاريخ، ولماذا ركز فيه على علاقات الإباضية ببلاد السودان المعنية؟ ثم كيف أنجز اهتمامه هذا وبماذا توسل في ذلك، وما هي مختلف النتائج

(1/51)

التي خلص إليها في هذا المضمار؟

... 1 ـ يرجع اهتما لفيتْسْكي بالإباضية إلى دوافع ذاتية وموضوعية شتى ومتداخلة. منها ما صرح به في آخر إحدى مقالاته المتأخرة حول ضرورة دراسة كيفية انتشار الإسلام بالسودان الغربي والأوسط، من خلال التجارة العابرة للصحراء الكبرى (1)

__________

(1) ... « Ces textes sont d’importance aussi bien quant au pkénimène de l’implantation de l’islam en Soudan occidental et central que-ceci semble devoir nous intéresser plus encore-pour approfondir notre connaissance de l’hisoire même du commerce transsaharien au haut Moyen Age ». (Tadeusz Lewicki, « Traits d’histoire du commerce transsaharien. Marchands et missionnaires inadites en Soudan occidental et central au cours des VIIIe-XIIe siècles », Etnografia Polska, VIII, Wroclaw-Warszawa-Krakow, 1964, 311).

(1/52)

، ومنها ما بثه في مجموع أبحاثه حول رغبته في متابعة عمل سلفيه: سموغرزيفسكي (Smogorze<ski) الذي اختطفه الموت من الدراسات الإباضية (1)، وج. شاخت (J. Shacht) الذي عني قبله بأثر المعمار الديني الإباضي في بلاد

__________

(1) ... وذلك في سنة 1931. وقد خلف لجامعة لوو ثم لجامعة كراكوفيا مجموعة من مخطوطات الإباضية في السير والتاريخ والفلسفة وغير ذلك. (Tadeusz Lewicki, « Les Historiens, Biographes et Traditionnistes Ibadites-Wahbites de l’Afrique du nord du VIIIe au XVIe siècle », Folia Orientalia, pp. 3-4.

(1/53)

السودان الغربي (1). ولا تنفصل دراسة لفيتسْكي للإباضية كذلك عن جملة هموم عناية استشراق عصره المزدوجة بموضوعة الشرق. فلقد بحث من جهة، في مقالة له حول تسمية شيوخ جبل نفوسة وقراهم، عن الذات

__________

(1) ... حيث ذهب إلى أن الصومعة المدرجة، والمحراب المستطيل الموجودان بالسودان الغربي يشبهان مثيليهما بتونس بوالميزاب (الإباضيين). (J. Schacht, « Sur la diffusion des formes d’architectures religieuses musulmanes à travers le Sahara », Travaux de l’Institut de Recherches Sahariennes, T. 11, 1954, pp. 11-27.

(1/54)

الغربية المتمثلة في آثارها الرومانية والنصرانية في هذا الجبل(1)

__________

(1) ... T. Lewicki, Etudes ibadites nord-africaines. Partie 1. Tasmiya chuyukh Djabal Nafusa wa-qurahum. Liste anonyme des cheikhs ibadites et des localités du Djabal Nafusa contenue dans le « Siyar al-macha’ikh » (VIe-XLLe siècle). Textes arabes avec introduction, commentaires et index, Varsovie, 1955, Académie des Sciences polonaise, Comité orintaliste.

... وتجدر الإشارة في هذا المضمار كذلك إلى أنه قد عني بتقفي آثار لغة رومانية منسبة في شمال إفريقيا في مقالة أخرى له في هذا الموضوع. (T. Lewiki, « Une langue romane oubliée de l’Afrique du Nord. Observations d’un arabisant », Rocznik Orientalistyczny, T. XVII, pp. 415-448.

(1/55)

. ومن جهة ثانية، فلقد بحث كذلك عن أجزاء من تاريخ أوروبا الشرقية ـ التي ينتمي إليها ـ في بعض مصادر الرحالة والجغرافيين العرب من مثل البكري والحميري والإدريسي (1)

__________

(1) ... T. Lewicki, La Pologne et les pays voisins dans le « Livre de Roger » de al -Idrissi, géographe arabe du XIIe siècle, T. 1, Krakov, 1945; T. Lewicki, « Le Kitab « ar Rawd al Mi’tar » d’Ibn abbdeal-Mun’im al Himyarî (Xve s.) comme source de renseignements sur l’Europe orintale centrale et septentrionale », Académie des Sciences de l’URSS, Problèmes d’Orientalisme, N° 3, Moscou, 1960 (en russe); « Brâgha et Michqa d’après une source arabe inédites », Folia Orientalia, Vol. 1/2, 1960, pp. 322-362.

(1/56)

.

... 2 ـ يعد لفيتُسكي من الرواد المعاصرين الذين اهتموا بتراث الإباضية، فلقد خصه بأبحاث عديدة (1)

__________

(1) ... ومنها بالإضافة إلى ما سبق ذكره: -T. Lewicki, « Une chronique ibadite « Kitab as Siyar » d’Aboul-Abbas Ahmad Assammâhî », Revue des Etudes Islamiques, 1934, Cahier 1; «La répartition géographique des groupement ibâdites dans l’Afrique du nord au Moyen Age », Rocznik Orientalistyszny, T. XXI, Varsovie, 1957; « Les subdivisions de l’Ibadiyya », Studia islamica, Fasc. IX, 1858; « Un document ibâdite inédit sur l’émigration des Nafûsa du Djabal dans Sâhil tunisien aux VIIIe-IXe siècles », Folia Orientalia, Cracovie, 1959; « Les ibâdites en Tunisie au Moyen Age », Academia polacca di Scienze e Lettre, Biblioteca di roma, confernze, Fascicolo, p. 6, Rome, 1959; « Quelques extraits indédits relatifs aux voyages des commerçants et des missionnaires ibadites nord-africains au pays du Soudan occidental et central au Moyen Ages », Folia Orientalia, 1960, T. 2, pp. 1-27; « L’Etat nord-africain de Tâhert et ses relations avec le Soudan occidental à la fin du VIIe et au Ixe siècle », cahier d’Etudes Africaines, p. 8, volume II, 1962.

(1/57)

. ولقد عني في جلها بافتراض أساسي، مفاده أن الاقتصاد الإباضي قد ارتكز ـ فيما ارتكز عليه ـ على التجارة العابرة للصحراء الكبرى مع بلاد السودان الغربي والأوسط. ولتحقيق هذا الافتراض والدفاع عنه، توسل لفيتْسْكي بيبليوغرافية عصره في الموضوع. ورجع إلى كثير من المقالات والكتب التاريخية والأركيولوجية والجغرافية التي تناولت المغرب أو السودان أو علاقاتهما المختلفة(1)

__________

(1) ... بالإضافة إلى ما ذكر سالفاً: عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، (كما ترجمه Houdas, Paris, 1990)؛ E. W. Bovill, The Golden trade of the Moors, London, 1958; R. Mauny; « Tableau géographique de l’Ouest africain au Moyen Age, d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie », Mémoires de l’Institut Français d’Afrique Noire, N. 61, Dakar, 1961; J. Boulnois, H. Boubou, L’empire de Gao, Histoire coutumes et magie des Songhai, Paris, 1954; J. Béraud-Villard, L’empire de Gao, Paris, 1943.

(1/58)

. كما رجع إلى كثير من مصادر الإباضية المخطوطة منها والمطبوعة من مثل كتا ب "طبقات المشايخ" للدرجيني، و"سير المشايخ" لمجهول إباضي، وكتاب "سير الأئمة وأخبارهم" لأبي زكرياء الورجلاني، وكتاب "السير" لأبي الربيع الوسياني، وكتاب "السير" لأبي العباس الشماخي (1)

__________

(1) ... ولقد اطلع لفيتسكي على جميع هذه المصادر الإباضية مخطوطة في مجموع كان قد أعده سموغوروفسكي (Smogorzewski). ولقد انتقل جزء من هذا المجموع إلى جامعة كراكوفيا (Krakow)، من بعد ما كان محفوظاً بجامعة لوو (Lwow). ومن المعلوم أن بعضها محفوظ كذلك بدار الكتب المصرية، كما أن بعضها قد طبع. (أبو العباس أحمد الدرجيني، طبقات الإباضية، مخطوطة بدار الكتب، رقم 2561 خ؛ أبو زكرياء يحيى بن أبي بكر الورجلاني، كتاب سير الأئمة وأخبارهم، تحقيق وتعليق العربي إسماعيل، المكتبة الوطنية، الجزائر، 1979. ولقد استخدم ليفتسكي الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب. [E. Masqueray, Chronique d’Abou Zakaria, Alger, 1878.]؛ أبو الربيع عبد السلام الوسياني، سير أبي الربيع الوسياني، مخطوطة بدار الكتب، رقم 9113ح. ويذكر إسماعيل العربي في مقدمة تحقيقه لسير أبي زكرياء، بأنه قد حقق "سير" أبي الربيع؛ غير أني لم أستطع الوقوف على هذا التحقيق، بالرغم من قرب المسافة الفاصلة أو الواصلة بين المغرب والجزائر!!!؛ أبو العباس أحمد بن سعيد الشماخي، سير أبي العباس الشماخي، طبعة حجرية، القاهرة، 1031. ولقد حقق حسن محمد، الجزء الخاص بتراجم علماء المغرب إلى نهاية القرن 5 هـ/ 11 م من هذا الكتاب، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 1995.

(1/59)

. كما رجع إلى مصادر أخرى من مثل "أخبار الأئمة الرستميين" لابن الصغير (1)، وإلى طائفة من كتب الإخباريين والرحالة الجغرافيين العرب من مثل: "تاريخ اليعقوبي"(2)، و"صورة الأرض" لابن حوقل(3)، و"المغرب في ذكر

__________

(1) ... « Chronique d’Ibn Saghir sur les imâs rostemides de Tâhert par A. de C. Motylinski », Actes du XIVe Congrès International des Orientalistes, Paris, 1908 (Texte et Traduction).

(2) ... Ed. Houtsma. M. Th; Leyde, 1883.

(3) ... Ed. J. H. Kramers., Opus géograaphicum, T. 1, Leyde, 1938.

(1/60)

بلاد إفريقيا والمغرب" للبكري(1)، و"مروج الذهب" للمسعودي(2). و"تحفة النظار" لابن بطوطة(3). ولقد تعامل لفيتْسْكي مع هذه المصادر والمراجع بمنهجية فيلولوجية دقيقة، فأبان عن قدرة

__________

(1) ... Traduite par Marc Cuckin de Slane, Description de l’Afrique reptentrionale par et Bekri.

(2) ... Maçoudi, Les prairies d’or. Texte et traduction par C. Barbier de Meynard, T. IV, Paris, 1885.

(3) ... C. Défrémery, R. Sanguinetti, Voyage d’ibn Batoutah, Texte arabe accompagné d’une traduction, Paris, 1853.

(1/61)

فائقة على التوليف بينها ومقارنة بعضها ببعض ونقدها بالتثبت من رواياتها وضبطها، وتحقيق ما تذكره من أعلام ومواقع وأحداث؛ مما أعانه على تقديم صورة دقيقة لمختلف علاقات المغرب بالسودان، وخاصة العلاقات التجارية منها التي جمعت بين أطراف هذه البلاد عبر الصحراء الكبرى، وما ترتب عليها من تبادل للتأثيرات والتأثّرات الثقافية المختلفة. فما هي يا ترى أهم ملامح هذه العلاقات، وكيف تمكن بواسطة النقد المذكور من تأسيسها؟

(1/62)

... 3 ـ انطلق لفيتْسْكي للحديث عن هذه العلاقات من مسلمة ذهب فيها إلى أن المصادر القديمة والشواهد الأثرية تثبت بما لا يقبل الشك أن الصحراء الكبرى كانت دائماً محل اختراق تجاري وثقافي، وذلك منذ العهود القرطاجية والرومانية القديمة بالمغرب. ولقد لعبت القبائل البربرية المغربية التي حافظت باستمرار على استقلالها عن سلط هذه الحقب دور الوسيط التجاري النشط بين بلاد السودان والمحطات التجارية للساحل الجنوبي للمتوسط. فمن هذه المحطات كانت تسير القوافل محملة إلى بلاد السودان بالثياب والمنسوجات والملح وببضائع

(1/63)

أخرى من جنوب أوروبا وغرب آسيا، وإليها كانت تعود بالذهب والعبيد وبمنتوجات أخرى من بلاد السودان (1). ولم ينقطع البربر المغاربة عن متابعة هذا النشاط التجاري بعد دخولهم في الإسلام، بل على العكس من ذلك؛ فلقد حافظوا عليه وطوروه. ولقد عزا لفيتسكي ذلك إلى تمكن هؤلاء من تأسيس دولتين خارجتين بالمغرب: الدولة الصفرية بسجلماسة، والدولة الإباضية بتاهرت

__________

(1) ... ولقد استثمر لإثبات ذلك أدبيات جغرافية وتاريخية وأركيلوجية متعددة. (Lewicki, « Traits d'histoire de commerce transsaharien », op. cit., pp. 293-294.

(1/64)

(1). كما عزاه إلى ما جبل عليه هؤلاء البربر من حسن تجاري فائق (2)

__________

(1) ... المرجع نفسه، صص. 294 ـ 295. وعن تاريخ قيام هاتين الدولتين وسقوطهما وموروثهما، يراجع محمود عبد الرازق إسماعيل، الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1985.

(2) ... « Les marchands berbères-ibadites étaient, en effet, connus autrefois pour leur esprit d’entreprise, et ce fut à eux [...] que revient le principal mérite de l’organisation d’un commerce d’échenges avec le Soudan occidental et central, au Xe siècles »; Lewicki, « Traits d’histoire du commerce transsaharien », op. cit., p. 296.

(1/65)

.

... والواقع أنه كان لتأسيس هاتين الدولتين أثر بالغ في تطور العلاقات التجارية بين المغرب والسودان الغربي والأوسط. فذلك هو ما اهتمت بإبرازه والاستدلال عليه جل أبحاث لفيتسكي، وما ستؤكده كذلك أطروحة محمود إسماعيل حول "الخوارج في بلاد المغرب" (1). غير أن مروره مر الكرام على علاقة هذه التجارة بالشرق الإسلامي، وعدم تأطيرها ضمن النهضة الاقتصادية العامة التي دشنها الإسلام في العالم ورعاها، يطرح أكثر من سؤال عن نظرة الرجل الاختزالية لعلاقة هذا الدين بمحيطه. ثم إن دفاعه عن

__________

(1) ... سبق ذكرها بالهامش 16.

(1/66)

كون نمو هذه التجارة يرجع إلى خاصيات بربرية، ينم عن نظرة عرقية غير علمية للموضوع، ويجعل من الثقافة منتوجاً عرقياً وليس العكس (1). فمما لاشك فيه أن هذه التجارة قد ارتبطت بضرورات تاريخية وجغرافية واضحة، وليس بضرورات عرقية مزعومة في حد ذاتها. ينضاف إلى كل هذا

__________

(1) ... ولا غرو في ذلك، فمفاهيم العرق والثقافة لم تكن قد اتخذت بعد شكلها العلمي المعاصر عن هذين المفهومين (يراجع: Claude Lévi-Strauss, Race et Histoire, Paris, 1977; Anthropologie structurale, Paris, II, 1973; Le regard éloigné, Paris, 1983).

(1/67)

ما ذهب إليه لفيتسكي لتفسير إقبال البربر على المذهب الخارجي، بما تضمنه هذا المذهب من عقائد ديموقراطية واتجاهات يسارية (1)؛ يخرق منهجيته التاريخية الفيلولوجية، وروحها الوضعية الصارمة، لسبب بسيط لا يحتاج لأي توضيح، بقدر ما هو بيِّن

__________

(1) ... « Les berbères nord-africains [...] firent leurs les doctrines démocratiques de la sécte khâridjite [...] les sufrites [...] représentant, au Maghreb, les tendances de gauche ». (Lewicki, « Traits d’histoire du commerce transsaharien », op. cit., p. 294).

(1/68)

بنفسه (1).

... ولقد استوقفت لفيتسكي مسألة علاقة التجارية الإباضية بالتبشسير بالإسلام في بلاد السودان ونشره بين ساكنتها. والحق أنه قد اجتهد في إيفائها حقها بالنظر إلى ما توافر بين يديه من الشواهد الضرورية للقيام بذلك. فلقد عمل في استنطاق هذه النصوص لإبراز العلاقة المعنية وتبئيرها. وفي هذا الصدد، تناول كتاب "السر" للشماخي، و"طبقات المشايخ" للدرجيني، و"مسالك" البكري، للنظر في ما ذهب صاحب أول هذه المصادر

__________

(1) ... ويقصد بذلك دعاوى التفرقة بين البربر والعرب التي دأب المستشرقون على الترويج لها.

(1/69)

اعتماداً على ثانيهما؛ من كون إسلام أحد ملوك السودان قد تم على يد التاجر الإباضي يحيى بن خلف النفوسي، وأنه هو المعني برواية البكري التي تعرضت لإسلام ملك غانا الذي سمي بين قومه بالمسلماني (1)

__________

(1) ... في رواية الشماخي: "وسافر أبو يحيى إلى بلاد السودان. فألقى ملكهم ناحل الجسم، ضعيف القوى. قال له: ما بك؟ قال: خوف الموت! قال أبو القاسم: فأخبرته من الله وصفاته ـ سبحانه ـ والجنة والنار والحساب، وما أعد الله للمطيع والعاصي. فكذبني، وقال: لو صح عندك ما تقول، لما بلغت إلينا تطلب الدنيا. فما زلت أذكِّرُه نعم الله وآلائه حتى أسيلم، وحسن إسلامه". (أبو العباس أحمد بن سعيد الشماخي، كتاب السير، تحقيق محمد حسن محمد، ص. ذ.، ص. 263). في رواية البكري: "وكان عنده ضيف من المسلمين يقرأ القرآن ويعلم السنة فشكا إليه الملك دهمهم من ذلك، فقال له: أيها الملك لو آمنت بالله تعالى وأقررت بوحدانيته وبمحمد عليه الصلاة والسلام [...]: فلم يزل به حتى أسلم وأخلص نيته [...] وصح إسلامه وإسلام عقبه وخاصته وأهل مملكته مسلمون فوسموا ملوكهم من ذلك بالمسلماني". (أبو عبيد الله البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب، وهو جزء من كتاب "المسالك والممالك"، ص. 187؛ Texte Arabe, publié sous les auspices de M. Le Maréchal Comte Randon Gouverneur Général de l’Algérie, Alger, s. d).

(1/70)

. ولقد أسفر نقده لهذه النصوص وموازنته بينها عن رد دعوى الشماخي، وع الاحتفاظ بدلالة روايتها(1). وإذ نسجل للفيتسكي هذا الحس النقدي الفيلولوجي، فإنه لا يسعنا إلا أن نأخذ عليه في هذا المضمار ما سكت عنه حول دور أخلاق التجارة الإسلامية في إثارة انتباه السودانيين إلى الإسلام.

__________

(1) ... [....] c’est l’Ibadisme qui fut la forme primitive de l’Islam ouest-soudanais », (Lewicki, « Traits d’histoire du commerce transsaharien », op. cit., pp. 297- 298).

(1/71)

... وفي هذا الصدد، فإن كثيراً من المستشرقين يردون انتشار الإسلام بالسودان إلى سلطة تجار المسلمين الرمزية المتحفية في معاملاتهم التجارية مع الأهالي(1). ويبدو أن لفيتسكي لم يستطع أن يخرق هذا التقليد الذي نهجه سلفه ويتقيد به خلفه من المستشرقين. فهو الذي يعرف ابن حوقل جيداً، قد غض الطرف عما يرويه هذا الأخير عن "حسن كمال في

__________

(1) ... تراجع، على سبيل المثال، مادة "الإسلام في إفريقيا السوداء" من "قاموس الأديان" الذي أشرف على إعداده الراهب الفرنسي بول بوبارد (Dictionnaire des Religions, P. U. F. 1984.)

(1/72)

الأخلاق والأفعال [...] وتقدم في أفعال الخير كثير" لتجار الخوارج بأودغست، وأمانتهم التجارية منقطعة النظير(1). وهو الذي وقف على منع الإمام الرستمي عبد الوهاب ابنه أفلح من مرافقة قوافله التجارية إلى السودان، بمخطوط الويسياني ومخطوط الدرجيني، فقد التزم السكوت عن سبب هذا المنع الذي يعود في الواقع إلى عدم تفوق أفلح في الامتحان الفقهي الذي امتحنه به أبوه الإمام في مسألة التجارة والربا(2)

__________

(1) أبو القاسم ابن حوقل النصيبي، كتاب صورة الأرض، ليدن، بريل، 1938، ص. 99.

(2) ... أورد لوسياني رواية ذكر فيها أن أفلح بن عبد الوهاب اراد مرافقة قوافل والده إلى بلاد كوكو، فأخذه الإمام عبد الوهاب يختبره في الفقه وخاصة في مسألة الربى، فأجاب عن كافة الأسئلة فيما عدا سؤال واحد. فأمره أبوه بعدم السفر حتى تزداد خبرته بأمور التجارة (مخطوطة "سير أبي الربيع"، س. ذ، ورقة 25، نقلاً عن م. ع. إسماعيل، الخوارج في بلاد المغرب، س. ذ، ص. 282).

(1/73)

. بل أكثر من ذلك، فلقد تعمد بتر النص عند استشهاده به لكي يطمس مسوغ هذا المنع(1).

... ونلاحظ كذلك في مقالة له عن رحلات التجار والمبشرين الإباضيين إلى بلاد السودان، بأنه قد أهمل تماماً ما جاء في مخطوط

__________

(1) ... أورد ليفتسكي النص العربي على هذا الشكل، ونترجمه كذلك إلى الفرنسية: "وذكر... أنه أراد السفر إلى بلاد جوجوا، فلما برز رحله، خرج إليه الإمام عبد الوهاب والده... قال له ارجع... فرجع" (Lewicki, « L’Etat nord-africain de Tâhert et ses relations avec le Soudan occidental... », op. cit., p. 523.

(1/74)

"سير المشايخ" الذي استشهد به عن ورع أحد هؤلاء التجار والتزامه بمقتضيات الزكات الإسلامية، بحيث أنه لم يعلق ولو بكلمة واحدة على هذا الأمر الذي نرى أن دوره كان كبراً في استحسان السودانيين للمسلمين ولأخلاقهم، وتبعاً لذلك للإسلام نفسه(1)

__________

(1) ... ونقصد بذلك حكاية تملى الوسياني التي اقتطفها من مجموع لوو (Lwow) سابق الذكر: "[...] إن رجلاً من بني ويسين يقال له تملى وكان مقلاً في أول أمره وهو من أهل القصور... فجعل يسافر إلى تادمكت فبلغ بها مالاً كثيراً... فجعل يبعث من تادمكت كل سنة ستة عشر كيس كل كيس فيه خمسمائة دينار وكانت من جلود بقر مكتوب على كل واحد منها هذا مال الله". (Lewicki, « Quelques extraits inédits... », op. cit., p. 18).

(1/75)

.

... لماذا رغب أفلح بن عبد الوهاب في مرافقة قوافل أبيه التجارية إلى غاو؟ ذهب لفيتسكي إلى أن مرجع هذا الأمر لا يمكن أن يفسر بمجرد فضول لزيارة بلاد بعيدة، بقدر ما يجب رده إلى أسباب جيواقتصادية وجيوسياسية محددة. وبالفعل، وكما أبرز ذلك لفيتسكي نفسه، فإن مملكة غانا كانت في تلك الحقبة (بداية القرن التاسع الميلادي) قوية جداً وكانت تمد سلطانها على مناطق عديدة من السودان، مما كان يؤهلها للسيطرة على الجزء الجنوبي للطريقين التجاريين الذين يربطان بين عاصمتها غاو وأودغست في اتجاه سجلماسة وتاهرت والقيروان،

(1/76)

وبينها وبين تادمكة نحو غداميس وطرابلس. ويمكن أن نرجح بدورنا هذا التفسير، خاصة إذا علمنا أنه في ما بعد هذه الحقبة المذكورة (أواخر القرن الرابع الهجري)، ستعمل مملكة غانا على تهديد عاصمة بربر صنهاجة أودغست لضبط تحكمها في الطريق المذكور، مما سيدفع بالمرابطين إلى توحيد صفوفهم(1) لمواجهة هذا التهديد. وبالفعل، فلقد تمكن المرابطون من السيطرة على أودغست، وانتزاعها من ملك غانة كما هو معروف سنة 469 هـ(2)

__________

(1) ... وذلك ضمن حلف أوغست سجلماسة.

(2) ... البكري، س. ذ. ص. 168؛ ويراجع كذلك كتاب عصمت عبد اللطيف دندش، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، 430 ـ 515 هـ/ 1038 ـ 1121 م، دار الغرب الإسلامي، 1988، صص. 108 ـ 116.

(1/77)

. ولن يكتفي المربطون بذلك، فلقد أملت عليهم ضرورات جيوسياسية كذلك(1)، التقليص من أهمية هذه المدينة، ونقل دورها التجاري والتعديني (تعدين النحاس) نحو الشمال، أي إلى عاصمتهم الجديدة: مراكش(2)

__________

(1) ... وهي الضرورات المتعلقة، في تاريخ المرابطين، بتدبيرهم لمشكلاتهم المرتبطة بمحاصرة النصرانية بالأندلس شمالاً، وبمواجهة الوثنية بالسودان جنوباً.

(2) ... ذلك هو ما دافع عنه موسى العجلاوي لتفسير تأسيس مدينة مراكش، مستثمراً في ذلك بالإضافة إلى النصوص الكتابية التقليدية في هذا المجال؛ وبصفة خاصة، نتائج الأبحاث الأركيلوجية الفرنسية عن أودغست: (Tigdoust I, Recherches sur Aoudaghost: fouille d’un cartier artisanal.)، بالإضافة إلى مجموعة من رسائل الدكتوراه حول الموقع نفسه؛ موسى العجلاوي، "من أودغست إلى مراكش: قراءة في تاريخ المرابطين من خلال وثائق أركيولوجية"، أشغال ندوة مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي، جامعة القاضي عياض، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1988، صص. 94 ـ 115.

... وتقتضي الإشارة في هذا المضمار إلى أنه بالرغم من وجاهة هذا التفسير المادي الذي يقدمه هذا المؤرخ لفهم انطلاق الظاهرة المرابطية، فإنه لا يمكن أن يعد التفسير الوحيد لهذا الأمر، كما لا يمكن أن يشفع لتقليص الباحث من دور البعد الديني والتنقيص من أهميته في هذا المضمار.

(1/78)

.

... فمما لاشك فيه أن أفلح عبد الوهاب عندما أراد مرافقة قوافل أبيه التجارية إلى غاو، كان يرغب في زيارة بلاد السونغاي لعقد الاتفاقيات معها يقصد المحافظة على مصالح رعيته التجارية، وضمان استمرارية وظيفة المسالك الرابطة بين غاو وتاهرت. ذلك هو ما سيبادر إليه بعدما بايعه الإباضيون إماماً خلفاً لوالده (823 م)، بإرساله لمحمد بن عرفة سفيراً إلى هذه البلاد. وبالفعل، فلقد قضى بن عرفة هذا وهو من كبار الشخصيات الإباضية مدة غير قصيرة بغاو(1)

__________

(1) ... ,Lewicki, « Traits d'histoire de commerce », op. cit., pp. 302-303

... ولقد ذكر هذه السفارة ابن الصغير في أخباره عن الأئمة الرستميين: "وكان بالبلد رجل يعرف بمحمد بن عرفة وكان وسيماً جميلاً جواداً سمحاً، وكان قد وفد على ملك السودان بهدية من قبل أفلح بن عبد الوهاب" (ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين، تحقيق وتعليق ناصر محمد وإبراهيم بحار، دار الغرب الإسلامي، 1986، ص. 71).

(1/79)

.

... ولقد اجتهد لفيتْسْكي في تحديد المسالك المذكورة بالرجوع إلى الجغرافيين والرحالة العرب القدماء. ولقد تتبع في هذا المضار جميع ما جاء عند البكري وابن حوقل واليعقوبي والإدريسي وغيرهم، في وصفهم للمسالك الرابطة بين شمال الصحراء الكبرى وجنوبها، وأهم محطاتها التجارية والتاريخية الكبرى، لينتهي إلى رسم طريقين اثنين ربطا بين تاهرت وبلاد السودان. أولهما خط كان ينطلق من تاهرت نحو الغرب ليربطها جنوباً بغاو عبر سجلماسة وأودغست وغانا؛ وثانيهما ينطلق من تاهرت ليربطها كذلك بغاو عبر ورجلة فتادمكت مخترقاً

(1/80)

الهجار (1). ولقد رجعنا بدورنا إلى هذه المصادر، فوجدناها تسمح بإمكان رسم هذه الخريطة. فاليعقوبي تحدث عن خط يربط بين تاهرت وغانة عبر محطتين تجاريتين مهمتين: سجلماسة وأودغست (2). والبكري وابن حوقل ذكرا أودغست بوصفها محطة بين سجلماسة وغانة (3)

__________

(1) ... انظر الخريطة المرفقة.

(2) ... كتاب البلدان، طبعة ليدن، 1892، صص. 359 ـ 360. (Ed. Goeje. M. J, Leyd).

(3) ... "ومن سجلماسة إلى أودغست شهران [...] ومن أودغست إلى غانة بضعة عشر يوماً" (صورة الأرض، س. ذ، ص. 93).

... « فأما الطريق من أودغست إلى بلد سجلماسة [...] الطريق من وادي درعة إلى الصحراء إلى بلاد السودان [...] من بني ينتسر إلى قرية تسمى مدوكن لصنهاجة أيضاً، ومنها إلى مدينة غانة أربعة أيام [غزا عبد الله بن ياسين أودغست وهو بلد قايم العمارة [...] وهو كان منزل ملك السودان المسمى بغانة قبل أن تدخل العرب غانة" (المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب، س. ذ، ص. 159، 163، 164، 168).

(1/81)

. وذهب البكري كذلك إلى أن المسافة الفاصلة بين ورجلة وتادمكت تقدر بخمسين يوماً، وبين تادمكة وغاو بعشرة أيام (1). ولقد قدم ابن حوقل ـ الذي جاب بنفسه في منتصف القرن العاشر جانبي الصحراء الكبرى ـ تفسيراً ممكناً لسر بياض بشرة بني تانماك ملوك تادمكة بالرغم من أن أصلهم من السودان، "لقربهم من الشمال وبعدهم عن أرض كوكو" (2)

__________

(1) ... "فإن أردت من تادمكة إلى القيروان، فإنك تسير في الصحراء خمسين يوماً إلى ورجلان [...] وبين تادمكة ومدينة كوكوا تسع مراحل" (نفسه، صص. 182 ـ 183).

(2) ... صورة الأرض، س. ذ، ص. 105.

(1/82)

.

... وبالإضافة إلى مختلف هذه المعطيات، فلقد ساق لفيتسكي لتعزيز افتراضه وجود خط تاهرت غاو عبر ورجلة فتادمكة، بشواهد اقتطفها من مخطوط السيرة وأخبار الأئمة لأبي زكرياء يحيى بن أبي بكر الورجلاني تتعلق بانتقال أبي صالح اليدجراني من تادمكة إلى ورجلة في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، ومن مخطوط سير المشايخ لإباضي مجهول تتعلق باستقرار تملى الويسياني أحد التجار الإباضيين بتادمكت، من حيث كان يرسل زكاته إلى فقراء ورجلة، بلده الأصلي. ويتحدث المصدر نفسه كذلك عن انتقال الشيخ أبي نوع الصغير إلى تادمكة

(1/83)

على فرسه العتيق (1).

__________

(1) ... "وذكر أبو الربيع سليمان بن موسى بن عمرو أيضاً أن أبا صالح ساق جمالاً له من القبلة ليبيعهم في وارجلان "، ّفتزوجت رجلاً نفوسيا قنطرارياقال فسافر زوجها غانة ثم جاء من سفره"، "فجعل يسافر إلى تادمكت فبلغ بها مالاً كثيراً... فجعل يبعث من تادمكت كل سنة ستة عشر كيساً"، "ثم خرج إلى غيارة فوجدهم عراة، فلزم بيته حتى مات فيها". (Lewicki, « Quelques extraits inédits... », op. cit., p. 4, 11. 18, 20).

(1/84)

... يتضح من كل ما سبق أن لفيتْسْكي قد وفق في جميع اجتهاداته لرسم ملامح الطريقين المذكورين وأهم محطاتهما التجارية والسياسية. ولقد حاول تحديد طريق تجاري ثالث يربط هذه المرة شمال إفريقيا، وبالضبط طرابلس، بكانم من بلاد السودان الأوسط على حوض بحيرة تشاد. وبالنسبة إليه، وبالنظر إلى أن هذا الخط معروف ومشهور منذ القدم، فإنه لم يقدم إلا بعض الأدلة على دعواه. ولعل أهم ما قدمه في هذا المضمار هو إتقان أبي عبيدة حاكم جبل نفوسة باسم رستميي تاهرت إلى جانب العربية والبربرية للغة أهل كانم: "الكانينبو" (1)

__________

(1) ... Abû Obaida, [...] parlait en plus du berbère et de l’arabe la langue kanimite, doit probalement, le kanembou », (Ibid, p. 310: Cf. également. Lewicki; Etudes ibâdites nord-afraicaines, Ière partie, Varsovie, 1955, p. 92, 93, 96).

(1/85)

.

... ولم يهتم لفيتْسْكي بفجر العلاقات التي جمعت بين مملكة الإباضية شمال الصحراء الكبرى وبلاد السودان جنوبها فقط، بل عني كذلك في مقالته "ملامح من تاريخ التجارة العبارة للصحراء" (1) بتسليط بعض الأضواء على استمرارية هذه العلاقات حتى بعد زوال الحكم الإباضي عن الشمال المذكور. ولقد استثمر في هذا المضمار مجموعة من الشواهد والأدلة التي جمعها مما توافر لديه من نصوص الإباضيين أنفسهم وغيرهم من الرحالة والجغرافيين العرب، بالإضافة

__________

(1) ... Lewicki, « Traits d'histoire de commerce », op. cit., pp. 304-311.

(1/86)

إلى مختلف الأبحاث الغربية التي عنيت بالطرق التجارية ومحطاتها على ضفتي الصحراء الكبرى. وبالفعل، فلقد رحل كثير من الإباضيين بمذهبهم إلى بلاد السودان، من بعد ما فشلوا في مواجهة الغزو الشيعي الذي عصف بمملكتهم (1). وبالرغم من أن بعضهم

__________

(1) ... تراجع الإباضية وغيرهم من خوارج المغرب إلى بلاد السودان أمام الغزو الفاطمي. وفي ذلك يراجع: تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب، القسم الخاص من كتاب "عيون الأخبار"، للداعي إدريس عماد الدين، تحقيق محمد اليعلاوي، دار الغرب الإسلامي، 1985، ص. 162، 404، 407، 448، 466.

(1/87)

قد اضطر إلى اتخاذ هذه البلاد موطناً له، فإن ذلك لم يمنعه من الحفاظ على علاقات مختلفة مع إخوانه بالشمال، بل دفعه إلى التشبث بها وتعذيتها باستمرار (1).

خاتمة

__________

(1) ... ويمكن أن نقدم في هذا الصدد، مثالاً على ذلك، إرسال عبد الوهاب بن غانم الأنصاري لرسالة في علم الكلام من غانة، إلى أبي عمار عبد الكافي التانوتي بورجلة، المتضمنة في الجزء الأول من كتاب أبي يعقوب بن إبراهيم الورجلاني، الدليل لأهل العقول لباغي السبل بنور الدليل، المطبعة البارونية، القاهرة، 1306.

(1/88)

... وجماع القول إن العلاقات التجارية والدينية التي جمعت بين مسلمي شمال إفريقيا وبلاد السودان جنوب الصحراء الكبرى، تعود إلى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام بهذه القارة. ولقد كان من جملة من أرسى دعائمها الإباضيون الذين ساعدهم تحملهم لمسؤولية تدبير شؤون الحكم بالشمال المذكور على تجهيز القوافل التجارية، وعلى نشرهم للإسلام ولمذهبهم شمالاً وجنوباً عبر ضفتي هذه الصحراء. ذلك هو ما دافع عنه لفيتْسْكي في جملة أبحاثه، وهو الذي ما فتئت تؤكده جملة من الأبحاث المعاصرة التي تتوسل بأساليب أخرى ومناهج متعددة

(1/89)

الاختصاصات لكتابة تاريخ هذا الجزء من إفريقيا. والواقع أن لفيتْسْكي إذ يحتل في هذا الصدد مكانة الرائد، فإنه قد توفق إلى حد بعيد بتوسله بمنهجية الفيلولوجيا المقارنة في المساهمة في هذا التاريخ، على الرغم من نزعاته الاستشراقية التي وقفنا عندها، والتي تتميز في الواقع عن نزعات زملائه الفرنسيين الذين اهتموا كذلك بالإباضية مثل موتلانسكي وماسكراي (1)

__________

(1) ... المشوبة بالدعاوي العنصرية السافرة. (A. de C. Mitylinski, « L’Aqida des Abadhites », Recueil de Mémoires et de textes publiés en l’honneur du XIV congrès des orientalistes, Alger, 1905; E. Masqueray, Chronique d’Abou Zakaria, Alger, 1878.

(1/90)

.

المصادر والمراجع العربية

ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين، تحقيق وتعليق محمد ناصر وإبراهيم بحاز، دار الغرب الإسلامي، 1986.

ابن حوقل، أبو القاسم النصيبي، كتاب صورة الأرض. (Bibliotheca Geographorum Arabicorum. Primum Edidit: M. G. De Goeje. Lugduni Balvorum; Apud, E. J. Brille, 1939.).

إدريس، عماد الدين، تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب، القسم الخاص من كتاب عيون الأخبار، تحقيق محمد اليعلاوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985.

(1/91)

إسماعيل عبد الرزاق، محمود، الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1985.

... البكري، أبو عبيد الله، المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب (وهو جزء من كتاب "المسالك والممالك"). (Texte arabe, publié sous les auspices de M. le Maréchal comte Randon. Gouverneur Général de l’Algérie, Alger. s. d.).

الدرجيني، أبو العباس أحمد، طبقات الإباضية، مخطوطة بدار الكتب، رقم 2561 ح.

السعدي، عبد الرحمن، تاريخ السودان (كما ترجمه Houdas, Paris, 1990).

(1/92)

الشماخي، أبو العباس أحمد بن سعيد، سير أبي العباس الشماخي، طبعة حجرية، القاهرة، 1031.

الشماخي، أبو العباس أحمد بن سعيد، كتاب السير، تحقيق ودراسة، حسن محمد، الجزء الخاص بتراجم علماء المغرب إلى نهاية القرن 5 هـ/ 11 م من هذا الكتاب، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، 1995.

العجلاوي، موسى، "من أودغست إلى مراكش: قراءة في تاريخ المرابطين من خلال وثائق اركيولوجية"، أشغال ندوة مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي، جامعة القاضي عياض، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1988، صص. 94 ـ 115.

(1/93)

الورجلاني، أبو زكرياء يحيى بن أبي بكر، كتاب سير الأئمة وأخبارهم، تحقيق وتعليق العربي إسماعيل، المكتبة الوطنية، الجزائر، 1979.

الوسياني، أبو الربيع عبد السلام، سير أبي الربيع الوسياني، مخطوطة بدار الكتب، رقم 9113 ح.

اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، كتاب البلدان، طبعة M. J. Goeje، ليدن، 1892.

دندش، عصمت عبد اللطيف، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، 430 ـ 515 هـ/ 1038 ـ 1121 م، دار الغرب الإسلامي، 1988، صص. 108 ـ 116.

المصادر والمراجع الأجنبية أو المترجمة

(1/94)

... Al Bakri, Abou-Obeid, Description de l’Afrique septentrional. Texte arabe publié par De Slane, Alger, 1913.

... Al-Ya’qûbî, Ta’rih, Ed. Houtsma. M. Th, Leyde, 1883.

... Béraud-Villard. J., L’empire de Gao, Paris, 1943.

... Boulnois. J., H. Boubou, L’empire de Gao, Histoire coutumes et magie des Songhai, Paris, 1954;

... Bobill. E. W, The Golden trade of the Moors, London, 1958.

... Défrémery. C, Sanguinetti. R, Voyage d’ibn Batoutah, Texte arabe accompagné d’une traduction, Paris, 1853.

(1/95)

... Dictionnaire des Religions.

... Ibn Haukal, J. H, Opus géographicul, Ed. Kramers. T. 1. Leyde, 1938.

... Lévi-Strauss, Claude, Anthropologie structurale, Paris, II, 1973.

... _ _, Le regard éloigné, Paris, 1983

... _ _, Race et Histoire, Paris, 1977.

... Lewicki. Tadeusz, « Brâgha et Michqa d’après une source arabe inédites », Folie Orientalia, Vol. 1/2, 1960, pp. 322-362

... _ _, Etudes ibadites nord-africaines. Partie 1. Tasmiya chuyukh Djabal Nafusa wa-qurahum. Liste anonyme des cheikhs

(1/96)

ibadites et des localités du Djabal Nafusa contenue dans le « Siyar al-macha’ikh » (VIe-XLLe siècle). Textes arabes avec introduction, commentaires et index, Varsovie, 1955, Académie des Sciences polonaise, Comité orintaliste.

... _ _, « L’Etat nord-africain de Tâhert et ses relations avec le Soudan occidental à la fin du VIIe et au Ixe siècle », cahier d’Etudes Africaines, p. 8, volume II, 1962.

(1/97)

... _ _, La Pologne et les pays voisins dans le « Livre de Roger » de al -Idrissi, géographe arabe du XIIe siècle, T. 1, Krakov, 1945.

... _ _, «La répartition géographique des groupement ibâdites dans l’Afrique du nourd au Moyen Age », Rocznik Orientalistyszny, T. XXI, Varsovie, 1957;

... _ _ , « Les Historiens, Biographes et Traditionnistes Ibadites-Wahbites de l’Afrique du nord du VIIIe au XVIe siècle », Folia Orientalia, pp. 3-4.

(1/98)

... _ _, « Les ibâdites en Tunisie au Moyen Age », Academia polacca di Scienze e Lettre, Bibioteca di roma, confernze, Fascicolo, p. 6, Rome, 1959.

... _ _, « Le Kitab « ar- Rawd al Mi’tar » d’Ibn abbde al-Mun’im al Himyarî (Xve s.) comme source de renseignements sur l’Europe orintale centrale et septentrionale », Académie des Sciences de l’URSS, Problèmes d’Orientalisme, N° 3, Moscou, 1960 ‘en russe).

... _ _, « Les subdivisions de l’Ibadiyya », Studia islamica, Fasc. IX, 1858.

(1/99)

... _ _, « Quelques extraits indédits relatifs aux voyages des commerçants et des missionnaires ibadites nord-africains au pays du Soudan occidental et central au Moyen Ages », Folia Orientalia, 1960, T. 2, pp. 1-27.

... _ _, « Traits d’histoire du commerce transsaharien. Marchands et missionnaires inadites en Soudan occidental et central au cours des VIIIe-XIIe siècles », Etnografia Polska, VIII, Wroclaw-Warszawa-Krakow, 1964, 311..

(1/100)

_ _, « Une chronique ibadite « Kitab as -Siyar » d’Aboul-Abbas Ahmad Assammâhî », Revue des Etudes Islamiques, 1934, Cahier 1.

... _ _, « Un document ibâdite inédit sur l’émigration des Nafûsa du Djabal dans Sâhil tunisien aux VIIIe-IXe siècles », Folia Orientalia, Cracovie, 1959.

... _ _, « Une langue romane oubliée de l’Afrique du Nord. Observations d’un arabisant », Rocznik Orientalistyczny, T. XVII, pp. 415-448.

(1/101)

... Maçoudi, Les prairies d’or. Texte et traduction par C. Barbier de Meynard, T. IV, Paris, 1885.

... Masqueray. E., Chronique d’Abou Zakaria, Alger, 1878.

... Mauny. R.; « Tableau géographique de l’Ouest africain au Moyen Age, d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie », Mémoires de l’Institut Français d’Afrique Noire, N. 61, Dakar, 1961.

... A. Motylinski, de C., « L’Aqida des Abadhites », Recueil de Mémoires et de textes publiés en l’honneur du XIV Congrès des

(1/102)

Orientalistes, Alger, 1905.

... _ _, « Chronique d’Ibn Saghir sur les imâms rostemides de Tâhert », Actes du XIVe Congrès International des Orientalistes, Paris, 1908, (Texte et Traduvction).

... Schacht. J., « Sur la diffusion des formes d’architectures religieuses musulmanes à travers le Sahara », Travaux de l’Institut de Recherches Sahariennes, T. 11, 1954, pp. 11-27.

... Tigdoust I, Recherches sur Aoudaghost, Publications de l’Institut Mauritanien de Recherches Scientifiques, 1970.

(1/103)

... _ _, Recherches sur Aoudaghost, fouille d’un quartier artisanal, Publications de l’Institut Mauritanien de Recherches Scientifiques, 1979.

(1/104)

أبعاد التواصل الحضاري بين المغرب والبلدان الإفريقية

من خلال رسالة "معراج الصعود" لأحمد بابا التمبكتي

... ... ... الدكتور عبد الخالق أحمدون

... ... ... ... طنجة

تمهيد

... إن التواصل بين المغرب وبلاد السودان(1)

__________

(1) المقصود ببلاد السودان المنطقة الفسيحة التي تمتد من المحيط الأطلسي في الغرب حتى سودان وادجي النيل في الشرق، والتي تقع بين المناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية في الشمال، وبين مناطق الغابات الاستوائية في الجنوب. وقد استعمل الجغرافيون هذا المصطلح للدلالة على هذه المناطق. (راجع: زكي عبد الرحمن، تاريخ الدول الإسلامية السودانية بإفريقيا الغربية، ص. 7؛ وانظر كذلك: الفشتالي، مناهل الصفا، صص. 117 ـ 118).

(1/105)

ممتد جذوره في عمق التاريخ لتصل بدايته إلى ظهور الإسلام بهذه المناطق وتغلغله في كيان المجتمعات الإفريقية. وقد أدَّى المغرب دوراً حضارياً بارزاً في هذا المجال.

... وهذا التواصل ينبغي أن تتجدد أواصره باستمرار، وتتوطد عراه في كل وقت، وتتماسك حلقاته وتتقوى دائماً، خاصة في الظروف الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلامية وهي تواجه أقوى التحديات، وأصعب الأزمات التي تهدد كيانها بالانقسام والتفرقة والتمزق. ولن تستطيع مواجهة هذه التحديات إلا بتقوية الروابط بين أقطارها، وبناء دعائم الوحدة والتماسك بينها. ومن

(1/106)

بين هذه الأقطار البلدان الإفريقية التي هي جزء من كيانها وجسدها وبنائها.

... ولعل من بين الأسباب العلمية التي دفعتني إلى اختيار هذه الرسالة، التي سماها مؤلفها أحمد بابا التمبكتي، العالم الشهير، "معراج الصعود إلى نيل حكم مجلوب السود"، أو "الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان":

... ـ إن هذه الرسالة وثيقة تراثيَّة مهمة تعكس مدى التواصل والترابط القائم بين الأفطار الإفريقية منذ مرحلة تاريخية متقدمة، وتؤكد رسوخ العلاقات بين هذه الأقطار.

(1/107)

... ـ إن مؤلف هذه الرسالة علم من أعلام هذا التواصل، ورمز من رموزه التاريخية، حيث لا يذكر تاريخ المغرب العلمي دون الوقوف عند شخصيته الفذة، بل إن المغاربة يعدونه منهم(1).

... ـ إن هذه الوثيقة جاء ذكرها عرضاً في بعض المصادر المغربية والدراسات والأبحاث التاريخية(2)

__________

(1) يقول ليفي بروفنصال: »أحمد بابا سوداني الأصل، معتز بالانتساب لبلاده، لا ينبغي بها بديلاً. إلا أن المغاربة يعدونه من علماء المغرب الأقصى، نظراً لمتانة الوشائج التي تربطه بهذه البلاد«. (مؤرخو الشرفاء)، ص. 176.

(2) ... أشار الأستاذ محمد الغربي إلى هذه الوثيقة بعنوان آخر وهو "الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان"، واعتبرها من الكتب التي ألفها أحمد بابا، وهي في الحقيقة رسالة أو تقييد على الأصح. (انظر كتابه: بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص. 542، هامش 2؛ وراجع: عبد القادر زبادية، مملكة سنغاي في عهد الاسكيين، طبعة الجزائر، 1971، ص. 156؛ وإبراهيم حركات، »تجارة الرق بإفريقيا«، مجلة دار الحديث الحسنية، ع 5، صص. 327 ـ 345).

(1/108)

.

... ـ إن الرسالة كانت من بين مصادر التأليف في موضوعها عند البعض، منهم: المؤرخ أحمد بن خالد الناصري في "الاستقصا"، حيث ينقل منها فقرات طويلة(1)، والشيخ محمد بن إبراهيم الغاني، الذي اعتمد عليها في تأليف رسالته "تنبيه أهل الطغيان"(2).

... ـ إن هذه الوثيقة حظيت باهتمام كبير لدى زعماء الإصلاح في إفريقيا في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، بحيث استند إليها الشيخ عثمان بن فودي، زعيم حركة الجهاد في شمال نيجيريا وخليفته محمد بللو في تبرير

__________

(1) الاستقصا، ج 5، ص. 103 و132.

(2) تنبيه أهل الطغيان، ص. 8.

(1/109)

الجهاد ضد الكفار من قبائل الهوسا(1).

... ـ ما ذكره الأستاذ محمد بنشريفة في معرض تنويهه بشخصية أحمد بابا التنبكتي ورسالة "معراج الصعود"، إذ قال:

... إن أحمد بابا يظل أقرب إلى الفقهاء منه إلى المؤرخين. غير أن الفرق بينه وبين كثير من فقهاء زمنه أنه كان واعياً بقيمة التاريخ، عارفاً بمكانته؛ وقد كان التاريخ عنده سلاحاً لا يقل عن سلاح الفقه. ومن يقرأ "معراج الصعود" و"جلب النعمة" يرى كيف كان أحمد يستعمل

__________

(1) الشيخ عثمان بن فودي، بيان وجوب الهجرة، تحقيق فتحي حسن المصري، الخرطوم، 1977، ص. 13، 15، 97.

(1/110)

هذا السلاح من أجل دفاعه عن الحرية ودعوته إلى الإصلاح (1).

... ـ تأكيد الباحثين على قيمة هذه الوثيقة التاريخية ومضمونها الاجتماعي وما تضمنه من آراء فقهية سديدة، والتنبيه إلى ضرورة تحقيقها تحقيقاً علمياً، ودراستها على »نسق فقهيّ تطوّريّ«(2).

التعريف بالرسالة

__________

(1) محمد بنشريفة، »إفادة أحمد بابا التمبكتي من الخزانة المغربية«، ضمن أعمال الندوة حول أحمد بابا، إيسيسكو، ص. 91.

(2) يوسف فضل حسن، »الفقيه أحمد بابا التمبكتي ودوره في كتابة التاريخ الأفريقي«، ضمن أعمال الندوة السابقة، صص. 38 ـ 39.

(1/111)

... تصنف هذه الرسالة ضمن مصادر النوازل أو المسائل أو الأجوبة، وهي مصادر تعكس في جانبٍ الواقعَ الحياتي الحي الذي تتداخل فيه عوامل مختلفة دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتكشف في جانب آخر عن الحكم الشرعي للقضايا أو النوازل التي تتصل بحياة الناس في أوضاعهم المختلفة.

... ومن هاتين الناحيتين اكتسبت الرسالة قيمتها العلمية والاجتماعية بما تضمنته من الإجابة عن مسألة عمت بها البلوى في الأقطار الأفريقية وانتشرت في كثير من نواحيها، وهي وضع الرقيق الذي يجلبه التجار من البلدان الإفريقية ليباع في سوق

(1/112)

النخاسة ووجه تملكه من الناحية الشرعية. وهي مسألة عظم خطرها، وعم الابتلاء بها في كل بلد حتى قال عنها أحمد بابا: »هي مصيبة عظيمة عمت بها البلوى في هذا الزمان في البلدان«(1).

... جاء نص هذه الرسالة جواباً عن سؤال وجهه أحد العلماء من مدينة توات(2)

__________

(1) معراج الصعود، مصدر سابق، ص. 8.

(2) ظلت مدينة توات تحت الحكم المغربي منذ عهد المرابطين إلى زمن قريب، وكان للشرفاء الوزانيين علاقة وطيدة بها. وقد أصدرت المطبعة الملكية بالرباط عام 1962 نص التقييد المتعلق بما اشتملت عليه من القصور ووثائق أخرى. (راجع الموسوعة المغربية للأعلام، معلمة الصحراء، ص. 72؛ ومحمد حجي، الحركة الفكرية بالمغرب، ج 2، صص. 630 ـ 631).

(1/113)

، وهو الفقيه سعيد بن إبراهيم الجزائري المعروف بقدورة(1)

__________

(1) هو أبو عثمان سعيد بن إبراهيم المعروف بقدورة. فقيه مشارك في بعض العلوم. أصله من تونس ونشأ بالجزائر. حلاه صاحب "الصفوة" بالعالم المتفنن الزاهد الورع الموصوف بالصلاح، وله الفتوى بالجزائر فأحسن فيها. أخذ عن سعيد المقري. له: حواش على "الصغرى"، وعلى خطبة اللقاني، و"شرح على السلم للأخضري"، وأخذ عنه الفقيه محمد بن إبراهيم الهشتوكي غيره. توفي سنة 1066 هـ. (انظر ترجمه في: صفوة من انتشر للأفراني، رقم 151؛ القادري، نشر المثاني، ج 2، ص. 82؛ اليواقيت الثمينة، ج 1، ص. 162؛ وهدية العارفين، ج 1، ص. 393؛ وشجرة النور الزكية، ص. 309؛ والحجوي، الفكر السامي، ج 2، ص. 279؛ والحفناوي، تعريف الخلف، ص. 66؛ وعادل نويهض، معجم أعلام الجزائر، ص. 75).

(1/114)

إلى الفقيه أحمد بابا التمبكتي في سنة 1021 هـ أو قبلها بقليل. وقد تأخر الجواب عنه حتى سنة 1024 هـ، حسبما استفدناه من تاريخ الفراغ من كتابة الرسالة، لأسباب سكت عنها المجيب. ومما ذكره الفقيه أحمد بابا نفسه في صدر جوابه قوله: »قدم إلي سؤال منذ ثلاثة أعوام أو أكثر من بلاد توات، صانها الله من ضروب الآفات... وقد كنت نويت الكتب عليه حينئذ، ثم منعني منه ما وقع وعاق عنه عائق القدرة حتى صار في جانب النسيان... «(1)، ثم ختمه بذكر تاريخ الفراغ منه وهو: »الاثنين عاشر

__________

(1) معراج الصعود، مصدر سابق، صص. 3 ـ 4.

(1/115)

المحرم الحرام فاتح الرابع والعشرين وألف« (1).

... ونظراً لأهمية هذه الرسالة وقيمتها، تعددت نسخها وتفرقت في الخزانات العامة والخاصة بالمغرب. وقد تيسر ـ بحمد الله تعالى وقوته ـ الوقوف على العديد من هذه النسخ نذكرها على الترتيب الآتي:

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 15. ورد في النسخة رقم: 10444 التصريح بالسنة التي ألف فيها هذه الرسالة، وأقدر أن تكون زيادة من الناسخ. جاء فيها: ثم ورد الآن في أواخر هذه السنة، وهي سنة 1023، استدعاء الجواب عنه.

(1/116)

( 1 ـ نسخة خاصة بخزانة الأستاذ البحاثة المقتدر الدكتور عبد الله المرابط الترغي. وهي النسخة التي أحيل على صفحاتها بالهامش. تقع في 17 صفحة من الحجم الصغير، في كل صفحة 21 سطراً ما عدا الصفحة الأخيرة. كتبت بخط مغربي مقروء بيد الناسخ سعيد بن عبد الله الهوزالي. غير أن الرطوبة أتت على بعض جملها وكلماتها، كما سقطت منها فقرة كاملة من الصفحة الأخيرة. وميزة هذه النسخة أنها تضمنت نص السؤال الذي وجهه السائل إلى الفقيه أحمد بابا.

( نسخ بخزانة العلامة المرحوم عبد الله كَنون بطنحة مسجلة على الترتيب التالي:

(1/117)

نسخة رقم: 10321 ضمن مجموع، تقع في 10 صفحات، خطها مغربي دقيق.

نسخة رقم: 10444 مستقلة، تقع في 12 صفحة، خطها مغربي دقيق ومقروء.

نسخة رقم: 10490 مستقلة، تقع في 8 ورقات، خطها مغربي مقروء.

... وفي كل هذه النسخ لم يذكر اسم الناسخ وتاريخ النسخ.

( نسخ بالخزانة العامة بالرباط، وهي:

النسخة الكتانية تحت رقم 1080 ك ضمن مجموع، تقع في 17 صفحة، من ص. 390 إلى 407. وهي نسخة جيدة، كتبت بخط مغربي جميل. وقد اعتمدتها في تكميل النقص وتصحيح الأخطاء الواردة في بعض النسخ.

(1/118)

نسخة تحت رقم 3552 د ضمن مجموع، تقع في 13 صفحة، من ص. 101 إلى 113، خطها مغربي مقروء.

نسخة تحت رقم: 1762 د ضمن مجموع، تقع في سبع صفحات من 1 ب إلى 7 أ، خطها مغربي مقروء.

نسخة كتانية أخرى تحت رقم: 1174 ك، في 14 صفحة.

نسخة تحت رقم: 100 ج ضمن مجموع، عدد صفحاتها 11، من 1 إلى 11. خطها مغربي مقروء.

نسخة مصورة على المكروفلم تحت رقم: 2135. لم نعرف مصدرها.

نسخة مصورة على المكروفلم تحت رقم: 2994، مصورة عن الأصل الموجود بالخزانة الحسنية تحت رقم: 7248.

التعريف بصاحب الرسالة

(1/119)

... لا نريد أن ندخل في تفصيل الكلام عن حياة هذه الشخصية الفذة، وحسبنا أن نقف عند السمات العلمية البارزة في حياته(1). فقد أطبقت شهرته الآفاق، ونال من أقلام المؤرخين والمفكرين والباحثين والفقهاء ما ناله من مدح وتنويه وتعظيم وثناء. ويكفي الذِّكر أنه لما أفرج عنه بمراكش وانصرف إلى التدريس، تقاطر عليه طلاب العلم من كل حدب وصوب للإقراء عليه والأخذ عنه، فذاع صيته

__________

(1) انظر في تفاصيل حياته الأطروحة التي قدمها الأستاذ محمود زبير بفرنسا بعنوان: Ahmed Baba ... de Tombouctou (1556-1627), Paris, 1977.

(1/120)

واشتهر بين الناس. وقد ذكر البرتلي في "فتح الشكور" فقرات طويلة على لسانه تدل على ذلك، جاء فيها:

... ولما خرجنا من المحنة، طلبوا مني الإقراء. فجلست بجامع الشرفاء بمراكش، أقرئ "مختصر خليل" قراءة بحث وتحقيق ونقل وتوجيه... وازدحم علي الخلق وأعيان طلبتها ولازموني، بل قرأ علي قضاتها... وأفتيت فيها لفظاً وكتباً، بحيث لا توجه الفتوى فيها غالباً إلا إليّ... واشتهر اسمي في البلاد من سوس الأقصى إلى بجاية الجزائر وغيرها(1)

__________

(1) فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، صص. 34 ـ 35؛ وانظر: نشر المثاني، ج 1، ص. 273؛ المراكشي، الإعلام ، ج 2، ص. 305؛ مؤرخو الشرفاء، ص. 178.

(1/121)

.

... وقال عنه المؤرخ عبد الرحمن السعدي وهو يتحدث عن علماء تمبكتو:

... وفيهم الفقيه العالم العلامة فريد دهره ووحيد عصره، البارع في كل فن من فنون العلم أبو العباس أحمد بابا... فجد واجتهد في بداية أمره بخدمة العلم حتى برع على جميع معاصرين وفاق عليهم جدّاً، ولا يناظره في العلم إلا أشياخه، وشهدوا له بالعلم. وفي المغرب اشتهر أمره وانتشر ذكره، وسلم له علماء الأمصار في الفتوى، وكانت وقافاً عند الحق... (1).

__________

(1) عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ص. 35.

(1/122)

... ولد أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر محمد آقيت الصنهاجي: المسوفي، الماسني، التكروري، السودانيّ، التمبكتي في 21 ذي الحجة عام 963 هـ الموافق 26 أكتوبر 1556 م بقرية أروان الواقعة على بعد نحو عشرة أيام من تمبكتو على طريق القوافل التي يربطها بتوات.

... وقد غلبت نسة التمبكتي عليه، وكانت أكثر النسب استعمالاً. وفي ذلك إشارة إلى موطنه الأساسي الذي نشأ فيه وترعرع وأخذ من معين علمائه حتى استوى وعلا كعبه.

(1/123)

... أسست تمبكتو على عهد المرابطين، وصارت في القرن السادس عشر مدينة تجارية كبرى ومركز إشعاع علمي مزدهر، وبلغت شأواً عظيماً، وحظيت بسمعة كبيرة في العالم الإسلامي مثل ما حظيت به فاس والقاهرة والقيروان. وأصبحت قبلة لأهل العلم من الطلبة والعلماء، يتوافدون عليها من مراكش والجهات الأخرى. ويذكر المؤرخ السعدي أن تمبكتو »ما أتتها العمارة إلا من المغرب«(1).

__________

(1) ... ن. أ. ص. 21؛ وانظر بتفصيل: F. Durbois, Tomboctou la mystérieuse, Paris, 1899

(1/124)

... وفي بيئة تمبكتو العلمية نهل العلوم وأصناف المعارف الإسلامية من تفسير وحديث وفقه، يساعده في ذلك ما كانت عليه أسرته آل أقيت من نفوذ وجاه وعلم ومركز وظيفي.

... ويعتبر الشيخ محمد بن محمود بن أبي بكر الونكري الشهير بـ »بَغْيُع« أبرز شيوخه وأكثرهم فضلاً عليه، ولم ينتفع بأحد مثل انتفاعه به وبكتبه. لازمه أكثر من عشر سنوات، قرأ فيها عليه نحواً من خمسة وعشرين كتاباً(1).

__________

(1) نيل الابتهاج، ص. 602، ترجمة رقم: 7036.

(1/125)

... وقد تحصلت للشيخ أحمد بابا معرفة علمية واسعة، بما أخذه من العلماء وبما استفاده من المكتبات الغنية التي تزدان بها دور العلماء من أسرة محمد آقيت(1)، أهلته ليتصدر حلقات التدريس ويصبح فقيهاً مالكياً بارعاً.

__________

(1) ذكر تلميذه أحمد البوسعيدي في "بذل المناصحة" أنه سمعه يقول:» أنا أقل عشيرتي كتباً، وقد نهب لي ست عشرة مائة مجلد«. (الاستقصا، مصدر سابق، ج 5، ص. 130). ويظهر من بعض الإشارات الواردة في "نيل الابتهاج"أن جزءاً كبيراً من هذه الكتب أرجع إليه؛ وراجع المراكشي، الإعلام، ج 2، صص. 302 ـ 307.

(1/126)

... وشاءت الأقدار الإلهية أن يغادر أحمد بابا بلدته تمبكتو متوجهاً إلى المغرب في عهد المنصور السعدي على الوجه الذي أراده الله في الأزل وقضاه كما يحدثنا هو بذلك(1)

__________

(1) تذكر المصادر أن ممثل السعديين الباشا محمود زرقون قبض عليه وجماعة من آل آقيت ونفوا إلى مراكش مصفدين في الحديد ومعهم حريمهم، وانتهت ذخائرهم وكتبهم. وكان ذلك في 25 جمادى الثانية 1002 هـ/ 18 مارس 1594 م. فظل أحمد بابا في اعتقال تحفظي حتى أطلق سراحه هو ومن معه في 21 رمضان 1004 هـ/ 19 مايو 1596 م. (انظر: الصفوة، مصدر سابق، صص. 52 ـ 53، رقم: 43؛ والاستقصا، المصدر نفسه، ج 5، ص. 130؛ خلال جزولة، ج 3، صص. 80 ـ 81؛ النزهة، ص. 97؛ المراكشي، الإعلام، مصدر سابق؛ وللتوسع في معرفة أسباب الحملة التي قام بها المنصور السعدي إلى السودان ومراحلها يرجع إلى بحثين مهمين لِدُولاَفُوسْ (Delafosse (M. نشرا بمجلة "هسبريس": «La conquête du Soudan», Hespéris, 1923, p. 488 ؛ « Les relations du Maroc avec le Soudan », Hespéris, 1924, p. 153.

(1/127)

. فظل في مراكش ـ عاصمة السعديين ـ مدة أربعة عشر عاماً إلى أن رجع إلى بلدته هام 1014 هـ/ 1605 م(1)

__________

(1) يرجع الفضل في إطلاق سراح الفقيه أحمد بابا إلى ابن المنصور زيدان. فبعد وفاة والده، أذن له في الرجوع إلى بلاده عام 1014 هـ. ويذكر المهدي الفاسي أن السلطان زيدان ندم على ذلك، لشدة تعلق أهل مراكش به، فأرسل في عودته، ولكنه أبى. وكان متشوقاً إلى رؤية بلده وسكب العبرات عند ذكرها. وقال في ذلك شعراً على طريقة الفقهاء ،منه:

...

أيا قاصداً كاغوا عرج نحو بلدتي

سلاماً عطيراً من غريب وشائق

وزمزم لهم باسمي وبلغ أحبتي

إلى وطن الأحباب رهطي وجيرتي

... (انظر: النزهة، مصدر سابق، ص. 98؛ والاستقصا، مصدر سابق، ص. 131).

(1/128)

.

... ومهما قيل في شأن اعتقاله الجبري بمراكش ومعاناته من ذلك، فإن الأمر الذي تجدر الإشارة إليه والتنويه به هو أن وجود الفقيه أحمد بابا في مراكش كان خيراً ونعمة وبركة على أهلها وعلى المغرب قاطبة، بل على نفسه أيضاً. فقد استفاد طلبة العلم وشيوخهم من دروسه التي كان يلقيها بجامع الشرفاء، وانتفع به عامة الناس في الحضرة المراكشية، وجلس إليه العلماء للمذاكرة والتحصيل؛ نذكر منهم: القاضي أبا القاسم بن أبي النعيم الغساني، وأبا العباس أحمد بك القاضي، وأبا العباس أحمد المقري، والتهامي بن محمد رحمون العلمي

(1/129)

الذي أثنى عليه في كتابه "شذور الذهب في خير نسب" وغيرهم(1). واستفاد هو كذلك من إقامته بمراكش، فانعكس ذلك على إنتاجه الفكري بصورة إيجابية، وانتشرت سمعته، وطار ذكره، وبعد صيته، واستطاع أن يؤلف في فترة قصيرة أزيد من نصف كتبه، يأتي في مقدمتها كتابه "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" الذي يعد من نفائس الكتب التي ترجمت للمالكية وسيرهم وأعمالهم. ومن ثم كانت

__________

(1) اطلعت على نسخة مصورة من هذا الكتاب بخزانة الزميل الأستاذ الدكتور عبد الله المرابط الترغي. وتوجد نسخة منه بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم: 884/ د.

(1/130)

هذه الفترة من أخصب مراحل حياته الثقافية(1).

... ويتحدث القادري عن ذلك، فيقول:

... نفع الله به هذا القطر المغربي، وحمل عنه علم عزيز، واستفيد بما عنده من التحقيق والتحرير، وقد اشتهر فيه اشتهار أهله، وتحققت فيه مكانة قدره وفضله مع ما أكرمه الله من مضاعفة الأجور وعلو الدرجات بمشاق الأمور، بسبب ما لحقه من الامتحان، الذي هو لأمثاله عنوان غاية الكرامة والرضوان(2).

__________

(1) انظر: محمد بنشريفة، الإفادة...، مصدر سابق، ص. 80، نقلاً عن أطروحة محمود زبير.

(2) نشر المثاني، مصدر سابق، ج 1، صص. 274 ـ 275.

(1/131)

... ولست بحاجة إلى الحديث عن الإنتاج الفكري المغربي لأحمد بابا، فقد أفاض الباحثون في ذلك، وإنما يجدر التنبيه في هذا الصدد إلى أن المنوه به كان حاضراً بفكره ووعيه وثقافته الفقهية المالكية الأصيلة في البيئة المغربية، مشاركاً في البحث عن الحلول لما يكتنف هذه البيئة من قضايا ونوازل. والقصد من هذا الإشارة إلى جوابين مهمين مما يتصل بهذا الموضوع، وهما:

... 1 ـ رسالة في حكم العشب الذي راج استعماله في ذلك العصر، المعروف بـ »طابا« أو التبغ، سماها "اللمع في حكم شرب طَبَغْ". ويذكر الأفراني أن هذه العشبة

(1/132)

الخبيثة دخلت إلى المغرب أوائل القرن 11 هـ، جاء بها الذين أتوا بالفيلة للمنصور السعدي من بلاد السودان، يزعمون أن فيها منافع. فشاعت عنهم في درعة ومراكش، وعمت البلوى بها جميع بقاع المغرب. وقد تصدى العلماء للفتوى فيها، فتعارضت أقوالهم، فمن قائل بالتحريم، ومن قائل بالتحليل، ومتوقف(1)

__________

(1) نزهة الحادي، مصدر سابق، ص. 162؛ الاستقصا، مصدر سابق، ج 5، ص. 126؛ النوازل الصغرى، ج 1، ص. 347؛ محمد حجي، الحركة الفكرية، ج 1، ص. 24، حيث يعتمد على البوسعيدي في "بذل المناصحة" لتحديد تاريخ هذا الحدث وهو 1005 ـ 1006 هـ/ 1597 ـ 1598 م، خلاف ما ذكرته المصادر المذكورة.

(1/133)

.

... وكان الشيخ الفقيه أحمد بابا من الذين أفتوا بجواز القليل منها. قال في "شرح المختصر":

... فرع: ابن عسكر في "العمدة": »والنباتات كلها مباحة إلاَّ ما فيه ضرر أو يغطي العقل«. قلت: »وبهذا تعلم جواز شرب دخان الورق المسمى طبغ. وقد ظهر شربه في أول هذا القرن الحادي عشر بعد الألف، وبه أفتيت في بلاد المغرب، مراكش ودرعة، اعتماداً على كلام ابن عسكر وغيره، وألفت فيها كراسة سميتها "اللمغ في حكم شرب طبغ"«(1)

__________

(1) النوازل الصغرى، المصدر السابق، ج 1، ص. 342 و348؛ والنوازل الكبرى، المصدر السابق، ج 1، ص. 100 وما بعدها. والرسالة مذكورة في كتاب "الإصليت الخريت" لابن أبي محلي، 136 ظ ـ 145 ظ؛ وانظر: الحركة الفكرية، مرجع سابق، ج 1، صص. 248 ـ 254، حيث نقل فقرات منها، مبيناً أسباب كتابتها.

(1/134)

.

... وقد انتشرت هذه الرسالة بين الناس، وتداولها العلماء في ذلك الوقت، بل أصبحت من مصادر التأليف في الموضوع عند المتأخرين، وهم الأكثر ممن منع وشدد في تحريمها.

... قال الشيخ الرهوني، بعد نقل كلام أحمد بابا السابق:

... وما أفتى به وذكره هنا قد نقل عنه نحوه تلميذه الحافظ المحصل أبو العباس المقري لما سأله عن القاضي الأعدل سيدي إبراهيم الجلالي، ونصه: »وقد سألت عنها شيخنا الإمام المؤلف الحافظ العلامة سيدي أحمد بابا السوداني، فأجابني بجواز القليل منها قائلاً: "إن الأشياخ بذلك أفتوا، وعين لي من

(1/135)

جملتهم شيخه الإمام سيدي محمد بغيع، وهذا الرجل يزعم علماء السودان أنه المبعوث على رأس المائة العاشرة لتجديد الدين في نظرتهم"«(1).

... ونقل المكناسي في "شرح ابن عاشر" عن شيخه الرهوني قال: »لا وجه للمنع إن طهرت، لا كالمجلوبة من الروم. نعم ! ينبغي لمتعاطيها تقليد القائل بإباحتها، ومنهم المحقق بابا«(2)

__________

(1) النوازل الصغرى، مصدر سابق، ج 1، صص. 342 ـ 343؛ وانظر نص فتوى الفقيه إبراهيم بن عبد الرحمن الجلالي الزياتي في "نوازل العلمي"، ج 3، صص. 208 ـ 210.

(2) النوازل الصغرى، المصدر السابق، ج 1، ص. 351. ومن العلماء الذين أفتوا في هذه المسألة نذكر قاضي درعة أحمد بن محمد البوسعيدي، ومحمد السوسي (1023 هـ)، ألف فيها "كشف الغسق"، وأبو القاسم بن أبي النعيم الغساني، وأحمد المقري، ومحمد العربي الفاسي وله "سهم الإصابة في حكم طابة"، =

= وتلميذ أحمد بابا أحمد بن علي البوسعيدي خصص فصلاً في "بذل المناصحة". انظر في هؤلاء: الحركة الفكرية، مصدر سابق، ج 1، ص. 248 ـ 265؛ وعبد الرحمن التمانارتي في "الفوائد الجمة"؛ وعبد القادر الفاسي في " أجوبته الكبرى"، ص. 25؛ ومحمد ميارة في "زبدة الأوطاب"؛ وبدر الدين الحمومي، ومحمد المرنيسي، وأحمد الرهوني، ومصطفى الرماصي، وعبد المجيد بن علي الزبادي المنالي في رحلته "بلوغ القصد والمرام" (الخزانة العامة بالرباط، د 1808)، ومحمد بن الحسن بن عرضون الشفشاوني.

... وقد ورد من السلطان الحسن الأول استفتاء لعلماء فاس في 23 محرم عام 1304 هـ/ 1886 م في حكم هذه العشبة، فأجاب عنه الشيخ جعفر بن إدريس الكتاني (ت 1323 هـ)، وقعها معه مشايخ فاس: القاضي حميد بن محمد بناني ( ت 1327 هـ) وأحمد بن أحمد بناني (كلا)، والطيب بن أبي بكر بن كيران (ت 1314 هـ)، وعبد الله بن إدريس البدراوي، وعبد الهادي بن أحمد الصقلي (ت 1311 هـ)، وأحمد بن محمد بن الخياط الزكاري (ت 1343 هـ)، وعبد الملك الضرير العلوي، وأحمد بن محمد بن حمدون بن الحاج السلمي (ت 1316 هـ).

... وكتب فيها المؤرخ أحمد بن خالد الناصري جواباً أثبته في الاستقصا، ج 5، صص. 125 ـ 129؛ وألف الشيخ المهدي الوزاني تويلفاً في المسألة ساقه كله في "نوازله الصغرى"، ج 1، ص. 342 ـ 356؛ وقد نقل فيه أجوبة الفقهاء المذكورين أعلاه. كما أثبت أجوبة المذكورين ثانياً في المصدر نفسه ، ج 1، صص. 401 ـ 405 أول نوازل الجهاد؛ وانظر النوازل الكبرى، مصدر سابق، ج 8، ص. 100 وما بعدها.

(1/136)

.

... 2 ـ جوابه عن سؤال طرح من قبل شخصية دينية مرموقة، لها وزنها على المستوى المركزي والإقليمي، وأثرها على الأحداث التاريخية والسياسية في عهد المنصور السعدي وبعده، ونقصد به الشيخ أبا زكريا يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي(1)

__________

(1) ولد بتافلالت. قال عنه المختار السوسي: »العلامة الجليل: الرئيس المتبوع، فرع كل آل سوس في عصره. اشتهر بتحصيل العلم ونشره في زاوية تافلالت«. وقد استنصر السلطان السعدي زيدان ضد حركة ابن محلي. (نزهة الحادي، مصدر سابق، ص. 208 وما بعدها؛ الاستقصا، مصدر سابق، ج 6، ص. 60؛ المراكشي، الإعلام، مصدر سابق، ج 10، ص. 222 وما بعدها؛ المعسول، مصدر سابق، ج 19، ص. 48 وما بعدها).

(1/137)

. ويتعلق الأمر بالأعراف التي كانت سائدة في المناطق البعيدة عن السلطان بالجنوب المغربي وما نصت عليه من وضع إنْفلاس، وهم الشيوخ أو الضُّمَّان الذين كانوا يطبقون بعض القوانين المسطرة في »ألواحـ«ـهم على من ارتكب ما يخالفها بأخذ غرامة مالية على جنايته، أو هدم داره، أو ذبح بقرته يأكلونها، ردعاً له ولأضرابه، وإن المتهم عندهم يعطي خمسين يميناً. وما يأخذونه من الغرامات المالية يسمونه: »الإنصاف«، يأخذونه من المتهم حسب نوع الجناية ومقدارها. وهذه القوانين كلها مخالفة للشرع، لجأوا إليها للحفاظ على الأمن

(1/138)

ومصالح البلاد. وقد استدعى السؤال البحث عن الحكم الشرعي لهذه القوانين.

... وقد خاطب الشيخ أبو زكريا بالسؤال فقهاء الحضرة المراكشية في ذلك الوقت. وكان من بين الفقهاء الذين أجابوا عن السؤال الشيخ أحمد بابا التمبكتي(1). ومما جاء في الجواب:

__________

(1) أجاب عن السؤال خمسة من فقهاء الوقت وهم: أحمد بابا التمبكتي، عبد الواحد بن أحمد الركَراكَي، ومحمد بن عمر الهشتوكي، وعيسى بن عبد الرحمن السكتاني، وإبراهيم بن يونس.

(1/139)

... أما قولكم: يجتمعون عن آخرهم« إلى قولكم: »الشيوخ والضمان... «، فاعلم أن الموضع الذي لا سلطان فيه أو لا يلحقه حكم السلطان، إن اجتمع جماعة المسلمين فيه على إقامة أحكام الشرع على الوجه المشروع، فإن حكمهم يقوم مقام السلطان والقاضي، ويجب عليهم السعي في الدخول تحت حكم السلطان، إذ لا يجوز البقاء فوضى للأحاديث الكثيرة... (1)

__________

(1) اطلعت على نص السؤال وأجوبته في مصادر النوازل والأجوبة الفقهية التالية:

1 ـ نسخة مستقلة بالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم: 5813 بخط الناسخ عبد الله بن سعيد الهوزالي، فرغ منها سنة 1233 هـ، وعنونت باسم "أجوبة .. في شأن القوانين العرفية" لأحمد بابا التمبكتي.

2 ـ ضمن "الأجوبة الفقهية" لأبي مهدي عيسى السكتاني، مخطوط بالخزانة الحسنية رقم: 6337 من 26/ أ إلى 32/ أ ـ ب.

3 ـ ضمن "نوازل" ابن عبد السميح، أو "فتاوي علماء جزولة" لأبي العباس أحمد بن يعزي بن عبد السميح التغاتيني (ت 1080 هـ)، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط رقم: ق 725، صص. 239 ـ 246.

4 ـ ضمن كتاب: المنهل العذب السلسبيل، شرح نظم أبي زيد الجشتيمي، لمحمد بن أبي بكر الشابي الأزاريفي، مطبعة النجاح، الدارالبيضاء، 1400 هـ/ 1980 م؛ ج 2، صص. 251 ـ 257.

... وتوجد هذه الأجوبة ضمن مجموع بالخزانة الناصرية بتمكروت تحت رقم: 1644، بعنوان: "أجوبة في مسائل النفاليس" لعبد الواحد الركَراكَي.

... وأشير إلى أن الأستاذ صدقي علي أزايكو قام بتحقق هذه الأجوبة والتعليق عليها معتمداً على ثلاث نسخ: الأولى والثانية المشار إليهما أعلاه، ونسخة أخرى عثر عليها في إيمينتانوت. وقد نشرها ضمن أبحاث اللقاء العلمي حول موضوع »التاريخ وأدب النوازل« الذي نظمته الجمعية المغربية للبحث التاريخي بتعاون مع شعبة التاريخ بكلية الآداب بالرباط تكريماً للأستاذ المرحوم محمد زنيبر يومي 16 ـ 17 دجنبر 1989 (انظر: التاريخ وأدب النوازل، منشورات كلية الآداب بالرباط، صص. 135 ـ 185؛ وراجع في هذا الموضوع كذلك: أطروحة الأستاذ الحسن العبادي، فقه النوازل بسوس، ج 2، صص. 459 ـ 467).

(1/140)

.

... يظهر من هذا كيف كان الفقيه أحمد بابا متفاعلاً مع البيئة المغربية وظروفها السياسية وأحوالها الاجتماعية، مندمجاً فيها بوعيه وثاقب فكره، مشاركاً بثقافته وعلمه، لا يختلف في ذلك على فقهاء وقته بالمغرب الذين كانت تربطهم به وشائج المحبة والتقدير والإجلال. وقد ظل كذلك إلى أن أذنت ساعة الرحيل بالفراق، فعاد إلى تمبوكتو(1)

__________

(1) ومن طريف ما يذكره الأفراني أنه لما خرج من مراكش يقصد بلده، شيَّعه أعيان الطلبة فأخذ بعضهم بيده عند الوداع وقرأ قوله تعالى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} على ما جرت به العادة من قراءتها عند وداع المسافر وطلب رجوعه سالماً. فنزع أبو العباس يده بسرعة وقال: »لا ردني الله إلى هذا المعاد ولا رجعني لهذه البلاد«. وسلم عليهم وذهب. (نزهة الحادي، مصدر سابق، ص. 98؛ والاستقصا، مصدر سابق، ج 5، ص. 131).

(1/141)

واستقر بها منصرفاً إلى التدريس والتأليف حتى توفاه الله في ضحوة الخميس، شعبان 1036 هـ/ 22 أبريل 1627 م.

موضوع الرسالة

... سبقت الإشارة إلى أن الرسالة جاءت جواباً على سؤال وجهه الشيخ قدورة من مدينة توات إلى فقهاء السودان، ومنهم أحمد بابا على الخصوص. ويتعلق بقضية العبيد المجلوبين من البلاد السودانية التي تقرر إسلام أهلها كبلاد برنو وعفنو وكانو وجاغو وكاشنه وغيرها من البلدان التي استفاض إسلامهم هل من وجه شرعي يسوغ لملكهم والتصرف فيهم بالبيع والشراء.

(1/142)

... إن هذه المسألة تدخل عموماً في موضوع الرق وتجارة الرقيق في إفريقيا، وهو موضوع من »أشد الموضوعات حساسية وأكثرها مدعاة لاختلاف الرأي في التاريخ الأفريقي«(1). ولا أربد أن أدخل في مناقشة هذا الموضوع، فقد كتب فيها الباحثون الأجانب والعرب بإسهاب؛ كما لا أريد أن تحظى هذه القضية بالاهتمام في هذه المداخلة العلمية المتواضعة، لأنها محكومة بظروفها التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإنما الذي أودّ أن أشير إليه بعجالة هو

__________

(1) جمال زكريا قاسم، الأصول التاريخية للعلاقات العربية الإفريقية، ص. 193.

(1/143)

أن ما روجته المصادر الأجنبية وثقافتها التوسعية الحاقدة التي تجعل من الرق موضوعاً ملتصقاً بالإسلام ومرتبطاً بتشريعه، وأن تجارة الرق وتملكهم من أوضاع العرب الخاصة بهم دون سواهم، لا يقوم على أساس موضوعي في العلم والتاريخ، بل إن هذه المصادر تتجاهل طبيعة النصوص التشريعية في الإسلام ومقاصدها السامية، بل تجهل أو تتجاهل المسالك التي وضعها الإسلام للقضاء على ظاهرة الرق، وتسعى في أن تحدث شرخاً في العلاقات العربية الإفريقية، وذلك بالتركيز على أن الصلات الطويلة بين العرب والأفارقة لم تكن متماثلة، بمعنى أن

(1/144)

العرب اخترقوا القارة الإفريقية لاستعباد سكانها وفرض دينهم وثقافتهم على أهلها(1).

... إن نظرة سريعة إلى تاريخ الأمم والدول تبين لنا أن الرق كان وضعاً اجتماعياً قائماً منذ القدم، وأن تجارة الرقيق والنخاسة كانت من أهم موارد الثروة وجزءاً من النظام الاقتصادي، وعنصراً من عناصر الإنتاج. ولما ظهر الإسلام، كان الرق متركزاً في البلاد العربية، فلم يكن من الحكمة القضاء عليه مرة واحدة، لأسباب تمليها ضرورات الحياة الاجتماعية والظروف الاقتصادية، ولكنه تعامل معه بالتدريج، فهيأ له من المنافذ

__________

(1) المرجع نفسه.

(1/145)

التشريعية والمسالك القانونية التي ضيقت من روافده وألغت موارده شيئاً فشيئاً، وفتح للأرقاء أبواب الحرية، ووسع من أسباب العتق ما يكفي للقضاء عليه، ومنها: الإقرار بلفظ العتق صراحة من السيد، أو أن يجري على لسانه ما يفيد التدبير، وهو الوصية بتحرير العبد بعد موته، والتسري بالجواري دون عقد طريقاً لحريتهن، ومكاتبة السيد عبده على مال والإجابة إلى ذلك إذا طلبها العبد، وعتق الرقبة في حالة الاعتداء، أو القتل الخطإ، أو الحنث في اليمين، أو الإفطار في رمضان متعمداً، طريقاً من طرق التكفير عن الذنب. وحبب الإسلام

(1/146)

إلى الناس تحرير الرقيق ورغب فيه وجعله أكبر قربة يتقرب بها العبد إلى ربه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار«. بل إنه خصص سهماً من مال الزكاة لشراء العبيد وتحريرهم ومساعدة من يحتاج منهم إلى المساعدة في سبيل تحريره. فقال تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ والعَامِلِين عَلَيْهَا والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ..} (1)

__________

(1) انظر بتفصيل في هذا الموضوع رسالة الدكتور علي عبد الواحد وافي بالفرنسية: Contribution à une théorie sociologique de l’esclavage, Paris, 1931؛ وكتابه: الحرية في الإسلام، دار المعارف، مصر، 1968.

(1/147)

[التوبة: 60]. وبعد هذا، فإنه من الخطإ الفادح والجريمة النكراء الادعاء بأن الإسلام كان سبباً في تغذية تجارة الرقيق في القارة الأفريقية(1).

... وتذكر المصادر أن جلب الرقيق إلى المغرب كان يجري ضمن العمل التجاريّ العاديّ، وأن هذه التجارة لم تتأثر بالتوسع الكبير في صيد رجال القبائل وإرسالهم عبر البحار كما كان يفعله النخاسون

__________

(1) راجع الفصل الخامس من كتاب الدكتور جمال زكريا قاسم، المصدر السابق، في »مسألة الرق وتجارة الرقيق في إفريقيا«، صص. 191 ـ 213؛ وبحث إبراهيم حركات، مصدر سابق، صص. 325 ـ 353.

(1/148)

الأوروبيون(1). وقد رافقت هذه التجارة المحدودة هجرة جماعية اختيارية لبعض الزنوج الذين توجهوا إلى واحات سوس وقراها طلباً للعلم. ولم تدخل هذه الجماعات في نطاق الاسترقاق الذي كان يواجه كثيراً من النقد من طرف العلماء في العهد السعدي(2)

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 205 وما بعدها.

(2) يذكر المختار السوسي قرية أكرض بسوس كان سكانها كلهم سود تبدو على المسنين منهم آثار الخير. فهم ذوو دين وملازمة للصف في المساجد. (خلال جزولة، ج 3، ص. 15). ويتحدث في "المعسول" عن تجار العبيد التي زاولها بعض الفقهاء، كان من نتائجها ازدياد الوشائج الدموية بين الشمال والجنوب. (المعسول، مصدر سابق، ج 6، صص 16 ـ 162؛ ج 18، صص. 160 ـ 165).

(1/149)

.

... ولم يخرج الاسترقاق الذي عرفه السودان الغربي عن نطاق التجارة العادية والمحدودة، وكان العبيد يعاملون معاملة حسنة بالمغرب، ويعتبرون خداماً للسلطان وتحت حمايته. فلم يكن يسمح باستعمال العنف في معاملتهم، وغالباً ما كانوا يتحررون بموجب أحد الأوجه التي كان يقرها الشرع الإسلامي(1).

... لقد شغلت ظاهرة الاسترقاق بال الفقهاء، وأخذت حيزاً من اهتمامهم وتفكيرهم، خاصة في العهد السعدي الذي عرف قدوم عدد كبير من السود. وقد

__________

(1) ... راجع: محمد الغربي، بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص. 606 وما بعدها.

(1/150)

أصبحوا يشكلون إحدى فرق الجيش في العهد الإسماعيلي، وينالون أحسن المراكز السياسية والعسكرية (1). ولم يسعفنا البحث في تعرُّف الفتاوى الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع في العهد السعدي، إذا استثنينا فتوى الشيخ عبد القادر الفاسي (ت 1091 ت) التي أوردها العلمي في نوازله، ونصها:

... سئل ـ رحمه الله ونفعنا به ـ عن إنسان أسود غصب وبيع على أنه عبد، وهو في بلد تقام فيه الجمعة… فأجاب: »إن هذا الإنسان لا يطلق عليه أنه مملوك، إذ تملكه بالغصب والظلم لا يخرجه عن حكم الحرية ولا يصير رقيقاً، بل غايته

__________

(1) المرجع نفسه.

(1/151)

أنه مظلوم مقهور في حكم المملوك، وذلك غير معتبر شرعاً إذ هو في نفس الأمر حرّ، ولا سبيل لتمليك الحر المسلم، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حسّاً… «(1).

كما لا يمكن المجازفة بالقول إن رسالة أحمد بابا هي الوحيدة التي اهتمت بهذا الموضوع في العصر السعدي، وذلك في غياب المعلومات المتعلقة بالرسائل والأجوبة الفقهية التي دونت في ذلك العصر. غير أنه قد يكون من المؤكد أن رسالة أحمد بابا هي الأولى من نوعها التي تطرقت إلى حكم العبيد المجلوبين من السودان.

__________

(1) نوازل العلمي، ج 2، ص. 126.

(1/152)

... وفي العهد العلوي، وخاصة في عهد المولى إسماعيل، برزت على مسرح الأحداث السياسية مسألة »الحراطين« والبحث عن العبيد في القبائل وتمليكهم وإدماجهم ضمن جيش واحد عرف باسم »جيش البخاري«(1)

__________

(1) للمزيد من الاطلاع على هذه القضية، انظر: عزيز عبد الله مطران، »علماء فاس والمولى إسماعيل ومشكلة الحراطين«، ترجمه عن الإنجليزية عبد الله بن الأمين ومحمد المهناوي، مجلة أبحاث، عدد 26، ربيع 1991، صص. 71 ـ 83؛ و محمد المهناوي، »الترقي الاجتماعي للحراطين نموذجاً«، التنظيم العسكري وعلاقته بالمجتمع في العصر الإسماعيلي، منشورات مركز البحوث والدراسات العلوية، الريصاني، 1991؛ عبد الله الترغي، حركة الأدب في المغرب، ج 1، صص. 32 ـ 41.

(1/153)

. وقد تصدى العلماء لهذه المسألة بالاستنكار والرفض، وواجهوا من أجل ذلك الشدائد والصعاب، خاصة الشيخ محمد العربي بن أحمد بردلة (ت 1133 هـ) الذي ألف في ذلك رسالة سماها: "إفشاء القواعد المذهبية، والأقوال المرضية في إبطال النحلة العليلشية التي أشاعها الملحد في الأقطار المغربية"(1)

__________

(1) توجد من هذه الرسالة نسخ متعددة بالخزانات المغربية. ويرجع تاريخها إلى متم ربيع الأول 1120 هـ/ 1708 م. وقد وقعها معه بالعطف كل من: محمد بن أحمد بن الحاج، ومحمد بن أحمد ميارة الحفيد، وعبد السلام بن حمدون جسوس. وقد أوردها كاملة أبو العباس أحمد بن الحاج في كتابه "الدر المنتخب المستحسن"، ج 7، صص. 189 ـ 205، مخطوط بالخزانة الحسنية، رقم: 12184؛ وكذلك العلمي في "نوازلـ" ـه، ج 3، صص. 277 ـ 285؛ وانظر في ظروف جمع الحراطين وأسبابه ودواوينه؛ "الدر المنتخب"، ج 6، صص. 108 ـ 116؛ ج 7، صص. 184 ـ 188.

(1/154)

، وعبد السلام بن حمدون جسوس (1). ومما جاء في جواب الفقيه بردلة:

... ... تعين على كل من له ملابسة بالعلم إنهاء هذا الخطب النازل الوقتي الذي هو المجاهدة باستعباد الأحرار واسترقاقهم بدون وجه شرعي، وتقرير هيأته الواقعة، وكشف الوجه الذي يتخيل عليه وما يرتكب في ذلك من المحظورات الموبقات… وهؤلاء المطالبون بالاسترقاق الآن حيث كانت حريتهم معلومة، فإقرارهم بالرق ولو كان عن طوع وجواز، مع انتفاء ما ذكر من التهمة، فهو

__________

(1) انظر قصته مع السلطان مولى إسماعيل في الدر المنتخب، مصدر سابق، ج 7، صص. 205 ـ 215.

(1/155)

لغو، لا يسلمون شرعاً للرق بهذا الإقرار، ولا ندعهم وإياها، ولا يلزمون به، لأن حريتهم حق من حقوق الله تعالى، فليس لهم إرقاق نفسهم... فلينظر ما أفضت إليه هذه البدعة التي لم تقع فيغير هذا القطر المغربي من سائر الأقطار، ولم يبتل بها أهل عصر مما سلف من الأعصار... فقد ضاقت نفس العامة والخاصة بها ذرعاً، وما استطاعوا لها نظراً ولا سمعاً، لجمعها بين المصيبة في الدين والدنيا... (1).

__________

(1) نوازل العلمي، ج 3، صص. 282 ـ 289؛ والدر المنتخب، ج 7، صص. 198 ـ 204.

(1/156)

... وقد تصاعد استنكار هذه الظاهرة إلى السلطة الحاكمة. فقرَّر السلطان الحسن الأول في رسالته القرنية التي أذاعها عام 1300 هـ/ 1883 م »أن من المنكر الذي لا يسع التغافل عنه والتساهل في أمره: هذا الخطب النازل الوقتي الذي هو المجاهرة باستعباد الأحرار، واسترقاقهم بدون وجه شرعي «(1).

... وهناك رسالة في الموضوع كتبها الفقيه جعفر بن إدريس الكتاني (ت 1323 هـ)، وفيها يقرر أن الأمة التي يصح

__________

(1) انظر: ابن زيدان، إتحاف أعلام الناس، ج 2، ص. 229. ويلاحظ أنها العبارات نفسها التي جاءت في جواب القاضي بردلة.

(1/157)

تملكها شرعاً هي المسبية من بلاد الكفر(1).

... وقيد أحمد بن خالد الناصري فصلاً ختم به حديثه عن نكبة أحمد بابا التمبكتي، ذهب فيه إلى استنكار هذه الظاهرة الشنيعة وحسم مادة فسادها. ومما جاء فيه:

... قد تبين لك بما قصصناه عليك من أخبار السودان ما كان عليه أهل تلك البلاد من الأخذ بالإسلام من لدن قديم، وأنهم من أحسن الأمم إسلاماً، وأقومهم ديناً، وأكثرهم

__________

(1) أشار إلى هذه الرسالة ضمن تآليفه التي سردها في آخر فهرسته: وهي من الرسائل المفقودة. راجع: محمد المنوني، المصادر العربية، ج 2، ص. 142، رقم 1063.

(1/158)

للعلم وأهله تحصيلاً ومحبة. وهذا الأمر شائع في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت...

... إذ أهل السودان قوم مسلمون. فلهم ما لنا وعليهم ما علينا... فنسأله سبحانه أن يوفق من ولاه أمر العباد، لحسم مادة هذا الفساد؛ فإن سبب الاسترقاق الشرعي الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح مفقود اليوم، وهو السبي الناشئ عن الجهاد المقصود به إعلاء كلمة الله تعالى، وسوق الناس إلى دينه الذي اصطفاه لعباده. هذا هو ديننا الذي شرعه لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وخلافه خلاف الدين، وغيره غير

(1/159)

المشروع. والتوفيق إنما هو بيد الله...(1).

... وألف في الموضوع كذلك أحد علماء غانة رسالة سماها "تنبيه أهل الطغيان على حرية السودان"(2)، وصاحبها هو: محمد بن إبراهيم الجارمي الغاني

__________

(1) الاستقصا، مصدر سابق، ج 5، صص. 131 ـ 134.

(2) وقفت على الرسالة مخطوطة بخزانة العلامة المرحوم عبد الله كَنون رقم: 10443. وقد طبعت بالمطبعة الأهلية بالرباط عام 1946 في 28 صفحة. أما النص المخطوط، فيقع في 22 صفحة من الحجم الصغير كتب بخط مغربي مقروء ولم يذكر تاريخ النسخ. وكان الفراغ من تأليفها أواسط شعبان عام 1353 هـ.

(1/160)

(1).

... قال في مقدمتها:

... إني لما رأيت تحامل كثير من الناس على السودان وتجاسرهم عليهم من غير موجب وما يدعون من رقيتهم وعدم إسلامهم، حملتني الغيرة على أن أنبه على ذلك في رسالة، ليكون على بال من له أدنى اهتمام بدينه...

وقد اعتمد الجارمي في تأليف هذه الرسالة على ما ذكره الناصري في تقييده المشار إليه سابقاً. ويبدو أنه لم يكن يعرف رسالة أحمد بابا إلا من خلال "الاستقصا". كما استند إلى أقوال بعض العلماء المغاربة الذين جالسهم وكانت تربطه بهم صداقة ومودة. ويدل عليه ما جاء

__________

(1) لم نتمكن من تعرُّفه.

(1/161)

في هذه الفقرة. قال:

... فهل استرقاقهم إلا ظلم وخروج عن سنن الهدى. ويؤيد ما ذكرناه قول بعض من لاقيناه بالدار البيضاء، وهو الشيخ الفاضل القاضي أبو عبد الله سيدي محمد بن المفضل الحريزي... أجاب في المسألة: أن لا عبد اليوم ولا أمة، وما يقع من ذلك في أيدي الناس مخالف للشرع(1).

أبعاد التواصل الحضاري من خلال الرسالة

... تتضمن رسالة أحمد بابا التمبكتي، بغض النظر عن الفكرة الأساسية التي قامت عليها، إشارات تاريخية وتنبيهات موضوعية، يستخلص منها الباحث مدى التواصل والرباط

__________

(1) تنبيه أهل الطغيان، ص. 5.

(1/162)

القائم بين المغرب وبلاد السودان منذ عهد قديم بأبعاده المختلفة: الدينية والمذهبية والثقافية. وسأحاول أن أحدد مظاهر هذه الأبعاد انطلاقاً من الفقرات التي وقفت عليها في الرسالة.

... 1 ـ البعد الديني: يبدو واضحاً من خلال الفقرات التي أتى بها الفقيه أحمد بابا أن أهل السودان مسلمون لا يجوز تملكهم بحال، أسلموا قديماً منذ القرن الخامس الهجري. ويؤكد ذلك الدور الذي قام بها الملثمون المرابطون في نشر الإسلام وإخضاع أهل إفريقيا له. وذكر من بين هذه البلدان المسلمة: كانو وكشنة وبرنو ومالي وسنغي والفلان (1)

__________

(1) حول إسلام هذه البلدان، راجع: حسن أحمد حمود، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، ص. 220، 226، 233، 247.

(1/163)

.

... إن موضوع انتشار الإسلام في البلدان الإفريقية ينبغي أن يحتل مكاناً رئيساً في التاريخ الأفريقي وتاريخ الشعوب الإسلامية في العصر الحديث لأسباب عديدة من بينها ارتباط العالم العربي بالقارة الأفريقية في عصور مختلفة من التاريخ وامتزاج الحضارة العربية الإسلامية بالحضارات المتعددة للشعوب الإفريقية، وسرعة الاندماج بين شعوبهما وتاريخهما الحافل، مما جعل العالم العربيّ والإفريقيّ أقرب إلى التضامن والتوحد والتداخل الحضاريّ تحت راية الإسلام. ومع ذلك، فإن إبراز طبيعة العلاقات العربية الإفريقية لا تزال

(1/164)

تكتنفها صعوبات، في مقدمتها فقدان الكثير من المصادر والسجلات العربية، وغلبة المصادر الأجنبية التي كان قصدها التشويه المتعمَّد لتاريخ العرب والإسلام في أفريقيا (1). يقول الدكتور جمال قاسم:

... وليس من شك في أن تاريخ العرب في إفريقيا يعد من الصفحات المجيدة في التاريخ الأفريقي، نرجو أن تتاح الظروف للدارسين العرب

__________

(1) الأصول التاريخية...، مصدر سابق، ص. 11 وما بعدها؛ وراجع الأصل الأول من الكتاب حول "إفريقيا في المصنفات العربية"، ص. 23، 57؛ وفاي منصور علي، اسكيا الحاج محمد وإحياء دولة سنغاي، ص. 52.

(1/165)

لاقتفاء آثاره قبل أن تضيع المدونات العربية أو يقتصر الدارسون على المصادر الأوروبية وحدها؛ فإن معظم هذه المصادر كتبت بالنظرة الأوروبية، وكان صعباً عليها أن ترى حسنة من حسنات العرب(1).

... وتردد المصادر الأوروبية أن من العوامل المهمّة التي جعلت البلدان الأفريقية تبدي الحماس الكبير للإسلام كان العامل التجاري الذي شكل مورداً هامّاً في النشاط الاقتصادي لهذه البلدان. ويظهر أن الاعتبارات الاقتصادية والعلاقات التجارية مهما كثرت لا تكفي؛ فهناك عامل أساسي، وهو العقيدة الإسلامية

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 57.

(1/166)

وسماحتها وما تضمنته من الفضائل والقيم لم تكن في دين من الأديان المعروفة، ناهيك عن الديانة الإفريقية الضاربة في الوثنية. فقد وجدت بلاد السودان ضالتها المنشودة في نور الإسلام الساطع. وبذلك تحققت نظرية علماء مقارنة الأديان التي تقرر أن الدين الأعلى ينسكب في قلوب من لا دين لهم، أو من يعتمدون في تدينهم على الأوهام والخرافات، كالسيل الذي ينحدر من أعلى إلى أسفل(1).

__________

(1) انظر: أحمد شلبي، مقارنة الأديان: الإسلام، ج 3، صص. 192 ـ 207.

(1/167)

... وقد تأثرت أقاليم غرب إفريقيا المجاورة للمغرب بموجتين إسلاميتين: تتجلى أولاهما في تسرب الإسلام وانتشاره فيها انتشاراً بطيئاً استغرق حوالي سبعة قرون ابتداء من القرن الخامس الهجري (11 م)، وجاءت الموجة الثانية في أعقاب حركات الجهاد التي اضطلع بها الفلان في القرن الثالث عشر الهجري (19 م).

... أما الموجة لأولى، فقد كانت طلائعها من قبائل الملثمين (الطوارق)(1)

__________

(1) ينحدر الطوارق من قبيلة مسوفة التي هي أحد أقسام صنهاجة. وقد رحلوا من اليمن عن طريق المغرب، وتفرقوا في الصحراء ما بين السودان وجبال الأطلس. راجع: بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص. 593 وما بعدها.

(1/168)

الذين اضطلعوا بنشر الإسلام في غرب إفريقيا عن طريق التسرب السلمي. وعلى الرغم من أن حركة المرابطين بزعامة قبيلة جدالة كانت قصيرة العمر، فإنهم نجحوا في إزالة أكبر عقبة كانت تحول دون تقدم الإسلام جنوباً. فاضمحلت على أيديهم مملكة غانة الوثنية، ثم اعتنق ملوكها الإسلام وأخلصوا له، وعملوا على نشره بوسائلهم. وتحولت غالبية شعب غانة إلى الإسلام، واستطاع دعاة المرابطين أن ينشروا الإسلام على ضفاف السنغال، وفي الأقاليم الواقعة بين السنغال والنيجر. وتم في عهد المرابطين تأسيس مدينة »تنبكت« وامتداد الإسلام إلى

(1/169)

مدينة »جنى«. وقد غدت هاتان المدينتان السودانيتان أعظم مركزين للثقافة الإسلامية وسوقين هامين للتجارة السودانية على ضفاف النيجر. وفي هذه المرحلة كذلك ظلت الموجة الإسلامية الأولى قوية، بيد أن موجهيها لم يصبحوا من البربر، بل من أهل البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، ونالوا نصيباً من الثقافة الإسلامية، سواء كانوا من السودانيين الخلص أو من السودانيين الذي اختلطت دماؤهم بدماء البربر، وأفادوا من خبراتهم في ميادين السياسة والحرب، فأسسوا سلطنات إسلامية واسعة مثل: مالي، وسنغي، وبرنو، والكانم، وإمارات

(1/170)

الهوسا في شمال نيجيريا، حيث قامت سبع إمارات هي: دورا وكانو وزاريا وغوبر (جوبير) وكتسنا وبيرام ورانو.

... ولقد كان معظم إمارات الهوسا على الوثنية حتى القرن الثامن الهجري (14 م)، حين وفدت إليها تيارات إسلامية من الغرب على أيدي فقهاء مالي، ومن الشمال على أيدي فقهاء المغرب. أما التيار الثالث، فمصدره بلاد برنو ومصر. وثَمَّة تيار إسلامي رابع وفد إليها مع تجار جنى وتنبكت المترددين على إمارتي كانو وكتسنا أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر للهجرة (15 ـ 16 م)، وذلك إبان انتعاش تجارة إمارات الهوسا،

(1/171)

واستقرار أولئك التجار في هذه البلاد، والقيام على تدريس الدين الإسلامي ونشر مذهب مالك. وساعد على ازدياد قوَّة التيار الإسلامي في القرن العاشر الهجري (16 م) خضوع إمارات الهوسا لسلطنة سنغي الإسلامية(1).

... ولكن على الرغم مما بذل من جهود لنشر الإسلام في بلاد الهوسا، فإن الإسلام لم يغلب على هذه البلاد، وظلت بها جاليات وثنية حتى مطلع القرن الثالث عشر الهجري (19 م)، ولم يلبث بعض أمراء الهوسا أن تحولت حماستهم للإسلام والثقافة

__________

(1) للمزيد من التفصيل، راجع: الإسلام والثقافة العربية…، صص. 202 ـ 242.

(1/172)

الإسلامية إلى فتور تام، ولم يعد يسمع شيء عن نشاط إسلامي خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17، 18 م) حتى قيام الفلان بثوراتهم الإصلاحية في القرن الثالث الهجري (19 م). وهنا تبدأ الموجة الإسلامية الثانية التي بلغت من القوة، في خلال قرن واحد، حدّاً يفوق ما بلغته الموجة الإسلامية الأولى في خدمة الإسلام والثقافة الإسلامية في غرب أفريقيا مدعمة بأفكار السلفية ومبادئها التي وجدت طريقها إلى بلاد الحوحة من خلال الدعوة التي اضطلع بها أحد زعماء الفلان الذين أخذت أفواجهم منذ القرن السابع الهجري (13 م) تفد

(1/173)

من مواطنهم الأصلية بإقليم فوتاتورو بالسنغال إلى شمال نيجيريا، وهو الشيخ عثمان بن محمد بن فودي (دان فوديو) (1) الذي خالط أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب من السلفيين حين رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وتشرب مبادئ الدعوة السلفية وتحمس لها، فأيقظت في نفسه رغبة ملحة في إصلاح أحوال المجتمع في بلاده، ومحاربة البدع والخرافات الوثنية التي تفشت فيها. ويصور ابن

__________

(1) دان فوديو: أي ابن الفقيه. ومن الألقاب التي عرف بها: نورالزمان، ومجدد الإسلام، والشيخ. (آدم عبد الله الألوري، الإسلام في نيجيريا، ص. 35).

(1/174)

محمد بلو ذلك، فيقول:

... وقد وجد في هذه البلاد (بلاد الهوسا) من أنواع الكفر والفسوق والعصيان أموراً فظيعة وأهوالاً شنيعة، طبقت هذه البلاد وملأتها، حتى لا يكاد يوجد في هذه البلاد من صح إيمانه وتعبد إلا النادر القليل، ولا يوجد في غالبهم من يعرف التوحيد ويحسن الوضوء والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات... (1).

... وقد استطاع الشيخ عثمان بن فودي وولده محمد بلو القضاء على مظاهر الشرك والوثنية وزرع مبادئ الإسلام

__________

(1) محمد بلو، إنفاق الميسور، ص. 58 وما بعدها؛ وقارن الإسلام في نيجريا، صص. 35 ـ 36.

(1/175)

الحنيف في النفوس بالدعوة والنصح والتعليم أولاً، ثم بالجهاد ضد الأمراء الوثنيين ثانياً. وتمكن من التأثير في كثير من أتباعه المخلصين، فنجحت دعوته نجاحاً كبيراً، وخضعت إمارات الهوسا جميعها لنفوذه، وشملت حركته الإصلاحية بلاد برنو (السودان الأوسط)، واستولى على كثير من أقاليمها(1)

__________

(1) للمزيد من التفصيل، راجع كتاب عبد الله الألوري: الإسلام في نيجريا، مرجع سابق. وقد أورد فيه نص الوثيقة الجهادية التي أذاعها الشيخ عثمان في جماعة المسلمين ببلاد السودان المعروفة بـ "وثيقة أهل السودان ومن شاء الله من الإخوان"، صص. 46 ـ 52.

(1/176)

.

... ونشير إلى أن السلطان المغربي مولاي سليمان العلوي (ت 1238 هـ/ 1822 م)، الذي كان متشبّعاً بأفكار السلفية ومتحمساً لمبادئها الإصلاحية، قد بعث برسالتين إلى السودان الغربي ينوه فيهما بالدور الجهادي والإصلاحي الذي قام به الشيخ عثمان بن فودي لنصرة الإسلام والقضاء على البدع:

... الأولى: تحمل تاريخ أواسط جمادى الثانية 1225 هـ، كتب بها إلى السلطان محمد الباقري، سلطان آمر وأمير الطوائف الإسلامية بالسودان الغربي، جواباً على رسالته.

(1/177)

... الثانية: بتاريخ 18 جمادى الثانية 1225 هـ، بعث بها إلى الشيخ عثمان نفسه. ومما جاء فيها:

... إلى السيد الذي فشا في الأقطار السودانية عدله، واشتهرت في الآفاق المغربية ديانته وفضله، العلامة النبيه، العديم الشبيه في زمانه، ذي النورين ـ العلم والعمل ـ اللذين هما منتهى الأمر، السيد عثمان بن محمد بن عثمان بن صالح الفلاني نفع الله بعلومه القاصي والداني. سلام منا عليه ما اشتد شوقنا إليه، ورحمة من الله تغشاه حتى لا يخشى إلا الله، والله أحق أن تخشاه. وبعد؛ فلقد علمنا من الثناء عليك والتعريف بأحوالك

(1/178)

وأفعالك ما أوجب محبتنا وتسليمنا إليك... فالله تعالى يجازيكم عن الأمم خيراً ويقيكم ضيراً، ويديم دولتكم محفوفة محفوظة، وبعين العناية ملحوظة... ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور (1)

__________

(1) يوجد نص الرسالتين في "إنفاق الميسور" لمحمد بلو، صص. 178 ـ 181. وراجع بحث الدكتور شوقي عطاء الله الجمل، »عثمان بن فوديو وسياسة الجهاد الإسلامي التي اتبعها... «، مجلة البحث العلمي، العدد 26، صص. 41 ـ 64، سنة 1976 م. وللتوسع في هذا الموضوع، راجع رسالة الباحث صالح أكنوي، المذهب المالكي في نيجيريا، تقدم بها لنيل د.د.ع من دار الحديث الحسنية، تحت إشراف د. عبد السلام الأدغيري؛ والدراسة التي عقدتها الباحثة بهيجة الشاذلي مدخلاً لتحقيق كتاب "إنفاق الميسور"، دراسة جامعية لنيل د.د.ع بكلية الآداب بالرباط، 1990 م مع البحث الذي نشرته مجلة المناهل، عدد 56، بعنوان: »من أعلام الثقافة الإسلامية بإفريقيا. محمد بلو نموذجاً«، صص. 387 ـ 411.

(1/179)

.

... وقد كان تأثير الإسلام قويّاً في بلدان السودان الغربي، والبلدان الإفريقية عموماً. وكان من نتائجه تمتين أواصر الأخوة الدينية بين هذه البلدان من جهة، وبين الدول العربية من جهة أخرى. كما ساهمت تعاليم الإسلام التي دعا إليها العلماء والفقهاء والمصلحون في تنمية روح الجهاد لدى أبناء هذه الأقطار الإفريقية لمقاومة المستعمر وتنفيذ مخططاته الاستعمارية، إضافة إلى ما عرفته الثقافة الإسلامية من إغناء وإثراء عن طريق الروافد العلمية والأدبية والإفريقية، والإنتاجات الفكرية التي خلفها كبار العلماء والفقهاء

(1/180)

في السودان الغربي، ومن بينهم أحمد بابا التمبكتي.

... 2 ـ البعد المذهبي: من المعلوم أن الفقه المالكي دخل البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى عن طريق علماء مغاربة تركوا أكبر الأثر في الثقافة الدينية لهذه البلدان، حتى أصبح علماء هذه المنطقة أكثر تشبثاً بالفقه المالكي وتحمساً له وتعمقاً في دراسته. ويدل عليه ما تركه أحمد بابا التمبكتي من إنتاج غزير في هذا المضمار. ولعل اهتمامه بتراجم المالكية وتتبع أخبارهم وأحوالهم وإنتاجاتهم، وعنايته بـ "مختصر الشيخ خليل" وتتبع شروحه والتعليق عليها خير ما

(1/181)

نتمثَّلُهُ في هذا البعد المذهبي، بل إن الكتب التي كانت متداولة في المدارس كتب مالكية صرفة: كتب عياض، وسحنون، وشروح ابن القاسم، وخليل، و"مدونة" مالك، وكتب المغيلي والونشريسي، و"موطأ" مالك، و"تحفة" ابن عاصم ـ كل ذلك يبين مدى التأثير الذي تركه المغاربة في تطبيع الثقافة في غرب إفريقيا بطابع الفقه المالكي.

... ويتجلى هذا البعد المذهبي في الرسالة من خلال الفتاوي التي بنى عليها أحمد بابا رأيه في مسألة »جلب الرقيق«، وكلها فتاوى صدرت عن فقهاء مالكيين مشهورين من أمثال: أبي الأصبغ عيسى بن سهل صاحب

(1/182)

"الإعلام بنوازل الأحكام" وابن لبابة وسحنون، ومحمد بن الوليد، ويحيى بن عبد العزيز، وابن زرب، وابن إسحاق إبراهيم بن هلال السجلماسي صاحب "النوازل". وتردد فيها النقل عن "المدونة" للإمام مالك مباشرة. وليس ذلك غريباً، فقد تشرب ينابيع هذه الثقافة الفقهية ونهل من معينها على يد فقهاء مغاربة وسودانيين كبار يأتي على رأسهم شيخه محمد بن محمود التنبكتي المعروف ببغيع: لازمه أكثر من عشر سنين، فقرأ عليه بلفظه "مختصر خليل فرعيّ ابن الحاجب" قراءة بحث وتحقيق وتحرير؛ أما "خليل"، فمرات عديدة، وحضر عليه "التوضيح"،

(1/183)

وختم عليه "الموطأ"، ودرس كثيراً "المنتقى" و"المدونة بشرح المحلي"، و"تحفة الحكام" لابن عاصم. وكلها مدونات فقهية مالكية صرفة(1).

... ولشدة ولعه بالفقه المالكي وتعلقه بأصوله وأمهاته، نجده يواخذ المغاربة على شدة تعلقهم بـ"المختصر" وقلة عنايتهم بابن الحاجب و"المدونة"، بل قصاراهم "الرسالة" و"المختصر". واعتبر ذلك من علامة دروس الفقه وذهابه. ومع ذلك، نجده يصرف عنايته كذلك إلى "المختصر" ويضع شرحاً عليه، »جمع فيه لباب كلام من وقف عليه من شراحه، وهم أزيد من عشرة، مع

__________

(1) نيل الابتهاج، مصدر سابق، ص. 602.

(1/184)

الاختصار والاعتناء بتقرير ألفاظه منطوقاً ومفهوماً وتنزيله على النقول.. «(1).

... 3 ـ البعد الثقافي. ويرتبط هذا البعد بما قبله، إذ لعب الفقه المالكي دوراً أساسياً في تشكيل الثقافة الإسلامية في هذه البلدان وصبغها بصبغته المذهبية، وتوجيهها بأصوله النظرية.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 171. وللمزيد من التفصيل في هذا الموضوع، راجع رسالة الباحث صالح أكنوي المشار إليها سابقاً، خاصة الباب الثاني والثالث منها، خصصهما للحديث عن انتشار المذهب المالكي في نيجريا وأثره في الحركة العلمية.

(1/185)

... ويبدو هذا البعد من خلال رسالة أحمد بابا التمبكتي في ناحيتين:

... الناحية الأولى: الصلات العلمية التي كانت قائمة بين علماء المغرب وعلماء السودان الغربي، عن طريق تبادل الأفكار والكتب والاستفسار عن حكم ما يظهر من الوقائع والنوازل والقضايا بين الجانبين، منها هذه القضية التي عمت بها البلوى وانتشر فسادها في ذلك الوقت فاستدعى الأمر الإجابة عنها. وكان السؤال آتياً من الشمال موجّهاً إلى أهل الجنوب من بلاد السودان، وقد خاطبهم السائل بخطاب يدل على التقدير والاحترام والمكانة التي للعلماء بهذه المنطقة

(1/186)

والصدى العلمي الذي كانوا يحظون به. وقد حرره بقوله: »إلى الفقهاء الجلّة الأعيان، ومصابيح السودان، ممن له في المسألة التبصرة والبيان...«.

... الناحية الثانية: ما تضمنته الرسالة من إشارة إلى علمين من أعلام تنبكت، وهما: الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت، قال عنه: »سيدنا الفقيه البركة القدوة«؛ والفقيه مخلوف بن علي بن صالح البلبالي، قال عنه: »الفقيه الحافظ الشيخ«. وقد كان للثقافة العربية والبيئة العلمية بمراكش أثر كبير في التكوين العلمي والتحصيل الدراسي للفقيهين: فالأول كان من قضاة تنبكت العلماء،

(1/187)

اشتهر علمه وصلاحه، وذاع صيته في الآفاق، وكان يقرئ "المدونة" و"الرسالة"و"السلالجية"، وعنه اشتهر قراءة خليل هناك، فقيد فيه شرحاً كبيراً في سفرين، وعنه أخذ والد أحمد بابا، توفي سنة 955 هـ(1). والثاني: أخذ العلم بولاتن، ثم سافر إلى المغرب حيث لقي ابن غازي وغيره، فأخذ عنه وانتشر علمه واشتهر بقوة حافظته. دخل تنبكت ودرس بها، وحنّ إلى المغرب فشد الرحال إلى مراكش. (ت 1533 هـ) (2).

__________

(1) نيل الابتهاج، مصدر سابق، ص. 607، رقم 746.

(2) المصدر نفسه، ص. 608، رقم 747.

(1/188)

... ونستخلص منه أن التفاعل الثقافي بين المغرب وبلاد السودان كان قويّاً وعميقاً، يشهد له انتقال علماء من المغرب وغيره من الأقطار العربية إلى المدارس والجوامع التي قامت بهذه البلاد، وانتقال الدارسين منها إلى معاهد العلم المغربية. وكان من نتائج هذا التفاعل ظهور علماء كبار تركوا بصماتهم على الحياة الثقافية في كل من البلدين، ومنهم: الشيخ أحمد بابا صاحب الرسالة.

... وفي إطار هذا التفاعل يتحدث البعض عن ثقافة سودانية ذات طابع مغربي بحت نتيجة لوضع طبيعي جعل من المغرب البوابة الرئيسة التي دخل منها

(1/189)

الإسلام وتغلغل في ربوع الأقطار الأفريقية المجاورة له منذ القرن الخامس الهجري، وما تبعه من ثقافة ذات جذور مغربية، حتى إن المدارس في هذه الأقطار تكاد تكون مدارس مغربية صرفة، كأننا في فاس أو مراكش، ونماذج التآليف نماذج مغربية الصورة(1). يقول الدكتور حسن أحمد محمود: »كانت الثقافة في غرب إفريقية مغربية في أرض سودانية« (2).

__________

(1) الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، مصدر سابق، ص. 244.

(2) المرجع نفسه، ص. 245.

(1/190)

... ويشبّه البعض دور المغرب الحضاري في هذه البلدان في كثير من مظاهره بدور مصر في السودان الشرقي وشرق إفريقية. فعبر مسالكه ومراكزه الثقافية والتجارية بسجلماسة وتوات وتلمسان وتندوف ووادان وشنقيط وولاته، عبرت جموع التجار المغاربة والعلماء والصلحاء ورجال السياسة إلى الممالك الزنجية داعين إلى الإسلام... ومن تنبكت وكاو وجنى ومالي انتقل إلى مراكش وفاس عدد من العلماء والطلبة لتعميق معارفهم والاتصال بإخوانهم في الأقاليم الشمالية(1)

__________

(1) محمد الظريف، »التواصل الثقافي بين المغرب والسودان«، ضمن ندوة أحمد بابا، ص. 59.

(1/191)

.

... ولم تكن الثقافة في غرب أفريقيا أقل غزارة وعمقاً من الثقافة في بلاد المغرب، ولم يكن العلماء والفقهاء الذين تعرضت لهم كتب التراجم أقل في مستواهم العلمي من إخوانهم المغاربة. فالتفاعل والتواصل والتلاحم بين الأقطار الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى كان عميقاً وقويّاً ظهرت فيه عناصر التأثير والتأثر من الجانبين على مستوى الكتب والبرامج وطرق التدريس والقضايا التي كانت تثار في المجالس العلمية. وكان الإسلام يطعم هذا التفاعل والتواصل بعناصر حضارية في التفكير والسلوك والعمل من أجل القضاء على

(1/192)

رواسب الوثنية وإدماج الحضارة الأفريقية في إطار الحضارة الإسلامية الكبرى بعد أن عدلتها وهذبتها وقومتها لتصبح عنصراً فاعلاً في هذه الحضارة.

... وليس غريباً أن ينعكس ذلك على الأدب الإفريقي الحديث، وفي أعمال المهتمين بقضايا التراث والباحثين عن الأصالة والإبداع. ولعل هذا يؤكد موقف كتاب الرواية الأفريقية من الإسلام، إذ أنهم لا يعتبرونه ديناً دخيلاً على القارة الأفريقية، بل إن الإسلام يبرز في عدد من الروايات الأفريقية. وقد اختلط بالديانات والتقاليد الأفريقية القديمة اختلاطاً طبعه بطابع مميز دون أن يخل

(1/193)

بمبادئه الأساسية. وتشير الأبحاث التي أنجزت في الساحل الإفريقي الشرقي وبعض بلدان غرب إفريقية مثل غانا وساحل العاج وغامبيا والسنغال وغيرها إلى أهمية الثقافة الإسلامية العربية وأثرها في الإنتاج الأدبي. ليس هذا فحسب، بل تعداها هذا الأثر عبر المحيط الأطلسي ليترك بصماته واضحة على الأدب الزنجي الأمريكي، كما يظهر بجلاء في الفصول الأولى من كتاب "الجذور" (Roots) لأليكس هيلي (Alex Haley) ـ طبع في بريطانيا 1977. وهكذا نجد من بين كتاب الرواية الأفريقيين والمفكرين السود من الأمريكيين من يعتبر الإسلام عنصراً

(1/194)

أساسياً في الثقافة التقليدية للوطن المفقود ـ أفريقية السوداء ـ التي يحاولون استردادها من خلال البحث عن الأصالة الثقافية والروحية.

... ونختم بالقول إن الحركة الثقافية والحضارية في بلاد السودان لم تكن في الواقع مجرد تجديد لتراث ثقافي وحضاريّ بائد، وإنما كانت انفراجاً لثقافة إسلامية راسخة في هذه البلاد منذ القرن الخامس الهجري (11 م)(1).

المصادر والمراجع

الآبي، شرح الآبي على صحيح مسلم، دار الكتب العلمية، بيروت.

__________

(1) فاي منصور علي، اسكيا الحاج محمد وإحياء دولة السنغاي الإسلامية، ص. 196.

(1/195)

أحمد بابا التمبكتي، بحوث الندوة التي عقدتها الإيسيسكو بمناسبة مرور أربعة قرون ونصف على ولادته ـ 1991 م، منشورات المنظمة الإسلامية الإيسيسكو، 1414 هـ/ 1993 م.

أكنوي، صالح، المذهب المالكي في نيجيريا، رسالة دبلوم بدار الحديث الحسنية.

الألوري، آدم عبد الله، الإسلام في نيجريا، طبعة القاهرة، 1951 م.

الأفراني، محمد الصغير، صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، طبعة حجرية.

ـ ـ ، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، مكتبة الطالب، ط 2، الرباط.

(1/196)

أبو الأصبغ عيسى بن سهل، الإعلام بنوازل الأحكام، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، 1728 د.

بنعبد الله، عبد العزيز، الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية ـ معلمة الصحراء ـ ملحق 1، وزارة الأوقاف، 1396 هـ/ 1976 م.

بروفنصال، ليفي، مؤرخو الشرفاء، تعريب عبد القادر الخلادي، منشورات دار المغرب، 1397 هـ/ 1977 م.

البرتلي، محمد بن عبد الله، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق الكتاني ومحمد حجي، بيروت، 1981 م.

(1/197)

الجارمي الغاني، محمد بن إبراهيم، تنبيه أهل الطغيان على حرية السودان، مخطوط بمكتبة عبد الله كنون، رقم: 10443.

جمال زكريا قاسم، الأصول التاريخية للعلاقات العربية الأفريقية، دار الفكر العربي، 1416 هـ/ 1996 م.

جماعة من الفقهاء، أجوبة في شأن القوانين العرفية، مخطوط بالخزانة الحسنية، رقم: 5813.

وافي، علي عبد عبد الواحد، الحرية في الإسلام، دار المعارف، مصر، 1968.

الوزاني، محمد المهدي، النوازل الصغرى (المنح السامية)، طبعة الأوقاف، 1412 هـ/ 1992 م.

(1/198)

ـ ـ ، النوازل الجديدة الكبرى، طبعة الأوقاف، 1996 و1997 م.

حجي، محمد، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، دار المغرب، 1396 هـ/ 1976 م.

حسن أحمد محمود، الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا، دار الفكر العربي، 1986 م.

الحفناوي، أبو القاسم محمد، تعريف الخلف برجال السلف، مؤسسة الرسالة، 1402 هـ/ 1982 م.

الطبراني، أبو القاسم، المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

الطبري، أبو جعفر، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1403 هـ/ 1983 م.

(1/199)

مجلة أبحاث، عدد 26، ربيع 1991 م.

مجلة البحث العلمي، السنة 3، العدد 26، يوليوز ـ دسمبر، 1970 م.

مجلة دار الحديث الحسنية، العدد الخامس، 1406 هـ/ 1985 م.

مجلة كلية الآداب بالرباط، العدد 15، 1989 ـ 1990 م.

مدونة الإمام مالك، طبعة السعادة، مصر.

محمد بلو بن عثمان بن فودي، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، دار الشعب، القاهرة، 1964 م. وتحقيق بهيجة الشاذلي، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، الرباط، 1996 م.

محمد بن مخلوف، شجرة النور الزكية، دار الفكر.

(1/200)

المنوني، محمد، المصادر العربية لتاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1410 هـ/ 1982 م.

المرابط الترغي، عبد الله، حركة الأدب في المغرب على عهد المولى إسماعيل، أطروحة جامعية بكلية الآداب بتطوان، 1991 ـ 1992 م.

المراكشي، العباس بن إبراهيم، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، المطبعة الملكية، 1974 م.

الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، البيضاء، 1955 م.

نويهض، عادل، معجم أعلام الجزائر، المكتب التجاري، بيروت، 1971 م.

(1/201)

السوسي، محمد المختار، المعسول، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1370 هـ/ 1960 م.

ـ ـ ، خلال جزولة، المطبعة المهدية، تطوان.

السيوطي، جلال الدين، أزهار العروش في أخبار الجيوش، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، 1054 ك.

السلمي، أبو العباس أحمد بن محمد بن الحاج، الدر المنتخب المستحسن في بعض مآثر مولانا الحسن، مخطوطة مصورة عن النسخة الموجودة بالخزانة الحسنية رقم: 12184.

السعدي، عبد الرحمن، تاريخ السودان، نشر هوداس، باريس، 1898 م.

(1/202)

التاريخ وأدب النوازل ـ دراسات مهداة لمحمد زنبير، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1995 م.

العبادي، الحسن، فقه النوازل بسوس ـ قضايا وأعلام، أطروحة الدكتوراه، دار الحديث الحسنية، 1994 م.

عبد الرحمن زكي، تاريخ الدول الإسلامية السودانية بأفريقيا الغربية، طبعة 1961 م.

العلمي، عيسى بن علي، النوازل، طبعة وزارة الأوقاف، 1406 هـ/ 1986 م.

العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، المكتبة السلفية.

عثمان بن فودي، بيان وجوب الهجرة على العباد، وبيان وجوب نصب الإمام وإقامة الجهاد، ترجمة وتحقيق فتحي حسن

(1/203)

مصري (رسالة دكتوراه)، الخرطوم، 1977 م.

ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تح. كولان وبروفنصال، دار الثقافة، بيروت، 1983 م.

فاي منصور علي، أسكيا الحاج محمد وإحياء دولة السنغاي الإسلامية (989/ 835 هـ)، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، الجماهيرية الليبية، ط 1، 1997 م.

الفشتالي، عبد العزيز، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، تحقيق عبد الكريم كريم، طبعة الأوقاف.

القادري، محمد بن الطيب، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، تحقيق محمد حجي وأحمد التوفيق، دار المغرب، 1397

(1/204)

هـ/ 1977 م.

القرافي، أبو العباس أحمد، الفروق، عالم الكتب، بيروت.

الأزاريفي، محمد الشابي، المنهل العذب السلسبيل، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1400 هـ/ 1980 م.

شلبي، أحمد، مقارنة الأديان، ج 3، ط 6، القاهرة، 1979.

التمبكتي، أحمد بابا، معراج الصعود، نسخة مخطوطة خاصة والنسخ المذكورة في البحث.

ـ ـ ، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، 1989 م.

ابن خلدون، تاريخ العلامة ابن خلدون، دار الكتاب اللبناني، 1983 م.

(1/205)

الغربي، محمد، بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، مؤسسة الخليج، الكويت، 1982 م.

(1/206)

أبو الحسن الماوردي: المشرع القانوني والمفكر السياسي ... ... ...

الدكتور سعيدبنسعيد العلوي

كلية الآداب -الرباط

تجتمع في الكتابة السياسية لأبي الحسن الماوردي صورة الفقيه ومنهجه في المعالجة والتحليل، وصورة المفكر الأشعري وطريقته في النظر والاستدلال . فالماوردي إذن يقدم لنا النموذج الكامل لما يمكن أن ننعته، بحق، الخطاب السياسي الفقهي كما أنه يصور لنا ، في الوقت ذاته ، ما بلغه النظر السياسي في الإسلام عامة وما انتهت إليه النظرية الأشعرية من تطور خاصة . ولكن إذا كانت شخصية "الفقيه " موضوع إجماع

(1/207)

وموافقة، من طرف دارسي الماوردي وقارئيه، فإن صورة المفكر " الأشعري" هي مثار جدال واعتراض. فهذا صاحب " تاريخ بغداد "، وهو من تلاميذ الماوردي المباشرين بل وربما أقدم من ترجم له يصفه بأنه " كان من وجوه الفقهاء الشافعيين وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه ، وفي غير ذلك "(1) . وهؤلاء فقهاء المالكية في المغرب والأندلس، وهم أكثر ما يكونون ابتعادا عن الشافعية والأخد بها، قد درجوا ، خلال قرون عديدة ، متصلة، على اعتباره أحد

__________

(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، الجرء الثاني، مكتبة الخانجي، 1931، القاهرة.

(1/208)

كبار الفقهاء بإطلاق وساروا على اعتبار " الأحكام السلطانية " عمدة في القضايا التي تتعلق بأحكام الأرض وقوانينها وكذا بأحكام الحسبة وما يتعلق بها. ولكن صاحب " طبقات الشافعية "، إذ يفرد للماوردي ترجمة مستفيضة ويذكر ما يفيد أنه كان إماما في المذهب الشافعي في عصره يجد في بعض أقوال الفقهية وآرائه حرجا يتعذر عنه، فهو يدعو إلى تبديد " التهمة" التي ألحقها البعض به فيكتب " ثم هو ليس معتزليا مطلقا فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن، كما دل عليه تفسيره في قوله عز وجل { ما يأتيهم من ذكر من ربهم

(1/209)

محدث} وغير ذلك، ويوافقهم في القدر، وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما "(1) . ومغزى هذا الاعتذار، وكما هوبين،هو القيام بنوع من تبرئة الذمة والدفاع عن شرعية الصدارة للفقيه الشافعي في الدائرة الفقهية السنية - وهذا مالا يستقيم مع ظهور علامات انتساب ما إلى مذهب الاعتزال. والحق أن الرجل كان أبعد ما يكون عن الاعتزال في آرائه التشريعية، على نحو ما سنرى ذلك ، بل إنه كان أشعري

__________

(1) تاج الدين السبكي،طبقات الشافعية، الجزء الثاني، صص . 303، 313،المطبعة الحسنية المصرية، الطبعة الأولى (د .ت).

(1/210)

الفكر والعقيدة - وهذه مسألة لها أهميتها القصوى بالنسبة لفهم فكر الماوردي السياسي بقدر ما لها قيمتها بالنسبة لإدراك معنى النظر السياسي السني وتطوره في الإسلام . ولكن، قبل أن نبسط القول في هذه القضية بعض البسط ، لابد لنا من وقفة قصيرة نوضح فيها ما نراه من صلة بين الفقه والسياسة في الإسلام وأخرى عندما نعده خصائص عامة للنظر السياسي الأشعري، وما نرى فيه مفاتيح تمكننا من ولوج فكر الماوردي وعلمه الفسيح في السياسة والأخلاق.

-1 الفقه والسياسة

(1/211)

لأبي حامد الغزالي تمييز شهير بين فن الفقه ونظر الفقيه من جهة أولى، وفن السلوك أو المعاملة وعمل المرشد الروحي من جهة ثانية - ومسائل الدين ، ما تعلق منها بالعبادات والعادات على السواء، تكون موضعا للنظرين ومدعاة لموقف كل من الفقيه والمرشد. فالصلاة مثلا سلوك تعبدي وتعبير عن الصلة التي تقوم بين المؤمن وخالقه فهي تستدعي ، لذلك كله، ما تستدعيه هذه المناجاة من خشوع وذل، وتتطلب ما تتطلبه من حضور قلب وصدق باطن . ولكن الصلاة، مع ذلك، مجموعة حركات وأعمال تضبطها جملة من القواعد والأحكام الدقيقة التي تكون في

(1/212)

مراعاتها صحتها وفي الإخلال بها فسادها ولا مدخل في ذلك كله لقب أو باطن . ذلك مجال فن الفقه ونظر الفقيه. والفقيه يفتي بالصحة في صلاة المصلى متى أتى هذا الأخير" بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير" . وبالتالي فإن نظر الفقيه ، هو في الأحوال التعبدية كلها، " مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة (...) لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة" (1)

__________

(1) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الجزء الأول،ص. 18،المعرفة للطباعة والنشر ببيروت .

(1/213)

فهو، في هذا الحال، يمثل النقيض الموضوعي للمذهب الروحي. الفقيه، بطبيعة فنه، أوثق ما يكون صلة بعالم الدنيا ونظره يتعلق بسلوك الناس وما ينشأ بينهم من نزاع، بحكم ما يحركهم من غرائز وأهواء، وما يقوم بينهم من خصومات، بسبب ما يدفع إليه التنافس والاختلاف في المصالح. وبالجملة فإن الفقيه، عند الغزالي، هو " العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات" مثلما كان "حاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة"(1) . ولو شئنا أن نجد لهذه الصلة التي تقوم بين الفقه

__________

(1) المرجع السابق،ص. 17

(1/214)

والسياسة معنى آخر يعبر عنها، في سياق الفكر السياسي في الإسلام، لقلنا عن تلك الصلة إنها فن التدبير : تدبير شؤون الخلق، وتدبير أمور الرئاسة والسلطة. ذلك ما نجده في كتابات ابن المقفع وابن قتيبة والثعالبي وغيرهم ممن نظروا في الآداب والنصائح السلطانية . ولكن إذا كانت هذه النصوص الشهيرة تشير، هي وغيرها مما لم نذكره، إلى أطور قد مر بها مصطلح " التدبير" فإن توضيح المعنى عند الفقيه يفيدنا فيه أن نقف، وقفة إيجلز واختصار، عند المعنى الذي يفيده " التدبير " عند فلاسفة الإسلام.

(1/215)

لا يحسن " تدبير الأمة" عند أبي نصر الفارابي إلا متى حسن تدبير أمور " الرئاسة": فالرئاسة الفاضلة شرط في الاجتماع الفاضل وفي الأمة الفاضلة. ولذلك فإن الوصول إلى "المدينة الفاضلة " ، أي ذلك الاجتماع البشري الأمثل الذي تعم فيه العدالة وتتحقق السعادة وتهيمن الحكمة والفضيلة، لايحصل إلا لمن أدرك نظام العالم وحسن تدبيره من جهة أولى، ووقع على الكيفية التي قدربها " مدبر العالم" على الحصول على الوحدة وإن بدت الكثرة، وعلى التوافق والانسجام وإن بدا النفور والاختلاف. ذلك أن الاجتماع البشري لا يكون فاضلا حقا

(1/216)

إلا إذا كان على غرار نظام العالم وحسنه، وأن الرئيس لايكون فاضلا حقا إلا متى أمكنه أن يتأسى بعمل "مدبر العالم". والنتيجة المنطقية لهذا النحو من النظر إلى الأمور هي، كما يعلم قراء الفاربي، لزوم الاقتران بين الفلسفة والسياسة أو بين الفلسفة والرئاسة: " يلزم أن يكون الرئيس الأول للمدينة الفاضلة قد عرف الفلسفة النظرية على التمام لأنه لا يمكن أن يقف على شيء مما في العالم من تدبير الله تعالى حتى يتأسى به إلا من هناك"(1)

__________

(1) أبو نصر الفرابي، كتاب الملة ، ص. 66،تحقيق محين مهدي، دار المشرق، 1968، بيروت .

(1/217)

الفلسفة شرط ضروري وكافي لاقتدار " مدبر الأمة ( وهو الرئيس الفاضل) على اكتناء سر عمل " مدبر العالم" ( وهو الله) من جهة أولى، ولاستطاعة إقامة تناظر بين " تدبير العالم" ( وهو الكون في تعدده واختلاف موجوداته وكثرتها) و" تدبير الأمة" ( علامة الاجتماع البشري والحاصل عنه) . وهكذا فإن التدبير لا يكون مجرد اقتران بين الفلسفة والسياسة بل هو تداخل وتفاعل ، وحضور قوي حاسم ومهيمن للفلسفة في السياسة.

نعتقد أن معنى التدبير في الفقه وعند الفقيه يصبح أكثر وضوحا وجلاء بالمقارنة مع المعنى الذي يتخذه في الفلسفة

(1/218)

السياسية وعند الفيلسوف في الإسلام.ولعل الفرق يكون أكثر ما يكون جلاء في المقارنة بين من كان يريد أن يأتسي بالإله ويجري في الأمة ما يجريه في العالم، وبين من كان منشغلا بالمناحي العملية التطبيقية لأحكام الشريعة ومقتضياتها. فحيث كان نظر الفيلسوف يتعلق بالتأمل والتفكير كان نظر الفقيه ينصب على التشريع والتقنين والعمل ، وحيث كان الفيلسوف ، في " المدينة الفاضلة "، لا يرى مكانا في الرئاسة لغيره بل ولا يفهم كيف تفصل الفلسفة عن الرئاسة، "كان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم(1)

__________

(1) الغزالي، إحياء علوم الدين،سبقت الإشارة إليه، ص. 17 .

(1/219)

-2الفكر السياسي الأشعري

يشير ظهور المذهب الأشعري في القرن الهجري الرابع ، وتطوره في القرن الهجري الموالي على الخصوص، إلى حصول جملة من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية في بلاد المشرق العربي وهي التحولات التي كانت الأشعرية تعبيرا عنها. وإذا كان الإسهاب في الحديث عن هذه التحولات مما لا يحتمله المقام فإن الإشارة الخفيفة إلى ذلك، على النحو الضروري لفهم الأشعرية، مما يستعيد حسن الفهم مع ذلك. ولعل ما نريد قوله في هذه الإشارة هو أن الأشعرية لا يمكن تحديدها في معارضتها بالأقوال الاعتزالية وأنه لا

(1/220)

يكفي في تفسير نشأتها أن نرجع إلى رواية أبي الحسن الأشعري الشهيرة في انفصاله عن مذهب الجبائي، الزعيم المعتزلي، وسعيه لتأسيس قول جديد في الذات والصفات، والإرادة والأفعال البشرية وما إلى ذلك. ذلك أنه مهما يكن من شأن التعارض الموجود بين الأشعرية والاعتزال، ومهما يكن من الاختلاف بينهما في القضايا الكلامية المحورية، أحيانا كثيرة، فإن الاختلاف الحقيقي والعميق أو التناقض الرئيسي، كما يقال في اللغة السياسية اليوم، هو ذلك الذي يقوم بين الأشعرية وبين الشيعة الباطنية . وهذا ما أدركه الغزالي وعبر عنه في

(1/221)

جملة من كتبه الشهيرة مثل "فضائح الباطنية"، و "القسطاس المستقيم"، "فيصل التفرقةبين الإسلام والزندقة "، فضلا عن" الاقتصاد في الاعتقاد" و" مقدمات تهافت الفلاسفة". وذلك ما بينه أبو منصور البغدادي في " الفرق بين الفرق ". فإذا كان القول يصدق بأن الأشياء تتوضح بأضدادها، فإن ذلك يصدق في حق الأشعرية ، متى عارضناها بالأقاويل الباطنية. ولكن هذا التناقض والتصارع الذي قام بين الفريقين ( ولا يزال قائما حتى اليوم ) إنما هو تعبير عن تاريخ طويل وحافل من الصراع بين أهل السنة وخصومهم من جهة أولى وبين الخلافة

(1/222)

العباسية وخصومها من جهة ثانية. فالخلفاء العباسيون، ابتداء من المأمون، وانتهاء إلى القادر بالله عمدوا، تحت ضغط الأحداث السياسية، إلى اتخاذ عدد من المواقف السياسية والإعلان عن عدد من العقائد (أو "السياسات الدينية" كما يدعوها أحد المؤرخين المختصين في التاريخ العباسي)- وقد اختلفت تلك المواقف، في زمان قوة الخلافة العباسية، بين تبني الاعتزال مذهبا رسميا للدولة( وتلك هي السياسة التي سار عليها كل من المأمون، والواثق ، والمعتصم)، ثم الأخد بالمذهب المناقض له حقيقة، وهو المذهب الحنبلي (وذلك ما قام به

(1/223)

المتوكل بالفعل، فوصف المؤرخون عمله بأنه " انقلاب سني"). وأخيرا عمدت الخلافة العباسية، وقد انتعشت بل وابتعتث بعثا جديدا في اأيام القادر، إلى اعتناق العقيدة التي أعلنها أبو الحسن الأشعري وعمل على تطويرها، بعد ذلك، ثلة من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة الذين تم على يدهم تطوير المذهب الأشعري في شتى مناحية الكلامية، والأصولية، والأخلاقية، والسياسية -( والماوردي في عدادهم بطبيعة الحال) . ظلت الأشعرية، وكما هو طبيعي وضروري في المذاهب السنية جميعا، تأخذ عن الحنبلية والحنابلة بشرط غير يسير، وظل زعماء

(1/224)

الحنابلة يعتبرون ما أقره الإمام أحمد في العقائد أساسا في الاعتقاد وعمادا للرأي المختار في القضايا الكلامية، ولكن الأشعرية استطاعت أن تتمثل وتستوعب من "علوم الأوائل" شيئا غير يسير، وأن تقتبس، في مجال الأخلاق والسياسة، ما اغتنت به مما انتهى إلى الثقافة العربية الإسلامية من آداب الفرس، وحكمة الهند، ومنطق اليونان. وبالتالي فقد كانت الأشعرية تعبر عن ثلاثة حقائق. أولاها هي ما انتهى إليه التطور الداخلي للمذهب السني وقد اغتنى وتطور بفعل الصراعات السياسية مع الشيعة الباطنية. فالأشعرية هي التعبير الأمثل

(1/225)

عن أهل السنة ابتداء من القرن الهجري الرابع، وذلك بفضل ما اقتدرت على احتوائه من أقوالهم في العقيدة والسلوك. وثانيهما ، وهي صادرة عن الأولى ونتيجة لها ، هي أن الأشعرية كمذهب فكري كان له قول واضح في الكلام ، وآخر في أصول الفقه، وثالث في الأخلاق، ورابع في السياسة، وخامس في التصوف... وهكذا ، إنما هي تعبير عن الثقافة العربية الإسلامية في المنظور السني . وثالث هذه الحقائق ، هي أن الأشعرية أمكنها أن تقدم للخلافة العباسية الصيغة الإديولوجية المناسبة لها، والشكل التعبيري الملائم لطبيعة تطور الدولة في

(1/226)

الإسلام وما انتهى إليه البحث عن الصيغة الملائمة في السلطة والحكم . ومن مجمل هذه الحقائق نخلص إلى أن الصلة بين الأشعري والسياسة تمتد لأكثر من سبب وتقوم لأكثر من علة وطريق، وإذ تبين هذا علينا الآن أن نتوقف ، برهة أخرى، فنجمل القول في مبادئ النظر السياسي الأشعري وكلياته.

والمبادئ العامة للفكر السياسي عند الأشاعرة تتقرر في أصول الدين فهو "العلم الكلي من العلوم الدينية" وهو "المتكلف بإقبات العلوم الدينية كلها" كما يقول زعيم الأشاعرة أبو حامد الغزالي في مقدمة "المستصفى" .ووجه الصلة بين الدين والفكر

(1/227)

السياسي هو ما تعكسه الصلة بين الفقه والسياسة على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، وهو ما يعبر عنه عموم الأشاعرة في قولهم عن الإمامة العظمى (أو الخلافة) إنها خلافة النبوة في أمور الدين والدنيا معا. وأولى الكليات أو المبادئ العامة التي يقررها علم الكلام الأشعري هي أن معرفة الله إذا كانت تحصل، حقيقة، بالفعل إلا أنها لا تجب إلا بالشرع. فمعرفة الله لا تحصل إلا عن طريق النظر والاستلال ولذلك فإن تلك المعرفة تفيد القطع وتنفي كل احتمال وظن ، والأشاعرة يوافقون كلا من المعتولة والحنابلة في القول، بأن " النظر

(1/228)

المؤدي إلى معرفو الله هو أول ما أوجبه الله على العاقل ". ولكن الوجوب الشرعي وما يتبعه من عمل وواجبات لا يكون إلا مع ورود الشرائع وعلى النحو الواضح الذي يقره القرآن الكريم{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ( الإسراء: 15) . ولذلك فإن القول بالحسن والقبح العقليين قول لا يتوافق مع العقيدة الأشعرية . والتأويل السياسي لهذا المبدأ الكلي عند الأشاعرة هو أن الإمامة ، وإن كان العقل يقر بوجوبها، إلا أن مدرك وجوبها الحقيقي هو الشرع " قد وردت الشريعة بأحكام لا يتولاها إلا إمام أو حاكم من قبله كإقامة الحدود

(1/229)

على الأحرار..." وحقيقة الإمامة أنها " شريعة من الشرائع يعلم جواز ورد التعبد بها بالعقل ويعلم وجوبها بالسمع" (1) وثاني الكليات التي تتقرر في أصول الدين هي اعتبار ان ما يصله إلينا من خبر متواثر يفيد فيها المعرفة القطعية التي لا سبيل إلى التشكك فيها. إذ بالخبر المتواتر يتقرر المنقول وتثبت أحكام الشريعة. وعن طريق الخبر المتواثر والقول بسلطته العملية المطلقة يتقرر، في أصول الفقه وجوب القول بالإجماع والعمل بموجب أحكامه في

__________

(1) عبد القاهر البغدادي، أصول الدين، ص. 272، دار الكتب العلمية، 1981،بيروت.

(1/230)

المرتبة الثالثة مباشرة، بعد الكتابة والسنة- وأما التأويل العملي للقول بأن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي ويوجب العمل به بالتالي فهو ما نجدع لاحقا من أن القوانين السياسية "والأحكام السلطانية " تقوم كلها في الرجوع إلى سلطة الإجماع.

فالأشعرية تحكم سلطة الخبر المتواتر وتقول، تبعا لذلك، بقوة الإجماع وحجيته حين تذهب إلى القول بأن نصبة الإمام تكون بالاختيار الذي يحصل عن طريق الإجماع . وكل الحجج التي تسعى بها إلى إبطال آراء الشيعة ( الباطنية خصوصا) في القول بالعهد أو الوصية، عهد الإمام إلى شخص آخر من

(1/231)

بعده( وبالتالي إبطال القول بالاختيار) ، وكذا آراؤها في القول بعصمة الإمام، هي في الواقع حجج يؤسسها، من الناحية المنطقية، ما يفيده العمل بموجب مبدأ الإجماع. والأشعرية عندما تعرض لآرائها في باقي العناصر التي تتكون منها نظرية الإمامة ( جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، منع قيام أكثر من إمام واحد في الوقت الواحد، القول بصحة خلافة الخلفاء بعد النبي حسب الترتيب الذي وردوا فيه) فهي تقوم في الواقع بقراءة لتاريخ الإسلام قراءة يحكمها مبدأ الاجماع وسلطته من جهة أولى كما أنها تمارس، في المستوى النظري

(1/232)

الكلي، مستوى " العلوم أن الأعلى في الرتبة" أو علم أصول الدين. ولذلك فإنه لأمر طبيعي أن يجد الدارس اليوم أن كبار من عرضوا للمسألة السياسية في المذهب الأشعري، بل في المذاهب السنية إجمالا، كانوا من كبار المتكلمين ( الأشعري، الباقلاني، البغدادي).

نعم، كان من ذكرنا من كبار المتكلمين حقا ولكن هذا الأمر كانت له نتيجته الحتمية وهي أن معالجة المسألة لم تمكن من مجاوزة دائرة الكلام والجدل، تقرير المبادئ والكليات العامة التي تلزم الفكرة السياسية، على نحو ما نبهنا عليه في الفقرة السابقة. اعتبار مبحث الإمامة

(1/233)

قسما من أقسام علوم الدين، على نحو ما فعله أبو منصور البغدادي إذ اعتبرها أصلا من أصول الدين، وعلى نحو ما صنعه أبو بكر الباقلاني حيث جعل من القول في الإمامة خاتمة لكتابه الشهير " التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة"

وأخيرا فإن القول في الإمامة ، عن طريق إبطال أقوال الباطنية وإظهار فساد حججها، هو السبيل لا إلى الإعلان عن المعتقد السياسي الأشعري بل إنه الإبانة عن العقيدة الأشعرية برمتها من حيث هي تتحدد في صور الضد والخصم المطلق على نحو ما سيحسن الغزالي الإبانة عنه زمانا

(1/234)

بعد ذلك . ولهذه الأسباب كلها فإن التفكير السياسي الأشعري لم يتمكن من مجاوزة دائرة الكلام وما يستلزمه من جدل وخصومة من جهة أولى، وما يقف به عند حدود المطلقات والكليات من جهة ثانية وبالتالي فقد ظل يدور حول نفسه ولم يقدر على تحقيق قفزة نوعية أو الخطو خطوة إيجابية إلى الأمام . ولكي يخلص من إسار الخصومة والجدل كلن لابد له من أن يخوض مغامرة التشريع والتقنين. كان لابد للنظر السياسي المجرد أن يلتقي مع عمل الفقه والتشريع، وكان لابد للمفكر السياسي أن يزاوج ، في الشخص الواحد، بين الفقيه الشرع والمفكر.

(1/235)

وهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الفكر الأشعري السياسي، لابل من تاريخ النظر السياسي في الإسلام هي التي يعبر عنها فقيهنا الشافعي : أبو الحسن الماوردي . ولكن هذا القول لا يفيد، بالضرورة ، انتساب صاحب" الأحكامالسلطانية" إلى المذهب الأشعري ولذلك فإنه لابد لنا من وقفة أخرى نفحص فيها بحسب ما التزمنا، ما يكشف أشعرية الفقيه الشافعي وكل ذلك في الواقع مزيد من التأهب والاستيعداد لمعرفة الرجل وقراءة فكره.

نقرأ في كتاب " أدب الدنيا والدين"، على وجه الخصوص، أقوال وشهادات عدة تفيد كلها صدور الفقيه الشافعي عن

(1/236)

المبادئ الكلية للمذهب الأشعري. منها، أولا قوله في العقل إنه " هو المدرك للأشياء على ماهي عليه من حقائقب المعنى "، وهو ما تقول به الأشعرية جميعا وما يدعم رأيها في أن العلم هو انكشاف المعلوم بحسب ما هو عليه. وكذا قوله، من بين أقوال عديدة في الواقع، بأن " العقل هو العلم بالمدركات الضرورية". وقد لا تكون لنا حاجة إلى الوقوف عند تمييزه في العقل بين " العقل الغريزي"، واعتباره هو العقل الحقيقي والأساسي، و "العقل المكتسب"، واعتباره نتيجة للأول وثمرة له لمزيد من تبين ذلك في حين أننا نورد له قولة نعتبرها

(1/237)

حاسمة، حيث يوضح مغزى العلاقات بين المعقول والمنقول أو العقل والشرع: "فالعقل متبوع فيما لا يمنع منه الشرع، والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل، لأن الشرع لا يرد بما يمنع منه القل، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشرع،(1) ولربما كان هذا القول من أفضل ما يعبر عن الموقف الأشعري في الصلة بين العقل والنقل . ولو شئنا أن نتوسع في المسألة لعرضنا لرأيه في النبوة ولدللنا على مطابقةه لرأي الأشعرية ومخالفته

__________

(1) أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، تحقيق مصطفى السقا، دار الكتب العلمية، 1978، بيروت، ص.21.

(1/238)

البنية لقول المعتزلة، ولكننا نكتفي بإحالة القارئ إلى كتابه" أعلام النبوة" وشروحه، على وجه الخصوص، للوجوه التي يثبت بها إعجاز القرآن. ثم إننا نذكر له رأيا آخر يبعده عن دائرة الاعتزال والأخذ بما يعد من مبادئه الكبرى وهو إفتاؤه، عند التشريع لولاته القضاء، بمنع هذه الولاية عن من لم يقل بخبر الآحاد . والحق أن أقوى الأدلة على أشعرية الماوردي أولا، ثم على إسهامه الخصب في تطور النظرية الأشعرية والدفع بها نحو ما حقق لها وفيها نقلة نوعية كبرى ثانيا، هو ما ينهى إليه من اقتناع كامل بذلك حين التعرف على

(1/239)

الماوردي معلم السلطان، ثم الماوردي الفقيه المشرع.

-3 الماوردي معلم السلطان

قول الغزالي إن " الفقيه هو العالم بقانون السياسة" يسلمه، ضرورة إلى الاستنتاج بأن " الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم في الدنيا"، لما كان الماوردي قد سبق إلى تقنينه في مؤلفاته التي تدور على قواعد السياسة والعمران وآداب الرئاسة ونذكر ثلاثة منها هي: "نصيحة الملوك"، " تسهيل النظر وتعجيل الظفر" وقد تم تحقيقهما ونشرهما في السنوات الأخيرة فقط)، وأخيرا كتاب " أدب الدنيا والدين" ( وقد ظفر

(1/240)

بنشرة محققة منذ الشطر الأخير من الخمسينات). وأول ما يستلفت نظر القارئ هو أن أبا الحسن لا يعتبر ما يكتبه في هذا الباب من كتب النصائح والآداب التي يكون الغرض منها خدمة مصالح الدنيا، أو مجرد هذه الخدمة فحسب. وإنما النصيحة للملوك واجب ديني لأن صلاح العالم، وصلاح الأمة دينها ودنياها، يكون في صلاح الملوك. فهو يكتب : "أردنا أن نجعل كتابنا هذا كتابا دينيا، نريهم فيه مصالح معادهم ومعاشهم ونظام ممالكهم وأحوالهم، بكتاب الله رب العالمين، وسنن الرسول، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، والملوك الأولين،

(1/241)

ونحذرهم سوء المصرع ولؤم الميتة وقبح الأحدوثة واستحقاق العقوبة عاجلا وآجلا(1) . والكتاب المقصود بهذا القول هو كتاب " نصيحة الملوك". وأنت عندما تتفحص فهرست الكتاب فإنك تجد فيه بابا يعرض فيه صاحبه للأسباب التي يكون من جهتها الفساد في الملك والممالك، وتجد آخر يتعلق بسياسة الخاصة من الأهل والوالد والخدم والجند، وآخر ينصب على توضيح قوانين سياسة العالمة وتدبير المملكة، وغيره يتعلق بتدبير

__________

(1) أبو الحسن الماوردي، نصيحة الملوك،ص .197 ، تحقيق مهد جاسم الحديصي، دار الشؤون الصقافية العامة، 1986،بغداد.

(1/242)

الأموال، وغيره بتدبير الأعداء، فضلا عن فصول في الحديث عن سياسة النفس ورياضها. فإذا تأملت ما تقرؤه في تلك الفصول، أو في بعضها، فإنك لتجد ذكرا للفرس، ولليونان، وحديثا عن " عهد أردشير" وكتاب" كليلة ودمنة"، وبالتالي فأنت تجد التماسا للحكمة والنوعضة في تواريخ الأمم والشعوب المختلفة، من ملة الإسلام حينا، ومن خارج تلك الملة أحيانا كثيرة. وبالتالي فإنك تجد ذكرا واستعادة لما يمكن أن تقرأه في " مرايا الأمراء" وكتب النصيحة دون أن يعدها أصحابها كتبا في الدين، ومصنفات في غير ما وضعت لهمن أهداف للسلطان

(1/243)

المسلم أن ينتفع بها كما لغيره من ملوك وحكام أهل الملل المختلفة أن يستفيدا منه، فعلى أي نحو يكون الكتاب هذا كتابا دينيا؟

لا يكفي ، في الإجابة عن هذا السؤال، أن يقول المرء إن الداعي إلى ذلك هو ما يدعو إليه الدين نفسه من وجوب إسداء النصح للملك أو الحاكم فقد لا تعدو النصيحة الدينية التذكر بأوامر الشريعة ونواحيها والتنمية على الأحداث النبوية التي تحث على العدل والإشارة إلى مواطن الأحاديث الأخرى التي تعلن ما يحق للسلطان العادل أن يطمح فيه من حسن ثواب. بل إن النصيحة، على النحو الذي هي فيه أن بأتي لدرس

(1/244)

البشرية السابقة والأمم الخالية والإفادة من تجاربها، ليس من الشرط فيها أن تأتي على لسان الفقيه أو البصير بأمور الدين، إذ لاربما أجادها المؤرخون والفلاسفة والأدباء على وجه لا يقدر عليه الفقهاء، بل هذه أحاديث الفقهاء في النصيحة تفيض بروايات التاريخ والشعر والحكم. وإذن فلابد من التماس الجواب الملائم في أسباب أخرى قد تكون أقل ظهورا. فلننظر في الأمر عن قرب ولننقب ونفحص فيما يمكن أن يكون ثاويا وراء آداب السلوك والنصائح، ومتخفيا وراء الموعظ والعبر.

(1/245)

يقوم الفقيه بقراءة للتاريخ يستعرض فيها " تجارب الأمم" وينصت إلى أخبار الحكماء والزهاد والملوك الكبار، ولكنه يقرأبعين الفقيه بطبيعة الأمر وينصت بأذن تعودت أن تتصيد من الأخبار والحكايات ما كان ذا فائدة عملية ومباشرة عنده، كما أن قراءة الفقيه تحركها ضوابط الفقه وقوانينه، وتوجهها الغائية التي يرومها فنه. وإن تكن الغائية في الفقه هي، على حد تعبير الغزالي، " معرفة طرق السياسة والحراسة" فإن الآلية التي توجه عمل الفقيه هي ما اعتاد سمعه أن يلتقطه وما ألفت عينه أن تلحظه ، وهي العمل بموجب مبدأ "القياس" :

(1/246)

قياس الأشباه والنظائر، قياس ما كان مجهولا على ما كان مألوفا معروفا، والقياس هنا يعمل، بطبيعة الحال، في مجال معلوم هو عالم السياسة والأمور المصلحية. والماوردي يعبر عن معنى" القياس" وممارسته في هذا المجال أفضل تعبير إذ يقول : " علم الدين أصله وطريقه الاستدلال بالشاهد على الغائب، وبالمتفق علسيه على المختلف فيه، وجهه استخراج الرأي هو ما كان علم السياسة على الحقيقة"(1) . القياس هو " استخراج الرأي"، هو ما كان نتيجة نظر وتدبر فهو الثمرة التي يجنيها الناظر وله أن يعمل بها.

__________

(1) المرجع السابق، ص.110.

(1/247)

وللنظر منهج معلوم وقواعدمحددة يضبطها المبدأ الكلي العام مبدأ" الاستدلال بالمشاهد على الغائب": والمستدل عليه، هنا، هو ما كان يعتبر واقعة جديدة أو " نازلة" في لغة الفقعاء مما لم يرد فيه نص صريح من كتاب أو سنة أو يقم عليه إجماع، والمستدل به، هنا بطبيعة الحال، هو ما كان يعتبر قديما مألوفا " جرت العادة" ( والعادة مفهوم أصولي أشعري) عليه فكان " متفقا عليه" أو " مجمعا عليه" . والشاهد ( أو عالم الشهادة، أو " العالم المعلوم" ، أو الواقع " المتفق عليه"، أو التي أجرى الله العادة بها- فهذه المسميات تفيد

(1/248)

كلها المعنى الواحد)، في مجال النصيحة والبحث عن الموعضة والعبرة، هو ما يمكن أن ندعوه ب" التاريخ الوعظي" أي التاريخ والبحث البشري وقد أصبح مجالا للنظر وموضوعا للعبرة. هو إذن ما قام به الملوك الكبار، الذين كان لحكمهم شأن ولدولتهم تمكين وقوة ، فهم إذن أفضل القدوة وأحسن المثل. والغائب(أو " النازلة"، أو المختلف فيه...) هو ما يعاينه الأمير والحاكم من جديد مستمر في شؤون الرياسة وتدبير أمور الخلق. وحيث كان "استخراج الرأي" على هذا النحو هو مما يطيقه الفقيه وحده، متى أمكنه أن بفحص "تجارب الأمم" ويطلع على

(1/249)

حدوث الدول وزوالها ، فإن ما نصير إليه مع الماوردي هو القول بأن " نصيحة الملوك " كتاب ديني ( من حيث هو ممارسة للفقه في إرشاد عملي إلى مكامن " المصلحة " ومواطنها، ولكنه إرشاد لا يملكه إلا من أخذ بناصية القياس وملك زمام أمره كاملا.

إذا كنا، بهذه الإشارات إلى " القياس " واستخراج الرأي و بهذا الشرح المقتضب لمبدأ " الاستدلال بالمشاهد على الغائب" قد تبينا بعض التبين مغزى القراءة التي يقوم بها الفقيه الشافعي ولما قلنا عنه أعلاه إنه " التاريخ الوعظي" فإن علينا، أن نتبين نتيجة تلك القراءة. وإذا شئنا

(1/250)

فلنقل في تعبير أخر: الآن وقد وفهمنا " كيف القراءة" فإنه يلزمنا أن نقطف " الثمرة" التي نخرج بها من تلك القراءة .

ينتهي الماوردي من قراءته للتاريخ الوعظي إلى استخلاص مايرىأنه "قواعد الملك" . وهذه القواعد هي على وجهين أو إنها تنشطر إلى شقين متلازمين: شق أول يتعلق بقيام الملك وتأسيسه، وشق ثان يرجه إلى أمور تدبيره أو سياسته: " إن قواعد الملك مستقرة على أمرين: تأسيس وسياسة. فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومبادئه، وإرساء قواعده ومبانيه" . وإذا كان الإرشاد العملي إلى سبل السياسة الحميدة التي

(1/251)

بها يكون استقرار الملك واتصاله هي ما يطلبه السلطان من الفقيه، وكانت معرفة "قواعد الملك" هي ما ينتجه الفقه من نصائح، فإن معرفة الأسباب التي كان بها الملك ملكا وبها قام في أول أمره له ما تلزم معرفته وذلك ما يفرد له الماوردي فصلا مستقلا في كتابه " في أخلاق الملك وسياسة الملك" . نقرأ له : "فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومبادئه وإرساء قواعده ومبانيه وتنقسم ثلاثة أقسام: تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة(1)

__________

(1) أبو الحسن الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفرفي أخلاق الملك وسياسة الملك، تحقيق محيي الدين هلال السرحان، دار النهضة العربية،1981 ،بيروت، ص. 153.

(1/252)

. فأما تأسيس المال والثروة " فهو أن يكثر المال في قومه فيحدث لهم بعلو الهمة طمعا في الملك وقل أن يكون هذا الأمر إلا فيمن له بالسلطة اختلاط وبأعوان الملك امتزاج فيبعث مطامع الراغبين فيه على طاعته وتسليم الأمر إلى زعامته" . وأما تأسيس الملك على القوة " فهو أن يحل نظام الملك إما بالإهمال والعجز وإما بالظلم والجور، فينتدب لطلب الملك أولو القوة ويتوثب عليه ذوو القدوة، إما طمعا في الملك حين يضعف وإما دفعا للظلم حين استمر". ولكلا التأسيسين، كما يذكر، عيوب ومساوئ وكلاهما أدى إلى دوال الدولة وزوال

(1/253)

الملك، لأن كلا منهما يحمل في ثناياه وأحشائه ما ستكون به السياسة التي سيسار عليه لاحقا . فلتأسيس القوة طبيعته ومنطقه ولعله، في تصور الماوردي، يعادل ما وصفه الفاربي قبله بأنه " اجتماع التغلب" ولقب المدينة التي يكون فيها بمدينة " التغلب" ولكنه يذكر ، في شرح معنى هذا التأسيس، أنه ذلك الذي يقوم على قوة الجيش وهيمنة الجند والأمر فيه يخرج من يد الملك كلية وإن بدا غير ذلك : فإن هم عدلوا مع الرعية فإنما تكون حقيقة حكم الملك أن ملكه "ملك تفويض وطاعة"، وإن جاروا وعسفوا فإنما هي " دولة تغلب يبيدها الظلم

(1/254)

ويزيرها البغي" . ولتأيس المال والثروة طبيعته التي لا يملك أن يحيد عنها ومنطقه الذي لا يقدر عن الزوال عنه أو الخروج عن ضوابطه ومقتضياته- وقد يكون هذا التأسيس، متى رجعنا إلى تنصيفات الفاربي المعروفة، هو ما يقول عنه أبو نصر إنه " اجتماع أهل النذالة " وعن المدينة التي يكون فيها أنها " مدينة النذالة " - والفساد عند الماوردي أسرع ما يكون لحوقا بهذا التأسيس وأشد ما يكون فتكا به.

ولكن الأمر آخر مع القسم الأول من الأقسام الثلاثة المذكورة. ذلك أن تأسيس الدين هو " أثبتها قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة"

(1/255)

ولا يتسرب إليه الخور أو يدب فيه الضعف إلا متى كان الملك ، في هذا التأسيس، مستهينا بالدين مهينا لأهله، أو كان " قد أحدث بدعة في الدين شنعه"، أو كان قد خرج عن الدين كلية . والحق أن الماوردي قد انشغل بأمر هذا التأسيس القائم على الدين انشغالا شديدا فبسط القول فيه في " نصيحة الملوك" لا بل كتب فيه كلاما نعتبره من أجمل وأهم ما خطه يراعه في موضوع النظر السياسي. وهو الباب الثالث المعنون هكذا " الأسباب التي من جهتها يعرض الاختلال والفساد في الممالك وفي أحوال الملوك".وأول ما يطالعنا في هذا الباب، بعد ذكر

(1/256)

حديث نبوي يؤيد به قوله " إن أحوال الأمم متقاربة"، هو إيراده لهذه الملاحظة التي يخرج به من قراءته للتاريخ البشري " الوعظي" : "وكان مما جرت عليه أمور العالم، واستمرت عليه عادات الأمم أنه لم تكن مملكة إلا كان أسسها ديانة من الديانات وأصلها ملة من المال عليها بنيت شرائطها وفروضها، وجرت أحكامها وحدودها "(1) .

أستأذن القارئ الكريم في استطراد قصير أنبه فيه على اشعرية الماوردي، حيث تحمل لنا قولته هذه دليلا جديدا آخر على ذلك : هي ذكره ل" العادة"

__________

(1) الماوردي ، نصيحة الملوك...، سبق الإشارة إليه، ص.11.

(1/257)

وجريانها واستمرارها . فالأشاعرة، إذ يتحدثون عن استمرار العادة وجريانها ويتكلمون عن " إجراء العادة " على النحو الذي يقرره الله، فهم في الواقع يدلون على عنوان مذهبهم ويشيرون إلى أخص ما يميزهم عن المعتزلة والفلاسفة معا . فأما عنوان مذهبهم فهو مبدأ" التجويز" : فليس كل ما لا يقدر على البرهنة على وجوده مستحيلا في ذاته أو ممتنع وجوده وإنما هو جائز وذلك الجواز هو ما يفسر إمكان الرؤية، رؤية الله بالأبصار يوم القيامة ، كما أنه يحل عددا من الإشكالات الأخرى التي تتعلق بالحرية والمسؤولية في عالمنا الأرضي.

(1/258)

وأما تميزهم عن المعتزلة، وعن الفلاسفة خاصة، فهو نفيهم القول بالسببية ( أي وجود العلاقة المباشرة بين أمر ندعوه سببا وآخر مسببا)، وشرحهم لتلك العلاقة بأنها مجرد " اقتران " أو " تساوق وأنه "عادة" أجراها الله. ولكن " العادة" هذه لا تكون، في تعابيرنا اليوم، شيئا آخر غير " القانون" : فكما أننا نحصل على القانون المفسر من إدراك العلاقات الثابتة في الظواهر المطردة، فكذلك نحن نتبين ما أجراه الله من العادة من استقراء الأحداث والظواهر . وإذن فالماوردي عندما يقول إن " مما جرت عليه أمور العالم" ، ويكتب،

(1/259)

مضيفا، وأستمرت عليه عادات الأمم" . فهو يقول بممارسة طبيعية لمقتضيات المذهب الأشعري، ويعلن، بالتالي، عن تشبعه بالمبدأ الأشعري الكلي والعمل بموجب آلياته وموجهاته.

إذا كانت العادة قد جرت بأن الدين أساس الممالك الكبرى، أي أن " تأسيس الدين" أكثرها شبوعا وأشدها رسوخا وقوة، فإن في الأمر ما يدعو إلى التأمل حقا واستخراج العبرة فعلا. فأول شيء هو حدوث " النوازل" التي تقضي إعمال العقل الفقهي بغية إيجاد الحلول الناجعة والوصول إلى الأجوبة الصحيحة والدقيقة على الأسئلة المقلقة والأوضاع المحرجة: " لابد في الدين

(1/260)

من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها"، وثاني شيء هو أن مما جرت عله العادة كذلك هو أنه " لا يخلو دين من الأديان ولا ملة من الملل من منافقين فيها ومعادين لها". ثم إن هؤلاء يظهرون ويكثرون في عصور ملوك ضعفاء، وهم كذلك لأنهم " خالدن من علوم الدنيا، معرضون عن أصول الشريعة" . وعند ذلك تنشأ ساسلة طويلة متصلة من الوقائع السلبية وتتلاحق الأحداث التي تؤدي كلها إلى سقوط الدولة وزوال الملك . ولكن المتأمل لأسبابالقوة في الممالك التي يكون أولها ومنشئها " تأسيس

(1/261)

الدين"، يجد أن مكمن القوة القيقي وفعلها السحري يكمنان في مراقبة الدين وأصله. ذلك ما كان من أمر الخلفاء الراشدين إذ " كانوا لا يرون الخلافة إلا لإحياء الدين"، وذلك ما كان من أمر عمر بن عبد العزيز ويزيد ابن الوليد وإن كانا" من بني مروان، الذين عاثوا في الأرض وغيروا السنن وأظهروا البدع". وذلك ما كان من خلفاء بني العباس، والماوردي إذ يستعرض أسملاء البعض منهم فهو يلحقها دائما بنعت يفيد الحفاظ على الدين، فأبو العباس والسفاح " ظاهر الزهد" ، والمنصور " شديد الاعتقاد في الدين "، والرشيد " شديد التعصب

(1/262)

للإسلام والديانة" والمأمون " وهو لو باهت به هذه الأمة سائر الأمم في ملوكها لكان ذلك أهلا ولوجد لها عليهم به فضلا علما وعقلا(...) وتعصبا للتوحيد". وكذلم كان الشأن في المعتصم والوثائق، وكذلك كان حال ملوك سامان والأمراء الظاهرية من ولاة خراسان . وبالتالي فإن مفتاح النجاح وسر التقدم والقوة في الممالك والأمم يملكه كل من أدرك، مع الحكماء والعظماء، أن " الدين والملك أخوان توأمان " وآمن بأن الدين " أس الملك"، كما أدرك أن " الملك حارس الدين".

(1/263)

ما الشأن بعد ذلك في الشق الثاني من " قواعد الملك " عند الماوردي؟ ما القول في التدبير أو السياسة؟ يقول في " تسهيل النظر وتعجيل الظفر": " وأما سياسة الملك بعد تأسيسه واستقراره فتشتمل على أربع قواعد هي : عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتدبير الجند، وتقدير الأموال" . ثم إنه يفصل بعض التفصيل في كل واحدة من هذه القواعد ويمدد ما يتفرع عنها من أنواع وأقسام بيد أن هذا التعداد لا يفي بغرض الإحاطة يفكر الماوردي في الموضوع. فهو لا يغني عن قراءة "نصيحة الملوك" في جانب، ولا يعفي من كان يروم معرفة جوانب هامة

(1/264)

أخرى من فكر أبي الحسن من قراءة "أدب الدين والدين"، مثلما لم يكن في فحص هذين الكتابين الأخيرين ما يجعل قراءة " تسهيل النظر" غير ذات جدوى وإنما نظر المفكر السياسي مبثوت في هذه الكتب الثلاث . وهو ينشغل في مرة من المرات الثلاث بما لم ينشغل به ، كلا وتفصيلا، في الكتابين الآخرين. فهو في " تسهيل النظر" منشغل بالملك كشخص وبالملك كرئاسة، وهذا الانشغال يجعله، في القسم الأول من الكتاب، يبسط القول في الفضائل ويتسع فيها، ثم إنه يدير الباب الثاني (في سياسة الملك) على الكلام في قواعد الملك، ( على نحو ما رأينا

(1/265)

بعضه) . ثم إنه في " نصيحة الملوك" يرتب الكلام، مفصلا وفي السياسات العديدة : سياسة النفس، و سياسة الخاصة، وسياسة العامة أو تدبير المملكة، وسياسة الأموال ثم سياسة الأموال ( أو تدبيرها) فسياسة الأعداء (أو تدبيرهم) فضلا عما عرضنا لغيره بالذكر أو الإشلرة سلفا.

إن لم نكن نملك، في حدود هذه المقالة، أن نستقصي فكرة فقيهنا الشافعي ومفكرنا الأشعري في كافة انتدادتها في الوؤلفات الثلاث فإنه لا مندوحة لنا من التريث برهة عند النحو الذي يشرح بها قواعد السياسة تلك حين حديثه عن " أدب الدنيا"، في الكتاب الذي كان

(1/266)

هذا الأدب أحد شطريه، إذ يقول:

أعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة،ستة أشياء في قواعدها وإن تفرعت وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح"(1)

لنلاحظ أننا بإزاء بناء هرمي هو هذه السلسلة المتصلة من الأسباب والنتائج، فمتى كان الدين متبعا (على نحو ما أحسن شرحه في " نصيحة الملوك" -وكما رأينا سابقا) كانت الحصيلة الأخيرة والنتيجة العملية هي " الأمل الفسيح" ، الذي يعني حصول الاطمئنان

__________

(1) الماوردي، أدب الدنيا والدين ... سبقت الإشارة إليه،ص .135.

(1/267)

والانصراف إلى االبناء والتشييد والتوفر على ما يكفي من الإيجاب، والإرادة، والتصميم (والماوردي صاحب هذه الحدود الثلاث). بين أساس البناء القوي ( الدين المتبع) ، ىوقمته ( الأمل الفسيح) . تقوم تلك الشروط الخمس التي يسلم بعضها إلى بعض بشكل تنازلي من جهة أولى، وفي صورة استلزام منطقي من جهة ثانية ( السلطان القاهر، العدل، الأمن، الخطب) . فإذا أخدنا أول هذه الشروط، ورأسها بالتالي، وهو السلطان القاهر نجد أبا الحسن يقول عنه إنه " تتألف برهنته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكف بسطوته

(1/268)

الأيدي المتعالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية"(1) . ومتى دققنا النظر في شلأن هذه الأسباب فإننا نجدها ترتد ، بكيفية وبأخرى، إلى ما يفيد الاجتماع والائتلاف في الرأي الواحد وهو ما يعني حصول أمر خطير ما فتئ الماوردي يردده في كتابته السياسية ةكلها ويراه شرطا أساسيا وعنصرا محوريا في قيام الدولة واستمرارها - وذلك هو وحدة الرأي أو المذهب . فلا رأي لملك سمح بىبتعداد المذاهب المختلفة من حوله، إذ لا نتيجة لتفرق الكلمة سوى " اختلاف السيوف "، ولا مندوحة للملك عن

__________

(1) الماوردي أدب الدين والدنيا...،ص. 136.

(1/269)

الزوال، حين هذا الاختلف، ولا مناجاة للملكة من الدمار والفساد عند حلول تلك الحال.

على أن ما سلف لا يشكل، وإن اجتمع، سوى أحد شرطين لصلاح الدنيا واستقامة السياسة: " وأعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين: أولها ما ينتظم به أمور جملتها، والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها"(1) . وما يصلح به كل واحد هو، متى نظر إليه من حيث إن الإنسان لا يكون إلا بغيره اجتماع ثلاثة أشياء لابد منها وهي " نفس مطيعة إلى رشدها منتهية عن غيها، وألفة جامعة تنعطفالقلوب عليها ويندفع المكروه بها.

__________

(1) المرجع السابق، ص. 134.

(1/270)

ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها"(1) . وصلاح كل واحد، متى اعتبرنا أن " الإنسان دنيا نفسه" ، هو العمل على تحلي النفس بالفضائل وتعويدها أو ما درج المفكرون الإسلاميون على القول فيه إنه " تهذيب الأخلاق" . والماوردي يصدر في هذه المسألة عما يصدر عنه كل أولئك المفكرين ( بما فيهم الفلاسفة بطبيعة الحال) فهو يستهل حديثه في " أخلاق الملك" بالقول بأن " الأخلاق غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتقهر بالاضطرار"(2) . ثم

__________

(1) المرجع السابق، ص . 148.

(2) المارودي، تسهيل النظر...سبقت الإشارة إليه، ص.

(1/271)

إنه يعرض بعد ذلك للفضائل، على نحو ما ذكره أرسطو وفصل فيه، فيبسط القول فيها واحد فواحدة ( وهذا هو الشأن في " تسهيل النظر" ) ويجمل ويوجز ويحمل كبير همة أن يكسبا ثوبا إسلاميا وصيغة عربية مألوفة (وهذا هو الشأن في " أدب الدنيا والدين" ) . فيكون من ثم قوله الغزير في " المروءة" " كل كتابنا هذا من شروطها وما اتصل بحقوقها" ( والإشارة إلى الكتاب الأخير) .

الحق أن الإحاطة بصورة " الماوردي المفكر الأخلاقي"، في كامل جوانبها وكافة أبعادها، لأمر كثير الأهمية : بالنظر أولا لما كان، في الثقافة العربية الإسلامية

(1/272)

وفي العصر الوسيط المتشبع بالتراث اليوناني جملة، من صلة وطيدة بين الأخلاق والسياسة - وبالنظر ثانيا لما يكتسبه قول الماوردي في الفضائل، وفي " المروءة" (1) على وجه الخصوص من قينة فائقة الأهمية في نظره السياسي- ولكننا نرى في هذه الإشارات والتنبيهات، ماكان فيه غنى عن التوسع والإطالة . ويبدو

__________

(1) من أجل فهم معنى(المروءة) ومكانتها في الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي، انظر : سعيد بنسعيد العلوي، الخطاب الأشعري / مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتختب العربي، 1992 ،بيروت( الصفحة 241وما بعدها) .

(1/273)

أننا قد استكملنا العدة واستجمعنا العناصر راللازمة من أجل الوقوف عند الصورة الشهيرة والمألوفة لأبي الحسن الماوردي: صورة الفقيه المشرع.

4- الماوردي الفقيه المشرع

يقول الأستاذ المرحوم هنري لاوست، في دراسة قيمة له في " فكر الماوردي وعمله السياسيين" " إننا وإن كنا نجعل التاريخ الذي كتب فيه أبو الحسن" الأحكام السلطانية" إلا أننا نستطيع الجزم بأن هذا المؤلف، من حيث إحكام بنائه ودقة تعابيره، هو ثمرة تجربة وحنكة لا يبلغهما صاحبهما إلا في مرحلة من العمر جد متقدمة "(1)

__________

(1) henri laourt, La pensée et l’action politiques d’ AL- Mawardi Librairie Geuthner,1968,paris,p 57 .

(1/274)

. والحق أن هذا المؤلف، الذي اقترن باسم الماوردي أكثر من غيره من مؤلفاته الأخرى، هو كما ذكر "لاوست" فلولا أنه كان عصارة تفكير عميق، وحصيلة نظر طويل في السياسة والأخلاق، وثمرة فكر ثاقب في الفقه ( أصولا وفروعا معا) لما أمكنه أن يكون على الصورة التي هو عليها الآن، ولما أمكنه أن يكون النموذج الأمثل للخطاب السياسي الفقعي. وبديهي أنه ليس لنا أن نعرض لمضا مين أبوابه العشرين، في الإمامة، والوزارة ( بنوعيها : التفويض والتنفيذ) : وفي الإمارة، بأنواعها المختلفة ( البلاد، الجهاد، الجيش، ... )، وفي الولاية،

(1/275)

بأشكالها ( القضاء، المظالم، النقابة، ...)، وفي الأرض وأحكامها ( الخراج، الإقطاع، الأحياء، ...)، ثم في أحكام الجرائم، وأمور الحسبة... ففضلا عما يستدعيه ذلك كله من تطويل يعني ولوج أبواب الفقه والدخول في دروب الخلافة بين المذاهب والأئمة، وفضلا عما يسلم إليهمن تطويل يبلغ خروج الحدود عن القصد فإنه يبعدنا عن غرض استخلاص مظاهر المفكر السياسي إذ " يسجننا " في محيط الفقه ويغلنا بمنطقه وآلياته. وإذن فلا سبيل لنا آخر سوى سبوك الإختيار والأنتقاء :اختيار الأمثلة والشواهد، وانتقاء الأدلة والصور التي تمكننا

(1/276)

من المكوث في حال اليقضة والحذر . فأما اليقضة فهي الانتباه إلى الكيفية التي يعمل بها الفقيه المشرع عقله الفقهي، وانتباه الأشعري، في الوقائع التاريخية فيصير منها إلى " قواعد سياسية " وأحكام " سلطانية "، وأما الحذر، فهو مما يخشى منه من وقوع في مخالب هذا المعجم التقني في أحكام الحكومة، وقوانين الأرض، وواجبات الإدارة (إدارة شؤون المدينة الإسلامية) .وحقوق الأمة والجماعة. وإذن فلابد، في " الأحكام السلطانية" من قراءة تنظر في الأحكام والتشريعات بغية الوقوع على الفكرة السياسية الموجهة، والخلفية العقائدية

(1/277)

المذهبية الحاكمة والمرشدة معا. وهذه المحاولة العسيرة هي ما ندعو القارئ الكريم إلى الخوض فيه في الفقرات اللاحقة.

تحكم الرؤية الأشعرية عمل الفقيه المشرع في كتاب " الأحكام السلطانية " على نحو يتوضح به هذا الأمر منذ الفقرات الأولى من الكتاب، بل ابتداء من مستهل الحديث في " الإمام"، الباب الأول من الكتاب. فإذا تقرر أن عقد الإمامة واجب الإجماع، إلا ما كان من شذوذ " الأصم" من المعتزلة، فإن مدرك الوجوب يكون هو الشرع إذ الإمام " يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أو لا يرد التعبد بها فلم يكن العقل

(1/278)

موجبا لها" والقول بتقدم المنقول، ( أي ما قضت به الشريه) على المعقول ( أي ما تقرر عند الحكماء في العقل) قول أشعري شأنه في ذلك شأن القول بمبدأ " التجويز" كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك. ثم إنه يثبت بعد ذلك أنه يكون في الإمامة فريقان أو طرفان اثنان يعنيهما أمرها، على نحو متغاير. الطرف الأول هم " اهل الاختيار" أو " أهل العقد الحل"، أي أولئك الذين يكونون لهم، بل يلزمهم، أن يختاروا للأنة إماما. والفريق الثاني هم " أهل الإمامة" الذين يكون الإمام، بالضرورة، أحدهم فهو يقدم ويختار لذلك ، وفي كلا الطرفين لابد

(1/279)

من اجتماع شروط معلومة . والحق أن هذا التقنين الفقهي لا يفهم على وجهه الكامل إلا نتى استحضر القارئما أسلفنا الإشارة إليه من الاختلاف الجوهري بين الشيعة الباطنية والسنة الأشاعرة في مسألة نصبة الإمام، وما نتج عنه من قول بالعهد والوصية عند الأولين، وذهاب إلى الأخد بالاختيار والإجماع، عند الآخرين. وفي هذه المسألة المبدئية الأولى لا ينحط الماوردي، في الجدل أبدا بل إنه يصدر عن موقف فكري، ضمني، قوانه أن ما ينتهي إليه عموم المتكلفين الأشاعرة عن قول في الإمامة هو عنده بمثابة المقدمات التي تلزم عنها نتائج

(1/280)

جديدة هي تلك التي يملك الفقيه أن يصوفها في صور الأحكام أو القوانين. وإلى هذين الموقفين الأشعريين، المتضمنين في كلام الماوردي الفقيه المشرع، يلزم أن نذكر موقفا أشعريا ثالثا وأخيرا من بين المواقف الأشعرية الضمنية التي يمكن استخلاصها والتدليل عليها. ذلك هو صدور الماوردي عن قراءة أشعرية لتاريخ الإسلام، وللمسار الذي سلكه حكم الخلفاء المتقدمين وترتيبهم على النحو الجي ظهروا به . وخلاصة هذه الرؤية هي أن ذلك الحكم والترتيب معا إنما هما تعبير عما انعقد الإجماع عليه فهو سلسلة متصلة الحلقات ،وكل حلقة إنما

(1/281)

يكفلها من الشرعية حظ عظيم. وإذن فإن كل ما فعله السابقون من خلفاء بني أمية وبني العباس (على السواء ) يصلح اعتماده مصدرا في التشريع ومادة في القياس، ومرجعا في المماثلة فهو، بالتالي، شاهد يصح الاستدلال به على غائب هو الحاضر الذي يشرع له .

يشرع الفقيه المجتهد في إعمال العقل الفقهي في " نوازل" السياسة ومقتضيات التدبير والسلطان وقد تشبع إذن بمستلزمات العقيدة الأشعرية، وتشرب مقتضياتها في الحكم والسياسة كاملة . وعمل المجتهد هو، كما هو معلوم، إعمال للرأي والنظر وممارسة للقياس وآلياته. وليس القياس، عند

(1/282)

الفقيه رالشافعي سوى تجريب وتطبيق لمبدأ " الاِستدلال بالشاهد على الغائب".

يختلف الأئمة على وجه المثال، في عدد من تنعقد بهم الإمامة فيلجأ الماوردي إلى البحث عن " مقيس عليه" فيجده في التاريخ، تاريخ الخلفاء المتقدمين، من جهة أولى ويجده في عقد شرعي هو عقد النكاح، من جهة ثانية. والمشرع، في الجهة الأولى، مخير بين القياس على ما حصل في بيعة أبي بكر، وهذه " انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها". أو اعتبار ما ارتاآه عمر من مجلس الشورى السداسي مقيسا عليه، فيكون ستة هو العدد المعتبر في عدد من

(1/283)

تنعقد بهم الإمامة. كما أن له أن يقيس على ما فعله العباس عم النبي عليه السلام، إذ قال لعلي " أمدد يدك أبايعك" . وللمشرع، في الجهة الثانية، أن يغتبر أن العدد الازم في انعقاد الإمامة هو ثلاثة قياسات على عقد النكاح ( شاهدان وولي ) - وذلك ما قالت به طائفة من " علماء الكوفة".

وعلى ممارسة القياس نجد أدلة أخرى في نفس القول في الإمامة، فبعد أن يعلن الفقيه أنه " لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد" وأن بيعة أحدهما لابد ساقطة إن عقد لهما معا، ىيتساءل الفقيه : أي البيعتين يكون على شروط الصحة من

(1/284)

الناحية الشرعية ؟ والجواب يكون، مرة أخرى، قياسا على ما يتم في عقد النكاح " والصحيح في ذلك وما عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما بيعة وعقدا كالوليين في نكاح المرأة إذا زوجها باثنين كان النكاح لأسبقهما عقدا " . ويتساءل الفقيه عما يحدث في الحالة التي ينتهي فيها " أهل العقد والحل" إلى الإجماع على اختيار شخص بعينه إماما للأمة ولكن هذا الشخص لا يجيب لرأي القوم المجمعين وجوابه أن إجماع "أهل الاختيار" لا يلزم من كان موضوعا للاختيار، والمقيس عليه في هذه الحال هو ما يحدث في فقه المعاملات بالجملة،

(1/285)

من حيث أحد شروط صحة العقود : " وإن امتنع من الإمامة ولم يجد إليها لم يحبس عليها لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ول إجبار وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها ". ودليل وجوب مراعاة ما به تكون صحة العقود . يرد كذلك في الشروط اللازمة في وزارة التفويض : " فصحة التقليد فيها معتبرة بلفظ الخلفية المستوزية لأنها ولاية تفتقر إلى عقد والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح".

وكما يقيس الفقيه على ما يحصل في فقه المعاملات من جهة أولى، وعلى ما " جرت عليه العادة" في التاريخ الإسلامي من جهة ثانية، فإنه يقيس على

(1/286)

ما أخبر الشارع عنه أنه كان في تاريخ الأنبياء المتقدمين. وقد نكتفي في ذلك بإيراد مثالين اثنين، يتعلق أولهما بالإمامة ويرجع ثانيهما إلى الوزارة، فالإمام يخرج عن الإمامة إما لجرح في عدالته وما لنقص في بدنه. وأحد أحوال النقص في البدن هي " تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا كان عاليا"، والحكم فيهما أنه لا يخرج عن الإمامة " وقيل لا يمنع [ من عقد الإمامة له] لأن نبي الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النبوة فأولى أن لا يمنع عن الإمامة". ومن أحوال النقص في البدن أيضا فقد الأنثيين أو

(1/287)

قطع الذكر، فقد كان نبي الله تعالى، يحبي بن زكريا، كذلك حسب ما ورد في " شرح المفسرين" لقوله في القرآن الكريم { وسيدا وحصورا ونبيأ من الصالحين } ( آل عمران : 39 ) . والقياس عند الماوردي يكون على هذا جواز الوزارة في النبوة { واجعل لي من أهلي هرون أخي أشدد به أزري أشركه في أمري } ( طه: 31) " كان في الإمامة أجوز".

إن هذه القدرة على التنويع في طرق القياس ومجالات تطبيقه، مع التقيد بقوانين إجرائه وشروط صحته، هي ما يكسب عمل المجتهد قيمه فقهية كبيرة وما يضفي على الأحكام التشريعية قوة تستحيل بها إلى "

(1/288)

سلطة رابعة" بعد سلطات الكتاب والسنة والإجماع . وبموجب امتلاك هذه السلطة الرابعة يكون للمجتهد المشرع في الفقه السياسي أو يسلك في القياس طريقا آخر يكون المقيس عليه فيه هو " التاريخ الوعضي"، أي تاريخ الشعوب والملل المتقدم . فكما صح كونه، عند الفقيه، مادة للاعتبار والاتعاظ فإنه يصح اتخاذه مقياسا في التشريع، في الأحوال التي لا يسعف فيها التاريخ الإسلامي " المشرع" بشيء، ذلك ما فعله السلف الصالح نفسه : فالخليفة عمر بن الخطاب لم يتردد في الاقتاس عن الفرس والأخذ منهم في وضع " الدين"، وبالتالي فإن "

(1/289)

أحكام الديوان"، في الإسلام، لم تتقرر في حقيقتها إلا باعتبار ما سلكه الفرس، في هذا الصدد، " مقيسا عليه" متى تثبت المشرع المجتهد من مراعاة أحكام الشريعة واطمأن إلى توفر شروط الصحة في ذلك.

وأبو الحسن الماوردي استحق من كبار الفقهاء اللاحقين عليه لقب " العمدة" حينا ولقب " المجتهد" أحيانا عديدة لتوفره على تلك البراعة الكبيرة في إعمال القياس وفي إجادة " الاستدلال بالشاهد على الغائب" . ولكن إن كان الماوردي فقيها مجتهدا في فقه المعاملات وكان كتابه الأشهر " الأحكام السلطانية" يستدعي " قراءة الفقيه" الذي

(1/290)

يعرف مواطن الاجتهاد في الكتاب ويدرك دلالتها ومداها فإن مما يطيقهالكتاب أيضا، ويحمله الرجل كذلك هو القيام بقراءة مؤرخ الفكر السياسي المنشغل برصد الآليات الفكريةوالأسباب السياسية التي تحكم اجهاد الفقيه في " الأحكام السلطانية" . ذلك ما نأمل أن نكون قد وقفنا، في الصفحات السابقة، إلى تهييء القارئ إلى الانتباه إليه في شرحنا لوجه ارتباط الفقه بالسياسة من جانب أول، ولموجهات الفكر الأشعري ودواعي نشأته من جانب ثان، وأخيرا لمغزى بلوغ النظر السياسي الأشعري طور التشريع الفقهي عند الماوردي . وبالجملة فإننا

(1/291)

نخرج من قراءة الماوردي، على جهة النظر التأريخي الفكري، من ملاحظات ثلاث محورية يبدو أنها، من وجهة نظر مؤرخ الفكر هذه، هي ما كان يحكم عمل المشرع السياسي ( الفقيه الشافعي والمفكر الأشعري معا(1) .

العمل التبريري للماوردي:

__________

(1) انظر :

-سعيد بنسعيدالعلوي، دولة الخلافة/دراسة في التفكير السياسي عند الماوردي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط،1980.

-سعيد بنسعيد العلوي ، الخطاب الأشعري... سبقت الإشارة إليه.

(1/292)

1- الملاحظة الأولى أن أبا الحسن كان يحرص على الوحدة السياسبية، وحدة الدولة، بكل وجه وطريق. فالإمامة لا تكون إلا واحدة في الزمان الواحد، والإمام لا يكون واحدا بالتالي ، وإمامة من عداه ساقطة شرعا. وتلك الوحدة تنسحب على المؤسسات التشريعية الكبرى ( وهذا هو الشأن في وزارة التفويض : فهي واحدة بالضرورة )، وهي تسري على كل مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية كما هو الشأن في الصلاة الجامعة: " لا يجوز أن يقام في المساجد السلطانية جماعتان في الصلاة واحدة" - بل وإن الماوردي ليحرص على تحقق تلك الوحدة حتى في

(1/293)

المظاهر والرموز التي تعبر عنها : " ولبس السواد مختص بالأئمة في الصلوات التي تقام فيها دعوة السلطان اتباعا لشعاره الآن، وتكره مخالفته فيه وإن لم يرد به شرع تحرزا من مباينته"(1) ). ولكن الماوردي، الفقيه الممارس لشؤون الحياة العملية والمفكر السياسي الراجح الرأي، كان يرى. ويعلم أن " الوحدة" لم تكن كذلك إلا في علياء النظر والتأمل، فأما في حقيقة الواقع فقد كانت فرقة وتعددا، تزاحم بها سلطةالخليفة بل

__________

(1) أبو الحسن المارودي، الأحكام السلطانية، نشر بدر الدين النعساني،الطبعة الأولى،1909،القاهرة،ص. 246 .

(1/294)

وتطرد وتقصي في أحوال عديدة. وما يعلمنا تاريخ الفكر السياسي أن المفكر يلتجأ إليه فيفلح أن يخطئ في القيام به فهو التبرير: تبرير الواقع وتفسيره على نحو يحفظ للفكرة الحد الضروري من الاتساق والانسجام، وتفريع النظرية إلى نقتضيات وأحوال تنفيذ " الوحدة " من شر " التعدد " ولهيبه.

-2 الملاحظة الثانية إذن هي أن التشريع السياسي، في عمل الفقيه الماوردي، يخضع لضرورة التبرير ويعمل بما يمليه منطقه وضرورته معا. فما تقتضيه أحكام الإمامة، على النحو الذي تكون السلطة فيه واحدة ووحيدة، هو أن الولايات أو النيابات عن

(1/295)

الخليفة تكون أربعة أقسام : فإما ولابة عامة في أعمال عامة، كما هو الشأن في الوزراء. وإما ولاية عامة في أمور خاصة، وذلك شأن أمراء الأقاليم والبلدان . أو ولاية عامة خاصة في أعمال عامة " وهم كقاضي القضاة ونقيب الجيوش...". والقسم الرابع والأخير هو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة " كقاضي بلد أو إقليم أو مستوفى خراجه...". ولكن الواقع الفعلي هو أن الولاة كانوا يستبدون بالأمر حينا ، بل وإن الاستبداد ليصل درجة الاستقلال بالسلطة والحكم أو أنه يبلغ مرتبة من القوة يصبح فيها الوالي هو الحاكم الفعلي الحقيقي

(1/296)

الذي لم يتحرج، في أوقات من تاريخ الإسلام، من الحجر على الخليفة والتضييق عليه. وإذن فإن الولاية كانت " ولاية قوة واستيلاء" لا تنعقد عن اختيار الخليفة ورضاه فهي تتمايز، جملة وتفصبلا، عن الشكل الآخر الذي يشبه أحد الشكلين، الأول أو الثاني، من الوليات المذكورةأعلاه.. وبالتالي فقد وجب أن يشرع لها من الأحكام ما يحفظ على الخلافة ماء الوجه، وأن يضفي عليها من أشكال التبرير ما يحيل التعدد والتشتت في الدولة إلى الحدة والاجتماع. والماوردي يبلغ في أحكام " ولاية الاستيلاء" مبلغا عظيما من التشريع التبريري وأول

(1/297)

ما يقوله، في أحكام هذه الإمارة، هوأن الأمر فيها "وإن خرجعن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلا مدخولا ولا فاسدا معلولا فجاز فيه، مع الاستيلاء والاضطرار، ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز" (1) - فالتبرير يجد في المبدأالأصولي الذي يقضي بأن الضرورات تبيح المحظورات يجد متنفسا ومجالا للتشريع لأحكام هذه " الولاية" الغريبة من وقوعها فعلا.

__________

(1) المارودي، الأحكام السلطابية...،ص . 33 .

(1/298)

والتشريع، في هذا المجال، يقتضي النظر إلى المستولى من حيث استيفاؤه أو عدم استيفائه لشروط تراعى بها قوانين الشرع وتحفظ حرمته. فأما إن كملت في المسنولى " شروط الاختيار" فإن تقليده يكون " حتما استدعاء لطاعنه ودفعا لمشاقته ومخالفته وصار، بالإذن له ، نافذ التصرف فب حقوق الملة وأحكام الأمة (...) وجاز له أن يستوزر وزير تفويض ووزير تنفيذ". وأما إن لم تكمل تلك الشروط في المستولى فإنه يجوز " الخلافة إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته" وبالجملة فإنه، بالنظر إلى ما تقتضيه المصلحة العامة وما

(1/299)

يستوجبه الإقرار الضمني بالمبدأ الأصولي الآخر الذي يقضي بأن درأ المفاسد مقدم على جلب المنافع، أمام " التبربر" باب فسيح لا ينسد أبدا.

-3 والملاحظة الثالثة هي، في الواقع، استخلاص طبيعي مما تفيده الملاحظتان السابقتان جملة وما تفيده الأخيرة ومنهما خاصة وهي المتعلقة بما يمليه على الماوردي (الشافعي والأشعري معا ) فهمه الشخص لمعنى " المصلحة " وإدراكه لمكامن وجودها . ولعلي أرصد هذا الفهم في مثالين أكتفي بهما وآخذ أولهما من الباب الأول ( في عقد الإمامة ) وثانيهما من الباب العشرين ( في أحكام الحسبة) .

(1/300)

فعندما يعرض الفقيسه الشافعي للأحوال التي يتكافأ فيها شخصان اثنان في شروط الإمامة فإن ما يتعين اعتباره في الخلاف حاسما هو " ما يوجبه حكم الوقت" : ولا شأن لنا إلى التنبيه إلى ما يمكن أن يقود إليه الاجهاد في الوجوب وفي حكم الوقت معا ولربما غدت الإشارة، في ضوء ما سلف من تنبيهات، كافية بذاتها ومغنية عن التوضيح والتفصيل. وعندما يشرع الفقيه لأحكام الحسبة فإنه ينتهي إلى الحديث عن اجتهاد المحتسب فيما كان قد تقرر عن طريق العرف لا الشرع " والفرق بين الاجتهادين أن الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه

(1/301)

بالشرع، والاجتهاد العرفي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالمعرفة". ولا نظن أننا في حاجة إلى التذكير بأن كل أصل ينتج عنه فرع بل وفروع، ولا نحسب أننا في حاجة إلى عود على بدء نذكر فيه بالعلاقة الوطيدة التي تقوم بين الاجتهاد والقياس من جهة وما يقوم بين الاجتهاد وتوخي المصلحة من جهة أخرى.

وبعد، فنحن في عمل أبي الحسن الماوردي التشريعي في مجال السياسة (أو فقه المعاملات في معناهما الواسع ) أمام مقدرة هائلة على إعمال الفقهي في حل إشكالات الواقع المعقد والسيء معا، ولعل أفضل ترجمان لتلك المقدرة هو ما رأيناه، في

(1/302)

الفقرة السابقة فقط، من تمكن من إدراك معنى المصلحة وقدرة على تطويع المفهوم على نحو يتقاطع فيه الأصل الأول الذي يثبت بالشرع، مع الأصل الثاني الذي يتقرر بالعرف . ونحن في عمل الماوردي، الناظر في أحوال الأمم والباحث في قواعد الملك وطبائع السياسة، أمام المفكر السني وقد أمكنه أن يستوعب حظا من " علوم الأوائل" وجانبا غير يسير من " كتب الحكمة" وآداب الإنسانية التي تقع خارج دائرة الاعتقاد الإسلامي. وبالجملة، فنحن مع أبي الحسن الماوردي نقف عند لحظة من أشد لحظات النظر السياسي خصوبة في الإسلام، ونقف عند صورة

(1/303)

بهية مشرقة من صور الحظارة الإسلامية في بعدها الذكي الخلاق وفي جانبها الأكثر انفتاحا على رحاب الفكر البشري الشمولي.

(1/304)

أثر ابن رشد في الفكر السياسي الغربي

الدكتور عبد السلام بن مَيْسَ

كلية الآداب ـ الرباط

... نُنَبّه أولاً إلى صعوبة تناول الفكر السياسي الرشدي، نظراً لأسباب كثيرة أهمها:

... 1 ـ لم يُخَلِّف لنا ابن رشد شرحاً لـ"كتاب السياسة" لأرسطو كما فعل لباقي مؤلفات هذا الفيلسوف. وبهذا تضيع مِنّا فرصةٌ للتعرف إلى أفكار ابن رشد السياسية بشكل مفصل؛

... 2 ـ لما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فعل ذلك بأعين أرسطية؛ وبالتالي يصعب التمييز بين ما يعتقده ابن رشد من جهة وما يجعل ابن رشد أفلاطون وأرسطو يعتقدانه من جهة

(1/305)

ثانية وما يعتقدانه فعلاً من جهة ثالثة؛

... 3 ـ ما نعرفه عن شرح ابن رشد لـ"جمهورية" أفلاطون هو ما نقلته لنا الترجمات العِبْرية واللاتينيةِ(1)

__________

(1) ظهرت أول ترجمة لاتينية لتلخيص "الجمهورية" لابن رشد سنة 1489، على يد إيلي الكريتي (Elie de Créte) ولفائدة بيكو الميرندوني (Pico della Mirandola). ولكنها ضاعت. تلتها بعد ذلك ترجمة لاتينية أخرى ظهرت سنة 1539 م، على يدي يَعْقُوب مَنْتِينُوس (Jacques Mantinus) وتم تقديم هذه الترجمة هدية إلى البابا بولس الثالث. وهي مدرجة بين شروح ابن رشد على أعمال أرسطو التي طُبعت في البندقية سنة 1550 م. أما الترجمة العِبْرية، فقد ظهرت سنة 1321 م على يد شموئل بن يَهُودَا المُرْسلي. وحُققت ونشرت هذه الأخيرة مع ترجمة انجليزية من طرف المستشرق الإنجليزي روزنطال سنة 1956. وظهرت ترجمة عَرَبية للنسخة الأنجليزية سنة 1998 على يد الباحثَيْن حسن مجيد العُبيدي و فاطمة كاظم الذهبي (دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان). ولكن هذه الترجمة العربية رديئة جداً. وظهرت سنة 1998 أيضاً أول ترجمة عَرَبية للنّص العِبْري أنجزها الأستاذ أحمد شحلان، أستاذ اللغة العِبْرية بجامعة محمد الخامس بالرباط، تحت عنوان: الضروري في السياسة، ضمن سلسلة التراث الفلسفي العَربي، مؤلفات ابن رشد 4 مع مدخل ومقدمة تحليلية لمحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان. وهذه ترجمة يُعَوَّل عليها.

(1/306)

؛ أما النص العربي الأصلي، فقد ضاع. وهذا أمر يُعَقّد مهمة من يرغب في التعرف إلى الفكر الرشدي السياسي بدقّة:

... 4 ـ الخلط الذي حصل لابن رشد أو لمترجمه العِبْرِي عندما اعتبر "جمهورية" أفلاطون الجزء الثاني من كتاب "الأخلاق النِّيقُوماقية" باعتبار الفلسفة العملية تنقسم إلى قسمين: الأخلاق والسياسة(1).

... 5 ـ عندما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فنحن لا نعرف هل اعتمد على نص "الجمهورية" كما ترجمه حُنَين بن إسحاق أو على "جوامع"

__________

(1) انظر تعليق أحمد شحلان على "الضروري في السياسة"، ص ص. 221 ـ 222.

(1/307)

جالينوس للكتاب نفسه الذي كان هو أيضاً مترجماً إلى اللغة العربية على يد مترجم "الجمهورية" نفسه؛

... 6 ـ غموض مفهوم المدينة عند ابن رشد، على الأقل من خلال شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون؛

... 7 ـ تعدد مصادر الفكر السياسي الرشدي وتنوعها. فبالإضافة إلى شرح "جمهورية" أفلاطون، هناك:

... أ ـ شرح كتاب "الخطابة" لأرسطو؛

... ب ـ شرح "الأخلاق النيقوماقية"؛

... جـ ـ الشريعة الإسلامية؛

د ـ كتب ابن رشد التي ينتقد فيها المتكلمين (مثل كتاب "فصل المقال" وكتاب "التهافت" وغيرهما).

(1/308)

... وبالإضافة إلى هذه الصعوبات التي تطرحها المصادر، هناك صعوبات أخرى تطرحها المراجع والتي تتلخص في ندرة النصوص المتعلقة بالجانب السياسي من فكر ابن رشد بالمقارنة مع ما كُتب حول الجوانب الأخرى مثل الجانب الميتافيزيقي والجانب الفقهي والجانب العلمي وغيرها. والواقع أن مؤرخي الفلسفة لم يُولوا الجانب السياسي الرشديَّ الاهتمامَ الذي يستحقه بالمقارنة مع الاهتمام الذي حظِي به مثلا ابن سينا والغزالي والفارابي وإخوان الصفا والماوردي وابن خلدون وغيرهم. كما أهمل أغلب الباحثين، وربما كان هذا نتيجة لذاك، أثر

(1/309)

ابن رشد السياسي في الفكر المسيحي الغربي من خلال ما عُرف بالرشدانية اللاتينية. ولهذا سيكون موضوع بحثنا هذا هو المساهمة في إبراز مدَى ونوع التأثير الذي مارسه الفكر الرشدي، فلسفياً كان أو سياسياً، على الغرب المسيحي بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين.

...

الفكر السياسي الرشدي

... يبدأ ابن رشد شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون بالإقرار بأن الإنسان حيوان مجتمعي وأن النظام والتربية ضروريان لضمان السير السليم للمجتمع(1). لهذا فنحن بحاجة إلى وضع قوانين لتنظيم المدينة ـ الدولة.

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 74.

(1/310)

وهذا بالضبط ما فعله أرسطو قبله عندما اعتبر العلم قسمين: نظري وعملي. فالنظري هو الفيزياء والميتافيزيقا، والعملي هو الأخلاق والسياسة. وعن السؤال: من يستحق الحكم والسهر على السير المنظم للمدينة؟ يجيب ابن رشد بكل بساطة: هم الفلاسفة أو الأئمة، على أساس أن تتوافر فيهم مجموعة من الشروط(1) نوجز أهمها في ما يلي:

ـ أن يكون لدى الفيلسوف، أو الإمام، استعداد طبيعي لدراسة العلوم النظرية؛

ـ أن يحب الصواب ويكره الخطأ؛

ـ أن يكون شجاعاً؛

ـ أن يكون خطيباً بارعاً؛

__________

(1) المرجع نفسه، ص ص. 102 ــ 105 و 135 ـ 141.

(1/311)

ـ ألاَّ يحب المال،...

... يأخذ ابن رشد بنظام الشورى على طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه يحذّر من تحول حكم شوري ديموقراطي إلى نظام طغياني كما حصل مع معاوية في الحضارة الإسلامية.

... لننبه هنا إلى أن ابن رشد لم يُلَخِّص كل "جمهورية" أفلاطون. فلقد أسقط الكتاب العاشر لكونه، في اعتقاده، غير مفيد لعلم السياسة. وهو كتاب خصصه أفلاطون للشعر. كما أسقط أيضاً الكتاب الأول، لأنه ـ في اعتقاده ـ لا يحتوي إلا على تَعَقُّلاَت جدلية. وابن رشد يكره الجدل، لأنه لا يرقى إلى مستوى البرهان. وهذا ما يجعله يختلف كذلك عن

(1/312)

أرسطو. فالجدل عند هذا الأخير هو منطق السياسة، وهو وسيلة للتربية المدنية. أما ابن رشد، فيلح عن إبعاد الجمهور (أو عامة الناس) عن السياسة وعن كل علم متصل بها. ويعتبر أن المناسب لهم هو العلوم الدينية البسيطة. وبما أنه ينبغي إبعاد الجمهور عن السياسة، فإن التربية السياسية مسألة لا تعني ابن رشد. ويعترف أبو الوليد، تماماً كأفلاطون وأرسطو، بأن نظام الديموقراطية (أو الشورى) ليس أمثل الأنظمة السياسية، ولكنه أقل الأنظمة الفاسدة فساداً. وهو نظام يضعه أرسطو بين الملكية والطغيانية: فالملكية عنده هي أحسن أنظمة

(1/313)

الحكم(1)، ولكن كثيراً ما يحصل فيها أن يحكّم الملك عواطفه بدل القوانين. أما الطغيانية، فيرفضونها جميعاً. ويميل ابن رشد، تماماً كأفلاطون، إلى حكم النخبة، أي الفلاسفة. ولكنه يختلف عنه في ما يتعلق بتربية الناس. فابن رشد يدعو إلى التعامل مع عامة الناس بالأساليب الدينية دون محاولة ردهم إلى فلاسفة؛ أما أفلاطون، فيدعو الفلاسفة إلى تربية المواطنين، لأن الفلاسفة

__________

(1) انظر: أرسطو، في السياسة، الفصل الثاني عشر: »تعريف أفضل الأحكام السياسية تعريفاً موجزاً«، ص. 175 وما بعدها من ترجمة الأب أوغسطينس (1980).

(1/314)

أدْرَى بما هو خير من عامة الناس(1). ولكن ابن رشد يتفق مع أرسطو في إبعاد عامة الناس (أو ما يسميه أرسطو بالغوغاء) عن السياسة. ويتفق مع أفلاطون في إبعاد الفلاسفة المُفسدين، أي السفسطائية. والفلاسفة المفسدون ـ في نظر ابن رشد ـ هم المتكلمون. فهؤلاء يُضَلِّلُون عامة الناس، باعتبارهم يعتمدون منهج الجدل الذي لا يرقى إلى الحقائق البرهانية. فابن رشد يعتبر المتكلمين خطراً

__________

(1) انظر المقدمة التحليلية التي أدرجها محمد عابد الجابري في ترجمة أحمد شحلان لكتاب: الضروري في السياسة المذكور أعلاه، ص ص. 59 ـ 60.

(1/315)

حقيقياً على صفاء الإسلام وعلى أمن الدولة. ويطلب من السلطات الحاكمة أن تمنع هؤلاء المتكلمين من توصيل معارفهم إلى عامة الناس.

... يتضح مما تقدم أن ابن رشد لا يكتفي بشرح الفلاسفة اليونان، بل يتخذ من حين لآخر مبادرات تميزه عنهم. والواقع أن الإشكالية السياسية التي يَسْتَحْضرها ابن رشد في ذهنه والتي يعيشها في الواقع تختلف عن التي انطلق منها أرسطو وأفلاطون. فبالرغم من كون ابن رشد يأخذ برأي أفلاطون في اعتبار المدينة محكومة من طرف الفلاسفة(1)

__________

(1) ابن رشد، الضروري في السياسة، ترجمة أحمد شحلان، ص ص. 135 ـ 137.

(1/316)

، فإن هؤلاء الفلاسفة عند ابن رشد غير ملحدين. فهم جميعاً يؤمنون بالله وبنبوة محمد وبإعجازية القرآن. أضف إلى ذلك أن ابن رشد يفترض أن الشريعة الإسلامية تتضمن تعاليم تتجاوز نواميس أفلاطون، لأن هذه الأخيرة مجرد تعاليم وضعية.

... من كل هذا يمكن أن نستنتج أن ابن رشد لم يقلد لا أفلاطون ولا أرسطو في مجال السياسة، بل وظّف أقوالهما في هذا الميدان لتتناسب مع الشريعة الإسلامية وصاغ من كل ذلك موقفاً شخصياً يختلف عن موقفي أستاذيه اليونانيين. ولكنه، بالرغم من ذلك، لم يتمكن من بناء نظرية في السياسة متميزة.

...

(1/317)

الأسس الفسلفية للرشدانية اللاتينية

... الرشدانية اللاتينية هي نزعة فلسفية انتشرت بالغرب اللاتيني في الفترة المحصورة بين ق 13 و 17م، وانطلقت من الاعتبار القائل بأن فلسفة ابن رشد تُمثل أحسن الشروح الفلسفية لأرسطو ويمثلان مجتمعين الحقيقة بعينها. لقد انتشر بين الرشدانيين اللاتين قولهم: Aristotelis doctrina est summa veritas. نُنَبِّه هنا إلى أننا نتبنّى مصطلح »الرشدانية« للإحالة على نزعة فلسفية، وذلك لتمييزها عن »الرشدية« باعتبار هذه الأخيرة مجرد صفة أو نعت وليس اسماً لمذهب أو نزعة. ظهرت هذه النزعة

(1/318)

عند اليهود وعند المسيحيين، ولم تظهر عند المسلمين. مَثَّلها عند اليهود إسحاق البلاق (Isaac Albalaq: ق 13 م) وليفي بن غرسون (Levi Ben Garson: ق 13 ـ 14 م) وموسى النربوني (Moïse de Narbone: ق 13 ـ 14 م) وغيرهم. أما عند المسيحيين، فللرشدانية تاريخ طويل بدأ مع نشأة الجامعة الفرنسية بباريز خلال القرن 13 م ومع ترجمات أعمال ابن رشد التي قام بها ميكائيل سكوت بين 1225 م و 1235 م. وقد وصلت هذه الترجمات إلى باريز بُعَيْد 1230 م. وهناك تشكلت النواة الأولى للرشدانية بين 1250 و 1270 م. وفي هذه الفترة بَدَأ

(1/319)

أساتذة الجامعة الفرنسية يُحيلون على الترجمات اللاتينية لأعمال ابن رشد التي كانت عبارة عن شروح وتلاخيص لأعمال أرسطو. لكن سُرْعَان ما تنبه علماء اللاهوت (مثل ألْبِرْت الأكبر وطوما الأكويني وبونا فتتورا وغيرهم) إلى الخطورة التي تشكلها هذه الفلسفة على العقيدة المسيحية. ولهذا عمد البابا وممثلوه إلى منع مجموعة من الأطروحات نُسبت عن حق أو عن باطل إلى ابن رشد وأرسطو. ومن أهم هذه الأطروحات ما يلي:

... ـ وحدة العقل الهيولاني بالنسبة للكائنات البشرية؛

... ـ نفي خلود الروح واليوم الآخر؛

(1/320)

... ـ قِدَمُ العالم المادي؛

... ـ نفي العناية الإلهية.

... هذه هي أهم الأسس الفلسفية للرشدانية اللا تينية، أُضِيفَ إليها فيما بعد مُكَوِّن آخر أساسي يتمثل في ازدواجية الحقيقة التي نسبت إليه، بالرغم من كون ابن رشد لم يَقُل بها. وبما أن انعكاسات هذه الأطروحة على المجال السياسي القروسطوي أساسية، فلابد من أن نتوقف عندها قليلاً.

... يمكن صياغة أطروحة ازدواجية الحقيقة كما يلي: »من الممكن أن نحصل على نتيجتين متناقضتين وصادقتين في الوقت نفسه: الأولى عقلية، والثانية دينية«.

(1/321)

... أيهما أسمى عند ابن رشد؟ هذه مسألة لا تزال قيد المناقشة ولا يمكن البتُّ فيها بشكل نهائي. صحيح أن ابن رشد يعترف بالحقيقة العقلية ويمجدها، ولكنه صحيح أيضاً أن فيلسوفنا يعترف بالحقيقة الدينية.

... من المحتمل جداَ أن يكون ابن رشد قد وضع الحقيقة الفلسفية في قمة المعرفة البشرية. وهذا ما فعله القديس طوما الأكويني أيضاً. غير أن هذا الأخير يعترف صراحة أن الإيمان أكثر يقيناً من العقل. أما ابن رشد، فيترك الحكم معلقاً.

(1/322)

... من الناحية الجغرافية، انتشرت الرشدانية أولاً في باريس خلال ق 13 م. ومن أبرز ممثليها آنئذ سيجي البرابنتي (Siger de Brabant) وبوويتيوس الداسي (Boèce de Dacie). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "الخير الأسمى" (De Summa bona) فيه يمكن التعرف إلى رشدانيته: فالعقل عنده هو الذي يضمن السعادة، لأن معرفة الحقيقة العقلية هي مصدر السعادة. والكتاب كله عبارة عن إشادة بالممارسة العقلية المحض(1).

__________

(1) حوال اللذة العقلية عند ابن رشد، انظر المرجع السابق، ص ص. 204 ـ 206.

(1/323)

... انتقلت الرشدانية إلى جامعة بادوفا بإيطاليا، وهناك مثلها الكاتب والشاعر المعروف دانتي (Dante) ومارسيليو البادوني (Marsile de Padoue) ويوحنا اليندوني (Jean de Jandun) وتَاديو البارمي (Toddeo da Parma) وغيرهم. ثم في القرن 15 م بإيطاليا نفسها ظهر رُشدانيون آخرون مثل: Nichola Vimias وبولس البندقي (Paul de Venise) وأغوتينو نيفو (Agotino Nifo) ثم بعدهم، في ق 16 م، ظهر Lacopo Zabarella، وهو فيزيائي و Marcontoni Zimara وغيرهم.

(1/324)

... يتبين من كل هذا أن الرشدانية غزت المراكز الثقافية القروسطوية بأوروبا وساهمت في فشل الثقافة السكولائية التي دشنها القديس أوغسطينوس ودافع عنها القديس طوما الأكويني والقديس ألبرت الأكبر وغيرهما. ويتبين من هذا أيضاً أن الرشدانية أثرت في كل الأذواق. لهذا لا ينبغي أن ننتظر نشأة رشدانية واحدة مضبوطة المعالم وملتزمة بكل أفكار ابن رشد. بل إن الرشدانية اللاتينية هي تاريخ أفكار ليست لابن رشد وحده. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل بعض الباحثين الغربيين (مثل Steenberghen و Jeaneau و Renan) يرفضون تسمية

(1/325)

»الرشدانية اللا تينية«. بل من بين هؤلاء (رينان مثلاً) من يرفض حتى التسمية »فلسفة إسلامية«(1). يؤكد Steenberghen أنه لم توجد قط مدرسة رشدانية لاتينية خلال القرن 13 م. وليس هناك تلامذة لابن رشد في الغرب المسيحي تَبَنَّوا كل مذهبه. بل إن سيجي البرابنتي (Siger de Brabant)، الذي يُعتبر من

__________

(1) انظر مثلاً: Van Steenberghen, "L'Averroïsme latin au XIIIè siècle", in: Multiple Averroès, 1978, pp. 283-286; E. Renan, Averroès et l'Averroïsme, 1952, Nouvelle édition de Maisonneuve et la Rose, Paris, 1997.

(1/326)

كبار رواد الرشدانية المسيحية، لم يُحل على ابن رشد إلا مرتين، وذلك في كتابه De anima intellectiva(1). ولم يقدم سيجي البرابنتي نفسه على أنه رُشْدَانِيّ قط، ولم يُفهم قط من معاصريه أنه رشداني. وهكذا يستنتج Steenberghen في مقال له تحت عنوان »الرشدانية اللاتينية في ق 13 م« (بالفرنسية) أنه لا توجد مدرسة رشدانية ولا يوجد رشدانيون تَبَنَّوا فلسفة ابن رشد في مجموعها. لهذا، في اعتقاد Steenberghen، لا يمكن الحديث عن رشدانية

__________

(1) Siger de Brabant, De anima Intellectiva, éd. B. Bazan, Louvain, Paris, 1972.

(1/327)

لاتينية ولا عن أثر ابن رشد في اللاتين!

... يبدو أن في موقف هذا الباحث شيئاً من التعسف. فكيف يفسر قولَ يوحنا اليندوني مثلاً بأن هذا الأخير يرغب لا في أن يكون تلميذاً لابن رشد وأرسطو فقط، بل أن يكون قرداً (Singe) لهما. فابن رشد بالنسبة ليوحنا، وعلى حد قوله: Perfectissimus et gloriosissimus Philosophicae veritatis amicus et defensor. ولقد تبنى الموقف نفسه كثير من الرشدانيين الإيطاليين حتى القرن 17 م. والواقع أن الذي أُخِذَ عن ابن رشد ليس هو كل فلسفته، وإنما فقط روحها التي تتمثل في صبغتها

(1/328)

العقلانية. وهذا وحده يكفي للحديث عن رشدانية فلسفية وعن انعكاساتها في الميدان السياسي.

...

الانعكاسات السياسية للرشدانية اللاتينية

... بعد نُضْج النظريات الفلسفية التي تبناها الرشدانيون الفلاسفة، وخاصة حول العقل والمادة والخلق، أدت تلك النظريات إلى ظهور تطبيقات لها في ميدان السياسة. ومع الأسف الشديد، لم يتم الاهتمام حتى الآن بالجانب السياسي للرشدانية اللاتينية، باستثناء بعض الإشارات العابرة من حين لآخر في الكتب التي تؤرخ للفلسفة القروسطوية. ومن الموسف كذلك أن كبار بعض المتخصصين في الرشدانية، مثل

(1/329)

رينان، أهملوا تمام الإهمال الجانب السياسي لهذه النزعة. وبالرغم من ذلك، فقد كان للرشدانية اللاتينية، أثناء القرنين 14 و 15 الميلاديين، صبغة ثورية لأنها قَلَبَتْ كل مفاهيم الكنيسة.

... تَمَيَّز الوضع السياسي القروسطوي بأوروبا بميزة خاصة تمثلت في الصراع القائم بين البابا بما هو سلطة دينية والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل الساحة السياسية.

... يمكن إرجاع الأسس الفلسفية للتيوقراطية المسيحية إلى ما سُمِّي بالأُوغوسطينانية (Augustinisme)

(1/330)

نسبة إلى القديس المغاربي أوغسطينوس (ق 14 م). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "المدينة الإلهية" (De civitate Dei)، يدافع فيه عن تيبوقراطية بابوية تتمثل في سمو سلطة البابا على المستويين الديني والدنيوي على سلطة الملك أو الإمبراطور(1). ويُعتر البعد الروحي في هذه المدينة

__________

(1) St. Augustin, De civitate Dei (la cité de Dieu), Vol. 33-37 de Corpus christianorum, Series latina, éd. bilingue dans la "Bibliothèque augustinienne", en cours depuis 1936, Int. et Notes: G. Barby, Trad. G. Combès, 1959-1960.

(1/331)

أساسَ كل شيء. أما البعد الدنيوي فيها، فليس له إلا دور ثانوي. ومن الممكن أن توجد الدولة إلى جانب الكنيسة، ولكن لابد للأولى من أن تبقى في خدمة الثانية وأن تكون السلطة التي يتمتع بها الإمبراطور مِنْحَةً من الكنيسة وأن مصدر كل سلطة على الإطلاق هو الله.

... بالإضافة إلى المدينة الإلهية الأوغسطينية، كانت هناك مدينة المؤمنين التي تصورها روجر بيكون في كتابه Opus Tertium، حيث النص الديني هو القانون الأسمى(1). والعلوم بهذه المدينة

__________

(1) Roger Bacon, Opus Tertium, J. S. Brewer, London, Longman, 1859.

(1/332)

متراتبة تتلقى الدنيا منها مبادئها من العليا، وأعلاها هو الوحي؛ أما الفلسفة، فلا تصلح إلا لاستخلاص الحكمة من النصوص المقدسة. ويكون سكان هذه المدينة مُتَّحدين تحت سلطة البابا. ويتصور بيكون العالم كله بأنه ممثِّلٌ لهذه المدينة ومحتَضِنٌ لمجتمع وحيد تَتَّحِدُ فيه كل الأمم تحت ظل البابا. ففي هذه المدينة ـ يقول بيكون ـ »سوف يدخل اليونان تحت طاعة الكنيسة وسوف يعتنق أغلب الرومان المسيحية. أما العرب والمسلمون، فسوف يُدَمَّرون« (Op. Tert. XXXIV). في هذه المدينة تَتَرَكَّز السلطة بيد رجال الدين المثقفين،

(1/333)

أي علماء اللاهوت. وهذا نموذج من نماذج الحكم التيوقراطي الذي تخضع فيه كل مكونات المجتمع لسلطة البابا ويكون فيه النص المقدس هو الدستور. وهذا مناف تماماً لما تصوره ابن رشد، باعتبار أن هذا الأخير يرفض تدخل المتكلمين ورجال الدين في السياسة. وقد استغل أعداء التيوقراطية المسيحيون هذا الفصل بين الفكر الفلسفي والفكر الديني ليترجموه إلى فصل بين الكنيسة والدولة أو بين الفكر العقلاني واللاهوت.

... كانت هناك محاولات لتكييف الرشدانية مع العقيدة المسيحية ومع النزعة الأوغسطِينَانية ومع النزعة الأوكمانية، وكان

(1/334)

من المفروض أن تتحول الرشدانية إلى أوكمانية، ولكن هذا لم يحصل. وبالرغم من مضايقة الرشدانية للأوغسطينانية، فإن هذه الأخيرة واصلت تطورها على يد طوما الأكويني ويوحنا سكوت (Jean Scot) الذي مزج أرسطو بأوغسطينوس لخدمة المسيحية. وازدهرت الأوغسطينانية على الخصوص بفرنسا خلال القرن 17 م، حيث أدّت دوراً أساسياً في تطوير النزعة الديكارتية في صيغتها المالبرانشية. واستمر انتعاش هذا المذهب حتى خلال ق 18 م.

... المشكل الأساسي الذي طُرح بأوروبا خلال القرون الوسطى يتمثل في معرفة موطن الحقيقة: هل هو النص المقدس أو

(1/335)

العقل أو هما معاً. وهنا أدّت أطروحة ازدواجية الحقيقة المنسوبة لابن رشد دورها السياسي. فأعداء الكنيسة لا يعترفون إلا بالحقيقة العقلية، أو يعترفون بهما معاً ولكن يُرَجّحون الحقيقة العقلية. وهذا هو موقف يُوحَنَّا اليندولي الذي اكتسبت الرشدانية معه صبغة سياسية محضاً. فهو يعترف بخلود الحركة والعالم وينكر الحياة الأُخروية ويعادل بين نتائج العقل والتجربة والنتائج الفلسفية التي توصل إليها ابن رشد ولا يُخفي دفاعه عن هذا الأخير وعداءه للقديس طوما الأكويني. يبدو، من خلال انطباعات يوحنا اليندولي حول ابن

(1/336)

رشد، أن الذي أعجب الأوروبيين في أبي الوليد هو عقلانيته ومنهجه في البحث والتفكير الذي يعتمد على التناول العقلي والبرهان.

... وفي زمن يوحنا نفسه (أي في ق 14 م) ظهر مارسيليو البادوفي المعروف بميوله للرشدانية وباستغلاله لأفكار ابن رشد في المجال السياسي، وخاصة أطروحة الفصل بين العقل والإيمان الذي أصبح فصلاً بين الروحي والدنيوي، بين الكنيسة والدولة. وهكذا يمكن اعتبار كتاب Defensor Pacis (1324 ) لمارسيليو مثالاً حياً لتطبيق الرشدانية في ميدان السياسة. في هذا الكتاب يميز المؤلف بين شكلين من الحياة:

(1/337)

الحياة الدنيوية التي يتولى أمْرَهَا الملوك حسب التعاليم الفلسفية، والحياة الأُخروية التي يتولّى أمرها رجال الدين وعلى رأسهم البابا، بناء على التعاليم الواردة في النصوص المقدسة. وهنا يتبين أن مارسيليو لا ينكر دور الدين في المجتمع تماماً كما هو حال ابن رشد. لكنه بالرغم من قوله بالحياة الأخروية، فهو يعترف أنها غير قابلة للبرهنة. فهو يقبلها فقط، نظراً للدور الاجتماعي الذي يؤديه الإيمان بها في صفوف عامة الناس: فهي تدفع المواطنين إلى التزام الهدوء واحترام الأخلاق. ومن هنا يتضح أن اعتراف مارسيليو

(1/338)

برجال الدين لا يعني أن لديهم الحق في التدخل في السلطة. بل إن دورهم هو مجرد دور استشاري. لقد دافع مارسيليو عن فصل الدين عن الدولة وناضل من أجل عَزْل الكنيسة عن الشؤون العامة للناس؛ لأن المدينة قادرة على إدارة نفسها بنفسها بناء على المجهودات العقلية التي يبذلها الفلاسفة. وانطلاقاً من هذه الفترة، أصبح الفصل بين الكنيسة والدولة أمراً واقعاً.

... قام أليغييري دانتي (Alighieri Dante) هو أيضاً بالتحويل نفسه: تحويل الأفكار الرشدية من الفلسفة إلى السياسة. ففي كتاب له تحت عنوان De Monarchia وَظَّف الكاتب

(1/339)

أفكار ابن رشد لتحقيق مَلَكِيَّة كَوْنية. وفي كتابه Divina comedia يتبين أن دانتي تأثر كثيراً بأرسطو وبشارِحه ابن رشد. وفيه أيضاً يدعو إلى فصل الدين عن الدولة. وفي الكتابين معاً يحلل دانتي مشكلتين أساسيتين: ضرورة وجود إمبراطور واحد لتحقيق السعادة الدنيوية، ثم ضرورة استقلال السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية. ويصرح دانتي أن احترام حقوق الإنسان هو نفسه احترام للإرادة الإلهية. ولا ينبغي للإمبراطور أن يستمد سلطته من البابا. وينتهي دانتي إلى القول بأن الفلسفة هي الوسيلة الوحيدة إلى تحقيق السعادة

(1/340)

الدنيوية. أما اللاهوت، فهو وسيلة لتحقيق السعادة الأخروية. وهنا يختلف دانتي عن باقي الرشدانيين في كونه يعترف باليوم الآخِر. غير أنه، في كتابه De Monarchia، يُدخل البابا إلى جهنم ويدخل الرشداني سيجي البرابنتي إلى الجنة.

... لا داعي للاستمرار في إحصاء الرشدانيين واحداً واحداً. يكفي القول بأن الموقف نفسه تبناه كثير من الفلاسفة المسيحيين ذكرنا أهمهم. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى مثل الفيلسوف والطبيب البادوفي Pietro d'Abano والفيلسوف الفلكي البارمي Taddeo de Parme صاحب كتاب Questiones de anima

(1/341)

والمنطقي Angelo d'Arezzo وغيرهم.

... بالإضافة إلى هؤلاء الرشدانيين الإيطاليين الذين تَبَنَّوا موقفاً جُحُودِيّاً متطرفاً للنيل من الكنيسة، ظهرت بابريطانيا »الأُوكمانية السياسية« التي سعت بدورها إلى فصل السلطة الدينية عن الفلسفة على الطريقة الرشدانية. وهذا لا يعني أن كَيوم الأوكامي (ق 14 م) لا يعترف بسلطة دينية، بل على العكس من ذلك. فالله عنده هو الذي خلق الطبيعة وقوانينها، ولكنه لا يتدخل في سيرها كما لا ينبغي أن يتدخل في سير المجتمعات المدنية. وانطلاقاً من الافتراض الفلسفي الذي ورثه كَيوم

(1/342)

الأوكامي عن ابن رشد والذي لا يعترف بوجود الكليات، يؤكد كَيوم أن الموجود الحق، على المستوى السياسي، هو الأشخاص. وليس هناك جسم اجتماعي، بل هناك تجمع (Congrecatio) لوحدات متمايزة. وبناء على هذا المنظور، فإن السلطة السياسية مرتبطة باتفاق الناس. وكل المؤسسات السياسية قائمة على القابلية للتغيّر. يقوم كَيوم الأوكامي ضد الكنيسة ويعتبر الإمبراطور هو السلطة الوحيدة المعقولة. فالله لم يكلف السلطة الدينية بتطبيق القوانين الوضعية. ويُعْتَبَرُ كَيوم هذا من كبار الذين دافعوا عن الفِكْر العلماني في القرون

(1/343)

الوسطى، لأنه كان ضد التيوقراطية البابوية.

...

الامتدادات الحديثة للرشدانية السياسية

... منذ ظهور الرشدانية في الغرب المسيحي، أخذ الموقف المؤيد للسلطة المدنيّة يزداد انتصاراً على الموقف المؤيد للدين. ولقد تحقق هذا بشكل أوضح مع ظهور مدونة حقوق الإنسان، خاصة في بندها الثالث الذي يقول: »مبدأ كل سيادة (أو سلطة) يكمن فقط في الأمة (أو الوطن). ولا يمكن لأي إنسان أن يمارس سلطة تخرج عن اختصاصه«. أضف إلى ذلك أن مدونة حقوق الإنسان سعت إلى إبدال إشكالية العلاقة بين الديني والدنيوي بإشكالية الدين المدني. وفي

(1/344)

هذا الإطار كان روسو يحاول الدفاع بحماس عن فكرة التسامح الديني وحرية التدين. ولقد نجحت الولايات المتحدة في فصل الدين عن الدولة وفي حرية التدين منذ 1791 م، بينما لم تستطع فرنسا أن تخلُق جواً ملائماً لحرية التدين، لهذا اخترعت فكرة اللائكية.

... يمكن إذن اعتبار حركة حقوق الإنسان والنزعة اللائكية في العصر الحديث وكذلك حركة الأنوار امتداداً للرشدانية السياسية القروسطوية.

... من الملاحظ أيضاً أن العالم الإسلامي لم يستفد لا من العقلانية الرشدية ولا من امتداداتها السياسية، سواء في القرون الوسطى أو في

(1/345)

العصر الحديث. لقد توافرت في العالم الإسلامي القروسطوي كثير من العوامل الثقافية التي كان بإمكانها أن تغير من توجه الصراع على السلطة ليميل نحو استقلال الدنيوي عن الديني: لقد كان هناك فلاسفة مسلمون ابتداعيون، بل وأحياناً مُلحدون. لقد عبر إخوان الصفا عن ميلهم الواضح إلى أرسطو وأفلاطون أكثر من ميلهم إلى التقليد النبوي، واعتقدوا أنه ليس هناك ديانة وحيدة تملك الحقيقة. أما الفارابي، فقد مجد العقل واعتبره كافياً لضمان سعادة الإنسان. وصارع ابن رشد المتكلمين والفقهاء طيلة حياته. بل حتى الشعراء، مثل

(1/346)

المتنبي وأبي العلاء المعري، دافعوا عن العقلانية بوسائلهم الخاصة. ولكن بالرغم من ذلك، كانت الغَلبة لسلطة الفقهاء. وهذا عكس ما حصل في العالم المسيحي القروسطوي.

المصادر المراجع

بالعربية

أرسطو، في السياسة، نقله من الأصل اليوناني إلى العربية وقدّم له وعلق عليه: الآب أوغسطينس برباره البولسي، الطبعة الثانية، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، 1980.

ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العِبْرية أحمد شحلان، وقدّم له محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،

(1/347)

1998. انظر هذا المقال، هامش 1.

أمليل، علي، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان.

الخضيري، زينب، أثر فلسفة ابن رشد في العصور الوسطى، بيروت، لبنان.

بالأجنبية

ARNALDEZ R., Averroès, un rationaliste en Islam, Le Nadir, 1998.

BACON ROGER, Opus Tertium, J. S. Brewer, London, Longman, 1859.

BADAWI A, Histoire de la Philosophie en Islam, Vol. II: Les philosophes purs, Paris, Librairie philosophique, J. Vrin, 1972.

(1/348)

BOECE DE DACIE, De summo bono (Le bien suprême), N. J. Green Pederson, (CPhD vi/2), 1976.

CARLYLE R. - W, A History of Medieval Theory in the West, 1903-1928.

DANTE ALIGHIERI, Divine comédie, éd. Bilingue, trad., introd. et notes J. Risset, Paris, Flammarion, 1985.

- - , Œuvres complètes, trad. et comm. A. Pézars, 5ème

éd. coll. "La Pléiade", 1983.

- - , Monarchia, éd. P. G. Ricci, Milan, 1965.

DE LAGARDE G., La naissance de l'esprit laïque au déclin du Moyen Age, I, Bilan du XIIIè siècle, éd.

(1/349)

Béatrice, Saint-Paul-Trois-Chateaux; II, Marsile de Padoue, Ibid., 1934.

- - , La naissance de l'esprit laïque, III: Le defensor pacis, Louvain, Paris, Nauwelaerts.

DE LIBERA A, Averroès, L'intelligence et la pensée, Paris, GF. Flammarion.

- - , Penser au Moyen Age, Paris, Seuil, 1991.

FAROUKI NAYLA, La foi et la raison, Histoire d'un malentendu, Flammarion, 1996.

GILSON E., «Boèce de Dacie et la double vérité», in: Archives d'Histoire doctrinale et littéraire du Moyen Age, vol. 22, 1955, pp.

(1/350)

81-99.

GILSON E. (1922), La philosophie au Moyen Age, Paris, Vrin, 2è éd. Payot, 1952 (en deux volumes) rééditée en 1976.

JEAUNEAU E. (1963), La philosophie médiévale, Paris, PUF, 2è éd. 1967, coll. Que sais-je?.

LEGOFF J., les intellectuels au Moyen Age, Paris, Seuil, 1985

MARSILE DE PADOUE (1933), Defensor Pacis (Le défenseur de la paix), éd. R. Scholz, Hanovre, Trad. fr. J. Quillet, Paris, Vrin, 1968.

(1/351)

QUADRI G. (1947), Philosophie arabe dans l'Europe médiévale des origines à Averroès, Paris, Payot.

QUILLET J., La philosophie politique de Marsile de Padoue, Paris, Vrin, 1970.

RENUCCI P., Dante, Paris, Hatier-Boivin, 1958.

- - , L'Aventure de l'humanisme européen au Moyen Age,

Paris, Les Belles Lettres, 1953.

ROSENTHAL E. I. J., Averroes' Commentary on Plato's Republic, Cambridge: At the University Press.

SIGER DE BRABANT, De anima intellectiva, éd. B. Bazan, Louvain/ Paris, 1972.

(1/352)

ST. AUGUSTIN, De Civitate Dei (La cité de Dieu), Vol. 33-37 de Corpus christianorum, Series latina, éd. bilingue dans la "Bibliothèque augustinienne", en cours depuis 1936, Introd. et Notes: B. Bardy, Trad. G. Combès, 1959-1960.

VAN STEENBERGHEN F., Maître Siger de Brabant, Louvain/ Paris , (Philosophes médiévaux, XXI), 1977

- - , "L'Averroïsme atin au XIIIè siècle", in:

Multiple Averroès, Actes du coll. intern. organisé a l'occasion du 850è anniversaire de la naissance d'Averroès, Paris, 20-23

(1/353)

sept., 1976, Paris, 1978, pp. 283-286.

(1/354)

أثر الاستعمار في تشويه تاريخ الأمة العربية والإسلامية

... ... الدكتور محمد محمود السروجي

... أستاذ التاريخ الحديث المعاصر كلية الآداب - جامعة الإسكندرية

... الحركة الاستعمارية ليست حديثة العهد، بل هي قديمة قدم التاريخ المكتوب، وإن كانت لم تعرف بهذا الاسم إلا في العصر الحديث. فالاستعمار يعني استيلاء دولة على ممتلكات دولة وتقاليدها وتاريخها ما استطاعت والاستبداد، ومحاولة تغيير ثقافة الدولة المغلوبة وتقليدها وتاريخها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وقد أثرت تلك الحركة تأثيرا قويا في السياسة الدولية في

(1/355)

هذا العصر.

... ولفهم وسائل وأساليب الاستعمار في تزييف وتشويه تاريخ الأمم والشعوب التي نكبت به بصفة عامة والدول الإسلامية بصفة خاصة، لا بد لنا من الإلمام بأقوال دهاقنة الاستعمار من رجال السياسة والفكر في أوربا، ممن كانت لأقوالهم وأفعالهم أكبر الأثر في دفع حركة الاستعمار وفي تطورها وتوجيهها الوجهة التي يريدونها. فمن هذه الأقوال ندرك زيف ادعاءاتهم منذ بدايات ومقدمات الحركة الاستعمارية. ومن المنطقي أن تؤدي المقدمات الزائفة إلى نتائج زائفة. فليس من العسير على هؤلاء أن يشوهوا تاريخ الشعوب التي حكموها

(1/356)

ليبرروا وجودهم رغم أنف تلك الشعوب.

... هذه كلمة سقتها في بداية بحثي نبراسا يهدينا في دروبه وفي منعطفاته,

... أما عن الأساليب والدوافع التي تذرعت بها الدول الكبرى لتبرير استعارها - غير الأسباب الحقيقية التي تهدف إلى التملك والتسلط والسيطرة على مقدرات الشعوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا، واستنزاف مواردها لخدمة ولرفاهية شعوب تلك الدول الكبرى - فهي

متعددة، فمنها من اعتبرها مسألة كرامة أو هيبة ( Prestige) مثل بنجامين دزريلي ( Benjamin Disreali) (1)

__________

(1) درزيلي ، بنجامين ( 1804-1881)، سياسي بريطاني، تولى رئاسة الوزراة البريطانية مرتين عام 1868 و ( 1874- 1880) وعرف بسياسته الاستعمارية. وأهم أعماله شراء أسهم مصر في قناة السويس سنة 1875.

(1/357)

وزير خارجية بريطانيا ورئيس وزرائها في خطابه الذي ألقاه في ( Crystal Palace) في عام 1289هـ/ 1872 م وكأن هيبة الدولة وكرامتها لن تصبح حقيقة واقعة إلا باستبعاد غيرها من الشعوب.

... ولم يكن دزيلي وحده - وقتئذ- يفتخر بعظمة الإمبراطورية البريطانية وإنجازات بريطانيا الاستعمارية ، بل شاركه في ذلك كثيرون من رجال السياسة والفكر أمثال شارلز دلكه (Charles Dilke) (1)

__________

(1) دلكة، شبالز ( 1843-1991)، من رجال السياسة والفكر الإنجليز، وممن أيد السياسة الاستعمارية ومجد الإمبراطورية البريطانية في كتابه Greater Britain)) الذي نشر في عام 1868.

(1/358)

، جيمي فرود ( James Froude)(1) وجون سيلي ( John Seeley) (2) ،وتوماس كارليل Thomas Caryle)) (3) ، وشارلز كنجلسي ( Charles Kingsley) (4)

__________

(1) فرود، جيمس ( 1818- 1894)، وهو مؤرخ وكاتب ، وممن أشادوا بالإإمبراطورية البريطانية في كتابه الأقيانوسية ( Oceana) الذي صدر في عام 1886.

(2) سيلي، جون ( 1843-1895) ، أيد حركة الاستعمار ومجدها في كتابه ( Exapansion Of England) ونشر في عام 1883.

(3) كارليل، توماس ( 1795-1881)، وهو كاتب ومؤرخ وفيلسوف إنجليزي.

(4) كنجلي ، شارلز ( 1819- 1975) ، وهو رائي وقس إنجليزي،بارك الحركة الاستعمارية، وحاول التوفيق في كتاباته بين العلم الحديث والعقيدة النصرانية.

(1/359)

،وجون رسكن ( John Ruskin) (1) ، وألفريد تنيسون ( Alfred Tennyson) (2) ، ولورد سولسبري (Lord Salibryry) (3) ،وجول

__________

(1) رسكن، جون ( 1819 - 1900) ،وهو كاتب فنب إنجليزي، وإلى جانب تأييده للحركة الاستعمارية، اهتم بدراسة المجتمع الصناعي الجديد وبيان مساوئه.

(2) تنيون، الفريد ( 1809- 1892)، وهو شاعر إنجليزي ويعد من أكبر شعراء العصر الفيكتوري.

(3) لورد سولسبري ( 1830 - 1903) من كبار رجال الدولة في بريطانيا وهو من حزب المحافظين وقد تولى رياسة الوزارة.

(1/360)

فيري Jules Ferry) ) (1) ،وسيسيل رودس ( Cecil Rodes) (2) وهوراشيو كتشنر ( Herbert Kitchener ) (3)

__________

(1) فيري، جول ( 1832-1892) ، وهو سياسي فرنسي كبير، تولى رئاسة الوزارة الفرنسية في اعوام ( 1880- 1881) و ( 1883- 1885) وعرف بسياسته الاستعمارية.

(2) سيسيل، رودس ( 1853-1902) ، وهو أحد رواد الاستعمار البريطاني ومن أنشط رجال المال والسياسة الإنجيز، قضى شطرا كبيرا من حياته في جنوب إفريقيا الجنوبية،وشجعته الحكومة الإنجليزية على إنشاء مستعمرة روديسيا ( زبمبابوي حاليا) سنة 1890.

(3) كتنشر،هوارشيو هربرت ( 1850- 1916)، مارشال بريطاني،وأصبح وزيرا للحربية البريطانية عام ( 1914- 1916).

(1/361)

،وغيرهم.

... ومن الادعاءات الزائفة لتبرير الاستعمار ادعاؤهم بأن للرجل الأبيض رسالة عليه أن يؤديها للشعوب المختلفة، وتشدق بهذا القول الكثيرون من رجال السياسة والفكر، ويعبر عن هذا الرأي الكاتب وياث ( Wayath) في كتابه « Ethics Of Empire » فيقول : " إن واجبا محددا قد عينه القدر لنا - وليس لغيرنا- وهو أن نحمل مشعل النور والحضارة إلى داخل الأماكن المظلمة في العالم، وأن نلمس عقول أبناء آسيا وإفريقيا بالقيم الأخلاقية النابعة من أوربا " (1) وهذا القول

__________

(1) Langer, W, L., Diplomacy Of Imprialisme, P .93.

(1/362)

فيه تجن على تلك الشعوب، فالقيم الأخلاقية لم تنشأ في أوربا وحدها، وإنما نزلت بها عن طريق القهر والبطش.

... ويرد على هذا الادعاء أحد كبار المؤرخين الفرنسيين المعاصرين وهو الأستاذ بيبر رنوفن ( Pierre Renouvan) بأن هذا القول "هو دائما مجرد شكل بسيط لتغطية المصالح أو الأطماع" (1) .

... كذلك روج بعض الكتاب والمفكرين الاجتماعيين لحركة الاستعمار بالمناداة بنظرية "الصراع من أجل البقاء" ( Struggle For

__________

(1) رونوفن، بيبير، تاريخ العلاقات الدولية ( 1815-1914)، تعريب دكتور جلال يحيى، الإسكندرية، 1986،ص.516.

(1/363)

Existence) ،وعبر عن هذا الاتجاه رويارد كبلنج (Ruyard Kipling) (1) في عام 1308/ 1890 م؛ كما دعا هؤلاء إلى نظرية أخرى وجدت صداها

في الأوساط الاستعمارية وقتذاك، ألا وهي نظرية "البقاء للأصلح" ( Suevival Of the Fittest) ، وقد عبر عنها كبلنج بقوله " بأن الاستعمار هو صورة من صور الكفاح من أجل الحياة، حيث ينتصر الشعب الأكثر استعدادا

__________

(1) كبلنج،رويارد ( 1865- 1936)ن من مؤيدي حركة الاستعمار وألف في هذا الموضوع كتابين هما :

( Departmental Ditties) في عام 1886، و ( Take Up the Xhite Man burden) في عام 1899.

(1/364)

من الناحية الجسمانية والفكرية " (1) .

... وفي هذا المعنى أيضا يذكر الكاتب كارب بيرسون (Karl Vbreason) (2) "أن التاريخ يطلعني على طريقة واحدة لا يوجد غيرها، أدت إلى قيام حالة حضارية هي الصراع بين الأجناس، والبقاء للعنصر أو الجنس الأصلح في الجسم والعقل...إن طريق التقدم تغطية أشلاء الأمم التي تبيد ..إن الشعوب التي بادت، هي في حقيقتها

__________

(1) رونوفن، المرجع السابق / ص.515.

(2) محمد محمود السروجي، تاريخ أوربا الدبلوماسي - من السبعينات للقرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى ، الإسكندرية 1966، ص.115-117.

(1/365)

الواضحة للعيان الدرج الذي رقاه الجنس البشري صاعدا نحو الحياة الفكرية الراقية والحياة الوطنية الراسخة التي نحياها اليوم".

... وكأن البشرية في عرف هؤلاء الكتاب لن تتقدم إلا على أشلاء الشعوب الضعيفة التي كانت ضحية الاستعمار والمستعمرين.

... كذلك حمل بعض المفكرين لواء نظرية " التطور الاجتماعي" التي أدت إلى ظهور فكرة تقسيم العالم إلى مجموعات كبيرة، فينقسم إلى ثلاثة أو أربعة شعوب كبرى صالحة للبقاء، وعلى الشعوب الضعيفة أن تموت أو تفنى أمام الدول القوية أو أن تخضع لها.

(1/366)

... بل لقد بلغ الإسفاف والزيف في تبرير الاستعمار أنه - نسب - حاشا لله- إلى المشيئة الإلهية فيقول روزبري ( Rosebery) ( 1264-1349هـ 1847- 1929م) وهو من كبار حزب الأحرار في بريطانيا، "وأعتقد أن الإنجليز بطارقة العالم، وأنهم امبرياليون ( مستعمرون) - لا لأنهم أرادوا ذلك- ولكن لقانون عالمي إلهي يوجههم إلى أداء ذلك الواجب" (1) .

... والحقيقة التي لا مراء فيها أن الطمع في ثروات الشعوب الضعيفة ، والاستئثار بها لرفاهية شعوب الدول المتعدية كانت المحرك الأساسي لحركة الاستعمار .

__________

(1) المرجع نفسه ، ص.118.

(1/367)

ويعبرعن هذا الرأي بصراحة تامة السير أوستن تشمبرلن (Sir Joseph Austen Chamberlin ) ) (1) فيقول : " هل هناك من يعتقد وهو في كامل وعيه أ ن السكان المكتظين في هذه الجزيرة ( يقصد بريطانيا ) يستطيعون أن يعيشوا ليوم واحد لو انقطعت عنا المناطق العظيمة التابعة لنا ، التي تتجه إلينا طلبا للحماية والمساعدة ، والتي تشكل الأسواق الطبيعية لتجارتنا " (2) .

__________

(1) تشمبرلين ، جوزيف أوستين ( 1836 - 1914 ) ، سياسي بريطاني ، شغل منصب وزير خارجية بريطانيا من ( 1924 - 1929 ) .

(2) 20 أنظر Foreigin & Colonial Speeches

(1/368)

... ورغم الصراحة التي يتصف بها هذا القول من مسؤول بريطاني كبير ، إلا أن الزيف واضح في قوله أن تلك البلاد قد التجأت إليهم طلبا للمساعدة والحماية ،فالحقيقة أن كل البلاد التي خضعت للاستعمار قد وقعت بصورة أو بأخرى في قبضته ، نتيجة الغزو المسلح تارة أو التهديد والإجبار تارة أخرى ، ولم برغبتها الحرة على أي حال .

... بعد هذا العرض الموجز لما أوردناه من آراء وأفكار ، جاءت على ألسنة كبار رجال السياسة والفكر ، يتضح لنا أن الاستعمار قام أساسا على زيف في القول والعمل ، وأن القائمين على أمره لم يتورعوا عن

(1/369)

تزييف أسبابه ، فهم بالتالي لن يتورعوا عن تشويه وتزييف تاريخ الأمة الإسلامية التي خضعت لحكمهم ، كي يتمشى مع أهدافهم ومصالحهم . والأمثلة على ذلك كثيرة . ولكنني سأتناول بعضها على سبيل المثال - لا الحصر - إذ أن المقام لا يسمح بغير ذلك أولا - موفق المؤرخين الأوربيين من الدولة العثمانية

... مما لاشك فيه أن تاريخ الدولة العثمانية قد تعرضت للكثير من الدرس والتشويه عبر تاريخها الطويل ، ويرجع ذلك منذ تأسيس الدولة إلى عاملين رئيسيين : الأول أن العثمانيين المسلمين قد حلوا محل الدولة التي عمرت أكثر من ألف

(1/370)

عام وكانت دول أوربا

تطمع في أن تحل محلها ، إذا كان لابد لها من الزوال ، لاسيما روسيا التي كانت تدين بالديانة المسيحية على المذهب الأرثوذكس ، وهو مذهب الدولة البيزنطية نفسه .

... والعامل الثاني أن الدولة العثمانية هددت دول أوربا فترة طويلة ووصلت جيوشها إلى أبواب مدينة فيينا ، وبعد أن أخضعت لحكمها دول شرق أوربا المسيحية ، ودخلت جموع من شعوبها في الإسلام . كما أنها وقفت ضد أطماع البرتغالين في الجزبرة العربية ، وأغلقت البحر الأحمر في وجه السفن المسيحية حماية للأراضي المقدسة في الحجاز من الاعتداء ،

(1/371)

وظهرت جزر البحر المتوسط من فرسان القديس يوحنا الذين دأبوا على مهاجمة سفن المسلمين ونهيها ، وحمت دول شمال إفريقيا من الهجمات الصليبية من قبل الإسبان والبرتغاليين ، فحفظت له إسلامه وعروبته ، ورفعت لواء الإسلام في وجه دول أوربا المسيحية ستة قرون ، ولذا أخذت الحروب التي نشأت بينها وبين الدول الأوربية طابعا دينيا صليبيا (1) فكان لابد والحالة هذه أن ينعكس شعور الكره والتعصب على معظم الكتاب الأوربيين

__________

(1) عبد العزيز الشناوي ، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها جدا ، القاهرة ، 1984 ، ص . 15 .

(1/372)

كراهية للدولة وللإسلام ،لاسيما و أنهم ربطوا بين الدولة العثمانية والإسلام ، فأي انتصار للعثمانيين هو انتصار للإسلام وهزيمة للمسيحية (1) .

... وقد وجدت الشعوب التي خضعت لأول مرة في تاريخها لحاكم مسلم أن تتخلص من الحكم عندما ظهرت بوادر الضعف على الدولة العثمانية ، فبدأت الحركات القومية في الظهور بتحريض وتشجيع من الدول الأوربية تحقيقا لمطامعها في الدولة (2) وخصوصا روسيا التي كانت تعمل

__________

(1) المصدر نفسه ، ص. 15 .

(2) محمد محمود السروجي ، مصر والمسألة الشرقية من القرن التاسع عشر ، القاهرة 1966 ، ص . 5 .

(1/373)

على نشر مبادئ حركة الجامعة الصقلبية ( السلافية ) الكبرى ، وشعوب البلقان الخاضعة للحكم العثماني من الصقالبة أيضا ، فكانت روسيا تمالئهم بإطلاق اسم "الأخوة الصغار " (1) عليهم .

... بل ادعت لنفسها الحق في حمايتهم كصقالبة صغار من عدوان الدولة العثمانية . وفي حقيقة الأمر فإن تلك الشعوب قد تمتعت بامتيازات كثيرة وبنوع من الحكم الذاتي لم تنله الشعوب الإسلامية .

__________

(1) Summer , B . H . Survey of Russian History , London , 1945 , P 20 .

(1/374)

... وقد تركز تشويه تاريخ الدولة العثمانية بشكل واضح في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني( 1293 - 1327 هـ/ 1876 - 1909 م) الذي تولى الحكم في أحرج فترة من تاريخ الدولة ، إذ كانت الدولة قد بلغت شأوا بعيدا من الضعف، واكبته ذروة الأطماع الاستعمارية والصهيونية في ممتلكاتها . ففي مستهل عهده شنت روسيا على الدولة الرب الروسية التركية ( 1294 - 1295 هـ/ 1877 - 1878 م) وفرضت عليها معاهدة برلين(1295 هـ/1878 ) التي قطعت أجزاء واسعة من ممتلكات الدولة في أوربا ، والتي ترتب عليها احتلال فرنسا لتونس عام 1298

(1/375)

هـ/ 1881 م ) واحتلال بريطانيا لمصر عام 1299 هـ/ 1882 م ،ثم احتلال فرنسا لمراكش عام 1330 هـ/ 1912 م)(1)

... وكان من أسباب مهاجمة الكتاب الأوربيين للدولة العثمانية في ذلك الوقت تبنى السلطان عبد الحميد حركة (الجامعة الإسلامية ) التي كانت ترمي إلى توحيد صفوف المسلمين حول السلطان العثماني للدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد أطماع الدولة الأوربية الكبرى .وحركة الجامعة الإسلامية في حقيقتها رد فعل للحركتين العدوانيتين اللتين عاصرتاها - وإن اختلفت عنهما في

__________

(1) السروجي ، مصر والمسألة الشرقية ، صص . 303 -310 .

(1/376)

الأسلوب وفي الهدف والغاية .

... فإذا كانت الحركة الأولى وهي حركة الجامعة الجرمانية حركة عنصرية هدفها تكوين وحدة سياسية من العناصر الجرمانية للوقوف ضد أطماع حركة الجامعة الصقلية تحت زعامة روسيا في شرق أوربا من جانب وضد أطماع فرنسا من جانب آخر ، فإن حركة الجامعة الصقلية حركة عنصرية كذلك هدفها إثارة صقالبة شرق أوربا ووسطها تحت ستار تخليصهم من السيطرة العثمانية من جهة ومن النفوذ الألماني المتمثل في حركة الجامعة الجرمانية من جانب

(1/377)

آخر (1) .

... ومن ثم ، فالحركتان الجرمانية والصقلبيية عدوانيتا ن، بينما حركة الجامعة الإسلامية حركة دفاعية هدفها وحدة المسلمين والدفاع عن كيانهم تحت زعامة الدولة العثمانية من أطماع الدول الأوربية ، وما كان ذلك يرضي الدول بحال من الأحوال .

... ومن الموضوعات التي حاول معظم المؤرخين الأوربيين تشويه تاريخ الدولة العثمانية بها ، إسهامها في عزل البلدان العربية عن العالم الخارجي ، مما كان له أكبر الأثر في

__________

(1) محمد مصطفى صفوت ،الاحتلال الإنجليزي لمصر وموقف الدول الكبرى إزاءه ، القاهرة ، 1952 .صص. 17 .18

(1/378)

تأخرها . ولكن الدارس لتاريخ الولايات العربية دراسة متأنية يرى أن هذا القول يفتقر إلى الصحة ، فالدولة العثمانية عقدت معاهدات تجارية مع معظم الدول الأوربية ، وكانت تلك المعاهدات تسري على جميع أجزاء الدولة بما فيها الولايات العربية .كذلك نجد أن معاهدات الامتيازات الأجنيبة قد أعطت للدول الأوربية صاحبة الامتيازات حرية التعامل مع تلك الولايات في مجالات كثيرة مما يدحض ما ذهب إليه المؤرخون من فكرة العزل (1) .

__________

(1) The Ottoman Empire and its Successors 1801 - 1927 , London , 1927

(1/379)

... وكان لكتابات وليم ملنر ‘William Milne)r) (1) وغيره ممن عاصروا السلطان عبد الحميد الأثر الكبير في تشويه تاريخ الدولة العثمانية في تلك الفترة . وكذلك عاصر السلطان عبد الحميد نشأة الحركة الصهيونية ومؤازرة الدول الكبرى لها، ومحاولاتها المستميتة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، بالإغراء المادي تارة والتهديد تارة أخرى ، ووقوف السلطان من ذلك كله موقفا صلبا لا يلين محافظا على عروبة فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، مما دفع دعاة الصهيونية وكتابها إلى

__________

(1) الشناوي ، المرجع السابق ، صص . 690 - 829 .

(1/380)

مهاجمته وتشويه صورته أمام العالم الخارجي .

ثانيا - الحملة الفرنسية على الجزائر 1245 هـ/ 1830 م .

... تمثل الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1245 هـ/ 1830 م مثلا آخر من أمثلة تشويه تاريخ الشعوب الإسلامية ، إذ اتخذت فرنسا منن حادثة المنشة ( المروحة) سببا جوهريا لمهاجمة الجزائر دفاعا عن شرفها وكرامتها التي أهدرت(1) ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي للغزو ،فالتفكير في احتلال الجزائر سابق على هذه الحادثة بسنوات

__________

(1) كوليت وفرانسيس جانسون ، الجزائر الثائرة ، ترجمة محمد علوي الشريق و آخرين ، دار الهلال ، 1957 .

(1/381)

أرجعها عباس فرحات (1) إلى عام 1231 هـ/ 1815 م وفيها هزم نابليون بونابارت وفقدت فرنسا أجزاء واسعة من إمبراطوريتها ، تنازلت عنها لبريطانيا ، ومن ثم رأت فرنسا أن تستعيض عنها بدول المغرب العربي ولتكن البداية بالجزائر كنقطة انطلاق نحو الاستيلاء على المغرب

__________

(1) مجاهد جزائري من رجال الحركة الوطنية في الجزائر ، و أول من تولى رئاسة الحكومة الجزائرية المؤقتة التي أقيمت بالقاهرة عام 1958 ، وورد هذا القول في كتابه ، حرب الجزائر وثورتها (ليل الاستعمار ) ، ترجمة أبو بكر رحال ، مطبعة فضالة ، المغرب ، ص . 9 .

(1/382)

بأكمله (1) .

... والحقيقة أن قوة الجزائر البحرية قد ازدادت زيادة كبيرة في البحر المتوسط (2) وتمكنت بهذه القوة البحرية أ ن تحفظ التوازن في القوى في الحوض الغربي للبحر المتوسط و أن تحمي السفن الإسلامية فيه ، وذلك خلال القرون الثلاثة السابقة على الاحتلال الفرنسي لها . وكانت العلاقات بينها وبين

__________

(1) صلاح العقاد ، المغرب العربي ( الجزائر ، تونس ، المغرب الأقصى ) دراسة في تاريخه الحديث وأحواله المعاصرة، ط 2 ، القاهرة ، 1966 ، ص . 86 .

(2) Lacoste , y , L’Algérie , passé et présent , Paris , P 180 .

(1/383)

فرنسا في مد وجزر ، فأحيانا يسودها السلام بناء على اتفاقات ، و أحيانا أخرى تهاجم كل منهما سفن الأخرى في البحر المتوسط ، وكان الكتاب الفرنسيون يطلقون على إغارات السفن الجزائرية بأنها أعمال قرصنة (1) ولكنهم يطلقون على ما يقومون به ضد السفن الجزائرية بأنه دفاع عن النفس .

__________

(1) Julien , ch -A , Histoire de l’Afrique du Nord , Tunisie - Algérie - Maroc : de la Conquete Arabe à 1830 ( 2eme éd ) Paris , 1966 , pp . 286 . 287 .

(1/384)

... وعلى أية حال كانت فرنسا حريصة على استمرار علاقتها مع الجزائر ، فكلما تعكر صفو تلك العلاقات حاولت إعادتها إلى صفائها مرة أخرى ، حرصا منها على سلامة سفنها ، وتحقيقا لمصالحها الاقتصادية ، وحفاظا على امتيازاتها التجارية ضد منافسة الدول الأجنبية (1)

واتصفت عملية الغزو الفرنسي للجزائر 1245 هـ/ 1830 م بالتعصب الديني من قبل فرنسا ، فيذكر الملك شارل العاشر - الذي حدث الغزو في عهده - بأنه لم

__________

(1) De grammont , H. D Histoire d’ alger sous la domination turque , 1515 - 1830 , Paris , 1887 , p . 248 .

(1/385)

يراع في هذه العملية سوى كراهية فرنسا للجزائر .(1)

... لم تكن الكراهية وحدها هي الدافع للغزو ، فالمشكلات الداخلية التي تعانيها فرنسا وقتذاك كانت لها نصيب كبير في حكومة فرنسا إلى التفكير في القيام بمغامرة خارجية لتوجيه السخط الداخلي ، الذي قد يطيح بها ، إلى هذه المغامرة ، أولا وهي غزو الجزائر(2) . بل إن من جاءوا بعد شارل العاشر من الملوك ساروا في نفس

__________

(1) عباس فرحات ، المصدر السابق ، ص . 10 .

(2) Ageron , ch . Robert , Histoire de l’ Algérie contemporaine ( 1830 - 1976 ) P.U.F., 1982 , pp .5 &6.

(1/386)

الاتجاه ، وأكدوا عدم تخليهم عن الجزائر ، لأن في ذلك إغضابا للمسيحيين في كل مكان وهم الذين فرحوا بهذا الغزو وباركوه (1) . وإن تمسك فرنسا بالجزائر يعتبر تضحية منها في سبيل نشر الحضارة بين القبائل الجزائرية ، وحتى لا يقعوا في براثن استعمار آخر كالاستعمار التركي .(2)

__________

(1) سليمان الهادف قريري ، القوى الوطنية في الجزائر ومقدمات الثورة التحررية ( 1945 - 1954 ) رسالة ماجستير بجامعة الإسكندرية ، غير منشورة ، ص . 18 .

(2) كوليت وفرانسيس جانسون ، المصدر السابق ، ص. 9 .

(1/387)

... وفي هذا القول رجوع إلى ما سبق أن ذكرته في مقدمة البحث ألا وهو التذرع برسالة الرجل الأبيض وحرصه على نشر الحضارة والثقافة بين القبائل الجزائرية . ولكن الحقيقة تثبت عكس ما زعموه . فلو نظرنا إلى التعليم في الجزائر عند مجيء الفرنسيين إليها نجد أن عدد المدارس الابتدائية وحدها في مدينة الجزائر عام 1245 هـ / 1830 م بلغ مائة مدرسة(1) ، لم يبق منها في عام 1262 / 1846 - أي بعد الاحتلال الفرنسي بست عشرة سنة - سوى أربعة عشرة مدرسة(2)

__________

(1) المصدر السابق ، De Grammont , p . 229 .

(2) المصدر السابق ، Lacoste , y . p . 130

(1/388)

. ضربنا هذا المثل بمدينة واحدة في الجزائر دون أن نذكر ما حدث في سائر المدن لأن هذا ليس موضوع دراستنا .

... وعلى أية حال فإن نصف المؤسسات التعليمية قد اختفى من ولاية الجزائر في الفترة فيما بين عامي 1245 - 1265 هـ/ 1830 - 1850 م (1) .وهذا يؤكد زيف ما ادعاه معظم الكتاب الفرنسيين من عدم وجود تعليم في الجزائر في العهد العثماني، وأن فرنسا هي التي عملت على نشره بعد احتلالها للبلاد .

ثالثا - مصر في ظل الاحتلال البريطاني ( 1299 - 1332 هـ/ 1882 - 1914 م) .

__________

(1) المصدر السابق ، ص . 131

(1/389)

... ادعت بريطانيا على لسان ممثلها في مصر إيفلن بيرنخ ( اللورد كرومر) بعد الاحتلال عام 1299 هـ/ 1882 م بأن مهمتها في مصر هي العمل على تحسين حال الفلاح ورفع الظلم عن كاهله ، وأظهر صداقته للفلاحين وأطلق عليهم " أصحاب الجلابيب الزرقاء " وحاول التخفيف عليهم من بعض الضرائب .

... وكان الهدف من انتهاج تلك السياسة إزاء الفلاحين ، وهم يمثلون أغلبية شعب مصر ، ما قاموا به من دور بارز في مساندة الثورة العرابية نتيجة لسوء أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، وكثرة الضرائب ، وفرض السخرة ، واستبداد الحكام ، وطلبا

(1/390)

في تحسين أحوالهم . وفي عهد الخديوي إسماعيل ( 1279 - 1296 هـ/1863 - 1879 م ) سرى في البلاد نوع من اليقظة والوعي ، وذلك لانتشار الصحف والمجلات ، ولتعاليم جمال الدين الأفغاني ، ونشاط تلاميذه ، وكان للفلاح نصيب منها ، ووجد الفلاحون في عرابي الأمل الذي يرتجى (1) ، لاسيما وأن أوضاعهم الاقتصادية الحادة التي مرت بالبلاد .(2)

__________

(1) لطيفة محمد سالم ، القوى الاجتماعية في الثورة العرابية ، الهيئة المصرية العامة لللكتاب ، القاهرة ، 1981 ، ص . 297 .

(2) محمد محمود السروجي ، الجيش المصري في القرن التاسع عشر ، دار المعارف ، 1967 ، صص .537 -556 .

(1/391)

.

... وكان لخطورة الدور الذي قام به الفلاحون في الثورة أن عزمت سلطات الاحتلال على تصفية قوتهم والعمل على إضعافهم . بل إن ما قاموا به قد أفزع كبار

ملاك الأرض. ولذا وجدوا من مصلحتهم التعاون مع سلطات الاحتلال حفاظا على مصالحهم. ومن تم رأت بريطانيا ان تعتمد على طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية في تثبيت دعائم وجودها في مصر، وأن تربط مصلحتهم بمصلحتها. وبدأت تلك السلطات بتصفية كاملة للثورة في الريف المصري، فاعتقلت من الفلاحين ما يربو على 29.000 نسمة (1) .

__________

(1) المصدر السابق، ص.588.

(1/392)

... كما قامت السلطات بفصل حوالي 250 من صغار ضباط الجيش من أبناء الفلاحين، وجرودهم من رتبهم جزاء عصيانهم - وبدأت تخيم على البلاد فترة من الظلام في أعقاب فشل الثروة، ونفي وسجن وتشريد القائمين بها.

... ونظرا لتعارض مصالح هذه الطبقة مع مصالح السواد الأعظم من الفلاحين فقد آثرت سلطات الاحتلال الوقوف إلى جانب كبار ملاك الأرض في أحيان كثيرة مضحية بجمهرة الفلاحين. وهنا ظهر التناقض واضحا بين أقوال هؤلاء المحتلين وتصرفاتهم الفعلية، فأدرك الفلاحون خداع المحتلين.

(1/393)

... ولما كانت مصر دولة مدينة للعديد من الدول والمؤسسات المالية الأجنبية أصبحت بريطانيا بحكم إدارتها للبلاد مسؤولة أمامها عن سداد الديون وأقساطها. ولذا بدأت تعمل على زيادة مساحة الأرض الزراعية، وأن تتبع سياسة التخصص الاقتصادي بالاعتماد على الزراعة ولا سيما زراعة القطن (1) اللازم لمصانعها، أي أنها سخرت اقتصاد مصر لخدمة الاقتصاد الإنجليزي.

__________

(1) محمود إبراهيم الشواربي، حركة الفلاحين في مصر ما بين ثورتي 1882-1919، رسالة ما جستير غير منشورة ، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية عام 1978،ص.169.

(1/394)

... ومن ثم بدأت بإصلاح القناطر الخيرية سنة 1304هـ/ 1886م وأنشأت قناطر أسيوط عام 1321هـ/ 1902م وخزان أسوان في العام نفسه، وقناطر زفتى في العام التالي، فزادت بذلك مساحة الأراضي الزراعية في مصر من 4.758.000 فدان عام 1299هـ/ 1882م إلى 5.4000.000 فدان

في عام 1323هـ/ 1905م (1) . وكان المستفيد الأول من هذه المشروعات بريطانيا أولا، ثم طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية، وحملة سندات الدين المصري (2)

__________

(1) 153-152 hrouchley, The Economie Developement Of Modern Egypt, PP

(2) رؤوف عباس، النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الزراعية الكبيرة 1837-1914، الطبعة الأولى، دار الفكر الحديث ، القاهرة، 1973، ص.113.

(1/395)

. بينما لم يستفد صغار الفلاحين شيئا يذكر، وذلك لكثرة الضرائب، وقلة إنتاجية الأرض واستبداد وظلم كبار ملاك الأراضي لهم.

... حدث كل ذلك في الوقت نفسه الذي أخذ المعتمد البريطاني في مصر يتشدق بصداقته للفلاحين أصحاب الجلاليب الزرقاء، وبأوضاعهم التي تحسنت كثيرا في ظل الإدارة الإنجليزية. وإذا كانت سلطات الاحتلال قد خفضت بعض الضرائب في مستهل حكمها وألغت البعض الآخر، فقد أثبتت الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع، بأن ما تم بشأن الإلغاء إنما يرجع إلى أن نفقات جبايتها تبتلع معظم العائد منها (1)

__________

(1) رؤوف عباس، مذكرات محمد فريد، القسم الأول، ص.67.

(1/396)

.

... ومع ذلك ظلت الضرائب المفروضة ثقيلة، وبلغت جملة الحجوزات الإدارية التي وقعت عليهم في الفترة من 1310-1321هـ/ 1893-1903م 323.259 حجزا، ونفذ البيع بالمزاد في 2.640 حالة، بلغت مساحة الأرض المباعة فيها 53.880 فدانا (1) ، وتوالت بعد ذلك الحجوزات التي تقدر بعشرات الآلاف في السنوات التالية. وترتب على ذلك ضياع الكثير من الملكيات الصغيرة سدادا للديون، وانتقلت ملكية تلك الأراضي إلى الأعيان ومشايخ القرى وبعض اليونانيون

__________

(1) جرجس حنين، الأطيان والضرائب في القطر المصري، القاهرة 1322هـ/ 1904،ص.627.

(1/397)

والسوريون (1) .

... وفي عام 1301هـ/ 1884 م يوجه اللورد كرومر ضربة أخرى إلى صغار الفلاحين وذلك بإلغاء مجانية التعليم، فحرم بذلك أبناء الفقراء منهم والذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب المصري من تلقي العلم، بحجة أن من يرغب في العلم فعليه إثبات ذلك بدفع

نفقاته ... (2) وأدى انتشار الجهل بين الفلاحين إلى سوء أوضاعهم الاجتماعية والمادية والصحية. ولم تكن سلطات الاحتلال تعبأ بما يصيب

__________

(1) Bear, G.A. History Of Landowmership In Modern In Egypt London, 1962, P.36.

(2) Cromer, Earl, Modern Egypt, 1908, P.532.

(1/398)

الفلاحين من أمراض، لأن سياستها الصحية كانت وقائية فحسب وليست علاجية (1) .

... أما عن حادثة دنشواي (2) 1324هـ/ 13 يونيه 1906م ) التي أسقطت القناع عن وجه كرومر، وأظهرت زيف ادعاءاته بالعطف على الفلاحين والعمل على إصلاح أوضاعهم، فالحادثة تمثل غضبة الفلاحين من قوات الاحتلال التي كانت دائمة التوغل في أرجاء الريف المصري فيما بين القاهرة

__________

(1) Colvin, Sir Aucland, The Making Of Modern Eegypt, 1938, P.313.

(2) دنشواي : قرية صغيرة تابعة لمركز منوف، اشتهرت بكثرة أبراج الحمام الذي يربى فيها من قبل الفلاحين.

(1/399)

والإسكندرية، لإرهاب الفلاحين والقضاء على روح التدمر والغضب من تلك القوات (1) ومن سياسة المحتل الزراعية التي أثرت كبار ملاك الأراضي، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فضلا عن كثرة عدد المعدمين. فجذور الحادثة ترجع إلى السنوات السابقة عليها، وما عاناه الفلاحون من سلطات الاحتلال.

__________

(1) محمد جمال الدين المسدى، دنشواي، مطبوعات مركز وثائق مصر المعاصر، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1947،صص.7-8

(1/400)

... وخلاصة الحادثة أن بعض الضباط الإنجليز وهم في طريقهم من القاهرة إلى الإسكندرية قد توقفوا عند بلدة منوف، وأبدى بعض الضباط ورغبتهم لمأمور المراكز في الصيد في قرية دنشواين فوافق على طلبهم وأعد لهم المركبات اللازمة لذلك؛ هناك توغل أحد الضباط داخل القرية، وصوب طلقاته على أحد أجران القمح، فصاح به أحد الفلاحين بأن يكف عن إطلاق النار وإلا احترق الجرن، فلم يأبه لتحذيره وواصل طلقاته فقتل امرأة وأشعل النار في أحد الأجران، فتجمع أهل القرية للإمساك به، فهب زملاؤه لنجدته، وجرى ضابطان آخران في اتجاه

(1/401)

معسكرهما للالتجاء به، وكان الحر شديدا فسقط ميتا من ضربة الشمس (1) .

... وما إن علمت سلطات الاحتلال بالحادث حتى طاش صوابها، وعزمت على الانتقام من الفلاحين وأن تنزل بهم أشد أنواع العقاب، فقبضت على 250 فردا وحاصرت القرية بقوات كبيرة العدد، وقدم المتهمون للمحاكمة أمام المحكمة المخصوصة، وأقيمت المشانق في القرية قبل أن ينتهي التحقيق، مما يدل على النية المبيتة لضرب الحركة الوطنية في هؤلاء المتهمين.

__________

(1) المصدر نفسه، ص.75.

(1/402)

... واستغل الزعيم مصطفى كامل هذه الحادثة لمهاجمة السياسة البريطانية في مصر وفي أوربا بكل شدة وعنف منددا بعدالة الإنجليز في دنشواي (1) . وصدر الحكم بإعدام أربعة فلاحين شنقا ونفذ الحكم داخل القرية، وحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين، وبالأشغال الشاقة لمدة 15 عاما على واحد، وبالأشغال الشاقة لسبع سنوات على ستة، وبالحبس والشغل مدة سنة والجلد خمسين جلدة على أربعة، وبالجلد خمسين جلدة على خمسة أفراد.

__________

(1) محمد محمود السروجي ، ثورة 32 يوليو 1952، جذورها وأصولها التاريخية ،ص.113.

(1/403)

... حدث هذا رغم أن تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي قد أثبت أن الوفاة كانت بسبب ضربة الشمس، وليست نتيجة عدوان وقع عليه.

... لا ريب أن الحادثة قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك زيف ما تغنى به كرومر طوال فترة وجوده في مصر، من صداقته للفلاحين، وعطفه عليهم والعمل على إصلاح أحوالهم ومعاملته بالعدل.

... فما دونه كرومر في كتابه Modern Egypt عن سياسة بريطانيا في مصر به تشويه لتاريخ تلك الفترة وقلب للحقائق. ومما يؤسف له أن الكثيرين من المؤرخين الأجانب والعرب قد نقلوا عنه، بصفته مصدرا هاما من مصادر تاريخ تلك

(1/404)

الفترة.

... ولذا كان على بريطانيا، بعد أن تعرت سياسة كرومر أمام المصريين، أن تسحبه من مصر، وأن تستبدله بغيره عنه في الأسلوب ولكن لا يختلف عنه في الغاية.

... ويمكننا القول أن هذه الحادثة أدت إلى نشاط الحركة الوطنية، وإلى سيادة روح التذمر والبغض لدى كل المصريين، ولا سيما الفلاحين (1)

... ولذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تقوم ثورة 1337 هـ/ 1919 على أكتاف الفلاحين في مرحلتها الأولى، وكانت عنيفة ومدمرة.

__________

(1) عمر عبد العزيز عمر، دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، 1975،ص.377.

(1/405)

... ونظرا لأن سلطات الاحتلال كانت تخشى من انتقام الفلاحين بعد تلك الحادثة إذا ما أتيحت لهم الفرصة المناسبة، فقد لجأت في سنتي 1334 - 1335 هـ/ 1915 - 1916م إلى نزع ما بأيديهم من أسلحة بلغت ما لا يقل عن مائة قطعة مختلفة الأنواع والأحجام (1) فقل ما بأيديهم من أسلحة، ترتب على ذلك كثرة ما سقط من ضحايا خلال ثورة 1337 هـ/ 1919 م.

__________

(1) F.O. 407 / 184 N° 120 Memorarandum by Sir R.Graham On the Unrest Egypt. هـ 1 سروجي.

(1/406)

... من الأمثلة السابقة سيتضح لنا أن الدول الاستعمارية كثيرا ما لجأت إلى تزييف الحقائق التاريخية وتشويهها ، كي تتفق مع أهدافها ومع سياستها الاستعمارية التي رسمتها لحكم الشعوب المقهورة، والتي تهدف في المقام الأول تحقيق مصالحها أولا وقبل كل شيء. وأن منطق القوة الغاشمة قد دفعها إلى العبث بكل شيء، بمقدسات تلك الشعوب وبقيمها، وعاداتها وتقاليدها، وتاريخها، ومثلها الأعلى في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة " والله ولي التوفيق.

(1/407)

أرشيف نيودلهي: المصدر الأساسي لدراسة

تاريخ الخليج العربي

... ... ... ... ... الدكتور مصطفى عبد القادر النجار

بغداد

... يعد الأرشيف الوطني الهندي أكبر مستودع للوثائق في قارة آسيا على الإطلاق، حيث إنه يضم عدداً ضخماً من وثائق شركة الهند الشرقية وحكومة الهند البريطانية. ويرجع تاريخ تلك الوثائق إلى عام 1748 م.

... والأرشيف الوطني الهندي لا يمكن أن يستغني عنه طلاب البحث في مختلف حقول المعرفة، وموجوداته لا تقتصر على الوثائق الهندية المحلية، بل تتعداها لتشمل وثائق معظم الدول الآسيوية التي تعاملت

(1/408)

معها بريطانيا بشكل أو بآخر، بما فيها وثائق العراق وبقية أقطار الخليج العربي والجزيرة العربية التي هي موضع اهتمامنا في هذا البحث خاصة.

... تلك السجلات تمثل مخزناً غير محدود لملايين الوثائق التي تغطي استراتيجية المنطقة بجوانبها المختلفة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية، وذلك للفترة الحديثة.

... تأسست دائرة الأرشيف الوطني الهندي عام 1891 م. وكانت تعرف باسم »قسم السجلات الإمبراطوري« (The Imperial Reccord Department) بعد أن برزت الحاجة الملحّة له، وذلك بعد أن تكدست الوثائق

(1/409)

والسجلات في الدوائر المختلفة وأصبح أمر إتلافها شائعاً (1).

... وعليه، شكلت في كلكتا لجنة خاصة للإشراف على فرز الوثائق والسجلات للعمل على حفظ ما هو مفيد منها. وعين المستر فورست (M. Forrest) أول مسؤول عن الدائرة المذكورة، حيث بدأ عملية تصنيفها وتنظيمها وجمعها في مكتبة مركزية موحدة، وذلك وفقاً للأسس التالية:

سجلات الشؤون الداخلية من عام 1752 م إلى عام 1879 م.

__________

(1) راجع عن تفاصيل ذلك:

Handbook to Records of the Government of India in the Imperial Record

Department.

(1/410)

سجلات اللجان الصحية من عام 1845 م إلى عام 1859 م.

سجلات اللجان العسكرية من عام 1777 م إلى عام 1858 م.

سجلات الأشغال العامة من عام 1850 م إلى عام 1871 م.

سجلات الشؤون الخارجية من عام 1764 م إلى عام 1829 م.

سجلات الشؤون العسكرية من عام 1786 م إلى عام 1893 م.

... وقد قام الأرشيف بعدئذ بإصدار سلسلة من المنشورات المطبوعة للوثائق المتوافرة فيه غطت الفترات التاريخية المختلفة. وضع بعضها باللغة الإنجليزية وبعضها الآخر باللغة الفارسية.

(1/411)

... والذي يهمنا من وثائق هذا الأرشيف بشكل أساسي هو ذلك الجزء الخاص بقسم الشؤون السياسية والخارجية (Foreign and Political Department) طالما كان هذا القسم مسؤولاً بشكل خاص عن إدارة الشؤون الخارجية والعلاقات الخارجية لشبه القارة الهندية. لذا فإن الوثائق الخاصة بالعراق والخليج العربي والجزيرة العربية نجدها في هذا القسم (1).

__________

(1) كانت الوثائق تحفظ في دائرة موحدة لغاية عام 1756 م، حيث أسست دائرة العلاقات الخارجية (Foreign Department). ومنذ ذلك التاريخ، صارت تحفظ الوثائق الخارجية بشكل منفصل.

(1/412)

... إن وثائق قسم الشؤون السياسية والخارجية كانت قليلة في بداية الأمر، ثم أخذت في الازدياد والتضخم تبعاً لازدياد العلاقات الخارجية للسلطات البريطانية في الهند.

... ونجد فهارس لوثائق القسم السياسي والخارجي تكاد تغطي جميع الفترات التاريخية منذ بداية تأسيس القسم حتى بداية القرن العشرين (1).

__________

(1) K. D. Bhargave, Guide to the Reccords in the National Archives of India,

Part I (Introductory), New Delhi, 1959, pp. 1-3.

(1/413)

... هذه الفهارس نجدها قليلة نسبة للسنوات الأولى من تأسيس هذا القسم، ثم أخذت في الازدياد في السنوات التالية. فمثلاً لا نجد للفترة من 1756 م ـ 1783 م إلا مجلدين من الفهارس (1).

... ثم أصبح هناك فهرس واحد لكل بضع سنوات، ثم صار فهرساً واحداً لكل سنة. وفي المراحل الأخيرة أصبح هناك عدة فهارس للسنة الواحدة.

... وتربو هذه الفهارس على مئة فهرس، جميعها غير منشور عدا فهرس واحد. أما الفهارس التي تلي هذين الجزءين المطبوعين، فنجدها بوضعها القديم بخط اليد،

__________

(1) هما بعنوان: Index to Land Revenue Reccord.

(1/414)

وقراءتها متعبة للغاية، وهي مفهرسة حسب الحروف الأبجدية (1).

... وفهارس الفترات التالية للقرن التاسع عشر أفضل للقارئ. فهي مطبوعة، والأسماء فيها واضحة، وهناك يجد الباحث أسماء كالبحرين والبصرة وبوشهر وغيرها. ثبت رقم المجلد الذي وردت فيه هذه المعلومات والمناسبة التي ذكر فيها أمام كل اسم من هذه الأسماء(2)

__________

(1) معظم الورق الذي كتبت عليه تلك الفهارس ممزق ومتآكل الجوانب. وقد قام الأرشيف بلصق تلك الأوراق بالشمع الشفاف وتم حفظها بطريقة جيدة.

(2) ليست وثائق الخليج العربي والجزيرة العربية مصنفة تصنيفاً منفرداً متميزاً، وإنما يمكن للباحث أن يعثر عليها تحت اسم المدن والموانئ التي تخص تلك المناطق. فهو يرجع في الفهرس إلى حرف B ليعثر على مادته تحت أسماء: بصرة، بغداد، بوشهر، بندر عباس، بحرين، وهكذا.

(1/415)

.

... وفيما يتعلق بالخليج العربي والجزيرة العربية التي هي موضع اهتمامنا الخاص، نلاحظ أن السجلات الأولى لقسم العلاقات الخارجية لم تول تلك المناطق اهتماماً كبيراً، وذلك لأن حكومة بومباي كانت تمارس سلطة كاملة في إدارة الشؤون الخارجية، وكان ارتباطها مباشرة بلندن دون أن تكون لها صلة بالمديريتين الأخريين (كلكتا ومدراس). وحتى بعد أن شرَّع البرلمان البريطاني عام 1773 م قانون التنظيم الذي خول كلكتا وحاكمها حق الإشراف على كل من بومباي ومدراس، فإن بومباي استمرت في ممارسة الانفراد بمعالجة الشؤون الخارجية

(1/416)

للبلدان الواقعة إلى غرب شبه القارة الهندية، ومنها العراق والخليج العربي وشبه الجزيرة العربية(1).

... ولهذا السبب يجد الباحث أن المادة المتوافرة في أرشيف كلكتا والموجودة في الأرشيف الوطني الهندي عن الخليج العربي والجزيرة العربية قليلة جداً.

... وقد حدث شيء غيّر هذه الصورة في القرن التاسع عشر، وهو أن حكومة الهند في كلكتا بدأت تمارس سلطة أكبر ونفوذاً أوسع على الشؤون الخارجية الهندية وأخذت تنتزع شيئاً فشيئاً الصلاحيات التي كانت تتمتع بها حكومة بومباي(2).

__________

(1) K. D. Bhargava.

(2) Ibid.

(1/417)

... ولم تعد لحكومة بومباي أهمية تذكر في إدارة الشؤون الخارجية في أواخر القرن التاسع عشر، وانحصرت إدارة تلك الشؤون بحكومة الهند في كلكتا، ومن ثم في دلهي بعد انتقال العاصمة الهندية إليها عام 1911 م(1).

... كما أن دائرة السجل الكبرى أصبحت تابعة لوزارة التربية الهندية بعد أن ظلت تابعة لوزارة الداخلية منذ تأسيسها حتى ذلك التاريخ.

__________

(1) نقلت حكومة الهند البريطانية العاصمة إلى دلهي حيث أصبحت مقراً لنائب الملك ودوائره الأساسية.

(1/418)

... وبعد انتقال العاصمة، صار من الضروري أن تنقل السجلات الرسمية والوثائق إلى المقر الجديد. وقد تم فعلاً تخصيص مبنى مستقل لها شيد عام 1926م. واكتمل نقل المحفوظات له نهائياً عام 1937 م.

... وصار الأرشيف الوطني الهندي بعد هذا التاريخ مستعداً لقبول خدمات الباحثين على الوجه الأكمل.

... في ديسمبر عام 1939 م قررت الحكومة الهندية أن تفتح الباب بحدود معينة لطلاب البحث والدارسين، للإفادة من المعلومات والاقتباس من الوثائق. وفي عام 1942 م فهرست موجودات الأرشيف من الوثائق والسجلات في 39 مجلداً(1)

__________

(1) K. D. Bhargava, op. cit.

(1/419)

. وقد خففت بعض القيود على الباحثين بعد عام 1946، وأفسح المجال لهم للاطلاع على كافة السجلات لغاية عام 1901 م.

... وظل الأرشيف الوطني الهندي يطالب الوزارات المختلفة بضرورة توسيع خدماته وأن يكشف المزيد من الوثائق للباحثين لتشمل سنوات ما بعد عام 1901 م.

... وقد حدث تطور ملحوظ على الأرشيف في أغسطس 1947 جعل موجوداته تتضاعف بشكل غير محدود، نتيجة لهجرة مختلف الوكالات السياسية والتجارية لمقار أعمالها مخلفة وراءها سجلاتها ووثائقها كافة للأرشيف الوطني. وهي بلا شك ثروة علمية غنية لا تقدر بثمن لطلاب البحث

(1/420)

العلمي يمكن إخضاعها للدراسة والاستنتاج والتحليل وكشف الحقائق والتوصل إلى نتائج في غاية الأهمية وفي مختلف حقول المعرفة.

... وقد واجه الأرشيف الوطني صعوبة كبيرة في استيعاب هذا القدر الضخم من السجلات والوثائق، حيث إنها كانت من الكثرة بحيث تجعل الأرشيف عاجزاً عن استيعابها دفعة واحدة، ولا سيَّما أن معظم تلك السجلات والوثائق لم يكن منظماً وفق ترتيب موحد.

... وبينما كان الأرشيف الوطني الهندي مشغولاً بمواجهة ذلك السيل العارم من المحفوظات إذا وزارة الخارجية الهندية تفاجئه عام 1949 م بقرار نقل حوالي

(1/421)

مليون محفظة من محافظها كانت من قبل محفوظة في سملا ـ إليه(1).

... وهكذا حصلت زيادة مفاجئة في حجم السجلات والوثائق في الأرشيف وصار مجموع ما يحتوي عليه قرابة 5,113,000 محفظة و 103,000 مجلد، وهو في نمو مستمر.

... ومما يجدر ذكره أن الحديث عن الأرشيف سيبقى ناقصاً غير متكامل دون الإشارة إلى المكتب الإقليمي (Regional Office) الذي شكل بهوبال (BHOPAL) عام 1954 م.

__________

(1) وذلك بعد أن حصلت الهند على استقلالها. فقد ارتأت وزارة الخارجية الهندية إلغاء محفوظاتها الوثائقية من سملا وتحويلها للأرشيف الهندي في دلهي.

(1/422)

وكان هذا المكتب قد أسسته الحكومة المحلية في بداية الأمر، ثم تقدمت به تلك الحكومة إلى الحكومة الهندية التي أوفدت بعثة خاصة لاستلام موجوداته وتنظيمها(1).

... وقد صار الأرشيف الوطني الهندي محط أنظار جميع دارسي شؤون آسيا، بما فيها العراق وأقطار الخليج العربي والجزيرة العربية.

... ويضم الأرشيف الآن تراثاً آسيوياً أكثر منه تراثاً هندياً. وهو في كل هذا يتميز عن دور السجلات البريطانية بقدر ضخم من المراسلات المحلية والوثائق الأصلية التي لا يمكن العثور عليها في مكان

__________

(1) K. D. Bhargava, op. cit., p. 8.

(1/423)

آخر.

... ومن هذا المنطلق حاولنا أن نعرض لبعض موجودات الـ India Office في لندن، استكمالاً للفائدة وليتابع الباحث المختص سجلات ووثائق الأرشيف بغية هدايته إلى مادة بحثه(1)

__________

(1) لأخذ فكرة عامة عن وثائق الأرشيف الهندي في دلهي ومقارنتها بوثائق وزارة الهند في لندن، يمكن الرجوع إلى المادة الوثائقية التي أعدها Jean C. Lancogster المنشورة في مجلتي:

1 - The British Association, Vol. IX, n° 43, April 1970, pp. 130-141.

2 - British Society for Middle Eastern Studies Bulletin, Vol. 3, n° 1, 1976,

pp. 29-35.

حيث يعطي تفاصيل تلك الوثائق وأصنافها ومجلداتها وفتراتها التاريخية والصور المتوافرة في لندن من الأرشيف الهنديّ.

(1/424)

.

... وثمة ملاحظة أخرى لابد من ذكرها عند المقارنة بين الأرشيفين الهندي والبريطاني، وتهم كل باحث ينوي الرجوع إليهما وهي أن مستوى الخدمات يختلف في الهند عما هو عليه في بريطانيا من حيث التسهيلات وتهيئة مستلزمات البحث. هذا، إضافة إلى أن طريقة الحفظ وفهرسة الوثائق والسجلات ليست بالمستوى المطلوب في الأرشيف الهندي على العكس من الأرشيف البريطاني حيث يعد أرشيفاً متطوراً على مستوى عالمي، ويكفي أن نذكر أن عملية الاستعارة في الأرشيف الهندي تتطلب انتظاراً يتراوح بين ثلاث وأربع ساعات. وللباحث الحق في استعارة

(1/425)

عشرة مجلدات فقط في اليوم الواحد، على حين أنه لا توجد مثل تلك الصعوبات في الأرشيف البريطاني، والأمل معقود على مثقفي الهند لأن يولوا هذا التراث العالمي العظيم أهمية خاصة، وأن يتوجهوا لإدخال أحدث الطرق والوسائل لحفظ هذا المخزون العالمي الضخم من أجل النهوض بالأرشيف الهندي إلى مصاف دور الوثائق والسجلات المتقدمة في العالم.

... ونتوجه بالدعوة إلى حكومات أقطار الخليج العربي لأن تسرع في تصوير الوثائق الخاصة بأقطارها قبل أن تنالها عاديات الزمن.

...

(1/426)

أصالة التراث الثقافي العربي وجدوى إحيائه في بناء ثقافة عربية جديدة

... الدكتور عزة حسن

... ... ... ... ... دمشق

... الثقافة العربية ثقافة عريقة غنية. تشمل في غناها جميع جوانب الحياة الفكرية التي تتمتع بها الإنسانية. ونعني بقولنا هذا أنها ثقافة عالمية، تطاول سائر الثقافات العالمية المعروفة في القديم.

... وتمتد جذور هذه الثقافة بعيداً في أغوار الزمن إلى أيام الجاهلية، حين بدأ التاريخ يسجل شيئاً فشيئاً أولى معطيات هذه الثقافة في الشعر العربي الجاهلي. وهذا ما عبّر عنه محمد بن سلام الجمحي في كتاب

(1/427)

"طبقات فحول الشعراء" بقوله عن العرب: »وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حُكمهم«. وكلمة ديوان في هذا القول بمعنى »كتاب«. وقوله ديوان علمهم معناه: »كتاب علمهم«. وكلمة الحُكْم بمعنى »الحكمة«. وهي المعرفة بمعناها الواسع. وقوله منتهى حكمهم معناه: »منتهى معرفتهم وثقافتهم«. والحق أن الشعر الجاهلي يعدّ من أروع ما أبدعته القريحة العربية على مدى العصور.

... وفي الإسلام بدأت الحضارة العربية الإسلامية العظمى تتكون شيئاً فشيئاً. ولما أطل القرن الثاني من الهجرة على المجتمع العربي الإسلامي، كانت

(1/428)

الثقافة العربية قد نمت وتوسعت، وقطعت مراحل النشأة الأولى. وأخذت تسير في مرحلة الخصب والازدهار. فقامت حينئذ المراكز الثقافية في الأمصار العربية الإسلامية، مثل المدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، ومثل الفسطاط في مصر. وقد تعدّدت فنون الثقافة في هذه المراكز، وتميز بعضها عن بعض. وكثر فيها العلماء، ونشطوا في تأليف الكتب في فنون الثقافة المختلفة.

... ذكر أبو بكر السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء"، نقلاً عن العلامة الذهبي قوله: »في سنة 143 شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين

(1/429)

الحديث والفقه والتفسير.... وكثر تدوين العلم وتبويبه. ودوّنت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس«(1).

... وفي هذا القرن ظهر طائفة من العلماء الكبار الذين ألفوا الكتب. وكان لهم شأن كبير في إرساء أصول الثقافة في عصرهم، وتأثير عميق في عقول أجيال العلماء الذين أتوا بعدهم في القرون التالية. ونكتفي بذكر ثلاثة من هؤلاء العلماء الأعلام. وهم أبو عمرو بن العلاء شيخ اللغة والأدب في عصره. وأبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه الذي وضع كتاباً في النحو، يعتبر أكبر كتاب في

__________

(1) تاريخ الخلفاء، ص. 101.

(1/430)

النحو العربي إلى اليوم. والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي وضع أول معجم لغوي في اللغة العربية، سمّاه "كتاب العين" بسبب ابتدائه بالألفاظ التي أولها حرف العين.

... وفي القرن الثالث من الهجرة بلغت الثقافة العربية أوج الازدهار، وأخذت تعطي ثماراً طيبة في فنون الثقافة المختلفة. ويعتبر هذا القرن بدء العصر الذهبي لهذه الثقافة. ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن هذا القرن هو العصر الذي نبغ فيه أبو عثمان الجاحظ أديب العربية الأكبر. وعاشت الثقافة العربية بعد هذا القرن حياة زاهية زاهرة، وأنارت طريق الإنسانية إلى

(1/431)

حياة أفضل وأجمل خلال قرون عديدة من الزمن.

* ... * ... *

... وقد قامت خلال هذا الزمن الطويل مراكز كبرى للثقافة العربية، تدارس فيها العلماء وطلاب العلم هذه الثقافة. ووضعوا الكتب في جميع فنونها. وارتفعت هذه المراكز مثل منائر النور تنير العالم، في قرطبة الأندلس، وفاس المغرب، والقيروان في تونس، والقاهرة في مصر، وحلب ودمشق في الشام، وبغداد في العراق، وشيراز في فارس، ونيسابور في خراسان، وبخارى في ما وراء النهر، وغيرها من البلدان.

(1/432)

... ونشأ في هذه المراكز الثقافية، خلال أجيال متعاقبة، علماء كثيرون تدارسوا فيها شتى فنون الثقافة، وألفوا فيها آلاف الكتب. حتى نشأ من مجموع هذه الكتب تراث ثقافي عربي غني ثري، يعدّ ثروة ثمينة من تراث الإنسانية.

... إن نظرة سريعة يلقيها الإنسان على كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" للعالم التركي حاجي خليفة، أو على كتاب "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، وكتاب "تاريخ التراث العربي" للباحث التركي فؤاد سزكين كافية لإدراك عظمة هذا التراث وغناه وسعته، وشموله لجميع الفنون

(1/433)

والعلوم.

... لقد عدت عوادي الزمن على قسم من هذا التراث الثمين، فأفنته وغيبته إلى الأبد. ولكن قسماً كبيراً منه قد نجا من يد الفناء، وظل حياً باقياً إلى اليوم. وهو الآن محفوظ مصون في خزائن الكتب والمتاحف في الأقطار العربية، وفي البلاد الإسلامية، وفي غيرها من بلاد العالم.

... ونتساءل: كيف استطاع هذا التراث أن ينتشر في أنحاء العالم؟

... والجواب نجده في سببين كبيرين اثنين:

... 1 ـ الغنى الذي يمتاز به هذا التراث. وقد بيّنا مداه وشموله.

(1/434)

... 2 ـ قوة ارتباطه بدين الإسلام. فقد كانت الثقافة العربية تتبع الإسلام أينما حل واستقر. فما دخل بلداً في الشرق أو في الغرب إلا زحفت وراءه هذه الثقافة، ودخلت هذا البلد، وطبعت أنماط الحياة والفكر فيه بطابعها الخاص، ومدّت عليه جناحين وارفين من الرحمة والنعمة والرفاه الثقافي. وحقّاً كان هذا الارتباط الوثيق أمراً فذّاً عجيباً. فقد فتح الأبواب أمام الثقافة العربية، ووسع لها الطريق حتى امتدت ووصلت إلى بلاد لم يصلها العرب.

(1/435)

... ونذكر مثالاً على ذلك بلاد الهند التي فتح العرب جزءاً منها، وهو إقليم السند، في أيام الدولة الأموية. ثم فتح السلطان محمود الغزنوي كل القسم الشمالي منها، ونشر فيه الإسلام، في القرن الرابع من الهجرة. فدخلت الثقافة هذه البلاد، وانتشرت فيها شيئاً فشيئاً. ثم أقبل الترك والمغول المسلمون، وتوسعوا في حكم بلاد الهند قروناً طوالاً. فتغلغلت الثقافة العربية في أيامهم إلى شتى أنحاء هذه البلاد، واستقرت فيها إلى اليوم.

(1/436)

... وتوجد مكتبات حافلة بمخطوطات التراث العربي في المدن المشهورة في الهند وباكستان، مثل لاهور ورامبور ولُكْناو، وحيدر آباد الدَّكَن في الجنوب. وفي هذه المدينة الأخيرة مؤسسة علمية عريقة، هي الجامعة العثمانية التي تُعْنى بالتراث العربي عناية خاصة. وقد نشرت عدداً من نفائسه، نذكر منها "كتاب المعاني الكبير" لابن قتيبة من علماء القرن الثالث، وهو كتاب فخم في معاني الشعر. وكتاب "المحبَّر" وكتاب "المنمّق" لابن حبيب من علماء القرن الثالث. و"الحماسة البصرية" لأبي الحسن علي بن أبي الفرج البصري من علماء

(1/437)

القرن السابع. وهي مختارات منتقاة من شعر العرب القديم.

... ونذكر مثالاً ثانياً بلاد روسيا النائية. فقد سار التاتار المسلمون منذ قرون من أواسط آسيا، ودخلوا بلاد الروس، وأقاموا فيها دولة على ضفاف نهر الفولغا. فتبعتهم الثقافة العربية إلى موطنهم الجديد. ثم قضى الروس على هذه الدولة بعد صراع وحروب دامية. ولكن الثقافة العربية استمرت في الحياة بين السكان المسلمين إلى اليوم، ولا سيما مدينة قازان المشهورة. وقد رأيت أناساً منهم يتكلمون العربية ويكتبونها، ويعتبرونها لغة العلم والثقافة عندهم. ورأيت نسخة من

(1/438)

ديوان طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي مطبوعة في مدينة قازان سنة 1909.

... ونذكر مثالاً آخر بلاد البلقان. فقد فتح العثمانيون هذه البلاد ونشروا الإسلام في أرجائها. وسرعان ما زحفت الثقافة العربية وراءهم. ثم ارتد العثمانيون عن بلاد البلقان. ولكن التراث العربي بقي حياً هناك بين المسلمين. ففي مدينة قَوَلا في شمالي اليونان، وفي مدن البوسنة، ولا سيما العاصمة سراييفو مكتبات عامرة بآثار التراث العربي من المخطوطات. ويوجد عدد كبير من هذه المخطوطات في مكتبة صوفيا عاصمة بلغاريا، وفي غيرها من مدن البلقان.

(1/439)

... وهكذا انتشر التراث العربي في شتى بلدان العالم الإسلامي الذي أظلته الثقافة العربية، وربطت أجزاءه برباط واحد، من المحيط الأطلسي في الغرب إلى حدود الصين في الشرق، ومن أعماق روسيا والبلقان في الشمال إلى أقاصي الهند وإفريقية في الجنوب. وتجمعت مخطوطات هذا التراث مثل عقود الجوهر في خزائن المكتبات. ولا تكاد مدينة كبيرة في العالم العربي والإسلامي تخلو من مكتبة تضم في جنباتها آلافاً من مخطوطات التراث العربي. ونذكر من هذه المدن أمهات المكتبات إستانبول وبروسه وقونيه ومغنيسيه وجوروم وآماسيه وأدِرْنه في

(1/440)

تركيا، والقاهرة والإسكندرية في مصر، ودمشق وحلب والقدس في بلاد الشام، وبغداد والموصل في العراق، والمدينة المنورة في الحجاز، وصنعاء في اليمن، ومدينة تونس والجزائر، وفاس والرباط ومراكش وتطوان في المغرب، وطهران ومشهد في إيران، وطاشقند في تركستان، ولاهور ورامبور ولُكْناو وحيدرآباد في الهند وباكستان.

* ... * ... *

... ولم تقف الثقافة العربية عند حدود العالم الإسلامي، بل اجتازت هذه الحدود إلى داخل بلدان أوربا في القرون الوسطى، عن طريق الأندلس وجزيرة صقلية في أثناء الحكم العربي فيهما، وعن طريق المشرق

(1/441)

العربي في أثناء الحروب الصليبية. وكانت أوربا متخلفة عنا في الحضارة، وكنا نحن أهل العلم والعمران والحضارة في ذلك الزمان. فاستفاد أهل أوربا من نتائج ثقافتنا، ولا سيما في العلوم كالطب والرياضيات والكيمياء وغيرها. وترجموا عدداً من كتب التراث العربي إلى اللغة اللاتينية. كما أنهم دارسوا هذه العلوم في أصولها العربية في مدارسهم. وهذا كما نصنع نحن اليوم، فنستفيد من معطيات الحضارة الأوربية الحديثة. والأيام دول بين الأمم كما نعلم من مسيرة التاريخ. قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وتلك الأيام نداولها بين

(1/442)

الناس} (سورة آل عمران، الآية 140).

... وقد ازداد اهتمام الأوربيين بالثقافة العربية في العصور الحديثة. فأنشأوا المدارس الخاصة، والكليات والمعاهد في الجامعات، لدراسة اللغة العربية وسائر فنون الثقافة العربية كالأدب والتاريخ والفلسفة والجغرافية والعلوم الطبيعية وعلوم الدين وغيرها. وسعوا في سبيل ذلك للحصول على مخطوطات التراث العربي، وجمعوها في مكتبات هذه الكليات والمعاهد للرجوع إليها والإفادة منها في الدراسة والبحث. واتبعوا لذلك طرقاً مختلفة. فانتقلت إلى أوربا هذه المخطوطات في حقائب الدبلوماسيين،

(1/443)

وفي صناديق التجار الجشعين، وتحت آباط الرهبان المبشرين، وفي بريد العلماء الباحثين، وفي جِعاب الجنود الغزاة الطامعين، وغيرها من الطرق والوسائل الغريبة، حتى حفلت متاحفهم، وامتلأت خزائن المكتبات عندهم بمخطوطات التراث العربي من جميع الفنون.

... واليوم لا نكاد نرى في أوربا عاصمة أو جامعة أو مركزاً ثقافياً ذا شأن خالياً من مكتبة تضم في جنباتها جناحاً خاصاً بمخطوطات التراث العربي. وأشهر هذه العواصم مدينة الفاتيكان في روما، وميلانو في إيطاليا وفيها مكتبة الأمبروزيانا، وبرلين وميونيخ وهيدلبرغ وغوطا في

(1/444)

ألمانيا، وباريس وفيها المكتبة الوطنية، ولندن وفيها المتحف البريطاني، وكيمبرج وأوكسفورد في بريطانيا، وليدن في هولندا، والإسكوريال في إسبانيا، وبترسبورغ في روسيا، ودوبلين في إيرلندا وفيها مكتبة شستربيتي الخاصة الشهيرة.

* ... * ... *

... وفي العصر الحديث ركبت مخطوطات التراث العربي جناح الريح، وامتطت متن البحر إلى الولايات المتحدة في أمريكا التي ليست لها حضارة خاصة عريقة، ولا مظاهر ثقافية موروثة. وهي تسعى لاستكمال هذه النواقص في حياتها الفكرية. وقد أخذت تهتم بشؤون العالم العربي والعالم الإسلامي من

(1/445)

ورائه. وشرعت تعمل لمعرفة الثقافة العربية. وأفضل طريق لذلك هو دراسة التراث العربي نفسه. فبعثت أمريكا البعوث، وافتتحت المعاهد والكليات في الجامعات لتحقيق هذه الغاية، وأنشأت فيها المكتبات، واستجلبت لها مخطوطات التراث العربي. فاستقر معظمها في مكتبة جامعة برنستون التي يربو ما فيها على عشرة آلاف مخطوط. كما أن عدداً منها قد تجمع في مكتبة جامعة يَيْلْ وغيرها.

* ... * ... *

... وأعظم موئل لمخطوطات التراث العربي هي مدينة إستانبول العظمى، بل هي جنة هذا التراث وحماه الأمين. ولاينازعها في هذه الصفة أو

(1/446)

يضاهيها فيها مكان آخر في العالم أجمع. وفي مكتباتها المشهورة أكثر من مائتي ألف مخطوط من التراث العربي. والمكتبة السليمانية فيها تضم وحدها ما يناهز ثمانين ألف مخطوط، فيها ما يقارب خمسين ومئة ألف عنوان كتاب، كما صرّح لنا بذلك صديقنا الأستاذ العالم الدكتور نَوْذات قايا، المدير العام لهذه المكتبة الكبيرة الشهيرة. ولا تمتاز إستانبول في كثرة العدد وحسب. بل هي تمتاز عن غيرها في القيمة العلمية للمخطوطات، وكيفيتها الأثرية أيضاً، إذ تضم مكتباتها أحسن مخطوطات التراث العربي وأجودها وأصحّها.

(1/447)

... والسبب في امتياز استانبول واحتفاظها بهذا العدد الوفير من المخطوطات القيّمة كونها عاصمة الدولة العثمانية، أي كونها آخر مقر للخلافة الإسلامية. وكانت اللغة العربية تدرّس في مدارسها إلى جانب التركية والفارسية. وهي اللغات الثلاث الأمهات التي كتب بها تاريخ الإسلام، وصيغت فيها آثار الحضارة الإسلامية. فعمد سلاطين هذه الدولة ورجالها وعلماؤها إلى إنشاء المكتبات، وحشدوا فيها مخطوطات التراث العربي والإسلامي في كل أصناف الفنون والعلوم لفائدة العلماء وطلبة العلم، حتى بلغ عدد هذه المكتبات سبعاً وثلاثين،

(1/448)

بين كبيرة وصغيرة، موزعة في أطراف إستانبول القديمة.

* ... * ... *

... لقد ألف العلماء كتباً، ووضعوا فهارس علمية، للكشف والتعريف بالمخطوطات المحفوظة في مكتبات التراث العربي في كل مكان بالعالم. وأعظم كتاب في هذا الميدان هو "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان. وهو موسوعة ضخمة في التعريف بالتراث العربي، والدلالة على أماكن وجوده، وبيان المطبوع والمخطوط منه. فصار هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لكل من يبحث في تاريخ الأدب العربي، وكل من يحقق وينشر كتاباً من التراث العربي. وقد حذا حذوه

(1/449)

العالم التركي الدكتور فؤاد سزكين. فوضع كتاباً باللغة الألمانية، سماه "تاريخ التراث العربي". وقد فاق هذا الكتاب كتاب المستشرق بروكلمان، وزاد عليه أشياء كثيرة في التعريف بآثار التراث العربي وبيان قيمتها والدلالة على أماكن وجودها في أرجاء العالم. فصار مرجعاً أساسيّاً آخر، لا يستغني عنه المحققون والباحثون وكل العاملين في ميدان التراث العربي.

... ومن أشهر الفهارس الموضوعة في التعريف بمخطوطات هذا التراث سلسلة "فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية" بدمشق، وسلسلة "فهارس الخزانة الحسنية" في القصر الملكي

(1/450)

العامر بالرباط، وسلسلة "فهرس المخطوطات العربية" المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط.

* ... * ... *

... ويجدر بنا أن نتحدث عن مسألة إحياء التراث الثقافي العربي ونشره التي يطول فيها الكلام، ولا يكاد ينتهي. ولهذا نعمد إلى الإيجاز، ونكتفي برسم الخطوط الأساسية العامة في هذه المسألة في وضوح وبيان.

... إننا لا ندري المقدار الذي نشر إلى اليوم من التراث العربي، لأننا لا ندري مقدار هذا التراث بكامله على وجه دقيق صحيح. وفي إمكاننا مع ذلك أن نقول بأن كثيراً من أصول هذا التراث وأمهات مصادره قد نشرت. فعرفها

(1/451)

العلماء والباحثون وجمهور المثقفين، وأفادوا منها في أبحاثهم ودراساتهم وأعمالهم العلمية. وهذه الأصول والمصادر المعروفة كافية لإدراك غنى الثقافة العربية، وإثبات قيمتها، وبيان جدواها وفائدتها.

... وقد بقي قسم كبير من التراث العربي مخطوطاً غير منشور، يجهله جمهور الناس، ولا يعرفه إلا قلة من العلماء ذوي الاختصاص والخبرة فيه. ولا يقل هذا القسم الباقي في القيمة عن القسم المنشور، وفي جدواه وفائدته لإرساء قاعدة مكينة لبناء ثقافة عربية جديدة قويمة.

* ... * ... *

(1/452)

... بدأت قصة نشر كتاب التراث العربي منذ أكثر من ثلاثة قرون في الغرب، حين كنا نحن في تخلف وسبات عميق. ذلك بأن الأوربيين حين توافرت لهم أسباب النهضة الحديثة أخذوا ينظرون إلى الشرق والإسلام، وصاروا يهتمون بشؤون ممالكهما وشعوبهما، ومنها الأقطار العربية. وكانت هناك دوافع عديدة وراء نظرة أوربا الجديدة، واتجاهها هذه الوجهة الخاصة. ولا يتسع المجال لبيان هذه الدوافع وتفصيلها، ولكن يمكن القول بأنها كانت دينية وسياسية واقتصادية، نشأت بعد نهضة أوربا وزيادة اتصال الشرق والمسلمين بالغرب واتساع حجم التجارة

(1/453)

بين الطرفين.

... كانت هذه الدوافع سبباً في قيام حركة الاستشراق، أي دراسة حضارة الشرق، والمراد العرب والمسلمون، ومعرفة لغاتهم وثقافاتهم. وقد بدأت هذه الحركة بتأسيس مدارس لتدريس اللغة العربية واللغات الشرقية في معظم العواصم الأوربية، ثم تأسيس المعاهد والكليات في الجامعات، وتشكيل الجمعيات والمجامع العلمية لدراسة التراث العربي، ومعرفة شؤون الإسلام والشرق عامة. وقد أنشأوا إلى جانب هذه المؤسسات العلمية مكتبات ملأوها بالكتب اللازمة لدراساتهم، وشحنوها بمخطوطات التراث العربي التي استجلبوها من بلادنا كما

(1/454)

بينا آنفاً. وقد بلغت حركة ا لاستشراق أوج الازدهار في القرن التاسع عشر الذي يعد العصر الذهبي لتقدمها ونتائجها العلمية.

... وفي هذه المدارس والمعاهد والكليات نشأت أجيال من المستشرقين الذين درسوا ثقافتنا، ونشروا عدداً كبيراً من أمهات كتب تراثنا. وكانت غايتهم من نشر هذه الكتب هي دراسة الثقافة العربية في مصادرها الأصلية. وقد اتبعوا طرقاً ومناهج علمية دقيقة في الدرس والبحث وتحقيق المخطوطات ونشرها. وساعدتهم حكوماتهم التي احتضنتهم، وأغدقت عليهم الأموال، ونصبتهم أساتذة في الجامعات، ومنحتهم ألقاب الشرف،

(1/455)

وأنفقت على أعمالهم ومطبوعاتهم، وأوفدت كثيرين منهم إلى الأقطار العربية وسائر بلاد الشرق للاطلاع والدراسة. وكان لهم دأب وصبر وجلد على العمل والبحث. فتمكنوا من إتقان لغتنا وفهم ثقافتنا في اللغة والأدب والتاريخ والدين والعلوم وسائر الفنون، وتمكنوا بعد جهود شاقة متصلة بين أجيال المستشرقين من كشف ثقافتنا وبيان قيمتها وعظمتها، وتعريفنا بها وتعريف العالم أجمع بغناها ومحتواها الإنساني.

... وكل هذا الإنجاز الثقافي فضل لهؤلاء القوم، نعرفه ونقر لهم به من غير حرج أو شعور بالغضاضة. والحقيقة تذكر ولا تنكر.

(1/456)

وما أكثر المستشرقين الذين أفنوا أعمارهم، وأذهبوا أبصارهم في تحقيق كتاب واحد من تراثنا ونشره، أو دراسة فن من فنون ثقافتنا. ولهؤلاء القوم فضل علينا من وجه آخر. فهم الذين مهدوا لنا الطريق لدراسة ثقافتنا وبعث تراثها. ثم فتحوا عيوننا عليها، وأخذوا بيدنا، ودلونا على السير على هدى وبصيرة من أمرنا في هذا العمل العلمي الجليل. وقلما نذكر كتاباً من أصول التراث العربي إلا كان لهؤلاء القوم قدمة فيه، إما بتحقيقه ونشره، أو الحديث عن مخطوطة له وبيان قيمتها العلمية، أو إنشاء دراسة فيه. وقلما نذكر فناً من فنون

(1/457)

ثقافتنا أو موضوعاً من موضوعاته إلا رأينا أحد الرواد من المستشرقين قد سبق إليه وطرقه، أو كتب فيه، أودلّ عليه ودار حوله. والموسوعة الإسلامية خير دليل على ما نقول.

* ... * ... *

... ويؤدي بنا سياق الكلام إلى هذا السؤال الكبير الخطير: ماذا صنعنا نحن في سبيل إحياء تراثنا الثقافي؟

... من الحق أن نقول في الإجابة: إننا اشتغلنا في إحياء تراثنا، وما قصّرنا ولا وَنَيْنَا. ولئن سبقنا المستشرقون إلى الاهتمام به وإحياء جملة من كتبه، فلا يضيرنا ذلك، لأن سبقهم لنا كان لتقدّم الغرب في الحضارة وتخلفنا عنهم.

(1/458)

ويحسن بنا ان نصف بإيجاز حركة بعث التراث العربي في بلادنا.

... بدأ العرب وأهل الشرق ينهضون شيئاً فشيئاً من سبات التخلف. وشرعوا يأخذون عن أوربا بعض نتائج حضارتها الحديثة، ومنها فن الطباعة. وقد أسست أولى مطبعة عربية في إستانبول سنة 1728. وطبع فيها عدد من كتب اللغة والأدب والتاريخ في العربية والتركية والفارسية.

... وفي أواسط القرن التاسع عشر أسس أحمد فارس الشدياق اللبناني الأصل مطبعة "الجوائب" المشهورة في إستانبول. وطبع فيها عشرات من كتب التراث العربي عن المخطوطات المحفوظة في مكتبات إستانبول، نذكر

(1/459)

منها "كتاب الصناعتين" لأبي هلال العسكري. ولا تبلغ مطبوعات هذه المطبعة مبلغ منشورات المستشرقين في التحقيق والتصحيح وتنظيم الفهارس العلمية. ولكنها تمتاز مع ذلك بأنها طبعت اعتماداً على مخطوطات جيدة صحيحة، اختارها أحمد فارس الشدياق من مكتبات إستانبول الفنية بالمخطوطات الجيدة من التراث العربي.

... وفي عهد محمد علي باشا في مصر أسست دار الطباعة الأميرية في القاهرة سنة 1821. وهي أكبر مطبعة في الشرق، وتعرف بين العلماء بمطبعة بُولاق، لأنها كانت في محلة اسمها بولاق في ضواحي القاهرة. وكانت مطبعة حكومية،

(1/460)

أنشأتها الدولة لطبع الأشياء الخاصة بمصالحها في أول الأمر. ثم أخذوا يطبعون فيها الكتب العلمية، وكتب التراث العربي. فطبع فيها خلال مائة عام من تأسيسها عشرات من كتب تراثنا، ولا سيما الكتب الكبيرة ذات الأجزاء الكثيرة التي لا يقدم على طبعها الأفراد والمؤسسات الصغيرة مثل معجم "لسان العرب" لابن منظور الإفريقي، وهو أعظم معجم لغوي في العربية. وقد طبع في 20 جزءاً؛ ومثل كتاب "المخصّص" لابن سِيدَه الأندلسي، وهو أوسع معجم في المعاني والصفات ألّف في العربية. وقد طبع في 17 جزءاً؛ ومثل كتاب "صحيح البخاري" الذي

(1/461)

طبع على نفقة السلطان عبد الحميد الثاني العثماني في هذه المطبعة سنة 1313 من الهجرة في أربعة مجلدات ضخمة نفيسة.

وقد طبعت هذه الكتب اعتماداً على مخطوطات صحيحة جيدة. ولكن القائمين على طبعها لم يتبعوا طريقة المستشرقين العلمية. فجاء معظمها من غير تحقيق علمي، وخرجت خِلواً من الفهارس العلمية التي تعين العلماء والباحثين في الرجوع إلى الكتب، وتيسر الإفادة منها في البحث والدراسة.

... وفي بيروت أسست المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين سنة 1848، وطبع فيها عدد من كتب التراث العربي في اللغة والأدب، نذكر

(1/462)

منها كتاب "الألفاظ" لابن السِّكِّيت، وديوان شعر الأخطل غوث بن غياث التغلبي النصراني، و"الحماسة" لأبي عُبادة البحتري. وقد طبع فيها بعض الكتب التي حققها المستشرقون، مثل كتاب "شرح المفضليات" لأبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري الذي حققه المستشرق لَيَال الإنجليزي.

* ... * ... *

... وبعد الحرب العالمية الأولى نَمَت النهضة العربية الحديثة واتسعت، وظهر أثرها في مجال الثقافة كما في سائر المجالات. فكثر تأسيس المطابع وأنشئت دور النشر في القاهرة ودمشق وبيروت وفاس وغيرها من العواصم العربية، وأخذت

(1/463)

تخرج للناس كتاباً تِلْوَ كتاب من التراث العربي.

... وأشهر هذه المطابع والدور مطبعة دار الكتب المصرية، وأطولها باعاً في إحياء آثار تراثنا. وهي تضاهي مطبعة بولاق القديمة في مكانتها وفي قيمة ما طبعته من الكتب. ومنها كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الإصفهاني، وهو أكبر كتاب في الشعر والشعراء في الثقافة العربية؛ وكتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة؛ و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقَلْقَشَنْدِي؛ و"نهاية الأرب في فنون الأدب" للنُّوَيْري، وهما موسوعتان في الثقافة العامة؛ ومنها كتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، وهو

(1/464)

سفر فخم في اللغة والشعر والأدب. وعشرات غيرها من الأسفار. وتمتاز مطبوعات دار الكتب المصرية بأنها محقّقة مصححة، ومزودة بالفهارس العلمية المفيدة. وهي لذلك أقرب ما تكون إلى مطبوعات المستشرقين من كتب التراث العربي.

... قويت النهضة العربية، وعظم شأنها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وابتداء النصف الثاني من القرن العشرين. وأسست الجامعات ومعاهد الدراسات العالية في معظم الأقطار العربية. فزاد عدد المثقفين في المجتمع العربي، وازداد تبعاً لذلك الاهتمام بتراث العرب الثقافي، والعمل لإحيائه. ونشأت طوائف من

(1/465)

العلماء العرب ذوي الخبرة والمعرفة في ميدان التراث القديم.

... وفي هذه الفترة قلّ عمل المستشرقين في نشر التراث العربي، لأنهم كانوا قد طبعوا من أصول هذا التراث ما يمكنهم من دراسة الثقافة العربية. ولم تعد بهم حاجة إلى نشر ما بقي منه، لأنه ليس من تراثهم، ولا يعنيهم أمر إحيائه. يضاف إلى هذا السبب اكتفاء المستشرقين بما ينشره العلماء العرب الذين أخذوا الزمام، وبادروا إلى إتمام ما بدأ به المستشرقون قبلهم.

(1/466)

... وعمدت بعض الدول العربية لإنشاء مؤسسات علمية تشرف على إحياء التراث العربي. فأنشأت وزارة الثقافة في دمشق مديرية إحياء التراث القديم التي تصدر سلسلة التراث القديم. وشرعت وزارة الثقافة في القاهرة في إصدار سلسلة باسم "تراثنا". ودرجت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الرباط على طبع آثار التراث التي أبدعها علماء المغرب. ومن أجود ما طبعته في الآونة الأخيرة كتاب "ترويح القلوب" لسلطان المغرب العالم الأديب أبي عبد الله محمد بن عبد الله العلوي، بتحقيق الدكتورة إلهام السوسي العبد اللّوي. وتساعد وزارة

(1/467)

الثقافة في بغداد العلماء المحققين على طبع ما يحققونه من تراثنا. ووزارة الإرشاد والأنباء في الكويت تصدر سلسلة باسم التراث العربي. وقد صدرت من هذه الوزارات عشرات من الأسفار، محققة أوثق التحقيق، مصححة أحسن التصحيح. وهناك جهات أخرى في البلاد العربية، أمثال هذه الوزارات، تعنى بإحياء تراثنا، يضيق المجال عن ذكرها وتعداد أعمالها.

... ويرفد مسعى هذه الوزارات نشاط مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد في سبيل بعث تراثنا، وذلك بطبع ما يحققه العلماء من أسفاره. ونشيد هنا بذكر مجمع اللغة العربية بدمشق،

(1/468)

وهو المجمع العلمي العربي سابقاً. هذا المجمع العريق هو أقدم المؤسسات العلمية العربية وأنشطها على الإطلاق، في ميدان إحياء التراث العربي، حتى صار له اختصاص عُرِف به في العالم أجمع، وله فيه ماضٍ حافل بالأمجاد، وسلسلة طويلة ثمينة من المطبوعات، يطول أمر تعدادها. وما زال هذا المجمع العريق يسير قدماً في عمله العلمي الجليل في صبر وصمت، وفي إحسان وإتقان معاً. ومن مشروعاته الكبرى طبع "تاريخ مدينة دمشق" الكبير لابن عساكر. وهو موسوعة فخمة في اللغة والأدب والشعر والتاريخ وغيرها من فنون الثقافة العربية. وقد

(1/469)

صدرت عنه تسعة وأربعون (49) مجلداً إلى اليوم.

* ... * ... *

... وقد برز إلى ميدان إحياء التراث العربي عدد من دور النشر الخاصة في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وغيرها من العواصم العربية. وراحت تتسابق في إصدار بعض الأسفار القيمة منه. نذكر منها دار المعارف في القاهرة، وهي تصدر سلسلة من أسفار تراثنا، أطلقت عليها اسم »ذخائر العرب«. والحقيقة أنها ذخائر ثمينة، وجواهر فريدة، تغذي الفكر، وتعجب النظر بطباعتها الأنيقة. ومن عيون تراثنا الذي أصدرته هذه الدار كتاب "تاريخ الرسل والملوك"، المصدر الأقدم والأقوم

(1/470)

لتاريخ العرب والإسلام القديم. وقد صدر في عشرة مجلدات ضخام.

... ومن هذه الدور الخاصة العاملة في نشر تراثنا »دار إحياء الكتاب العربي« في القاهرة لعيسى البابي الحلبي، وهي مكتبة مصطفى البابي الحلبي المشهورة سابقاً. ومن أمهات الكتب التي أصدرتها كتاب "الحيوان" وكتاب "البيان والتبيين"، وكلاهما لأبي عثمان الجاحظ. ومنها دار الفكر في دمشق وبيروت. ودار الشرق العربي في حلب وبيروت. ومكتبة المثنى في بغداد.

... ويطيب لنا أن نعلن أن الكتب التي طبعت في المؤسسات العلمية العربية ودور النشر الخاصة كانت كلها بتحقيق

(1/471)

العلماء من العرب أنفسهم أصحاب التراث. ووفّرت للعلماء الباحثين مصادر أصيلة لبحوث ودراسات حديثة كشفت جوانب الثقافة العربية الغنية، وبيّنت أثرها في بناء صرح الثقافة الإنسانية، وتوفير السعادة والسلام للناس أجمعين.

* ... * ... *

... ونكمل حديثنا بالكلام على مستقبل التراث العربي، وحقيقة جدواه في بناء ثقافة عربية جديدة. وقد بيّنا آنفاً غير بعيد أنه ما زال قسم كبير من التراث العربي مخطوطاً غير معروف. وهو ذخيرة لا تقل في القيمة عن القسم المنشور المعروف. وينبغي لها أن تكشف وتنشر وتعرف.

(1/472)

... وفي أعناق العلماء والمثقفين من جيلنا حق لتاريخهم ولثقافتهم وللتراث الإنساني عامة، لا يوفونه إلا إذا أخرجوا، منشوراً محققاً، خير ما بقي في خزائن الكتب العربية، في كل بلاد العالم، من مخطوطات صنفها أجدادنا في أبواب المعرفة كلها. وهي لا تزال قابعة في زوايا المكتبات، مهجورة منسية كالأيتام، تنتظر أهلها وأصحابها. ولو قيّض لها أن تخرج من عزلتها، ويطلع الناس على أمرها، لزادت تاريخنا نوراً وضاء يجلو ملامحه، وزودت ثقافتنا الحاضرة بما يجعلها تقوم على أسس آصَل وأثبت، وقواعد مكينة لبناء ثقافة عربية جديدة

(1/473)

قويمة، كما قلنا آنفاً غير بعيد، ولأفادت على التراث الإنساني فضلاً كثيراً وخيراً عميماً.

... وبناء على كل ما سبق نقول بأنه أمام العلماء والمثقفين من العرب مهمة شاقة في هذا الميدان، ذات شقين. الأول تقويم ما طبع طبعاً تجارياً من التراث العربي، وإعادة طبعه محققاً مصححاً. ونذكر مثالاً على ذلك كتاب "الفهرست" لابن النديم، و"المقدمة" لابن خلدون. وقد طبعا عدة طبعات ناقصة مبتورة، ويشيع فيها الغلط والتصحيف. وقد اشتغل بكتاب "الفهرست" صديقنا العلامة محمد بن تاويت الطنجي، رحمه الله، اعتماداً على مخطوطة أصيلة

(1/474)

في مكتبة شستر بيتي في دوبلين عاصمة إيرلندا. وعني هذا العالم أيضاً بتحقيق "المقدمة" لابن خلدون بعد أن اطلع على مخطوطاتها الموزعة في العالم، واختار منها النسخ الجياد، واعتمدها في التحقيق. ولكن الأجل المحتوم وافاه قبل إنجاز أعماله العلمية.

... والشق الثاني من المهمة هو العمل بعزم وتصميم لإحياء ما تبقى من تراثنا، وهو كثير موزع في أنحاء العالم. ونذكر مثالاً هنا كتاب "عيون التواريخ" لابن شاكر الكتبي، وهو بحر واسع في تاريخ العرب والإسلام.

(1/475)

... والمهمة شاقة حقاً. والطريق إلى إنجازها صعبة المسالك طويلة. على أن العزيمة مع الدأب والجلد كفيلة جميعاً باجتياز كل المصاعب.

(1/476)

أصداء معركة وادي المخازن في الشعر المغربي

الدكتور عبد الحق المريني

الرباط

تاريخ المغرب سلسلة من الملاحم الحربية والمعارك الضارية خاضها أهله ليحافظوا على وحدة بلادهم، وليقفوا سدا منيعا أمام التسربات الأجنبية عبر شواطئه، وليحملوا الرسالة الإسلامية التي حمل لوائها إدريس الفاتح ولينشروا ذيول هذه الرسالة في الأندلس شمالا وفي الأقاليم الصحراية إلى وادي السينغال جنوبا.

ولم تكن حركة النضال والجهاد هذه تقودها الدولة فحسب وتخوض غمارها القوات النظامية، بل كثيرا ما أخذ المجاهدون على عاتقهم هذه المهمة

(1/477)

الشاقة والعسيرة والنبيلة في نفس الوقت وأذكوا في نفوس المغاربة الشعور الديني والوطني ليجاهدوا في سبيل الله وليدافعوا على عزة الإسلام وكرامة بلادهم حتى لا تكون فتنة والدين كله لله.

ذلك أن المغاربة - كما عرفوا عبر تاريخهم المجيد - لا يركنون للاستسلام واليأس، وإنما دأبهم أن يصبروا ويستلهموا من ذخيرة إيمانهم القوي روافد من القوة والبأس الشديد لمجابهة ومطاردة الانكسارات.

ففكرة الجهاد والمقاومة وهي فكرة سادت تاريخ المغاربة وسايرت عصورهم ودولهم، فلم تنقطع أبدا حركة الجهاد والمقاومة داخل المغرب وخارجه :

(1/478)

في الأندلس وفي إفريقيا وفي "السودان" نضال مستمر من أجل الاستقلال والدفاع عن الإسلام وإغاثة المستجيرين من الجيران الذين عجزوا عن رد العدوان وحماية الأهل والبلد.

فجذبت فكرة الجهاد المجاهدين المغاربة ودفعتهم إلى استرخاص أرواحهم في سبيلها غير جزعين من بأس أعدائهم مؤمنين بأن كل شيء قد قدر تقديرا.

وكان هدفهم من جهادهم ليس لدوافع عدوانية وإنما هو إحساس غريزي لإعلاء كلمة الله- وكلمة الله هي نصرة الحق وإقرار العدالة وإحلال السلام- ولنشر دينه القويم وحماية دعوته ولقتال أعداء الإسلام في سبيل الله، وحبا في

(1/479)

الاستشهاد حتى يلقوا ربهم شهداء وينعموا بما وعدوا به من جنان تحت ضلال السيوف وآخرة هي خير وأبقى.

ولما كان الجهاد في سبيل الله يحقق بوسيلة النفس أو المال أو السلاح أو حتى باللسان فقد جاهد أدباء المغرب بلسانهم وقلمهم دفاعا عن المغرب وحريته وعزته ودينه وإسقاطا لأعدائه والمتعدين عليه.

وكانت "حركتهم" الأدبية قوة دافعة يغذيها الإيمان العميق والإحساس بضرورة الانطلاق برسالة النضال والجهاد إلى المغاربة كافة.

(1/480)

فواكب الأدب المغربي وخاصة الشعر العربي "مسيرة" المغرب "الجهادية" وعبر على أن المغرب كان مسرحا لسلسلة من النضالات المتواصلة التاريخية، وخلد في طي دواوينه ملاحم رائعة لبطولات الجيوش المغربية وبلائها في ميادين الجهاد والاستشهاد داخل البلاد وخارجها، وارتبط شعر الجهاد والمقاومة ارتباطا وثيقا بحياة المجاهدين في الدفاع عن حوزة البلاد والذود عن حماها ومحاربة أعداء المسلمين وحماية راية الإسلام في العدوتين : المغرب والأندلس.

(1/481)

فكان شعر الجهاد والمقاومة جزءا صميما من حياة المغاربة ونضالهم وصوتا مدويا لجهادهم،ولسانا معبرا عن إراداهم وسلاحا منافحا عن شرفهم. وكانت كل قصيدة مربوطة بحادث يمت إلى تاريخه النضالي من قريب او بعيد.

وبذلك كان شعر الجهاد والمقاومة غزيرا ووفيرا، قويا ورفيعا، واقعيا وحيا - لا خياليا ولا صوريا- ملأ بطون دواوين الشعراء وأراجيز الناظمين ومصنفات الكتاب ورسائلهم وكتب المؤرخين وأسفار الأدباء منهم،وأصبح وثيقة تاريخية تؤرخ لمراحل حية من تاريخ المغرب الجهادي والنضالي وتخلد ما لم يستطع النثر أن يخلده أناشيد

(1/482)

للبطولة والعزة والمجد.

وإذا قطعنا مراحل الجهاد والمقاومة من الفتح الإسلامي إلى نهاية الوجود المغربي بالأندلس نجد أن العدوان الخارجي على المغرب - لا سيما الإسباني منه والبرتغالي، جاء كرد فعل انتقامي للوجود السابق في الأندلس بصفة خاصة وللوجود الإسلامي بصفة عامة. وكان العدوان موجها مباشرة بالدرجة الأولى للمغرب لأنه كان أكبر مدافع عن الأندلس وأعظم مجاهد في سبيل الله لأجل إبقاء إسلام الأندلس راسخا على أرضها وبين أهليها.

(1/483)

وهكذا استغل البرتغاليون ضعف الدولة المغربية وفوضى الحكم التي ضربت أطنابها في خضم الصراع الحاد بين الوطاسيين ووزراء بني مرين، فقاموا بالهجوم على السواحل المغربية الأطلسية. وفي هذه الظروف الحرجة للجهاد في شفشاون واستطاع أهل الرباط من المجاهدين ان يصدوا منه بقيادة بني راشد، التوسع البرتغالي الذي كان يهدف إلى الوصول إلى فاس مقر دار الملك وكعبة العلم والفكر. وقد تعززت الحركة الجهادية بفلول الأندلسيين النازحين إلى العدوة المغربية ( 1018 هـ/ 1609م ). وقام الإسبان بنفس الهجوم على السواحل " الأبيض

(1/484)

المتوسط" حسب الاتفاق المبرم بين البرتغال والإسبان، لتحديد مناطق الغزو المسيحي بإفريقيا سنة 894هـ/ 1494م. وكان لغزو السواحل المغربية من لدن البرتغال والإسبان ، وعجز الدولة الوطاسية عن تحريرها ومقاومة الغزاة المعتدين عليها - لضعف أمرها وتناحر أمرائها- رد فعل قوي في نفوس المغاربة الذين انتفضوا للجهاد في معارك عنيفة. وقد قاد فورته علماء وصلحاء ومتصوفة وشرفاء متطوعون في سبيل الله - كأشراف بني راشد في جبل العلم بالشمال المغربي والأشراف الجزوليين بجنوبه في سوس- ولما كان الشرفاء السعديون يحتلون في نفوس

(1/485)

هؤلاء المجاهدين مكانة مرموقة - لشرف نسبهم - لجأوا إلى إقناعهم بقبول الملك عليهم لتنظيم مقاومة حربية جديدة ضد النصارى الذين احتلوا معظم الموانئ المغربية، ولتأسيس دولة سعدية محكمة وقوية تتبنى شؤون الدولة المغربية منها والحربية.

وقال الإمام عبد الله الهبطي الذي عاشر العهد السعدي منذ أوله في هذا المعنى :

فرحم الله أميرا قد سلك نهج الهدى وما سواه ترك

فإن رأى أمرا يضر بالمسلمين ... ... سده ولم يكن في الغافلين

وما أحوج الورى لدى شر الزمان ... ... إلى إمام قائم بالقرآن

(1/486)

وفي هذا "الخضم العارم" انبرى الأشراف السعديون- من قلب الجنوب المغربي لوصل حاضرة مراكش بحاضرة فاس - ولقيادة ثورة مسلحة وحركة جهادية منظمة ضد البرتغاليين.

وقد اعتمد السعديون على الجنوب المغربي وعلى رجاله وشعرائه وأدبائه، ولم يبق أي اتصال بالأندلس ورجالها، واقتصر المغرب السعدي على الدفاع عن الوطن وحمايته ومحاربة المتحالفين مع أعدائه ومقاومة الغيرين على سواحله. وأصيب الأدب السعدي بشيء من الخمول والركود لاضطرار أهله من علماء وفقهاء وكتاب وخطباء وشعراء إلى المشاركة في حركات الجهاد ورفع بنودها.

(1/487)

ولما تولى أبو عبد الله محمد المتوكل ملك المغرب دخل إلى طنجة وتقرب من البرتغاليين ، وفر عند "الطاغية" سبستيان" البرتغالي واستنجد به ضد عمه أبي مروان عبد الملك المعتصم. فاشترط عليه الملك البرتغالي أن يكون للبرتغاليين سائر السواحل المغربية وللملك السعدي ما ورائها. فلما علم المغاربة بهذا الاتفاق بايعوا عمه عبد الملك المعتصم بفاس، ونقض العلماء بيعتهم له، فوجه رسالة إلى علماء المغرب وشرفائه يعبيهم على ذلك فأجابه كافة أهل المغرب من شرفاء وعلماء وصلحاء وأجناد ورؤساء برسالة مطولة " دافعة لجيش أباطيله

(1/488)

وفاضحة لركيك تأويله". فأمر الملك الجديد أخاه محمد أن يخرج من فاس بالجيوش، ولما نزل "سبستيان" البرتغالي بوادي المخازن قرب قصر كتامة وقطع الوادي أمر عبد الملك بتهديم القنطرة ونادى : " ان اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله" . وزحف إليه في جنود وخيل الله المسومة يوم 30 جمادى الأولى سنة 968هـ/ 4 غشت 1578م. "ولم يكن عندهم أحلى من الاستشهاد". فالتفت الفئتان،وتوفي عبد الملك المعتصم في الصدمة الأولى. وكتم أخوه أحمد وفاته، واستمر القتال على أشده حتى ولى المشركون الأدبار، وهب ريح النصر، ودارت على

(1/489)

البرتغاليين وحلفائهم من الجنود الإسبان والبرتغاليين دائرة البوار وتقهقروا إلى الوادي وغرقوا فيه، وكان من بين الغرقى محمد المتوكل " المسلوخ" ( لأن المنصور أمر بسلخ جلده وحشوه بعد موته).

فتوفي في هذه المعركة ملوك ثلاثة : الشهيد عبد الملك وابن أخيه "المسلوخ" والملك "سبستيان" البرتغالي.

ومما جاء في درة السلوك فيمن حوى الملك من الملوك لأحمد بن القاضي التي تشتمل على وصف وقعة وادي المخازن شعرا :

وابن أخيه بالنصارى معتصما ... ... ... وصار يستنجدهم لمن سما

(1/490)

أجابه اللعين بسبستيان ... ... ... بجيشه ومعه الأوثان

فقيض الله له منصورا ... ... ... ملكا شجاعا أسدا هصورا

فخلص الإسلام من يد اللعين ... ... ... بصبره على لقاء المشركين

ما منهم إلا قتيل وأسير ... ... ... في ساعة من الزمان ذا شهير

مات بها سبستيان اللعين ... ... ... فما له على الردى معين ...

ثم محمد الذي أتى به ... ... ... مات غريقا يومه فانتبه

وبعد أن أذن الله بالنصر على الغزاة بويع أبو العباس أحمد المنصور ملكا على المغرب وبعث إلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب وإلى الخليفة العثماني يخبرهم

(1/491)

بأن "الله أنعم عليه بإطهار الدين وإهلاك عبدة الصليب".فكانت هذه المعركة بمثابة وقعة حاسمة في تاريخ الصراع بين الاسلام والمسيحية - حتى شبهت بغزوة بدر الكبرى - أنزلت ضربة قاضية بالقوة البرتغالية، ووضعت حدا لوجودها بالمغرب، وجعلت دول الأتراك والإسبان والبرتغال أنفسهم تعدل عن سياستها التوسعية بالمغرب.

فكانت بذلك معركة غرة في جبين تاريخ الجهاد والمقاومة بالمغرب، وخلفت للمغرب ذكرا خالدا في العالمين.

وقد سجل أصداء هذه المعركة الخالدة كثير من الشعراء، إلا أننا لن نطلع إلا على نزر قليل منها، وعلى "صبابة

(1/492)

لا تروي غليلا". وربما توجد آثار شعرية أخرى مدفونة في "بطون الدفاتر وخبايا الخزائن" كما قال المرحوم الاستاذ الجليل العلامة عبد الله كنون.

ومن الشعراء الذين عاصروا الواقعة وأثرت شاعريتهم وكانت مصدر وحي لهم :

الشيخ داوود بن عبد المنعم الدغدوغي الذي عاش في أواخر القرن العاشر. وقد وصف المعركة وصفا دقيقا - لا يكتبه إلا شاهد عيان - وصور شهامة الجندي المغربي وبسالته في جحيم المعركة تصويرا رائعا، وهو يستشهد بقلب ثابث الانتصار، وكيف أظهر الله المغاربة على أعدائهم حتى خلص لهم وجه المغرب وأعادوا الأمور إلى

(1/493)

نصابها في بأس وشجاعة مطلعها

جنى النصر ما بين الظبا والكنائن ... ... على سابقات المذكيات الصوافن

ومن لم يخض بحر الحروب فلا يرى ... لحوزته دون العدا خير صائن

وقد وقف الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله على هذه القصيدة مخطوطة عن المرحوم محمد المختار السوسي. فبعدما وصف شاعرنا هجوم الجيش البرتغالي على المغرب وسواحله تعرض إلى مقاومة من جند الله مفتخرا بكتابئبه التي "تضرب الهامات ويهوي فيها الفرسان بأسلحتهم على الخصوم كالبزاة الكواسر" :

تجمع جند الله من كل جهة ... ... ... وقد غض من مدينة كل دائن

(1/494)

ونلوهم الأجناد والناس كلهم ... ... ... تضل بهم أبصار كل معاين

ثم عاد الشاعر يصف المعركة وانهزام سبستيان فيها وصفا دقيقا وعميقا " تضمن صورا وملامح تدخل في صلب الحقائق التاريخية" - كما قال الأستاذ الدكتور عباس الجراري - قد تكون مدونات التاريخ أغفلت ذكرها والإشارة إليها.

فشبت لظى الهيجاء ليس وقودها ... سوى أنفس الشجعان وسطر الميادين

إذا أرعدت تلك المدافع أبرقت ... ... صقيلات بيض الهند فوق اليمائن

فلولا البروق الخاطفات من الظبا ... لما أبصرت عين خلال المداخن

(1/495)

قد انقضت الفرسان منا عليهم انقضا ... ض صقور الجو فوق الوراشن

وسبستيان كفتنة مياهه ... ... هزيما وماء النهر أفظع كافن

وحين قضى البتار في الكفر ما قضى ... وأشلاؤه نتن بغير مدافن

رأيت ألوفا من الرؤوس تجمعت ... ويا ليتها أيضا جدار المآذن

بغوا فجنوا جني البغاة فأصبحوا ... سماد الفيافي لأسماد الفدادن

إلى أن حقق الله النصر للمومنين على ذوي الكفر :

هنالك نصر المومنين مؤزرا ... ... على كل ذي كفر تهجم ضاعن

وكان يوم مثل يوم بدر وحنين :

فذلك يوم مثل بدر وصنوه ... ... حنين بأيدي المومنين الميامن

(1/496)

لقد ذاق فيه "البردقيو" من الردى ... جزاء مناحيس خزايا ملاعن

وقيل : الحمد لله :

فنحمد رب العرش إذا كان ديننا ... ... لأهل الوغى والبأس خير المعادن

مواطن كانت للجهاد مشاهدا ... ... بهن مياه العز غير أواسن

مقارنا فيها بين أولئك المغاربة الذين صنعوا على عرش المغرب يوم النصر قام شاعره أبو فارس عبد العزيز الفشتالي - الذي بارى لسان الدين بن الخطيب في قصيدته التي مدح بها أبا سالم المريني :

أطاع لساني في مديحك إحساني ... ... ولقد لهجت نفسي بفتح تلمسان

(1/497)

فأنشد نونيته العصماء - ليلة عيد المولد النبوي الشريف في تهنئة المنصور بهذا النصر واصفا بلاءه جنوده في هذه المعركة التاريخية التي لم يواكبها الشاعر في وقتها، ومطلعها :

هم سلبوني الصبر والصبر من شأني ... وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني

وبعد أن يشيد بحنكة كتائبه العسكرية في المعركة وبالانتصار الوطني الضخم :

وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ... وأرزم في مركومه رعد نيران

صببن على أرض العداة صواعقا ... أسلن عليهم بحر خسف ورجفان

كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان

(1/498)

عديد الحصى من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان

من اللائي جرعن من العدا غصص الردى ... و غفرن في وجه الثرا وجه بستيان

وفتحت أقطار البلاد فأصبحت ... تؤدي الخراج الجزل أملاك السودان

يخاطب ممدوحه المنصور مباركا له الفتح ويمنيه ما بين السودان وبغداد:

أيا ناظر الإسلام شم بارق النا ... ... وبارك لروض في ذرا المجد فينان

قضى الله في علياك أن تملك الدنا ... ... وتفتحها ما بين سوس وسودان

وأنك تطوي الأرض غير مدافع ... ... فمن أرض سودان إلى أرض بغدان

(1/499)

فكم هنأت أرض العراق بك العلا ... ... ووافت بك البشرى لأطراف عمان

فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ... ... أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان

فلا زالت للدنيا تحوط جهاتها ... ... وللدين تحميه بملك سليمان

فما المجد إلا ما رفعت سماكه ... ... على عمد السمر الطوال ومرّان

ويقول أبو عبد الله محمد بن علي الهوزالي من قصيدة في مدح "السلطان المشهور والأسد الهصور" أبي العباس أحمد المنصور، مسجلا فيها هول وشدة معركة وادي المخازن التي قضى فيها على الشرك والكفر :

حروب طوت البغاة وملهم ... ... ومات لها ذكر البسوس وداحس

(1/500)

لعمرك لا أنساه يوما شهدته ... ... وقد سفرت بين الكماة المداعس

وحسبك في وادي المخازن وقعة ... ... بها الشرك حتى آخر الدهر تاعس

بيمن أبي العباس صالت سيوفنا ... ... على الشرك حتى ليس للشرك حارس

فدانوا له حتى توقع بطشه ... ... وذلت لنا منه الأنوف الغطارس

فجهز ما تحوي ذخائر ملكه ... ... يذوذ بها عن نفسه ويداعس

فلا زال سيف الحد في كف أحمد ... ... يذوذ بها عن دينه ويداعس

وظل صدى هذه المعركة يرن في العصر السعدي وخصوصا في عهد المنصور الذي كان مزدحما بالفتوحات.فكلما هنأ الشعراء المنصور بالفتوح أو بحلول

(1/501)

عيد المولد النبوي كانوا يشيرون إلى معركة وادي المخازن التي غذت " معلمة ومنار". وكانت تلك الإشارة من الشعراء السعديين ضرورية في هذا الظرف بالذات. وذلك لتعويد المغاربة على الاستمرارية في الجهاد وتحريضهم على تحدي الوجود البرتغالي في الثغور المغربية،وإذكاء روح المقاومة في نفوسهم الأبية:

فلأبي عبد الله محمد علي القشتالي مولدية في هذا الصدد ذكر فيها بجهاد المنصور بوقعة وادي المخازن ودفاعه عن الإسلام ضد أعدائه من حملة الصليب وعباده يقول فيها :

وجردت في ذات الإله صوارما ... ... تصول بها والعاجزون نيام

(1/502)

ضربت بها التثليت للحتف ضربة ... ... فلم يبق بعد للصليب قيام

وأمطرت وابلا "بالمخازن" قطره ... بموت الأعادي بندق وسهام ...

فكم لك من سيول مراكب ... ... طلعت بها كالبدر فيه تمام

وحولك عقبان الكماة تساقطت ... ... لبطشتها يوم الأعادي وهام

ولاح وميض المرهفات كأنه ... وميض نجوم والدياجي قتام

فأبرزت فتحا دوخ الأرض صيته ... وزين أشتات المعالي نظام

ويقول من قصيدة أخرى وقد شبه المنصور بالصقر وهو ينقض ظافرا في وقعة وادي المخازن :

وحسبك من وادي المخازن إذ طمت ... بحار المردى والخيل فيها جماح

(1/503)

فكان بها كالصقر ينقض ظافرا ... ... تساعد منه مخلب وجناح

له حالتا سيف وسيب كأنما ... ... تجمع في يمناه سم وراح

هذا وكلما حلت ذكرى هذه المعركة إلا وأثارت مشاعر شعرائنا المحدثين فأنشدوا مما يدل على أن معركة وادي المخازن لم تكن حدثا عابرا بل بقيت حافزا على إثارة الشعور الوطني سياسيا وأدبيا :

فللمرحوم علال الفاسي قصيدة بعنوان " ذكرى موقعة وادي المخازن أو غزوة الملوك الثلاثة" يقول في مطلعها :

بفضلكم أبطال "وادي المخازن" ... ... يردد فينا اليوم صوت المآذن

(1/504)

ولولا جهاد منكم بعزيمة ... ... وتضحية كبرى بيوم "السواكن"

وما جئتموه من ثبات وحكمة ... ... وما بان فيكم من عظيم التضامن

لأضحت بلادي طعمة لعدوها ... ... كأندلس أخت الأسى والتغابن

إلى أن يقول في وصف هذه المعركة الخالدة :

من "القرويين" انتضى كل ذائد ... عن الدين قوام على الحق ضائن

فما وهنوا لما رأوه و لا انثنوا ... عن الصدع بالرأي السديد للاحن

وهب سبستيان في نشوة الرضا ... يرى النصر مضمونابأقدس ضامن

وهاجم من ثغر العرائش زاحفا ... ... إلى القصر مجتازا بوادي المخازن

(1/505)

وقد بث في كل الجهات عيونه ... ... ونظم في الأحياء شتى المكامن

ففرت جموع المسلمين كأنها ... ... غثاء تردي في مسالك عاين

ولكن شهما من بني الجد لم ... يثبتهم حتى ارعوا للمساكن

وجاء "أمير المومنين" بجيشه ... كأنهم أسد شداد البرائن

وهبت جموع الشعب حول إمامها ... يقودهم في البذل شيخ الضغائن

وكان ضراب لم يسجل مثيله ... ... بما اشتد فيه من ثجيج المطاعن

وأبلى بها المنصور خير بلائه ... ودبرها بالحزم تدبير فاطن

فلله منه حين ضاع منوه ... ... أدار الرحى في حكمة وتوازن

(1/506)

وهبت رياح النصر في جانب الهدى ... وأردت سباستيان بين المطاحن

فلله من يوم الثلاثة أنه ... ... بداية عهد للبنا والتصاون

فلله من وادي المخازن أنه ... ... قد امتلأت منه جميع الخزائن

وبعد يخاطب الشاعر أعداء من ملة واحدة :

فلسنا نمل الحرب حتى تعافنا ... ... ولسنا نخاف البأس من أي كائن

لئن كنتم أرقى وأعظم عدة ... ... فإيماننا أقوى وخير مداين

فلا تحسبوا الصحراء تبقى إليكم ... ... ولو سنتموها بالسلاح المطاعن

فإن الصحاري أرضنا وديارنا ... ... وأبناؤها إخواننا في المواطن

(1/507)

ورغبتهم من رغبة الشعب كله ... ... فلا تنكروا حقا بدا للمعاين

وقد أخلصوا للعرش في كل حالة ... ... ولم يخرجوا عن واجبات المواطن

ويقول الشاعر عبد الواحد أخريف من قصيدته "الملحمة الخالدة" :

الحق جل جلالا زور ولا هدر ... ... وادي المخازن ذكرى حفها الظفر

وادي المخازن يا أنشوذة عبقت ... ... بعطرها صحف التاريخ والسير

فخر الملاحم في دنيا الجهاد فلا ... ... تدنو إلى شأوها ملاحم أخر

تبقى مدى الدهر شمسا لا تغيب ولا ... ... يخفى نصاعتها غيم ولا مطر

(1/508)

لولاك ما كانت الأمجاد كاملة ... ... وان تعددت الأشكال والصور

وينشد الشاعر مصطفى الطريق متغنيا ببطولة وشجاعة أبناء المغرب الأباة في معركتهم الكبرى ضد الغزاة اللئام بكل شمم وإباء :

فما يوم توانوا عن نداء ... ... ينادي للفدى ضد اللئام

مغاربة أباة ليس فيهم ... ... ... سوى ليث ومقتدر همام

ما خاضوا المعارك او تصدوا ... ... ... لها إلا وكانوا خير حامي

معارهم لنا ذكرى انتصار ... ... ... وفيها للعدا ذكرى انهزام

ومعركة المخازن خير ذكرى ... ... ... وفي إحيائها كل التسامي

إلى أن يقول في ختامها :

(1/509)

فلا نرضى بذل أو هوان ... ... ... ورد الذل في رفع الحسام

فهذي أرضنا الصحراء عادت ... ... ... بفضل مسيرة الشعب الهمام

ويقول الشاعر المرحوم قدور الورطاسي في قريضه مع ذكرى وادي المخازن يعاتب البرتغاليين على هجومهم السافل على حرمة المغرب وعزته وأمجاده :

أليس غريبا أن يشط جوارنا ... ... من البرتغال إذا تنادوا ليغضبوا

يسقون للحمام جيشا عرمرما ... ... غرورا ب "الممسوخ" به الملك يلعب

ألم يذكروا بالله سالف مجدنا ... ... وما لنا من قوى إذا الخصم "أشعب"

(1/510)

ألم يعلموا أنا نرى العيش عزة ... ... وإلا فإن الموت أولى وأعذب

ويقول الشاعر محمد الغربي هائما في وادي المخازن وذكرى جهاده واستبساله وبطولة رجاله :

أهيم فيك وأجني منك أشعاري ... ... كأمس يا سيد الوديان يا جاري

يظن أنك من عهد الزواحف لم ... ... تهدر ماؤك لا يجري بتيار

وأنت أنت كعهد الناس مندفع ... ... إلى الأمام بسرفيك مدرار

إن الأولى هزموا فيه العدو بما ... ... أتوا من الصبر في شهره الحار

فاثخنوهم جراحا لا بأسلحة ... ... فتاكة بل بحصباء وأحجار

(1/511)

ثم يخاطب شباب الحمى من المغاربة شارحا لهم مغزى ذكرى المخازن :

ذكرى جهاد وتحذير وتوعية ... ... وقصة تبتدي من يوم ذي قار

حتى يكون لنا مجد تحس به ... ... أسفار تاريخ لا تاريخ أسفار

ويلقب الشاعر عبد الواحد السلمي وادي المخازن بالوادي المقدس الوادي المتحدي بكل شمم وإباء لكل معتد وظالم للمطمئنين الآمنين على ضفافه :

فاض من منبع الجبل ... ... ... ... يتمشى على مهل

وجرى سلسا وسـ ... ... ... ... ال رفيقا بلا عجل

ثابت الخطو راسخا ... ... ... ... يتحدى كل الدول

(1/512)

تتلاشى غزاته ... ... ... ... وهو في الصدر لم يزل

إلى أن يقول بعد وصف لغزوة المخازن محذرا من سوء المصير كل غازي أثيم :

قل لمن رام غزونا ... ... ... ... هاهنا الموت فارتحل

إن ترم قهر جيشنا ... ... ... ... تجد الرمس والأجل

فاعتزل إن أرضنا ... ... ... ... خبرتنا كل الدول

إن توهمت قهرنا ... ... ... ... أو تشككت فلتسل

ويناجي الشاعر أحمد السفياني شهداء وادي المخازن من قصيدة منشدا :

قوم إذا رفعت في الحرب رايتهم ... ... استشهدوا في سبيل المجد راضينا

(1/513)

هذي قبورهم إن زرتها نطقت ... ... بل تلك أرواحهم منها تنادينا

أرواحهم من سما عليائها نزلت ... ... قد رفرفت وهوت شوقا تهنينا

وقد يستعطف وادي المخازن ليذكرنا بصور الشهامة والبطولة والأمجاد التي عاشها الوادي في وقعته الكبرى :

وادي المخازن ذكرنا بموقعة ... ... وادي المخازن قم واخطب بها فينا

وادي المخازن لنا صورا ... ... فوق الرؤوس وذكرنا بماضينا

وادي المخازن بما بلغت ... ... من المجد رايتنا نلقاك صاغينا

إن الحقيقة في التاريخ يعلمها ... ... كل الورى فاقترب وناجينا

(1/514)

ويعتبر الشاعر المرحوم محمد الخمار أن معركة وادي المخازن هي أنشوذة النصر والظفر على لسان الدهر وأبطالها الصناديد هم معجزة العصور والأزمان قائلا :

وصرت على شفة الدهر أنشو ... ... دة المجد والنصر والظفر

فما كان يومك إلا كبدر ... ... ... وإلا كطحين أو خبير

وما كان أبطال يومك إلا ... ... ... صناديد مفخرة الأعصر

أعادوا لنا المجد صرحا أقامـ ... ... ــــــــوه بالسيف والدم والعتير

ويتساءل متعجبا الشاعر حسن الطربيق عن وادي المخازن : أي واد واد المجد وإباء الضيم ودماء الفداء ؟ ؟

(1/515)

أي واد يسرى ندى الحواشي ... ... بين جبينيه في ثرى آبائي

أي مجد على التعاقب يزجيـ ... ... ـــه ويلقيه مثل الضوء ضوء السماء

فخقت كل راية ولواء ... ... ... بدماء موصولة بدماء

إلى أن يقول في ختام قصيدته بعد أن وصف هذه الملحمة الخالدة :

هكذا هكذا الرجال من المغر ... ... ب في كل وقعة ولقاء

إلى غير ذلك من القصائد التي أشار إليها أستاذنا الدكتور عباس الجراري في كتابه "معركة وادي المخازب في الادب المغربي" وغيرها من القصائد المنشورة في بعض الدواوين الشعرية - كقصيدة عبد الكريم الطبال في ديوانه الأشياء

(1/516)

المتكسرة - والملاحم الشعرية مثل " وادي المخازن" للشاعر محمد طريبق و "المعركة الكبرى" للشاعر علي الصقلي.

ولا يعزب عن البال أن الأستاذ عبد المجيد بنجلون كتب قصيدة نثرية عن هذه المعركة الخالدة بلغة شعرية رائعة تحت عنوان " معركة الوادي".

وهكذا ظهر من خلال هذه الصفحات أن الأمة المغربية أمة محاربة مجاهدة، لا تستكين على ضيم، أسال أعداؤها دماءها وأسالت دماءهم على جنبات الوادي دفاعا عن الحمى.

وكانت هذه الحرب انتصارا للحق على الباطل وللهدى على الضلال، ومن أجل تحرير الإنسان المغربي والأرض المغربية. فمعركة

(1/517)

وادي المخازن رغم ضراوتها ومرارتها لم يكن للأمة المغربية خيار آخر غيرها فكانت هي الوسيلة الوحيدة لوضع الحق في نصابه. وإذا قدر لجنود المغرب أن يخوضوا غمارها، ويقتحموا دوربها، فلأنهم أجبروا على ركوبها، بعد أن وجدوا أنفسهم يتعرضون للتحديات، وهذا ما دفعهم ليظلوا متوثبيت يقظين متحفزين، محتفظين بسلاحهم كي يدفعوا به عن أرضهم وملتهم ضد نوازع الشر و يحموا بيوتهم ودولتهم من الأخطار التي تتهددها من الداخل والخارج.

(1/518)

فهذه الصور الرائعة من البطولة والشهامة والنجدة والإباء التي ظهرت من خلال معركة وادي المخازن، ألهمت شعراءنا القدماء والمحدثين فخاضوا معارك الجهاد والنزال من خلال أشعارهم، يرسمون صورا خالدة للشهامة المغربية، ولأساليب التصدي والهجوم في حومات معركة وادي المخان، ويسجلون الخوالد والخوارق، ويشيدون بالفتوح والانتصار ويهيبون بالمجاهدين للدفاع دوما عن الأرض والذود عن الحمى، وإعلاء كلمة الله، ويثبتون في نفوسهم الإحساس بقوة العدالة والحق، والاستهانة بالباطل- أينما حلوا وارتحلوا- والتصديق العميق لما وعد

(1/519)

الله به المجاهدين الأبرار والجنود الأفذاذ من الجزاء الأوفى وحسن المآب.

(1/520)

أوجه من الحضور الأندلسي بمدينة تونس التأثيرات الثقافية والفنية والمعمارية

الدكتور محمد الباجي بن مامي

المعهد الوطني للتراث - تونس

انطلاقا من الفترة الحفصية (1)

__________

(1) باني أسس هذه العائلة هو أبو زكرياء يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي بكر بن أبي حفص عمر الهنتاني، وكان هذا الأخير - أحد

الرفاق الأوائل للمهدي بن تومرت، وتولى الحكم أبو زكرياء عام 625 هـ/ 1227م وهي السنة التي تعتبرها المصادر بداية الدولة الحفصية، وتواصلت هذه الدولة حتى سنة 981هـ/1574م التي انتصر خلالها العثمانيون نهائيا على الإسبان واستقروا بتونس.

(1/521)

عرفت مدينة تونس تأثيرات فنية وثقافية ومعمارية وحضارية مختلفة، أهمها على الإطلاق التأثيرات الأندلسية التي ما زال بعضها متواجدا إلى يومنا هذا. إلا أن هذه التأثيرات كانت مزدوجة، فهي أندلسية ومغربية على حد سواء لأنه من الصعب في غالب الأحيان الفصل بين التأثيرات الفنية الأندلسية من جهة، والمغربية من جهة أخرى، ذلك نظرا لتشابه هذين الفنين خلال تلك الفترة، إذ أدت العلاقة الوثيقة التي قامت بين المغرب والأندلس إلى انتشار الفن الأندلسي بالمغرب والعكس بالعكس(1)

__________

(1) حول هذا الموضوع انظر خاصة: عبد الهادي التازي، جامع القرويين، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1962 - 1973. وكذلك راجع:

- Henri Terrasse, « Le rôle du Maghreb dans l’évolution de l’art hispano-mauresque », Revue Al Andalus, XXIII, 1958, Fasc. 1

- George Marçais, Manuel d’art musulman, Paris, 1927.

- George Marçais,L’architecture musulmane d’Occident,, Paris, 1952.

- Lucien Golvin, « Essai sur l’architecture religieuse musulmane », Paris, 1970.

(1/522)

.

ويبدو أن هذه التأثيرات دخلت إفريقية مع قدوم الموحدين - ابتداء من النصف الثاني للقرن السادس للهجرة - أي عند قدوم عبد المؤمن بن علي سنة الأخماس (555هـ/1160م) - إلا أنها أصبحت أكثر وضوحا عند استيلاء أبي زكرياء الأول على الحكم سنة (625هـ/1227م - 647هـ/1249م). فقبل قدومه إلى إفريقية كان مؤسس الدولة الحفصية واليا على غربي الأندلس مما أدى إلى ارتباط العديد من الأندلسيين - وخصوصا منهم الإشبيليين - بأبي زكرياء. ويفيدنا العلامة عبد الرحمان ابن خلدون حول علاقة هؤلاء بأبي زكرياء، فيذكر بأنه: "كانت لأهل

(1/523)

إشبيلية خصوصا من بين الأندلس، صلة بالأمير زكرياء بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غربي الأندلس"(1) .

ونتيجة لهذه العلاقة الوطيدة، أتى الأندلسيون في كرات متتالية إلى مدينة تونس بداية من النصف الأول للقرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، ويبدو أن الدفعات الأولى لهؤلاء المهاجرين قدمت ابتداء من سقوط بلنسية في أيدي الإسبان سنة 636هـ/1238م أو ربما قبل ذلك ببضع سنوات.

__________

(1) انظر عبد الرحمان بن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر بيروت، 1959، ج 6، ص. 683

(1/524)

ومن بين من استوطن مدينة تونس آنذاك نذكر على سبيل المثال: أبا عبد الله ابن الابار(1)

__________

(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي الأندلسي، الفقيه والمحدث النحوي الكاتب التاريخي الشاعر، ولد سنة 595هـ/1199م ببلنسية، قتله المستنصر الحفصي في سنة 658هـ/1259م بتونس، له تآليف عديدة، انظر: ابن خلدون، العبر ج 6، ص.604-605؛ الزركشي، تاريخ الدولتين، ص.28؛ ابن قنفد، الفارسية، ص.116؛ الغبريني عنوان الدراية، ص.257؛ حاجي خليفة، كشف الظنون، ص. 286 وص. 372؛ الزركلي، الأعلام، ج 7، ص. 11؛ كحالة معجم المؤلفين ج 10، ص. 204.

(1/525)

. ثم قدم عدد هام آخر عند سقوط إشبيلية أيضا في أيدي المسيحيين سنة 649هـ/1248م، وقد شجعهم ما وجدوه من الترحاب والمراعاة على الاتجاه إلى مدينة تونس، إذ بقي أبو زكرياء ثم خلفاؤه في الحكم، مرتبطين بالتقاليد الأندلسية. إلا أن عددهم تضاءل في القرن الثامن للهجرة / الرابع عشر الميلادي، لكن الأمور لم تبق على هذا النسق، إذ تجدد قدومهم في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وازداد خاصة بعد سقوط غرناطة.

(1/526)

ويرى أغلب المؤرخين أن جل هؤلاء المهاجرين كانوا من الأثرياء والعلماء(1) بينما تذهب أقلية أخرى إلى أن هؤلاء المهاجرين كانوا من جميع طبقات المجتمع الأندلسي(2) ، إلا أنه لدينا نص لابن سعيد - يرجع إلى سنة 721هـ/1321م - وهذا المؤلف الذي تولى مناصب سياسية مرموقة، كان

__________

(1) بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، يمكن مراجعة خاصة المقري، أزهار الرياض، ج2، ص.811؛ ابن خلدون العبر، ج6؛ ابن قنفد الفارسية، ص. 116.

(2) من بين هؤلاء المؤرخين: الدكتور محمد الطالبي، راجع مقاله "الهجرة الأندلسية" مجلة الأصالة، سنة 1975، عدد 26.

(1/527)

أحد المهاجرين الأندلسيين، وما أتى به يؤيد ما ذهب إليه القسم الثاني من المؤرخين، إذ يذكر المصنف أن أبا زكرياء بنى معالم دينية وقصورا ضخمة، وأنه اهتم بالحدائق وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين وأن كل المهندسين هم أصيلي الأندلس، وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين الذين ساهموا في بناء هذه المعالم، وكذلك المشرفين على البساتين والحدائق إلخ ...

ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك - أي في بداية القرن 8 هـ / 14 م - قد قام بتصميمها أندلسيون أو نقلوا تخطيطها عن

(1/528)

معالم أخرى توجد في بلادهم.

كما أن المتمعن في الجزء السادس "للعبر" لابن خلدون يلاحظ فيه أنه رغم عدم الإشارة إلى وجود بعض الحرفيين وأرباب الصنائع وغيرهم من العامة للمهاجرين الأندلسيين، فإن إشارة هذا المصنف في العديد من المناسبات إلى تواجد جالية من شرقي الأندلس من غربيه بمدينة تونس وخاصة ذكره لوجود كتيبة من الجند متكونة من الأندلسيين ساهمت في الحروب الصليبية التي واجه خلالها المستنصر الحفصي ملك الإفرنجة لويس التاسع سنة 668هـ / 1270م(1)

__________

(1) يفيدنا ابن خلدون بأنه: "ملئت سواحل رادس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس"، انظر: العبر الجزء السادس، ص. 668.

(1/529)

يدفعنا إلى ترجيح الرأي الثاني وإلى التأكيد على أنه كان يوجد خلال الهجرات الأولى إضافة إلى جماعة العلماء والأثرياء الذين ذكرت المصادر العديد من أسمائهم(1) من المهاجرين المنتمين إلى أهل الصنائع والحرف وغيرهم، ممن غضت عنهم المصادر الطرف ولم تذكر البتة. مع كل هذه المعطيات يجب

إضافة ما تمدنا به بعض شواهد القبور من معلومات(2)

__________

(1) راجع خاصة: الجزء السادس، وابن رشيد الفهري السنن الأبين؛ والعبدري الحيحي، والقلصادي، رحلة القلصادي وغيرها...

(2) توجد العديد من هاته المشاهد بمتحف سيدي قاسم الجليزي وبمتحف سيدي بوخريصان من مدينة تونس. أما أغلبها فهو موجود بمخازن المعهد الوطني للتراث بقصبة مدينة تونس.

(1/530)

وهي التي ترجع إلى القرون السابعة والثامنة والتاسعة هجرية، والتي تفيدنا بمهن البعض من هؤلاء الأندلسيين الذين استوطنوا مدينة تونس. فقد تم العثور على أسماء بعض التجار والحرفيين وغيرهم.

لكن أهم دفعة وصلت إلى تونس، تمثلت في عدد كبير من المورسكيين - وهم مسلمو الأندلس الذين هربوا بدينهم من الاضطهاد المسيحي - ويبدو أن هؤلاء لم يجدوا نفس القبول بالجزائر وبدرجة أقل بالمغرب، إذ نهبهم الأعراب ولم يبق حتى ما يسدون به رمقهم(1) ولذلك، وبعد توقف بأحد هذين

__________

(1) هذا ما يؤكده ابن أبي دينار، المؤنس، ص. 204.

(1/531)

البلدين، توجه الكثير منهم في رحلة ثانية إلى البلاد التونسية(1)

__________

(1) يذكر أنتونيو دمنقار اورتيث، أن "الاستقبال الذي قوبلوا به (أي المورسكيين بالمغرب) لم يكن على أحسن ما يرام لأنهم يعتبرون مسلمين غير صادقين مثلما كان الشأن في إسبانيا، حيث كانوا يعتبرونهم مسيحيين مزيفين" (انظر المقال "الأطوار التي مرت ثلاثمائة ألف موريسكي طردوا من إسبانيا" في بحوث عن الأندلسيين في تونس، 1983، ص.99. ثم يذكر نفس المؤلف أما في الجزائر فقد تعرض المريسكيون إلى السرقة والنهب وحتى القتل في بعض الأحيان من طرف البدو والأعراب نفس المقال، ص. 100.

(1/532)

كما قدم عدد هام من أعضاء هذه الهجرة عن طريق فرنسا مرورا بمرسيليا حيث سلبت أموال جلهم. وهو ما تفيدنا به بعض وثائق الأرشيف الفرنسي (بمرسيليا).

ويعلمنا صاحب "المؤنس" (ابن أبي دينار) أنه "في سنة 1017هـ/1608م و1018هـ/1609م جاءت الأندلس من بلاد النصارى - نفاهم صاحب إسبانيا - وكانوا خلقا كثيرا فأوسع لهم عثمان داي في البلاد(1) وفرق ضعفاءهم على

__________

(1) أخذ هذا الداي الحكم سنة 1007هـ/1599م وتوفي سنة 1019هـ/1610م، وهو يعد أول الدايات العثمانيين الذي كانت له أهمية بالبلاد (انظر خوجة: ذيل بشائر الإيمان، ص. 92)

(1/533)

الناس وأذن لهم أن يعمروا حيث شاؤوا... واستوطنوا في عدة أماكن"(1) .

إلا أنه من المحتمل أن يوسف داي(2) لعب دورا هاما في مجال

__________

(1) ابن أبي دينار: المؤنس، ص. 404

(2) تولى هذا الداي الحكم سنة 1919هـ/1610م، وقد طالت مدته، إذ بلغ حوالي 28 سنة في تسيير البلاد، ومما ساعده على إعطاء نفس جديد للحياة الاقتصادية، قدوم هذه النخبة من الأندلسيين. ويذكر ابن أبي دينار أن في أيام يوسف داي "تحضرت البلاد وكثرت عمارتها... وساعدته الأيام بالغنائم في البحر والهناء في البر المؤنس، ص. 205، وتوفي هذا الداي سنة 1047هـ/1637م.

(1/534)

استيطانهم قبل أخذه السلطة، وذلك في مدة حكم عثمان داي(1) . وإن كان العديد من هؤلاء المهاجرين وزعوا على قرى ومدن بالشمال التونسي، فقد أبقى الأثرياء منهم وأهل الحرف - مثل المختصين في صنع الشاشية -(2)

__________

(1) هذا ما استخلصه الدكتور عبد العزيز الدولاتلي من نقيشة بجامع العالية ترجع إلى سنة 1016هـ/1607م، انظر:

A. Daoulatli, Inscription à la mosquée andalouse d’Alia Madrid 1973, pp.285 et suiv.

(2) فيما يخص هذه الصناعة التي ساهمت في تدعيم الاقتصاد التونسي أثناء الفترة المعاصرة انظر:

- Fleury, « l’industrie tunisienne des sasiyas », Revue de Commerce et de l’Industrie, Paris, 1895.

- S. Ferchiou, « Technique et Société: la Fabrication de la chachia en Tunisie », Paris, 1973.

(1/535)

في مدينة تونس، كما بقي أيضا التجار والعلماء والمدرسين (ويذهب البعض إلى أن عددهم أثناء هذه الهجرة الأخيرة بلغ ثمانين ألف نسمة)(1) .

وكانت لكل هؤلاء خاصيتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ولباسهم وتصرفاتهم... فحملوا معهم ثقافتهم وأنواع فنونهم، وطرق بنائهم الخ... وقد كانت إذن اختصاصات هؤلاء المهاجرين مختلفة، فمنهم أصحاب الحرف من بنائين ونجارين وحدادين... ومنهم المثقفون

__________

(1) انظر أنطنيو دو منقاز اورتيث: "الأطوار التي مرت بثلاثمائة ألف موريسكي طردوا من إسبانيا" في بحوث عن الأندلسيين في تونس، 1983، ص. 100.

(1/536)

والعلماء، ومنهم المهندسون والأطباء... لذا كان تأثيرهم في المجتمع مختلف الوجوه.

تواجد إذن الكثير من العلماء والمثقفين الذين أثروا في الحياة الثقافية، سواء كان ذلك أثناء الفترة لقدومهم، أو خلال الفترة الثانية - أي أثناء حكم عثمان داي - وهكذا مثلت الثقافة الأندلسية نخبة من العلماء البارزين، فعرفت المدينة بفضل هؤلاء ومن سواهم من الأفارقة في القرنين السابع والثامن الهجريين والنصف الأول من القرن التاسع هجري، نهضة علمية جعلت منها أحد أهم المراكز العلمية والثقافية والتعليمية بالمغرب الإسلامي، ومن

(1/537)

الجزائر أن الأندلسيين مثلوا نواة هذه

النهضة. ومما لا شك فيه أن التطور الديموغرافي الداخلي الذي عرفته مدينة تونس خلال القرن السابع الهجري، وكذلك الوفود القادمة من المغرب الأقصى والجزائر وغيرهم، زادت في أعداد طلاب العلم. وقد قابلت هذه الظاهرة، مجيء مشايخ أندلسيين كانت لهم الإمكانية علميا أن يكونوا إطارات للتعليم، وقد كان عدد هؤلاء الشيوخ القادمين خلال هذه الفترة مرتفعا، وعثرنا على أسماء العديد منهم(1)

__________

(1) من المؤكد أن هؤلاء العلماء تعاونوا مع السلطة الحاكمة، إذ يبدو أن أبا زكرياء الأول ثم ابنه المستنصر وخلفائهما في الحكم حاولوا استعمالهم لتدعيم المذهب الموحدي بين العامة، فنتيجة لإرادة هؤلاء السلاطين كان بين المدرسين الأوائل بالمدارس التونسية بعض الأندلسيين، خاصة المنتمين للمذهب الظاهري الذين أيدوا المذهب الموحدي، وقاوموا المذهب المالكي المنتشر في ربوع إفريقية ويكفي بأن نذكر مثال:

1) الحافظ أحمد بن سيد الناس اليعمري، وقد درس بالمدرسة التوفيقية، المولود سنة (597هـ/1200م المتوفي في 659هـ/1261م) راجع ابن خلدون: العبر، ج 6، ص. 683؛ والزركشي: تاريخ الدولتين، ص. 38؛ الغبريني: عنوان الدراية، صص. 246-250؛ ومخلوف شجرة النور الزكية، ص. 194 عدد 657. وكذلك: Encyclopédie de l’Islam; 2, T.3, pp. 890-892.

2) أبو العباس أحمد بن محمد القرشي الغرناطي، وهو أول مدرس بالمدرسة المعرضية، وتصفه المصادر بالمحدث والحافظ والمؤرخ... قدم إلى تونس حوالي سنة 680هـ/1281م، ألف كتاب المشرق في علماء المغرب والمشرق... وتوفي في 692هـ/1293م، راجع الغبريني، ص. 301؛ الزركشي، ص. 51؛ مخلوف، ص. 199 عدد 692 وكذلك: Brunschvig, Les Médersas, pp. 274-275.

(1/538)

الذين درسوا بمدارس مدينة تونس وبالجامع الأعظم وفي العديد من الأماكن الأخرى(1) . ويمكن هنا أن نسرد أسماء العشرات، أو قل المئات من أسماء هؤلاء الذين أتت بهم المصادر، لكن أهمهم على الإطلاق، من الذين أثروا في الحياة الفكرية والثقافية: المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، أحد أحفاد المهاجرين الأوائل(2)

__________

(1) انظر محمد الباجي بن مامي، مداري مدينة تونس من العهد الحفصي إلى العهد الحسيني، تونس، 1981، الجزءان الأول والثاني.

(2) كما نذكر أيضا: القاضي أبا العباس أحمد بن محمد الغماز الأنصاري الخزرجي البلنسي المتوفى سنة 693هـ/1293م، وكذلك: نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن محمد ابن عبد الملك بن سعيد الغرناطي (610هـ/1213م - 685هـ/1286م) وابن حبيش المرسي، كما يمكن ذكر بعض أفراد عائلة ابن خلدون. كما ورد أيضا على الحاضرة العديد من العلماء الآخرين خلال هذه الفترة، من بينهم ابن الآبار والنحوي ابن العصفور وابن أبي عميرة...

(1/539)

.

كما نرى من خلال ما يفيدنا به عبد الباسط بن خليل أهمية هؤلاء العلماء الأندلسيين المستقرين بتونس، وقد بهره محمد الخير المالقي بعلمه وأدبه (الذي ورد على تونس سنة 846هـ/1459م)وكذلك نفس الشيء بالنسبة للشاعر الأندلسي ابن رزين الخزرجي الأنصاري (1) وغيرهم كثير(2)

__________

(1) انظر: Brunschvig, « Deux Récit », p. 73.

(2) وقد وردت أسماء العديد منهم في كتاب ابن خلدون العبر ومؤلف الزركشي تاريخ الدولتين وتصنيف ابن الشماع: الأدلة. ويمكن الاعتماد أيضا على الرحلات وخاصة رحلة ابن رشيد الفهري: السنن الأبين الذي ذكر فيها أسماء الكثير من العلماء الأندلسيين الذين تعرف عليهم المؤلف عند مروره بمدينة تونس، وأخذ عن البعض منهم، ومن خلال هذه الرحلة نستفيد أن عدد هؤلاء يفوق بكثير عدد الأفارقة آنذاك.

(1/540)

.

وقد تخرج عليهم عدد هام من العلماء الأفارقة الذين بثوا بدورهم أسس الثقافة والعديد من المصنفات الأندلسية بالبلاد التونسية، ولو حاولنا الإطلاع على المصنفات التي كانت تدرس بأماكن التعليم بمدينة تونس خلال الفترة الحفصية وما بعدها، للاحظنا أن العديد منها، مؤلفات أندلسية، وأنها لم تكن تدرس قبل وفود الأندلسيين، والتي أدخلها معهم بعض هؤلاء المهاجرين.

ومما يجب التأكيد عليه أيضا، طريقة التدريس التي أدخلها معهم العلماء الأندلسيون، والتي أكد عليها ابن خلدون في مقدمته.

(1/541)

كما نجد خلال الفترة العثمانية بعض أسماء علماء أندلسيين أو من أبناء أندلسيين، وهو دليل على قدوم نخبة من المثقفين خلال هجرة 1017هـ/1018م - 1609م(1) ومثلما اهتم الحفصيون ثم العثمانيون بتشييد المدارس لبث العلم. قام العنصر المهاجر الآخر - أي الأندلسيون - بنفس العمل. فلقد أنجزت منشآت ثقافية لتمكين الأندلسيين القاطنين

__________

(1) ويمكن أن نذكر مثلا: أحمد الشريف الأندلسي، وإبراهيم المرقصطي وساسي نوينة الأندلسي ومحمد الحجيج الأندلسي - أول من جلس للتدريس بالمدرسة الأندلسية - ومحمد الأندلسي بالوزير السراح وغيرهم.

(1/542)

خارج مدينة تونس من الالتحاق بمدرسة مخصصة لهم. أما الساكنون من بينهم في مدينة تونس فقد كان بإمكانهم الالتحاق بجامع الزيتونة، لذلك أسست المدرسة الأندلسية وخصصت لأبناء إخوانهم المهاجرين الذين لا يستطيعون الحصول على مسكن. وكان ذلك سنة 1034هـ/1625م(1)

__________

(1) تسمى المدرسة الأندلسية أيضا بمدرسة العجمي وتعرف أيضا بمدرسة الفتح، أسسها الشريف أبو الحسن على النوى شهر ابن السراج وموقعها بنهج الركاح. أما أول مدرس بها فهو الشيخ شعبان الأندلسي (انظر محمد الباجي بن مامي: مدارس مدينة تونس من العهد الحفصي إلى العهد التركي، تونس، 1981 ص. 363)

(1/543)

ويبدو أن يوسف داي شجعهم على بناء هذه المدرسة، ولم يكتف هؤلاء المهاجرون بتشييد هذه المدرسة، فمن بين مآثرهم الأخرى بناؤهم في أوائل القرن 11هـ/17م جامع سبحان الله(1) وربما نتج اختيار الأندلسيين على مكان المدرسة والجامع لقربه من موقع سكناهم، فقد استقر العديد منهم بباب قرطاجنة، وكذلك بنهج ترنجة الذي لا يبعد إلا مسافة صغيرة جدا عن موقعي المدرسة والجامع. لكن حكام البلاد - وخاصة السلاطين الأوائل - لم يكتفوا باستعمال الأندلسيين في ميدان الدراسة، بل استعملوا البعض

__________

(1) انظر السراج، الحلل، ج2، قسم 1، ص.157.

(1/544)

منهم - كما لاحظنا بعد - للحد من التأثير الموحدي. ولذلك اهتم الكثير من الأندلسيين القادمين في الفترات الأولى بالسياسة، وبلغوا مناصب سياسية عالية، لكن إثر محاولة الكثير منهم التدخل في شؤون الدولة، ونتيجة لتعودهم التناحر على المناصب، فقد كان مآل البعض منهم القتل(1) .

__________

(1) كابن الآبار وابن عصفور وابن العباس بن أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري وكذلك أبي عبد الله بن أبي الحسن، وابن أبي سعيد العود الرطب وسعيد بن أبي الحسين... إلخ.

(1/545)

وقد أفادنا ابن خلدون بأسماء الكثير ممن قتلوا من بين العلماء ووجهاء الأندلسيين إثر السعايات والوشايات اليومية التي كان يعرفها البلاط الحفصي(1) .

كان تأثير الأندلسيين إذن هاما جدا، ونتيجة لمحاولتهم الاستيلاء على المناصب السياسية التي كان مستحوذا عليها العنصر الموحدي فقد حاول أن يوقع بهم البعض من هؤلاء، فثاروا على المستنصر الحفصي سنة 648هـ/1250م لكن هزموا، وأدى هذا بالطبع إلى تقوية صف الأندلسيين.

__________

(1) ابن خلدون، العبر، ج6، ص. 655.

(1/546)

ومما نلاحظه أيضا وجود بعض الأطباء من بين الأندلسيين المهاجرين إلى تونس، وقد لعبوا دورا هاما في تكوين نخبة من الأطباء بالبلاد، إذ أن أغلبهم الذين باشروا مهنتهم بتونس خلال الفترة الحفصية من أصيلي الأندلس أو صقلية. وتوصلنا من خلال المعلومات والأسماء التي وردت في المصادر إلى أن هذا العلم يتوارث أبا عن جد، وقد عثرنا على بعض شواهد القبور (أو مشاهد) تحتوي على أسماء أطباء أندلسيين عاشوا بتونس من بينهم "الحكيم أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الحكيم أبي الظفر غالب بن الحكيم عبد الله بن محمد غالب الفي المالقي

(1/547)

المتوفي سنة 654هـ/1256م" وكذلك "الطبيب الماهر أبو زيد عبد الرحمان بن الشيخ الطبيب الماهر أبو عثمان سعيد الأنصاري الأندلسي، توفي سنة 872هـ/1467م"(1) .

كما تفيدنا بعض المصادر أنه ورد على تونس بعض الأطباء الأندلسيين الآخرين: فهذا أبو يعقوب يوسف بن محمد بن اندراس (المتوفى سنة 729هـ/1329م(2) قد درس الطب بمنزله، واخذ العلم عن أبيه، أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الأموي المعروف بابن

__________

(1) توجد هذه الشواهد بمتحف سيدي قاسم الجليزي، أين تم عرضها خلال سنة 1994.

(2) راجع ابن فرحون، الديباج المذهب، ص. 360.

(1/548)

اندراس المتوفى سنة (674هـ/1275م)(1) وهو أصيل مرسية. فأكثر الأطباء الذين باشروا مهنتهم بتونس هم إذن أصيلو الأندلس(2)

__________

(1) راجع الغبريني، عنوان الدراية، ص.101؛ والسراج، الحلل السندسية، ج 1، ص. 589؛ والزركلي، الأعلام، ص. 218.

(2) من بين هؤلاء محمد بن أبي العباس بن عيشون، وهو نفسه ابن الطبيب، وأحمد الخولاني، وأحمد بن محمد الأنصاري (راجع ابن حجر، الدرر الكامنة، ج1، ص. 219، عدد 562 وص.306، عدد 780) وطبيب آخر من قرطبة مشهور باسم العشاب (نفس المصدر، ج4، ص. 160 عدد 420) وحكيم آخر من قرمونة عالج الخليفة أبا العباس أحمد، اسمه أبو الحجاج يوسف الأندلسي (ابن قنفد، الفارسية، ص.178).

(1/549)

وقد كونوا بدورهم العديد من الأطباء الأفارقة، الذين وردت أسماؤهم عرضا في المصنفات(1) .

التأثيرات الفنية والمعمارية

لم يقتصر إذن قدوم الأندلسيين على المثقفين والعلماء، بل وصلها أيضا - كما لا حظنا بعد - الكثير من المهندسين والعمال المختصين، فابن سعيد يفيدنا أن أبا زكرياء الأول مؤسس الدولة الحفصية بنى معالم دينية وقصورا هامة(2)

__________

(1) خاصة القاضي ابن عبد السلام، والشيخ ابن عرفة والقاضي محمد الزنديوي، والطيب الفقيه المدرس عمر القلشاني، وابن عقاب وابن عبد الله محمد الدهان...

(2) أسس خاصة الجامع الموحدي بالقصبة الذي بدأ في بنائه سنة 629هـ/1231م وانتهى سنة 633/1235م، ثم بنى أولى مدارس المغرب الإسلامي: المدرسة الشماعية وذلك حوالي سنة 639هـ/1241م وجامع ومدرسة الهواء اللتين أسستهما زوجته الأميرة عطف قبل سنة 659هـ/1261م.

(1/550)

وأنه اهتم بالحدائق، وزرع أشجار العنب على طريقة الأندلسيين، وأن كل المهندسين هم من أصيلي الأندلس، وكذلك نفس الشيء بالنسبة لأصحاب الصنائع من بنائين ونجارين ودهانين، والمشرفين على البساتين والحدائق إلخ... ويعلمنا نفس المؤلف أن المعالم التي بنيت آنذاك قد قام بتخطيطها أندلسيون، أو نقلوا تخطيطها على معالم أخرى توجد في بلادهم . وتواصل الاعتماد على المهندسين والعملة المختصين القادمين من الأندلس، فنحن نعلم مثلا أن المهندس ابن غالب الذي أشرف على بناء جامع يوسف داي ومدرسته سنة 1021هـ/1612م هو أندلسي

(1/551)

الأصل وقد قام بأعمال ترميم هامة بجامع الزيتونة(1) . كما يذكر المنتصر بن أبي لحية المرابطي، أن العمال المختصين في البناء الذين بنوا زاوية سيدي حذيفة بأمر الوالي الصالح أبي الغيث القشاش كانوا من الأندلسيين(2) . ونتيجة لتواجد هذه اليد المختصة، وهؤلاء المهندسين الذين أتوا معهم بطرقهم في البناء، وبنوعية فنونهم، ظهرت تأثيرات أندلسية من الناحية

__________

(1) تثبت نقيشة بصحن الجنائز (الرواق الشرقي) من الجامع الأعظم نسبة هذا المهندس إلى الأندلس.

(2) المرابطي، نور الأرماش، مخطوط بدار الكتب الوطنية رقم 16408 ورقة 85 أ.

(1/552)

الفنية والمعمارية خاصة - تواصل بها العمل منذ القرن السابع الهجري/ الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا، إذ وجد تمازج بين الفنين المعماريين: الإفريقي والأندلسي. وتمثل التأثير الأندلسي في عدة عناصر فنية، خصوصا منها النقوش الجصية التي أخذت أبعادا كبيرة انطلاقا من فترة بناء الجامع الموحدي بالقصبة (633هـ/1235م)، وتواصلت زخرفة جل المعالم بهذه النقوش الجصية والمتمثلة خاصة في الأشكال الهندسية والنباتية، كما أن من بين الصناعات الأخرى الهامة التي أدخلها الأندلسيون صناعة الزليج - وهو ما يطلق

(1/553)

عليه في المشرق القشاني -(1) .

كما أثر الأندلسيون أيضا في العمل على الخشب - مثل السقوف والأبواب إلخ... وبلغ التأثير أهمية لا يستهان بها، حتى أنه أثناء القرن الثاني عاشر للهجرة الموافق للقرن الثامن عشر ميلادي والقرن

__________

(1) نذكر في هذا المجال مثال قاسم الجليزي الذي توفي سنة 902هـ/1496م. ومن المعروف أنه قدم إلى مدينة تونس من فاس بعد مروره بالأندلس، وقد اختص في صنع القاشاني. وبالنسبة لزاويته المتأثرة بالفن والهندسة المعمارية الأندلسية (انظر: عبد العزيز الدولاتلي، تونس في العهد الحفصي، ص. 206 - 213.

(1/554)

الثالث عشر الهجري الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي، عند ظهور التأثير التركي والإيطالي، لم يستغن الفنانون والصناع التونسيون عن العناصر الفنية الأندلسية التي تعودوا على استغلالها منذ عدة قرون. وهنا من واجبنا التأكيد على أنه لا يمكن أن نتصور أهمية التأثيرات التي تمثلها مدينة تونس في الطابع الخارجي والداخلي لأحياءها القديمة، إذا استثنينا منها مختلف الإضافات الزخرفية التي أحدثها الفنانون الأندلسيون.

(1/555)

وقد ظهرت بصمات هؤلاء الفنانين بصفة جلية، خاصة على بنايات المدينة - من معالم دينية أو مدنية - في تلك الحقبة، أي من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، إلى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وحتى بعد ذلك(1) .

ونتيجة للسمعة الكبيرة التي كان يتمتع بها القادمون الجدد في الميدان الثقافي والفني والمعماري، فإن نجاحهم تحقق من دون شك بسرعة في أوساط تونس العاصمة، أسوة بالسلاطين الحفصيين ثم

__________

(1) من ذلك جامع القصبة - وزاوية سيدي قاسم الجليزي ودار عثمان والمدرسة الأندلسية وغيرها من المعالم...

(1/556)

الدايات المراديين(1) فالبايات الحسينيين(2) الذين لجؤوا إلى خدماتهم لزخرفة قصورهم أو معالمهم الدينية التي أنشؤوها، سواء كان ذلك داخل المدينة أو خارجها(3)

__________

(1) المنسوبين إلى مراد باي الأول الذي تولى منصب الباشا سنة 1041هـ/1631م وتواصل حكم هذه العائلة حتى سنة 1112هـ/1700م.

(2) باني أسس الدولة الحسينية هو حسين بن علي تركي، تولى منصب الباي سنة 1117هـ/1704م، أصله من جزيرة كريت، وتواصل حكم العائلة حتى تاريخ استقلال البلاد سنة 1957.

(3) نتبين في قصر البايات بالقصبة، والذي ما زال قائم الذات إلى حد الآن (وهو قصر الحكومة الحالي) العديد من العناصر ذات التأثير الأندلسي، (خاصة منها الصحن وبعض أقسام الممرات والغرف. وقبل ذلك نتبين هذه التأثيرات في قصر عثمان داي الذي شيد حوالي سنة 1608م.

(1/557)

. ومحاكاة هذا المنوال، فرض نفسه بطبيعة الحال على أهل البلاط والطبقات العليا من أهل المدينة، مثلما كان الشأن بعد ذلك بالولوع بالأسلوب الزخرفي التركي، كما نلاحظه خاصة بجامع محمد

باي المرادي (1) وتربة البايات (2) ... إلخ، وكذلك التزويق الإيطالي

__________

(1) وهو الجامع المعروف باسم سيدي محرز والمتأثر بالمعمار التركي (خاصة بجامع السليمانية وجامع الأحمدية وغيرهما). بدأ بناؤه سنة 1104هـ/1692م وتم خلال سنة 1109هـ/1697م بعد وفاة المؤسس.

(2) أسسها علي باي الثاني ابن حسين علي وذلك خلال النصف الثاني للقرن 12هـ/18م.

(1/558)

الذي نتبينه في العديد من القصور التي أسست خلال النصف الثاني للقرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وبعد ذلك (في القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي)(1) . أو حتى ببعض المعالم الدينية كجامع صاحب الطابع.

ومن المؤكد أن غض الطرف عن الدور الذي اضطلع به في الماضي، الحرفيون والفنانون الأندلسيون والمتعاملون معهم، يغير بطريقة جذرية طابع مختلف أنهج وأزقة المدينة، الذي حوفظ على قسم

__________

(1) خاصة بقصور دار حسين ودار الأصرم ودار بن عبد الله وغيرها كثير المشيدة خلال أواخر القرن 18م وبداية القرن 19م.

(1/559)

كبير منه إلى الآن - ويكفي أن نذكر هنا بنهج الأندلس الذي بقي محافظا على طابعه منذ القرن 11هـ/17م. وحتى في صورة المحافظة - في أساس المساكن - على المداخل الكلاسيكية بإطارها الحجري ذي الأسكفة المستوية الموروث عن المنازل الإفريقية الرومانية العتيقة، وكذلك حواجزها المشبكة المتواضعة، المصنوعة من الخشب أو الحديد، والواقعة في أعلى قسم من البنايات، فإنه تبرز مع ذلك صرامة كبيرة وراء هذا التبسيط الخارجي(1)

__________

(1) وهو ما نلاحظه خاصة في الدور الموجودة بأنهج عديدة من المدينة العتيقة، كنهج تربة الباي ونهج سيدي ابن عروس ونهج الباشا إلخ... هامش 1 باجي.

(1/560)

.

وبالفعل، فإن إحدى المفاتن الرئيسية للمدينة التي تجلب النظر، هي طرافة وأناقة وثراء أبوابها ذات المصراعين، والمكسوة بطريقة محكمة بالمسامير من طرف حرفيين أندلسيين، وإذا كانت لا تبرز على أبواب المباني الدينية (كالمساجد والمدارس والزوايا والترب...) والمساكن العادية، إلا مسامير كبيرة الحجم، صفت أفقيا وعموديا، فإن الوضع يختلف بالنسبة للأبواب الخارجية للقصور والمنازل الهامة التي تحمل تقاسيم مستقيمة، مكونة من تشابك خطوط من المسامير الكبيرة، مزدانة بنماذج هندسية وأخرى مستوحاة من الزهور أنجزت بواسطة

(1/561)

مسامير أقل حجما، وتمثل بصفة عامة، الأشكال التالية: قوسا مركزيا، وصفا أفقيا من الأقواس الصغيرة التي تذكر بشكل المحاريب ودوائر ونجوم، وشجرة السرو وكذلك زخارف زهرية في الزوايا، وأشكال مثلثة، وأخرى ذات شكل صليبي(1) ...

ومما يلاحظ أنه يبرز على مر القرون تطور في العناصر المستعملة، لعل إعادة استعمال أقدمها ببساطتها البدائية لا يستجيب إلى

__________

(1) أتى الموريسكيون بهذا الشكل معهم، وكانوا يعتبرونه شكلا زخرفيا لا غير، وقد قلده الفنانون المسلمون واستعملوه في تزيين العديد من الأبواب حتى داخل بعض المباني الدينية.

(1/562)

الاهتمام بالجانب الزخرفي، بل يدل على وفاء السكان لبعض هذه الأشكال التي وردت مع القادمين الأوائل.

وبعد ذلك أصبحت التركيبات الجديدة الأكثر تحررا والأشمل تبحث أكثر على الزخرف والتزويق وبعضها يغطي كامل الأبواب الكبيرة المعقودة في واجهات القصور، ومقرات إقامة الوجهاء، وقد أصبحت الموضة المنتشرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ويبدو أن الدهن المتكرر للأبواب، ساهم عبر العصور في إبراز التسمير، ومن المؤكد أن الألوان الأكثر استعمالا على الخشب الحامل للنماذج المسمارية، هي خاصة الأصفر والأخضر الداكن

(1/563)

وأخيرا الأحمر، عوض اليوم اللون الأزرق، هذه الألوان خاصة بعد أن أصبح هذا اللون الأزرق مستعملا في بلدة سيدي بوسعيد انطلاقا من بداية هذا القرن، وتأثر سكان مدينة تونس به.

وانتشرت أيضا النوافذ المرتفعة (التي أصبحت أكثر انتشارا في العهد الحسيني) فصنع الحرفيون نوافذ أنيقة بارزة تمكن النسوة من الإطلاع عما يحصل بالخارج - من دون أن يشاهدها المار - وهي نوافذ مستقيمة أو دائرية، وكانت مدعمة في أول الأمر بمشربية من الخشب المدهون - والذي ندعوه بتونس قنارية - وحمل تجميل النوعين من الشبابيك بزخارف حلزونية بديعة

(1/564)

الشكل ذات طابع أندلسي.

وإلى اليوم، نلاحظ مدى تعلق متساكني مدينة تونس بهذه العناصر المختلفة الأندلسية الأصل، ومن المؤكد أن استعمال الأبواب المسمرة والشبابيك ذات الحديد المطروق تبدو متماشية مع مهمة الحماية والزينة في المنازل الجديدة المقامة بالخصوص في بلدة سيدي بوسعيد وبضواحي المنزه وقرطاج والمرسى إلخ...

ونعلم أنه بعد المدخل الرئيسي الذي يفتح على الشارع، يمكن الممر المنعرج (الدريبة أو السقيفة) بمفرده من بلوغ وسط المسكن، كان ذلك في مختلف أحياء المدينة أو في ربضيها الشمالي والجنوبي، وهو ما يسمح من

(1/565)

تفادي إطلاع المارة على ما يوجد داخل الدار، وكذلك يمنع وصول الضجيج إلى الداخل. ويعتبر السكان كل من الدريبة أو السقيفة وسيلة للحماية ومكانا للاستقبال.

وفي حين لا يحمي المنزل المتواضع (بدون طابق علوي) إلا البابان المتواجهان في مدخله (باب يفتح على الشارع وباب يفتح علىالصحن) فإنه لا يمكن بلوغ داخل القصر أو المنزل الضخم بدون العبور بممر طويل ملتو (أو مكسور)(1) مقسم إلى عدة سقائف عن طريق أبواب ضخمة.

__________

(1) بصفة عامة نجد هذا الممر الطويل المنكسر في كل القصور التي يبلغ عددها حاليا بمدينة تونس حوالي المائة.

(1/566)

أما الأبواب ذات المصراعين، فهي مسمرة ومطلية بالدهن مثل باب المدخل، ولا يختلف عنها إلا آخر الأبواب (باب القمجة).

ويمكن للسقيفة الأولى (أو الدريبة) أو السقائف الموالية أن تحول بشكل يجعلها صالحة لاستقبال الزوار مثل المزارعين والحرفيين أو التجار (وذلك حسب اختصاص صاحب الدار) لأن الحديث حول الأعمال يبقى بعيدا عن الشارع، وعن الحياة العائلية أيضا.

والاعتناء بزخارف هذه المداخل يعطي غالبا فكرة صحيحة عن ترف البيوت للذين لا يرونها، ويقتصرون على زيارة مداخلها. وهي تتركب من مقاعد حجرية أو رخامية (دكانة)

(1/567)

مسندة إلى الجدران الجانبية التي ترتكز عليها في بعض الأحيان عميدات مجمعة بواسطة عقود. وليس هناك من شك، أن الأمر كان سيقتصر على هذا الإطار الصارم والبسيط الذي لا يثريه إلا الاستعمال التقليدي للحجر المنحوت، لولا تدخل المهاجرين الأندلسيين. وبالفعل، فإن الزخرفة الجديدة المتعددة الألوان التي أدخلوها في الدريبة والسقيفة، تضيف الكثير من البهجة على الطابع العام، مقترنة بنجاح، مع العناصر العادية من الحجر المنحوت والجدران المطلية بالجير. وهكذا بدأت تظهر كسوات الخزف التي تبرز في أعلاها النقوش الجصية

(1/568)

الدقيقة والتي نجدها في العقود والجبهات والأفاريز(1) .

أما السقف والعوارض الخشبية البارزة فهي تظهر نماذج هندسية مزهرة ذات اللون الذهبي على قاعدة حمراء أو خضراء، وهذه النماذج كانت تزين بها سقوف من نفس الأسلوب داخل قصور غرناطة ومنازل الأندلس بصفة عامة من ناحية، وبقصور ومباني المغرب الأقصى من ناحية أخرى.

__________

(1) يمكن ذكر العديد من القصور والدور الضخمة التي تمتاز بهذا النمط، نذكر من بينها خاصة دار الحداد ودار بن عبد الله، ودار المرابط، ودار رمضان داي، ودار عثمان، ودار حسين وغيرها كثير.

(1/569)

وهكذا، فإنه منذ المدخل، يعطي النمط الزخرفي المتبع في هذه الأماكن فكرة واضحة عن الأسلوب الذي يسيطر على مجمل المبنى.

وقد بقي الصحن الداخلي، لمدة زمنية طويلة، أمينا للنمط الخاص الذي تميز به تحت حكم السلاطين الحفصيين، ولم يطرأ عليه ظاهريا أي تحوير قبل اعتلاء البايات الحسينيين الحكم، وحتى في حالة غياب الرواق أو الطابق العلوي، فإن انتظام الجدران الفاتحة اللون، والمرتفعة في أغلب الأحيان تتخللها - من حسن الحظ - مشكاة مرتفعة مسطحة الأرضية، وهي متداولة مع الأبواب المحورية للغرف ذات الأسكفة المستقيمة -

(1/570)

وهي قل أن تكون معقودة(1) تعلوها شمسية (أو قمرية). وأضيفت إليها في فترة متأخرة نوافذ منخفضة(2) ويبقى الحجر المنحوت (أو الكذان) هنا أيضا، المادة المفضلة لصنع العقود المعمية المتآلفة مع أطر الأبواب. أما الوحدة الهندسية للصحن، فإنها تتم باستعمال أرضية من البلاط المربع أو المستطيل الشكل المصنوع من الرخام أو الكذان(3)

__________

(1) مثلما نجد مثلا بدار عثمان.

(2) نجدها في العديد من القصور كدار حسين ودار بن عبد الله ودار الرصاع وبعض المعالم الدينية والمدارس.

(3) نجد هذا النمط في كل القصور الضخمة التي ذكرنا البعض منها، خاصة الدور الأول التي وصلتنا كدار الحداد ودار بوزيان ودار الحدري ثم تواصل العمل بنفس النمط في المنازل التي أسست خلال القرنين 18 و19م.

(1/571)

.

وباستثناء الخزف الملون الذي يمكن أن يعلو غلق العقد أو اللوحات الحائطية، فإن تطبيق الفن الأندلسي المورسكي يظهر من خلال صنع النوافذ المتوأمة في الطابق العلوي(1) وعن طريق الزخرف المكون لجبهات العقود وكذلك النقوش الجصية.

وقد لاقت الغرف المطلة على الصحن من جهتها، عناية خاصة من طرف الفنانين الأندلسيين، وهذا الأمر ينطبق على المساكن الهامة المستوحاة في أغلبها من البذخ الموجود في قصور السلاطين كالدايات والبايات. لذا فإننا لا نستغرب من وجود هذا

__________

(1) نجد هذا النمط من النوافذ: بدار بوزيان ودار الرصاع...

(1/572)

التقليد حتى داخل المساكن الأقل اتساعا التي هي على ملك تاجر ثري أو عالم ديني أو مثقف... والذين يعملون على الأقل على توفير بيت جميل يستقبلون فيه ضيوفا بارزين. وفي هذا الصدد نذكر الغرف التي يكون لها شكل حرف T اللاتينية (أي "بالقبو والمقاصر"، الأول المركزي، والاثنان الآخران جانبيان) وبعد أن كانت مربعات الخزف والفسيفساء المتعددة الألوان مستعملة في الأرضيات، أصبح الزليج يكسو جدران "القبو" الذي يعتبر مكان الاجتماع والاستقبال (أي الصالون الحالي)، ويقع دائما في مواجهة الباب المؤدي إلى الصحن.

(1/573)

وفي مستوى أعلى، فإنه حصل إثراء هذا الزليج بإفريز منحوت بنقوش جصية متكونة عادة من آيات قرآنية أو عبارات دعائية ك"العزة لله"... أو "الملك لله" أو "العافية الباقية"... تعلوها هي الأخرى نقوش جصية متكونة من عقود بسيطة، تكون مثرية بزهور، تختلط معها رسوم هندسية، خاصة منها أطباق النجوم المتشابكة.

وبالإضافة إلى هذا الإطار الداخلي نجد في أعلى قسم، السقف من الخشب المطلي بماء الذهب، والمدهون طبقا للنمط السالف الذكر بالنسبة لمداخل القصور والمساكن الضخمة.

(1/574)

وما يمكن تأكيده، أنه رغم وصول عدة تأثيرات، التي سيطرت على القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد، فإننا نلاحظ تعلقا خاصا بالتأثيرات الأندلسية سواء كان ذلك على المستوى الرسمي - البايات الحسينيين - أو على مستوى سكان المدينة بصفة عامة. لذلك سنشاهد في العديد من القصور إدخال عناصر تعودنا على وجودها بصفة عامة. في القرن السابع عشر للميلاد، خاصة بقصر الباي بالقصبة الذي أضيف في عهد حمودة باشا الحسيني أو بقصر البايات بباردو، من خلال العديد من الإضافات التي أجريت في عهد محمود باي، ثم الصادق باي، وذلك قبل

(1/575)

دخول الحماية الفرنسية سنة 1881.

بالطبع ذكرنا بإيجاز بعض عناصر التواجد الأندلسي المورسكي بمدينة تونس، إلا أن هذا التواجد، تمثل في عدة نقاط أخرى مثل بعض الصناعات والفلاحة، والمأكولات والعادات والتقاليد التي أدخلوها معهم.

ومن الممكن جدا أن تعلق السكان بما ورد من الأندلس كان ناتجا عن اختلاف الحضور الأندلسي عن غيره، وخاصة عن الحضور الموحدي ثم العثماني الذي كان متصلا باستيلاء الأتراك العثمانيين على البلاد، فأول القادمين كانوا من الجنود، وكان الغرض من وراء إحياء العلم، هو محاولة العثمانيين التأثير

(1/576)

في البلاد من الناحية المذهبية ونشر المذهب الحنفي.

لكن يمكن أن نختم بالتأكيد على أنه رغم أهمية التأثير الأندلسي، فإن الفنان التونسي حافظ على الطابع المحلي، مما أدى إلى إعطاء المزيج من الفن الأندلسي والفن المحلي صبغة "شخصية" لفن البلاد، فقد استطاعت تونس هضم التأثيرات الأندلسية(1)

__________

(1) فهو إذن تلقيح للتأثيرات الأندلسية بما ورثته إفريقية عن العهود القديمة: انظر:

- G. Marçais, « Manuel d’art musulman » T. II, p.844 et « L’architecture musulmane », p.101.

- Brunschvig, « Les Hafsides » T.II, p.414.

(1/577)

وأعطتها صبغة محلية فأثرت بها الطراز المعماري للبلاد العربية.

المصادر والمراجع المستعملة في هذا البحث

I - المصادر المخطوطة:

1) الترجمان (أبو عبد الله)، تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، ... مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس رقم 12034.

2) السراج (أبو عبد الله محمد)، الحلل السندسية في الأخبار ... التونسية، مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس رقم 10699.

3) السنوسي (أبو عبد الله محمد)، مسامرات الظريف بحسن ... التعريف، تاريخ فقهاء الدولة الحسينية بتونس، مخطوط بالمكتبة ... الوطنية بتونس رقم 18674.

(1/578)

4) المرابط ابن أ[ي لحية (المنتصر)، نور الأرماش في مناقب سيدي ... أبي الغيث القشاش، مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس رقم 16408.

II - المصادر المطبوعة:

1) ابن أبي دينار (أبو عبد الله)، المؤنس في أخبار إفريقية وتونس، ... تحقيق وتعليق محمد هشام، تونس، 1967.

2) ابن أبي الضياف (أحمد)، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس ... وعهد الأمان، تونس، 1963-1966.

3) ابن حجر العسقلاني (أحمد)، الدرر الكامنة في أعيان المائة ... الثامنة، حيدر آباد 1348هـ.

(1/579)

4) ابن خلدون (عبد الرحمن)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ... أيام العرب والعجم والبربر، بيروت، 1959 - المقدمة والجزء ... السادس.

5) ابن رشد الفهري، السنن الأبين، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن ... الخوجة، تونس، 1977.

6) ابن الشماع (أحمد)، الأدلة البينة النورانية عن مفاخر الدولة ... الحفصية، تحقيق عثمان الكعاك، تونس، 1936.

7) ابن فرحون، الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، القاهرة، 1329هـ.

8) ابن قنفد، الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد ... التركي، تونس،

(1/580)

1968.

9) خليفة (حاجي)، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، إسطنبول، 1941-1943.

10) خوجة (حسين)، ذيل بشائر الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق وتقديم الطاهر ... المعموري، تونس، 1975.

12) السراج (أبو عبد الله محمد)، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، تحقيق محمد ... الحبيب الهيلة، تونس، 1970-1973.

13) العبدري الحيحي (أبو عبد الله محمد)، رحلة العبدري، تحقيق محمد الفاسي، الرباط، ... 1968.

14) الغبريني (أحمد)، عنوان الدراية في من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية، ... تحقيق رابح بونار، الجزائر،

(1/581)

1970.

15) القلصادي (أبو الحسن علي)، رحلة القلصادي، دراسة وتحقيق محمد أبو الأحفان، ... تونس، 1978.

16) المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، القاهرة، 1939.

المراجع العربية

1) ابن مامي (محمد الباجي). - مدارس مدينة تونس من العهد ... الحفصي إلى العهد الحسيني، تونس، 1981.

2) التازي (عبد الهادي). - جامع القرويين، دار الكتاب اللبناني، ... بيروت، 1972-1973.

3) الزركلي (خير الدين). - الأعلام، قاموس تراجم، دمشق، 1954- ... 1959.

4) الطالبي (محمد). - الهجرة الأندلسية، مجلة الأصالة، عدد 26، ... تونس، 1975.

(1/582)

5) كحالة (عمر رضا). - معجم المؤلفين، 1975-1961.

6) مخلوف (محمد). - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، المطبعة ... السلفية ومكتبتها، 1349هـ.

7) بحوث عن الأندلسيين في تونس، جمعها سليمان مصطفى زبيس، ... تونس 1983.

المراجع الأجنبية

...

...

... 1) Brunschvig (R): « Deux récits de voyages inédits en Afrique du Nord au ... Xvéme siécle, Abdelbasit B. Halil et Adorne », Paris, 1936.

... 2) Brunschvig (R): « La Berbérie Orientale sous les Hafsides, des origine à la fin ... du Xvème », Paris,

(1/583)

1940-1947.

... 3) Brunschvig (R) «Quelques remarques historiques sur les Medersas de Tunisie », ... Revue Tunisienne N° 6, 1931.

... 4) Broockelmann (K.), « Geschichter der Arabischen Litterature », Leiden, 1937- ... 1949.

... 5) Fleury, « L’industrie Tunisienne des Sasiyas », Revue du Commerce et de ... l’Industrie, Paris, 1895.

... 6) Ferchiou, S., « Technique et Société; La fabrication de la chachia en ... Tunisie », Paris, 1973.

(1/584)

... 7) Daoulaltli (Abdelaziz), « Inscription à la mosquée andalouse d’al Alia », in Etudes ... sur les origines andalouses en Tunisie.

... 8) Golvin (L.), « Essai sur l’architecture religieuse musulmane », Paris, 1970.

... 9) Marçais (G.), « l’architecture musulmane d’Occident », Paris, 1952.

... 10) Marçais (G.), « Manuel d’art musulman », Paris, 1927.

... 11) Revault (J.), « Palais et demeures de Tunisie », T.I (XVIe-XVIIe s.), Paris, ... 1967 et T.II (XVIIe-XIXe s.), Paris, 1971.

(1/585)

... 12) Terrasse (M.), « Le rôle du Maghreb dans l’évolution de l’art hispano- ... mauresque », Al-Andalous, XVIII, 1957, fasc. 1.

(1/586)

أوضاع المسلمين تحت الإدارة الصليبية من خلال رحلة ابن جبير (النصوص ـ التوظيف ـ الواقع التاريخ)

... الأستاذ عبد المجيد بهيني

... ... كلية الآداب ـ بني ملال

... يجد الباحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لبلاد الشام في فترة الحروب الصليبية صعوبة كبيرة تتمثل في قلة المصادر وندرة المعلومات حول أوضاع المجتمع بصفة عامة، وأحوال المسلمين الخاضعين للنفوذ الإفرنجي بصفة خاصة. وتعتبر "رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك" لابن جبير(1)

__________

(1) ... هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، الشاطبي البلنسي. ولد في بلنسة سنة 539 هـ. وكانت وفاته بالإسكندرية، حيث أقام هنالك محدثاً، في سنة 614 هـ.

(1/587)

واحداً من أهم المصادر التي ألقت الضوء على بعض الصور عن علاقات المسلمين بالإفرنجية تحت الحكم الصليبي في الربع الأخير من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. هذا الكتاب هو أشبه بمذكرات يومية سجل فيها ابن جبير ملاحظاته ومشاهداته أثناء رحلته التي بدأها في شوال سنة 578 هـ، وانتهى منها بعودته إلى الأندلس في 22 من المحرم سنة 581 هـ. وهذه الملاحظات تعد مادة ثمينة تعين الباحث على تلمس الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأدنى بصفة عامة، وأحوال المسلمين بمناطق نفوذ الصليبيين ببلاد الشام بصفة

(1/588)

خاصة. وقد ترجم الكتاب إلى لغات عديدة، واعتمده العديد من الباحثين. إلا أن توظيفهم لبعض نصوص الرحلة كثيراً ما كانت تتحكم فيه أغراض إيديولوجية وسياسية تستجيب لرغباتهم كل حسب اتجاهه ومرماه. وسنحاول الوقوف على ذلك في هذا العرض الذي نهدف منه أيضاً إلى توضيح بعض ما جاء في الرحلة من نصوص حول أوضاع المسلمين تحت حكم الإفرنجة، مع التركيز على الأحوال النفسية.

... فما مضامين نصوص ابن جبير؟ وكيف صور هذه العلاقات؟ وكيف وظفها الباحثون؟ وإلى أي حد انسجم هذا التوظيف مع الواقع التاريخي؟

(1/589)

1 ـ مضامين نصوص ابن جبير (الصورة)

... ليس القصد من هذا العنصر رصد وتتبع كل ما جاء في كتاب الرحلة من معلومات حول أحوال المجتمع الإسلامي بالمناطق المشرقية التي زارها وسجّل انطباعاته حولها، بقدر ما يتعلق الأمر بالوقوف عند بعض النصوص التي تحدث فيها عن أشياء لفتت انتباهه ونالت إعجابه وارتبطت على الخصوص بالوضع القانوني وبحالة الترفيه ـ كما يقول ابن جبير ـ التي كان عليها المسلمون الذين أرغمتهم ظروف عديدة على العيش تحت نير الحكم الصليبي. وأكاد أجزم بأن شهرة هذا الكتاب وسعة انتشاره منذ منتصف القرن

(1/590)

الماضي تعود بالأساس إلى هذه النصوص:

... ـ النص الأول: يقول ابن جبير في فقرة اختار لها العنوان الآتي: "الحرب واتفاق النصارى والمسلمين".

... ومن أعجب ما يحدث به أن نيرات الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت، الذي هو شهر جمادى الأولى، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك(1)

__________

(1) ... يقع هذا الحصن جنوبي فلسطين، بينه وبين القدس مسيرة يوم، وكان هذا الحصن من نصيب الأمير الصليبي Renaud de Chatillon المعروف في المصادر العربية باسم "أرناط" (انظر أبو شامة، الروضتين في اخبار الدولتين، دار الجيل، بيروت، دن تاريخ، ج 2، ص. 75).

(1/591)

، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، وبينه وبين القدس مسيرة يوم أو اشف قليلاً(...)(1).

... واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك. وتجار النصارى أيضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض (...). هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك. ولا تعترض الرعايا ولا التجار؛ فالأمن لا

__________

(1) ... ابن جبير، الرحلة، طبعة دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1981، ص. 234.

(1/592)

يفارقهم في جميع الأحوال سلماً أو حرباً. وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوىي الحديث عنه(1).

... ـ النص الثاني: ويظهر أنه يكمل ما جاء في النص السابق، لأن ابن جبير يتحدث فيه عن الموضوع نفسه الذي هو خروج صلاح الدين الأيوبي لمنازلة صاحب حصن الكرم المتقدم الذكر. يقول النص: »ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الإفرنج وسبيهم يدخل إلى بلاد المسلمين«. وبعد استعراضه لأطوار هذه المواجهة التي أسفرت عن انتصار المسلمين، استطرد قائلاً: »وخرجنا نحن

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 235.

(1/593)

من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه. وكان مبلغ السبي آلافاً لم نتحقق إحصاءها (...) وخرجنا نحو إلى بلاد الفرنج وسبيهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة«!(1).

... ـ النص الثالث: يصف ابن جبير، في طريقه من دمشق إلى عكة، القرى والضياع ما بين تبنين (جنوب لبنان)، هي للصليبيين، وعكة قائلاً:

... ورحلنا من تبنين ـ دمرها الله ـ سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 245 ـ 246.

(1/594)

الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة. وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضاً. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطائرة على

(1/595)

المسلمين: أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج، ويأنس بعدله. فإلى الله المشتكى من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء}(1) (2).

... ولا غرابة في القول بأنه ما من دراسة اعتمدت على هذا الكتاب، خاصة الدراسات التي اهتمت بالعلاقات الإسلامية الإفرنجية، وبالأحوال الاقتصادية والاجتماعية لبلاد الشام تحت النفوذ الصليبي، إلا

__________

(1) ... سورة الأعراف، الآية 155.

(2) ... الرحلةن صص. 247 ـ 248.

(1/596)

واستشهدت إن لم نقل بكل النصوص السالفة الذكر، فعلى الأقل ببعض الفقرات منها. فكيف جاء إذن توظيف هذه النصوص؟

2 ـ نصوص ابن جبير في أعمال الباحثين

... نظراً للقيمة الوثائقية النفيسة لكتاب الرحلة، فقد استرعى اهتمام المؤرخين والباحثين منذ وقت مبكر (منتصف القرن التاسع عشر) (1). ولم يقتصر الأمر على طبعه وترجمة

__________

(1) ... حيث تمت ترجمة القسم المختص منه بصقلية إلى الفرنسية وطبع في عام 1846 م، ثم طبع لأول مرة في ليدن عام 1852 م، بإضافة مقدمة غليه وضعها المستشرق رايت. ثم أعيد طبعه عام 1907 م مع ترجمة لمؤلفه.

(1/597)

فصول هامة منه إلى لغات أخرى، بل اعتُمد عليه في كثير من الدراسات نذكر من بينها دراسة لزكي النقاش(1) ركز في قسم كبير منها على النصوص المذكورة، ولا سيما عند كلامه عن المجتمع في المملكة اللاتينية وملحقاتها. وفي هذا الإطار نجده يكتفي بإعادة إيراد ما جاء عند ابن جبير من وصف لأحوال الفلاحين المسلمين بتبنين دون الوقوف عند النص، وتعميق النظر فيه، واعتبار الظروف

__________

(1) ... زكي القاش، العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بين العرب والإفرنج خلال الحروب الصليبية، دار الكتاب اللبناني، 1365 هـ/ 1946 م.

(1/598)

والأسباب التي تفسر موقف الإدارة الصليبية هذا من فلاحي هذه المنطقة في تلك الفترة بالذات(1)، أي دون اعتبار الزمان والمكان، مما طبع تحليله بنوع من التعميم(2)

__________

(1) ... يقول معلقاً على النص: »وكذلك كان أولئك الفلاحون من المسلمين على حالة من "الترفيه" مع الإفرنج، مما يدل على مبلغ ما توصل إليه القوم مع الزمن من "اعتدال في السياسة"« (المرجع السابق، ص. 171).

(2) ... يقول: »... بل سمعنا البعض ممن زاروا البلاد في ذلك العهد (زمن الحروب الصليبية)، كابن جبير، مثلاً، الرحالة الأندلسي المسلم يحمد ما كان فيه سكان البلاد، عامة وأبناء ملته خاصة، من دَعة وأمن ورخاء في ظل الإدارة الجديدة« (المرجع السابق، ص. 140).

(1/599)

.

... ويرى السيد عبد العزيز سالم، متحدثاً عن القيمة الوثائقية لكتاب االرحلة، أن أروع ما ذكره ابن جبير هو تصويره للتعايش السلمي بين الصليبيين والوطنيين في مملكة بيت المقدس الصليبية، على الرغم من حالة الحرب القائمة بين المسلمين والإفرنجية(1). ويذهب حسان حلاق المذهب نفسه بخصوص النص المتعلق بتبنين، فيرى فيه تجسيداً للعلاقات الطبية المشتركة بين المسلمين والإفرنجة(2)

__________

(1) ... التاريخ والمؤرخون العرب، دار النهضة العربية، بيروت، 1981، صص. 221 ـ 222.

(2) ... حسان حلاق، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1409 هـ/ 1989 م، ص. 396.

(1/600)

، وأن العلاقات التجارية ظلت قائمة بصورة ناجحة بالرغم من العداء بين المسلمين والصليبيين حيث كانت القوافل تتنقَّل بين أراضي الطرفين في سهولة(1).

... أما نقولا زيادة، فبعد أن استشهد بأحد نصوص ابن جبير المتقدمة الذكر، خلص إلى أن »الحرب أو الحروف بعد أيام القتال العنيف الأول لم تكن تمنع الاتصال وتبادل التجارة«(2). وتبقى الدراسة الوحيدة

__________

(1) ... المرجع السابق، صص. 411 ـ 412.

(2) ... نقولا زيادة، "تجارة بلاد الشام الخارجية في العصر السلجوقي"، مجلة الاجتهاد، العددان 34 و35، شتاء وربيع 1997 م، ص. 51.

(1/601)

التي تفادت التعميم واعتبرت الزمان والمكان أثناء تحليلها، في نظرنا، هي تلك التي يقول فيها صاحبها: »ومن المؤكد أن أحول الفلاحين المسلمين تحت الحكم الصليبي كانت متردية بشكل عام، مع بعض الاستثناءات النادرة. من ذلك ما يذكره ابن جبير عن فلاحي تبنين، وعن أفضلية وضعهم بالمقارنة مع فلاحي المناطق الإسلامية المجاورة«(1).

__________

(1) ... حاتم الطحاوي، "الصليبيون في بلاد الشام: صفحات من النشاط الاقتصادي"، مجلة الاجتهاد، العدد 33، خريف 1417 هـ/ 1996 و، ص. 123.

(1/602)

... أما الباحثون الغربيون الذين أرخوا للحروب الصليبية، فإن دراساتهم لم تستغن عن نصوص ابن جبير السابقة الذكر. فقد تميز تحليل إرنست باركر للنص المتعلق بأحوال الفلاحين المسلمين بتبنين بشيء من التعميم يوحي للقارئ أن ما ينطبق على فلاحي هذه المنطقة يهم جميع فلاحي مناطق نفوذ الفرنجة المسلمين. إذ يقول:

... على أنه ليس في استطاعتنا أن نتأكد إلى أي مدى أنزل أمراء الفرنج الظلم والاستبداد بالمقطعين السوريين. وما ورد عن هذا الضرب من الظلم لم يلق شيئاً من التأييد. وإذا صح ما أورده الرحالة المسلم ابن جبير،

(1/603)

من دليل، فإن أولئك المسلمين الذين عاشوا بضياع الفرنج، لأحسن حظاً من الذين عاشوا في كنف الأمراء الوطنيين(1).

... وقد ذهب بعضهم بعيداً في تأويل هذا النص إلى درجة جعلتهم يرون أن الفرنجة تنازلوا للفلاحين المحليين بشكل أسهل عن ملكية الأرض. فهو تأويل، وإن بولغ فيه، فإنه لا يخرج عن نطاق الآراء السابقة. ونفهم منه كذلك أن مسألة التنازل عن الأرض لصالح الفلاحين المسلمين همت كل

__________

(1) ... أرنست باركر، الحروب الصليبية، نقله إلى العربية السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، ص. 71.

(1/604)

مناطق نفوذ الصليبيين، وليس تلك التي تشكل الإطار المكاني للنص فقط(1).

... على أن من الباحثين الذين تعاملوا مع نصوص ابن جبير بنوع من التبصر والتريث في التفسير كلود كاهن (Cahen) الذي أثار الانتباه إلى ضرورة مراجعة التفسير الشائع للفقرة الشهيرة التي يصف فيها الرحالة المسلم ابن جبير وضع الفلاحين المسلمين في الشرق اللاتيني، وذلك بمقارنتها بنصوص أخرى

__________

(1) ... فيليب فارج ويوسف كرباج، المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة 1/ 1994، ص. 80.

(1/605)

للرحالة نفسه، مع تفسيره وتحليله في سياقه(1).

... نلاحظ إذن، مع بعض الاستثناءات النادرة، أن توظيف نصوص ابن جبير يطبعه التعميم بحيث أن أغلب الباحثين، السابق ذكرهم، لم يكلفوا أنفسهم مشقة تعميق تحليل ما جاء فيها من معلومات، وذلك بوضعها في سياقها واحترام إطارها الزماني والمكاني، والبحث عن الأسباب الحقيقية المفسرة لتلك المعاملة مع الفلاحين المسلمين، بل وجدناهم يكتفون بإيراد ما جاء

__________

(1) ... كلود كاهن، الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية، ترجمة أحمد الشيخ، سينا للنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 1995، ص. 216.

(1/606)

في الرحلة من نصوص. فكيف ينبغي قراءتها؟

3 ـ النصوص والواقع التاريخي؟

... سبقت الإشارة إلى أن ابن جبير يعتبر من رحال العصر الوسيط البارزين الذين صوروا أوضاع مسلمي الإمارات الصليبية ببلاد الشام. فهل يصح تعميم ما ذكره عن مناطق معينة في فترة محددة على مناطق أخرى في الفترة نفسها؟ بل هل يصح تعميم ما ذكره عن المنطقة نفسها في فترات أخرى خارجة عن إطار الرحلة الزماني؟

... أعتقد أن على أي باحث في مجال التاريخ عند الاستشهاد بنص ما اعتبار المكان والزمان والالتزام بهما، فضلاً عن اعتبار السياق الذي كتب فيه

(1/607)

النص. وهي إجراءات معروفة في مناهج البحث التاريخي. لكن القناعات السياسية والإيديولوجية أحياناً تطغى على النظرة الموضوعية للأمور، وتعمل على توجيه البحث وجهة مخالفة لروح النصوص والتعامل معها وفق أهداف ومرامي محددة ومرسومة مسبقاً، دون اعتبار السياق والزمان والمكان. وفي فترة كتلك التي تغطيها أحداث الرحلة، خاصة ما تعلق منها ببلاد الشام التي شهدت حروباً مستمرة فيما بين المسلمين والصليبيين، كان من اللازم أيضاً أخذ موازين القوى بين الطرفين بعين الاعتبار، لأن اختلاف موازين القوى يؤثر بشكل كبير في المواقف

(1/608)

السياسية الداخلية والخارجية؛ ويبقى كل تعميم، خاصة في هذه الفترة التي عرفت فيها هذه المنطقة تطورات سريعة ومتقلبة للأوضاع، خارجاً عن جادة الصواب وضرباً من العبث الممنهج الواعي. ثم إن الاعتماد على مصدر ذي نظرة أحادية ومغربي الأصل ويتحدث عن أحداث ويصور واقعاً مشرقياً يبقى غير كاف لإعطاء صورة حقيقية واضحة عن أحوال المسلمين في ظل السيطرة الإفرنجية، الأمر الذي يفسح المجال للتحليلات والتفسيرات المختلفة. ومن ثم وجب الاستناد إلى مصادر ذات أصول ومشارب متنوعة. وقبل هذا وذاك، كان ينبغي مقارنة ما جاء في نصوص

(1/609)

ابن جبير الآنفة الذكر بنصوص أخرى للمؤلف نفسه، لأنها تؤكد عدم إمكان تعميم معلومات وملاحظات تخص منطقة معينة على جهات ونواح أخرى في الفترة نفسها، فما بالك بفترات أخرى. ونتبين ذلك في نص عقد فيه مقارنة بين وضع المسلمين في صور وبين وضعهم في عكة قائلاً: »وأحوال المسلمين بها (صور) أهون وأسكن، وعكة أكبر وأطغى وأكفر«(1). ويظهر أن سبب هذا الاختلاف في الأوضاع يرجع إلى الشروط الخاصة التي لزم قبولها حتى تستسلم المدينة، والتي كانت لها إيجابيات خاصة.

__________

(1) ... الرحلة، ص. 250.

(1/610)

... ركزت نصوص ابن جبير المذكورة على النقط التالية:

ـ حرية تنقل القوافل والتجار المسلمين بين دار الإسلام ودار الحرب دون اعتراض عليهم.

ـ تزامن خروج قوافل قوافل المسلمين إلى دار الحرب ودخول سبي الصليبيين إلى دار الإسلام.

ـ حالة الترفيه ورضى المسلمين بالعيش تحت الإدارة الإفرنجية (التعايش السلمي).

أ ـ حرية تنقل بين دار الإسلام ودار الحرب

... ذكر ابن جبير أن القوافل كانت تنتقل بين الأراضي الإسلامية والأراضي الخاضعة لنفوذ الإفرنجة في سهولة دون أن تعترضها صعوبات تذكر، وأن الأمن لم يفارق التجار والسفار

(1/611)

في رحلاتهم. فإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا ينطبق إلا على المدة التي زار فيها المنطقة المعنية. إذ أن المصادر حافلة بالعديد من الحالات التي يستنتج منها عكس ذلك، منذ بدء الهجمة الصليبية على بلاد الشام (نهاية القرن 5 هـ/ 11 م) إلى الربع الأخير من القرن 6 هـ/ 12 م. من ذلك ما ذكره الذهبي صاحب كتاب "دول الإسلام" بخصوص استيلاء الفرنجة على قافلة كانت متوجهة من دمشق إلى مصر سنة 502 هـ/ 1108 ـ 1109 م (1)

__________

(1) ... Med b. Ahmad al-Dahabi, Kitab Duwwal-l-Islam: les dynasties de l’Islam des années 447/1055-6 à 656/ 1258, Traduction annotée, introduction. lexique et index par Arlette Nègre, Damas, IFD, 1979, p. 75.

(1/612)

. وكذلك ما ذكره ابن القلانسي عن هجوم بودوان (Baudouin) صاحب القدس في حدود سنة 1113 م عند وادي عزيب (موضع قريب من بيت القدس) على قافلة انطلقت من بصرى بالأردن باتجاه مصر، وأخذه لخمسين ألف دينار، وأسر العديد من المسلمين (1).

... وكثيراً ما كان الفرنجة إبان القرن السادس الهجري ينكثون عهدهم وينقضون المعاهدات واتفاقيات الهدنة التي عقدت بينهم وبين المسلمين، مستغلين في ذلك ميزان القوة الذي كان

__________

(1) ... نص لابن القلانسي في: J. Prawer, Histoire du Royaume matin de Jérusalem, Paris, 1969, T. I, p. 291.

(1/613)

لصاحلهم، خاصة في أغلب فترات النصف الأول من القرن المذكور، أي إلى حدود ما اصطلح عليه بـ»ـالحرب الصليبية الثانية«. فكان ذلك أولاً في سنة 527 هـ عندما استضعف الفرنجة شمس الملوك صاحب دمشق (توفي 529 هـ) وطمعوا فيه حيث عزموا على نقض الهدنة التي بينهم، »فتعرضوا ـ يقول ابن الأثير ـ إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها، فشكا التجار إلى شمس الملوك، فراسل في إعادة ما أخذوه وكرر القول فيه. فلم يردوا شيئاً«(1)

__________

(1) ... ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق محمد يوسف الدقاق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ/ 1987 م، الجزء التاسع، ص. 268.

(1/614)

. فكان ذلك سبب استيلائه على بانياس في السنة المذكورة. أما الحالة الثانية، فقد شهدتها أنطاكية سنة 532 هـ، حينما نقض الفرنجة الهدنة التي كانت فيما بينهم وبين عماد الدين زنكي (توفي 541 هـ) على حلب. فقبضوا في أنطاكية على خمسمائة رجل من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار (1).

__________

(1) ... ابن العديم، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان، المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية، دمشق، 1954، الجزء II، ص. 264؛ محمد كرد علي، خطط الشام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403 هـ/ 1983 م، ج II، ص. 11.

(1/615)

مما يدل على أن الحروب بين الطرفين كانت تؤثر ـ لا محالة ـ في سلوك الفرنجة وتصرفاتهم إزاء مسلمي دار الحرب الخاضعين لنفوذهم، ولا سيما حين كان ميزان القوة لصالحهم.

... ويخبرنا ابن أبي طي عن حصن بيت الأحزان الذي »كان على المسلمين منه ضرر عظيم (...) وكان هذا الحصن للداوية (1) وكانوا يقوون من فيه بالأموال والنفقات لقطع الطرقات على قوافل المسلمين«(2).

__________

(1) ... هي منظمة دينية عسكرية أخذت على عاتقها حماية الحجاج المسيحيين والدفاع عنهم وعن الأرض المقدسة.

(2) ... نص لابن أبي طي في : الروضتين، ج II، ص. 8.

(1/616)

وأملاً في اتقاء خطره، ونظراً للأضرار البالغة التي لحقت التجار والقوافل والسفار المسلمين منه، فقد بذل صلاح الدين الأيوبي للفرنجة مائة ألف دينار مقابل هدمه. فلم يجيبوه إلى ما طلب(1). وكذلك شأن حصن الكرك الذي يقول عنه أبو شامة، متحدثاً عن وقائع سنة 580 هـ، ما يلي:

... ولما بلغ الفرنج ذلك (تجهز الجيوش الإسلامية بقيادة صلاح الدين) خرجوا براجلهم وفارسهم إلى الذب عن الكرك. وكان على المسلمين فيه ضرر عظيم، فإنه كان يقطع عن قصد مصر بحيث كانت القوافل لا يمكنها الخروج إلا مع

__________

(1) ... الروضتين، ج II، ص. 8.

(1/617)

العساكر الجمة. فاهتم السلطان بأمره لتكون الطريق سابلة ويسر الله ذلك. وله الحمد والمنة(1).

... والملاحظ أن الأحداث التي يتناولها النص تزامنت مع وجود ابن جبير بالشام. وعليه، فإذا كان هذا الأخير يرى أن اختلاف القوافل بين مصر ودمشق لم يكن منقطعاً، وأن الأمن لا يفارق القوافل، فإننا نجد في نص أبي شامة عكس ذلك. حيث يتعلق الأمر بالأمير الصليبي أرناط (Renaud de Chatillon) الذي قطع الطريق بين مصر ودمشق، ونهب قوافل المسلمين، واعترض سبيل الحجاج إلى مكة والمدينة، الأمر الذي

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 55.

(1/618)

أثار مغيظة صلاح الدين الأيوبي(1).

... لم يقتصر الأمر على التصدي للقوافل والحجاج، بل تعداه إلى حد منع تنقل الأفراد. من ذلك ما أورده ابن طولون عن هجرة الشيخ أحمد بن

__________

(1) ... ابن العديم، المصدر السابق، ج III، ص. 34 و92. حول شخصية أرناط وسياسة النهب والسلب التي اشتهر بها، هناك دراسة هي قيد الطبع شاركت بها في الندوة الدولية التي نظمتها اللجنة المغربية للتاريخ البحري بسلا أيام 30 و31 ماي و 1 و2 يونيو 1997 في موضوع: الجهاد البحري في التاريخ الإسلامي، عنوانها: "المغاربة والجهاد البحري ضد الصليبيين".

(1/619)

قدامة الحنبلي (مؤسس الصالحية بدمشق) وأهله من قرية جماعيل إلى دمشق في سنة 551 هـ، وذلك في ظروف طبعت بالكتمان والسرية التامة، خوفاً على أنفسهم من الكفار. يقول النص: »فاتفق أن أهل القرية علموا، فأرادوا منعهم (من الهجرة). فلما لم يقدروا على منعهم، أعلموا بهم الكفار حتى يمنعوهم. فمضى عسكر نابلس فقعدوا لهم على الشُّرَيْعَة حتى يأخذوهم فأعماهم الله عنهم وكفاهم شرهم «(1). ويقول عن ظروف هذه الهجرة

__________

(1) ... ابن طولون، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية، تحقيق محمد أحمد دهمان، 1368 هـ/ 1949 م، ص. 28.

(1/620)

والأخطار التي أحدقت بها ما يلي: »وبه إلى الحافظ ضياء الدين قال سمعت والدي قال رجعت إلى والدي حتى أجيء به فقال يا بني كم تتردد! فإني أخاف عليك من الكفار. فقلت ما كنت لأتركك، فجئت به إلى دمشق«(1).

... يتضح مما سبق أن نص ابن جبير يهم منطقة محددة هي تلك التي يتحدث عنها، في زمن محدد هو الذي صور فيه ما رأى إن كان تدوينه لما شاهد تدويناً آنياً(2)

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 31.

(2) ... هناك من يعتقد أن ابن جبير كتب أخبار الرحلة فيما يقرب من سنة 583 هـ، بعد أن شاع خبر فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي. (السيد عبد العزيز سالم، المرجع السابق، ص. 221).

(1/621)

؛ وأنه من غير الصحيح تعميم هذه الملاحظات على مناطق أخرى حتى في الفترة نفسها. كما لا يصح ذلك على المنطقة نفسها المتحدث عنها في فترات أخرى، حيث أوضحت النصوص أحياناً عدم انسجام معلومات الرحلة مع الواقع التاريخي.

ب ـ تزامن خروج قوافل المسلمين إلى دارالحرب ودخول سبي الصليبيين إلى دار الإسلام

... مما أثار استغراب ابن جبير وإعجابه أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الفرنجة، وسبيهم يدخل بلاد المسلمين بالرغم من الحرب التي كانت قائمة بين الطرفين. وتتضمن الرحلة حالة واحدة هي حالة هجوم صلاح الدين على حصن

(1/622)

الكرك ونهب الأراضي المجاورة له سنة 580 هـ (جمادى الآخرة)، ومداهمة مدينة نابلس حيث استولى عليها وسبى كل من فيها، وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها. هذا، في وقت كانت قافلة دمشق خارجة في اتجاه عكة وكان ضمنها ابن جبير. يقول في هذا الإطار: »وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه« (انظر أعلاه). فيظهر من الوهلة الأولى أن النص يقدم صورة متناقضة ومفارقة واضحة في علاقات المسلمين بالصليبيين يمكن بلورتها في التساؤل الآتي: كيف ينبغي تفسير ذلك التعارض

(1/623)

المتضمن في النص؟ أعتقد أن ما أشار إليه صاحب الرحلة لا ينبغي أن يكون مدعاة لإثارة الاستغراب إذا ما وضع وفسر في سياقه. ذلك بأن الأعراف السياسية والدبلوماسية حينئذ تريد أن الاتفاقية أو المعاهدة أو الهدنة المعقودة بين أمير مسلم وآخر إفرنجي لا يسري مفعولها إلا على اراض محدودة من مناطق نفوذ المتعاهدين، وليس على كل الأراضي التابعة لهما، فما بالك بالأراضي الإسلامية أو الإفرنجية التابعة لغيرهما. ولكي نتبين ذلك بشكل ملموس، نورد التصريح الآتي الذي يقول فيه بغدوين (Baudouin)، صاحب بيت المقدس، الصليبي

(1/624)

متحدثاً عن اتفاقية هدنة عقدها مع إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وحلب في سنة 516 هـ: »مذ حَلفنا له (إيلغازي) وحلف لنا ما نكثنا، وحفظنا بلده في غيبته ونحن شيوخ، وما أظنه يغدر، بل ربما قصد طرابلس أو قصدني في القدس، لأنني ما صالحته إلا على أنطاكية وأعمالها«(1). وهو تصريح على قدر كبير من الأهمية يساعد على فك لغز تلك المفارقة التي ينطوي عليها النص، ويحول إعجاب ابن جبير إلى مجرد إجراء عادي، بل يكشف عن مكونات الوعي الثقافي عنده. فقافلة ابن جبير خرجت من

__________

(1) ... ابن العديم، المصدر السابق، ج II، ص. 204.

(1/625)

دمشق متوجهة نحو عكة، أي باتجاه الغرب؛ وهي مناطق تابعة لصاحب بيت المقدس، وكانت بينه وبين صلاح الدين هدنة؛ في حين أن المنطقة التي نازلها هذا الأخير وسبى أهلها تقع إلى الجنوب من دمشق، وهي تحت نفوذ صاحب حصن الكرك المذكور.

ج ـ حالة الترفيه ورضى المسلمين بالعيش تحت الإدارة الفرنجية (التعايش السلمي)

... تحدث ابن جبير في فقرته الشهيرة المتعلقة بتبنين عن حالة الترفيه التي كان عليها المسلمون مع الصليبيين. وتبنى ذلك مجموعة من الباحثين العرب والأجانب الذين زادوا على ما جاء في كتاب "الرحلة" بأن عمموا ذلك

(1/626)

زمانياً ومكانياً، في إطار توظيف ذي أبعاد سياسية وإيديولوجية، حيث كثيراً ما جرى الاستشهاد بها خارج سياقها في غمرة الغبطة التي صاحبت العصر الاستعماري على نحو يظهر حتى للمسلمين محاسن إدارة فرنسا الاستعمارية دون تدقيق في الأمر (1)؛ فعلق

__________

(1) ... ترجمت ونشرت فصول من كتاب الرحلة، ومن بينها النص المذكور المتعلق بتبنين، في نهاية القرن الماضي في مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية المشارقة (Recueil des Historiens Orientaux des Croisades).والملاحظ أن هذه الترجمة صادفت الحقبة الاستعمارية، أو بالأحرى تزامنت معها.

(1/627)

بعضهم على ذلك قائلاً: »فمن الشرق الصليبي إلى إفريقيا الشمالية الفرنسية سوف تكون إدارة قادمة من الخارج محل ثناء أكثر من مرة، حتى من جانب السكان الأصليين«(1)، ملمحاً بذلك إلى الفقرة التي يقول فيها ابن جبير: »... وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من اهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق« (النص أعلاه).

__________

(1) ... فيليب فارج ويوسف كرباج، المرجع السابق، ص. 81.

(1/628)

... ويبقى السؤال هو معرفة العوامل التي يمكن أن تساعد على فهم سياسة الإدارة الصليبية تجاه فلاحي الأراضي الواقعة بين تبنين وعكة وشرحها؛ وكذا معرفة مدى صحة تعميم ذلك على باقي المناطق الواقعة تحت النفوذ الإفرنجي.

... ( فنحن نعلم من خلال النصوص، أن هذه المنطقة تضررت أكثر من غيرها بحركة الهجرة التي حدثت قبيل الهجمة الصليبية على بلاد الشام وإبانها. بل لقد استمرت هذه الهجرات ـ كما رأينا ـ إلى حدود الربع الأخير من القرن السادس الهجري. وقد أولى الأمراء الأفرنجة عناية كبيرة لمحاولة إعادة تعمير هذه

(1/629)

المناطق. ونذكر على سبيل المثال بغودين (Baudouin) ملك بيت المقدس الذي كان باله ـ حسب رواية وليام الصوري ـ منشغلاً كل الانشغال »بمشكلة قلة سكان المدينة المقدسة ـ حبيبة الله ـ، قلة تجعلها شبه خالية منهم؛ إذ لم يكن بها العدد الملائم للقيام بما تحتاجه المملكة«(1). وحسب الرواية نفسها، فإن نواحي المدينة هي التي كانت أكثر من غيرها في مسيس الحاجة إلى من يعمرها ويقوم بالأعمال

__________

(1) ... وليام الصوري، الحروب الصلبية (1094 ـ 1184)، ترجمة حسن حبشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، الجزء II، ص. 317.

(1/630)

الزراعية لضمان مواد الإعاشة (1). وفي سبيل الغاية نفسها، منح بغدوين (في سنة 1120 م) سكان القدس منحة جليلة القدر حيث رفع عن كاهل الأهالي الضرائب التي كانوا مطالبين بدفعها من قبل دون تمييز فيما بينهم. وقد شملت هذه المنحة الرتين والسُّريان والإغريق والأرمن والمسلمين أيضاً، »فصار لهم الحق في أن يحملوا إلى المدينة المقدسة القمح والشعير«(2). وكانت هناك محاولة قام بها عموري (Amaury) (1162 ـ 1173) لجلب الفلاحين الأرمن؛ غير أن هذه المحاولة باءت

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 319.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 360.

(1/631)

بالفشل، لأن الأمير الأرميني لقيلقية طوروس الثاني (1145 ـ 1168 م) قد طلب لمواطنيه امتيازات تفوق امتيازات غيرهم من الفلاحين بالشرق اللاتيني، وهو ما رفضه صاحب بيت المقدس(1).

... فبناءً على المعطيات السابقة، يظهر أن الفلاح أصبح يتمتع بامتيازات مهمة في إطار الإقطاعة الإفرنجية، وهي امتيازات فرضتها الظروف التاريخية المرتبطة بما

__________

(1) ... كلود كاهن، المرجع السابق، ص. 203. انظر كذلك المهندسة هوري عزازيان، الجاليات الأرمينية في البلاد العربية، جار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، ط 1، 1993، ص. 111.

(1/632)

نتج عن الحروب من هجرات وقلة في السكان، وما ترتب على ذلك من نتائج سلبية على اقتصاد مملكة بيت المقدس التي كان فلاحو المناطق التي تحدث عنها ابن جبير في النص تابعين لها. فلا ينبغي إذن أن يكون وضعهم ذاك مدعاة للإجاب.

... أما ما يتعلق بأفضلية هؤلاء الفلاحين على إخوانهم في دار الإسلام، فأصبحت واضحة كذلك بناء على ما سبق. فنظراً لظروف الحرب، كان على الفلاحين أن يساهموا ـ فضلاً عما كان عليهم أداؤه لبيت المال ـ في تجهيز الحملات الجهادية وتمويلها. هذه المساهمة تقع على كاهل مختلف الشرائح الاجتماعية من تجار

(1/633)

وملاك للأراضي وفلاحين... إلى غير ذلك. وهي على شكل ضرائب ترد تحت أسماء مختلفة تفرضها الدولة. وهي ليست ثابتة ولا مستقرة ولا محدودة؛ منها ضرائب كانت تفرض تحت تبرير مواجهة الأخطار الخارجية أو الحالات الناجمة عن التهديدات العسكرية... ذكر سبط ابن الجوزي ما يشير إلى ذلك، حيث قررت على أهل الشام »قطيعة في كل سنة، على الغني عشرة دراهم، وعلى الوسط خمسة، وعلى الفقير درهم«(1)

__________

(1) ... نص لسبك ابن الجوزي في: محمد سوادي عبد، الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلاد الجزيرة الفراتية خلال القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989، الطبعة الأولى، ص. 259.

(1/634)

. وتحدث ابن الأثير عمَّا يسمى بضريبة الجهاد وهي قطيعة كانت تقسط على الناس عندما تنفد الأموال المرسومة لتمويل الحملات الجهادية(1).

... وحتى في المناطق الإسلامية، فإن القسمة المفروضة على الفلاحين كانت تختلف من منطقة إلى أخرى.ويرجع هذا الاختلاف إلى طبيعة الأراضي المستغلة، وإلى طبيعة العلاقة التي تربط الفلاحين بأولياء الأمر. لكن ما يهمنا هو الاختلاف الناتج عن الظروف التاريخية المرتبطة بمواجهة الصليبيين. ونجد مثالاً على ذلك في كتاب "الكامل في التاريخ"

__________

(1) ... ابن الأثير، المصدر السابق، ج 9، ص. 96.

(1/635)

الذي يتحدث ابن الأثير فيه عن سياسة عماد الدين زنكي (حكم ما بين 522 و541 هـ) وعن حسن تدبير شؤون دولته. ومما جاء في هذا النص:

... بلغه أن جماعة من فلاحي مدينة الموصل رحلوا إلى بلاد ماردين. فأرسل إلى حسام الدين (تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق) يطلب منه أن يعيدهم. فرد الجواب التالي: إننا نحن نحسن إلى الفلاحين ونخفف عنهم، ونأخذ منهم القسمة من الغلال العشر. فلو فعلتم انتم مثل فعلنا، لم يفارقوكم. فقال الشهيد (زنكي) لرسوله: قل لصاحبك، إذا أخذت أنت من كل مائة [سهم؟] سهماً واحداً كان كثير لك، لأنك مشغول لذتك

(1/636)

في رأس ماردين. وأما أنا، فإذا أخذت الثلثين، كان قليلاً لما أنا بصدده من قصد الأعداء والجهاد. ولولاي، لطال عليك أن تشرب الماء آمناً في ماردين، ولكان الفرنج ملكوها... (1).

... ففي هذا السياق إذن ينبغي فهم المفاضلة التي تحدث عنها ابن جبير في النص المذكور. وليس معنى ذلك أنه كان مؤيداً لتلك المعاملة، إذ يقول: »وليست له (للمسلم) عند الله معذرة في

__________

(1) ... ابن الأثير، الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر طليمات، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد، 1382 هـ/ 1963 م، ص. 79.

(1/637)

حلول بلدة من بلاد الكفر إلا مجتازاً، وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين... «(1). فهل يصح إسقاط ما جاء في هذا النص على مناطق أخرى؟

... ( تزخر المصادر بنصوص تدعونا للتفكير مليّاً في أحوال المسلمين النفسية في مناطق نفوذ الإدارة الصليبية، وفي الإحساس الذي كان يشعر به هؤلاء إزاء أسيادهم حتى العقدين الأخيرين من القرن السادس الهجري.

... فعلى الرغم من الرأي الذي يرجع سبب ذلك التعايش بين الطرفين إلى العامل القومي، أي فقدان المسلمين أهل الشام للعزة القومية (2)

__________

(1) ... ابن جبير، المصدل السابق، ص. 252.

(2) ... يقول زكي النقاش: »كانوا (سكان بلاد الشام) بمجموعهم قد فقدوا العزة القومية لكثرة ما تغيرعليهم من حكام، وأصبح الأمر لديهم سيان أحكمهم هذا أم ذاك، على شرط أن ينعموا بالعدل فيطمئنوا إلى أموالهم وأرواحهم وممارسة دينهم وحقوقهم« (المرجع السابق، ص. 145).

(1/638)

، فإنه رأي بعيد كل البعد عن الواقع التاريخي؛ لأن المسلمين كانوا ـ كما هو واضح من خلال النصوص ـ يتحينون الفرص للقيام ضد الفرنجة. من ذلك ما أورده أسامة بن منقذ بخصوص أهل ضياع عكة المسلمين، الذين كانوا إذا وصل إليهم الأسير المسلم أخفوه وأوصلوه إلى بلاد الإسلام (1). كما يتحدث عن شاب مسلم بنابلس كان يحتال على حجاج الفرنجة، ويتعاون مع أمه على قتلهم (2). ويتضمن مؤلَّفه كذلك نصاً

__________

(1) ... أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، تحرير فيليب حتي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص. 82.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 139.

(1/639)

طريفاً ومفيداً يساعد المهتم على فهم الوضع النفسي للمسلمين التابعين لمناطق نفوذ الصليبيين. يقول فيه:

... وقد كان في كنيسة حناك (حصن إلى الجنوب الغربي من معرة النعمان) طاقة في ارتفاع أربعين ذراعاً، فكان يأتيها نمر في الهاجرة يثب إليها ينام فيها إلى آخر النهار، ويثب منها ينزل ويمضي.

... ومقطع حناك ذلك الوقت فارس إفرنجي يقال له سيردام (Sir Adam) من شياطين الإفرنج. فأخبروه خبر النمر... فلبس درعه وركب حصانه وأخذ ترسه ورمحه وجاء إلى الكنيسة وهي خراب، إنما فيها حائط قائم فيه تلك الطاقة. فلما رآه

(1/640)

النمر، وثب من الطاقة عليه... فكسر ظهره وقتله ومضى. فكان فلاحو حناك يسمونه النمر المجاهد(1).

... وهي إشارة تجسد وضع هؤلاء الفلاحين النفسي واستياءهم من العيش تحت النفوذ الصليبي. كما تنطوي على معنى عميق يتجلى في أن الاستقرار الصليبي ببلاد الشام إنما هو استقرار مؤقت، وأن هناك أملاً ورغبة ملحة من هؤلاء الفلاحين في أن تعود أرضهم إلى حظيرة دار الإسلام. ويظهر ذلك من خلال الصفة التي خصوا بها النمر المذكور، لأنهم رأوا في هذا الحدث تعويضاً عن الضعف الذي لازم القوى

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 110 ـ 111.

(1/641)

الإسلامية، والذي حال دون القضاء على الوجود الصليبي بالمنطقة. فهو بديل معنوي شفى غليلهم في الأمير الإفرنجي.

... وقد ترجم هذا الوضع النفسي إلى هجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، ارتبطت في أغلبها بالأوضاع المتردية التي كان المسلمون يتخبطون فيها. وقد خلدت المصادر العديد من هذه الهجرات، ليس تلك التي عرفتها بلاد الشام في بداية الغزو الصليبي (الاتصال الأول) فقط، ولكن تلك التي امتدت على مدى القرن السادس الهجري، أي إلى ما بعد فترة وجود ابن جبير هناك.

(1/642)

... فهذا وليام الصوري يتحدث عن انتفاضة 1113 التي قام بها المسلمون بنابلس (وهي تحت النفوذ الصليبي) حال سماعهم باقتراب حملة شرف الدين مودود صاحب الموصل على مملكة بيت المقدس. كما يحدثنا عن الخدمات الجليلة التي أسداها هؤلاء للجيش الإسلامي قائلاً:

... ولقد هجرنا في تلك الأيام خدمنا وكذلك الشرقيون الساكنون في قرانا المسماة بالمستعمرات وانضموا إلى كتائب العدو وأرشدوهم إلى كيفية القضاء علينا، وكان ذلك امراً ميسوراً عليهم لمعرفتهم التامة بكل تفاصيل وضعنا، إذ ليس هناك وباء أشد فتكاً بالمرء وأشنع فعالية

(1/643)

من عدو داخل بيته (1).

وقد أكد ذلك كل من ابن القلانسي (2) وفوشي دي شارتر (Foucher de Chartres)(3).

... وبخصوص أسباب هذه الهجرات وظروفها، انفرد ابن طولون بذكر معلومات قيِّمة لم ترد في المصادر الأخرى، تلقي الضوء على أحوال الفلاحين المسلمين في حدود سنة 551 هـ، أي بعد مرور نصف قرن على الاتصال

__________

(1) ... وليام الصوري، المصدر السابق، ج 1، ص. 302.

(2) ... نص لابن القلانسي أورده Prawer في: المرجع السابق، ج 1، ص. 293.

(3) ... فوشي دي شارتر (Foucher de Chartres) في: Prawer، المرجع السابق، ج 1، ص. 293.

(1/644)

الأول، واستقرار الصليبيين بمدن بلاد الشام الساحلية، إذ يقول متحدثاً بني قدامة المقادسة:

... وبه قال الحافظ ضياء الدين: وسمعت غير واحد من أصحابنا (بني قدامة) يقول إن المسلمين صاروا تحت أيدي الفرنج بأرض بيت المقدس ونواحيها يعملون لهم الأرض، وكانوا يؤذونهم ويحسبونهم ويأخذون منهم شيئاً كالجزية. وكان أكثر الفرنج أهو (1) من ابن بارزان لعنه الله، وكانت تحت يده جماعيل (2)

__________

(1) ... كلمة غامضة في النص الأصلي. ويظهر أنها تشير إلى اسم علم، أي اسم الأمير الصليبي الذي يتحدث عنه النص.

(2) ... قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين.

(1/645)

قرية أصحابنا ومردا وياسوف وغير ذلك. وكان إذا أخذ الكفار من كل رجل ممن تحت يده ديناراً، أخذ هو لهنه الله من كل واحد منهم أربعة دنانير. وكان يقطع أرجلهم ولم يكن في الكفار أعتى منه ولا أكثر تجبراً أخزاه اله. قال: وكان جدي الشيخ أحمد بن محمد رحمة الله عليه... لا يرضى بمقامه تحت أيدي الكفار (1).

وقد رأينا في نص سابق للمؤرخ نفسه كيف طبعت ظروف الهجرة بالكتمان والسرية (انظر أعلاه).

__________

(1) ... ابن طولون، المصدر السابق، صص. 26 ـ 27.

(1/646)

... ومما ينهض دليلاً على عدم فقدان المسلمين للعزة القومية تحت الحكم الصليبي ورغبتهم الحثيثة في إجلاء هؤلاء عن أراضيهم نصٌّ للعماد الكاتب الأصفهاني أورده أبو شامة في "الروضتين" مفاده أن معظم أهل ضياع نابلس »كانوا مسلمين، وفي سلك الرعية مع الفرنج منتظمين وهم يحبون كل عام منهم فراراً«(1). وعندما أقدم صلاح الدين الأيوبي في سنة 583 هـ على حصار نابلس، أبلى هؤلاء بلاء حسناً في مهاجمة من كانوا قبل هنيهة أسيادهم، مقدمين بذلك المعونة للجيش الإسلامي (2)

__________

(1) ... أبو شامة، الروضتين، ج IIـ ص. 88.

(2) ... المصدر نفسه.

(1/647)

. ولا ننسى أيضاً أنه حينما كان ابن جبير ببلاد الشام، قامت انتفاضات شعبية تلقائية ضد السيطرة الإفرنجية في الشمال(1)؛ وأنه بعد ذلك قام قاضي جبلة منصور بن شبل في سنة 584 هـ باستدعاء صلاح الدين ليسلم له المدينة. يقول ابن الأثير في هذا الصدد: »فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان«(2).

__________

(1) ... Claude Cahen, « Indigènes et Croisés: queques mots à propos d’un médecin d’Amaury et de Saladin », Syria, XV, 1934, p. 357.

(2) ... ابن الأثير، المصدر السابق، ج 10، ص. 167؛ أبو شامة، الروضتين، ج II، ص. 127.

(1/648)

... ولم تكتف المصادر بذكر تذمر جماعات الفلاحين وهجرتهم إلى مناطق نفوذ الحكم الإسلامي هرباً من السيطرة الإفرنجية، بل تحدثت كذلك عن هجرات فردية من مختلف الشرائح الاجتماعية ومن ملل مختلفة. حيث نسجل، بعد أخذ صلاح الدين لحصن الكرك، وصول أحد الأطباء، وهو موفق الدين يعقوب بن صقلب النصراني(1) إلى دمشق حيث بدأ يمارس نشاطه، الأمر الذي يعني أن التذمر من الحكم الإفرنجي لم يلحق المسلمين فحسب، بل انتاب كذلك النصارى المحليين.

__________

(1) ... ويظهر ذلك من خلال لباسه الأزرق على عادة الأطباء الفرنجة.

(1/649)

... ويتحدث سبط ابن الجوزي عن شيخ مسلم ولد بنواحي نابلس سنة 1134 م، وغادرها مع ابنه في عهد صلاح الدين إلى البلاد الإسلامية، وعن فقيه من المدينة نفسها ازداد في حدود سنة 1146 م وغادر مسقط رأسه إلى دار الإسلام

حيث ألف من ضمن ما ألف كتاباً في الجهاد(1). والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

... ويمكن القول إن أسباب هجرة هؤلاء العلماء تكمن في عدم رضاهم بالعيش في دار الحرب، وفي عجزهم عن إظهار دينهم (حالة الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة) (2)

__________

(1) ... Cahen, op. cit., pp. 356-357.

(2) ... »الذي كان يخطب يوم الجمعة ويخرج إليه الناس من القرايا يحضرون الجمعة... فقيل لابن بارزان ـ لعنه الله ـ إن هذا الرجل الفقيه يشغل الفلاحين عن العمل ويجتمعون عنده...، فتحدث في قتله...، فعزم الشيخ على المضي إلى دمشق، فراح إليها« (وابن طولون، المصدر السابق، ص. 27).

(1/650)

، أو في عدم توافر مراكز علمية تناسبهم في البلاد الخاضعغة للصليبيين؛ وإن طبيب ابن أبي أُصيبعة المذكور اضطرته ظروف البحث عن الرزق إلى أن يقدم خدماته الطبية لأي كان دون اعتبار المركز الاجتماعي أو الملة التي ينتمي إليها.

... ومن كل ما سبق نصل إلى النتيجة الآتية، وهي أنه إذا كانت أحوال المسلمين في حالة ترفيه كما يذهب إلى ذلك ابن جبير، ويتبعه في ذلك الباحثون المتقدم ذكرهم، فما الذي يفسر كل هذه الهجرات؟ فسواء كانت الأسباب مادية أو نفسية، فالنتيجة واحدة وهي عدم الرضى بالعيش تحت نير الحكم الصليبي. وابن

(1/651)

جبير نفسه يعبر في موضع آخر عن ذلك بقوله:

... وليست له (للمسلم) عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر منها إلا مجتازاً، وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين، لمشقات وأهوال يعانيها في بلادهم منها الذلة والمسكنة الذميمة، ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر منن قدس الله ذكره، وأعلى خطره، لا سيما من أراذلهم وأسافلهم؛ ومنها عدم الطهارة والتصرف بين الخنازير، وجميع المحرمات؛ فالحذر من دخول بلادهم، والله تعالى المسؤول حسن الإقالة والمغفرة من هذه الخطيئة التي زلت فيها القدم(1).

__________

(1) ... الرحلة، ص. 252.

(1/652)

... خلاصة:

... نخلص في ختام هذه الدراسة إلى ما يلي:

... ( إن الصورة التي قدمها ابن جبير عن بعض علاقات المسلمين بالإفرنجة تحت النفوذ الصليبي تعكس الخلفية الفكرية والثقافية للمؤلف؛ فهو العالم المحدث، وبالتالي فإن نظرته للأمور تختلف عن نظرة رجل السياسة الذي ما كانت مثل تلك المفارقات التي تضمنتها النصوص لتثير إعجابه واستغرابه. وهذا الإعجاب ـ على ما يبدو ـ يأتي من أن ابن جبير لم يعهد مثل تلك الصور من العلاقات التي تحدث عنها في موطنه الأصلي (الأندلس)، ولا في المناطق والبلدان التي زارها أثناء رحلته

(1/653)

(حيث كان المسلمون في صقلية مثلاً يكتمون إسلامهم ("الرحلة"، صص. 267 ـ 268). وهذا يمكن أن يوحي للمتمعن بأن أوضاع المسلمين تحت النفوذ الإسباني النصراني كانت متردِّية.

... ( إن تلك الخلفية الثقافية التي لم يكن يملك أن يطرحها جانباً حين سفره، والتي كانت تتحكم في انتقاء مواد كتابته واختيارها، هي سبب عدم انسجام بعض معلوماته مع الواقع التاريخي؛ وينبغي ألا ننسى أيضاً أن أقواله ما هي في الغالب إلا انعكاس لمذكرات ونقاشات تدوولت هنا وهناك في مناطق وفترات محددة (ومن أعجب ما يحدث به).

(1/654)

... ( إن موقفه من أفضلية وضع فلاحي ضياع تبنين مقارنة بإخوانهم في دار الإسلام لا يعني البتة تأييده لسياسة الفرنجة تجاههم بقدر ما ينبغي أن يفهم انطلاقاً من موقفه السياسي والديني المعادي للهجمة الصليبية والمؤلد لفكرة الجهاد، وهو ما دفعه لتعيير غيره من المسلمين بالضعف والتقاعس (»نعوذ بالله من الفتنة«؛ و »وهذه من الفجائع الطارئة على الإسلام« ـ النصوص).

... ( إن »حالة الترفيه« التي تحدث عنها تشكل استثناء، حيث بينت الدراسة عدم إمكان إسقاطها على تبنين نفسها في فترات مغايرة، فما بالك بالمناطق الأخرى،

(1/655)

مما يجعل كل تعميم في هذا الشأن بعيداً كل البعد عن الحقيقة التاريخية.

(1/656)

إشكالية السلطة والمعرفة في الإسلام قراءة نقدية في كتاب "السلطة الثقافية والسلطة السياسية"(1)

... ... ... ...

... ... ... ... الدكتور عبد المجيد الصغيّر

كلية الآداب ـ الرباط

... ليس من المبالغة التأكيد أن الممارسة الفلسفية المغربية المعاصرة يجمعها همّ نقيّ "أصوليّ" المنزع، يتجلى في محاولاتها المستمرة، منذ أواخر السبعينيات، ممارسة عملية التحليل والمراجعة لما قد يُعتبر أصولاً تكوينية ومبادئ تأسيسية

__________

(1) علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيةن ط 1، مايو 1996.

(1/657)

في الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية. فالنقد الفلسفي المغربي المعاصر بهذا المعنى يطمح إلى أن يكون نقداً تأسيسياً "أصولياً" مغرماً لا بوصف مظاهر التجربة الفكرية الإسلامية العربية فحسب، بل إنه يضع في المقام الأول ضرورة التنقيب عن "البنيات" التكوينية في تلك التجربة، خاصة في أهم نماذجها وإنتاجاتها الفكرية، فقهاً كانت تلك النماذج أم كلاماً أم فلسفة أم سياسة وأخلاقاً وتاريخاً.

... لقد وعى النقد الفلسفي بالمغرب، خاصة في السنوات العشرين الأخيرة، أن العالم في الإسلام، كما تقدمه لنا كتب التراث، كائن لا

(1/658)

تاريخ له ولا يحيل في الغالب إلى بيئته وأصوله الاجتماعية. وهي مفارقة تبدو غريبة في ضوء عناية المسلمين المعروفة منذ البداية بالرواية وضوابط الإسناد وبتاريخ المناقب والحوليات... إلا أن كل ذلك لم يُفد في الأغلب في إزاحة الغموض عن البدايات الأولى لتشكل المعارف والعلوم في الإسلام... وهو ما استوجب من ثلّة من الباحثين المغاربة المعانقين للنقد الفلسفي ضرورة الانفصال عن بعض الدراسات التراثية التقليدية، واقتحام تجربة الحداثة في سبيل الوقوف على البنيات التكوينية في أهم علوم الإسلام؛ وهي بنيات قد تمكّننا من

(1/659)

إعادة القراءة والتعرف ليس على مشكلة نشأة تلك العلوم فحسب ولكنها قد تفيدنا في الوقوف على السلوكات الفكرية والأخلاقية للمتعاطين لتلك العلوم وللمتصلين بهم...

... ولا أظن أن أعمال المؤلف علي أومليل تخرج عن هذا الهاجس الثابت في النقد الفلسفي المغربي، خاصة في كتابه الأخير الذي أبان فيه أكثر من أي عمل سابق له عن قدرة على سبر أصول فكرية أساسية في تاريخ الإسلام بعد أن وسّع هذه المرة من قاعدتها ونوّع من أجناسها. إلا أنه قد تعمد هذه المرة أن يلج باب إعادة قراءة تلك الأصول ممتطياً مفهومين يبدوان لأول وهلة

(1/660)

أنهما من خصوصيات فكرنا المعاصر ومن إفرازات منطقه الحديث؛ إنهما مفهوم "السلطة" ومفهوم "المثقف"؛ محاولاً بعد هذا "الجواز" المزدوج الصورة أن يمتحن مداه في اختراق جدار التراث الإسلامي وفي تحليل أكثر صوره تجذراً وتنوعاً...

... 1 ـ لاشك في أن المفهوم من مقدمة الكتاب ومن خاتمته أن القصد البعيد من ذلك التحليل ليس هو إعادة قراءة التراث بقدر ما يكمن القصد في تصور الشروط الملائمة لتفحّص تلك الإشكالية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة وتذليل الصعاب أمام الممارسة الديمقراطية فيها. غير أن المؤلف لا يجد بداً مع

(1/661)

ذلك من الاعتراف بأن الإسلام بمفاهيمه وخصوصيات تصوراته "مولّد بطبيعته لنظام السلطة" والسياسية (ص. 10) و"يشتمل على أحكام تحكم نظام المجتمع والسياسة" (ص. 51).

... ربما كان هذا الاعتراف هو الذي فرض على المؤلِّف أن يستهل كتابه بأكثر الصور دلالة على خصوصية التجربة الفكرية والسياسة في الإسلام، وهي تلك المتمثلة في النموذجين اللذين طالما حاولا معانقة المشاكل السياسية بصدد ممارستها لنشاطهما الفكري، ألا وهما نموذجا المتكلم والفقيه اللذان يطفح إنتاجهما، خاصة إبان النشأة، وبادعاء امتلاك معرفة تمكنهما في وسط

(1/662)

إسلامي من امتلاك "نفوذ" بين الجمهور، من شأنه أن يمتعهما "بسلطة" معنوية طالما تسربلت برداء ثقافي المظهر، سياسي العمل والطموح...

... لقد فرضت طبيعة الكتاب أن يقتصر المؤلّف على النماذج الدالة على الإشكالية المطروحة دون الخوض في تفاصيلها الجزئية. لذا نراه يتخذ من جماعة "القراء"(1) نموذجاً تاريخياً وفكرياً يلتقي

__________

(1) ... راجع حول دور "القرَّاء" في تاريخ الإسلام الفكري والسياسي، الدراسة المفصلة لرضوان السيد والتي يشير إليها في كتابه الأمة والجماعة والسلطة، بيروت، دار اقرأ، ط 1، 1984، ص. 11 هامش 14.

(1/663)

حوله كل المتكلمين والفقهاء الأصوليين، بما تميز به ذلك النموذج من تأسيس النظر إلى قيمة "النص" بصفته مرجعية عليا وحيدة المعنى ومعياراً وحيداً يقيد الواقع المتغير ويرجعه إليهما. وحيث أن هذا النص يوجد دائماً بصفته نصاً مقروءاً يفترض "قارئاً" له، فإن هذا القارئ يصبح في ظروف مجتمعية معينة يملك امتياز القراءة والفهم و"الفتوى" التي لا تستهدف شيئاً غير شدّ الواقع إلى ذلك "الأصل" مع قدرة على "فقه" ثوابت مقاصده وأصول أحكامه.

(1/664)

... ذاك هو ما جعل المؤلف يعتبر "الخوارج" من الفرق الكلامية وبمواقفهم المعروفة من الاحتكام إلى النص وممارستهم المستمرة للسياسة، الممهدين الطبيعيين للفكر الفقهي الذي ارتبطت وظيفته هو الآخر باستنباط معاني النص وتطويع الواقع المتغير له؛ وذلك بالرغم من الاختلاف البادي بين الفقهاء وعموم المتكلمين، والخوارج منهم خاصة. لقد زاوج "القراء" بين الرغبة في امتلاك النص والسيف معاً، وبذلك عبّروا عن طموحهم في امتلاك سلطة جعلوا من "النص" قاعدتها ومن السيف حارسها... وبالرغم من نفور الفقهاء من "فتن" الخوارج، فإن

(1/665)

ارتباطهم هم أيضاً بالنص وبالفتوى القائمة عليه لم تمنعهم من الاعتقاد بحقهم في "الاحتساب" على السلطة السياسية القائمة. هذا الاحتساب الذي اتخذ المؤلف من الفقيه ابن حنبل ومن محنته نموذجاً آخر له، ومثالاً جديداً لالتقاء "العلمي" بالسياسي، عمل هذه المرة بشكل واضح على إدخال عنصر جديد في لغة "الاحتساب": إنه عنصر الجمهور أو "العامة" من الناس، الذين بفضلهم استطاع الفقيه أن يتكلم باسمهم ويهدد بهم رجل السلطة الذي كانت دولته تطمح في الهيمنة وإعادة بسط نفوذها على فقهائها وقضاتها الممثلين للـ"سلطة العلمية".

(1/666)

... وبالرغم من كون ابن حنبل من الرافضين للخروج عن الإمام الجائر، فإن إصراره على الاستقلال الذاتي عن السلطة السياسية لم يكن لينسجم مع منطق هذه الأخيرة التي لا تقبل بديلاً بغير الولاء المطلق والارتباط اللامشروط... وهو الأمر الذي لم تكن "أصولية" ابن حنبل لتقبل به ولا بما طرأ على مجتمعه من تحولات مذهبية وسياسية؛ فقنع بخُويْصلة نفسه وعانق غربة الإسلام حسب اعتقاده... غير أن هذه "الغربة" ذات الولاء لسلطة الكتاب المُجتمع عليه والمحدَّد لكل القيم...

(1/667)

... 2 ـ غير أن التحولات المجتمعية في الإسلام سوف تفرز بالمقابل "أصولية مضادة" تعمل السلطة السياسية نفسها على خلقها وتأطيرها لتواجه بها أصولية الفقهاء والمتكلمين. ومن ذا الذي يستطيع التعبير عن هذه الأصولية الأخرى ذات الولاء السلطوي غير أولئك الذين يصطنعهم رجل السلطة نفسه؛ وليس هناك أفضل من طبقة "الكتّاب" الموالين المنقطعي الجذور القبلية من يهرعون إلى الاضطلاع بهذه المهمة المستعجلة؛ فيسخِّروا ولاءهم الجديد لرجل السلطة كما يسخّروا التراث السياسي لدولهم الغابرة في سبيل تعزيز سلطات وليّ أمرهم ومصدر

(1/668)

نعمتهم، وهو الأمر الذي خلق في الإسلام "مرجعية جديدة" تتعارض في العمق مع منطق المرجعية الإسلامية "الأصولية". إلا أن التاريخ يشهد أن هذه المرجعية الجديدة مع ذلك لم تلبث أن أضيفت عليها مشروعية حتى من طرف الفقيه نفسه! بحكم خوفه القديم من "الفتنة" وركونه إلى محض "النصيحة".

... يمكن القول إن المؤلف قد أحسن الاختيار حين جعل من ابن المقفع النموذج الأصلي ـ وقد أقول النموذج "الأصولي" ـ لطبقة هؤلاء الكتاب الذين استبدلوا الولاء "للكتاب" بالولاء لرجل السلطة المستبد. ولست أبالغ إذا قلتُ إن هذه الفقرة المخصصة

(1/669)

هنا لابن المقفع تُعتبر نموذجية ومحورية في فهم المنهجية التي سلكها المؤلف لتحليل كل النماذج الفكرية الأخرى للكشف عن كل ما هو مضمر وغير مفصح عنه في أعمال ابن المقفع؛ وكأن هذه الأعمال الأخيرة لا يجب أن تُقرأ إلا بالمقلوب! إذ هي تضمر عكس ما تعلن؛ تعلن الولاء للشريعة وهي تضمر الولاء للسلطان وتُفرده به؛ تعلن قداسة الأخلاق والقيم وهي تضمر مكيافيلِّية قاتمة؛ تشيد بالعدل والحرية وهي تكرّس مفاهيم الاستبداد المطلق؛ تعلي من شأن الاجتهاد والمشورة، ولكنها تجعلهما حكراً على رجل السلطة دون غيره وتشرطهما

(1/670)

برغبته؛ تبشر بعقلانية سياسية ولكنها "عقلانية" طالما ضلّلت قرّاء ابن المقفع المعاصرين، لكونها عقلانية مزيفة لا تعدو أن تكون سلاحاً لتركيز السلطتين، العملية والسياسية، في شخص "المستبد"... ذلك هو "القلب" الذي مارسه المؤلف خاصة على مصطلحات نص "رسالة الصحابة"، هذا النص الذي سبق لنا منذ بضع سنوات أن مارسنا عليه التأويل نفسه وانتهينا إلى النتائج نفسها، خاصة عند مقارنتنا لها بنقيضها الفقهي الذي هو "رسالة الشافعي" في أصول الفقه(1)

__________

(1) ... للوقوف على التطابق التام بين منهجيتنا التي كنا قد اقترحناها في تأويل وتحليل الفكر السياسي لابن المقفع، خاصة في نص "رسالة الصحابة"، وبين طريقة المؤلف في تناول الإشكال نفسه، يُرجى الرجوع إلى كتابنا الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام"، بيروت، دار المنتخب العربي، ط 1، 1994، الفصل الأول، خاصة ص. 133، 147؛ قارن كذلك صص. 87 ـ 118.

(1/671)

...

... إن تنقيب المؤلف عن علامات "السياسيّ" في الثقافة الإسلامية جعله يبادر إلى توضيح حدود هذا "السياسي" الذي يؤصله ويؤسس له ابن المقفع، والذي يبقى دائماً بعيداً عن جوهر الخطاب السياسي كما صاغه مفكرو اليونان وفرضه نظامهم الأثيني، ولعل الهدف نفسه قد حمله على توسيع دائرة المقارنة وتنويع النماذج المخالفة بل والمعارضة لفكر ابن المقفع وللفكر الشعوبي المعروف، ابتداء من الجاحظ والشافعي وانتهاء بفلاسفة الإسلام؛ واستدعاء كل ذلك بمناسبة موضوع ربما كان أقرب الدروب الموصلة إلى معانقة السلطتين الفكرية

(1/672)

والسياسية، ألا وهو موضوع اللغة وفن القول؛ ليستنتج المؤلف مع كل من المتكلم المعتزلي (الجاحظ) والفقيه السني (الشافعي) أن مرجعيتهما حول موضوع القول و"البيان" تظل حسب نعت المؤلف مرجعية "دينية" تتماهى فيها الأصول اللغوية العربية مع المعاني الدينية الإسلامية، رافضَيْن بذلك كل دخيل لغوي أو فكري آخر، خاصة ما كان ذا أصول فلسفية...

... إلا أن المؤلف لا يجد بدّاً بهذا الصدد من أن يؤكد أن حتى فلاسفة الإسلام، من الفارابي إلى ابن رشد، ما كان بإمكانهم إدراك بنية الموضوع السياسي اليوناني الذي يزعمون الاتصال به

(1/673)

ما دامع معرفتهم هم أيضاً بموضوع الخطابة والشعر ـ وهما أقرب الوسائل الاجتماعية للدخول إلى الممارسة السياسية ـ لم تكن لتتجاوز السطح أو تنفذ إلى العمق بفعل جهلهم بالأصول الاجتماعية التي أفرزت موضوع الخطابة والشعر عند أرسطو (ص. 88، 119).

... وبالجملة، يمكن اعتبار التحول الذي طرأ على "مجالس العلم" في الإسلام، وهو التحول المتمثل في احتضان رجل السلطة لبعض تلك المجالس أو لأهمها، خصوصاً تلك التي يرتادها "الكتّاب" والفلاسفة؛ إن طبيعة تلك المجالس تفوت في العمق كل حديث عن الممارسة السياسية وفقاً لمنطقها

(1/674)

المعهود منذ اليونان، ما دامت تلك المجالس تبثّ علماً، مهما يكن مضمونه المعرفي، فهو موجّه "للخاصة" وللنخبة ويغيِّب فيه الجمهور الذي يُعتبر الشرط الأساسي لكل تصور سياسي ممكن أن يكون واقعياً...

... ولعل هذا التهميش لدور الجمهور لا يبدو واضحاً كما يبدو في الكتب السياسية المنحولة والمترجمة من أصولها الهيلِّينيستيَّة، مما يجعل هذا الانتحال يلتقي مع منطق أدب الكتّاب الساسانيين، ويستهدف مثله تكريس الاستبداد المترسخ في دولة الخلافة، ويطمع أيضاً في منافسة باقي الكتاب من ذوي الأصول الفارسية خاصة.

(1/675)

... إلا أن ما يُستغرب له حقاً أن فقهاء الإسلام، حتى في المواطن التي لم يكونوا قد فقدوا فيها بعد منزلتهم الممتازة بين العامة، حيث حافظوا على استقلالهم النسبي تجاه السلطة السياسية؛ هؤلاء الفقهاء لم يتوانوا في الاستنجاد بأدب الكتّاب ذاك وفي استغلال مضمونه ـ مع تعديلات بسيطة ـ لأجل ممارسة تلك "النصيحة" التي اعتقدوا لزومها في حقهم تجاه رجل السلطة خاصة. وإذا كان ممكناً أن نتصور لجوء العديد من فقهاء المشرق والأندلس إلى تلك الكتابات "السلطانية" لهذا الغرض، إلا أن الغريب ـ كما يوضح المؤلف ذلك ـ أن يتبنى

(1/676)

المنطق السياسي نفسه لتلك الأدبيات السلطانية فقيه عاش في ظل الدولة المرابطية بالمغرب والتي اعتُبر فقهاؤها أعمدة الدولة وركائزها؛ إنه الفقيه أبو بكر المرادي (489 هـ) الذي يُعتبر كتابه "الإشارة في تدبير الإمارة" دليلاً على مدى الانتشار، بل الانتصار الذي حققه منطق السياسة الساسانية والهيلينيستيّة التي سرت كالهشيم بين قصور الخلفاء والأمراء، وعكسته كتابات كبار الفقهاء...

... تلك نماذج من "التفكير في المشكل السياسي" داخل التجربة الإسلامية، وهي في عُرف المؤلف قد ظلّت أبعد ما تكون عن إدراك جوهر الإشكال

(1/677)

السياسي؛ الأمر الذي حدا به إلى الركون إلى التقويم الخلدوني الشهير لكل هؤلاء الكتاب والفلاسفة، وللفقهاء خاصة، باعتبارهم لا يصلحون في أفضل الأحوال إلا لتزيين المجالس السلطانية (!) دون الخوض في شؤونها السياسية؛ وذلك ليس لافتقادهم العصبية الضرورية فحسب، ولكن لكونهم ـ منذ كانوا ـ لا يتعاملون إلا مع المفاهيم الكلية والمجردة »فلا تزال أفكارهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة« ومعرفة الواقع. وعليه، كان على ابن خلدون أن يستنتج أن "العلماء" ـ من بين البشر ـ أبعد عن السياسة ومذاهبها«(1)

__________

(1) ... ابن خلدون، المقدمة، الفصل الثاني والأربعون. حول هذا الموقف الخلدوني، راجع كتابنا الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية، مرجع سابق، صص. 620 ـ 625.

(1/678)

!

... 3 ـ بالرغم من كون الفصل الثامن يعتبر من بين فصول الكتاب الأخرى أقدمها زمناً، فإنه من الممكن اعتباره مع ذلك نموذجاً تطبيقياً لما سبق أن حلله المؤلف من إشكالية سلطة الفقيه. وهو نموذج تطبيقي اعتباراً لقرب الموضوع من المؤلف نفسياً وزمنياً... ثم هو فصل متميز لكون موضوع الدراسة، وهو محمد المختار السوسي، يمثل فقيهاً من طراز خاص، جعل منه المؤلف مناسبة لا لإلحاقه بالنماذج الفقهية الأخرى، بل إنه بعكس ذلك يمثل نموذجاً لإبراز "خصوصية ثقافية" وجغرافية انطلق المؤلف لإبراز إشكاليتها من المعطيات النظرية

(1/679)

السابقة نفسها والمتمثلة في بنية الثقافة الإسلامية. غير أن "الخصوصية" التاريخية والسياسية للمنطقة ـ منطقة بلاد سوس بجنوب المغرب الأقصى ـ قد فرضت على المؤلف إبراز ما سماه بـ"منطق النُّدرة" باعتباره المفتاح الذي يفسِّر به الرحلة العلمية لهذا الفقيه ـ الطّرقي، ويبرّر إشكاليته الأخيرة هذه وخصوصية "ذاكرته" المستعادة، وينتهي أيضاً إلى تفسير "غربته" المزدوجة، سواء في بيئته الضيقة المنعزلة أو حتى في أفق وطنه السياسي، خاصة وأننا نعلم أن محمد المختار السوسي هو "الوزير" الوحيد الذي لم تظهر عليه أمارات

(1/680)

الوزارة، حيث دخلها فقيهاً ـ صوفياً وبقي فيها كذلك..

( ( (

... 4 ـ ربما كان من المؤمّل أن يضطلع الفكر الفلسفي في الإسلام بما عجزت عنه فئة الكتاب من ترسيخ للفكر السياسي وتوضيح لأسسه، وذلك بحكم ادّعاء الفلاسفة امتلاكهم ناصية الفلسفة وقدرتهم المباشرة على الاطلاع على "التجربة اليونانية" وتعلقهم بنماذجها الفلسفية و"شرحهم" لنصوصها المنطقية والسياسية خاصة... هذا هو المؤمِّل الذي بقي على المؤلف أن يبحث عنه في القسم الثاني من كتابه؛ غير أن أمله في العثور على ذلك قد خاب منذ الصفحات الأولى من هذا القسم!

(1/681)

... إن الصورة العامة التي يستخلصها قارئ هذا القسم الثاني تتمثل في أن التجربة الفلسفية في الإسلام كانت على العموم تجربة سلبية بامتياز، سواء على المستوى الفكري أو السياسي. لقد كان المؤمِّل أن تعمل عقلانية أولئك الفلاسفة ليس على أن تحط رحالها في أرض الإسلام فحسب، بل على أن تتجذّر وتترسّخ فيها أيضاً. إلا أن الظاهر أن فلاسفتنا، في رأي المؤلف، اكتفوا بالحصول على "جواز سفر" للدخول إلى أرض الإسلام؛ لكنهم بمجرد وصولهم إليها اختاروا الانزواء عن سكان تلك الأرض، ومجّدوا ـ بالمقابل ـ العزلة و"التوحّد"

(1/682)

وشرّعوا لتدبيرهما وترفعوا عن الجمهور(1)؛ بل وتوسلوا، عكس ذلك، بالطب تقرباً إلى رجل السلطة واحتماء به من خصومه من العامة... ومن ثم حضرت الفلسفة في الإسلام صناعة "جسدية" أكثر منها ممارسة عقلية فلسفية! وهو ما حمل المؤلف أن يؤكد على أن الفلسفة في الإسلام بطبيعتها »ليس لها امتداد

__________

(1) ... انظر تفصيلنا لهذا الإشكال في كتابنا الفكر الأصولي، سابق الذكر، صص. 67 ـ 70. من المفيد هنا مقارنة التجربة الفلسفية في الإسلام بالتجربة الصوفية فيه، والموقف من الجمهور له ضلع كبير في إدراك الفارق بين التجربتين...

(1/683)

طبيعي في الواقع الإسلامي« (ص. 175)، بل إنها طالما سخرت من هذا الواقع متذرعة بحماية رجل السلطة لها، كما هو الحال مع الطبيب ـ الفيلسوف الرازي.

... ولنسجل أيضاً أن "نخبوية" هذه الفلسفة التي أبعدتها عن الجمهور قد زاد من حدتها معرفتُها السطحية بالتراث السياسي اليوناني، إذ لم يكن بإمكانها أن تشعر بدور الجمهور الأثيني في ميلاد سياسة أفلاطون وأرسطو وهي تتخذ مسبقاً ذلك الموقف النخبوي وتركب جناح الاستعلاء على جمهورها الإسلامي...

(1/684)

... هذا، وإذا كانت حياة الفارابي خاصة تُتَّخذُ عادة نموذجاً للتطابق الملاحظ بين فكر الفيلسوف النخبوي ونزوعه إلى الانزواء والعزلة التي اختارها نهجاً لحياته العملية، فإن الانشغال بالحياة اليومية والاجتماعية الذي بدا ممثلاً مع ابن سينا أو ابن باجَة لا يدل على شيء قدر ما يدل على مبلغ "الانفصام" الذي عرفته شخصية الفيلسوف بين حياته الاجتماعية المضطربة المتغيرة وعلمه الفلسفي الكلي والثابت. وعليه، وحسب تأكيد المؤلف، »فليست مدينة الفيلسوف من هذا العالم [المتغيّر]؛ فهناك قطيعة بينها وبين المجتمع السياسي

(1/685)

الإسلامي« (ص. 194). وتلك هي "طوبى" الفيلسوف الذي بقي في أحسن الأحوال جاهلاً بالمدينتين معاً: المدينة الإسلامية والمدينة اليونانية!

... 5 ـ هنا يوجد المؤلف ما قد يبدو له نموذجاً مخالفاً لتأويله الذي سبق بسطه وتحدياً لتقويمه للإنتاج الفلسفي في الإسلام. إنه نموذج ابن رشد، الفيلسوف ـ الفقيه وقاضي الجماعة، الذي ربما أخرجه وصفه الإضافي هذا، بصفته قاضياً للجماعة، من برج الفلاسفة ومن نخبويتهم التي فوّتت عليهم فرصة إدراك التراث اليوناني والممارسة السياسية الفعلية... من هنا خصوصية حديث المؤلف الطويل عن

(1/686)

ابن رشد، ما دام هذا الأخير يبدو كأنه يخرج عن تلك القاعدة التي شملت ـ في رأي علي أومليل ـ كل فلاسفة الإسلام، قاعدة الانفصال بين الفكر والممارسة، بين النموذج الفلسفي اليوناني ـ الهيلّينيستي والنموذج الإسلامي الشرعي.

... غير أنه يبدو أن أبا الوليد الفيلسوف ـ القاضي، الذي استطاع أن يجمع بين هذين الوصفين المتناقضين، لم يكن بمقدوره الخروج عن تلك القاعدة، قاعدة الانفصال بين الفكر والممارسة الواقعية. ولا ينتظر المؤلف طويلاً لإثبات رؤيته هذه، فيبادر إلى تقرير أن ما رام فيلسوف قرطبة إلى الاضطلاع به من

(1/687)

جمع بين الفلسفة والقضاء أو توفيق بين الحكمة والشريعة كان مجرد "تمثيلية" حاول فيها صاحبها، على حد قول المؤلف، أن "يلعب دور الفقيه للوجاهة ولضمان السلامة" ليس غير! (ص. 203). وإذا كانت الثقافة الفقهية أو مهمة القضاء هكذا مجرد حادث عَرَضي ومحض "لعبة" وجواز سفر في حياة ابن رشد، طلباً للسلامة؛ فإن المؤلف يعمد، بعد هذا، إلى أخصّ مميزات ابن رشد، ألا وهي تفكيره الفلسفي. إلا أنه لا يجد بدّاً من أن يبدأ القول في هذا المجال بإبراز "المهنة" الأخرى التي اشتهر بها ابن رشد؛ فهو إن كان في باب الفقه يمارس مهنة

(1/688)

القضاء، فإنه في الفلسفة لا تتجاوز وظيفته مهمة "الشرح": فهو الشّارح الأعظم كما وُصف دائماً! إلا أن هذا الشرح هو ما يتعمد المؤلف إبرازه كي يدرج ابن لرشد من خلاله ضمن الوصف العام الذي وصف به سائر فلاسفة الإسلام.

... ذلك بأن عملية "الشرح" تحيل بالضرورة إلى مفهوم "النص"، وتقصد بالأساس إلى الارتباط به وإلغاء كل مسافة زمنية تفصل عنه، واتخاذه "سلفاً" مقدساً ونموذجاً "تاماً" لا يقبل المسّ والتغيير بقدر ما يتطلب "الشرح" والتبيين فقط؛ غير أن هذا الشرح حينما يتعلق أساساً بسياسة أرسطو، فإنه ـ علاوة على

(1/689)

اعتقاد ابن رشد الدائم أنه أمام نصوص تتسم بالتمامية والثبات ـ ما كان بإمكانه أن يفهم أبعادها السياسية؛ لكونه ـ شأنه في ذلك شأن فلاسفة الإسلام السابقين له ـ لا يتوانى في الخروج عن الشرط الأساسي في إدراك سياسة اليونان، وذلك حين رفضه إشراك "العامة" في العمل السياسي. وهذا ـ في رأي المؤلف ـ يمثل السر الوحيد الكامن في مهاجمة ابن رشد للكلام الأشعري وللغزالي خاصة؛ لأن ترويج الكلام "الجدلي" بين عامة الناس من شأنه أن يمكنهم من السلاح (= الجدل) الذي يغريهم بالتساؤل عن المشكل السياسي ويدخلوا إليه من بابه

(1/690)

الواسع! وتلك هي "الفتنة" المرفوضة فقهاً وفلسفة أيضاً في رأي ابن رشد.

... بيد أن المؤلف لا يتأخر في استنطاق نصوص ابن رشد ليوضح هذه المرة أن هجوم هذا الأخير على الغزالي وسائر الأشاعرة لم يكن في حقيقته إلا غطاءً "إيديولوجياً" لهجومه الخفي على المهدي بن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، باعتبار هذا الأخير وحده الذي نجح، من بين سائر الفقهاء والمتكلمين، في تنزيل الجدل الكلامي ونشره بين العوام وفي مزج الخطاب الجدلي بالممارسة السياسية. وتلك هي الطامة الكبرى التي تقضي على خصوصية التفكير الفلسفي ونخبوية

(1/691)

الفلاسفة... والغريب أن ابن رشد يردد السلوك القديم نفسه لفلاسفة المشرق وكتّابه فيستعدي رجل السلطة ويدعوه لملاحقة مخالفي الفلاسفة من المتكلمين الذين ينشرون الجدل بين العامة ويغرونهم بالخوض فيما لا يفهم قوانينها وحقائقها "البرهانية" إلا الفلاسفة... ومع ذلك، فلعل هذا التحريض من ابن رشد، وهذا الانشغال بالجدل في وسط المجتمع الإسلامي هو المظهر الوحيد الذي بدت فيه "أصالة ابن رشد"، سحب رأي المؤلف؛ لكنه في هذه الأصالة الخاصة به كان بالتأكيد أبعد ما يكون عن إدراك سياسة أرسطو والإحاطة بشروطها الفعلية!! (ص.

(1/692)

221).

( ( (

... 6 ـ وإذ يصل المؤلف إلى هذه المحطة الأخيرة التي قادته إلى ابن رشد يكون قد أتم تعامله مع أبرز النماذج الفكرية الإسلامية، منذ "الأصولية" النموذجية للفقهاء (= القرَّاء) إلى "الأصولية" النموذجية للفلاسفة (= ابن رشد). وعليه لم يبق إلا تفصيل القول في البديل الذي خفي على هؤلاء جميعاً بصفتهم ممارسين "للسلطة الثقافية"، وهو ما لم يكن بإمكانهم إدراكه أصلاً، لكونه، ببساطة، بديلاً أتى في مرحلة متأخرة تالية لهم وتحقق في نموذج ممتاز هو التجربة الأوروبية منذ عصر الأنوار، وخاصة منذ قيام الثورة

(1/693)

الفرنسية. هذا هو البديل الذي تكفل المؤلف بتفصيل القول فيه في الفصل الحادي عشر، ثم تابع انعكاساته في المجتمع العربي المعاصر في الفصل الأخير. ولهذا السبب لا يخطئ القارئ في إدراك تلك النقلة النوعية بين الفصول العشرة السابقة وهذا الفصل الحادي عشر؛ حيث ساد تلك الفصولَ مجهود تحليلي وروح نقدية تأويلية، مقابل أسلوب الوصف والتمهيد لـ"ـمرجعية" هي في رأي المؤلف صالحة للتأمل و"الاعتبار"؛ الأمر الذي يفسر كثرة وطول "النصوص" والاستشهادات التي يحفل بها هذا الفصل حول مفاهيم الدولة الحديثة، ومعنى العقل والطبيعة،

(1/694)

والعقد والمجتمع، والرأي العام والمثقف ودور الكاتب... وهي، مع غيرها، جملة مفاهيم جديدة تؤسس جوهر الخطاب السياسي، وكلها لا علاقة لها البتة بالمجتمعات التقليدية.

... إن ميلاد الفكر السياسي إذن، وميلاد المثقف أو الكاتب، إنما يلتمس، بعد التجربة اليونانية الفريدة، فيما تلا الثورة الفرنسية من تحولات فكرية واجتماعية وليس قبل ذلك. وإذا كانت الحداثة الألمانية مثلاً قد ميزت بين عنف إفرازات الثورة الفرنسية ومفاهيمها الأنوارية؛ وتقبّلت هذه الأخيرة مع رفضها للعنف المصاحب لها؛ فعل المؤلف يقصد الشيء نفسه حيث

(1/695)

يعمد إلى تحليل أدبيات "عصر الأنوار" حول مفهوم المثقف والمجتمع والسياسة... ويستند في ذلك بوجه أخص على ما جمعه وبوّبه المفكر الألماني المعاصر إرنيست كاسيرر في كتابه La Philosophie des Lumières، ليستخلص أن سلطة المثقف إنما كانت مشروطة بتلك التحولات الاجتماعية التي حررته من التبعية للحكام وللأعيان، بعكس ما كان عليه الأمر في المجتمع الإسلامي. والمؤمل في رأي المؤلف أن شبه تلك التحولات في المجتمع العربي المعاصر من شأنها أيضاً أن تعمل على ظهور "سلطة المثقفين"، خاصة بعد أن تداولوا هم أيضاً قضايا

(1/696)

"الالتزام" والحرية واستندوا إلى القواعد الاجتماعية، تماماً كما فعل ذلك جان بول سارتر أو غيره من مفكري أوربا.

... ذلك هو المدخل الممكن لكل ممارسة سياسية حقة؛ مدخل يكمن مفتاحه في "الفكر الديمقراطي" المؤمن بالتسامح وحق الاختلاف. فالديمقراطية إذن هي الحل الممكن، بل هي المطلب المستعجل. هذه هي خاتمة الكتاب، وهي قد وُجدت في الواقع في مقدمته التي عاب فيها المؤلف على المثقفين العرب تضييعهم الوقت في اللّهث وراء شعارات القومية والوحدة والاشتراكية وغفلوا عن أولى الأولويات ألا وهي الديمقراطية... تلك كانت

(1/697)

بداية هذا العمل وهي خاتمته أيضاً.

( ( (

... 7 ـ ملاحظات نقدية

... إن الطموح الكبير لهذا المؤلّف الذي نقدمه اليوم في تقويم أهم معالم الإنتاج الفكري في الإسلام والإحاطة بمكوناته يجعله من المتعذر في هذا التقديم استفتاءه حقه من المراجعة، وهو ما يفرض الاكتفاء اليوم ببعض الملاحظات التي نراها ضرورية. وهي على كل حال ملاحظات تُحسب لهذا العمل، ما دام من شأن الحوار الذي يثيره أن يغني البحث العلمي ويقدمه خطوات إلى الأمام.

(1/698)

... هذا، ونظراً لتميز سنة 1998 بتخليد الذكرى الثامنة لوفاة ابن رشد الحفيد، فسنكتفي هنا بمراجعة طريقة تعامل المؤلف خاصة مع التراث الفلسفي الرشدي. وبخصوص تعامله مع البعد السياسي في التراثين الكلامي والفقهي، فإن المراجعة النقدية لذلك مما قد لا يتسع له هذا المجال. ويمكن الرجوع إلى كتابنا المشار إليه في الهامش (2) للوقوف على رؤيتنا البديلة للإشكال المطروح.

... نستطيع إذن أن نجمل ملاحظاتنا فيما يلي:

... أ ـ فبالرغم مما يبدو من وحدة الإشكالية بين الفصول الثمانية الأولى والفصول التالية من الكتاب

(1/699)

المتعلقة بتحليل الخطاب الفلسفي في الإسلام، فإننا مع ذلك نلاحظ وجود فارق واضح بين القسمين؛ حيث نستطيع الوقوف في الفصول الأولى على مقدرة المؤلف على استنطاق التراث السياسي المباشر، سواء لدى الفقهاء أو الكتاب؛ إلا أننا نلاحظ أن علي أومليل، عند تحليله للخطاب الفلسفي في الإسلام، لا يسعفنا في الوقوف على "براهينه" المقْنعة على أحكامه الكبيرة التي يقوّم بها هذا الخطاب. والإشارة هنا أولاً إلى ذلك التفاوت الكبير في تقويمه للفيلسوف الطبيب الرازي، الذي يحظى لديه بالتبجيل والتمجيد وحده دون باقي الفلاسفة.

(1/700)

هذا، مع كون المؤلف سبق له أن أكد أن الرجل كان يحمل عقيدة وآراء "مانوية"، لم يتردد في وصفها بأنها آراء "جريئة". فبأي معنى هي كذلك؟ لقد كان الرازي في عمقه رجلاً مانوياً وغنوصياً واضحاً؛ وإذن، فقد كانت الغنوصية أو المانوية هي الجريئة(1)! ومن حقنا أن نُسائل المؤلف: كيف تتخذون من الرازي النموذج الأمثل للفلسفة "العقلانية" في الإسلام، دون الفارابي أو ابن رشد مثلاً؟ ثم إذا جاز اتخاذ الرازي نموذجاً للفكر الفلسفي

__________

(1) ... وهو الوصف نفسه الذي يحظى به في هذا الكتاب عبد الله بن المقفع، صص, 70 ـ 71.

(1/701)

وللعقلانية، فلتتخذوا من ابن مسرّة، الصوفي الأندلسي، نموذجاً لذلك، لكونه سار على نهج الرازي الفلسفي نفسه وتبنّى منظومته الغنوصية نفسها! وفي السياق نفسه لا تترددون في وصف مواقف الرازي بـ"ـالجرأة" لطعنه في بعض الثوابت الإسلامية، تلك الجرأة التي تؤكدون أنها زادت »بفضل مكانته الطبية لدى أعيان السلطة« (ص. 179) الذين شكلوا غطاء وحماية لآرائه الشاذة... لكن كيف نسمي موقف من يحتمي برجل السلطة جرّيئاً!؟ ربما تمثلت الجرأة في نكبة ابن رشد أو ابن حنبل وغيره من الفقهاء الذين اكتووا بنار رجل السلطة. وعليه، إذا

(1/702)

كنتم قد وصفتم آراء الرازي المانوية بكونها جريئة وغريبة عن الوسط الإسلامي (ص. 179)، فإنها بالفعل غريبة؛ إلا أنها أبعد ما تكون عن الجرأة ووراء صاحبها سيف يحميه!

... خلافاً لهذا التقويم الذي حظي به الرازي، فإن القارئ لهذا العمل لا يمكنه إلا أن يلاحظ تلك السلبية الحادة والتشاؤم الواضح في تقويم التجربة الفلسفية في الإسلام، سلبية شاملة سواء للإنتاج الفكري أو للممارسة العملية لكل من الفارابي وابن سينا وابن رشد. وكأني بالمؤلف في نقده للتراث الفلسفي في الإسلام ينهج استراتيجية شبيهة بتلك التي نهجها

(1/703)

قديماً ابن سبعين الصوفي حين حرص على أن يجعل من ابن رشد النموذج الأمثل لفلاسفة الإسلام والنموذج الأمثل أيضاً للـ"ـتقليد" لأرسطو! وذلك حتى يتم له نسف الممارسة الفلسفية من الأساس(1)... فكأن مؤلفنا المعاصر يقصد إلى الشيء نفسه بعد أن نبّه إلى تميز فيلسوف قرطبة عن غيره بقدرته على "التوفيق" بين نموذج الفيلسوف ونموذج القاضي في الإسلام، وادعائه من ثم الاقتراب من أرسطو ومن فلسفته النظرية والعملية ـ

__________

(1) ... قارن: عبد الحق ابن سبعين، بدّ العارف، بيروت، دار الأندلس، ط 1، 1978، ص. 143 [تحقيق جورج كتورة].

(1/704)

السياسية أيضاً.

... غير أن ابن رشد في الحقيقة يبغي مستحيلاً في عملية التوفيق تلك، كما أنه يدعي ما لا يستطيعه مطلقاً بقدرته على فهم سياسة المعلم الأول؛ ليس لأن هذه السياسة الأثينية القديمة ليست في مستوى عصر ابن رشد، بل لأن عصر ابن رشد هو الذي لم يكن في مستوى سياسة أرسطو، فلم يكن بالتالي بمقدور قاضي قرطبة فهم تلك السياسة! وبالتالي يتساءل المؤلف عن جدوى محاولات هذا "الشارح الأعظم" لنصوص أرسطو، مع أنه كان مع جمهوره مقيَّداً بنظام فكري وسياسي يحجب عنه الفكر السياسي اليوناني (ص. 220). نعم! إن ابن رشد

(1/705)

يحظى بعد كل هذا بإشادة من المؤلف اعتباراً لكون "أصالته" بصفته شارحاً لـ"سياسة" أرسطو تبدو في كونه »لم يكرر أستاذه أرسطو« (ص. 221) في فكره السياسي. إلا أن هذه الأصالة في آخر التحليل تساوي "جهلاً" بحقيقة النص المشروح وخروجاً عن روح تجربته الاجتماعية. وبهذا تصير سياسة أرسطو في هذه الرؤية وكأنها نموذج "سلفي" أخطأ الشارح الأعظم شرحه وإدراك أهدافه وأبعاده!

... لذا نستطيع من جملة تحليل المؤلف للفكر الراشدي ولشخصيته الواقعية أن نخرج بما يلي:

(1/706)

... بالرغم من كون المؤلف لم يستند على معطيات تاريخية عن حياة ابن رشد، فإنه لا يتردد في تقويم تحصيله الفكري بكونه لا يخلو من ميكيافيلّيَّة واضحة. إذ الولاء الرشدي هو ولاء للفلسفة فحسب وللأرسطية خاصة. أما ما عدا ذلك من جوانب علومه وكتاباته الأخرى وتحصيله المتنوع، فهو لا يعدو أن يكون "وسائل" لتحقيق مصالح آنية، بل ومصلحة كبرى تتحدَّد في ما يسميه المؤلف بالوجاهة: »يطلبها [ابن رشد] لدى الخاصة بالطب، ولدى العامة بالفقه!« (ص. 203). وعليه، فالفكر الرشدي في مجال الفلسفة "تقليد" لسلف قديم هو أرسطو وتشويه

(1/707)

لسياسته؛ وهو في مجال الطب ثم الفقه مجرد طالب للقرب والتكيف والوجاهة، بل هو في مجال الفقه وفي منصب قاضي الجماعة مجرد لاعب "يلعب دور الفقيه" على الجمهور المسكين! (204). إنها صورة مأساوية هذه التي يقدمها لنا المؤلف عن ابن رشد، والتي أحكم صياغتها ولا ينقصها غير شيء واحد وهو تبريرها التاريخي الواقعي، وهو ما لا نجده هنا مطلقاً..!

... هذا، وإذا كان المؤلف قد عُرف عنه موقفه النقدي من ممارسة التأويل لدى ابن رشد خاصة، فإننا نستطيع أن نلاحظ مع ذلك تسرعه في استدعاء م مرجعياته الفكرية الخاصة "ليؤول" بها أهم

(1/708)

المواقف الرشدية المتعلقة بضرورة توافق أصْلَي الحكمة والشريعة؛ فإذا كان أساس دعوة الفيلسوف ـ القاضي أن المذاهب في دينك الأصلين "ليست تتباعد كل التباعد حتى يُكفِّر بعضها أو لا يكفّر"، فإن المؤلف ـ بخلاف ذلك ـ يصر على الإبقاء على هذا التباعد الذي يتعامى عنه ابن رشد في رأي المؤلف (205)، مما يعني أن تكفير بعض المذاهب للبعض أمر حتمي وضروري لا مجال فيه للتوفيق والتفاهم! وكأنه بالتالي لا مجال لتسامح حقيقي بين المذاهب أو بين الفلسفة والشريعة! لماذا؟ لستُ أدري!

(1/709)

... ولعل إصرار علي أومليل على تأويله المضاد هذا لمشروع ابن رشد هو الذي حمله على اعتبار فيلسوفنا الكبير في دعوته إلى "توافق" الحكمة والشريعة مجرد "لاعب" بورقة التسامح، أملاً فقط في أن يُروّج علمه الفلسفي (204)؛ إنه إذن مجرد لاعب، لكونه في قرارة نفسه لا يعتقد بـ"شرعية الاختلاف"؛ إنه إذن مجرد لاعب، لكونه في قراءة نفسه لا يعتقد بـ"شرعية الاختلاف"؛ بل يضمر الرغبة في هيمنة علمه الفلسفي على بقية العلوم الأخرى. فهو إذن في دعوته إلى التسامح مجرد لاعب أيضاً، لا معتقد في فضيلة التسامح(1)

__________

(1) ... هذا اللعب لا يخلو منه في رأي المؤلف حتى جمهور المسلمين، فهم يتعاملون في شؤون هذا العالم، »بعملته الدنيوية، لكنهم على مستوى الإديولوجيا يتداولون لعبة الرمز الديني الأخروي...« (ص. 227).

(1/710)

(205). بل إن ابن رشد الذي عُرف بزهده في التزلف لذوي النفوذ لا يتأخر عن التزلف للسلطة السياسية والاستنجاد بها كي تقضي وتُجهز على خصمه الفكري المتمثل في عامة الأشاعرة وفي الغزالي خاصة وفي المهدي بن تومرت بكيفية أكثر تحديداً. وبغض النظر عن كون هذا "التحريض" الرشدي ضد ابن تومرت الذي رسخ الأساس السياسي للدولة التي كان يحتمي بها ابن رشد ويستظل بإديولوجيتها ـ أقول: بغض النظر عن كون هذه الأطروحة غير مبرّرة، فإن الذي يبقى هو كيف وصف المؤلف الطبيب الفيلسوف الرازي الذي جعل منه حاملاً لفكر مانوي واضح، كيف

(1/711)

وصف مواقفه "بالجرأة"، مع أنه كان محصناً و"محميّاً" برجل السلطة؛ في حين نراه يجعل منه ابن رشد مجرد "لاعب" بمبدإ التسامح وموفّق بين ما لا يقبل التوفيق، ولم يصف مواقفه كما وصف مواقف الرازي بالجرأة والقوة، مع أن فيلسوف قرطبة لم يواجه فقهاء العصر ومتكلميه الأشاعرة المسيطرين فحسب، بل واجه ـ حسب اعتقاد المؤلف ـ أساس الدولة الموحدية ومؤسسها ابن تومرت وفي أوج قوتها (208)؟ فكيف نَنعت من تحتضنه السلطة (أي الرازي) بالجرأة، ونجعل من يجرؤ على نقد إيديولوجية السلطة وأساسها مجرد "لاعب" بالتسامح؟!

(1/712)

... من الواضح أن الصورة لا تخلو من نزعة موغلة في السلبية، خاصة وأننا أما تقديم للفلسفة الإسلامية لا يدل على شيء قدر ما يدل على فشلها الذاتي، وليس بسبب محيطها الإسلامي فحسب! بل ربما وحد خصوم الفلسفة في الإسلام ما يبررون به مواقفهم في كلام المؤلف عن بنية التفكير الفلسفي في الإسلام الذي يظل دوماً بعيداً عن النموذج اليوناني! أما إذا كان ابن رشد يتهم فلاسفة المشرق بالتحريفية، فإن فيلسوفنا الكبير يسقط هو أيضاً في عيب شبيه وهو كونه ظل عاجزاً عن فهم فكر أرسطو وسياسته على وجه التحديد (206). وهذا تحريف

(1/713)

من نوع آخر!

... وكي نبقى في إطار الفكر المغربي ـ الأندلسي وفي ضوء التاريخ الفعلي لعلم الكلام، لا نشك في العلاقة الوطيدة بين هذا العلم والانشغال بالمشكل السياسي. غير أنني لست أظن أن هجوم ابن رشد على علم الكلام ينطوي بالتحديد على وعي بتلك العلاقة بين الكلام والسياسة، ويستهدف بالتالي إبعاد الجمهور عن الاشتغال بها (206)، وذلك بحكم أن علم الكلام بعد القرن الخامس خاصة صار مجرد ممارسة نظرية عقائدية لا علاقة ضرورية بينها وبين الممارسة السياسية... من هنا شعورنا بعدم الاقتناع تجاه أطروحة المؤلف القائمة

(1/714)

على تأويل موقف ابن رشد من علم الكلام باعتباره موقفاً ضد تسييس الجمهور وضد سياسة المهدي بن تومرت بالتحديد، اعتباراً لكون هذا الأخير ناشر علم الكلام الأشعري في الغرب الإسلامي؛ ولذلك، فهو قد "أشرك" العامة في الاشتغال بالسياسة. وفي هذا يكمن الخطر الأكبر الذي يخشاه ابن رشد الذي دعا إلى "إبقاء الدين في المستوى الذي لا يصبح فيه سياسياً، مستوى العبادات والمعاملات الضرورية" على حد قول المؤلف (210).

... وهنا نضطر إلى أن نلاحظ حدود هذه الرؤية السياسية من جانب المؤلف، بالرغم من أهميتها في فهم الفصول الأولى

(1/715)

من كتابه. إذ لا يبدو واضحاً أن الهدف السياسي كان وارداً في المقام الأول في الصراع بين ابن رشد ومتكلمي الأشاعرة، علاوة على أن هذا الفصل المزعوم بين السياسة، سياسة الدولة، والدين أو الشريعة لم يكن يوماً من مكونات "قاضي الجماعة" إطلاقاً، ولا من مكونات مفكري الإسلام جملة. ويبدو أنه مجرد تأويل مستمد من فكر امأنوار بأوربا ليس غير!

... وبغض النظر عن هذا، فإن المؤكد أن بعض العناصر الجزئية الأخرى التي بنى عليها المؤلف دعواه في جعل ابن تومرت الهدف الأساسي من النقد الرشدي ضد الغزالي ومتكلمة الأشاعرة، هذه

(1/716)

العناصر لا تستقيم مطلقاً مع المعطيات التاريخية والفكرية للمشكل المطروح؛ إذ يعتبر المؤلف أن هجوم ابن رشد على ممارسة "التأويل" لدى المتكلمين ليس يعني هجوماً على الأشاعرة ولا على الغزالي، بقدر ما يعني هجوماً على ابن تومرت الذي اصطنع التأويل تأثراً منه بالمعتزلة دون غيرهم (ص. 212، هامش 36). وهذا في الواقع فهم غير سليم لهذا المشكل المثار هنا، ما دام "التأويل قد مثّل دوماً قاسماً مشتركاً بين المعتزلة والأشاعرة؛ بل إن هجوم فقهاء الأندلس والمغرب في البداية على الأشاعرة كان بسبب اصطناعهم لمنهج التأويل

(1/717)

العقلي، إذ هم الذين أدخلوه إلى الغرب الإسلامي وليس المعتزلة؛ بل حتى الاختلافات بين المذهبين في هذا المجال تعتبر شكلية وسطحية. ويكفي هنا الوقوف على كتاب ابن طملوس (620 هـ)، "المدخل لصناعة المنطق"(1)، لإدراك ردود الفعل القوية الفقهية والسياسة ضد التيار الأشعري الوافد، كما أن الرجوع إلى المصنفات الأشعرية المبكرة المعاصرة للمهدي ابن تومرت(2)

__________

(1) ... انظر تحليلنا لقيمة هذا الكتاب في مجلة ألف، القاهرة، الجامعة الأمريكية، العدد 16، 1996ن صص. 77 ـ 88.

(2) ... من قبيل: الضرير المراكشي (520 هـ)، التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد؛ والسلالجي (541 هـ)، البرهانية.

(1/718)

توضيح مبلغ ممارستهم للتأويل ونقدهم للاتجاهات الظاهرية... كل هذا، علاوة على أن مفهوم التأويل ومستوياته لدى أبي حامد الغزالي خاصة قد شاع بين مفكري العصر ورجع إليه ابن رشد نفسه وأشاد بضوابطه في آخر كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة".

... وعليه، فالأشعرية كانت حاضرة بقوة قبل ميلاد ابن رشد وعلى عهد المهدي بن تومرت، وبالتالي ليس بالمقنع القول إن نقد ابن رشد للتأويل الكلامي وتخصيصه زمن ذلك بقوله: »في هذا الوقت« أن هذا »دليل« على نقده لابن تومرت دون غيره؛ ليس هذا الفهم بالمقنع، لكون الفكر الأشعري أيضاً

(1/719)

فكراً معاصراً بل مسيطراً، عكس سيطرته ذلك النقد العنيف الذي وجهه إليها الصوفي ابن سبعين في كتابه "بدّ العارف"... ويبقى القول في الأخير عدم صحة تأكيد المؤلف تفرد ابن تومرت، دون الأشاعرة، بجعله علم الكلام (علم التوحيد) »أول ما يجب تحصيله«، لأن »أول واجب على المكلف العلم بالله سبحانه« (ص. 213)، وذلك بسبب كون هذه الدعوى دعوى جميع الأشاعرة منذ الباقلاني حتى عصر ابن تومرت. بل إن تلك الدعوى هي التي أثارت مراراً حفيظة الحنابلة ـ وعلى رأسهم ابن تيمية ـ ضد الأشاعرة، مثلما أنها هي التي ندد بها ابن رشد في

(1/720)

"فصل المقال"(1). كل ذلك من شأنه أن يبين لنا أن الأحكام التي بنى عليها علي أومليل تلك "القطيعة" المطلقة بين فيلسوف قرطبة ومؤسس دولة الموحدين المغربية لا ترقى في ضوء المعطيات التاريخية إلى مستوى الإقناع.

... إن عناية مؤلف "السلطة الثقافية والسلطة السياسية" بتلك المعرفة السياسية الإسلامية لم يكن في واقع الأمر إلا تمهيداً للانتقال إلى صلب

__________

(1) ... ابن رشد، فصل المقال، دار المعارف بمصر، 1972، صص. 63 ـ 64 [تحقيق ودراسة محمد عمارة]، حيث يندد ابن رشد بقول الأشاعرة إن "أول الواجبات النظر" في التوحيد...

(1/721)

المشكل السياسي القائم في المجتمع العربي المعاصر، إنه مشكل الديمقراطية وتحدياتها الراهنة. لهذا لا يحظى المتتبع لكل أعمال المؤلف في إدراك تلك الاستراتيجية الغالبة عليها والقائمة على إعادة تأمل ما ترسَّخ في "التجربة الأوروبية" من أفكار ومفاهيم ذات صلة وثيقة بتطور المجتمع، ثم العمل على مقابلتها "بنقائضها" في "التجربة الإسلامية"؛ وذلك قصد استخلاص البون الشاسع و"القطيعة" الواضحة بين التجربتين(1)

__________

(1) ... انظر تكرار الاستراتيجية نفسها في مؤلفات علي أومليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية؛ التأويل والتجاوز؛ في شرعية الاختلاف.

(1/722)

، وربما ـ كما في هذا الكتاب ـ لأجل رفع العوائق التي تحول دون اللحاق بتلك التجربة الأولى؛ الأمر الذي يجعل من المقارنة بل "المفاضلة" بين التجربتين الأوربية والإسلامية هاجساً ظاهراً أو خفياً في كل تلك الأعمال؛ هاجس يعرب عن ذاته انطلاقاً من جملة مفاهيم أفرزها الفكر الأوروبي منذ "عصر الأنوار"، من قبيل مفهوم التاريخ والنقد التاريخي، ومفهوم الدولة، وكذا مفاهيم المجتمع والاختلاف والتسامح والمثقف والديمقراطية... وهي مفاهيم بمرجعيتها الأوربية ـ الأنوارية إنما تأتي في بداية تلك الأعمال محرّكاً وموجِّهاً

(1/723)

لإشكالياتها، ثم تأتي ـ كما في كتابنا هذا ـ في آخر المطاف لتشكل القمة المبتغاة والنموذج المحتذى...

... لعل هذه الاستراتيجية المتكررة في أعمال علي أومليل هي ما يجعل قارئ هذا الكتاب يشعر بنقلة نوعية في مستوى طبيعة التحليل بين فصوله العشرة الأولى والفصل الحادي عشر الذي يوقف فيه المؤلف نشاطه النقدي الذي عهدناه في الفصول السابقة ليفسح المجال لنشاط مغاير ينحصر في فعل الوصف والشرح والتمجيد لنموذج صالح للتأمل يتمثل في فكر الأنوار الأوربي. ولسنا مبالغين إذا قلنا إن الأسلوب الغالب على هذا الفصل ما قبل

(1/724)

الأخير، الفصل "النموذجي"، هو أسلوب الاقتباس للنصوص الطويلة التي تحضر هنا لا للمراجعة والتحليل، ولكن لمحض الاستشهاد بها والعمل على "شرحها"؛ مما يجعلنا نشعر وكأن المؤلف يعلن هو أيضاً، شأنه في هذا شأن الفقيه و"الكاتب"، وشأنه شأن ابن رشد، أن له أيضاً "سلفاً" يرجع إليه وأنه يقف منه موقف المستشهد وموقف "الشارح"! إن ما يدعونا إلى ملاحظة هذا هو ذلك الغياب المطلق لكل مراجعة نقدية للتجربة الأوروبية ولمعنى الحداثة، مع أن هذا النقد وارد لدى الأوروبيين المعارضين أنفسهم...

(1/725)

... وبالمناسبة، وفي ضوء توجهات مجتمعاتنا العربية المعاصرة نحو الاختيار الديمقراطي، لستُ أدري هل هذا التوجه مشروط ضرورة بما "استشهد" به المؤلف ودعّم به مواقفه من كلام فولتير (Voltaire) الذي أكد في ضوء تجربته الأوروبية أن "القطيعة" لابد من أن تصير مطلقة »مع الأزمنة الماضية وكأنها لم تكن« (ص. 236، هامش 17)؛ أتساءل عن "ضرورة" هذه القطيعة، خاصة وأن المؤلف يبدو وكأنه يتبنى مقولة فولتير نفسها حين يؤكد في مقدمة كتابه أن الكاتب العربي المعاصر »ليس وراءه سند من تراث يتعزّز به« (ص. 25). إنه موقف خيار،

(1/726)

ولكن يبدو أنه لا شيء يدل على أنه موقف عام في ثقافتنا العربية اليوم... نعم! لا نشك في تأثير تلك الضغوط الواضحة للأحداث السياسية المتسارعة في سنواتنا الأخيرة على تكييف رؤية الكاتب ومعالجته لفصول مؤلّفه والتأدي بفصولها إلى طرح مشكلة الديمقراطية في العالم العربي. غير أن ما يستوقفنا مرة أخرى في تلك الرؤية هو تلك الثنائيات المتقابلة التي تسكن كل فصول الكتاب وتوجه مسارها، من قبيل رجال الدين ورجال الدنيا! والعلم الديني والعلم الدنيوي! حيث يصير الفقيه في الإسلام هو نفسه "الكاهن" (Le clerc) في المسيحية!

(1/727)

(ص. 228)، ويصير المتكلم هو بذاته "اللاهوتي الكنسي..." وغير ذلك من المفاهيم المتقابلة التي يتم إسقاطها هنا دون ضابط علمي واضح، وتؤخذ بكثير من التجاوز واللبس، وكأننا أمام نماذج وصور يصلح نقلها دون مراعاة لأي خصوصية مجتمعية.

... ومهما يكن، فإن المؤلف يعتبر البديل الديمقراطي رهيناً بانتماء ليس من حق من يُنعتون لديه "برجال الدين"، وبذلك يعمل على تكريس أزمة الديمقراطية ولا يعمل على حلها! إذ كيف نروّج هكذا لمفاهيم و"تصنيفات" غير مستساغة حتى لدى جمهور العالم العربي؟ ولمَ لا نحسم في المسألة من أول وهلة

(1/728)

فنؤكد أمام الملإ، والتاريخ يسند موقفنا هذا، أن بعض الذين يظهرون على الساحة السياسية في حلة "رجل دين" ليسوا كذلك؛ لكون هذا المفهوم القائم على ادعاء امتلاك "سلطة دينية" هو ببساطة مرفوض داخل بنية الفكر الإسلامي منذ أول يوم تأسس فيه الإسلام... وعليه، فهم رجال ونحن رجال! وبيننا وبينهم أولاً وقبل كل شيء الأسلوب الديمقراطي، فهو مفتاح التفاهم وهو شرط التعامل. ونعتقد أن هذا هو الذي يجعلنا نربح رهان الديمقراطية وليس الاستمرار وراء بعض الأحكام الجاهزة التي قد تُروج لأسباب غير علمية والتي قد تعمق المشكل

(1/729)

وتعود بنا إلى رذيلة الإقصاء بدلاً من فضيلة التسامح وشرعية الاختلاف!

... وهنا نسجل ملاحظة أخيرة نعتبرها أساسية ونابعة من اعترافنا بقيمة التراكم المعرفي داخل المغرب المعاصر في مجال التفكير والإنتاج الفلسفي بالتحديد؛ هذا التراكم الذي عمّر لحد الآن حوالي أربعين سنة كنا نأمل أن نجد له صدى في آخر أعمال علي أومليل. غير أن هذا العمل، وقد بنيت فصوله على مشروعية الاختلاف ومطلب الديمقراطية، يقف من الإنتاج الفلسفي المغربي، سواء المخالف له أو الموافق، موقف التجاهل الطلق والإقصاء الواضح لمواقف مفكريه التي

(1/730)

تتقاطع أو التي تتعارض مع تأويلاته المعروضة في هذا الكتاب. ولعل من علامات الإقصاء أن محاولة المؤلف التي لم نرها مقنعة في جعل ابن رشد خصماً فكرياً وسياسياً بكيفية مضمرة أو صريحة لابن تومرت ثم للدعوة الموحدية، قد سبقتها أو رافقتها محاولات مضادة شاعت منذ مدة، وهي محاولات ترمي إلى إثبات وشائج القربى بين ابن تومرت وابن رشد(1)

__________

(1) ... انظر على سبيل المثال الموقف المضاد عند محمد عابد الجابري في: تكوين العقل العربي، بيروت، دار الطليعة، ط 1، 1984، الفصل الثاني عشر؛ قارن أيضاً الفصول الأخيرة من كتابه الآخر، بنية العقل العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1986.

(1/731)

. فكان من المفروض في هذه القراءة المقترحة للمشكل نفسه، وقد أعيد طبعها في هذا الكتاب، أن يحدد صاحبها موقفه من حجج المخالفين، وأن يغني نهم القارئ لمزيد تفصيل بالتعرض البنّاء إلى تلك الأطروحات المخالفة، مما شأنه أن يجعلنا نتمتع بقيمة الاختلاف وندرك مغزى التراكم المعرفي في هذا الجناح من العالم العربي... إلا أن هذا لم يحصل، وكان الإقصاء أو التجاهل هو البديل الحاضر الذي ضيّع علينا فرصة الحوار. وما يقال في شأن القراءة المخالفة لابن رشد يقال في شأن فتنة وامتحان أحمد بن حنبل الذي وقف المؤلف عنده طويلاً

(1/732)

ونوع من مصادره القديمة والمعاصرة أيضاً، دون أن يعرِّج بالكل على قراءة "مخالفة" سبق أن طرحها محمد عابد الجابري(1)... لقد كنا نأمل ذلك وما زلنا نأمله من كل الطاقات الفكرية بالمغرب وبالعالم العربي أجمع؛ إذ هي طاقات تستحق أن يشار إليها وأن يعترف بـ"اجتهادها"، وهي ـ فيما أظن ـ ترحب بحق الاختلاف، هذا الحق الذي يعتبر المدخل الأسلم للفكر الديمقراطي الذي جاء هذا الكتاب

__________

(1) ... محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 1995.

(1/733)

تبشيراً به ودعوة لمعانقة تجربته وتنبيهاً لأولوية مطلبه.

...

(1/734)

إمارة العزفيين في سبتة (647-728هـ/1239-1327م)

د. نهلة شهاب أحمد

أستاذ مساعد -قسم التاريخ- كلية التربية جامعة الموصل - العراق

قيام الإمارة:

... شكلت حالة الضعف والوهن التي دبت في أوصال جسم دولة الوحدين وبوجه خاص بعد موقعة العقاب سنة 609هـ/1212م(1) دافعا قويا لتحول بعض مدن

__________

(1) معركة وقعت بين الموحدين والمماليك النصرانية في إسبانيا جنوب الشارات (سيرامورينا). للمزيد عنها، ينظر: محمد بن عبد المنعم الحميري، "الروض المعطار في خبر الأقطار"، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1975، بيروت، 1968، ج1، ص.446.

(1/735)

المغرب العربي ومنها سبتة عن طاعتها وتقديم ولائها لقوة جديدة تمثلت بالدولة الحفصية التي قامت في إفريقية (تونس) سنة 625هـ/1227م، إذ تقدم أهالي سبتة وأرسل حاكمها المعروف بابن خلاص البلنسي سنة 643هـ/1245م، وفدا برئاسة ابنه في أسطول يحمل هدية إلى الأمير أبي زكريا يحيى الحفصي، ولكن الأسطول غرق بما فيه وكان رد الأمير الحفصي إرسال ابن أبي خالد البلنسي، وابن الشهيد الهنتاني، لحكم سبتة وذلك في سنة 644هـ/1246م(1)

__________

(1) أبو العباس أحمد بن محمد بن عذاري، "البيان المعرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب"، الناشر أميروسي هوسي مرانده مع مساهمة محمد بن تاويت ومحمد إبراهيم الكتاني، تطوان، دار كريما د. س للطباعة، 1960، ج3، ص.379.

(1/736)

. ولكن ابن أبي خالد تمادى في ظلمه وطغيانه لأهل سبتة؛ وهذا ما أثار الحقد والضغينة بينه وبين قائد الأسطول أبي العباس أحمد الرنداحي(1). ولما توفي الأمير أبو زكريا الحفصي وبويع ابنه الملقب بالمستنصر وجد السبتيون الفرصة

__________

(1) أحمد الرنداحي. ويذكر باسم جحفون الرنداحي، تولى مهمة قيادة الأسطول منذ عهد عمر المرتضى الموحدي، واستمرت هذه الخطة بيد أسرة الرنداحي إلى نحو سنة 720هـ/1320م. (ينظر: محمد المنوني، "ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين"، الرباط، نشر كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، 1985، ص.79).

(1/737)

للتخلص من تبعيتهم للحفصيين بعد أن ضاقوا ذرعا من ظلم وجور ابن أبي خالد، وتغافل ابن الشهيد، فاجتمع القائد الرنداحي مع الفقيه أبي القاسم العزفي(1)

__________

(1) هو أبو القاسم محمد بن القاضي المحدث أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسين بن الفقيه الإمام علي بن محمد بن سليمان بن محمد الشهير بابن أبي عزفة اللخمي، ينتهي نسبهم إلى قابوس بن النعمان بن المنذر. (ينظر: شهاب الدين أحمد بن محمد المقرى، "أزهار الرياض في أخبار عياض"، الرباط، إحياء التراث الإسلامي، 1978، ح2، ص.274؛ لسان الدين بن الخطيب، "الإحاطة في أخبار غرناطة"، تحقيق محمد عبد الله عنان، ط2، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1973، ج3، هامش 2، ص.11).

(1/738)

الذي ترجع إليه أصول الأسرة العزفية وحرضه على التخلص من ابن خالد وابن شهيد وجعل رئاسة سبتة بيده، ووعده بأخذ الأمر على عاتقه وتحقيق هذه المهمة بنفسه ووافقه أبو القاسم العزفي. وقام الرنداحي بوضع خطة تم بموجبها القبض على ابن أبي خالد وقتله وتعليقه على سور المدينة، ونفي ابن الشهيد إلى الأندلس(1). وأعلن أبو القاسم العزفي إمارته على سبتة واستقلاله بها

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، صص.400-401؛ عبد الرحمن بن خلدون، "العبر وديوان المبتدإ والخبر"، بيروت، منشورات الأعلمي للمطبوعات، 1971، ج7، ص.186.

(1/739)

وذلك في سنة 647هـ/1248م أيام الخليفة عمر المرتضى الموحدي (647-665هـ/1249-1266م)(1). ثم قام بضم طنجة حيث تقدم أهلها بطاعتهم إليه عندما رأوا ضعف وتدهور سلطة الموحدين وظهور قوة المرينيين، فقام بإرسال قوة من الرجال والرماة على رأسهم

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، ص.400؛ ابن الخطيبي، المصدر السابق، ج3، صص.11، هامش 2؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.374؛ محمد بن القاسم الأنصاري السبتي، "اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سمي الآثار"، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط2، الرباط، 1983، ص.30، هامش 50.

(1/740)

القائد أبو الفضل العباسي وكان من كبار أعيان سبتة وبصحبته يوسف ابن محمد بن الأمين. وبعد توطيد الوضع في طنجة، عاد القائد أبو الفضل إلى سبتة وترك ابن الأمين واليا عليها(1). وبعد مرور سنة، استبد ابن الأمين بطنجة وانشق عن العزفي ودعا للحفصيين أصحاب أفريقية (تونس) ثم للخليفة العباسي في بغداد وأخيرا لنفسه(2)

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، ص.415.

(2) المصدر نفسه، ج3، ص.415؛ ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.186؛ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، تحقيق جعفر الناصري، محمد الناصري، الدار البيضاء، دار الكاتب، 1954، ج3، ص.34؛ وانظر إبراهيم حركات، "المغرب عبر التاريخ"، ط1، الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة، 1978، ج2، ص.21.

(1/741)

. ولكن سرعان ما عادت طنجة إلى طاعة العزفيين، وذلك في سنة 665هـ/1266م إذ بعد أن ملك بنو مرين المغرب العربي داخل طنجة ثلاثمائة فارس منهم واستوطنوا فيها وضيقوا على أهلها وأمنعوا في إيذائهم، فطلب ابن الأمين منهم أن يكفوا أذاهم عن الأهالي مقابل دفع مبلغ من المال لهم، ولكنهم أضمروا الغدر لابن الأمين وقتلوه فثار عليهم عامة طنجة وقتلوهم واجتمعوا حول ابن (ابن الأمين)، ولكنهم خافوا من عقاب وقصاص بني مرين لهم، فخاطبوا أبا القاسم العزفي وطلبوا نجدته، فأرسل إليهم قواته برا وبحرا وأعاد طنجة إلى ملكه، وعين

(1/742)

واليا عليها يعرف بابن حمدان يشاركه في حكمها وإدارتها الملأ من أشرافها(1).

... وضم أبو القاسم العزفي إلى إمارته مدينة أصيلا حيث دخلتها قواته البحرية سنة 663هـ/1264م، وقامت بهدم أسوارها وقصبتها لأنه خاف أن يسيطر عليها العدو ويتمنع فيها(2)

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، ص.415، ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، صص.186-187؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، صص.34-35.

(2) علي بن أبي زرع الفاسي، "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، الرباط، دار المنصور للطباعة والوراقة، 1972، ص.402؛ المقري المصدر السابق، ج2، ص.374.

(1/743)

.

تطورات الأوضاع الداخلية في سبتة:

... استمرت رئاسة مؤسس الإمارة أبي القاسم العزفي مدة ثلاثين سنة حتى وفاته سنة 677هـ/1278م(1). ثم خلفه في الحكم ابنه أبو حاتم أحمد بن محمد بن أحمد العزفي الذي دام حكمه سنة واحدة حيث تنازل عن الإمارة لأخيه أبي طالب عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي(2)

__________

(1) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج3، ص.11، هامش 2.

(2) أحمد بن القاضي المكتدي، "جذوة الاقتباس في ذكر من حل بمدينة فاس"، الرباط، دار المنصور للطباعة والوراقة، 1974، ج2، ص.432؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.377؛ الأنصاري، المصدر السابق، ص.115، هامش 182.

(1/744)

الذي وصف بأنه كان من أهل الجلالة والصيانة، عظيم الهيئة والشأن، عالي الهمة وشديد البأس، معظما عند الملوك، بعيد النظر مطاع السلطان، حكم بلاده، وأدارها إدارة جيدة، ولكن حدث أن ثار عليه بعض أهله وأحاطوا بمركز حكمه، ولكنه لم يتخذ أي إجراء ضدهم سوى أنه خرج إليهم وتحدث معهم وأنكر عليهم فعلتهم، وسلمهم لقضاء الله سبحانه وتعالى، حيث قال لهم: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"(1)

__________

(1) ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، ص.433؛ الأنصاري، المصدر السابق، ص.54، هامش 112.

(1/745)

.

... واستمر حكم أبي طالب لسبتة مدة سبع وعشرين سنة حتى خلع سنة 705هـ/1350م، وتوفي مخلوعا في فاس سنة 713هـ/1313م وجاء خلعه بخيانة وغدر من الأمير محمد بن الأحمر المعروف بالمخلوع(1) حيث وجه ابن عمه أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن الأحمر الذي داهم سبتة بأساطيله واحتلها وقبض على بني العزفي ونقلهم إلى الأندلس(2)

__________

(1) هو محمد الثالث ثالث ملوك بني نصر (701-708هـ/1302-1309م). ينظر: ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.228.

(2) المصدر نفسه، ج7، ص. 228؛ ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، ص.433؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.377؛ الأنصار، المصدر السابق، ص.45، هامش 112؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.82؛ وانظر: يوسف شكري فرحان، "غرناطة في ظل بني الأحمر"، ط1، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1982، ص.38.

(1/746)

.

... ولكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا، بل سرعان ما عاد العزفيون إلى بلدهم بعد أن استرد السلطان أبو الربيع سليمان (708-710هـ/1308-1310م) سبتة وأخرج بني الأحمر منها فاستأذنه بنو العزف بالسماح لهم بالعودة إلى المغرب والقدوم عليه فأذن لهم واستقروا بفاس(1). ثم عادوا إلى حكم بلادهم في عهد السلطان أبي سعيد عثمان المريني (710-731هـ/1310-1330م) حيث تولى رئاسة الإمارة أبو عمر يحيى بن أبي طالب سنة 710هـ/1310م والذي كان على قدر كبير من الشجاعة، ولكن الظروف لم تكن

__________

(1) الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.113.

(1/747)

تساعد على استرجاع بني العزفي لمجدهم الأول، ولهذا نجد أن الأمير أبا عمر لا يمكث في الإمارة إلا سنة وستة أشهر ثم يخلع سنة 711هـ/1311م، ويعود ثانية إلى حكم إمارته سنة 714هـ/131م، ويستمر في الحكم حتى وفاته سنة 719هـ/1319م(1) وتولى الإمارة من بعده ابنه أبو القاسم محمد بن يحيى، وكان آخر أمراء البيت العزفي، فقد خلع بعد ستة أشهر من حكمه في سنة 720هـ/1320م وغادر إلى غرناطة ثم انتقل إلى

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.377. سنتناول هذه الأحداث مفصلا عند الحديث عن العلاقة بين إمارة العزفيين وبني مرين.

(1/748)

فاس وعمل كاتبا لبني مرين، وزهد في تولي المناصب الكبرى في الحكم، فقد أراد السلطان أبو عنان فارس المريني (752-759هـ/1352-1358م) أن يستعمله على قسنطينة، لكنه اعتذر لبعد الشقة عن ولده وبلده، وبقي يعمل كاتبا بالحضرة المرينية حتى وفاته(1).

__________

(1) ابن القاضي، ج1، ص.300؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.378؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.115؛ محمد بن تاويت، الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى، ط1، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1983، ج2، صص.409-410.

(1/749)

... وتغلب على الإمارة من بعده ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم الذي كان يعمل قائدا للبحرية في سبتة مكان القائد يحيى الرنداحي الذي رحل إلى الأندلس. وقد اضطربت أحوال سبتة في عهده، واختلط الأمر على بني العزفي، فانتهز السلطان أبو سعيد المريني الفرصة وزحف بقواته إلى سبتة، وأسقط إمارة العزفيين وذلك في سنة 728هـ/1327م(1).

العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة الموحدين في المغرب:

__________

(1) الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.115.

(1/750)

... اتسمت العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة الموحدين في المغرب بكونها علاقة طيبة قائمة على أساس التعاون والاحترام المتبادل بينهما. فقد تمتع الأمراء العزفيون بحكمة وكياسة. فعلى الرغم من الاستقلال شبه التام الذي كانوا يتمتعون به في إمارتهم، فإنهم كانوا على اتصال بمن بقي من البيت الموحدي معترفين بسلطانهم، فنرى مؤسس الإمارة أبا القاسم يخاطب الخليفة المرتضى في كل الأوقات، ويطلعه على أحوال إمارته. ففي بداية تأسيسه الإمارة أرسل بكتاب إليه يطلب منه إرسال مندوب من الموحدين للإشراف على حكم الإمارة فبادر

(1/751)

المرتضى بإرسال ابن الشرقي. ولكن بعد أشهر أخرجه أبو القاسم من سبتة وكتب إلى المرتضى يشرح له أسباب ذلك، لما بدر من ابن اشرقي من أفعال مشينة، فصدق المرتضى قول أبي القاسم(1).

... وفي سنة 655هـ/1255م غدر القطراني(2) بالموحدين وانحاز إلى المرينيين وساعد الأمير أبا يحيى بن

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، ص.414.

(2) أبو يحيى محمد القطراني، لقب بالقطراني لأن والده كان يشتغل في شبابه وشيخوخته بالقطران. وقد وصف بأنه كان ذا نفس خبيثة وغدارة وذا أطماع سياسية. للمزيد، ينظر: المصدر نفسه، ج3، صص.416-417.

(1/752)

عبد الحق المريني على دخول سجلماسة واحتلالها والقبض على واليها، مقابل تعيينه واليا عليها. وقد نفذ الأمير أبو يحيى وعده وعينه واليا وجعل معه شخصا من بني مرين مع جملة من الفرسان والرجال(1). ولكن بعد أن تعاظم أمره وكثر أتباعه وازدادت قوته، وجاءه خبر موت الأمير أبي يحيى المريني سنة 656هـ/1256م، ثار القطراني على الدولة المرينية واستبد بسجلماسة وفي الوقت نفسه، خاطب المرتضى الموحدي معتذرا له عما بدا منه من انحياز لبني مرين، ومتقدما له بطاعته

__________

(1) المصدر نفسه، ج3، صص.416-417؛ الاستقصا، ج3، صص.18-19.

(1/753)

وولائه لدولة الموحدين بشرط استقلاله في سجلماسة فوافقه المرتضى، وأرسل له الفقيه أبا عمر بن حجاج قاضيا، وجمعا كبيرا من جنده، وسيدا من الموحدين يسكن في سجلماسة من غير استبداد. وقد استقبل القطراني القاضي ابن حجاج والجند، وصرف السيد ومن كان معه من الموحدين. وكان قد اتفق المرتضى مع القاضي ابن حجاج وقائد الجند على قتل القطراني بالحيلة. وقد تمكن قائد الجند من قتله. وعندما هدأت أوضاع سجلماسة واستقرت، كتب المرتضى بخبر القضاء على القطراني إلى أبي القاسم العزفي(1)

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، صص.417-419.

(1/754)

.

... وفي سنة 658هـ/1258م بعث أبو القاسم العزفي برسالة إلى المرتضى، وأهالي السواحل، يحذرهم فيها من الاستعدادات البحرية لنصارى قشتالة وملكهم في وادي إشبيلية بهدف احتلال مدينة سلا. فمن صدق بتحذير العزفي خرج من المدينة، ومن تأخر ولم يصدق به قتل أو أسر، بعد أن تمكن نصارى قشتالة من مداهمة المدينة والاستيلاء عليها، واستباحتها، حيث قتلوا من وجدوا فيها من الرجال، وأسروا النساء والأطفال، وخربوا المساجد والديار. وبعد أن وقع ما حذر منه العزفي، وجه الخليفة المرتضى كتابا إليه يشكره فيه على تحذيره من أمر

(1/755)

النصارى، ويسأله أن يكون متيقظا من غدرهم(1). وهذا بعض من فصول كتابه:

وإنا كتبناه إليكم - كتب الله لكم أحمد عاقبة وأجملها واكتف كلاءة وأكلأها وأن تعلموا أنا نعتد بولائكم الخالص، ونحفظ ما لكم ولسلفكم من السوابق والخصائص ونشكر نصائحكم التي ما زلتم إياها تبذلون وخدمتكم التي توالون وتصلون... والله يتولاكم بحفظه وصونه... وقد طرأ في مدينة سلا جبرها الله سبحانه واستنقذها ما قد اتصل بكم مما كنتم أبدا منه تحذرون وبه لعلمكم بزيادة العدو تنذرون... ووقع المحذور... وهو سبحانه

__________

(1) المصدر نفسه، ج3، صص.423-424.

(1/756)

يكافئ سعيكم على ما عرفتهم وحذرتهم لأهل السواحل وخوفتهم من فجأة العدو المخاتل... وإنا لنشكر لكم ذلكم...(1).

... وأرسل المرتضى كتاب شكر إلى أبي القاسم العزفي تثمينا لما أبداه من جهد في تقديم النصيحة والحذر والتيقظ من الأعداء، عندما كشف سنة 658هـ/1258م، عن محاولة النصارى إخراج المسلمين من مدينة شريش(2).

... وأخذ الخليفة المرتضى برأي أبي القاسم العزفي بإقامة المولد النبوي والاحتفال به، وقبل هديته وهي عبارة عن كتابه الموسوم الدر المنظم في مولد

__________

(1) المصدر نفسه، صص.425-426.

(2) المصدر نفسه، ص.430.

(1/757)

النبي المعظم(1).

العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة المرينيين في المغرب:

... بعد أن تم للسلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (656-685هـ/1256-1258م) إخضاع معظم أجزاء المغرب العربي وأنهى دولة الموحدين، بقيت سبتة وطنجة وسجلماسة خارجة عن حكمه وسلطته، فقرر إخضاعهم قبل أن يبدأ بمهمة الجهاد في الأندلس حتى لا تمتد الثورة من هذه المعاقل إلى باقي المغرب. فبعد أن عاد من حصار تلمسان، توجه لحصار طنجة التي كانت تحت حكم العزفيين وحاصرهم مدة ثلاثة أشهر ثم ساعده على فتحها سهول

__________

(1) المصدر نفسه، ج3، صص.430.

(1/758)

مسلكها ومساعدة بعض جنودها الذين رفعوا راية الاستسلام ونادوا بشعار بني مرين بسبب خلاف وقع بينهم. فاستغل الجند المريني الفرصة، وسارعوا إليهم وتمكنوا من اقتحام طنجة عنوة وإعطاء الأمان لأهلها وذلك في سنة 672هـ/1273م(1).

... ولما فرغ من أمر طنجة، أرسل ولده الأمير يوسف إلى سبتة فحاصرها، ولكنها صمدت ثم وقعت معاهدة صلح بين الأمير أبي العباس العزفي والسلطان أبي يوسف المريني بشرط أن يحتفظ الأول بحكم سبتة واستقلال بني العزفي فيها

__________

(1) ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.187؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.35.

(1/759)

لقاء خراج سنوي يؤديه إلى السلطان المريني(1).

... ثم وضع العزفيون يدهم بيد المرينيين في جهادهم ضد النصارى في الأندلس، مدفوعين بروح الغيرة الإسلامية لا بقصد التبعية للمرينيين(2). ولكن بعدما تعرضت إمارتهم إلى الاحتلال من قبل بني الأحمر واستردادها من قبل بني مرين(3)

__________

(1) ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.187؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.35.

(2) انظر محمد بن تاويت، "تاريخ سبتة"، ط1، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1982، ص.123.

(3) انظر تفاصيل احتلال سبتة، في مبحث العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة بني الأحمر في غرناطة، صص.10-11.

(1/760)

، تحولت العلاقة من علاقة استقلال وتعاون إلى علاقة طاعة وتبعية حيث قام المرينيون بعدة محاولات من أجل استرداد سبتة من أيدي بني الأحمر: فقد قام السلطان أبو يعقوب يوسف (685-706هـ/1286-1306م) بإرسال جيش بقيادة ابنه الأمير أبي سالم، لكنه فشل(1)؛ ثم نهض السلطان أبو ثابت عامر (706-708هـ/1306-1308م) سنة 707هـ/1307م، قاصدا سبتة التي كان عليها عثمان بن أبي العلاء المعين من قبل بني الأحمر حيث قام في محرم سنة 708هـ/1308م بإرسال غارات على نواحي سبتة، ثم أمر باختطاط

__________

(1) الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.82.

(1/761)

وبناء مدينة تطاوين(1) من أجل اتخاذها قاعدة لجيشه المعد لمهاجمة سبتة... وفي الوقت نفسه أرسل كبير الفقهاء أبا يحيى بن أبي الصبر إلى ابن الأحمر يفاوضه في أمر التخلي عن سبتة، وبينما كان ينتظر الجواب مرض السلطان أبو ثابت وتوفي في طنجة في شهر صفر 708هـ/1308م، وتولى الحكم من بعده أخوه أبو الربيع الذي جهز جيشا كبيرا بقيادة تاشفين يعقوب الوطاسي،

__________

(1) تطاوين: هي مدينة تطوان القديمة، بنيت سنة 685هـ/1286م أيام دولة يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، ثم بنى عليها أبو ثابت هذه المدينة. (انظر: المصدر نفسه، ج3، ص.96).

(1/762)

لاسترداد سبتة بعد أن ضاق أهلها ذرعا بحكم بني الأحمر، منتهزا فرصة غياب الوالي عثمان بن أبي العلاء وعبوره إلى الأندلس بقصد الجهاد. ولما أحس أهل سبتة بقدوم الجيش المريني، تنادوا بشعار بني مرين وثاروا على من كان بسبتة من حامية ابن الأحمر وأخرجوهم منها، وذلك في سنة 709هـ/1309م. وعندما وصل الخبر إلى ابن الأحمر (أبي الجيوش نصر بن محمد) خشي من بني مرين وأرسل وفدا إلى السلطان أبي الربيع يطلب منه الصلح ويسترضيه بالتنازل له عن الجزيرة الخضراء ورندة وحصونها. وقد وافق أبو الربيع على الصلح ووطد علاقته بابن

(1/763)

الأحمر بزواجه من أخته، وإرسال المدد والمساعدة له بتجهيز جيش وإرساله إلى الأندلس(1).

... أما بنو العزفي، فقد استأذنوا السلطان أبا الربيع في الرجوع إلى المغرب فأذن لهم واستقروا في فاس، وكان أبو زكريا يحيى، وأبو زيد عبد الرحمن ابنا أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم... أحمد العزفي يرتادون مجالس العلم بمسجد القرويين في فاس، وهناك التقيا بالسلطان أبي سعيد أيام حكم أبيه من قبله، وتودد إليهما وربطتهما به علاقة صداقة قوية. ولما اعتلى كرسي الحكم، رعى لبني العزفي تلك الصداقة وعقد

__________

(1) المصدر نفسه، صص.95-97

(1/764)

لأبي زكريا على سبتة وردهم إليها، فقدموها سنة 710هـ/1310م وأقاموا فيها دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته(1).

... ولكن العزفيين أبعدوا عن إمارة سبتة سنة 713هـ/1313م، عندما فوض السلطان أبو سعيد جميع شؤون الدولة إلى ابنه الأمير أبي علي، فقام بتعيين ابن زكريا حيوة بن أبي العلاء القرشي على سبتة وعزل أبا زكريا يحيى العزفي، وأبعده إلى فاس وبصحبته والده أبو طالب وعمه أبو حاتم، واستقروا هناك. ولكن بعد انتفاضة وتمرد

__________

(1) ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.239؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، صص.87، 100-101.

(1/765)

الأمير أبي علي على أبيه في فاس، ترك كل من أبي زكريا يحيى بن أبي طالب العزفي وأخيه أبي زيد، فاس والتحقا بالسلطان أبي سعيد الذي قام بإعادة أبي زكريا ثانية إلى إمارة سبتة في سنة 714هـ/1314م(1) بعد أن أخذ والده محمد بن أبي زكريا رهينة عنده من أجل استمرار طاعة العزفيين لدولة بني مرين، ولكن أبا زكريا خلع طاعتهم في سنة 716هـ/1316م، وأعلن استقلاله بسبتة، فوجه السلطان أبو سعيد جيشا بقيادة الوزير إبراهيم بن عيسى البريناني فحاصر سبتة(2)

__________

(1) المصدر نفسه، ص.113.

(2) ابن أبي زرع، المصدر السابق، صص.339-400.

(1/766)

.

... وتقدم إليه أبو زكريا يعلل له سبب خلعه طاعة المرينيين لحبس ولده عنه ومفارقته له، وأنه إذا ما عاد إليه فإنه يعود إلى طاعة المرينيين، فأعلم الوزير إبراهيم البريناني السلطان بذلك، فأرسل إليه بالولد ليسلمه إلى أبيه(1). وعاد أبو زكريا في السنة نفسها إلى طاعة السلطان أبي سعيد، الذي قدم إلى طنجة لاختبار طاعة أبي زكريا فبان له صدقه وأبقاه على إمارة سبتة. واشترط أبو زكريا على نفسه حمل الجباية والهدايا

__________

(1) المصدر نفسه، ص.400؛ ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.246؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.114.

(1/767)

إلى السلطان في كل سنة، واستمر الحال على ذلك إلى أن توفي الأمير أبو زكريا سنة 720هـ/1320م(1).

... وتولى الحكم من بعده ابنه الأمير محمد بن أبي زكريا(2) الذي تغلب عليه ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم قائد البحرية في سبتة. وفي عهده اضطربت ظروف سبتة وأحوال بني العزفي، فاستغل السلطان الفرصة لضم سبتة وإنهاء حكم العزفيين وذلك سنة 728هـ/1327م(3)

__________

(1) ابن الخطيب، الناصري، المصدر السابق، ج4، ص.241؛ الناصري، المصدر نفسه، ج3، ص.114.

(2) المصدر نفسه، صص.113-114.

(3) ابن القاضي، المصدر السابق، ج1، ص.300.

(1/768)

.

العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة بني الأحمر في غرناطة:

... تعرضت سبتة في عهد العزفيين لخطر بني الأحمر، فقد كانت العلاقة بين الأمير أبي القاسم العزفي والأمير أبي عبد الله بن الأحمر علاقة فتنة وعداء. ففي سنة 662هـ/1263م، وجه ابن الأحمر حملة بحرية بقيادة المدعو ظافر لمحاصرة سبتة والاستيلاء عليها، وتقدمت السفن البحرية ودخلت ميناء سبتة على شكل دفعات وأحكموا الحصار على سبتة وقطعوا الطرق الواصلة إليها فوجه أبو القاسم العزفي أمره إلى قائد البحرية أبي العباس الرنداحي بأخذ الاستعدادات وتعمير جميع سفن

(1/769)

سبتة لمواجهة العدو. والتحم الفريقان. وكان النصر للرنداحي حيث أسر وقتل عددا كبيرا منهم من ضمنهم القائد ظافر حيث ألقيت جثته في البحر، وطيف برأسه في سبتة، وقد سمي هذا العام في سبتة بعام ظافر(1).

... وعلى الرغم من علاقة العداء، لم يتوان العزفيون -بدافع الغيرة الإسلامية- عن تقديم يد العون والمساعدة لبني الأحمر في ظروف المحن والشدة. من ذلك مثلا ما حصل في أواخر أيام الأمير أبي القاسم العزفي، حيث أرسل محمد الفقيه بن الشيخ محمد بن يوسف بن الأحمر وفدا إلى

__________

(1) الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.113-115.

(1/770)

السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق يشرح له مخاطر النصارى التي تحيط بالبقية الباقية من الأندلس، فسارع السلطان يعقوب لنصرته في سنة 673هـ/1274م، وخرج من فاس إلى طنجة وطلب معونة أبي القاسم العزفي، فزوده بعشرين سفينة من الأسطول السبتي. وقد حقق الأندلسيون بهذا الأسطول النصر المؤزر(1).

... وفي سنة 678هـ/1229م، حوصرت الجزيرة الخضراء من قبل أساطيل ملك النصارى ألفونسو العاشر حاكم قشتالة، فأرسل ابن الأحمر يطلب النجدة من السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق الذي قام

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، ص.401.

(1/771)

بتوجيه نداء إلى جميع الثغور يطلب منهم تزويده بالسفن الحربية. فكان أمير سبتة أبو حاتم العزفي أول من لبى نداء السلطان وقام بتزويده بخمسة وأربعين سفينة، كما استنفر جميع أهل سبتة وحثهم على الجهاد. فركبوا البحر بأجمعهم ولم يبق بسبتة إلا النساء والأطفال والشيوخ(1).

... وفي سنة 684هـ/1285م عبر الفقيه قاسم بن الأمير أبي القاسم العزفي على رأس خمسمائة رام من أهل سبتة إلى الأندلس برسم الجهاد إلى جانب السلطان المريني يعقوب،

__________

(1) ابن أبي زرع، المصدر السابق، صص.313-314؛ ابن تاويت، "تاريخ سبتة، صص.120-121.

(1/772)

وقد قاموا بالإغارة على حصن من حصون القشتاليين، وسبوا ثمانين شخصا، وكرروا إغارتهم على حصون أخرى وغنموا وقتلوا عددا كبيرا منهم(1).

... وفي السنة نفسها بعث السلطان حفيده الأمير أبا علي منصور بن عبد الواحد على رأس مجموعة من المجاهدين، كان من بينهم مائة من رماة سبتة، إلى حصن من حصون النصارى كان بينه وبين المحلة نحو ثمانية أميال، كان أهله يقومون بقطع الطريق على من خرج من المحلة منفردا أو في قلة، فزحف المجاهدون نحو الحصن وتمكنوا من اقتحامه عنوة، وقتلوا

__________

(1) ابن أبي زرع، المصدر السابق، صص.330-331.

(1/773)

وأسروا عددا كبيرا من الرجال وغنموا ما كان فيه، ثم قاموا بهدمه ونسفه(1).

... ثم وصلت في السنة نفسها أخبار تقدم الأسطول النصراني وحصاره لمضيق جبل طارق حتى يمنع عبور السلطان يعقوب وهو في طريقه إلى المغرب، فعاد مسرعا إلى جزيرة طريف واستنجد بأسطول المغرب، وكانت سبتة أول من جهزته بالإمدادات إلى جانب طنجة ورباط

__________

(1) المصدر نفسه، صص.345-347؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.59؛ وينظر أيضا مزاحم علاوي، "الدور السياسي والعسكري ليعقوب بن عبد الحق في بلاد الأندلس"، المؤرخون العرب، عدد 18، بغداد، 1989، ص.99.

(1/774)

الفتح وموانئ الريف، زيادة على إمدادات الجزيرة والمنكب وطريف. واستطاع هذا الأسطول الذي بلغ تعداده ستا وثلاثين سفينة رد أساطيل العدو، وانقلب على أعقابه؛ مما مكن السلطان من الرجوع إلى الجزيرة الخضراء ليستعرض أسطوله الذي قام بمناورات حربية أمامه(1).

... وفي سنة 703هـ/1304م، تواطأ ابن الأحمر محمد بن الفقيه المعروف بالمخلوع مع ملك قشتالة فرديناندو الرابع على مسلمي أهل المغرب، وأوعز إلى ابن عمه أبي سعيد فرج بن إسماعيل صاحب

__________

(1) ابن أبي زرع، المصدر السابق، صص.348-349؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.60.

(1/775)

مالقة بمداهمة سبتة بالحيلة، فاحتلها بغتة وذلك سنة 705هـ/1305م وقبض على بني العزفي وحاشيتهم ونقلهم إلى مالقة ثم غرناطة، واستبد أبو سعيد بأمر سبتة وأطرافها وسد جميع ثغورها. واستمر حكم بني الأحمر لسبتة حتى سنة 709هـ/1309م(1) عندما استرجعت من قبل السلطان المريني أبي الربيع، وعودة بني العزفي إليها(2).

__________

(1) ابن أبي زرع، المصدر السابق، صص.357-358؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.61-62؛ حركات، المرجع السابق، ص.27.

(2) ابن خلدون، المصدر السابق، ج7، ص.228؛ الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.82.

(1/776)

الدور الحضاري لإمارة العزفيين:

... احتلت أسرة العزفيين مكانة علمية مرموقة لما كان لأفرادها من اهتمامات علمية متنوعة خاصة في المجال اللغوي والأدبي والديني. فقد ورثوا الفضل والعلم صغارهم عن كبارهم. لذا فقد تمتعت سبتة في عهدهم بنشاط علمي ملحوظ لحبهم ومراعاتهم للعلم والعلماء. فقد كان والد مؤسس الإمارة أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد العزفي المولود سنة 557هـ/1161م، عالما وقاضيا ومحدثا. إذ قيل في حقه:

برز علما وعملا ودراية ورواية، وجمع خصالا من الفضل جمة، ولزم التدريس بجامع سبتة مدة عمره، ورحل الناس

(1/777)

إلى الأخذ عنه والاستفادة منه(1).

وقد نظم شعرا في نصرة أهل الحديث حيث قال:

أهل الحديث عصابة الحق ... ... فازوا بدعوة سيد الخلق

فوجوههم زهر منضرة ... ... لألاؤها كتألق البرق

ياليتني معهم فيدركني ... ... ما أدركوه بها من السبق(2)

... وكان أول من أحدث ودعا إلى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب العربي. وقد ألف كتابا في هذا الموضوع بعنوان "الدر المنظم في مولد النبوي المعظم"، ولكنه توفي سنة 636هـ/1238م، قبل أن يكمله(3)

__________

(1) انظر فيما سبق.

(2) الأنصاري، المصدر السابق، ص. 13، هامش 5.

(3) ابن تاويت، "الوافي بالأدب العربي"، ج2، ص.401.

(1/778)

.

... وقام ابنه مؤسس الإمارة أبو القاسم العزفي بإكمال الكتاب وإخراجه بنسختين صغرى وكبرى. وهو يميز في هذه الأخيرة كلام والده فيترجم عليه بـ"قال المؤلف"، ثم يعنون زياداته بكلمة "قلت"(1). وتدريسه بنفسه، وإعطاء الإجازة فيه، وكان من الذين أجازهم الخطيب أبو علي بن الخطيب أبي فارس بن غالب الجمحي مع جماعة من أهل سبتة وأعيانها، حين قرأوه عليه بالجامع الأعظم في سبتة سنة 657هـ/1258م(2)

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، صص.39-243؛ عباس الجراري، "الأدب المغربي"، ط2، الرباط، مكتبة المعارف، 1979، ج1، ص.145.

(2) المنوني، المرجع السابق، صص.266-267.

(1/779)

.

... وكان أبو القاسم يقيم احتفالا كبيرا في يوم المولد النبوي الشريف حيث كانت تقرأ فيه القصائد التي تمتدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل البيت، وتقام الولائم الكبيرة لإطعام أهالي سبتة أطيب الطعام، كما كان يقوم بتوزيع الهدايا على الأطفال ليلة المولد من باب الإحسان(1).

... وقد أصبح الاحتفال بالمولد النبوي تقليدا سنويا ليس في سبتة فحسب، بل في أنحاء المغرب العربي، حيث كان الشعراء الشعبيون في دولة بني مرين يتبارون بينهم لإظهار

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.376؛ ابن تاويت، "تاريخ سبتة"، ص.117.

(1/780)

براعتهم الشعرية في مناسبة ذكرى المولد النبوي. فقد كانوا يتجمهرون صباح يوم المولد في الميدان الرئيسويلقون أشعارهم واحدا تلو الآخر، والفائز منهم يحظى بلقب أمير الشعراء. كذلك كان السلطان المريني يقيم احتفالا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب لإلقاء قصائدهم الشعرية، وكان يجزل العطاء للفائزين ولسائر الشعراء(1).

... وقام أبو القاسم العزفي بإهداء كتاب "الدر المنظم" إلى الخليفة الموحدي المرتضى (646-668هـ/1248-1269م) حيث كان أديبا وشاعرا ظريفا فردد

__________

(1) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، صص.401-402.

(1/781)

في شعره ما دعا إليه أبو العباس العزفي في سبتة من إقامة المولد النبوي والاحتفال به حيث قال:

وافى ربيع قد تعطر نفحه ... ... أزكى من المسك العتيق نسيما

بولادة المختار أحمد قد بدا ... ... يزهو به فخرا وحاز عظيما

بشرى بشهر فيه مولده الذي ... ... ملأ الزمان علاؤه تعظيما(1)

... وكان لأبي القاسم العزفي اهتمامات علمية مختلفة. فقد كان فقيها أصوليا نحويا، لغويا، محدثا، عارفا بالرواية وشاعرا مجيدا(2)

__________

(1) الحسن بن محمد الوزان، "وصف أفريقيا"، ترجمة عبد الرحمن حميدة، الرياض، 1399هـ، ص.263.

(2) ابن عذاري، المصدر السابق، ج3، صص.452.

(1/782)

. وهذه أبيات من شعره في آل البيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

ذرية المصطفى إني أحبكم ... ... وحبكم واجب في الدين مفترض

فليس يبغضكم، لا كان باغضكم ... ... إلا امرؤ مارق في قلبه مرض

وحسبكم شرفا في الدهر أنكم ... ... خير البرية هذا ليس يعترض

ولست أطلب من حبي لكم ثمنا ... ... إلا الشفاعة فهي السؤل والغرض(1)

... وتتلمذ على يده العديد من الفقهاء والأدباء بينهم علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الأنصاري الملقب

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.377؛ الأنصاري، المصدر السابق، ص.30، هامش 50.

(1/783)

بابن قطرال(1).

... وقد امتدح أبو القاسم العزفي من قبل الفقيه والأديب إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله الأنصاري التلمساني، فقال:

أرأيت من رحلوا ورزقوا العيا ... ولا نزلوا على الطلول حسيسا

أحسبت سوف يعود نسف ترابها ... يوما بما يشفى لديك نسيسا

هل من مؤنس نارا بجانب طورها ... لانيها أم هل تحس حسيسا(2)

... وكان لابنه الأمير أبي حاتم العزفي اهتمامات فقهية، وكان شيخا ومعلما لمحمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمساني

__________

(1) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج4، صص.190-191.

(2) المصدر نفسه، ج1، صص.326-328.

(1/784)

الأنصاري(1). وقد امتدحته الأستاذة الأديبة الشاعرة سارة بنت أحمد بن عثمان الجلبية لاهتمامه وحبه للعلم والعلماء، إذ قدمت سبتة في أواخر القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. ومما خاطبت به أبا حاتم:

بشراك يا نفس نلت السؤل والأملا ... ... وعاد دهرك بعد الجور قد عدلا

ونلت ما كنت طول الدهر تأمله ... ... وعنك أضحى العناد والبؤس مرتحلا

وقد وصلت إلى بحر الندى علم الهدى ... ... أبي حاتم ابن السادة الفضلا

__________

(1) المصدر نفسه، ج3، صص.200-201.

(1/785)

هو الذي صدره للعلم منشرح ... ... وأودع الله فيه علم ما جهلا(1)

... أما أخوه الأمير أبو طالب بن أبي القاسم العزفي، فكان من أهل الجلالة والصيانة، حافظا للقرآن والحديث، عالما بالتاريخ، تتلمذ على يد الأستاذ أبي الحسين بن أبي ربيع(2).

... وكان ابنه الأمير يحيى بن أبي طالب العزفي يجمع في شخصه اهتمامات علمية كبيرة. فقد كان فقيها فاضلا، عارفا بالأصول والفقه والحديث،

__________

(1) ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، صص.522-525.

(2) ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، صص.433؛ الأنصاري، المصدر السابق، ص.54، هامش 112..

(1/786)

واللغة والمنطق(1)، ومتتبعا طريقة أصحاب الحديث رواية وضبطا وتقييدا وتخريجا مع براعة في الخط، وكان شاعرا مجيدا ذا فكاهة. وقد تتلمذ على يد مشايخ في سبتة وخارجها قراءة وسماعا وإجازة. فممن أخذ منهم من أهل سبتة أبو إسحاق التلمساني، ومن الجزيرة الخضراء أبو جعفر بن الخميس(2).

... وسار ابنه الأمير أبو القاسم محمد بن يحيى... العزفي على سيرة والده حيث كان فقيها وشاعرا مكثرا، مليح الفكاهات وشاحا. وقد بز أهل زمانه في

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، صص.377-378.

(2) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج4، ص.341.

(1/787)

الموشحات؛ إذ روي عنه أنه أراق الدواة في محفل جليل فتدارك فعلته حيث قال:

ألا يا كرام الناس غضوا جفونكم ... ... فإني من الفعل القبيح مريب

هرقت دواة وهي كالكأس بينكم ... ... وللرضى من كأس الكرام نصيب(1)

... وقد درس الطب ودون فيه، ووصف أنه كان من أهل الظرف والبراعة والطبع المعين، والذكاء المتوقد(2).

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، صص.378؛ ابن تاويت، "الوافي بالأدب العربي"، ج2، ص.409.

(2) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج2، صص.11-12؛ ابن القاضي، المصدر السابق، ج1، ص.200..

(1/788)

... انتقل من سبتة إلى غرناطة بعد أن خلع عن حكمها سنة 720هـ/1220م، وهناك اشتهر أدبه، لكنه لم يطل المقام حيث عاد إلى المغرب واستقر في فاس وعمل في الخطط الفقهية وكتب عن ملوك بني مرين(1).

... ومن نظم شعره ما قاله في قاضي مدينة فاس محمد بن عبد الرزاق الجزدلي:

وليت بفاس أمور القضا ... ... فأحدثت فيها أمورا شنيعه

فتحت لنفسك باب الفتوح ... ... وغلقت للناس باب الشريعه

__________

(1) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج3، صص.11-12؛ ابن القاضي، المصدر السابق، ج1، ص.200؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.278.

(1/789)

فبادر مولى الورى فاس ... ... بعزلك عنها قبيل الذريعه

... ومن شعره قصيدة على قافية لام الألف من سبعة وسبعين بيتا وضعها للأمير المريني أبي سالم ومطلعها:

إذا لم أطق نحو نجد وصولا ... ... بعثت الفؤاد النهار سؤولا

وكم حل قلبي رهينا بها ... ... غداة نوى الركب فيها النزولا(1)

... أما ابنه الأمير محمد بن محمد بن يحيى العزفي المكنى بأبي يحيى، فكان محبا لسماع الشعر ونظمه وكان صحبته بفاس في

__________

(1) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج3، صص.12-14؛ ابن القاضي، المصدر السابق، ج1، ص.300؛ المنوني، المرجع السابق، ص.273.

(1/790)

حضرة ملوك بني مرين. ومن شعره قصيدة تائية في بحر الكامل في أربعين بيتا رفعها لأبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، بمدينة تلمسان حيث دخلها وفر حاكمها أمامه ومطلعها:

حن الشوق إلى ديار أحبته ... ... فسقى الثرى شوقا لذاك بدمعته

وامتازه وجدا هبوب نسيما ... ... لما سرى بيديه طيب تحيته(1)

... وكان الأمير عبد الرحمن بن أبي طالب بن أبي القاسم العزفي المكنى بأبي القاسم فقيها ومحدثا، روى عن أبي جعفر بن الزبير، والقاضي ابن عبد

__________

(1) ابن القاضي، المصدر السابق، ج1، ص.307؛ المنوني، المرجع السابق، ص.274.

(1/791)

الملك، وابن خميس وغيرهم. وقد ألف كتابا بعنوان "الإشادة بذكر المشتهرين من المتأخرين بالإفادة"(1) لذي الوزارتين أبي عبد الله محمد بن الحكيم الغرناطي(2)

__________

(1) ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، ص.398؛ المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.359؛ وانظر: ابن تاويت، "الوافي بالأدب العربي"، ج2، ص.402.

(2) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن سعيد بن محمد بن فتوح بن محمد بن أيوب بن محمد اللخمي، من أهل رنده، عرف بابن الحكيم لأن جد والده كان علاما بالطب، وكان ابن الحكيم على قدر كبير من الفضيلة ومكارم الأخلاق، محبا للعلم والعلماء، حيث كان كاتبا بليغا، أديبا، شاعرا، خطاطا، خطيبا. انظر المقري، "أزهار الرياض"، ج2، صص.340-341.

(1/792)

. ولكن هذا الكتاب لم يصلنا وعد من الكتب المفقودة. ولو كان موجودا لقدم لنا ترجمة لجمهرة كبيرة من رجال القرن السابع، وأوائل القرن الثامن الهجري، مغاربة وأندلسيين، إذ لا يعرف من كتابه هذا إلا بعض التراجم التي نقلت عنه(1).

... وممن ترجم له في كتابه هذا، الشاعر ابن الخبازة الخطابي الذي قدم له ترجمة تعد من أوفى التراجم(2). وقدم ترجمة لقاضي الموحدين أبي حفص الأغماتي؛ إذ أشاد بمكانته والثناء عليه، ووصفه بالعلم والفضل والعدل في

__________

(1) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.378.

(2) المصدر نفسه، ج2، صص.378-379.

(1/793)

القضاء إلى جانب براعته في نظمه للشعر والنثر، وتطرق إلى يائيته الشهيرة التي ذكر فيها مدحه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر شمائله الكريمة ومعجزاته الباهرة، بأبيات تربو على ثلاثين ومئة بيت، وذكر أيضا مرثيته الرائية لابن الوزيريين الجد في خمسة وأربعين بيتا وغير ذلك كثير(1). وترجم لأخيه أبي العباس أحمد العزفي فقال فيه: "هو أخي الذي بإخائه أزهى وأنتخي، وكبيري المعتمد بإجلالي وتوقيري. ولولا خوفي من أن يلزمني ما لزم مادح نفسه،

__________

(1) المصدر نفسه، ص.379؛ ابن تاويت، "الوافي بالأدب العربي"، ج2، ص.402.

(1/794)

لأطنبت في وصف ما له من المحاسن التي فاق بها أبناء جنسه..." (1)، وأورد له أشعارا منها ما قاله من مدح الوزير ابن الحكيم:

ملكت رقي بالجمال فاجمل ... ... وحكمت في قلبي بجورك فاعدل

أنت الأمير على الملاح ومن يجر ... ... ه في حكمه إلا جفونك يعزل

إن قيل أنت البدر فالفضل الذي ... ... لك بالكمال ونقصه لم يجهل(2)

... كما أورد ابن القاضي أبيات شعر خاطب بها أبا العباس العزفي حاكم غرناطة عند تغريبهم من سبتة إليها حيث قال:

__________

(1) ابن القاضي، المصدر السابق، ج2، ص.398.

(2) المقري، "أزهار الرياض"، ج2، ص.357.

(1/795)

لكم حمى في فؤاد غير مقروب ... ... فضائع في هواكم كل تأنيب

إن كان ما ساءني مما يسركم ... ... فعذبوا فقد استعذبت تعذيبي

... وأورد شعرا في حنينه إلى وطنه حيث قال:

لي في سبتة سكن ... ... حبه اضغلي سكن

فهو يزداد جده ... ... مع إبلائه الزمن

أصبح القلب عنده ... ... وبغرناطة البدن(1)

... وقد مدح العزفيون من حل بسبتة. ومنهم الشاعرة الأديبة سارة بنت أحمد بن عثمان، ومما خاطبت به الأمير أبا طالب عبد الله العزفي قولها:

__________

(1) "جذوة الاقتباس"، ج2، ص.399.

(1/796)

مولاي بو طالب يا معدن الحكم ... ... وكعبة المجد والعلياء والكرم

ومن له شرف من تحته زحل ... ... أنوار سؤدده نار على علم

بان الرشاد بكم في الخلق قاطبة ... ... ولم يكن قبلكم إلا أخا عدم(1)

... ومن الشعراء الذين مدحوا العزفيين ابن خميس التلمساني حيث قال:

بنو العزفيين الأولى من صدورهم ... ... وأيديهم تملأ القراطيس والطرخ

رياسة أخيار وملك أفاضل ... ... كرام لهم في كل صالحة رضخ

__________

(1) المصدر نفسه، ج2، صص.525-527.

(1/797)

إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ... ... علينا وإن حلت بنا شدة رخوا(1)

سقوط إمارة العزفيين:

... بعد وفاة الأمير أبي زكريا يحيى بن أبي طالب العزفي سنة 719هـ/1319م، تولى الحكم ابنه الأمير أبو القاسم محمد بن أبي زكريا العزفي، لكنه لم يدم طويلا في حكمه إذ خلغ سنة 720هـ/1220م، وانتقل إلى غرناطة(2) وسيطر على الإمارة ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم الذي خلف يحيى الرنداحي

__________

(1) الأنصاري، المصدر السابق، ص.114.

(2) ابن الخطيب، المصدر السابق، ج3، صص.11-12، هامش 2؛ ابن الخطيب، المصدر السابق، ج2، ص.378.

(1/798)

في قيادة الأساطيل لسبتة. وقد عمت الفوضى واضطربت أحوال سبتة في عهده، فانتهز السلطان المريني أبو سعيد الفرصة، وجهز جيشا قاده بنفسه وتوجه نحو سبتة، فتمكن من احتلالها، وذلك في سنة 728هـ/1327م. فبادر بنو العزفي وجموع أهالي سبتة بتقديم فروض الطاعة والولاء للسلطان أبي سعيد الذي قام بتعيين كبار رجالاته وخواص مجلسه في إدارتها، إذ عين حاجبه عامر بن فتح مدين العثماني على جبايتها، والنظر في مبانيها وإخراج الأموال للنفقات فيها وكافأ الملأ من مشيختها بتقديم الهدايا والإقطاعات لهم، ثم عاد إلى عاصمته سنة

(1/799)

729هـ/1328م(1).

... وبذلك انتهى دور هذه الإمارة في سبتة التي استمرت ما يقارب قرنا من الزمن، تأرجح حكم العزفيين فيها بين القوة والضعف، مما أثر على طبيعة العلاقة بينهم وبين الدولة المرينية، تلك العلاقة التي تأرجحت هي أيضا بين علاقة استقلال وتعاون وعلاقة طاعة وتبعية.

... وجمع العزفيون بين العلم والسياسة في حكمهم إمارة سبتة، وبرز فيهم العديد من رجالات اللغة والأدب والفقه، مما انعكس إيجابا على مجمل النشاط العلمي ورعايتهم المتميزة للعلم والعلماء في هذه الإمارة.

__________

(1) الناصري، المصدر السابق، ج3، ص.115.

(1/800)

(1)

وفي عهد ألفونسو السابع تولى أسقفية طليطلة الأسقف ريموند (526-547هـ/ 1131-1152م). فقام هذا الأسقف بدور كبير في ازدهار الترجمة نقل كثيرا من الآثار العربية إلى اللاتينية، وتولى بعنايته طائفة من المترجمين والكتاب عرفت في التاريخ بمدرسة المترجمين الطليطليين، وكان كثيرا ما يحفزهم على العمل ويشجعهم على الترجمة ويبذل لهم على ذلك الصلات والعطايا الجزيلة. فتم عن طريق هؤلاء المترجمين ترجمة مقدار ضخم من التراث العلمي الإسلامي في الفلك والطب والكيمياء والطبيعة والمنطق والرياضيات والأدب وغيرها(2)

__________

(2) سعد بن عبد الله البشري، "الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس"، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414هـ/1993م، صص.540-541.

(1/801)

.

... وقد ساعدت هذه الجمعية على دفع عجلة الترجمة، وتركت أثرا واضحا للطب الإسلامي في أوربا اللاتينية، وبدأت تظهر جامعات أوربية تعنى بالطب الإسلامي مثل جامعة نابولي وباريس وبولونيا وغيرها. وفي هذه الجامعات لمعت أسماء الأطباء المسلمين الرازي وابن سينا والزهراوي، وأصبحت كتبهم مراجع أساسية لطلاب هذه الجامعات وأساتذتها. وصارت الأدوية والوصفات الطبية وأدوات الجراحة الإسلامية متداولة في أروقة هذه الجامعات حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.

(1/802)

... وفي القرن الثاني عشر الميلادي بلغت حركة الترجمة من العربية غايتها من النشاط، فترجم عدد كبير من الكتب الطبية المشهورة، أو أعيد ترجمة الكتب التي كان ترجمها قسطنطين الإفريقي ترجمة رديئة أو ناقصة. وكانت معظمها على يد أشهر المترجمين الأوربيين وأكثرهم نشاطا وهو جيرارد الكريموني (1114-1187م) الإيطالي الذي جاء إلى طليطلة وانضم إلى مجموعة المترجمين الذين كانوا تحت رعاية رئيس أساقفتها ريموند. ومن هؤلاء المترجمين ماركوس الطليطلي، وغنديسلاوي، ويوحنا الإشبيلي؛ ومن الأجانب روبرت الرتيني، وأديلارد الباثي،

(1/803)

وألبرت، ودانيال مورلي وهرمان الدلماشي، وكانت طليطلة قد سقطت في أيدي النصارى الإسبان في سنة 1085م، فنشطت فيها حركة الترجمة المنظمة. وعرفت هذه الحركة بمدرسة طليطلة. وجاء إليها بعض العلماء الإنجليز والطليان والألمان، ليتعلموا العربية وينهلوا من منهل الثقافة العربية فيها.

... فمما ترجم جيرارد الكريموني من كتب الطب، "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" (قسم الجراحة) للطبيب الجراح الأندلسي أبي القاسم الزهراوي، وكان كتابا تعليميا زهاء خمسة قرون في أوربا، وكتاب "التذكرة في طب

(1/804)

العيون وجراحتها" لعلي ابن عيسى الكحال الدمشقي، وعرف هذا المؤلف في أوربا اللاتينية باسم Haly، وترجم معه كتاب عمار الموصلي في طب العيون أيضا، وقد استخدما معا في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر، وكتاب "المنصوري" للرازي، وقد ذاعت المقالة العاشرة منه عن الحميات ذيوعا كبيرا في أوربا، وطبعت عدة مرات(1). وقد بلغ ما ترجمه جيرارد زهاء مائة كتاب ويقال بأن بعضها من نتاج تلاميذه، وبعضها

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب ودورهم في الحضارة العالمية"، الرياض، دار المريخ 1407هـ/1987، صص.111-112.

(1/805)

بالاشتراك مع غيره خاصة غالب (Gallipus)(1)، وهو مستغرب وكان نزيها وذا كفاءة عالية في الترجمة وحسن الاختيار للكتب التي ترجمها. وكان موسوعيا في الترجمة حيث قام أيضا بترجمة كتب في الطب كالفلك والرياضيات والأدب.

... وظل حال الترجمة في طليطلة على هذا الوضع حتى القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي)، حيث ظهر الملك ألفونسو الحكيم (650-683هـ/1252-1284م) الذي قام بجهود جبارة في الترجمة والاقتباس عن العلوم والمعارف العربية إلى اللغتين اللاتينية

__________

(1) سعد البشري، المرجع السابق، صص.542-543.

(1/806)

والقشتالية.

... وكان يعمل لديه عدد من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وقد أنشأ ألفونسو الحكيم معهدا للدراسات اللاتينية العربية سنة 652هـ/1254م في إشبيلية؛ كما اتجه اهتمام ألفونسو الحكيم إلى تدوين واسع للأحداث العامة تحت نظره، وكان اعتماده في ذلك على مصادر التاريخ العربي ووثائقه، كما ركز جهده على ترجمة المصنفات والآثار العلمية في الفلك(1).

... وفي القرن الثالث عشر الميلادي ترجم فرج بن سالم أشهر الكتب الطبية العربية وأوسعها بعد "القانون" لابن سينا، وهو كتاب "الحاوي"

__________

(1) المرجع نفسه، ص.543.

(1/807)

لأبي بكر الرازي، كما ترجم في هذا القرن كتاب "التيسير في المداواة والتدبير" لابن زهر الأندلسي الذي كان أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في العصر الموحدي الذي شهد نهضة طبية رائدة؛ وهو الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة 557هـ والذي ترك لنا مؤلفات جليلة مشهورة كان من أبرزها هذا الكتاب الذي ركز فيه على فكرة أن التجربة خير وسيلة لاكتشاف الأمراض وعلاجها، مما قاده إلى الخروج بآراء مبتكرة تقوم على الحقائق الثابتة. وقد تنبه الأوربيون لأهمية هذا الكتاب منذ القرن الثالث عشر

(1/808)

الميلادي، حيث ترجم إلى العبرية أولا ثم إلى اللاتينية. وصار هذا الكتاب أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي(1)، وكان قد ترجمه جون الكابوني (John of Capoa). ومن أهم الكتب الطبية العربية التي ترجمت خارج إسبانيا كتاب "الكليات" لابن رشد الفيلسوف الطبيب الأندلسي المشهور، وقد ترجمه أحد المترجمين غير المشهورين،

__________

(1) يوسف بن علي العريني، "الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي"، الرياض، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1416هـ، صص.332-335.

(1/809)

بوناكوسا (Bonacosa) من بادوا (Padua) بإيطاليا سنة 1255م بعنوان (Colliget) وفصوله عن التنفس تمتاز بالنقد الأصيل لنظرية جالينوس(1).

... ولم يكد القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يؤذن بالزوال حتى انتهى العصر الذهبي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، وإن بقيت الترجمة حتى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي قائمة. غير أن ما ترجم حتى نهاية القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يعتبر بحق مفتاح النهضة الحضارية والازدهار العلمي والفكري

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، صص.112-113.

(1/810)

لأوربا(1).

... وجدير بنا أن نتحدث هنا عن تلك المدرسة الطبية التي أدت دورا مهما في نقل ألوان التراث الطبي العربي الإسلامي إلى أوربا. وهذه المدرسة هي مدرسة مونبيليه بجنوب فرنسا. وقد ذاعت شهرتها في دراسة الطب منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وكان يعيش بهذه المدينة التي تنتسب إليها المدرسة طوائف كبيرة من العرب واليهود بالإضافة إلى المسيحيين الذين يجيدون اللغة العربية. وفي ظل شيء من التسامح الديني، عاشت تلك الطوائف معا في خدمة العلم وترجمة كتب الطب

__________

(1) سعد البشري، المرجع السابق، ص.543.

(1/811)

العربية وتدريسها. وكان لهذه المدرسة في أوائل القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي روابط وصلات متينة مع مراكز الطب العربية في جنوب الأندلس، وهو ما يؤكد عظم المهمة التي تولتها هذه المدرسة في نشر المعارف الطبية العربية في أوربا(1).

... وقد قام بتأسيس هذه المدرسة الكاردينال كونراد سنة 1220م ونظمها على شبه مدارس الطب الإسلامية. واحتل الطب الإسلامي مركز الصدارة في برنامج التدريس فيها طيلة القرن الثالث عشر والرابع عشر، فكان الأساتذة يشرحون كتب ابن سينا والرازي وأبي القاسم

__________

(1) المرجع السابق، ص.546.

(1/812)

الزهراوي. وكانت هذه المدرسة على اتصال دائم بالمدارس العربية في جنوب إسبانيا، الأمر الذي يؤكد التأثير الفاعل لمدرسة مونبليه على تطور الطب الأوربي على الطريقة العربية(1).

... ولعل أهم ما تميزت به هذه المدرسة الطبية الشهيرة ما ضمته من مخطوطات طبية عربية كثيرة في الوقت الذي لم يكن في مكتبة جامعة باريس سوى تسعة كتب طبية أهمها "الحاوي" للطبيب المشرقي الرازي.

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين: تاريخ ومساهمات"، جدة، الدار السعودية، 1407هـ/1987، ص.383.

(1/813)

... وكان لما صنفه بعض أطباء الأندلس أثر عظيم في ازدهار الدراسات الطبية في أوربا. فمنهم الطبيب والصيدلي عبد الرحمن بن وافد (كان حيا سنة 460هـ/1067م) والذي عرف عند الأوربيين بابن ويفيت (Eben Guefith) وبأسماء أخرى مشابهة. وكان من أعظم الأطباء والصيادلة الذين أثروا حقل الطب بدراساتهم العلمية القيمة. فكتابه الشهير عن الأدوية المفردة لقي إقبالا عظيما من أهل عصره ومن بعدهم من مسلمين وأوربيين في القرن السادس والسابع الهجريين/الثاني عشر الميلادي، وترجم إلى اللاتينية والعبرية والقطلانية وأفادوا منه في

(1/814)

علم الصيدلة وتركيب الأدوية وصناعة العقاقير(1).

ثانيا: طريق جزيرة صقلية

... وهي الطريق الثاني لانتقال العلوم الإسلامية إلى أوربا حيث كانت تلك الجزيرة تنعم بالرقي والتقدم العلمي في ظل الحضارة الإسلامية، وكانت مركزا من مراكز الثقافة الإسلامية.

... وكانت قبلها صقلية تعيش حالة من التأخر والجهل إلى أن افتتحها المسلمون سنة 212هـ/877م على يد الأغالبة بقيادة القائد المسلم أسد بن الفرات، فوفدوا إليها بعقلياتهم وثقافاتهم ومذاهبهم وحملوا معهم إليها طائفة من الكتب

__________

(1) سعيد البشري، المرجع السابق، ص.547.

(1/815)

العربية أو المنقولة إلى العربية متنوعة في ثقافاتها. ومن هنا بدأ التلاقح الفكري. فما هي إلا فترة قصيرة استراحت فيها بعض الراحة من الحروب والفتن حتى أنتجت إنتاجا متنوعا في الفقه والحديث واللغة والفلسفة والطبيعة والطب والهندسة والنجوم، وكان ذلك في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للهجرة.

... وقد استمر الحكم الإسلامي في صقلية إلى سنة 848هـ عندما سقطت في أيدي النورمان الذين ساروا على نهج المسلمين في التسامح وتنشيط الحركة العقلية في الجزيرة، فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا

(1/816)

فريقا كبيرا منهم في حروبهم وحاشيتهم. فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في الدولة الجديدة؛ وظلت اللغة العربية لغة رسمية في الجزيرة طوال حكم النورمان، بل لقد تعلم هؤلاء العربية؛ ومنهم من برز فيها ونظم الأشعار. وتخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في التسامح الديني والسياسي، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بالإسلام، وما زالوا حتى قضوا عليهم بهذه التهمة الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة(1)

__________

(1) محمد عبد الرحمن مرحبا، "الموجز في تاريخ العلوم عند العرب"، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1970، ص.238.

(1/817)

.

... وكان للموقع الجغرافي الفريد الذي تتمتع به جزيرة صقلية عظيم الأثر في قيامها في مهمة نقل التراث الإسلامي إلى أوربا، حيث كانت صقلية وعلى الأخص عاصمتها "بالرمو" أكثر مدنها ازدهارا وتألقا ونقلا للعلوم الإسلامية وخاصة إلى جنوب أوربا (إيطاليا وفرنسا).

... وفي بالرم (Palerme) التي اتخذها المسلمون عاصمة لهم في صقلية أنشأوا مدرسة للطب لم يعد مثلها في العالم اللاتيني آنذاك. وعلى غرار هذه المدرسة، أنشئت مدارس للطب في بلاد إيطاليا(1).

__________

(1) المرجع نفسه.

(1/818)

... في القرن الثاني عشر الميلادي أسس روجر في جزيرة صقلية أول كلية طب في أوربا قامت بتدريس طلاب الطب ومنحهم شهادات بعد التخرج تؤهلهم لممارسة مهنة الطب.

... وقد تركز أثر صقلية على أوربا في الترجمة والنقل من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية باختلافها حيث تصدت طائفة من المترجمين في صقلية لنقل التراث الإسلامي إلى أوربا في مقدمة هؤلاء قسطنطين الإفريقي الذي كان رائدا من رواد نقل التراث في القرن الحادي عشر، وقسطنطين الإفريقي (1020-1087م) عربي الأصل ولد في قرطاجة بتونس وساح في البلاد العربية حيث أتقن

(1/819)

اللغة العربية بجانب معرفته اللغة اللاتينية واليونانية. وانتقل إلى إيطاليا حيث اتصل بجيزوفلو، أمير مدينة سالرنو، وبأخيه الطيب. ثم أمضى معظم حياته في دير مونت كاسينو حيث قام بترجمة الكتب العربية وبالتأليف. عمل بعض الوقت في مدرسة سالرنو الطبية، فأثر فيها تأثيرا بالغا بترجمته عددا من الكتب الطبية اللاتينية، وإدخاله التعليم الطبي العربي فيها كما أنه كان يكتب أيضا في القانون الصحي الذي كان يحرره عدد من أساتذة مدرسة سالرنو. ويذهب البعض إلى أنه كان قد أسلم ولكنه كتم دينه خوفا من الاضطهاد الذي كان سائدا

(1/820)

ضد الإسلام والمدنية العربية خلال الحروب الصليبية. وظهرت أول طبعة من كتبه في بازل سنة 1537م في سبعة أجزاء. كما ترجم قسطنطين الإفريقي عددا من الكتب الطبية العربية التي كان قد أتى بها من الشمال الإفريقي والشرق العربي إلى الحكام النورمان الجدد في سالرنو. فتفرغ لترجمة هذه الكتب في دير بإيطاليا، ومنها "كتاب كامل الصناعة" لعلي بن العباس المجوسي طبيب عضد الدولة البويهي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)(1)

__________

(1) كتاب "الملكي"، أو "كامل الصناعة الطبية"، كتاب جليل في الطب كان أساسا لتدريب الطب إلى أن ظهر "القانون" لابن سينا. وهو يفرق عن "القانون" في أن مؤلفه علي بن عباس "اعتمد فيه على مشاهداته العلمية في المستشفيات لا على مجرد الدراسة النظرية. لذا يقول العلماء إن "الملكي" في العمل أبلغ؛ و"القانون" في العلم أثبت. ويتميز هذا الكتاب بمقالتيه الأولى والثانية والمشتملتين على فصول رائعة في التشريح كانت مرجعا لعلم التشريح في سالرنو بإيطاليا مدة من الزمن" (الماحي، "مقدمة في تاريخ الطب العربي"، ص.83).

(1/821)

. وقد عرف هذا الكتاب في أوربا باسم "الكتاب الملكي". وقد قام قسطنطين بتدريس هذا الكتاب في ترجمته اللاتينية بالجامعة الطبية في سالرنو التي تخرج منها(1). كما ترجم كتاب "زاد المسافر" لابن الجزار القيرواني (ت395هـ/1004م) وعرف الكتاب باللاتينية "Liber Regius"(2).

__________

(1) عبد الحليم منتصر، "تاريخ العلوم ودور العلماء في تقدمه"، القاهرة، دار المعارف، 1980، ص.230.

(2) توفيق الطويل، "الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية. دراسة مقارنة"، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، ص.157.

(1/822)

... وترجم أيضا كتب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي في البول والحميات وكتب الرازي وكتاب "طب العيون" لحنين بن إسحاق وغيرها، وقيل إنه ترجم ما يقرب من سبعين كتابا طبيا من العربية، نسب بعضها إلى أطباء يونانيين. كما أصبحت بعد ذلك من الكتب التي كانت تدرس في جامعة مونبليه المشهورة بدراساتها الطبية بالإضافة إلى كتب طبية عربية أخرى مهمة ترجمت في القرن التالي(1). وكان قسطنطين أول وسيط لنقل العلوم الإسلامية إلى أوربا عن هذا الطريق، وظل تأثير قسطنين يتزايد

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، ص.111.

(1/823)

-بفعل تلامذته- وبتأثير مدرسة سالرنو بوجه أخص -لأن تأثيرها سرعان ما امتد إلى أنحاء أوربا كلها(1).

... كما نبغ عدد من المترجمين في صقلية، منهم فرج بن سليم اليهودي المعروف عند الغرب باسم فراجوت أو فراريوس الذي ترجم كتاب "الحاوي" للرازي ترجمة رائعة انتهى منها سنة 1289م(2) وترجم أيضا "تقويم الأبدان" لابن جزلة

__________

(1) توفيق الطويل، المرجع السابق، ص.157.

(2) ماكس مايرهوف، "العلوم والطب"، ضمن مجلد "تراث الإسلام"، إشراف، توماس أرنولد، تعريب وتعليق جرجيس فتح الله، ط3، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص.499.

(1/824)

البغدادي. كما ترجم كتاب "الطب التجريبي" لجالينوس.

... وعن هذه الجهود جميعا نشأت مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا التي ركزت على دراسة الطب، وكانت مركز إشعاع لعلم الطب في جنوب إيطاليا حيث ازدهر الطب العربي على يد أساتذة من العرب وغيرهم في أواخر القرن الحادي عشر. وبفضل عدد من المترجمين الأكفاء أمست هذه المدرسة معينا لا ينضب للثقافة والعلوم العربية ودعامة صلبة للنهضة العلمية الأوربية وبرزت مدرستها الطبية سنة 985م.

(1/825)

وألفت كتب طبية في سالرنو أظهرت أن أطباءها لم يمتصوا المعلومات الحديثة العربية فقط، بل تمكنوا من توسيعها. وأهم مؤلفات مدرسة سالرنو هو "الموجز السالرني" و"النظام الصحي السالرني" (Regimen Satiates Salenitonum) الذي يبدو أنه ألف حوالي سنة 1100م، وهو قصيدة من 352 بيتا في الأصل. وأشهر شرح لها هو شرح أرنولد فلانوفا (Arnold of Villanova) (1235-1312م)، وهو طبيب وأديب من كاتلونيا أتقن العربية وترجم منها وألف باللاتينية. واشتهر من طلاب سالرنو مايكل سكوت [Michael Scot] (1175-1236م) الذي تضمنت إحدى وصفاته

(1/826)

التخدير بالاستنشاق(1).

... من شواهد التأثير الفاعل للثقافة العربية في إيطاليا في تلك الحقبة إنشاء مدرسة لتعليم اللغة العربية في جنوا وإدخال كثير من الألفاظ والاصطلاحات العربية إلى اللغة الإيطالية. وكان تسامح الحكام المسلمين في صقلية كعادتهم في كل مكان حلوا فيع، عاملا مباشرا في ازدهار الثقافة والفنون والعلوم فيها، حيث شملت لغات العالم العلمية الثلاث في ذلك الزمان وهي اللاتينية واليونانية والعربية. وتم نقل المؤلفات من لغة إلى

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.385-388.

(1/827)

أخرى، وبذلك أصبحت صقلية خير نموذج لامتزاج الثقافات وصاحبة مدنية لاتينية يونانية عربية فريدة.

... وهكذا كانت صقلية تحت الحكم الإسلامي مسرحا لنقل الحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب على الأخص إلى أوربا.

ثالثا: طريق الحروب الصليبية في الشرق

... بالقدر الذي بلغ فيه علم الطب عند المسلمين درجة عالية من التطور والرقي، وخاصة في بلاد الشام ومصر زمن الحروب الصليبية، كان الصليبيون وقتها في مستوى متدن للغاية حتى أن الطب كان عبارة عن خرافات وشعوذة. وما رواه أسامة بن منقذ يظهر لنا مدى التدني الذي كان عليه طب

(1/828)

الصليبيين. فمن المعروف أن أسامة كان شاهد عيان اختلط بالصليبيين، ولذلك يعد حديثه عنهم حجة لها أهميتها. فقد روى أن جيلوم بوبور أخبره أثناء رحلة من عكا إلى طبرية برفقة معين الدين أنر عن فارس في أوربا مرض مرضا شديدا، فجيء إليه بقس كبير فوضع عليه يديه، وكان الحاضرون يتوقعون شفاءه فور قدوم القس. غير أن القس طلب شمعا ولينه، وعمله مثل عقد الإصبع ووضع كل واحدة في جانب أنفه فمات. وما كان من القس إلا أن التفت إليهم وقال سددت أنفه حتى يموت فيستريح(1)

__________

(1) أبو المظفر أسامة بن مرشد الشيرازي (ت584هـ-1188م)، "الاعتبار" حرره فيليب حتي، مطبعة جامعة برنستون، 1930، صص.137-138.

(1/829)

.

... ومثل هذا الموقف الذي يحدث من جانب الصليبيين جعلهم يقدرون الطب عند أهل الشام ومصر، ويفضلون أطباء المسلمين على أطبائهم، على الرغم من معارضة رجال الكنيسة وعلى رأسهم برنار دي كليرفو الذي كان أحد معاصري أسامة بن منقذ وكان يؤمن بالمعجزات الشفائية، لذلك حرم على رهبانه الذين يداهمه المرض أن يتناولوا أي نوه من أنواع الأدوية، أو أن يتصلوا بالأطباء؛ لأنه يجدر بهم حسب رأيه أن يموتوا دون أن تعبث بهم العقاقير.

(1/830)

... ولم تكن هذه المعتقدات نابعة من برنار وأمثاله، بل كانت متأصلة في الزعي الديني عند النصارى آنذاك، الذين يعتبرون المرض نوعا من الجزاء والعقاب الإلهي لا يصح للإنسان أن يتسبب في علاجه والبرء منه(1).

... وعلى الرغم من هذا الاعتقاد، فقد كان تقدير الصليبيين لأطباء مصر والشام كبيرا. وخير مثل على هذا ما حدث عندما أصيب بودوان بن عموري ملك بيت المقدس بالجذام. فقد استقدم عموري طبيبا من الديار المصرية هو داود بن

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي"، الرياض، 1415هـ/1994م، ص.118.

(1/831)

أبي المنى لمعالجة ابنه. وكان الأمراء الصليبيون يلجأون إلى أطباء المسلمين عندما يصاب أحد منهم بمرض، مما جعل وليم الصوري يقول بشيء من الأسى: "إن أمراءنا الشرقيين، تحت تأثير نسائهم، يزرون بالأدوية وبالوسائل الطبية اللاتينية ولا يؤمنون إلا بالأطباء اليهود والسامريين والسوريين والعرب"(1).

... وكان بعض الطلاب الأوربيين المحبين للمعرفة يفدون إلى الشام لدراسة الطب في مدرسة طرابلس. وكانوا يبدأون دراستهم بعد تعلمهم وإتقانهم اللغة العربية(2)

__________

(1) عبد الله الربيعي، المرجع السابق، ص.122.

(2) عمر عبد السلام تدمري، "الحياة الثقافية في طرابلس خلال العصور الوسطى"، بيروت، دار فلسطين، 1973، ص.69.

(1/832)

. وكان هؤلاء الطلاب يمارسون الطب بعد عودتهم بالمستوى الرفيع الذي وصلوا إليه. وقد طلب بعضهم من البابا إنوسنت الثالث أن يعمل على إقامة عدد من المشافي، فبادر في سنة 1204م بإنشاء مستشفى في روما سماه مستشفى الروح القدس. وأعقب هذا إنشاء عدد من المستشفيات على غراره في مختلف أنحاء أوربا. وقد وصل عدد هذه المستشفيات في القرن الثالث عشر الميلادي في ألمانيا وحدها إلى أكثر من مائة مستشفى. وفي فرنسا كثرت المستشفيات التي تعنى برعاية العجزة والفقراء. وفي عام 1260م أنشأ لويس التاسع في باريس ملجأ الثلاثمائة،

(1/833)

وكان في بداية الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أصبح مستشفى للرمد، والآن يعتبر من أهم المراكز الطبية في باريس. ومن المعروف أن الملك لويس كان قد قاد حملة إلى الشرق في عام 1249م. ولا شك أنه رأى في الشرق نماذج من المستشفيات، فعمد إلى إقامة مثيل لها في بلاده. أما في إنجلترا، فقد أنشئ مستشفى القديس بورثولميو في لندن في سنة 1123م، ويعتبر أقدم مستشفى في هذه البلاد. وفي عام 1215م أسس مستشفى القديس توماس في لندن(1).

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأدبي"، صص.123-124.

(1/834)

... وإضافة إلى الطلاب الذين كانوا يفدون إلى الشرق للدراسة، كان هناك أطباء يرافقون الحملات الحربية ويجدون في هذا فرصة للتزود من معارف الشرق، ولا سيما في مجال الطب من الناحيتين العلمية والعملية. وكان من هؤلاء جراح إيطالي يدعى هوج البولوني قدم إلى الشرق في عام 1218م ومكث ثلاث سنوات اطلع خلالها على طرق العلاج، واتصل بالأطباء ليكتسب الخبرة. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأى المستشفى العسكري المتنقل الذي يحمله أكثر من ثلاثين جملا. وأثناء حصار دمياط تعرف هوج على الطريقة التي يضمد بها المصابون؛ فقد تعلم

(1/835)

كيف تلف الجروح بخرق نظيفة ساخنة مبلولة بالخمر ثم تترك مدة أسبوع حتى تندمل(1).

... وقد أبدى هوج إعجابه بصفة خاصة بطريقة التخدير التي كان يتبعها الأطباء المسلمون قبل إجراء العمليات. وكان الأطباء المصريون يستعملون نبات الخشخاش والشوكران لتخدير المرضى. ورأى عملية تجبير الكسور التي تتم بطرق علمية لا تستخدم فيها آلات التعليب التي كانت متبعة في أوربا. وعندما عاد هوج إلى أوربا في عام 1221م، اهتم بنشر هذه الطرق والأساليب. وقد ترك بعد وفاته مدرسة

__________

(1) زيغريد هونكه، "شمس العرب تسطع على الغرب"، صص.300-301.

(1/836)

للجراحة في بولونيا، تولاها ابنه ثيودريك، الذي كان أبوه قد أوصاه بالاهتمام بتضميد الجروح على نحو ما تعلمه من العرب، واتباع طريقتهم في التخدير. وقد أثبت ثيودريك أنه خير خلف لأبيه؛ فلقد زاول مهنة الطب وألف كتابا في الجراحة ضمنه تعاليم أبيه الطبية، وبخاصة في هذا الحقل(1).

... وكانت الكنيسة قد حرمت ممارسة الجراحة بموجب مرسوم صدر في سنة 1163م. ولكن بعد أن أخذت الكتب الطبية المترجمة عن العربية تنتشر في أوربا وتأسست عدة مراكز

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي"، صص.124-126.

(1/837)

طبية على غرار مراكز الشرق، بدأ الاهتمام بالجراحة. وقد جاء في سجلات شارك دانجو، ملك صقلية، ذكر الكثير من المؤلفات اللاتينية المترجمة عن اللغة العربية. وقد رافق سَارْك أخاه لويس التاسع ملك فرنسا في حملته على مصر، وتسنى له الاتصال بالعلماء العرب، وقد عرف عنه أنه أسس مدرسة للترجمة(1).

... هذا، وقد تمت في الشرق ترجمة بعض الكتب العربية إلى اللاتينية. ومن أشهر هذه الترجمات ترجمة الكتاب الملكي "كامل الصناعة الطبية" الذي ألفه علي بن عباس المجوسي. وهذه الترجمة قام بها ستيفن

__________

(1) المرجع نفسه، صص.125-126.

(1/838)

الأنطاكي ستيفانو دبيزا أثناء وجوده في أنطاكية في سنة 1127م وسماه "الكتاب الملكي"، وهو العنوان الذي عرف به الكتاب في أوربا وقد ترجم هذا الكتاب تحت اسم "Liber Pantegni". الواقع أن هذه الترجمة إعادة للترجمة التي قام بها قسطنطين الإفريقي في دير مونتي كاسينو في إيطاليا في القرن الحادي عشر الميلادي، وقد قوى الأثر العربي في هذه جامعة سالرنو بإيطاليا بالمعلومات الطبية التي كان الصليبيون العائدون من الشرق يحملونها معهم، فكانت إلى جانب الكتب العربية رافدا من روافد التعليم الطبي في هذه الجامعة. وظلت

(1/839)

المقالتان الأولى والثالثة مرجعا لطلاب هذه الجامعة في علم التشريح مدة قرن من الزمان(1).

... وممن برز في نقل الطب إلى أوربا عبر هذا الطريق أدلار بات الذي اشتهر بنشاطه العلمي بين 1115 و1142م، حيث عاش في الشرق لسنوات عديدة وألف كتبا عديدة فيها الكثير من الآراء العلمية العربية؛ كما قام بترجمة عدد آخر من الكتب العربية إلى اللاتينية. وساهم المرضى والأطباء من المحاربين العائدين أيضا في نقل كثير من الوصفات الطبية العربية إلى الغرب، وكان المحيط الرئيس لهم لدى العودة مدينة

__________

(1) المرجع نفسه، صص.126-127.

(1/840)

سالرنو حيث أفاد في دفع الحركة الطبية في مدرستها. وعلى الرغم من كون تأثير الحروب الصليبية على الثقافة والطب لم يكن بحجم المعابر، فإن ذلك التأثير ظهر جليا في أوربا بعد القرن الثاني عشر بظهور المستشفيات والملاجئ التي أخذوها عن المشرق الإسلامي(1). إذ أنه يمكن أن نجزم بأن من أبرز الآثر الملموسة للطب الإسلامي في أوربا عن هذا الطريق هو تلك المستشفيات التي أخذت تنتشر في العواصم الأوربية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي حيث كان الشرق

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.390-391.

(1/841)

الإسلامي ميدانا لمشاهدة الأوربيين لتلك البيمارستانات المنتشرة عند المسلمين والتي بلغت حدا من الرقي والتقدم كالبيمارستان النوري والمنصوري بالقاهرة.

... ومن المعابر الثانوية:

... 1- الرحلات:

... كان من بين المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب بخاصة، إلى أوربا تلك الرحلات التي قام بها الأوربيون إلى عدد من مناطق العالم الإسلامي وبلاده. وكان الغرض الأساسي من هذه الرحلات هو التجارة والسياحة وتلقي العلوم. فعلى سبيل المثال ماركو بولو صاحب الرحلة السياحية المشهورة، وليوناردو دافنشي الذي

(1/842)

ولد في بيزا عام 1180م؛ وخلال عمله في التجارة في بجاية في الجزائر تعلم الحساب وزار طوروس وسبتة وتونس، وتردد على مكتبات الإسكندرية ودمشق، وناقش كبار العلماء في القاهرة، ودرس كل ما حوته مخطوطات كبار الرياضيين من الإغريق والهنود والعرب، فنبغ في ذلك؛ وبعد أن عاد إلى إيطاليا تنبه إليه القيصر فردريك الثاني وضمه إلى خلصائه من العلماء. فهناك ألف الكتب وعلم الغربيين الأرقام العربية والصفر العربي(1).

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.393.

(1/843)== 


... وقد أدرك كثير من الأوربيين أهمية الطب عند المسلمين ومدى ما وصلوا إليه من تطور في هذا المجال، فشرعوا في الرحلة إلى عدد من بلدان العالم الإسلامي والإقامة بها سنوات طويلة تعلموا خلالها اللغة العربية ودرسوا ما احتاجوا إليه من علوم ومنها علم الطب. وكان ممن رحل لهذا الغرض الطبيب الأنطاكي أندرياس ألباكوس (Andreas Alpaqus) (1450-1523م) الذي قضى أكثر من ثلاثين سنة في سوريا حيث ذهب خصيصا لدراسة اللغة العربية وللاطلاع على النصوص والمخطوطات العربية في أصولها، ثم عاد إلى بادوا وعين أستاذا للطب في

 

(1/844)

 

 

جامعتها، فترجم عددا من الكتب العربية إلى اللاتينية مع شروح على بعضها. وقد نشر قسم منها بعد وفاته، منها ترجمة شرح ابن النفيس للقسم الخامس من "قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، ونقح ترجمة جرارد الكريموني لـ"قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، وأعيد طبعه بعد ذلك مرات متعددة وبلغت طبعات "القانون" 36 طبعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وطبعت ترجمته لكتاب "الأدوية" لابن البيطار سنة 1602م. "ولكن من المؤكد أنه لم تطبع كل الكتب التي ترجمها ألباكوس لغرض النشر"(1).

__________

(1) المرجع نفسه، صص.392-393.

 

(1/845)

 

 

... وقد أصبحت نسخته من "شرح التشريح" لابن النفيس في مكتبة أسرة ناني (Nani) في البندقية. وقد اطلعت على فهرس المكتبة الذي أعده أستاذ اللغات الشرقية في جامعة بادوا سيموني أسماني (Simon Assemani)، ونشر سنة 1792م في بادوا. فإذا هو يحتوي على وصف النسخة التي كتبت سنة 734هـ/1333م، أي خمس وخمسين سنة بعد وفاة المؤلف ابن النفيس. وتقع في 306 صفحات. إن لوجود هذه النسخة أهمية كبرى في تاريخ اكتشاف الدورة الدموية(1).

... 2- البعثات العلمية:

__________

(1) محمود الجليلي، "تأثير الطب الغربي في الطب الأوربي"، صص.200-201.

 

(1/846)

 

 

... كما أن من ضمن المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة وعلم الطب بخاصة إلى أوربا، تلك البعثات العلمية التي يقوم بإرسالها بين الحين والآخر ملوك أوربا إلى الديار الإسلامية لدراسة علوم المسلمين ونقلها إلى اللغات الأوربية، ومنها علم الطب.

... ومن البعثات العلمية المبكرة التي أرسلت إلى العالم الإسلامي من أوربا تلك البعثات المتواصلة التي كانت تفد إلى الأندلس من الأقطار الأوربية كإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا حتى بلغت سنة 312هـ في عهد الخليفة الناصر زهاء سبعمائة طالب وطالبة. وكان من بين تلك

 

(1/847)

 

 

البعثات بعثة علمية فرنسية برئاسة الأمير إليزابث ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا آنذاك(1).

... كما أن فيليب ملك بافاريا بعث إلى الخليفة الأموي هاشم الثالث (حوالي سنة 403هـ) برسالة يستأذنه فيها أن يرسل بعثة من الطلاب والطالبات للاطلاع على النهضة العلمية التي تعيشها الأندلس للاستفادة منها والاقتباس عن حضارة الأندلس الراقية. وكان على رأس هذه البعثة وزير الملك المدعو ويلمبين الذي سماه العرب "وليم الأمين"، وكانت هذه

__________

(1) سعد البشري، "الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس"، صص.532-533.

 

(1/848)

 

 

البعثة تتألف من 215 طالبا وطالبة تم توزيعهم على حواضر العلم في الأندلس. وتذكر الروايات التاريخية أن ثمانية من أفراد هذه البعثة اعتنقوا الإسلام ومكثوا في الأندلس، ومن هؤلاء الثمانية ثلاث فتيات تزوجن بعدد من مشاهير رجال الأندلس(1).

... ويذكر التاريخ أن ملك إنجلترا جورج الثاني أرسل بعثة من بنات النبلاء والأشراف، وفي مقدمتهن الأميرة دوبانت ابنة أخيه، إلى الأندلس ووجه معهن خطابا إلى الخليفة الأموي يقول فيه: "أردنا لزبنائنا اقتباس

__________

(1) خليل السامرائي وآخرون، "تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس"، ص.376.

 

(1/849)

 

 

حضارتكم لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل"(1). كما يشير فؤاد سزكين إلى طريق آخر لنقل العلوم الإسلامية ومنها الطب إلى أوربا. ذلك هو الطريق الشفوي. إذ عمد عدد من الأوربيين منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبخاصة الذين لا يفهمون العربية، إلى الترجمة الشفوية لإنتاج العلماء المسلمين حيث كانوا يستفيدون من مؤلفات المسلمين دون أن تكون قد ترجمت إلى اللغات الأوربية أو أنها كتب ترجمت ثم خفيت ترجماتها على الناس(2)

__________

(1) سعد البشري، المرجع السابق، صص.533-534.

(2) "محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية"، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ألمانيا، 1404هـ/1984م، صص.128-129.

 

(1/850)

 

 

.

... هذا وقد تعددت مجالات التأثير في الطب الإسلامي على أوربا وشملت مختلف فروع الطب وجوانبه. إلا أنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب التي يمكن تلمس ذلك الأثر عن طريقها بصفة واضحة، ومنها:

... - الصيدلة:

... نشأت الصيدلة منذ زمن قديم وارتبطت ارتباطا وثيقا بعلم الطب، إذ كان الطبيب هو الذي يعد الدواء ويركبه للمرضى. ومع مرور الزمن وتشعب العقاقير وطرق تركيبها، ظهر التخصص في هذا العلم مع اتصاله الملح مع الطب. فالأسس والاحتياجات والمقادير يصنعها الطبيب، والصيدلي هو الذي يعمل على جمعها وتركيبها واختيار

 

(1/851)

 

 

الأجود من أنواعها.

... وقد برع المسلمون في تحضير وضع الضمادات والمساحيق والمراهم وتركيباتها، واكتشفوا أدوية جديدة منها: الكافور والصندل واللاوند والمسك والتمر هندي والحنظل، كما اخترعوا الكحول والمستحلبات والخلاصات العطرية، وهم أول من ابتكر الشراب الحلو المستخرج من نبات الكرنب مع السكر. وما زال الغرب يطلقون عليه كلمة (Syrop) وهي مأخوذة من كلمة "شراب" التي تردد في المصادر العربية.

... ولذا، فإن من المسلم به لدى المختصين في تاريخ العلوم أن المسلمين هم أول من جعل الصيدلة علما مستقلا، وعملوا على

 

(1/852)

 

 

تقدمه تقدما ملحوظا. وبذا تقول زيغريد هونكه حول مكانة الصيدلاني عند المسلمين:

لقد نقل العرب حقل محضر الدواء عن حقل واصفه وأوجدوا مهنة الصيدلاني الذي ارتفع إلى مركز عال بفضل علومه ومسؤولياته الخاصة. وكانوا أول من افتتح الصيدليات العامة، وذلك في العام الثمانين من القرن الثامن في ظل حكم الخليفة المنصور؛ كما أنهم ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به(1).

... ونما تبعا لذلك علم العقاقير أو الأقراباذين (Materia Medica) عند المسلمين نموا كبيرا حيث أكثروا من التأليف

__________

(1) "شمس العرب تسطع على الغرب"، ص.329.

 

(1/853)

 

 

في الأدوية المفردة من الأعشاب وغيرها، وفي الأدوية المركبة في صور مختلفة. وتضرب زيغريد هونكه مثالا من عمل ابن سينا في كتابه المشهور "القانون في الطب" الذي ذكر فيه ما ينوف على سبعمائة عقار أدخلت كلها في علم النبات وعلم الصيدلة للأوربيين. وظل الكثير منها بأسمائها العربية في اللغات العربية في اللغات الأجنبية كالعنبر والزعفران والكافور والمسك وعود الند والصندل والتمر هندي وغيرها(1).

__________

(1) جلال مظهر، "أثر الحضارة العربية على أوربا"، ص.272.

 

(1/854)

 

 

... واشتهر عدد من صيادلة العرب شهرة واسعة ونالت أعمالهم استحسانا كبيرا في أوربا. ومن هؤلاء ماسويه المارديني (المتوفى سنة 406هـ/1015م) الذي عاش في بغداد والقاهرة، وعرف في أوربا بماسويه الصغير أيضا، وله مؤلف ضخم في العقاقير في اثني عشر جزءا ترجم إلى اللاتينية وشاع واشتهر اشتهارا واسعا في أوربا اللاتينية، واستمر مدة قرون عديدة الكتاب المدرسي الأول في الصيدلة في أوربا(1).

__________

(1) أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، دمشق، دار الفكر، 1981، ص.144.

 

(1/855)

 

 

... وكان ممن برز في علم الصيدلة عند المسلمين الطبيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الملقب بابن وافد الطليطلي المتوفي سنة (467هـ/1074م). وكانت اهتماماته في الأدوية المفردة، وألف فيها كتابا ضاع أصله العربي، بينما هو موجود في ترجمته اللاتينية بعنوان Meineralibus Simplicibus. ويقدر تأثيره بأن طبع منه حوالي خمسين طبعة ملحقا بمؤلف ماسويه الصغير المذكور آنفا وانتشرت في مختلف أنحاء أوربا(1).

__________

(1) جلال مظهر، "أثر الحضارة العربية على أوربا"، ص.272.

 

(1/856)

 

 

... ومن أشهر وأوسع الكتب في الموضوع كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (ت698هـ/1298م). وقد ترجمت أجزاء من هذا الكتاب إلى اللاتينية وطبعت منذ 1598م في البندقية، ثم في باريس 1606م. والترجمة الكاملة ظهرت في ألمانيا، وطبعت في شتوتجارت في سنة 1842م(1).

... وكان تأثير علم الصيدلة عند المسلمين كبيرا جدا في أوربا. ويظهر ذلك من ترجمة المصادر العربية من الصيدلة إلى اللاتينية منذ عهد مبكر وطبعها وتداولها أو الاستفادة منها حتى أوائل القرن التاسع

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، ص.67.

 

(1/857)

 

 

عشر. كما يظهر هذا الأثر من خلال اطلاع الأوربيين على أسماء وأوصاف عقاقير أسيوية وإفريقية لم يعرفها اليونانيون من قبل(1).

... وقد امتد أثر علماء المسلمين على غيرهم من الأمم في علم الصيدلة أن أخذ العلماء في كل من أوربا وأمريكا، قبيل عهد قريب وبالتحديد سنة 1964م، بإعادة قراءة

__________

(1) محمد زهير البابا، "مصادر الأدوية المفردة أو العقاقير في الطب العربي"، مجلد أبحاث المؤتمر السنوي الثاني للجمعية السورية لتاريخ العلوم المنعقدة بجامعة حلب في أبريل 1977م، معهد التراث العلمي العربي جامعة حلب 1979م، ص.198.

 

(1/858)

 

 

كتاب ابن داود "تذكرة أولي الألباب" في محاولة للكشف عن أدوية جديدة للأمراض(1).

... - الجراحة:

... أما عن الجراحة وفنونها، فقد تقدمت عند المسلمين تقدما كبيرا وقدموا فيها أروع الإنجازات واشتهر منهم عدد من أعلام الجراحة في التاريخ كان من أبرزهم رائد الجراحة في قرطبة أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م الذي ألف كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وجعل للجراحة بابا خاصا مهما من هذا

__________

(1) أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ط2، دمشق، دار الفكر، 1981، ص.144.

 

(1/859)

 

 

الكتاب. وكان هذا الباب شرطا في ممارسة الجراحة. وقد نشر باللغة اللاتينية باسم Chirurgia. وقال عنه الدميلي إنه أعظم الجراحين العرب على وجه الخصوص(1).

... ويمتاز كتاب "التصريف" بكثرة الرسوم التوضيحية للآلات الجراحية التي كان يستخدمها في عمله. ولقد استمر هذا الكتاب مدة خمسة قرون عمدة في الأمور الجراحية في أوربا وترجم مرات عديدة إلى اللغة العبرية واللاتينية.

... وقد استمر تطور علم الجراحة عند المسلمين في القرون اللاحقة، مما حدا بالمؤرخ الإنجليزي كامبل إلى أن يصف

__________

(1) "العلم عند العرب"، ص.353.

 

(1/860)

 

 

الجراحة في الأندلس بقوله:

فكانت الجراحة في إسبانيا المسلمة في القرن الثالث عشر تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس ولندن وأدنبره. ذلك أن ممارسي مهنة الطب في سرقسطة كانوا يمنحون لقب طبيب جراح، بينما كان لقبهم في أوربا حلاق حراج. وظل هذا التقليد ساريا في إسبانيا حتى القرن السادس عشر(1).

... وقد أخذ الأوربيون معارفهم في الجراحة من علماء المسلمين. فكان باب الجراحة من كتاب "التصريف" للزهراوي مرجعا لكل من مارس الجراحة في أوربا آنذاك.

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، صص.63-64.

 

(1/861)

 

 

... وكان من أبرز العلماء المسلمين الذين كثرت تآليفهم في علم الطب وازداد أثرهم وذاع صيتهم في الغرب:

- الرازي (240-320هـ/854-932م)

... هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من أشهر الأطباء الكبار وأنبغهم وأكثرهم تأليفا وابتكارا، طبقت شهرته الآفاق عبر العصور، وقد عرف في أوربا منذ العصور الوسطى بـ Rhazes، وانتشرت مؤلفاته بها مترجمة إلى اللاتينية.

... ولد الرازي بالري في سنة 240هـ/854م، وتوفي في حدود سنة 320هـ/932م بعد عمر مديد أصيب بالعمى في آخره. وعلى ذلك، فإنه عاش في النصف الثاني من القرن الثاني والربع

 

(1/862)

 

 

الأول من القرن الثالث للهجرة، أي أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر للميلادي.

... والرازي غزير الإنتاج. كتب في موضوعات شتى من الفلسفة والكيمياء والطب وغيرها، وبلغ عددها 13 كتابا و24 رسالة أو بحثا، ونصفها في الطب. وأشهر وأوسع مؤلفاته في الطب كتاب "الحاوي". وهو موسوعة طبية حافلة، حوى جميع المعارف الطبية لدى اليونان والعرب والهند، كما ضمنه المؤلف تجاربه الشخصية من المداواة وهي مهمة، وآراءه المبتكرة في هذا المجال. وكان تأثيره كبيرا في تقدم الطب في الشرق والغرب فأصبح من الكتب المدرسية الذي كان

 

(1/863)

 

 

يرجع إليه الأطباء دائما. وقد طبع منه 23 جزءا حتى الآن.

... أما تأثيره في أوربا، فيذكر أنه ترجم إلى اللاتينية لأول مرة في سنة 1279م برعاية الملك شارل أنجو ملك صقلية. ترجمه الطبيب اليهودي فرج بن سالم، وعرف في اللاتينية باسم Continens، وانتشر في نسخ خطية كثيرة. ثم عندما اخترعت الطباعة، طبع لأول مرة في سنة 1468م، ثم أعيد طبعه مرارا وأصبح من الكتب المعتمدة في دراسة الطب في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي. وهو من الكتب التسعة التي كانت تتكون منها مكتبة الكلية الطبية في باريس سنة 1395م.

 

(1/864)

 

 

وتكررت طباعته في أوربا بترجمته اللاتينية، وبقي القسم الخاص بالصيدلة المرجع المهم في التداوي زمنا طويلا(1).

... وكانت رسالة أبي بكر الرازي المشهورة في الجدري والحصبة أول بحث علمي متقن في الأمراض المعدية. ويمكن تقدير شهرتها وتأثيرها بأنها طبعت أربعين طبعة باللغة الإنجليزية بين سنتي 1498 و1866م. وكانت هذه الترجمة الإنجليزية من ترجمة الكتاب باللاتينية التي تمت في عصر مبكر في القرن الحادي عشر الميلادي(2).

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، ص.74.

(2) المرجع نفسه، ص.60.

 

(1/865)

 

 

... وقد اعترف به الغربيون عموما؛ كما أن علماء أمريكا وجامعاتها وضعوا له اعتبارا خاصا في جامعة برنستون الأمريكية بتخصيص ناحية فخمة من بنائها لمآثر الرازي، وأنشأوا دارا لتدريس العلوم العربية والبحث عن المخطوطات الطبية وإخراجها(1).

... ومن كتبه المشهورة المهمة ذات التأثير العظيم في معارف أوربا الطبية كتاب "المنصوري" الذي ألفه للأمير منصور بن إسحاق أمير سجستان وهو في عشرة أجزاء، وقد نقل هذا الكتاب إلى اللاتينية أيضا في القرن

__________

(1) أحمد عمر الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ص.138.

 

(1/866)

 

 

الثاني عشر الميلادي وعرف باسم Liber Almansoris. وطبع لأول مرة في ميلانو بين 480 و1489م. وظلت تدرس في جامعات أوربا بجانب كتب الرازي الأخرى حتى القرن السابع عشر للميلاد.

... وكان من تقدير أوربا وأمريكا لهذا العالم الطبيب العبقري الفذ أن علقت صورته في القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس كما سميت قاعة من أفخم قاعات جامعة برنستون الأمريكية باسمه.

- علي بن العباس المجوسي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)

... طبيب عضد الدولة البويهي وأحد تلامذة الطبيب الرازي. اشتهر في ممارسة الطب وتعليمه وألف كتاب "كامل

 

(1/867)

 

 

الصناعات الطبية"، وهو أول كتاب عربي كبير يترجم إلى اللاتينية ترجمه قسطنطين الإفريقي وعرف بالكتاب الملكي "Liber Regius"؛ وقيل فيه إنه:

... كتاب جليل وكناش نبيل اشتمل على علم الطب وعمله. وكانت أفضل أقسامه القسم الذي يبحث في علم الأغذية الصحية وعلم العقاقير الطبية. ومن الأمور المبتكرة فيه إشارته إلى وجود الحركة الدموية الشعرية، وبرهانه على أن الطفل في الولادة لا يخرج من نفسه، بل بفعل تقلصات عضلية داخل الرحم إلى غير ذلك من الإضافات الطبية المهمة(1)

__________

(1) فيليب حتي وآخرون، "تاريخ العرب"، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

 

(1/868)

 

 

.

- ابن سينا (370-428هـ/980-1037م)

... أما الطبيب ابن سينا، فهو أشهر الأطباء في تاريخ الطب العربي على الإطلاق، وفاق في الشهرة والتأثير سلفه الرازي، وإن كان أقل منه ابتكارا عند البعض، وكان بجانب نبوغه في الطب فيلسوفا بارعا، بل هو عالم موسوعي درس جميع العلوم الفلسفية القديمة عند اليونان من الطبيعيات والرياضيات والفلك والمنطق والفلسفة حتى عرف بلقب "الشيخ الرئيس". ولا شك أنه أحد كبار عباقرة العلوم في تاريخ الإسلام، بل على المستوى العالمي.

 

(1/869)

 

 

... واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله، واشتهر بابن سينا. وقد ولد في إحدى قرى مدينة بخارى في سنة 370هـ/980م، وتوفي بهمذان في سنة 428هـ/1037م.

... وكان من أعظم وأشهر كتبه في موضوع بحثنا "القانون في الطب"، ويعرف بـ"القانون". وقد اشتهر اشتهارا كبيرا في الشرق والغرب على السواء. والذي دفع أحد العلماء الأمريكيين أن يقول: "إن كتاب "القانون" ظل الحجة والمرجع في الطب مدة أطول من أي مدة بلغها كتاب طبي آخر". وأصبح هذا الكتاب كتابا مدرسيا في المعاهد الطبية في الشرق وكذلك في كليات الطب وجامعات أوربا

 

(1/870)

 

 

بعد ترجمته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وظل يدرس فيها حتى نهاية القرن السابع عشر للميلاد(1).

... ويقدر مدى انتشار هذا الكتاب في العالم الغربي في العصور الوسطى أنه طبع خلال ست وعشرين سنة (1174-1500م). وقد طبع في بولاق بمصر في أواخر القرن التاسع عشر في ثلاثة مجلدات كبار. وهو كتاب ضخم شامل في جميع المعارف الطبية، ويفوق في دقة التنظيم والتنسيق كتاب "الحاوي" للرازي، وفيه ذكر ستين وسبعمائة دواء.

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، صص.76.

 

(1/871)

 

 

... ومن الجدير بالذكر أن كتابه "القانون في الطب" لا يزال يدرس ويستعان به في كليات الطب العربي والهند والباكستان، كما يمارس هذا الطب الذي يسمى في تلك البلاد بالطب اليوناني على مدى واسع. وهذا العلاج أرخص وأقل ضررا من الطب الأوربي، وله أطباء مشهورين منتشرون في جميع أنحاء شبه القارة الهندية. وتزين صورة ابن سينا القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس بجانب صورة الرازي الطبيب(1).

- الزهراوي:

__________

(1) المرجع نفسه، ص.78.

 

(1/872)

 

 

... خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م، وهو أشهر أطباء الأندلس ورائد الجراحة في قرطبة. وقد اشتهر بتأليف كتابه المشهور "التصريف لمن عجز عن التأليف" والذي قال بالنثيا صاحب كتاب تاريخ الفكر الأندلسي:

... إنه أهم وأذيع كتاب في تاريخ الطب كله، وإن الزهراوي قد ارتفع به في أعين الناس إلى طبقة أبقراط وجالينوس، وإنه يحوي رسوم الآلات الجراحية. وهو أول مؤلف جعل الجراحة علما قائما بذاته مستقلا عن الطب وأقامها على أساس من العلم بالتشريح(1)

__________

(1) أنخل جنثالث بالنثيا، "تاريخ الفكر الأندلسي"، نقله عن الإسبانية حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ص.466. وقد جعل وفاته سنة 403هـ/1013م.

 

(1/873)

 

 

.

... وقد نشر ضمن هذا الكتاب 200 شكل عن آلات الجراحة واستعمالاتها. وقد نقل جزءا من هذا المؤلف المترجم جيراد الكرموني، وصدرت منه طبعات مختلفة: واحدة في البندقية عام 1497م وأخرى في بلسل عام 1541م وثالثة في أكسفورد عام 1778م، وظل في مدرستي سالرنو ومونبلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة(1).

... ويذكر الدميلي أن الزهراوي أشهر أطباء الأندلس في ذلك العصر، بل من أعظم أطباء المسلمين أيضا... وربما كان الزهراوي أعظم الجراحين

__________

(1) فيليب حتي وآخرون، "تاريخ العرب"، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

 

(1/874)

 

 

العرب على وجه الخصوص(1). ويذكر العالم الشهير هالو أن كتب أبي القاسم الزهراوي كانت المصدر العام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر، وترانا مدينين لأبي القاسم بكثير من الآلات الجراحية التي تظهر صورها في كتبه.

- ابن زهر:

... أبو مروان عبد الملك بن زهر (ت557هـ/1162م)، وهو أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في عصر الموحدين، وكان أحد أفراد أسرة ابن زهر التي تفرع منها ستة من الأطباء المرموقين. وقد اشتهر ابن زهر بمؤلفه الطبي كتاب

__________

(1) "العلم عند العرب"، ص.353.

 

(1/875)

 

 

"التيسير في المداواة والتدبير" الذي جعل محور اكتشاف الأمراض هو التجربة، مما أوصله إلى آراء مبتكرة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية، وصار أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي(1). وكان ابن زهر قد ألف هذا الكتاب استجابة لطلب صديقه ابن رشد الذي كان من أشد المعجبين به، وقد أثنى عليه كثيرا في "كلياتـ"ـه، واعتبره أعظم طبيب عرفه العالم بعد

__________

(1) يوسف العريني، "الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي"، صص.334-335.

 

(1/876)

 

 

جالينوس. وأقل ما يقال عنه أنه أعظم طبيب سريري في الإسلام بعد الرازي(1).

... ومع مرور الزمن، آتت تلك الجهود ثمارها؛ وظهر تأثير الأوربيين في المعرفة الطبية بالطب الإسلامي، وظهر جيل من مشاهير الأساتذة في الطب في عدد من العواصم الأوربية، وأظهر علم وظائف الأعضاء بعض النشاط والانتعاش، وصدرت كتب في علم التشريح بأقلام

__________

(1) صالح رمضان محمود، "أهم المبدعين في مجالات الفكر والعلم التي أغنت بها الحضارة الإسلامية المسيرة الإنسانية"، مجلة "المؤرخ العربي"، العدد الثامن عشر، بغداد، 1401هـ/1981م، ص.29.

 

(1/877)

 

 

الأوربيين أنفسهم، وأصبحت أمراض النساء وعوارض الحمل والولادة موضوعا للدراسة العلمية بعدما كانت من اختصاص القوابل والمولدات، وانتقلت أمراض العين من أيدي القداحين الجوالين إلى أيدي الأطباء المدركين لمهنتهم. وأسس في البلاد الأوربية أعدادا من الجامعات والمعاهد التي تعنى بتدريس الطب حيث يتأكد أنه من ضمن آثار انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أوربا أن نشأت المدارس الخاصة بتعليم الطب في كل من مونبيلييه ونابولي وبولونيا وبادوا وأورلياتن وأكسفورد وبكريدج وغيرها، وهذه المدارس جميعها كانت تستخدم كتب

 

(1/878)

 

 

الطب الإسلامية بلغاتها العربية أو المترجمة إلى اللغة اللاتينية، وكانت الأساس في تقدم المعارف الطبية عند الأوربيين قرونا عديدة. وأصبحت مصادر الطب على اختلافها ميسورة باللغة اللاتينية، وازداد التقدم في ميداني الصحة والجراحة وإدارة المستشفيات أيضا. فاضطلع كي دي شولياك كبير جراحي مونبيلييه (ت1368م) بعمليات الفتق، كما برز لانفراشي الميلاني الذي زاول الطب في فرنسا بطرق محسنة لربط الأوعية الدموية وخياطة الجروح إلى غير ذلك من الآثار الطبية(1).

__________

(1) ماكس مايرهوف، "تراث الإسلام"، صص.502-503.

 

(1/879)

 

 

... ويشار هنا إلى أن من مظاهر التأثر الأوربي بالطب الإسلامي وجود عدد كبير من الألفاظ والمصطلحات العلمية العربية في مجالي الطب والصيدلة تستخدم في اللغات الأوربية الحديثة برسمها أو ببعض التحوير الذي لا يخفي أصلها ومصدرها، ومن ذلك:

... الكلمات الطبية المستخدمة في اللغة الإنجليزية والتي اشتقت من العربية(1):

الإكسير

Elixir

 

حكيم

Hakeem

 

حشيش

Hasheesh

 

معجون

Majoon

 

مرئ

Meri

 

موميا

Mummy

 

نخاع

Nucha

 

صداع

__________

(1) جلال مظهر، "مآثر العرب على الحضارة الأوربية"، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960، ص.413.

 

(1/880)

 

 

Soda

 

سبات

Subeth

 

سنبل

Sumbul

 

طباشير

Tabashee

 

... أما في مجال الصيدلة والنبات، فمنها:

كمون

Cumin

 

أبو المسك

Abelmosk

 

الحناء

Alcanna

 

الحنظل

Alhandal

 

البرقوق

Apricot

 

أرجان

Argan

 

الخرشوف

Artichoke

 

الباذنجان

Aubergine

 

بندق

Bonduc

 

كافور

Caphor

 

قهوة

Coffee

 

قطن

Cotton

 

كركم

Corcus

 

كبابة

Cubeb

 

كمون

Alcanna

 

... وأشير ختاما لهذا البحث إلى أن ترجمة الكتب الطبية العربية إلى اللغات الأوربية كانت أساسا للمعرفة الطبية عند الأوربيين، ثم هي سبب رئيس فيتطور الطب الأوربي حيث ترجم في أوربا من

 

(1/881)

 

 

العربية إلى اللاتينية أكثر من ثلاثمائة كتاب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وهذا العدد كبير جدا بالنسبة لهذه الفترة. ومن هذا المنطلق بدأت الصحوة الأوربية بعد أن عرف الأوربيون الحضارة الإسلامية عن كثب، فعملوا على صنع حضارة خاصة بهم مستفيدين من الأفكار والنظريات التي انتهى إليها العلماء المسلمون، فواصلوا المسيرة العلمية حتى استطاعوا أن يشيدوا صرح الحضارة الحديثة(1).

__________

(1) أحمد الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ص.143.

 

(1/882)

 

 

... ثم إنه يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن اللغة العربية كانت هي لغة الطب ممارسة وتعليما في أروقة المستشفيات ومراكز الطب على اختلافها. وقد أغنت هذه اللغة كل الثقافات التي نقلت إليها ولم تعجز عن حمل هذه الرسالة الواسعة. ولا تزال لغتنا العريقة قادرة على الاستيعاب وقبول كل ما ينقل إليها من علوم ومعارف وأن تسير في مواكبة الرقي والتقدم الحضاري في هذا الزمان.

... وربما يأتي اليوم الذي يعود فيه المسلمون إلى أسباب تلك الحضارة المجيدة السابقة ويعملون على استعادة ماضيهم المشرف وتقوى معارفهم العلمية

 

(1/883)

 

 

واكتشافاتهم، فتعود الأمم تتطلع إلى نتاج المسلمين كما كانت سابقا وليس ذلك على الله ببعيد.

 

المصادر والمراجع

 

أحمد عبد الرحيم السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية، الرياض، دار اللواء، 1401هـ/1981م.

أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ط2، دمشق، دار الفكر، 1981.

الدميلي، العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف موسى، دمشق، دار القلم، 1962م.

 

(1/884)

 

 

أنخل جنثالث بالنشيا، تاريخ الفكر الإسلامي، نقله عن الإسبانية حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ص.466، وقد جعل وفاته سنة 403هـ/1013م.

توفيق الطويل، "الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية. دراسة مقارنة، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي.

جلال مظهر، حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العلمي، القاهرة، مكتبة الخانجي.

جلال مظهر، الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط.

جلال مظهر، مآثر العرب على الحضارة الأوربية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م.

 

(1/885)

 

 

جلال مظهر، مآثر العرب على الحضارة الأوربية، بيروت، دار الرائد، 1967م.

خليل السامرائي وآخرون، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، جامعة الموصل.

زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، تعريب فاروق بيضون وكمال دسوقي، بيروت، المكتب التجاري، ط2، 1969م.

سعد بن عبد الله البشري، الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414هـ/1993م.

سيد رضوان علي، العلوم والفنون عند العرب ودورهم في الحضارة العالمية، الرياض، دار المريخ، 1407هـ/1987م.

 

(1/886)

 

 

صالح رمضان محمود، "أهم المبدعين في مجالات الفكر والعلم التي أغنت بها الحضارة العربية الإسلامية المسيرة الإنسانية، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثامن عشرة، بغداد، 1401هـ/1981م، ص.29.

الشيرزي أبو المظفر أسامة بن منقذ (ت584هـ/1188م)، الاعتبار، حرره فيليب حتي، مطبعة جامعة برنستون، 1930م.

عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي، أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي، الرياض، 1415هـ/1994.

عبد الحليم منتصر، تاريخ العلوم ودور العلماء في تقدمه، القاهرة، دار المعارف، 1980، ص.230.

 

(1/887)

 

 

علي عبد الله الدفاع، لمحات من تاريخ الطب عند المسلمين الأوائل، الرياض، دار الرفاعي، 1983م.

علي عبد الله الدفاع، أعلام العرب والمسلمين في الطب، بيروت، دار الرسالة، 1983م.

عمر عبد السلام تدمري، الحياة الثقافية في طرابلس خلال العصور الوسطى، بيروت، دار فلسطين، 1973م.

الفاضل عبيد عمر، الطب الإسلامي عبر القرون، الرياض، دار الشواف-جدة، المطبوعات الحديثة، 1410هـ/1989م.

فؤاد سزكين، محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ألمانيا، 1404هـ/1984م.

 

(1/888)

 

 

فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

ماكس مايرهوف، العلوم والطب، ضمن مجلد تراث الإسلام، إشراف توماس أرنولد، تعريب وتعليق جرجيس فتح الله، ط3، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص.499.

محمد زهير البابا، "مصادر الأدوية المفردة أو العقاقير في الطب العربي"، مجلد أبحاث المؤتمر السنوي الثاني للجمعية السورية لتاريخ العلوم المنعقدة بجامعة حلب في أبريل 1977، معهد التراث العلمي العربي جامعة حلب 1979م.

محمد الصديقي، انتشار العرب وعلومهم في فرنسا، الهند، مطبعة أسرار كريمي، 1941م.

 

(1/889)

 

 

محمد عبد الرحمن مرحبا، الموجز في تاريخ العلوم عند العرب، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1970م.

محمود الجليلي، "تأثير الطب العربي في الطب الأوربي"، مقال بمجلة المجمع العلمي العراقي، ذو الحجة، 1401هـ، ج32.

محمود الحاج قاسم محمد، الطب عند العرب والمسلمين: تاريخ ومساهمات، جدة الدار السعودية، 1407هـ/1987م.

ولز، معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1950م.

 

(1/890)

 

 

يوسف بن علي العريني، الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي، الرياض، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1416هـ.

(1)

 

(1/891)

 

 

إمارة فضل بن علوي في ظفار بين الدعم العثماني والرفض العُماني البريطاني

(1291 ـ 1296 هـ/ 1874 ـ 1879 م)

... ... ... الدكتور سعيد بن عمر آل عمر

... ... ... ... جامعة الملك فيصل ـ المملكة العربية السعودية

 

... ولد فضل بن علوي بن محمد بن سهل سنة 1240 هـ/ 1824 م في مليبار بالهند وتعلم فيها(1)، وأصبح له شأن هناك فكان من علماء »الموبلا«، وهم سلالة التجار العرب المتحمسون لدينهم الإسلامي(2)

__________

(1) خير الدين الزركلي، الأعلام، ط 5، دار العلم للملايين، بيروت، ج 5، 1980، ص. 150.

(2) ... فيلبس وندل، تاريخ عمان، ترجمة محمد أمين عبد الله، ط 3، 1409 هـ/ 1989 م، ص. 92.

 

(1/892)

 

 

. ويتصل نسبه بآل البيت، فقد ذيل الزركلي(1) اسم ذلك الأمير بالحسيني المليباري المكي، وكانت منطقة حضرموت موطن آبائه وأجداده(2).

__________

(1) الزركلي، المصدر السابق.

(2) عبد المنعم بن عبد الله البحر الرواس، مخطوط ضنية الأخبار في علماء ظفار، ص. 2، جزء من هذا المخطوط غير مرقم وقام الباحث بترقيمه، أهدي للباحث من أحد المهتمين بتاريخ ظفار؛ انظر كذلك: J. B. Kelly, Britain and the Persian Gulf 1795-1880, London, 1968, p. 773.

 

(1/893)

 

 

... يعتبر فضل بن علوي عند مسلمي الماليبار بالهند من الأولياء الصالحين يرشدهم ويدافع عن حقوقهم، وكان له نشاط سياسي كبير بين المسلمين ضد الاستعمار البريطاني. وقد اعتبره البريطانيون من أهم المحرضين على الاضطرابات في الهند سنة 1269 هـ/ 1852 م(1). وتعتقد السلطات البريطانية في الهند أنه أيضاً وراء مقتل المحقق البريطاني الذي كلف بمهمة التحقيق في تلك الاضطرابات(2). ولهذا السبب نفي من الهند وحظرت عليه العودة إليها تحت طائلة الاعتقال. وأثناء نفيه الإجباري من

__________

(1) ... Ibid.

(2) فيلبس، تاريخ عمان، ص. 93.

 

(1/894)

 

 

مسقط رأسه ماليبار، أقام في وطنه الأصلي حضرموت. لكن لم يطل به المقام هناك، حيث غادرها ليستقر في مكة المكرمة ومن ثم متنقلاً في أراضي الدولة العثمانية التي اكتسب في أرجائها شهرة لتقواه وصلاحه(1). وقد زار الآستانة في أيام السلطان العثماني عبد العزيز (1277 ـ 1293 هـ/ 1860 ـ 1876 م)(2). وخلال إقامة السيد فضل بن

__________

(1) ج. ج لوريمر، دليل الخليج، ترجمة وطباعة الديوان الأميري بقطر، ج 2، 1975، ص. 900؛ كذلك عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، صص. 2 ـ 4.

(2) خير الدين الزركلي، المصدر السابق، ج 5، ص. 150.

 

(1/895)

 

 

علوي في مكة المكرمة توثقت صلته بأمرائها وعلمائها، مثل الشريف عبد الله بن محمد بن عون أمير مكة المكرمة والعلامة الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي الديار المقدسة. وقد تلقى عدد من طلبة العلم في الحجاز العلم على يديه(1).

... وفي سنة 1270 هـ/ 1853 م، وأثناء إقامته في مكة المكرمة، صدر أمر من السلطات العثمانية يمنع السيد فضل من مغادرة أراضيها، وذلك فيما يبدو نزولاً عند رغبة البريطانيين(2). إلا أن ذلك لم يثنه عن دوره

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، صص, 2 ـ 3.

(2) لوريمر، المصدر السابق، ص. 898.

 

(1/896)

 

 

الإصلاحي وتلمس مشاكل الأقاليم الإسلامية الأخرى من خلال وفود الحجيج. ففي سنة 1288 هـ/ 1871 م زار عددٌ من أهل ظفار وأعيانها مكة المكرمة بقصد الحج والتقوا بالسيد فضل بن علوي ـ وكان قد ذاع صيته واشتهر بالتقوى والصلاح ـ في وقت كانت فيه ظفار تعاني من الاضطرابات القبلية والمشاكل الاجتماعية والتخلف في شتى نواحي الحياة. ونظراً لشهرة ذلك الرجل ولكونه يرتبط بعلاقة وثيقة بمناطق جنوب الجزيرة العربية لتحدره من أصل حضرمي، فقد رأى أعيان ظفار ـ وفي مقدمتهم زعماء آل كثير ـ أن يعرضوا على السيد فضل حكم ظفار لما

 

(1/897)

 

 

فيه من عراقة الأصل والنجابة والعلم والصلاح. فلم يتردد فضل بن علوي في قبول العرض أملاً في تكوين دولة علوية في جنوب الجزيرة العربية تكون ظفار قاعدتها(1).

... وبعد التفاوض بين أعيان ظفار برئاسة أحد زعماء آل كثير والسيد فضل بن علوي، تم الاتفاق وتوقيع عقد البيعة على السمع والطاعة والحماية في 16 ذي الحجة سنة 1288 هـ/ 27 فبراير 1872 م في مكة المكرمة(2)

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 5.

(2) وثيقة عقد البيعة حصل الباحث على صورة منها من أحد المهتمين بتاريخ ظفار (محفوظة لدى الباحث)؛ وانظر صورة عنها في ملحق هذا البحث.

 

(1/898)

 

 

. ونتساءل هنا عن أسباب تأخر سفر ابن علوي لتسلم مقاليد الحكم بعد أن تمت مبايعته حاكماً على ظفار، حيث لم يتم سفره إلا بعد أكثر من سنتين ونصف على توقيع عقد البيعة.

... وللإجابة على هذا السؤال، نعتقد أن هذا يعود إلى تحديد إقامته الجبرية من قبل العثمانيين في الأراضي المقدسة، وكان عليه أن ينتظر حتى يأذنوا له، وقد رغبهم في جنوب الجزيرة العربية وزين لهم حكمه لظفار باسمهم ليحد من النفوذ البريطاني فيها، في الوقت الذي اتفق فيه السيد ابن علوي فيما يبدو مع مبايعيه من ممثلي ظفار على تهيئة الأوضاع في الإقليم

 

(1/899)

 

 

لقدومه حتى تصل موافقة السلطات العثمانية. وفعلاً، غادر مكة إلى ظفار ليدخلها في رمضان سنة 1291 هـ/ أكتوبر 1874 م(1). وقد استفاد من مكانته الدينية في بناء تاريخ سياسي مجيد له ولأبنائه.

... فمنذ وصوله إلى ظفار، بدأ بإيجاد شبكة من العلاقات والترتيبات السياسية والقبلية. وسرعان ما أصبح سيد الموقف دون منازع، متخذاً من مدينة صلالة مقراً لحكمه وعاصمة لملكه. وقد أعد داراً له وجعل لمقره برجين للحراسة ومرافق عامة للعسكر والضيوف وحظيرة للخيل ونزلاً

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 6.

 

(1/900)

 

 

للسجناء(1)، وعين ابنه قاضياً يفصل في قضايا الأهالي. ويبدو أنه اعتمد في هذه المرحلة الأولى من نشاطه على اعتراف الحكومة العثمانية وتلمس عونها العسكري ودعمها المادي، حيث كان قدومه للمنطقة بناءً على دعوة الأهالي وبعد موافقتهم. ولم يكن هذا السياسي المحنك والمصلح الدِّينيّ يجهل الروابط التي بدأت تتوثق بشكل كبير بين إقليم ظفار وعمان منذ حملة السيد سعيد بن سلطان على ظفار سنة 1245 هـ/ 1829 م(2)

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 6 ـ 7.

(2) S. B. Miles, The Countries and Tribes of the Persian Gulf, London, 1960,

 

p. 514 .

 

(1/901)

 

 

، وما تبع ذلك من موالاة بعض رموز أهالي ظفار لسلطان عمان، بالرغم من أن السيد سعيد بن سلطان، سلطان عُمان في حينه، قد سحب قواته من ظفار لظروف سياسية داخلية، حيث واجه حركة حمود بن عزان بن قيس(1)، وأصبح الإقليم كله دون قوة ضاربة يمكن أن تمنع أي طامع سياسي بالاستقلال به، لكن السيد

__________

(1) مديحة أحمد درويش، سلطنة عمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار الشروق، جدة، 1982، ص. 95؛ كذلك انظر: نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، مكتبة الاستقامة، دون تاريخ، ج 2، صص. 214 ـ 218.

 

(1/902)

 

 

ابن علوي الذي كان يدرك ذلك تماماً كان متقوياً في مواجهة الأزمات بمركزه الديني بين الأهالي وما أشاعه بين الناس من أنه يحكم باسم العثمانيين، وهذا ما زعمه بنفسه عندما كتب للسيد تركي بن سعيد سلطان عُمان رسالة وصف فيها نفسه بأنه »حاكم ظفار باسم الباب العالي«. وقد جاءت رسالته تلك بنتائج عكسية وحركت عليه سلطان عُمان الذي كان يعتبر منطقة ظفار جزءاً من بلاده. فبادر بإبلاغ حكومة الهند البريطانية، وقامت هذه الحكومة بمساعدته برفع هذا الأمر إلى الحكومة البريطانية المركزية في لندن، موضحة وجهة نظرها من خطورة

 

(1/903)

 

 

وجود عدو للحكومة البريطانية في مثل هذا الموقع، ومن خطورة امتداد النفوذ العثماني بأي شكل من الأشكال إلى أي موقع على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية. لذلك أصدرت الحكومة البريطانية تعليماتها إلى سفيرها بالقسطنطينية بالاحتجاج لدى الحكومة التركية على أعمال فضل بن علوي والمطالبة بشجب تصرفاته. إلا أن ذلك السفير لم يتلق رداً على اتصاله الذي قام به في سنة 1294 هـ/ 1876 م. ولهذا أعاد السفير الكرة مرة أخرى في سنة 1294 هـ/ 1877 م(1).

__________

(1) ج. ج. لوريمر، المصدر السابق، ص. 901.

 

(1/904)

 

 

... أما الأمير الظفاري فضل بن علوي، فقد نجح في مد نفوذ إمارته غرباً حتى شمل جزءاً من بلاد المهرة(1)، وكانت قبائل آل كثير تحمي ذلك الأمير وتحرسه وقد اتخذ منهم ومن الأشراف في المنطقة مستشارين له(2). وفي الوقت الذي ضمن فيه ولاء نحو 2000 مقاتل من آل كثير، كان لديه أيضاً حوالي 3500 مقاتل من قبيلة القرا الموالية له أيضاً منذ توليه الحكم، مما يدل على سعة سلطانه في ظفار(3).

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر نفسه، ص. 7.

(3) وندل فليبس، المرجع نفسه، ص. 93.

 

(1/905)

 

 

... وبما أن فضل بن علوي كان مصلحاً دينياً اكتسب من مكانته الدينية المكانة المرموقة في نفوس أبناء الإقليم والزعامة السياسية، فقد اتجه إلى بث روح الإسلام والتعاليم الدينية بين الظفاريين. ويبدو من خلال توجهاته وأعماله أنه كان متأثراً إلى حد كبير بالدعوة السلفية في نجد وبأفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، حيث أخذ ابن علوي يطبق الشريعة الإسلامية في كل نواحي الحياة. وهذا مبدأ واضح من مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية(1)

__________

(1) عن مبادئ الدعوة السلفية في نجد، انظر: عبد الله بن صالح العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 2، 1409 هـ/ 1989 م، ج 1، ص. 69.

 

(1/906)

 

 

.

... فقد أمر على سبيل المثال بتطبيق حد القتل في القاتل وبمنع التبرج والسفور للنساء وفرض الزكاة الشرعية كما حددها الكتاب والسّنة(1)، كما حارب السحر والشعوذة وقد سجن ذات مرة 80 رجلاً من رجال القبائل بتهمة السحر، وكان كحاكم قدوة لمحكوميه، اشتهر بينهم بالتقوى والورع(2). وقد انطلقت أفكاره الإصلاحية من خلال منبر المسجد الجامع بصلالة(3)، ولا سيما أن ابن علوي كان

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 8.

(2) وندل فليبس، المصدر السابق، ص. 93.

(3) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر نفسه، ص. 9.

 

(1/907)

 

 

خطيباً مفوهاً وعالماً بأمور الشرع وأصول الفقه كما يتضح من خلال مؤلفاته العديدة(1).

... وقد أعطى فكره الإصلاحي بعداً سياسياً من خلال خبراته الواسعة في الهند ومن خلال رحلاته وتنقلاته بين البلدان الإسلامية. إلا أن ابن علوي لم يوفق في تحقيق أهدافه التي كان ينوي تحقيقها في ظفار، ربما بسبب حماسه الديني وتسرعه في نهجه

__________

(1) من مؤلفاته: " إيضاح الأسرار العلوية ومنهاج السادة العلوية ـ ط" و" تحفة الأخبار عن ركوب العار ـ ط" و"عدة الأمراء العظام ـ ط"؛ (انظر خير الدين الزركلي، المصدر السابق، ج 5، ص. 150).

 

(1/908)

 

 

الإصلاحي. فقد اصطدمت جهوده وأعماله في ظفار بالتقاليد الموروثة والعادات السائدة في المنطقة، فنفر منه الناس عندما طلب منهم دفع زكاة أموالهم، وخاصة ملاك الماشية والفلاحين، وواجه عمال الزكاة صعوبات في جبايتها، خاصة من سكان الجبال حيث فقد أحد جباة الزكاة حياته أثناء أدائه لواجبه(1).

... وليس هناك من شك بأن السيد ابن علوي قد حاول أن يجعل من مملكته الجديدة دولة نموذجية تدار على أسس حديثه، وكان يحصل رسوماً قدرها 5 % على الواردات والصادرات فيما كانت

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 9.

 

(1/909)

 

 

حكومته تتكون من ستين رجلاً يعمل أكثرهم في جمع الضرائب(1). وكان السيد ابن علوي يأمل في زيادة صادرات بلاده، عن طريق استخراج السوائل من أشجار المطاط وأشجار اللبان التي كانت تنمو في البراري في الأرضي الداخلية من ظفار. ولاستصلاح تلك الثروة، بعث مبعوثاً إلى الهند لكي يستعين بذوي الخبرة في الهند لإحضارهم لمحاولة إنتاج المطاط واللبان في بلاده(2)، حيث كان ولا يزال اللبان بشكل خاص مصدراً مهماً لتجارة ظفار منذ أقدم العصور(3)

__________

(1) فيلبس، المرجع السابق، ص. 93.

(2) المرجع نفسه.

(3) عبد المنعم البحر الرواس، المرجع السابق، ص. 10؛ كذلك انظر سعيد بن مسعود بن محمد المعشني، الأثار التاريخية في ظفار، صص. 18 ـ 19، مطابع ظفار الوطنية، 1997.

 

(1/910)

 

 

. كما اتصل بشركة الملاحة الهندية البريطانية، طالباً منها أن تقوم إحدى سفنها بزيارة شهرية إلى صلالة عاصمة بلاده ظفار وعرض عليها ضمان شحن 200 طن من مختلف البضائع من صادرات بلاده بشكل شهري، لكن البريطانيين تجنبوا بعناية أي خطوة قد تمنح أي اعتراف بمركزه ونظامه السياسي في ظفار، إذ أن عمله في الهند لم يكن قد طواه النسيان(1).

... ومع ذلك، فإن تجارة ظفار قد وجدت قبولاً من اليمنيين والعمانيين على السواء، حيث كانت سفن عمانية وأخرى يمنية تمر بظفار لنقل تجارتها إلى الهند

__________

(1) فيلبس، المصدر السابق، ص. 94.

 

(1/911)

 

 

وإلى سواحل أفريقيا الشرقية(1). ولكن ظروف السيد ابن علوي الاقتصادية والسياسية وحكمه في ظفار لم تكن في المستوى الذي كان يطمح إليه سواء على صعيد الإصلاح الديني أو السياسي. فمن ناحية، باءت محاولاته مع البريطانيين للحصول على شيء من الاعتراف بحكمه والتعاون الاقتصادي مع نظامه السياسي بالفشل. فعلى الرغم من أنه كان يدرك أن البريطانيين ينظرون إليه بعين غير ودية، فإن ذلك لم يمنعه من الدخول في مفاوضات مع المقيم البريطاني في عدن سنة 1294 هـ/ 1877 م، على

__________

(1) عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 12.

 

(1/912)

 

 

أمل الحصول على نوع من الاعتراف بحكمه وبنظامه السياسي، لكن دون جدوى(1).

... ومن ناحية أخرى، أصيب إقليم ظفار بقحط شديد في صيف عام 1295 هـ/ 1878 م، حيث فقد السكان أكثر ماشيتهم وارتفعت أسعار الحبوب والمعيشة بشكل عام(2)، وأصبحت هناك بوادر عصيان وثورة حتى من قبل الذين والوا ذلك الأمير وأخلصوا له عند قدومه، مما حَدَا بابن علوي إلى طلب المساعدة والإمدادات من مكة واليمن لكبح جماح الثورة عليه من قبل قبائل القرا بعد أن

__________

(1) فليبس، المرجع السابق.

(2) J. B. Kelly, op, cit., p. 774؛ كذلك فيلس، المرجع نفسه.

 

(1/913)

 

 

تمكن بمساعدة بني كثير من اعتقال خمسين منهم، حيث زج بهم رهائن في السجن(1).

... لكن هذه الاعتقالات أفقدته ولاء إحدى أهم القبائل في المنطقة، في الوقت الذي هاجر فيه ثلاثمائة من أهل ظفار إلى مسقط للعمل في خدمة السلطان العماني، حيث لم يستطيعوا تحمل حياة البؤس والفقر في ظل الجفاف الذي ضرب المنطقة(2).

... لذلك أخذ حكمه في الاضطراب والتفكك بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والخلافات بين القبائل، حيث عمت الثورة بين الناس

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) المرجع نفسه، صص. 93 ـ 94؛ كذلك: J. B. Kelly, op, cit., p. 774.

 

(1/914)

 

 

بقيادة قبائل القرا وبعض رموز ظفار القيادية وفي مقدمتهم الشيخ عوض ين عبد الله، وأرغموه على الفرار من البلاد في أول سنة 1296 هـ/ 1879 م. وعلى أثر طرد السيد فضل بن علوي من ظفار التي غادرها إلى المكلا في حضرموت ومنها إلى جدة، قام الشيخ عوض بن عبد الله بزيارة مسقط وأغرى سلطانها السيد تركي بن سعيد بأن يمد سلطاته لتشمل إقليم ظفار مرة أخرى(1).

__________

(1) J. B. Kelly, op, cit., p. 775 ؛ كذلك: لوريمر، المرجع السابق، ص. 902.

 

(1/915)

 

 

... إلا أن أهل ظفار انقسموا إلى أحزاب ثلاثة: الأول يتزعمه عوض بن عبد الله ويودّ أن يعلن سلطان عمان سيطرته المباشرة على ظفار، والثاني يتزعمه عوده بن عزان ويودّ إعادة السيد فضل إلى كرسي إمارته في ظفار، والفريق الثالث يرغب في الاستقلال. لكن السيد تركي حسم الأمر وأرسل حملة بحرية يقودها سليمان بن سويلم إلى ظفار سنة 1296 هـ/ 1879 م. فأعلن أهل مرباط على الفور خضوعهم لممثل السلطان، وكان أول ما قام به سليمان لاسترضاء الأهالي إعلانه تخفيض نسبة جباية العوائد الجمركية من 5 % إلى 4 % (1)

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 902.

 

(1/916)

 

 

.

... وتوثقت علاقة ظفار بعمان أكثر في هذه المرحلة من تاريخها بعد أن انشغلت السلطات العمانية في مسقط بمشاكلها الداخلية عنها، فترة من الزمن بسبب خلافاتها مع عزان بن قيس(1)

__________

(1) المرجع نفسه، صص. 903 ـ 904؛ Saeed A. Al-Amer, The Rebellions of the People of Jalan Region against the Authority of the Musqat Government during the Nineteenth Century بحث منشور في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، العدد 85، جامعة الكويت. وعزان بن قيس بن عزان بن قيس بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (1252 ـ 1287 هـ/ 1836 ـ 1871 م) بويع بالإمامة في مسقط بعد أن خلع السلطان سالم بن ثويني سنة 1285 هـ/ 1869 م، اتصف بالحزم والشجاعة، قاومه تركي بن سعيد بن سلطان فلجأ إلى حصن مطرح وأصيب بطلق ناري قتله أثناء الحصار، ومدة إمامته سنتان وأربعة أشهر ونصف الشهر. (انظر: دليل أعلام عمان، مكتبة لبنان، 1991، ص. 117).

 

(1/917)

 

 

. وتوثقت هذه العلاقة بشكل أكبر عندما اتخذت حكومة الهند البريطانية قراراً في نهاية سنة 1296 هـ/ 1879 م باعتبار إقليم ظفار ضمن مسؤولية الوكالة السياسية البريطانية في مسقط بدلاً من تبعيتها للوكالة البريطانية في عدن. وبذلك ألغي النظام القديم الذي كان يقضي بتحويل كل أمور إقليم ظفار إلى المقيمية البريطانية في عدن(1).

... لكن قسوة الوالي العماني سليمان بن سويلم كانت سبباً في ما حدث من خلاف خطير بين هذا الولي العماني المعين على ظفار وبين كبير أنصار السلطان في

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 903.

 

(1/918)

 

 

ظفار الشيخ عوض بن عبد الله. فقد كان سليمان يشك في أن عوض يعمل لمصلحته الشخصية ويسعى في تكوين نفوذ له في الإقليم معتمداً على قاعدته العريضة بين رجاله مع التشكيك في ولائه للسلطان. لذلك اختلق الوالي حجة يتذرع بها لإرسال الشيخ عوض إلى مسقط، لكن الشيخ انتقم في مسقط لنفسه، فشكا للسلطان فساد واليه في ظفار، لكنه لم يجن ثمار شكواه لسلطان عمان على الوجه المنشود. وبعد أن عاد ابن عبد الله إلى ظفار عبر الطريق الصحراوي، أفصح عن سخطه بإعلانه التمرد، ففاجأ قلعة صلالة واستولى عليها، ولم تكن القوة التي للسلطان

 

(1/919)

 

 

في ظفار آنذاك تتجاوز الثلاثين رجلاً. وحين وصلت أنباء التمرد إلى مسقط، غادرتها قوة عسكرية سنة 1298 هـ/ 1880 م قوامها 180 رجلٍ يقودهم خميس بن سليمان البوسعيدي وسليمان بن سويلم. وكانت تعليمات السيد تركي لقادته تقضي بالانسحاب من ظفار كلية إذا تبينوا أن غالبية أهلها لا يرغبون في حكم السلطان؛ أما إذا كانت جماعة عوض بن عبد الله فقط هي التي تثير الاضطرابات، فعليهم توجيه ضربة قاصمة إليهم. وكان السيد تركي بن سعيد يراقب بحذر التقدم التركي في جبهتين: الأولى في اليمن، والأخرى في الأحساء، وخاصة بعدما امتد

 

(1/920)

 

 

النفوذ التركي من الأحساء إلى قطر(1).

... وفي الوقت الذي اختلف فيه الشيخ عوض مع السلطان العمانية وواليها في ظفار، اشتعلت ثورة ضده في الإقليم.

... فأثناء غيابه عن قلعته، قام جماعة من أعدائه يتزعمهم أحد أنصار فضل بن علوي بمهاجمتها والاستيلاء عليها بعد أن أوقعوا بأنصار الشيخ عوض بعض الخسائر وأعادوا الولي القديم مكانه برضى الأهالي(2). فكان هذا دليلاً على أن العصيان في

__________

(1) مديحة أحمد درويش، سلطنة عمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، صص. 128 ـ 129.

(2) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ج 2، ص. 904.

 

(1/921)

 

 

ظفار كان مقتصراً على الشيخ عوض بن عبد الله الشنفري (شيخ قبيلة الشنافر) ورفاقه وأن هناك ولاء للسلطان من قبل بقية سكان المنطقة. وحين وصلت القوة العمانية إلى بلدة مرباط، هرب الشيخ عوض الشنفري أو »عوض الموت« ـ كما كان يكنى ـ إلى الجبال(1)

__________

(1) عوض بن عبد الله بن مبارك الشنفري ويعرف ويلقب بين رفاقه في ظفار بـ»ـعوض الموت«، وهو أحد الذين وقفوا ضد السيد فضل بن علوي ونظامه السياسي على أمل أن ينصب على ظفار من قبل السلطان العماني (انظر: J. B. Kelly, op, cit., p. 775 ؛ كذلك انظر عبد المنعم البحر الرواس، المصدر السابق، ص. 21).

 

(1/922)

 

 

.

... وبدأت مفاوضات قادة الحملة مع الأعيان. وتلقى الشيخ عوض المتحصن في الجبال وعداً بتأمينه على حياته إذا هو سلم نفسه في مسقط خلال فترة زمنية محددة؛ وعادت بعدها الحملة إلى مسقط، لكن معظم رجالها ظلوا في حامية ظفار للحفاظ على الأمن والاستقرار، فساد الهدوء في ظفار بعد ذلك وأصبحت العوائد تجبى كالمعتاد دون أي متاعب(1).

... ونتساءل هنا عن السبب الذي جعل عوض يثور على السلطان العماني ويقاوم الحاميات العمانية والوالي العماني في ظفار بعد أن كان هو الذي تبنى

__________

(1) ج. ج لوريمر، دليل الخليج، ج 2، ص. 905.

 

(1/923)

 

 

دعوة السلطان العماني ليمد سلطانه مرة أخرى إلى ظفار.

... ولعل الإجابة تكمن في تضارب المصالح الشخصية. ففي حين كان عوض بن عبد الله يأمل ـ فيما يبدو ـ أن ينصَّب على ظفار بناءً على ما وعده به السلطان العماني تركي بن سعيد إذا هو وقف بحزم وقاد العصيان والصورة في ظفار ضد فضل بن علوي(1)، نجد السلطان تركي بن سعيد لم ينفذ ما وعد به هذا الزعيم القبلي، ربما لعدم ثقته في الشيخ عوض وربما لأن الشيخ عوض ذاته كان غير محبوب أو مقبول من كافة أهالي ظفار، وخاصة محبي ومؤيدي السيد فضل

__________

(1) B. Kelly, op, cit., p. 775.

 

(1/924)

 

 

بن علوي الذي أدّى دوراً كبيراً في طرده من ظفار. لذلك نكث السلطان تركي بوعده وكلف موثوقه سليمان بن سويلم بدلاً منه.

... وفي مطلع سنة 1301 هـ/ 1883 م، حدث تمرد جديد في ظفار وحوصر واليها سليمان بن سويلم في قلعته. فأرسلت له قوة مكونة من 70 رجلاً، لكن رفع الحصار قبل وصول هذه القوة ولم تمكث طويلاً في ظفار ورجعت إلى مسقط، على الرغم من تكرر التمرد في الإقليم في السنة نفسها. ويعود هذا فيما يبدو إلى عدم حنكة الوالي العماني في إدارة الإقليم وقلة خبرته في التعامل مع خلافات القبائل. وفي سنة 1303 هـ/ 1885 م،

 

(1/925)

 

 

انفجر تمرد آخر فجأة في ظفار أثناء غياب الولي سليمان بن سويلم، ووجد نائبه علي بن سليمان ومساعده نفسيهما محاصرين في القلعة ومعهما حامية لا يزيد عدد أفرادها على 40 رجلاً. ولكن بعد وساطة عشيرة بني عمر، استطاع علي بن سليمان الانسحاب من القلعة والتراجع إلى مرباط دون أن يمسه أحد بسوء، ومنها أبحر إلى مسقط العاصمة لتدبر الأمر مع القيادة العمانية(1).

... كانت هذه الأحداث المحلية تجري في ظفار في الوقت الذي كان فيه السيد فضل بن علوي يحاول استعادة حكمه

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ج 2، صص. 905 ـ 906.

 

(1/926)

 

 

هناك. ولكن عندما فشل في محاولاته الذاتية، استعان بشريف مكة الذي نصح الباب العالي بتأييد السيد فضل ومساندته، لأن ضم إقليم ظفار إلى عمان في رأي شريف مكة سيؤدي إلى آثار جانبية سيئة في الجزيرة العربية. وما أن وصل ابن علوي إلى الاستانة حتى استحوذ على اهتمام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. وبالرغم من اعتراضات وزراء السلطان عبد الحميد ومستشاريه، فإنه قرر تدعيم السيد ابن علوي معنوياً في بادئ الأمر كي يستعيد ظفار، في خطوة كان السلطان العثماني يريد منها فيما يبدو الحد من النفوذ البريطاني إذا ما ضمن

 

(1/927)

 

 

ولاء الزعامات المحلية في أطراف الجزيرة العربية، حيث أنعم السلطان على الأمير الظفاري فضل بلقب وزير(1).

... ومن هنا يمكن القول إن الدولة العثمانية قد دخلت وجهاً لوجه في صراع مع البريطانيين على السيطرة والنفوذ في ظفار، وقد رأت بريطانيا في احتضان العثمانيين للسيد فضل بن علوي وكذلك نشاطهم العسكري في اليمن والأحساء خطة هدفها الالتفاف حول جناحي الوجود البريطاني على امتداد السواحل الشرقية والجنوبية للجزيرة العربية ابتداء بالبحرين وانتهاء بعدن. ولهذا وقف البريطانيون بكل قواهم

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 907.

 

(1/928)

 

 

مع السلطان العماني(1).

... وكان السيد ابن علوي أثناء إقامته في القسطنطينية قد كتب رسالة للسيد تركي بن سعيد في منتصف سنة 1301 هـ/ 1883 م تقريباً يشير فيها إلى أن هناك علاقة صداقة قد نشأت بينه وبين الحكومة البريطانية ونصحه بالتخلي عن ظفار. وتبعت رسالته تلك رسالة أخرى من شريف مكة ينصح فيها السيد تركي بالتخلي عن مطالبته بظفار من أجل السيد فضل بن علوي، لكن السلطان العماني الذي كان يعتمد على مساعدة البريطانيين وتأييدهم له رفض مشورة صاحب مكة وأكد في رده

__________

(1) مديحة أحمد درويش، المرجع السابق، ص. 129.

 

(1/929)

 

 

الشريف أن إقليم ظفار كان لأسلافه من سلاطين عمان؛ أما السيد بن علوي، فليست له جذور وراثية في الإقليم(1).

... وفي سنة 1302 هـ/ 1884 م تلقت حكومة بومباي من خلال القنصل التركي العام هناك رسالة من السيد بن علوي شكا فيها من أعمال سلطان عمان في ظفار. ولكن حكومة بومباي لم تعر الأمر اهتماماً، في الوقت الذي لم ييأس فيه السيد ابن علوي من تكرار محاولاته. ففي سنة 1304 هـ/ 1886 م ركز جهوده كلها على استعادة الإقليم، لكن التدخل البريطاني أفسد محاولاته. فحين عادت إحدى

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 907.

 

(1/930)

 

 

سفن الحجاج من الحجاز وكانت ترفع العلم البريطاني إلى عدن تبين أنه كان على ظهرها محمد بن السيد فضل ومعه 16 رجلاً من أنصاره إلى جانب حوالي مائة جندي من جنود شريف مكة، وكانوا جميعاً يحملون كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. فصادرت السلطان البريطانية في عدن تلك الأسلحة بناء على قوانين حظر الأسلحة، ونزل محمد الذي كان هدفه بلاشك النزول في ظفار إلى البر(1).

... وبعد ذلك بقليل، تردد أن وكيلاً لمحمد بن فضل هذا قد استطاع أن ينقل إلى صلالة بظفار علماً تركياً

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، صص. 907 ـ 908.

 

(1/931)

 

 

ووثيقة ولاية من تركيا على الإقليم مع مبلغ من العملات النقدية التركية وبعض الأسلحة والذخائر وكانت جميعها مخبأة في بيت رجل من الكثيريين الذين عرفوا بولائهم للسيد فضل منذ البيعة الأولى له في مكة المكرمة، لكن لم يتبع ذلك أي نشاط ملموس وانتهت هذه الفترة من الصراع بإنذار موجه من الوالي التركي في البصرة للسيد تركي بن سعيد بشأن ظفار في منتصف سنة 1304 هـ/ 1886 م تقريباً(1).

... غير أن السلطان العماني أهمل ذلك الإنذار ولم يعره أي اهتمام، في الوقت الذي احتج فيه السيد فضل العلوي

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 908.

 

(1/932)

 

 

على ما حدث في عدن لكل من المقيم البريطاني هناك ولنائب الملكة في الهند أيضاً. إلا أن ذلك الاحتجاج لم يجن منه السيد فضل أي رد إيجابي، في وقت تضاءلت فيه سيطرة السلطان العماني خلال سنة 1886 م على ظفار باستثناء مرباط. وبقي الوضع غير مستقر في الإقليم حتى نهاية ذلك العام عندما عين سلطان عمان محمد بن سليمان والياً على ظفار، وكانت معه حامية تضم 70 جندياً. ويبدو أن الوالي الجديد نجح في إعادة سيطرة السلطان على جميع أنحاء ظفار. لكن هذا الوالي لم يبق في الولاية لأكثر من سنة واحدة، حيث قرر السيد تركي إرسال

 

(1/933)

 

 

سليمان بن سويلم مرة أخرى إلى ظفر، وفي تلك الأثناء كان الظفاريون يحاصرون ممثل السلطان، وقد أعلنوا عزمهم على مقاومة عودة سليمان بن سويلم إليهم بالقوة(1)، ويبدو أن السيد تركي قرر أن الأمور بحاجة إلى مزيد من الحزم والقوة، خاصة وأنه تمكن من إنهاء مشاكله الداخلية في مختلف أقاليم عمان وبالذات إقليم جعلان الذي انتهى عصيان قبائله بالولاء التام لحكومة السيد تركي في مسقط(2).

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 909.

(2) Saeed A. Al-Amer, op, cit.

 

(1/934)

 

 

... فبادر بإرسال ابنيه فيصل وفهد وعدد كبير من وجهاء عمان على رأس 200 محارب ومعهم مدفع كبير إلى ظفار. ونجحت الحملة في إعادة سليمان بن سويلم إلى الولاية؛ كما ألقي القبض على خمسة من الشيوخ المعارضين الذين كانوا على اتصال بالسيد فضل بن علوي، وحملوا على سفينة متوجهة إلى مسقط(1). وبعد هذه الأحداث مباشرة، توفي السلطان العماني تركي بن سعيد وخلفه ابنه فيصل سنة 1305 هـ/ 1888 م(2)، وانقضت السنوات السبع الأولى من حكم

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 909.

(2) مديحة أحمد درويش، المرجع السابق، ص. 132.

 

(1/935)

 

 

السلطان الجديد فيصل بن تركي والأوضاع هادئة في ظفار، لكنه أرسل في سنة 1309 هـ/ 1891 م قوة قوامها 100 جندي لتعزيز الحامية العمانية في الإقليم. وفي الوقت الذي لم يكن اليأس قد داخل السيد فضل في إمكان استعادة ظفار وكان ما يزال مقيماً في القسطنطينية، مُنِحَ أبناؤه الأربعة ألقاباً عثمانية، وهم سهل باشا وحسان باشا ومحمد بك وأحمد بك وكانوا جميعهم يشغلون وظائف عامة في الحكومة التركية، فتدعم موقفه في الدوائر الرسمية العثمانية، فيما كانت التبرعات تصله من الهند لدعم موقفه السياسي والمالي، لكنها كانت في

 

(1/936)

 

 

تناقص دائم(1).

... وفي سنة 1312 هـ/ 1894 م، تقرب السيد فضل بن علوي من السفير البريطاني في القسطنطينية وطلب الإذن له بالعودة إلى ظفار مع أبنائه. وعرض في مقابل ذلك أن يكفل حرية التجارة بين ظفار وباقي المستعمرات البريطانية في الهند ووكالاتها التجارية والسياسية في سواحل الجزيرة العربية الجنوبية والشرقية، وأن يلتزم بالقضاء على تجارة الرقيق ويساهم فيه، لكن مقترحاته لم تلق القبول لدى البريطانيين(2).

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 910.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/937)

 

 

... وفي ربيع 1312 هـ/ سنة 1895 م، كان سهل باشا ابن السيد فضل يعيش في قصر القبة بالقاهرة ضيفاً على الخديوي عباس الثاني في مصر. وأثناء إقامته هناك، دخل في مفاوضات مع القنصل البريطاني العام في القاهرة مستهدفاً عون بريطانيا لاستعادة ظفار. غير أن محاولاته لم تنجح. وبعدها غادر القاهرة عائداً إلى القسطنطينية، فيما اتخذت السلطات البريطانية الحيطة لمراقبته في القاهرة وجدة وعدن، ونصحت السلطان العماني بتعزيز حامياته في ظفار وتزويدها بالرجال والسلاح، خاصة بعد أن أصبح السيد فضل بن علوي يحظى بعطف

 

(1/938)

 

 

العثمانيين(1)، وبعد أن أصبح لأبنائه نشاط سياسي وعسكري ملموس في اليمن وحضرموت. وقد تبين هذا النشاط للبريطانيين من خلال متابعتهم الدقيقة لنشاط فضل بن علوي ومؤيديه العثمانيين(2).

... وفي تلك الأثناء، بدأ تمرد خطير يعتبر أعنف تمرد على السلطان في ظفار بهجوم مفاجئ وقع سنة 1313 هـ/ 1895 م وقتل في ذلك الهجوم نائب الوالي وأحد أبناء الوالي نفسه سليمان بن سويلم مع أحد عشر من رجال الحامية، وانسحبت بقية الحامية إلى مرباط. والسبب المباشر لذلك

__________

(1) المرجع السابق، ص. 911.

(2) فيلبس، المرجع السابق، ص. 96.

 

(1/939)

 

 

التمرد هو الزج بأحد رجال بني كثير في السجن. وكان الكثيريون المتحصنون في الجبال هم الذين تولوا زمام المبادرة في هذا التمرد، وسرعان ما انضم إليهم بعض الأهالي والتزم البعض الآخر بالحياد. ولم يوفق الوالي العماني في إدارة الأزمة وحلها(1)، وتباطأت بريطانيا في تقديم المساعدة للسلطان في إخماد عصيان ظفار بسبب ترحيب السلطان بافتتاح قنصلية فرنسية في مسقط واتصاله بالروس(2). ولهذا

__________

(1) ج. ج. لوريمر، المرجع السابق، ص. 911؛ كذلك انظر: فيلبس، المرجع السابق، ص. 98.

(2) مديحة أحمد درويش، المرجع السابق، ص. 142.

 

(1/940)

 

 

اعتمد السلطان العماني على إمكاناته الذاتية، فأرسل السلطان فيصل نجدة عسكرية مكونة من 250 جندياً، لكن هذه الحملة لم تستطع أن تستعيد زمام الأمور بالرغم من وجود قاعدة لعملياتها في مرباط (1).

... ولعل السبب يعود لوجود أنصار لفضل بن علوي وللدولة العثمانية في الإقليم مستغلين سخط الأهالي من تصرفات الوالي العماني في ظفار، خاصة بعدما وردت تقارير تفيد أن هناك شيئاً من التأييد والحضور لأنصار ابن علوي(2). وقد استخدم المتمردون أعلاماً وصفت بأنها

__________

(1) ج. ج لوريمر، امرجع السابق، ص. 912.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/941)

 

 

تركية. ولهذا بادر الوكيل السياسي البريطاني في مسقط بعد تلك الأنباء بالتوجه مسرعاً إلى ظفار لبحث الموقف في أوائل منتصف عام 1314 هـ/ 1896 م، كما فوضه سلطان عمان بالتحدث باسمه مع رجال القبائل، ووجد الوكيل السياسي علم السلطان مرفوعاً على قرية حافة الساحلية(1). إلا أن حامية السلطان هناك كانت محاصرة بالفعل، كذلك كان العلم العثماني يرفرف فوق صلالة، وإن لم يستطع أن يضع يده على دليل يثبت وجود مبعوثين عن ابن علوي في المدينة، والتقى الوكيل السياسي بزعماء التمرد، ومن

__________

(1) قرية ساحلية بالقرب من صلالة.

 

(1/942)

 

 

أشهرهم سالم بن حمد المرهوني وعلي ابن كثيري، لكنهم رفضوا العروض التي عرضها عليهم الوكيل البريطاني باسم السلطان، مثل نسيان الماضي ونقل سليمان بن سويلم وتعيين حاكم بديل وتحديد العوائد حسب القوانين، وكذلك التعويض عما حصل من أضرار(1).

... عند ذلك وأمام هذا الرفض، رجع الوكيل السياسي البريطاني إلى مسقط ونوقشت مسألة تقديم العون للسلطان من قبل حكومة الهند البريطانية وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في ظفار ، وصدرت التعليمات من قبل حكومة الهند البريطانية بضرورة

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 912.

 

(1/943)

 

 

تعزيز أعمال القوات العمانية في البر بنيران البحرية البريطانية عند الحاجة، وأبلغ السلطان بهذا العرض(1).

... وكان البريطانيون في سباق مع الزمن حتى لا يكون في ظفار أي نفوذ عثماني. وفي منتصف عام 1315 هـ/ مطلع عام 1897 م، طلب السلطان دعم السلطات البريطانية الذي عرضوه عليه. وكان هدف البريطانيين من ذلك العون أن لا يضطر السلطان فيصل إلى طلب المساعدة والعون من الفرنسيين(2) في ظل تزايد الوجود الفرنسي في عمان ودخولهم في منافسة شديدة

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 913.

(2) مديحة أحمد درويش، المرجع السابق، ص. 143.

 

(1/944)

 

 

مع الأنجليز، حيث منحت فرنسا أعلاماً فرنسية لسفن بعض العمانيين، خاصة سفن أهل صور التي أصبحت تحمل الأعلام الفرنسية والتي أعطتها هذه الأعلام الحصانة ضد تفتيش السفن الأنجليزية لها(1).

... لذلك تحرك إلى ظفار المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي ومعه الوكيل السياسي في مسقط والسيد محمد الشقيق الأكبر للسلطان فيصل مع قوة مكونة من 70 فرداً على

__________

(1) عبد القوي فهمي محمد، »مشكلة الأعلام الفرنسية في عمان«، إقليم الخليج على مر عصور التاريخ، منشورات اتحاد المؤرخين العرب، القاهرة، 1417 هـ/ 1996 م، ص. 571.

 

(1/945)

 

 

ظهر سفينتين بريطانيتين. وعند وصول الحملة إلى سواحل ظفار، وجدوا العلم العثماني مرفوعاً بالفعل فوق ساريتين، والتقى الوكيل السياسي بشيوخ المتمردين على الساحل، وعرض عليهم نسيان الماضي مع عدم زيادة الضرائب. لكن الشيوخ أصروا على عدم رغبتهم في وجود وال عماني لديهم أو أن يكون اختيار الوالي برضاهم. وربما عاد السبب من وجهة نظرهم إلى تعسف هذا الوالي وسوء إدارته. وأثناء المفاوضات، أشاروا إلى أنهم تحت الحماية العثمانية، مما يدل على أن من بينهم من يؤيد السيد ابن علوي والعثمانيين. وعند ذلك، كتب لهم المقيم

 

(1/946)

 

 

البريطاني السياسي في الخليج العربي يطلب إعلان استسلامهم خلال يومين بشروط تتضمن استجابة لبعض مطالبهم. وبعد تدبر الموقف فيما بينهم، وفي ظل عدم وجود الدعم السريع من العثمانيين أو من الذي يمثلهم في المنطقة في الوقت المناسب، بادروا إلى نزع العلم العثماني وتسليمه لإحدى السفن البريطانية. وانتهت تلك الأزمة بسلام، وغادر سليمان بن سويلم والي ظفار العماني إلى ولايته بعد أن سحب الشيوخ معارضتهم لعودته(1).

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، صص. 914 ـ 915.

 

(1/947)

 

 

... وفي حقيقة الأمر، لم يكن السيد ابن علوي هو المحرض على هذا التمرد، لكنه حاول استغلاله لمصلحته، وقد يكون ساهم بطريقة أو بأخرى في استمرار العصيان من خلال أنصاره ومؤيديه، في الوقت الذي جدد فيه عرضه أن يعقد مع البريطانيين اتفاقية لحماية حقوقهم مقابل استقلال ظفار. وقد قدم هذا العرض للسفير البريطاني في إستانبول. ورداً على ذلك العرض، أبلغ السيد ابن علوي بأنه لا حق له في السير إلى ظفار، وأن السلطات البريطانية لن تعترف بأي مندوب عنه يرسله إلى هناك(1).

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 915.

 

(1/948)

 

 

... فكان هذا دعماً واضحاً للسلطان العماني ورفضاً قاطعاً لحكم السيد ابن علوي ونفوذه في ظفار. فقطع البريطانيون على العثمانيين، في الوقت نفسه، الطريق للوصول إلى هذه المواقع الاستراتيجية في جنوب الجزيرة العربية.

... وبعد وصول سليمان بن سويلم وتوليه إدارة الإقليم بوقت قصير، بدأت أحداث السخط والتمرد من جديد. وفي الوقت نفسه تقريباً، قام أهل قرية الحافة الساحلية بهجوم مباغت علىأهل صلالة وقتلوا واحداً منهم في نزاع بين الأهالي. وحين وصلت هذه الأنباء إلى السلطان، كتب يستدعي الوالي سليمان بن سويلم من ظفار

 

(1/949)

 

 

وأرسل بدلاً عنه الوالي الجديد سيف بن يعرب ليخلفه والياً عليها، وجيء بسالم بن حمد المرهوني، زعيم التمرد، إلى مسقط وألقي به في السجن لعلاقته بالتمرد في ظفار. ولقي ابن عمه عمرو بن عبد الله المصير نفسه، لكن تم إطلاق سراح السجينين بتدخل ودي من قبل الوكيل السياسي البريطاني في عمان، وذلك لقرب احتفال السلطان فيصل بن تركي بزواجه من شقيقة أحد أعيان عمان(1).

... وفي بداية 1317 هـ/ 1899 م، نشأت أزمة جديدة بإقليم ظفار عندما تكرر اعتراض البدو طريق إمداد إحدى الحاميات العمانية بقلعة

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 917.

 

(1/950)

 

 

داخل الإقليم. فأعد الوالي العماني كميناً لهؤلاء البدو، ونجحت خطته، وقتل تسعة منهم، فهب بدو الإقليم كله معلنين التمرد. لكن أهل الإقليم من الحاضرة قاموا بمعاونة الحكومة على أبناء البادية، وخمد التمرد من تلقاء نفسه(1)، حيث كان فيما يبدو نتيجة لقلة هيبة السلطات في ظفار بسبب الخلاف المستمر بين أعيان ظفار ووالي الإقليم سليمان بن سويلم بالذات(2)

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) توفي سليمان بن سويلم فيما بعد سنة 1325 هـ/ 1907 م بعد أن تجاوز الستين من عمره عندما كلفه السلطان العماني بإحضار بعض مشايخ الهناوية الذين تمردوا في المنطقة الجنوبية الشرقية من مسقط، حيث أطلقت عليه النار وهو يعبر ممرّاً ضيقاً في وادي سمايل (انظر: فيلبس، المرجع السابق، ص. 98).

 

(1/951)

 

 

. ولم تتوافر أية دلائل تشير إلى أن لابن علوي أو للعثمانيين أي دور في ذلك التمرد(1).

... وبوفاة السيد فضل بن علوي في سنة 1318 هـ/ 1900 م في العاصمة العثمانية القسطنطينية(2)، انتهت هذه الأحداث التي كان يثيرها فضل أو مؤيدوه أملاً في استعادة عرشه في ظفار، وانتظم عقد هذا الإقليم بعد ذلك مع بقية الأقاليم العمانية في ظل حكم السلاطين العمانيين من آل سعيد.

 

المراجع

__________

(1) ج. ج لوريمر، المرجع السابق، ص. 917.

(2) خير الدين الزركلي، المصدر السابق، ج 5، ص. 150.

 

(1/952)

 

 

جامعة السلطان قابوس، دليل أعلام عمان، مكتبة لبنان، 1991.

وندل، فيلبس، تاريخ عمان، ترجمة محمد أمين عبد الله، ط 3، 1409 هـ/ 1989 م.

الزِّرِكْلِيّ، خير الدين، الأعلام، ط 5، دار العلم للملايين، بيروت، ج 5، 1980.

لوريمر، ج. ج، دليل الخليج، ترجمة وطباعة الديوان الأميري بقطر، ج 2، 1975.

مديحة أحمد درويش، سلطنة عمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار الشروق، جدة، 1982.

المعشني، سعيد بن مسعود بن محمد، الآثار التاريخية في ظفار، مطابع ظفار الوطنية، 1997.

 

(1/953)

 

 

السالمي، نور الدين عبد الله بن حمد، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، مكتبة الاستقامة، د. ت، ج 2.

العثيمين، عبد الله بن صالح، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 2، الرياض، ج 1، 1409 هـ/ 1989 م.

 

( الوثائق والمخطوطات

البحر الرواس، عبد المنعم بن عبد الله، ضنية الأخبار في علماء ظفار، (مخطوط)، جزء منه غير مرقم وقام الباحث بترقيمه. حصل عليه الباحث من أحد المهتمين بتاريخ ظفار.

وثيقة البيعة من قبل أعيان ظفار للسيد فضل بن علوي (صورة منها محفوظة لدى الباحث أهديت له من قبل أحد المهتمين بتاريخ ظفار).

 

(1/954)

 

 

( المقالات

عبد القوي فهمي محمد، »مشكلة الأعلام الفرنسية في عمان«، إقليم الخليج على مر عصور التاريخ، منشورات اتحاد المؤرخين العرب، القاهرة، 1417 هـ/ 1996 م.

Saeed A. Al-Amer, «The Rebellions of the People of Jalan Region against the Authority of the Musqat Government during the Nineteenth Century»,

بحث منشور في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، العدد 85، جامعة الكويت، الكويت، ربيع 1997.

 

( المصادر الأجنبية

J. B. Kelly, Britain and the Persian Gulf 1795-1880, London, 1968.

 

(1/955)

 

 

S. B. Miles, The Countries and Tribes of the Persian Gulf, London, 1960.

 

(1/956)

 

 

إنسية الإسلام

... أصدر صديقنا الأستاذ الكبير مارسيل بوازار Marcel الأمين العام ل "جمعية الإسلام والغرب" التي كنت أحد مؤسسيها في ( جنيف) أوائل الستينات كتابه " إنسية الإسلام" ( Humanisme de l’Islam) حيث تحدث بإسهاب وإعجاب عن تطور مسار الحضارة الإسلامية في العالم. وكان الأستاذ الفاضل قد وجه إلى كتابه وهو في ملزمته لأخذ رأيي في الموضوع فألفيته حافلا بالوثائق الشيقة عن الفكر الإسلامي وتأثيره في العالم المتحضر، وقد تحدث في هذا النطاق عن العالم الثالث فندد بالحس اللاشعوري الذي يخامر الأوربيين إزاء

 

(1/957)

 

 

هذا القسم من العالم مهابة واستهوانا. فالغرب يخشى هذا الجزء من الكرة الأرضية لأنه لم يدرك أحقية مطالبه ولأنه يجزع من انفلات موارده الثرية من بين يديه وهي موارده الأولية الضخمة وموارده الطاقية. وانصب تنديد الأستاذ المحترم على تشبت الغرب ثقافيا بوضعه الحالي ورضاه عن منجزاته المادية الغامرة واستناده إلى قوته العسكرية لفرض وجوده فلذلك يحدوه غروره إلى غض البصر عن الحقيقة وإلى منافرة الاستقامة الفكرية الضرورية لإدراك مدى الحماس الإديولوجي الذي يغامر هذا الفريق الحي من الإنسانية، فقليل هم أولئك الكتاب

 

(1/958)

 

 

المعاصرون الذين يدعون إلى تفتح القانون الدولي الإسلامي لما انبثق عنه الفكر الحديث من تأثيرات إيجابية حول حقوق الإنسان.

... إن تجاهل حقائق الثقافات النابعة من التقاليد الإغريقية قد دفع الكثير من رجالات الفكر إلى استنتاجات مرتجلة تتلخص في أن احترام الشخصية الإنسانية نابع من الفكر الغربي في حين أن الموضوعية التاريخية بل العدالة البسيطة تقتضي التذكير بأن الحضارة التي احتضنت الثقافة في البحر الأبيض المتوسط طوال سبعة قرون من العصور الوسطى هي حضارة الإسلام. وقد أصبح معظم الكتاب اليوم يعترفون بهذه

 

(1/959)

 

 

الحقيقة وبذلك فإن أغلبية من يتحدث عن نشأة القانون الدولي في مداه الإنساني وكذلك الخلق الأممي لا يشيرون إلا لماما لمساهمة الفكر الإسلامي في بلورة هذا العطاء الغامر. أليس الإسلام - مع ذلك - هو الذي تبنى وترجم وشرح معطيات القدامى مع تطعيمها ببصمات عبقريته الخاصة قبل نقلها إلى الغرب المسيحي ؟ ألم يكن ابن رشد وابن سينا - من بين الكثيرين من أمثالهم - هما اللذان تبوءا المكانة العليا في تلقين بدائع الفكر

 

(1/960)

 

 

للأجيال الأوربية ؟ إن الفلسفة الإسلامية قد خلصت حتى العبريين من ثقل النظرية التلمودية وذلك عن طريق ( موسى ابن ميمون) الفيلسوف اليهودي الذي عاش خلال القرن الثاني عشر الميلادي في أحضان البلاد الإسلامية والذي كان لفكره المقتبس من الثقافة الإسلامية أكبر الأثر في المشاعر الإسرائيلية والأوربية معا، كل ذلك يؤكد ببداهة أن الحضارة العربية الإسلامية قد ساهمت بوفرة محسوسة في ضمان احترام الشخصية الإنسانية وتركيز العلاقات المثلى بين الأمم والشعوب.

... ( مقتطفات من كتاب :

 

(1/961)

 

 

... "الإسلام والخلق العالمي « L’Islam et la morale universelle »

... ... ... ... ... ... ... ... للأستاذ عبد العزيز بنعبد الله

 

(1/962)

 

 

ابن رزيق المؤرخ العماني

 

الدكتور محمد موسي عبد الله

المجمع الثقافي - أبو ظبي

 

يحتل المؤرخ حميد بن محمد بن رزيق مكانة مرموقة بين المؤرخين العمانيين في العصر الحديث. عاصر ابن رزيق أحداث عمان وتاريخها في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتعتبر كتاباته المرجع الرئيسي عن تاريخ عمان في تلك الفترة. وكان ابن رزيق ذا معرفة واسعة بالتراث العماني الذي سبقه في ميادين الدين والتاريخ والآداب. لهذا كانت كتاباته موسوعة عن التاريخ العماني العربي والإسلامي. وقد أنهى كتابته التاريخية عند وفاة السيد سعيد بن سلطان

 

(1/963)

 

 

عام 1856.

سيرته وثقافته :

ينسب ابن رزيق نفسه فيقول : "حميد بن محمد بن رزيق ابن بخيت الذي هو من أولاد سعيد بن غسان نسبا الإباضي مذهبا النخلي سكنا". ولد حوالي عام 1783 م سنة وفاة الإمام أحمد بن سعيد مؤسس دولة البوسعيد في عمان. نشأ في بحبوحة من العيش في مسقط إذ كان جده يعمل في قلم الحساب في الفرضة (الجمرك) أيام الإمام اليعربي سيف بن سلطان الثاني. وحينما انتخب السيد أحمد بن سعيد إماما لعمان عام 1749 (1162 هـ) أكرم جده رزيق بن بخيت بسبب مودة كانت بينهما ووفاء لموقف رزيق منه حينما أنقذه من بطش الإمام

 

(1/964)

 

 

سيف بن سلطان. ولهذا تركه مسئولا عن الفرضة. ولقد كان لهذه العلاقة الطيبة بين الإمام أحمد بن

سعيد وأولاده وأحفاده وأسرة رزيق بن بخيت أثر في الصداقة بين مؤرخنا حميد بن رزيق

وأفراد العائلة الحاكمة وخاصة السيد سالم بن سلطان وأولاده. وقد أعان هذا مؤرخنا

ابن رزيق القرب من صانعي القرار ومن بيدهم الأمر والحكم. وأمده ذلك بالمعلومات الصحيحة الدقيقة(1).

__________

(1) حميد بن محمد بن رزيق، الصحيفة القحطانية، رودس هاوس، اكسفورد، 1852، ص. 467.

 

(1/965)

 

 

وقد عاشت في ذاكرة مؤرخنا ابن رزيق قصص النكبات التي حاقت بكثير من أسر مدينة مسقط أيام وجود الفرس التي حكاها الجد رزيق لأبيه محمد والتي نقلها بدوره إلى الإبن حميد. إذ قاست أسرة المؤرخ ابن رزيق من عسف القوة الفارسية التي استدعاها الإمام سيف بن سلطان الثاني إلى عمان عام 1737. ولهذا لا ينسى ابن رزيق أبدا بطولة السيد أحمد بن سعيد في تحرير صحار وبركا ومسقط من هؤلاء الغزاة الفرس. وقد شب حريق عام 1801 في بيت رزيق في مسقط وانتقل إلى مدينة نخل التي عاش فيها حتى وفاته. وهنا في نخل التقى باثنين من العلماء

 

(1/966)

 

 

كبار السن الذين عاصروا عهد الإمام أحمد بن سعيد. وأمدوه بالكثير من المعلومات الصحيحة وهما الشيخ معروف بن سالم الصايغي النخلي والشيخ ناصر بن حميد البداعي النخلي(1).

لم يكن هوى ابن رزيق مثل جده وأبيه في أمور الحساب والمال. بل كان محبا للعلم وحريصا على صحبة العلماء وأهل الأدب خاصة. وقد ترك له أبوه بعض المال. ووجد في أفراد أسرة البوسعيد وخاصة

__________

(1) حميد بن محمد بن رزيق، الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين تحقيق محمد موسي عبد الله ومحمد عبد المنعم عامر وزارة الثقافة والتراث القومي مسقط 1977 ص. 372.

 

(1/967)

 

 

السيد سالم بن سلطان الذي يقاربه في العمر الصحبة الطبية. وانكب ابن رزيق على القراءة. ووجد في مكتبة أبيه ومكتبات السادة وأفاضل العلماء في عمان ثروة هائلة من كتب الأدب والدين والتاريخ، وكان لديه نسخة خاصة من نخطوطه المؤرخ العماني الذي سبقه بقرن من الزمان سرحان بن سعيد "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة". وهي تبدأ من تاريخ عمان في العصر الجاهلي وحتى عام 1728. وقد كتب ابن زريق نسخته بخط يده. وهذه النسخة موجودة اليوم في تونس. ولقد وجد ابن رزيق في بداية حياته تشجيعا روحيا من السيد سالم بن سلطان وهو أخ

 

(1/968)

 

 

لسلطان مسقط وعمان في ذلك الوقت، وكذلك من العالم الكبير الذي انتهت إليه مقاليد رئاسة العلم في عمان الشيخ جاعد بن خميس الخليلي الخروصي(1).

 

في تلك الفترة المبكرة من حياة ابن رزيق أولى دواوينه الشعرية عام 1807 (1222 هـ) "سلوة الأنام في مدح الإمام الحميد أحمد بن سعيد". ولكن القدر لم يصف طويلا لمؤرخنا ابن رزيق إذ أصاب الشلل السيد سالم بن سلطان حينما قارب سن الأربعين وتوفى عام 1820 (1236 هـ). كما فاجأ الموت

__________

(1) John C. Wilikinson, The Imamate Tradition og Oman, Cambridge - London, 1987, pp. 2, 226.

 

(1/969)

 

 

أيضا بعد عام العالم الكبير أبو نهبان(1) . وانصرف ابن رزيق إلى قراءة كتب الأنساب والتاريخ العربي والإسلامي والتراث العماني.

كانت دواوين ابن رزيق الشعرية أولى ثمرات إنتاجه وتأليفه، ولهذا عرف بالشاعر. أما كتاباته التاريخية، رغم أنه بدأ تسجيلها منذ وقت مبكر، لم تظهر إلا في فترة متأخرة من حياته. وظهر له في عام 1826 (1242 هـ) ديوان "فصوص الجمان في مدح السيد محمد بن سالم" وفي العالم التالي 1827 (1243 هـ) انتهى من جمع ديوانه "سبائك اللجين". وهكذا ذاع اسم ابن رزيق في

__________

(1) ابن رزيق، الفتح المبين، ص. 388.

 

(1/970)

 

 

الأوساط الأدبية في عمان.

ولا شك أن الاستقرار الذي عرفته عمان في عهد السادة البوسعيد، والانتعاش الاقتصادي الذي شهدته البلاد، وتشجيع السادة البوسعيد للعلماء والأدباء كل ذلك أحدث نهضة أدبية علمية كبيرة في عمان. وقد صور لنا ابن رزيق في مخطوطته الصحفية القحطانية مجالس الأدب في عهده يقول :

ومضت ذات يوم عام 1252 (1836 م) إلى مجلس من مجالس أهل الأدب في مسقط حرسها الله. فلما وافيته رحب بي أهله. وكان في المجلس شيخا أدبيا كبيرا في السن. فقال له بعض أولئك الأدباء أيها الشيخ إن أديبا من أدباء أهل عمان ينظم

 

(1/971)

 

 

الشعر ويحب الأدباء الأخيار. فقال له : لعله ابن رزيق. فقال له أجل فأقبل علي باحتشام وابتسام وقال لي : أيها الأديب اسمعني شيئا من شعرك. فقلت له أيها الشيخ تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه. فقال لا والله ما أنت بالذي يقال فيه هذا. فأنشدته أباتا نظمتها سابقا في وصف حمامة مغردة على فنن. فقال يا نظير ابن هانئ زدني. فأنشدته في وصف سحابة غاربة. قال هل قلت شيئا في الرعد والبرق والمطر. قلت أجل. فأنشدته. قال لي : لا غرو هذا منكم يا أهل عمان(1) .

__________

(1) ابن رزيق، الصحيفة القحطانية، ص. 468.

 

(1/972)

 

 

وحفظ لنا ابن رزيق نتاج مجموعة من أعلام الشعراء في عصره وسجل أشعارهم ومجموعة من الأدباء كاتبي المقالات. كما كتب المداولات الأدبية فيما بينهم. ومن هؤلاء الشيخ القاضي أبو الأحوال سالم بن حمد بن سالم الدرمكي الأزكي الذي أكرمه السيد حمد بن الإمام سعيد وولاه القضاء. ومن شعراء عصر ابن رزيق أيضا الذين ذكرهم في كتابه الفتح المبين شارحا الحياة الأدبية في ايامه وما كان يجري فيها من مطارحة الشعر الشاعر أبو محمد ناصر بن محمد الخروصي. ولا ينسى ابن رزيق أن يسجل بقلمه الجانب الديني لدى هؤلاء الشعراء والأدباء

 

(1/973)

 

 

حينما تختتم عادة هذه الجلسات بحلقة ذكر الله.

ولقد توطدت الصحبة بين ابن رزيق وبين الشيخ ناصر بن أبي نهبان الذي احتل مكانة أبيه في العم والتأليف. كما بدأ يشب وينضج مع الوقت السيد حمد بن سالم الذي توطدت أيضا عرى الصداقة والاحترام بينه وبين ابن رزيق. وإلى السيد حمد بن سالم أهدى ابن رزيق كتابه الضخم وموسوعته التي أكملها في عام 1852 (1269 هـ) الصحيفة القحطانية التي جمع بها ذخيرة العمر من قراءة وصحبة للعلماء. كما أنه بطلب من السيد حمد بن سالم ألف كتابه الأخير الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين

 

(1/974)

 

 

عام 1858 (1275 هـ) وأضاف إليه سيرة السيد سعيد بن سلطان بعد وفاته عام 1856 (1273 هـ).

تلك صورة سريعة من حياة وسيرة ابن رزيق وسعيه الدائب في تحصيل العلم وقرض الشعر وتسجيل التاريخ، وهي تعكس فكر العصر وثقافته ورجاله، ونحن لا نسمع كثيرا عن ابن رزيق خلال الستينات من القرن التاسع عشر بعد نشاطه الكبير في الكتابة أثناء الأربعينيات والخمسينيات التي اكتملت فيها معظم كتبه وانتاجه خاصة في ميدان الكتابة التاريخية، وقد طال العمر بمؤرخنا وأديبنا ابن رزيق إذ ذكر أنه لا يزال على قيد الحياة في عام 1873 (1290 هـ)

 

(1/975)

 

 

وعمره وقتذاك يناهز التسعين عاما(1). ولم يدر بن رزيق أن نسخة من مخطوطة الفتح

المبين في سيرة السادة البوسعيديين المحفوظة في مكتبه القصر في مسقط قد أهداها السيد

ثويني بن سعيد إلى القس الإنجليزي بادجر في عام 1860 (1277 هـ) وأن كتابه هذا سوف

يترجم إلى الإنجليزية وينشر في لندن عام (1871) قبل وفاته. وبذلك خرج اسم المؤرخ

خارج عمان إلى الغرب قبل ان يعرفه العامل العربي بقرن من الزمان. وقد كلفت وزارة التراث القومي والثقافية في عمان

__________

(1) G.P. Badger, Imams and Syyids of Oman, Hakluyt Society, London, 1871.

 

(1/976)

 

 

الدكتور محمد موسي عبد الله بتحقيق هذه المخطوطة وتم نشرها في عام 1977.

وهكذا استطاع ابن رزيق بسعيه الحثيث في طلب العلم وموهبته في قول الشعر أن يسجل اسمه في عداد كبار المؤرخين العمانيين في العصر الحديث، كما اشتهر له شعره بالفحولة والنبوغ، وسجل اسمه أيضا بين فحول شعراء عمان، رحمه الله رحمة واسعة.

مؤلفات ابن رزيق :

ترك لنا ابن رزيق عددا من المخطوطات في موضوعات عدة منها في علم الأنساب والتاريخ والأدب. وكان إنتاجه الأدبي في ميدان الشعر والمقامة والموضوعات النثرية باكورة أعماله.

 

(1/977)

 

 

إنتاجه الأدبي والديني :

بدأ قرضه للشعر في رثاء السيد سلطان بن أحمد في عام 1804.

وفي تمام عام 1807 جمع ما قاله من شعر في مدح الإمام أحمد بن سعيد في ديوانه "سلوة الأنام في مدح الإمام الحميد بن سعيد".

وأخرج ابن رزيق باكورة إنتاجه الشعري في كتاب سماه "سبائك اللجين" حوالي عام 1827م (1243 هـ) بعد وفاة صديقه السيد سالم بن سلطان وهو موجود في المكتبة البريطانية بلندن.

يقول ابن رزيق في خطبة كتابه "سبائك اللجين" :

فلأجل ذلك قلت في خطبيتي عند تأليفي للكتاب سميته سبائك اللجين :

 

(1/978)

 

 

أمات بمحياه (يقصد السيد سالم بن سلطان) الطغيان وأحيا بصماته الأشجان.

وجمع ابن رزيق أواخر أيام حياته كتابه في الشعر والنثر في كتاب سماه : "جوهرة الأشعار وفريد الأفكار" وقد وصف هذا الكتاب في مقدمته بقوله :

كتاب كثير الأوراق محتو على ما ... راق أهل الذوق السليم(1)

وقد ضمن ابن رزيق في هذا الكتاب قصيدة رثاء في صديقه الشيخ ناصر بن أبي نهبان الذي قضى آخر أيام حياته في زنجبار وتوفى هنالك في عام 1845 يقول بأن رزيق في رثائه :

 

قيل لي سم ما صنف

__________

(1) ابن رزيق، الفتح المبين، صص. 6 - 2.

 

(1/979)

 

 

الفقيه النبيه نجل أبي نهبان

 

الشيخ من الكتب ناصر ذو المعالي

يم الندى فصيح المقال

 

وهذا الديوان لا يزال مفقودا ولكنه ذكره في كتابه الفتح المبين وأثبت فيه بعض أشعار هذا الديوان.

ولابن رزيق أيضا كتاب سماه : "علم الكرامات المنسوب إلى نسق المقامات" ولحب ابن رزيق للعبادة ومعاني الزهد والتقوى كان له ميل للتصوف وتقدير كبير وحب أهله، وكان يؤمن بالكرامات.

وكان لابن رزيق أيضا دلوه في ميدان علوم الدين. إذ نقل في مخطوطته وموسوعته الصحيفة القحطانية كتاب "الترتيب في الصححي من حديث رسول الله- صلى الله عليه

 

(1/980)

 

 

وسلم - " الذي جمعه أبو الشعتاء جابر بن زيد. وقد رتب الكتاب الذي نسخه ابن رزيق في الصحيفة القحطانية الشيخ الأوحد أبو يعقوب يوسف بن أبي ابراهيم بن منادى السدراني الأباضى.

وقد جاء في كتاب الترتيب من أربعة أجزاء الجزء الأول من واحد وستين بابا في الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والمواريث والآداب الإسلامية. أما الجزء الثالث فهو عن الولاية والبراءة. وجاء الجزء الرابع مجموعة من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

مخطوطاته في التاريخ العماني :

 

(1/981)

 

 

منذ وقت مبكر من حياة ابن رزيق بدأ مشروعيه وكتابيه الضخمين :

الأول : الصحيفة العدنانية التي اكتملت لديه في عام 1842 (1258).

وقد بدأها شعرا في قصيدته القدسية النورانية في مناقب العدنانية التي قالها في

وقت مبكر، ولكنه ظل يكتب فيها حتى ظهرت في سفر ضخم سماه "الصحيفة العدنانية".

وقد استغرق إنجازها في مرحلتها الأخيرة أربع سنوات، وهي موجودة في

مكتبة المتحف البريطاني في لندن، وقد نسخها بخط يده. وتحتوي تسعة فصول عالج فيها أنساب العدنانية وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وتاريخ بين

 

(1/982)

 

 

أمية والعباسيين. وأولاد بعض الأعلام العدنانيين البارزين في مختلف المجالات الأدبية والسياسية والعسكرية(1).

الثاني : الصحيفة القحطانية التي اكتملت لديه في عام 1852 (1269) وقد كتب أغلبها بخط يده.

وقد أدخل ابن رزيق في هاتين الموسوعتين كثيرا من دراساته ومؤلفاته التي عرفت عنه فيما بعد بعناوين متميزة وأظهرها كتبا منفصلة بذاتها ف يالتاريخ العماني.

__________

(1) حميد بن محمد بن رزيق، المكتبة البريطانية لندن تحت رقم 6569 O.K.

 

(1/983)

 

 

وقد أودع ابن رزيق في موسوعته الضخمة "الصحيفة القحطانية" كل قراءاته في علم الأنساب وكيف كان إسلام أهل عمان وتاريخ الحركة الأباضية ودراسة أعلام المذهب وخاصة أبي الشعثاء جابر بن زيد، وكذلك أسماء الصحابة والتابعين من الأزد ثم علماء الأزد العمانيين. وقد سجل ابن رزيق في الصحيفة القحطانية الضخمة معلوماته عن قيام الإمامة في عمان وبيان واف عن أئمتها.

وقد سجل ابن رزيق في الباب السابع من موسوعته الصحيفة القحطانية عدد اثنين وأربعين قصيدة مطولة للشاعر راشد بن جمعة بن خميس الحبسي في مدح الإمام سلطان بن سيف.

 

(1/984)

 

 

كما سجل ابن رزيق في الصحيفة القحطانية كتابه المسمى السير الجلية المسماه سعد السعود البوسعيدية وهي سيرة الإمام أحمد بن سعيد وأولاده وقد انتهى بها إلى وفاة السيد سلطان ابن الإمام أحمد، وهذا معناه أنه بدأ كتابتها قبل عام 1820.

وكذلك كان إنشاؤه لقصيدته الكبرى "في ذكر أسماء أئمة عمان وما بهم من العدل والشأن" قالها شعرا في وقت مبكر. ثم أضاف إليها شروحه التاريخية واللغوية التس استغرقت وقتا طويلا كمخطوطة منفصلة في عام 1855 (1272).

 

(1/985)

 

 

وقد كان نظمه لهذه القصيدة المطولة كما حكة في مقدمة كتابه بطلب من بعض أصدقائه من العلماء :

 

سألني بعض الإخوان في الدين أن أنظم قصيدة في أسماء أئمة عمان الصالحين المنتوين عن الهجين المساغين عمان بالصنع المعين، فأجبته امتثالا لأمره وانخفاظا مني لإرتفاع قدره(1).

وهذه القصيدة من مائة وثمانية وأربعين بيتا فيها خمسة وعشرين إماما. أولهم الإمام الجلندة بن مسعود وآخرهم الإمام سلطان بن مرشد اليعربي. وكانت المدة التي استغرقها حكم هؤلاء الأئمة ألف عام.

__________

(1) ابن رزيق، الصحيفة القحطانية، ص. 419.

 

(1/986)

 

 

ويعتبر ابن رزيق أول شاعر ومؤرخ في عمان ينظم قصيدة بهذا الطول تحوي كل أئمة عمان شعرا. وقد نسج على هذا المنوال من جاء بعده، وقد سار الشاعر المعاصر عبد الله بن علي الخليلي في كتابه "عمان في سجل الدهر" على درب ابن رزيق في كتابه الشعاع الشائع باللمعان. وكما ذكرت ظهرت هذه المعلومات التاريخية المذكورة في هذا الكتاب عن الأئمة في موسوعته "الصحيفة القحطانية" وذكرها مرة أخرى حرفيا في كتابه "الفتح المبين".

ومن مؤلفات ابن رزيق في التاريخ دراسة في سيرة الإمام ناصر بن مرشد نقرأها في موسوعته الكبيرة الصحيفة

 

(1/987)

 

 

القحطانية. ويصور ابن رزيق الدافع الذي دعاه لهذا التأليف :

وقد وقعت على تواريخ عدة لأصحابنا اهل عمان في السبب الباعث لتقلد الإمامة لقطب أهل المذهب الاستقامة الممجد ناصر بن مرشد، فمنهم من اختصر ومنهم من اطال الكلام، وقد فات من أطال أو اختصر كثيرا من أبرز مناقبه الجلية وسيرته الصالحة المرضية.

فأشار علي بعض الإخوان في دين الله المنان أن أنظم سيرته في سلك الحقيقة لأهل ممتثلي الطريقة وسجعت سيرته الرضية وقشبت غضونها بأشعار جلية وسميتها كتاب "سراج المسترشد الهادي لمناقب سيرة الإمام الممجد ناصر بن مرشد

 

(1/988)

 

 

بن يعرب بن مالك اليعربي"(1).

وبعد وفاة السيد سعيد بن سلطان عام 1856 (1272 هـ) طلب السيد حمد

بن سالم من ابن رزيق أن يكمل دراسته للسيرة الجلية المسماة سعد السعود

البوسعيدية وهي سيرة الإمام أحمد بن سعيد وأولاده التي كان قد بدأ كتابتها في

 

العشرينات ووصل فيها إلى سيرة السيد سالم بن سلطان الذي مات عام (1820 هـ). وطلب السيد حمد بن سالم أن يكمل هذه السيرة الجلية بالكتابة عن عهد السيد سعيد بن سلطان لتكتمل قصة الإمام وأولاده وأحفاده.

__________

(1) ابن رزيق، المصدر السابق، صص. 411-412.

 

(1/989)

 

 

وكانت فرصة ان يجمع ويكتب ابن رزيق سفره الجامع في تاريخ عمان الذي ظهر تحت عنوان "الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين". الذي أتمة عام 1858 (1275 هـ) وهذا السفر عبارة عن ثلاثة أبواب :

الباب الأول : عن الأزد أجداد وأصول البوسعيديين.

الباب الثاني : عن أئمة عمان.

الباب الثالث : الإمام أحمد بن سعيد وأولاده حتى سيرة سالم بن سلطان.

والحقيقة أن ابن رزيق قد جمع ولخص هذه الأبواب الثلاثة السابقة مما سبق وكتبه في هذه الموضوعات في موسوعته الصحيفة القحطانية وكتابه الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان.

 

(1/990)

 

 

ثم أضاف رزيق كتابا جديدا لهذه الأبواب الثلاثة، اجتهد في إنجازه بعد وفاة السيد سعيد بن سلطان وقد سماه : "بدر التمام في سيرة السيد الهمام سعيد بن سلطان".

ويفسر ابن رزيق في مقدمة كتابه الفتح المبين فلسفته في كتابة التاريخ وأنه لم يسجل من قبل سيرة السيد سعيد بن سلطان لأنه كان لا يزال على قيد الحياة، وهو من قبل لم يكتب عن سيرة صديقه السيد سالم بن سلطان إلا بعد وفاته عام 1820، ويشرح لنا هذا أن ابن رزيق مؤرخ صادق، لم يكتب كتابه في التاريخ عن البوسعيد نفاقا ورياء لكنه كتب تاريخهم كجزء من تاريخ عمان

 

(1/991)

 

 

وعلى أنهم سادة أفاضل في وطنه العزيز.

ويعلم ابن رزيق أن كتابة الحقيقة الخالصة غير ممكنة، إذ علمها عند الله ولكنه يعتذر بأن ما كتبه هو ما حفظه ووصف لما شاهده وحسبه الصدق والأمانة والدقة في كتابته، كل هذه المعاني سجلها ابن رزيق في مقدمة كتابه "الفتح المبين" إذ يقول :

لما كتبت سيرة الإمام أحمد بن سعيد وأتبعته بذكر مناقب أولاده أهل التفضيل

على الجملة والتفصيل تماسكت عن نظم سيرة الهمام سعيد بن سلطان اقتداء

 

بمذهب المؤرخين الأولين والآخرين إذ هم لا يؤرخون أهل المناقب العلية إلا بعد ارتحالهم لمنية.

 

(1/992)

 

 

ولما قضى بحكم القضاء تاقت نفسي لذكر ما كان له من الكوائن في زمانه. وأن أذكر بعض ما حفظته في سيرته الجزئية السنية إذ الكلية متعذرة للسر والعلانية. وإن من رفع السماء بغير عمد هو لا غيره لا يعزب عنه مثقال ذرة(1).

ابن رزيق بين المؤرخين العمانيين :

يعتبر ابن رزيق أحد ثلاثة علماء أوائل من أبناء عمان الذين بدأو تناول كتابة التاريخ العماني الشامل بعد أن كانت كتابة التاريخ في عمان قبلهم لا تعدو سيرا متفرقة. وجاء ابن رزيق الثاني في الترتيب الزمني بين هؤلاء العلماء الثلاث.

__________

(1) ابن رزيق، نفس المصدر، ص. 206.

 

(1/993)

 

 

وهم حسب معالجتهم لفترات التاريخ العماني :

1- سرحان بن سعيد مؤلف كتاب "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة" وقد عالج التاريخ العماني من بدايته وحتى عام 1728 (1141). وكان له بذلك فضل السبق في كتابة هذا النوع من التاريخ الشامل. وكان بذلك المرجع الذي أخذ عنه ابن رزيق ثم الشيخ عبد الله السالمي من بعده.

2- حميد بن محمد بن رزيق مؤلف كتاب "الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين". وهو ينتهي بالتاريخ العماني في عام 1856 (1273) وله فضل تسجيل التاريخ العماني إبتداء من الفترة التي توقف عندها سرحان بن سعيد في عام

 

(1/994)

 

 

تسجيل التاريخ العماني إبتداء من الفترة التي توقف عندها سرحان بن سعيد في عام 1728. ويكمل لنا القصة حتى عام 1856.

3- وثالثهم عبد الله بن حميد السالمي في كتابه : "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" وهو يكمل قصة التاريخ العماني بين عام 1856 (1273 هـ) وحتى عام 1913 (1332).

وقد وجد كل من العالم سرحان بن سعيد والمؤرخ حميد بن رزيق حينما شرعا

يكتبان التاريخ العماني الشامل لول مرة أمام أيديهما ميراثا عمانيا غنيا ينهلان منه.

سواء كان هذا في كتب الأنساب مثل كتاب أبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي

 

(1/995)

 

 

الصحاري : "أنساب العرب" أو مجموعات من دوانني الشعر على مر العصور. ومن أهم مصادرهما في كتابة التاريخ العماني الشامل كتب السير العمانية التي سجلت لنا فترات هامة من تاريخ عمان. وتناقلت نسخ هذه السير وكتابتها أجيال العلماء وذوي الفضل من أبناء عمان، وهذه السير عبارة عن روايات شخصية لبعض الأحداث السياسية وشرح للعقيدة الأباضية ومبدأ الولاء والبراءة عند الأباضيين حيال بعض المواقف. لقد اتفق هؤلاء العلماء على عدد من الموضوعات المتقاربة فجاء نهجهم أيضا متشابها. وهذه السمات البارزة هي :

 

(1/996)

 

 

1- بدء عرض التاريخ العماني بدراسة سكانية للقبائل، ما هي أصول العمانيين، من أين أتوا، وما هي لغتهم وما هي عقيدتهم. وهذا نهج حديث يتبعه المؤرخون المحدثون اليوم حينما يعالجون تاريخ بلد من البلدان. ولقد اتفق العلماء الثلاثة على لمس جانب الاعتزاز عند أبناء عمان، فهم يرجعون إلى هجرة الأزد إلى عمان وهجرة القبائل العدنانية إلى شمال عمان.

وقد يتشابه مؤرخنا العماني ابن رزيق مع المؤرخ الطبري وابن الأثير في تقديم كتابتهم للتاريخ العربي والإسلامي بذكر الأنساب والقبائل العربية، ولكن بينما يبدأ المؤرخ الطبري

 

(1/997)

 

 

وابن الأثير القصة بخلق الكون ثم ظهور آدم متأثران في ذلك بالثقافة الإسرائيلية التي أمد بها وهب بن منبه وغيره من المؤرخين الإسلاميين الأوائل، نجد أن ابن رزيق قد سلم من ذلك ودخل مباشرة إلى هجرة مالك بن فهم وقبيلته من الأزد إلى عمان.

2- لقد تعرضن عمان وأبناؤها من معتنقي المذهب الأباضي إلى حملات عسكرية من قبل حكام بني أمية ومن الدولة العباسية. كما تعرض فكرهم ومذهبهم إلى هجوم شديد من دار الخلافة، فكان لا بد للمؤرخ العماني أن يعرض كيف أسلم أهل عمان وفضلهم في هذا الإسلام دون حرب أو قتال، وكذلك مشاركتهم

 

(1/998)

 

 

في الفتوحات الإسلامية ةتكاثرهم في البصرة، وكيف كان منهم في هذه المدينة الجديدة حملة العلم سواء في اللغة أو في الدين، كما كان منهم رجال في السياسة والحرب مثل آل المهلب بن أبي صفرة. ويشرح المؤرخ العماني الأحداث التي أدت إلى ظهور مذهب الاستقامة الأباضي ويناقش أفكار الأحزاب السياسية الإسلامية المختلفة،

وتسنح هنا له الفرصة كي يشرح مبادئ مذهب الاستقامة الأباضي ويبين تميزه ومعالمه، ثم يتابع المؤرخ في منهجه هذا لتكلم عن السياسة.

 

(1/999)

 

 

وهذه السير كثيرة العدد قليلة الصفحات، وهي مع ذلك من أهم مصادرنا التاريخية عن تاريخ عمان الإسلامي المبكر.

ومن تلك السير السيرة القحطانية لأبي قحطان خالد بن قحطان، وسيرة شبيب بن عطية وسيرة المؤثر الصلت بن خميس الخروصي وسيرة أبي الحسن بن محمد البسيوي وكتاب سير الأئمة وأخبارهم لأبي زكريا يحيى بن أبي بكر. وقد حقق ونشر هذه السير في الأيام الأخيرة وزارة الثقافة والتراث القومي في عمان.

وكما ارتبط المذهب الأباضي بالروح العمانية وتعلق أبناء عمان بالحرية وبمذهب الاستقامة الأباضي فإنه ليس بغريب أن نرى

 

(1/1000)

 

 

هؤلاء العلماء الثلاث حينما كتبوا التاريخ العماني الشامل قد سلكوا في معالجتهم لهذا التاريخ مسلكا واحدا وذلك بتناولهم لموضوعات وقضايا متشابهة فيما بينهم، وتميز بذلك نهج واضح متميز بدأه سرحان بن سعيد، وتابعه فيه ابن رزيق، وأخذه عنه عبد الله السالمي. وكان اتفاقهم في اختيار الموضوعات وأسلوب معالجتها وطريقة الحكم عليها هو ما يدعونا أن نسميه المدرسة العمانية في كتابة التاريخ.

3- أبدع ابن رزيق حينما أحسن التعبير عن الرؤية العمانية للتاريخ التي ترى أنه ليس مجرد وصف تطورات سياسية وسيرة حكم، لأنه بذلك

 

(1/1001)

 

 

يصبح سردا لمعارك حربية ولأسماء الحكام، بل إن التاريخ لدى العمانيين ولدى ابن رزيق هو سجل للمبادئ والأفكار، ومواقف الرجال من أجلها، فهو بذلك مواقف شجاعة لعلماء وبطولة حقيقية لرجال لإقامة الحكم العادل. والتاريخ سجل لشاعر صادق يدعو في قصيدته لمبدأ ويسجل بطولات رجاله. وصحيح ان قيمة بعض فترات التاريخ تأتي من إمام فاضل أو حاكم صالح. ولكن هنالك أيضا قيمة العالم الفقيه ورأية ومواقفه، وهو حري بتسجيل اسمه وفكره وأسماء كتبه.

لهذا جاء كتابات ابن رزيق متأثرة بالنهج العماني أو مليئة بأسماء الشعراء العمانيين

 

(1/1002)

 

 

وأسماء العلماء الفضلاء وأفكارهم وفتاويهم جنبا إلى جنب مع الأئمة والولاة،

ويأخذ ابن رزيق بين الفترة والأخرى لنستريح من تعب أحداث السياسة ونغوص معه في مناقشة حرف جر أو تذوق بيت من الشعر أو الجلوس في حلقة عالم في قضية ميراث، أو مسألة فقهية، وهي أمور يحبها أبناء عمان ويعشقونها، ثم يعود بنا ابن رزيق ثانية إلى أحداث التاريخ، وقد جعل ذلك عرض التاريخ العماني ممتعا ليس فيه سأم السياسة، ودبت في الأحداث حياة يعيش فيها القارئ ويحسها ويلمس نبض الحيوية فيها.

 

(1/1003)

 

 

4- بسبب تدين العمانيين، وتأثرهم بمبدأ تدقيق الرواية مثلما فعل المسلمون الأوائل في جمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومثلما فعل رجال المذهب الأولائل، وبسبب تدين العلماء الذين تعرضوا لكتابة السير العمانية، هنا حرص مؤرخنا ابن رزيق على التحقق من صدق الرواية التي سمعها. ولسوف نجد أثر ذلك في صدق روايات ابن رزيق، وسلوكه أسلوب التدقيق والترجيح والتحقيق والاعتماد على الكتب والوراة الثقاة والسعي وراء الخبر للتأكد منه، وأن ابن رزيق بعد قراءتنا لكتبه ولسيرته وعرفة رواته وجهده في تحقيق الأخبار

 

(1/1004)

 

 

يعتبر مؤرخ ثقة بلا شك في الفترة التي سجلها ونعتمد نحن جميعا عليه فيها وهي الفترة ما بين عام 1741 (1154) وحتى عام 1856 (1273 هـ) في تاريخ عمان الداخلي المحلي، وهذا جانب هام وأساسي في التاريخ العماني.

معالم الكتابة التاريخية عند ابن رزيق :

نلاحظ عند قراءتنا لدواوين ومخطوطات ابن رزيق في التاريخ الأمور التالية :

1- اعتزاز ابن رزيق بدينه الإسلامي وبمذهب أهل الاستقامة الأباضي لما يجد فيه من أصالة وأخذ من المنبع، ولما فيه من رفق وسماحة وابتعاد عن الغلو. وابن رزيق يحب أهل الورع والتقوى وعرف عنه صحبته

 

(1/1005)

 

 

لعلماء الدين، وهو مواظب على صلواته في المسجد عف اللسان محب العلم.

2- كان داعيا من دعاة الوحدة الوطنية العمانية. فلقد هاله الاختلاف بين قبائل

النزار وقبائل قحطان أثناء قراءته للتاريخ العماني وما سببه ذلك الصراع من ويلات على

وحدة التراب العماني ... خاصة أنه قد عاصر الخلاف الهناوي والغافري،

الذي نشب في أعقاب انهيار دولة اليعاربة. ونرى ابن رزيق ينصب نفسه داعية إلى الوحدة الوطنية العمانية، ويظهر ذلك جليا في مخطوطتيه (الصحيفة العدنانية والصحيفة القحطانية).

 

(1/1006)

 

 

3- لقد حرص على استلهام التراث داعيا إلى قراءته وإلى تذوق لغتنا العربية الجميلة، وهو يلفت أنظار أبناء عمان خاصة، وهم العاشقون للغتهم العربية إلى جوانب الإبداع والبلاغة في الشعر والارتقاء بمفرداتهم اللغوية وباختيار الكلمة لدى الشعراء والأدباء.

4- كان اعتزاز ابن رزيق بوطنه عمان كبيرا فقد عاش سنوات طويلة بين صفحات مجلدات وكتب التاريخ العربي والإسلامي العام كما قرأ التراث العماني المحلي وجالس كبار العلماء في عهده يستمع إليهم، كما صاحب شعراء العربية وأدباءها الماضيين في دواوينهم يحفظ ويستمتع بنظمهم

 

(1/1007)

 

 

وبإبداعهم وامتلأ قلبه بعظمة تاريخ وتراث أجداده في عمان.

مصادر ابن رزيق :

1- مصادر ابن رزيق قبل عام 1804.

2- مصادر ابن رزيق بين عام 1804 وعام 1856.

3- مصادر ابن رزيق حوالي عام 1783 وبدأ يقرض الشعر ويقرأ الكتب في شبابه ورثى السيد سلطان بن أحمد عام 1804 ولديه من اعمر حوالي العشرين عاما. جمع ابن رزيق ما جرى من أحداث وأخبار بين عام 1728 وحتى عام 1804 من رواة ورجال عاصروا هذه الفترة مثل أبيه وجده وغيرهم أما بقية الفترة فقد جمع المعلومات من صانعي الأحداث ورجال السياسة والعلماء والأدباء ومن أفراد

 

(1/1008)

 

 

العائلة الحاكمة من البوسعيد الذين كان يختلط بهم ويزور مجالسهم مباشرة.

لم يأت ابن رزيق في هذه الفترة بجديد من الأخبار والتاريخ، ولكنه كان قارئا جيدا، أحسن القرأة الواسعة في كتب التراث العربي والإسلامين وقرأ السير العمانية، واستوعب الشعر العماني والشعر العري، وميزته أنه عرض هذه الفترة عرضا شيقا مختصرا.

 

وقد كتب ابن رزيق في هذه الفترة عن أنساب قبائل الأزد والقبائل العدنانية في الجاهلية وقبل الإسلام وتواجد هذه القبائل في عمان ثم كتب طرفا من السيرة النبوية وأخبار الصحابة والتابعين وأحداث التاريخ

 

(1/1009)

 

 

الإسلامي المبكر أيام الخلفاء الراشدين، وتناول طرفا من أخبار الدولة العباسية وظهور القرامطة والسلاجقة كما تناول في عرضه الكثير من الشعر والدب العربي في الجاهلية والإسلام.

ولم ينس أبدا مؤرخنا المتمكن ابن رزيق وهو يعرض لهذه الفترة أن يذكر المصدر، فهو دائما يذكر الروايات عن ابن اسحق وابن هشام وابن سعد في السيرة التبوية وابن الكلبي والعوتبي في الأنساب، كما نقرأ إشاراته إلى الطبري وابن الأثير وابن خلكان والمدائني والواقدي والرازي والمسعودي والبخاري والنووي وابن مالك. هذا عدا دواوين الشعر والمقامات

 

(1/1010)

 

 

وكتب الأدب للمبرد وابن دريد ودواوين الشعراء الفطاحل.

وإن الإنسان ليعجب هنا لأمرين :

* الأول سعة اطلاع ابن رزيق وقراءته لكل هذه المراجع الكثيرة والغنية.

* الثاني غنى عمان وحوزتها لهذه الكتب والذخائر في لاتراث العربي. هذا عدا ما لديها من تراثها الديني والأدبي والتاريخي الخاص بها الذي لم يعرفه العرب إلا خلال العشرين عاما الأخيرة.

وحين يسرد التاريخ العماني والدعوة الأباضية والمذهب نحس درايته العميقة بكل التراث العماني وما أنجزه أبو الشعثاء جابر بن زيد ومسند الحبيب بن ربيع الفراهيدي وكتب السير

 

(1/1011)

 

 

العمانية مثل أبي المؤثر الصلت بن خميس وسيرة ابن قحطان خالد بن قحطان وسيرة منير ابن النير الجعلاني وسيرة محبوب بن الرحيل وغيرها من السير والجوابات الفقهية، وهو دائما حينما يذكر خبرا مصدره.

وحينما يصل بنا إلى دولة اليعاربة يتضح لنا أن ابن رزيق قد اعتمد على الكتب المؤثقة المعروفة في هذا العصر مثل كتاب ابن قيصر : "سيرة الإمام ناصر بن مرشد". كما اعتمد كثيرا على كتاب سرحان بن سعيد : "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة". وقد عاصر سرحان بن سعيد هذه الفترة وهو حجة فيها.

 

(1/1012)

 

 

أما الفترة من عام 1804 وحتى عام 1856 فإن ابن رزيق قد عاصر هو نفسه هذه الفترة، وهو شاهد على أحداث عصره، ولكنه استقى معلومات كثيرة عن مؤسس دولة البوسعيد وأولاده من والده الذي أخذ الكثير من المعلومات عن أبيه رزيق بن بخيت. كما ذكر لنا ابن رزيق عددا من العلماء الذين اختلط بهم وجمع عنهم المعلومات، ومن هؤلاء العلماء معروف بن سالم الصايغي وخاطر بن حميد البداعي يقول ابن رزيق في سيرة محمد بن ناصر الغافري عام 1728 :

 

(1/1013)

 

 

وعن الشيخين معروف بن سالم الصايغي وخاطر بن حميد البداعي وهما من رجال ذلك الزمان وثقاته في الحديث أن محمد بن ناصر لما عزم على حرب صحار ...(1)

ويضيف هؤلاء العلماء الشيخ محسن العجمي القصاب حينما يتكلم عن حصار العجم لصحار وكيف تغلب عليهم السيد أحمد بن سعيد، وكيف تم انتخابه إماما على عمان. ومن الذين رووا له أيضا بعض الأحداث في عهد الإمام أحمد بن سعيد الشيخ خميس ين سالم الهاشمي، ولابد أن مؤرخنا قد سمع الكثير من الشيخ أبي نهبان جاعد بن خميس مما جرى في أيام الإمام سعيد بن

__________

(1) ابن رزيق، الفتح المبين، 363.

 

(1/1014)

 

 

أحمد وابنه السيد حمد. وجمع ابن رزيق الكثير من أخبار السيد حمد بن سعيد من الشيخ القاضي سعيد بن أحمد بن سعيد اليحمدي.

لم يكن ابن رزيق فيما يحكيه ويرويه عن مشاهداته بالمؤرخ العادي - إذ هو عالم قرأ التاريخ العماني وعرف الفكر العماني والقبائل وأخبار الماضين في عمان، لذا فإنه حين يسأل ويجمع المعلومات فهو رجل ذو خبرة بالموضوع، يعرف عم يسأل،ويدرك كيف يقيم ما يقال، ويعطى لكل كلام ميزاته من الصدق، ودرجته من القيمة التاريخية.

كان ابن رزيق قريبا من المسئولين صانعي القرار السياسي وخاصة صديقه السيد

 

(1/1015)

 

 

سالم بن سلطان، كان صديقا لعدد كبير من العلماء والأدباء، فهو رجل يفهم مجتمعه

وما يجري فيه من تطورات وأحداث، وصادق ابن رزيق السيد سالم بن سلطان أخ

السلطان سعيد بن سلطان، وحضر مجلسه، ثم تبنى ابنه حمد بالرعاية بعد وفاته

عام 1820. وقد كان له في تلك الفترة مشاركة مع السيد سالم بن سلطان في

حملة بحرية ضد القواسم، كانت هنالك صداقة وإعجاب من ابن رزيق بالعالم الكبير جاعد بن خميس وابنه ناصر بن أبي نهبان.

ولم تكن القراءة والرواية عن العلماء والمشاهدة المباشرة هي كل مصادر ابن رزيق، بل إنه حرص على الرحلة إلى

 

(1/1016)

 

 

المواقع التاريخية بحثا عن المعلومات رغم وعورة الطرق آنذاك ومشقات السفر، وحينما حدثنا ابن رزيق عن فترة نفوذ القرامطة في عمان حكى لنا قصة البطل الشيخ جمال الدين عبد الله بن المقرب الذي طرد القرامطة من عمان وتعقبهم بالحسا، وقد ترك عبد الله بن المقرب قلعة بطيري في عمان، زارها ابن زريق وقدم لنا معلومات تاريخية وجغرافية مفيدة عن هذه الرحلة. ولنصحبه في رحلته هذه إذ يقول :

وكان سبب زوال ملك القرامطة على يد عبد الله بن علي بن مقرب. وكان قيامه عليهم بأربعمائة رجل. وكانوا في عسكر جمة وجنود كثيرة. فلبث في

 

(1/1017)

 

 

محاربتهم سبع سنين حتى انتزع الدولة منهم.

ثم يتابع ابن رزيق :

قال المصنف وصد أن الشيخ جمال الدين عبد الله بن علي بن مقرب قد ارتفع عن الحسا بعد ما صنع وسكن بعد ما فارق الحسا بلدة طيوى، ومات بها بعد أن بنى حصنا بالحجر في الجبل المشرف على الماء الجم، وهو المسمى الشط الشرقي، إذ بطيوى شطان شرقي وشط غربي. والشط الشرقي أغزر ماء من الشط الغربي. وقد مضيت إلى طيوى مرتين المرة الأولى سنة 257 (1841) والمرة الأخرى سنة 1267 (1850) فرأيت الحصن الذي قد بناه الشيخ جمال الدين بن عبد الله بن مقرب وهو حصن مبني

 

(1/1018)

 

 

بالحجارة فوق جبل شاهق في أول مدخل البلد، وتحت هذا الجبل الشط المذكور، وماؤه ينساب إلى البحر عذبا سائغا شرابه. وأروني أهلها النهر الذي أحدثه الشيخ جمال الدين المذكور وسماه النهر البدر، وبقي عليه الاسم إلى هذه الغاية. وأروني أهلها موضع قبره، وهو في جبل شاهق تستره أعشاب وأشجار. وأروني موضع الحصن على صخرة صماء عالية، وما بقيت من هذا الحصن إلا رسوم(1) .

وإلى جانب اتباع ابن رزيق كما رأينا المنهج العلمي في الرجوع إلى المصادر المتوبة الموثوق بها، والتأكد مما سمع

__________

(1) ابن رزيق، المصدر السابق، صص. 354-355.

 

(1/1019)

 

 

وشاهد في عصره، وأخذه المعلومات من رجال

شهدوا الأحداث بأنفسهم جاء أسلوبه خير شاهد على أن الكتابة والصياغة التاريخية مسألة فن تختلف من مؤرخ إلى آخر.

وهب الله ابن رزيق خيالا خصبا وأسلوبا رفيعا، فهو شاعر أديب، ولقد استطاع ابن رزيق أن يقدم لنا بالكلمات لوحات رائعة تعكس أخلاق العصر، وتشرح الجو النفسي والأخلاق والعادات التي عاش في إطارها الرجال الذين صنعوا تاريخ الفترة التي يتكلم، عنها، وقد استخدم ابن رزيق في ذلك عددا من الأساليب منها أسلوب الحوار ودقة الوصف وخاصة للمعارك.

ابن رزيق والمؤرخ الغربي :

 

(1/1020)

 

 

كانت عمان طوال تاريخها الطويل ذات صلات وثيقة مع القوى السياسية الكبرى المحيطة بها، كان لها علاقات مع الفرس قبل ظهور افسلام وكان لها علاقات مع المدينة المنورة أيام الحلفاء الراشدين وكان لها أيضا علاقات مع دمشق ومع بغداد عاصمة دار الخلافة الإسلامية.

وفي العصر الحديث وعلى إثر الرسالة التي أرسلها نابليون من القاهرة عام 1798 إلى السيد سلطان بن أحمد دخلت مسقط وعمان في دائرة اهتمام الإنجليز في الهند، وأصبح من المهم لدى الساسة البريطانيين في حكومة بومباي التعرف على أحوال عمان وتوثيق العلاقات السياسية

 

(1/1021)

 

 

والتجارية معها، وقد توطدت الصداقة بين حكومة بومباي البريطانية وعمان في عهد السيد سعيد بن سلطان (1806 - 1856). ونحن لا نجد صدى كبيرا لذلك في كتابات ابن رزيق، وكتابه بذلك مرجعا رئيسي في أحوال عمان الداخلية. ولا شك اننا في حاجة إلى الإطلاع على تفاصيل المعاهدات والعلاقات بين عمان والحكومة البريطانية في أرشيف حكومة الهند في لندن حتى تزداد معرفتنا بأحوال عمان في ذلك العصر من ناحية شؤونها الخارجية أيضا، خاصة وأن العلاقات ازدادت على مر الأيام، وسيصبح للإنكليز تعاون اوثق ومشاركة في الأحداث في عمان.

 

(1/1022)

 

 

ورغم أن الإدارة السياسية في حكومة بومباي الإنجليزية حاولت عمل عدد

من الدراسات عن عمان، وصدر لها في عام 1856 كتاب مختارات من أرشيف

حكومة بومباي وفيه عدد من المقالات عن عمان إلا أن هذه الدراسات عبارة عن معلومات محدودة عما يجري في ساحل الباطنة بعمان، أما معرفتها بشؤون داخل عمان فهي مشوشة، وأخيرا أهدى السيد ثويني بن سعيد في مسقط مخطوطه "الفتح المبين" لابن رزيق للعالم الإنجليزي بادجر عام 1860 حينما كان عضوا في لجنة التحكيم وكان يعرف اللغة العربية، وهنا انفتح امام بادجر نافذة واسعة للتعرف على

 

(1/1023)

 

 

المعلومات الصحيحة عن عمان وقبائلها وعقيدتها وتاريخها الطويل ومعلومات وفيرة عن البوسعيد العائلة الحاكمة فيها، وترجم بادجر هذه المخطوطة إلى الإنجليزية ونشرت في لندن عام 1873.

وقال بادجر في مقدمة لهذه الترجمة :

إنه لمن المدهش، وليس لهذا الشيء الحسن للحكومة البريطانية في الهند، إنه رغم علاقاتنا السياسية والتجارية الوثيقة مع عمان خلال القرن الماضي فإن معلوماتنا عن عمان لا تعدو معرفة الساحل مثلما كان الحال تماما عن معرفتنا بمنطقة البحيرات في وسط أفرقيا وقتذاك. وإن خريطة وليست هي الوحيدة لدينا وقد

 

(1/1024)

 

 

رسمها من ملاحظاته الشخصية أثناء رحلته قام بها عام 1835 من صور إلى بلاد بني بو علي ثم من وادي البطحاء إلى سمد ونزوى وبعد ذلك عبر وادي سمايل إلى السيب(1).

وهكذا كانت ترجمة بادجر لنخطوطة الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين في عام 1873 تحت عنوان "الأئمة والسادة في عمان" فتحا جديدا لدى الغربيين لمعرفة تاريخ عمان المجهول والغامض عليهم، كما قدم ابن رزيق بيانا للحياة في أعماق داخل عمان. ونحن نجد أثر ذلك في الكتاب الذي ألفه بعد ذلك كولونيل مايلز تحت عنوان بلاد

__________

(1) Badger, Op. cit., Introduction.

 

(1/1025)

 

 

وقبائل الخليج. وفي الواقع أن هذا الكتاب ليس إلا دراسة لقبائل وتاريخ عمان كما قرأه مايلز في ترجمة بادجر لابن رزيق، فقد كان مايلز المعتمد السياسي والقنصل الإنجليزي في مسقط بين عام 1872 وعام 1886، ونشر كتابة هذا عام 1919 على يد زوجته بعد وفاته.

 

(1/1026)

 

 

اتجاهات كتابة التاريخ الحديث في مصر خلال القرن التاسع عشر

 

الدكتور عبد المنعم إبراهيم الجميعي

وكيل كلية التربية فرع جامعة القاهرة بالفيوم-أمين عام الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

 

موضوعات البحث:

أهمية كتابات الجبرتي في تاريخ مصر الحديث.

دور رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في حركة التنوير وفي تطوير الدراسات التاريخية.

علي مبارك ودراساته حول تاريخ مصر العمراني والاجتماعي والتعليمي.

معاصرو علي مبارك وكتاباتهم.

ميخائيل شاروبيم ومواكبة الأسلوب الحديث في الكتابة التاريخية.

 

(1/1027)

 

 

كتابات الأفغاني وأثرها في انبعاث الكتابة الوطنية.

كتابات رجالات الثورة العرابية لونا من ألوان الكتابة التاريخية.

ارتبطت حركة التأليف التاريخي في مصر قبيل ظهور المدرسة التاريخية الحديثة بالاهتمام بذكر سير العظماء وغرائب الحوادث. أما تاريخ الشعوب والأمم، فلم يحظ بمثل هذا الاهتمام ولم تسلط الأضواء على أحوال الناس وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية. يضاف إلى هذا أن هؤلاء المؤرخين لم يسخروا طاقاتهم لخدمة مصالح وطنهم على أسس من الحق والحكم على الوقائع بطريقة موضوعية. واستمر الحال على هذا المنوال فترة حتى

 

(1/1028)

 

 

برزت النهضة التاريخية الحديثة، وأخذ المؤرخون في توجيه جهودهم إلى تاريخ حياة الشعوب وأحوالها.

وتبدأ حركة التأليف التاريخي لمصر الحديثة بعبد الرحمن الجبرتي الذي عاش عصر انتقال مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، تلك الفترة التي اتسمت باضطراب الشديد والتغير السريع، والتي شملت أواخر العصر العثماني الأول وعصر الحملة الفرنسية ونحو عشرين سنة من حكم محمد علي. وهذه الفترة من تاريخ مصر تعد الفاصل بين عصر الركود والهدم والتخريب، وعصر النهضة والإنشاء والتجديد.

 

(1/1029)

 

 

وكتابات الجبرتي في مؤلفيه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"(1) و"مظهر التقديس بذهاب الفرنسيس"(2)

__________

(1) طبع عدة طبعات بعد أن محجوبا لفترة ليست بالقليلة. وبعد أن أذن الخديوي توفيق بطبعه، طبع لأول مرة في عام 1297هـ/1879م بالمطبعة الأميرية ببولاق، ثم تكرر طبعه؛ فطبع بالمطبعة الشرفية في عام 1323هـ/1905م في أربعة أجزاء، وقامت وزارة التربية والتعليم بتحقيقه تحت إشراف الأستاذ محمد شفيق غربال في عام 1958م؛ كما ترجم إلى الفرنسية في تسعة أجزاء.

(2) يؤرخ هذا الكتاب للحملة الفرنسية على مصر. وكان الجبرتي قد أهداه إلى يوسف باشا القائد العثماني الذي دخل القاهرة في أعقاب خروج الفرنسيين منها. وقد قامت وزارة التربية والتعليم بتحقيقه في عام 1961م. والجدير بالذكر أن الجبرتي قد أفاد في تاريخه من جهود بعض المعاصرين له أمثال إسماعيل الخشاب وحسن العطار كما أفاد أيضا من جهود من سبقه من المؤرخين.

 

(1/1030)

 

 

أو "زوال دولة الفرنسيس" في بعض النسخ- تعد بمثابة الركائز الأساسية في كتابة تاريخ مصر الحديث، خاصة وأن صاحبها ذكر الحقائق التاريخية دون محاباة أو مجاملة لحاكم أو لغيره، وعالج مشاكل الحياة والمجتمع المصري معالجة البصير بالأمور وحكم عليها حكما مقبولا، مما جعل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي يصفه بأنه مثل ثوكيديدس اليوناني الذي وقع عليه عبء كتابة تاريخ حقبة شاذة من حياة الحضارة التي ترعرع في ربوعها، وأن في وسع مصر أن تفاخر بالجبرتي وأن تباهي به سائر المتحدثين بالعربية(1)

__________

(1) أرنولد توينبي، "عبد الرحمن الجبرتي وعصره"، ضمن كتاب "عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث"، ص.15.

 

(1/1031)

 

 

.

وجعل شفيق غربال يصفه بأنه أخذ من كل شيء بطرف، وله في كل دراسة مقام محمود(1).

وجعل عزت عبد الكريم يصف ما كتبه بأنه كان على مستوى عال من الدقة والتحري والإضافة خلال ذلك المنعطف الذي كانت تجتازه مصر(2).

__________

(1) محمد شفيق غربال، "عبد الرحمن الجبرتي"، ضمن كتاب "عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث"، صص.9-11.

(2) من تقديم عزت عبد الكريم للدراسات والبحوث التي قدمت خلال ندوة الجبرتي التي أقامتها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية في أبريل 1974.

 

(1/1032)

 

 

وجعل محمد أنيس يقول عنه إن أهم ما يميزه هو دقة المؤرخ واستقصاؤه للحوادث، وموضوعيته. هذا، فضلا عن أنه كتب عن عصور ثلاثة هي مصر العثمانية والحملة الفرنسية وظهور محمد علي(1).

يضاف إلى ذلك أن البعض وصف ما كتبه بأنه أعظم تواريخ مصر في القرنين الثاني عشر، والثالث عشر الهجريين(2)

__________

(1) محمد أنيس، "الجبرتي ومكانته في مدرسة التاريخ المصري في الحصر العثماني"، دراسة ضمن بحوث الندوة.

(2) راجع ما كتبه ماكدونالد (Macdonald) في ترجمته للجبرتي في "دائرة المعارف الإسلامية" مادة "جبرتي"، وما كتبه إدوارد وليم لين في كتابه "الأحوال والعادات في مصر الحديثة"

(The Manners, Customs of the Modern Egyptian, London, 1836)

 

(1/1033)

 

 

وأنه تاريخ ممتاز للحوادث التي وقعت في مصر في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، وأنه من أعدل وأضبط المؤلفات التاريخية التي تصف أحداث زمانها بصدق(1). ويمكن أن نرجع ذلك إلى ما يلي:

1- يعد ما كتبه الجبرتي وثيقة تاريخية هامة وفريدة في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، خاصة وأنه يحمل بين جنباته صورة مفصلة عن حياة المصريين الاجتماعية، ويتضمن التأثيرات الموضوعية للحملة الفرنسية على مصر، كما

__________

(1) أسد رستم، "المحفوظات الملكية المصرية"، المجلد الأول، 1810-1832م، تحت عنوان "ما لا يستغني عنه الباحث".

 

(1/1034)

 

 

يتضمن فترة هامة من حكم محمد علي بما لها وما عليها. فقد عاش الجبرتي عصر انتقال مصر من حال إلى حال، وصور ما تحمله أهلها من مشقات ودون ما رأى وما سمع وما أحس دون أن ينحاز لحاكم أو لسلطة. فعلى الرغم من تكوينه الديني، فقد كان رجل دين ودنيا أخذ من كل شيء بطرف، فأشاد بالمظاهر الإيجابية لسياسة الفرنسيين في مصر أحيانا، وندد بأعمالهم المنافية للشرع والدين في أحيان أخرى: فامتدح رفضهم للسخرة، وتشكيلهم الديوان، واهتمامهم بتنظيم القضاء وعنايتهم بالنظافة، ومنعهم دفن الموتى في المقابر القريبة من المساكن،

 

(1/1035)

 

 

وعدالتهم في الأحكام خاصة خلال محاكمتهم لسليمان الحلبي قاتل كليبر؛ حيث لم يبادروا بقتله، بل سألوه وحاكموه وناقشوه وناقشوا الشهود. كما أبدى إعجابه بنشاطهم العلمي ورغبتهم في البحث والمعرفة وتنظيمهم لقاعة المطالعة التي خصصوها للقراء(1)

__________

(1) من المفيد الإشارة إلى أن ما كتبه الجبرتي في "مظهر التقديس" يختلف عما كتبه في "عجائب الآثار". ففي "مظهر التقديس" يخرج الجبرتي عن الموضوعية أحيانا، وينظر إلى الحوادث بعاطفته الدينية والوطنية، فيرى كل ما هو فرنسي كريه، ويكفي أن يكون الحكم غير إسلامي لينتقده، ولكنه في "عجائب الآثار" تخلى عن هاتين العاطفتين. للتفاصيل، أنظر د. محمد أنيس، "الجبرتي بين مظهر التقديس وعجائب الآثار"، مجلة كلية الآداب، المجلد الثامن عشر، ج1، مايو 1956، صص.59-70.

 

(1/1036)

 

 

وتطلعهم الزائد إلى العلوم. فعندما شاهد التجارب العلمية التي أجراها أمامه علماء الفرنسيين، قال:

لهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار، وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت… وعنده الآلات الفلكية الغربية المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن.

 

(1/1037)

 

 

... كما أعرب عن دهشته مما شاهده عندما زار المجمع العلمي الفرنسي بقوله: "ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا"(1).

... وتزداد قيمة ما كتبه الجبرتي من كونه عاصر معظم الأحداث التي كتبها وشارك في بعضها أحيانا، وتابع بعضها في أحيان أخرى. وساعده في ذلك اتصاله بالجهات الرسمية يومئذ، وتعيينه عضوا في الديوان العام الذي أنشأه الفرنسيون بالقاهرة للاستعانة به على ضبط النظام. فجاء ما كتبه سجلا

__________

(1) الجبرتي، "عجائب الآثار"، ج3، القاهرة، المطبعة الأميرية، صص.26، 34-35.

 

(1/1038)

 

 

حافلا التزم فيه جادة الحيدة والإنصاف. وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه بقوله: "لم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق لميل نفساني أو غرض جسماني".

... وحول موضوعية الجبرتي وعدم انحيازه لإرضاء الحاكمين وتغلب الموضوعية على الذاتية في كتاباته نذكر:

على الرغم من دفاع الجبرتي عن العثمانيين في العديد من المواقف، فقد أعرب عن خيبة أمله في عودتهم إلى مصر عقب خروج الفرنسيين منها لشعورهم أن الحكم الفرنسي في بعض الأحيان كان خيرا من الحكم

 

(1/1039)

 

 

العثماني.

على الرغم من كراهية الجبرتي لمحمد علي لما رآه من ضروب العنف والاستبداد والقسوة التي وقعت في عهده، ووضعه لأدوات الإنتاج في يده، وقيامه بإلغاء الالتزام الذي أضير منه شخصيا، فقد كانت كتاباته عنه في معظم الأحيان تتسم بالموضوعية. فأشاد بمحمد علي في بعض المواقف وانتقده في مواقف أخرى. وعن مواقف الإشادة بمحمد علي نذكر أنه أشاد بفضله في تعمير الإسكندرية ووصف ذلك العمل بأنه من محاسن الأفعال التي عجز السابقون عن القيام بها، كما أشاد به عندما قام بتشجيع أبناء مصر من النبهاء. فذكر أنه عندما ابتكر

 

(1/1040)

 

 

مصري يدعى حسين شلبي عجوة آلة لضرب الأرز وتبييضه تدور بطريقة سهلة توفر على الناس جهدهم وطاقاتهم وعمل لها مثالا من الصفيح وقدمه لمحمد علي مصنعا تستخدم فيه هذه الآلة التي اخترعها(1).

أما عن مواقف انتقاده لمحمد علي، فعلى الرغم من أنه كان يعلم جيدا أن ذلك سيسبب له المتاعب، وقد يعرض حياته وحياة أسرته للخطر، فإنه كان جريئا وأمينا في اتهامه له. فذكر "أن من طبعه الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم"(2). كما

__________

(1) الجبرتي، "عجائب الآثار"، ج4، ص.272.

(2) "عجائب الآثار"، ج3، صص.342-344.

 

(1/1041)

 

 

تعرض لموقف محمد علي من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية بالنقد، فأعرب عن تعاطفه مع رجالات الدعوة واقتناعه بآرائهم، وأبدى تبرمه من قيام محمد علي بإثقال كاهل المصريين بالضرائب لتدبير تكاليف الحملة، فقال: "وجعل على كل فدان ستة قروش وسبعة وثمانية، وذكر أنها مساعدة على حروب الحجاز"(1). كما ذكر أن جنود محمد علي كانوا يخطفون من الفلاحين "السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك"(2)، بحجة سفرهم إلى الحجاز لدرجة أن قل اللحم والسمن

__________

(1) المرجع نفسه، ج3، ص.313.

(2) المرجع نفسه، ج3، ص.369.

 

(1/1042)

 

 

والجبن، خاصة بعد أن استولى محمد علي على مواشي الفلاحين وأغنامهم(1)

__________

(1) المرجع نفسه، ج4، ص.90. وللتفاصيل، أنظر: د. عبد المنعم الجميعي، "دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" في كتابات المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد 1، الرياض.

... واللافت للنظر أنه على الرغم من أن الجبرتي كان قاهريا والريف كان على هامش حياته، فإنه كان على علم بحياة الفلاحين، خاصة وأنه كان يمتلك أرضا بقرية "أبيار" بالقرب من كفر الزيات. لتفاصيل ذلك، انظر دراسة للدكتور رءوف عباس تحت عنوان "تصوير الجبرتي للمجتمع الريفي"، ندوة "الجبرتي"، ص.413.

 

(1/1043)

 

 

.

وإلى جانب ذلك، فإنه يمكن القول إن الجبرتي كان وسطا في بعض الأحيان في حكمه على محمد علي. ومن ذلك قوله: "له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان. فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه"(1).

وهكذا يتضح أن الجبرتي لم يتجن على محمد علي، بل كان منصفا في عرضه لأعماله؛ فذكر ما له وما عليه. وهذه هي إحدى شيم المؤرخ الحقيقي الذي لا يحابي ولا ينحاز لأحد مهما عظم نفوذه، ولا يغمط الحقيقة حقها

__________

(1) "عجائب الآثار"، ج3، ص.528.

 

(1/1044)

 

 

مهما كانت العواقب. وربما لو عاش الجبرتي فترة أطول وشاهد الطور الأخير من حكم محمد علي، لتغير موقفه منه، خاصة وأن الجبرتي توقف في كتابته عند عام 1236هـ/1821م، أي في وقت لم تكن فيه جهود محمد علي العمرانية والحضارية قد اتضحت بعد.

... 3- يرجع الفضل للجبرتي في تدوين تاريخ مصر وحوادثها وتراجم رجالها في القرنين الثاني والثالث عشر الهجريين. ولولا ما كتبه، لافتقد المؤرخون العديد من حوادث تلك الحقبة. حقيقة، هناك كتاب "ذكر تملك الفرنساوية للديار المصرية" للمعلم نقولا بن يوسف الترك اللبناني(1)

__________

(1) عمل في خدمة الأمير بشير الشهابي، وحضر إلى مصر قبل الحملة الفرنسية بزمن قصير، والكتاب طبع في باريس مع ترجمة فرنسية له.

 

(1/1045)

 

 

، وهناك كتاب "تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين" للشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر خلال تلك الفترة(1) ولكن هذين المصدرين العربيين يشوبهما الكثير من عوامل النقص والقصور. فالأول مال نحو الجانب الفرنسي والجاليات الأجنبية في مصر. فمدح بونابرت ورثى كليبر. وما كتبه لا يرقى إلى

__________

(1) كان رئيسا للديوان أيام الفرنسيين. وقد ترجم له الجبرتي في وفيات 1227هـ. ومن المعروف أن الشيخ الشرقاوي تعاون مع الفرنسيين وانبهر بتفوقهم. لذلك كان اختياره رئيسا للديوان الأول اختيارا مقصودا من جانب بونابرت.

 

(1/1046)

 

 

كتابات الجبرتي؛ والثاني كان أول من استقبل الأتراك العثمانيين بعد خروج الحملة وألف كتيبا بناء على طلبهم، ولكن ما كتبه ليس فيه عن الحملة الفرنسية سوى صفحات قليلة لا قيمة لها عند المؤرخ، اللهم إلا من جهة صدورها من رجل كان شيخا من شيوخ الأزهر.

... 4- كتب الجبرتي تاريخا بلا عاطفة، وكان رائده الصدق في ما كتبه. فهو يلم بالشوارد ويدون ويقيد، ولكنه لا يلون بشعور ولا يضفي بإحساسه(1). فعندما

__________

(1) محمد الشرقاوي، "دراسات في تاريخ الجبرتي"، مصر في القرن الثامن عشر، ج1، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1955، ص.29.

 

(1/1047)

 

 

تحدث عن الثورات التي قام بها أهل القاهرة من الفرنسيين اتهم بعض زعمائها بأنهم من الأغرار الأفاقين كما سمى القائمين بالثورة أحيانا بالذعر وأحيانا بالحشرات، مما يؤكد طبيعته البعيدة عن العنف. وعندما تطرق إلى مساوئ الحكم الفرنسي، لم يفته الإشادة بعدالتهم خلال محاكمتهم سليمان الحلبي قاتل كليبر.

... 5- بساطة الجبرتي وعدم انسياقه إلى التفاخر بنفسه أو بأعماله. فعلى الرغم من اشتراكه في الديوان الذي ألفه مينو، لم يردد ذلك صراحة في كتابه؛ وعندما تعرض لذكر الديوان، لم يذكر اسمه صراحة وإنما قال "كاتبه".

 

(1/1048)

 

 

... 6- كتب الجبرتي مؤلفه بطريقة الحوليات واليوميات في إفاضة وتفاصيل ممتعة، وبشكل جعل تعيين الأماكن والمواقع ظاهرة واضحة في روايته. فلا يورد حدثا من حوادث الحرب أو الثورات أو المواكب والحفلات العامة، ولاسيما في القاهرة، إلا قرنه بتحديد الأماكن والمواقع من شوارع وميادين ودروب ومنازل بحيث نستطيع من خلال روايته أن نصور معالم القاهرة في عصره واضحة جلية.

... 7- إن كتابات الجبرتي أشبه بالتلال الأثرية، لا تكاد تحفر فيها حتى تجد تحفة أثرية نادرة. وكلما ازددت في الحفر عثرت على اللؤلؤ والجواهر. ومع ذلك،

 

(1/1049)

 

 

فإن هذا الحفر يحتاج إلى صبر ومثابرة وأناة حتى يمكن استخراج هذه النفائس من الأتربة العالقة بها(1).

... ومع كل ذلك، فمما يلاحظ على كتابات الجبرتي أنه كتب عن القاهرة أكثر مما كتب عن مصر كلها. فالحوادث التي تعرض لها عن الوجهين القبلي والبحري كانت على هامش كتاباته. يضاف إلى ذلك أن من يقرأ الجبرتي يرهقه كثرة استعماله للعامية والتعبيرات الشعبية المصرية مثل كلمة "شطح"، أي ارتفع؛ وكلمة "قشلان" بمعنى مفلس؛ وكلمة "وثارت كرشه"، أي زحام؛ وكلمة "النفخة"،

__________

(1) أحمد حافظ عوض، "فتح مصر الحديث"، صص.435-436.

 

(1/1050)

 

 

بمعنى الغرور. كما يرهقه كثرة الأغلاط وعدم الترتيب العلمي، وعدم تناسق الروايات والحوادث التي تعرض لها. وقد لا يعيب هذا الجبرتي بقدر ما يعبر عن طبيعة عصره ومعاييره. فقد تأثر الجبرتي بطابع عصره من ناحية انحطاط الأسلوب وشيوع العجمة في التراكيب والتردي في الكثير من الأخطاء النحوية واللغوية. لذلك فالذين لا يأخذون الأمور بظواهرها، والذين يتعمقون في البحث عن حوادث تلك الأيام وأحوالها وظروفها لا يسعهم سوى الإعجاب بما كتبه الجبرتي كأثر تاريخي هام، ويوميات ذات قيمة كبيرة للمؤرخ(1)

__________

(1) الجدير بالذكر أنه لا صحة لما يذاع حول أن هناك جزءا خامسا من كتاب "عجائب الآثار" لم يصرح بطبعه لما فيه من الطعن على محمد علي، لأنه توجد نسخة خطية من تاريخ الجبرتي في مكتبة وزارة الحربية الفرنسية بباريس. ولو كان فيها شيء لم ينشر في الطبعة العربية، لما خفي أمره على المستشرقين والباحثين الأوربيين. (انظر: عوض، المرجع السابق، ص.438).

 

(1/1051)

 

 

بز بها ما كتبه علماء زمانه أمثال عبد الله الشرقاوي وإسماعيل الخشاب ونقولا ترك وغيرهم، لدرجة أن مقارنته بهؤلاء شبهها البعض بمقارنة القمح بالقشور(1). وعلى أي حال، فإن موقف الجبرتي من محمد علي قد عرض حياته وحياة أسرته للخطر، وجلب عليه الضرر البليغ؛ ففقد ابنه خليل الذي قتله جنود محمد علي في شبرا بعد صلاة الفجر بأوامر من محمد بك الدفتردار صهر محمد علي ثم ربطوه برجل حمارة. ولما أصبح

__________

(1) جاك كرابس، "التاريخ في مصر القرن التاسع عشر"، ترجمة عبد الوهاب بكر، القاهرة، الألف كتاب الثاني (118)، 1993، ص.82.

 

(1/1052)

 

 

الصباح عرفه الناس بما كان يحمله من دفاتر مكتوبة، وآلات لرصد النجوم والكواكب، وأخذ الناس في تناقل الخبر.

... ونتيجة لحزن الجبرتي على ابنه، فقد بصره، وترك الكتابة والتأليف، وظل في داره منزويا حتى مات. يضاف إلى ذلك أن منزله بالصنادقية ومكتبته الحافلة بذخائر المخطوطات قد أحرقا خشية أن يكون فيهما أوراق أو كتابات معادية لمحمد علي(1)

__________

(1) يذكر البعض أن جزءا من تاريخ الجبرتي احترق، وكان يتضمن حوادث ما بعد سنة 1236هـ. (انظر: الشرقاوي، المرجع السابق، ص.16).

 

... ومن المعلوم أن محمد علي أوعز إلى بعض الموالين له بنقد كتاب الجبرتي وتجريحه، فكتب الشيخ خليل الرجبي كتابا بعنوان "تاريخ الوزير محمد علي باشا"، عرض فيه لمآثر محمد علي وأشاد بأعماله، ورد على ما جاء في كتابات الجبرتي بشأن محمد علي.

 

(1/1053)

 

 

. ونتيجة لذلك نفر المصريون من كتابة تاريخهم الحديث حتى لا يقعوا تحت طائلة اضطهاد أسرة محمد علي كما حدث للجبرتي، وكرهت أسرة محمد علي أيضا أن يشتغل المصريون بدراسة تاريخهم، وخاصة أنهم كانوا يريدون ألا يدون من تاريخهم سوى ما يروقهم، وأن يكتب المؤرخ التاريخ على الصورة التي ترضيهم ولا تغضبهم، من هنا ابتعد المصريون عن كتابة تاريخ بلادهم السياسي وأخذ بعضهم –خصوصا الذين درسوا في أوربا- في تنمية ميوله وثقافته عن طريق ترجمة بعض الكتب التي تغطي تاريخ العالم منذ أقدم العصور أو التي تتطرق إلى الأمور

 

(1/1054)

 

 

الثقافية والتربوية والأدبية كما فعل رفاعة الطهطاوي وتلاميذه(1). فقد ترجم رفاعة –الذي بدأ يفكر في مستقبل الدراسات التاريخية في مصر بعد عودته من فرنسا(2)

__________

(1) للتفاصيل انظر: جمال الشيال، "تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي"، دار الفكر العربي، 1951، صص.151-154؛ وأيضا "التاريخ والمؤرخون في مصر في القرن التاسع عشر"، صص. 198-199.

(2) كان ثمرة تفكيره مشروعين علميين: الأول ترجمة بعض المؤلفات التاريخية إلى اللغة العربية حتى يضع بين يدي المصريين تاريخا متكاملا يغطي العصور التاريخية المختلفة، والثاني إنشاء مدرسة للتاريخ والجغرافيا. ويبدو أن هذه المدرسة لم تعش طويلا.

 

(1/1055)

 

 

- عدة مؤلفات معروفة ومشهورة(1)؛ كما حاول قدر الإمكان عدم التعرض لواقع مصر المعاصر له وخاصة أسرة محمد علي. فتطرق للكتابة في تاريخ مصر القديم، وفي السيرة النبوية. فكتب في التاريخ القديم "أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر

__________

(1) من هذه المؤلفات: "نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك"، وهو تاريخ فرنسا ويشتمل على مقابلة زمنية بالتاريخ الإسلامي؛ "مطالع شموس السير في وقائع كرلوس الثاني عشر"، وهو تاريخ لشارل الثاني ملك السويد؛ "إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في أوربا"؛ "تاريخ بطرس الأكبر".

 

(1/1056)

 

 

وتوثيق بني إسماعيل"(1)، وفيه تعرض لعصور الفراعنة والرومان والبطالمة والبيزنطيين وختمه بالفتح العربي لمصر بطريقة جديدة نهج فيها منهجا علميا لم ينقص فيها من قدر أمجاد مصر القديمة أو يعلنها كما كان يفعل سابقوه، بل آمن بأمجاد هذا التاريخ، ورغب في أن تستعيد مصر أمجادها التي كانت عليها في عهد الفراعنة؛ وكتب عن سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - كتابا بعنوان "نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" تتبع فيه حياة الرسول منذ مولده إلى وفاته. كما قدم دراسة هامة عن المؤسسات السياسية

__________

(1) طبع عام 1868م.

 

(1/1057)

 

 

والإدارية والاجتماعية والمالية في الإسلام في محاولة منه للخوض في هذا الموضوع بطريقة علمية. ولرفاعة غير هذين الكتابين مؤلفات لها قيمتها التاريخية: فحول رحلته إلى باريس كتب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" أو "الديوان النفيس بإيوان باريس"(1)، وهو عنوان مسجع على نحو ما كان شائعا في ذلك الوقت، وفيه عرض لرحلته في فرنسا ولحركة الاستنارة الأوربية التي غرستها فيه هذه

__________

(1) نشر لأول مرة في عام 1834م، ثم طبع بعد ذلك ثلاث طبعات، وترجم فيما بعد إلى التركية ولقي قبولا واسعا بين أوساط المثقفين في إستانبول.

 

(1/1058)

 

 

الرحلة، فتحدث عن قيام الفرنسيين بخلع الملك شارل العاشر في عام 1830م وقيام ملكية يوليو الدستورية، وتعرض للمبادئ الدستورية التي غرستها الثورة الفرنسية في نفوس الفرنسيين والتي نصت على مبدإ تكافؤ الفرص وما للمواطن الفرنسي من حقوق وما عليه من واجبات؛ كما نصت على حرية العقيدة والعبادة وعلى حرية الرأي في حدود القانون والصالح العام.

... ومع أن رفاعة حاول إدخال مبادئ الثورة الفرنسية في النهضة المصرية الحديثة وفي تاريخ الفكر السياسي المصري الحديث، فإنه كان متحفظا في ذلك إلى حد كبير. وعلى سبيل المثال،

 

(1/1059)

 

 

نذكر أنه حين أشار إلى مبدإ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لدى مونتسكيو، نجده يتعرض للفكرة الإسلامية التي ترى أن الشريعة فوق الجميع وأن على المحكومين طاعة الحاكم، وعلى الحاكم إرضاء المحكومين وإرساء العدالة بينهم وممارسة سلطاته بطريقة سليمة. فالحاكم لديه يتمتع بكامل السلطات بشرط احترام القانون(1)

__________

(1) الجدير بالذكر أن محمد علي قرأ هذا الكتاب بعد أن ترجم له إلى التركية، وطبع بعد ذلك عدة طبعات من أشهرها الطبعة التي أشرفت وزارة الثقافة والإرشاد القومي على إخراجها وكلفت الدكتور مهدي علام وبعض الأساتذة بالتعليق عليها والتقديم لها، وكان ذلك في عام 1958م.

 

(1/1060)

 

 

.

... وحول ما يخص آداب عصره كتب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"(1). وهو أول كتاب عربي ينزع إلى الناحية الوطنية(2)، فيذكر معنى الوطن ومصر ومزاياها ويتعرض لفكرة التسامح الديني والأخوة في الوطن، كما يتعرض للمنافع العامة فيخصص

__________

(1) نشر لأول مرة في عام 1869م.

(2) نشر حسين المرصفي خلال هذه الفترة وبالتحديد في عام 1869م كتابه "الكلم الثمان" وفيه تعرض لدراسة الكلمات الجديدة التي وفدت على الفكر السياسي المصري مثل الوطن، والحرية، والأمة، والعدالة، والعلم، والسياسة، والحكومة، والتربية.

 

(1/1061)

 

 

لها أكثر أجزاء الكتاب. فيذكر الآمال التي يأملها في المنافع العامة في كلمات تحفل بمعاني التكريم والولاء لمصر وشعبها. فمصر في نظره أم الدنيا وروضتها، وأنها دون غيرها من الممالك أعظم تمدينا وتقدما، كما أن أهلها لديهم درجة عليا من الفنون والمنافع العمومية وهو ما تشهد به الآثار المصرية التي تعد من أكبر مصادر الفخر للمصريين بحكم احتوائها على المقومات الأساسية للحضارة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

 

(1/1062)

 

 

... وفي خاتمة الكتاب يتطرق رفاعة إلى ما يجب على المصريين تجاه وطنهم بأسلوب جمع فيه بين ثقافته الإسلامية وثقافته الفرنسية.

... وحول ما يخص تربية الناشئة كتب رفاعة "المرشد الأمين في تهذيب البنات والبنين"، وهو كتاب أخلاق وتربية للمتعلمين والمتعلمات وقد صدر في عام 1872م.

... وإلى جانب ذلك، قام رفاعة بإصدار أول مجلة ثقافية علمية تصدر في مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بالاشتراك مع علي باشا مبارك، وهي مجلة "روضة المدارس المصرية" التي صدر العدد الأول منها في الخامس عشر من المحرم عام 1287هـ

 

(1/1063)

 

 

الموافق أبريل 1870م. وكانت روضة حقة تحفل بثمار جمهرة من الأقلام البارعة. وقد طرحت هذه المجلة عدة تساؤلات أهمها: على أي منهج يكون تحول مصر الحضاري؟ هل نعود إلى الماضي وننعم بالعيش في فردوسه المفقود، ونقطع كل صلتنا بالحاضر؟ أو نقفز قفزا إلى آفاق المستقبل ونقطع كل صلتنا بماضينا المجيد؟ وكان الجواب حاضرا تجسده شخصية رفاعة الطهطاوي الذي كان ثمرة ناضجة من ثمار امتزاج الماضي بالحاضر، وتكوين مركب جديد فيه أنضر ما في الماضي من صفحات وأعذب ما في الحاضر من منجزات(1)

__________

(1) محمد عبد الغني وعبد العزيز الدسوقي، "روضة المدارس، نشأتها واتجاهاتها الأدبية والعلمية"، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1985، ص.13.

 

(1/1064)

 

 

.

... ومع أن رفاعة لم يتخل في كتاباته عن النظرة التقليدية لمفهوم التاريخ في بعض الأحيان ولم يستطع أن يهجر السجع في كثير من الأحيان، فإنه قد أضاف إليه لمحات جديدة جديرة بالالتفات والتسجيل منها تقسيمه للتاريخ إلى قديم وحديث وإلى عام وخاص كتاريخ جميع الأمم عامة أو تاريخ أمة واحدة كتاريخ المصريين مثلا، ومنها عاطفته الوطنية القومية وحبه الشديد لمصر الذي ملك عليه نفسه وجعله يشيد بمصر وفضلها على الحضارة العالمية؛ فهو يصفها بأم الدنيا والوطن، وأم أمم الدنيا التي "نازعت قدماء الأمم في الأقدمية، فسلموا

 

(1/1065)

 

 

لها أنهم دونها مرتبة في الأهمية وإن لم تسبقها أمة في ميدان التمدينية"، وأنها أيضا "رحيبة الدولة مهيبة الصولة"، كما جعله يعتمد الفصول الطوال في كتبه المتعددة للتغني بالوطن والوطنية وأهمية التضحية في سبيلها.

... ومع أن الطهطاوي كتب عن الوطنية، فإنه لم ينس أنه مسلم قبل كل شيء. وأبرز الأدلة على ذلك ما ذكره في شعره الذي تغنى فيه بمصر وباريس معا حيث يقول:

فكل منها عندي عروس ... ... ولكن مصر ليست بنت كفر(1)

__________

(1) رفاعة الطهطاوي، "تخليص الإبريز في تخليص باريز"، تحقيق مهدي علام وآخرين، القاهرة، البابي الحلبي، 1958، ص.105.

 

(1/1066)

 

 

... وعلى أي حال، فإنه يمكن القول إن التسجيل التاريخي أصبح بفضل جهود الطهطاوي ومدرسته تاريخا بالمعنى الحقيقي لكلمة التاريخ، وذلك نتيجة للمنهج العلمي الذي اتبعه، والدقة والموضوعية التي سار عليها؛ فقدم لنا بذلك رؤية حضارية للإطار العام الذي سارت عليه النهضة المصرية. كما فتح الأذهان لما يدور في العالم من أحداث، مما يجعلنا نعده رائدا من رواد حركة التنوير. كما نجعل مؤلفاته مصدرا رئيسا خلال كتابتنا للتاريخ. وقد سبقنا في هذا الرأي عبد الله النديم الذي طلب خلال فترة اختفائه عن أعين السلطة بعد انكسار

 

(1/1067)

 

 

الثورة العرابية مجموعة من الكتب للاستفادة منها خلال وحدته كان من بينها مؤلفات الطهطاوي.

... وعلى الرغم من ذلك، فلم يهنأ رفاعة بما قدمه لبلاده من خدمات. فبعد أن تولى عباس الأول أريكة الحكم في مصر، أمر بنفيه إلى السودان نتيجة لوشاية نقلها البعض إليه. واختلفت الآراء في تعليلها؛ فمنها من قال إن كتاب "تخليص الإبريز" وما به من آراء ومبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد كان السبب في نفيه(1). ومنها من يقول إن رفاعة لقي معارضة من بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه

__________

(1) الرافعي، "عصر محمد علي"، ص.489.

 

(1/1068)

 

 

متطفلا على ميدانهم في دراسة الشريعة والفقه فكادوا له عند الباشا(1). وهناك رأي آخر يقول إن علي مبارك الذي عاد من أوربا مليئا بالأطماع الشخصية كان وراء نفي رفاعة إلى السودان(2).

... وعلى أي حال، فقد انكب بعض المعاصرين للطهطاوي على دراسة تاريخ مصر العمراني والاجتماعي والتعليمي كما فعل علي مبارك(3)

__________

(1) أحمد عزت عبد الكريم، "تاريخ التعليم في مصر-عصر عباس وسعيد"، القاهرة، 1945، ص.85.

(2) أحمد بدوي، "رفاعة الطهطاوي بك"، القاهرة، لجنة البيان العربي، 1950، ص.47.

(3) عن سيرة حياته، انظر: "الخطط التوفيقية"، ج9، صص.37-61.

 

(1/1069)

 

 

في كتابه "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة"(1)

__________

(1) تشتمل "الخطط التوفيقية" على عشرين جزءا في خمسة مجلدات كبيرة. وقد أراد علي مبارك أن يكمل بها ما كتبه المقريزي في "خططه"، وهي عبارة عن موسوعة هامة تضم العديد من التراجم والأعلام، كما تتناول معلومات هامة عن القرى والمدن المصرية بما فيها من مؤسسات دينية وثقافية خلال القرن التاسع عشر. وقد سماها بـ"الخطط التوفيقية" نسبة إلى الخديو توفيق. وقد جاءت هذه الخطط في بعض الوجوه أتم وأوفى من "خطط" المقريزي، خاصة وأن صاحبها تتبع تاريخ الخطط في ظلمات العصر العثماني، وحقق المعالم والمواقع الأثرية القديمة في ضوء الأطلال الدارسة والمنشآت المحدثة التي تفصلها من الماضي قرون طويلة.

 

(1/1070)

 

 

والذي يعد من أهم المصادر في دراسة تاريخ مصر الاجتماعي في القرن التاسع عشر. هذا، إلى جانب أن إنشاء مجلة "روضة المدارس" كانت من وحي علي مبارك وثمار تفكيره حين كان وزيرا للمعارف، وهو الذي عهد إلى رفاعة الطهطاوي بأن تكون تحت نظارته.

... ومن المعروف أن هذه المجلة اهتمت بالتاريخ وحرصت على نشر الجداول التاريخية للوقائع العالمية الشهيرة والحوادث الكبيرة، كما تطرقت في موضوعاتها إلى بيان سلاطين آل عثمان إلى عهد السلطان عبد المجيد خان.

 

(1/1071)

 

 

... يضاف إلى ذلك أن علي مبارك ألف كتبا عديدة في العلوم والهندسة والثقافة منها "تقريب الهندسة"(1) و"رواية علم الدين"(2) وكتاب "حقائق الأخبار في أوصاف

__________

(1) طبع بمطبعة وادي النيل، في عام 1279هـ بهدف تعليم الضباط والعساكر أيام سعيد باشا طرق الحساب والهندسة والاستكشافات العسكرية.

(2) قصة في أربعة مجلدات قسمت إلى مسامرات بلغت 125 مسامرة، وتدور حول رجل أزهري تتلمذ عليه مستشرق إنجليزي تعلم منه العربية وعلمه الإنجليزية وسافر معه إلى إنجلترا. ومن خلال ذلك يرصد علي مبارك أهمية الاحتكاك الحضاري بين لشعوب

 

(1/1072)

 

 

البحار"(1) وكتاب "تنوير الأفهام في تغذي الأجسام"(2) وكتاب "نخبة الفكر في تدبير نيل مصر"(3) وغيره. وإلى جانب ذلك، قام علي مبارك بترجمة كتاب "تاريخ

__________

(1) طبع بمطبعة وادي النيل سنة 1287هـ. ويبلغ عدد صفحاته 81 صفحة.

(2) طبع بمطبعة المدارس في عام 1289هـ.

(3) وهذا الكتاب يرسم سياسة مستقبلية لمصر تعتمد أولا وقبل كل شيء على الزراعة المصرية وعلى ما يقوم عليها من تصنيع، ثم يقدم بعض النتائج المستخلصة من المقارنات. انظر: محمد أحمد خلف الله، "علي مبارك وآثاره"، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1957، صص.208-214.

 

(1/1073)

 

 

العرب" لسديو.

... السؤال المطروح هل قام علي مبارك بتأليف كل هذه الكتب العديدة وحده أو ساعده في تأليفها آخرون، وما مصادره التي استعان بها خلال تأليفه لهذه الكتب؟

... حقيقة، إن علي مبارك كان شغوفا بالتاريخ، ولكن هذا لا يعني أنه قام بتأليف كل ما كتبه فيه، بل كان له معاونون خاصة من الذين عملوا تحت إدارته. وقد ألمح علي مبارك إلى ذلك، فذكر أن أعماله الرسمية الكثيرة جعلت من الصعب عليه أن يكمل مهمة التأليف وحده(1).

__________

(1) انظر: "الخطط التوفيقية"، الجزء الأول، ص.2.

 

(1/1074)

 

 

... أما عن صادره فقد قرأ كثيرا من كتب الأوربيين والمستشرقين خاصة الفرنسيين منهم، نظرا لأنه كان يتقن الفرنسية. كما رجع إلى المصادر العربية القديمة. وقد أشار علي مبارك إلى ذلك بقوله إنه جمع "من كتب العجم والعرب ما يفضي بتأمله إلى العجب، مراجعا كتب العرب والإفرنج الذين ساحوا تلك الديار ورسومهم التي بينوا فيها حدود هذه الأقطار".

... واستمرت حركة الدراسات التاريخية في التقدم بفضل رجال مدرسة علي مبارك ومعاصريه، فعني محمد مختار باشا مأمور الخاصة الخديوية بالأبحاث والدراسات التاريخية. ومن أبرز مؤلفاته

 

(1/1075)

 

 

في هذا المجال "التوفيقات الإلهية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنجية والقبطية" (من السنة الأولى للهجرة إلى سنة 1500هـ(1)). وكتب إسماعيل باشا سرهنك ناظر المدارس الحربية "حقائق الأخبار عن دول البحار"(2)

__________

(1) طبع بمطبعة بولاق بالقاهرة، في عام 1311هـ.

(2) طبع في ثلاثة أجزاء بمطبعة بولاق. ويعتبر البعض إسماعيل سرهنك من كتاب القرن العشرين، لأنه توفي في عام 1924؛ ولكننا آثرنا إلحاقه بمؤرخي القرن التاسع عشر، خاصة وأنه ألف الجزءين الأول والثاني من كتابه في أواخره وتم طبعهما في عام 1896 وعام 1898م.

 

... ومن المعروف أن سرهنك ولد في عام 1867م والتحق بالمدرسة البحرية بعد أن أتم دراسته الابتدائية، وتخرج ضابطا منها، وتولى قيادة كثير من سفن الأسطول المصري، وشارك في العديد من العمليات الحربية والبحرية.

 

(1/1076)

 

 

.

... ويرجع السبب في تأليف هذا الكتاب إلى رغبة صاحبه في إفادة أهل بلاده، خاصة وأن المؤلفات التاريخية العصرية في ذلك الوقت كانت قليلة، ولا سيما ما اختص منها بتاريخ الدول البحرية ذات الشأن، واشتمل هذا الكتاب على عرض لتاريخ الإنسان منذ الخليقة وتوقف عند عصر عباس الثاني، وتعرض فيه سرهنك لبعض الدول البحرية القديمة والحديثة فتكلم عن موقعها الجغرافي وأرخ لثغورها الحربية والتجارية ثم تعرض لتأسيسها ومشاهير ملوكها وما عاصرهم من الأحداث.

 

(1/1077)

 

 

... ولعل أهم أجزاء هذا الكتاب هو الجزء الثاني الذي انفرد تاريخ مصر بالقسط الأكبر منه. وترجع أهميته إلى أنه مليء بالبيانات والإحصاءات والوثائق الهامة. هذا، إلى جانب تعرضه لتراجم عديدة لمشاهير البحرية والجيش المصري في القرن التاسع عشر. وقد ساعد سرهنك في تأليف هذا الكتاب ثقافته العسكرية ودراسته البحرية لعلوم الفلك والجغرافيا والرياضيات وفن الملاحة؛ هذا، إلى جانب استيعابه للعديد من اللغات، ومنها العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية.

 

(1/1078)

 

 

... وقد أهدى المؤلف هذا الكتاب إلى الخديو عباس الثاني بقوله في مقدمته للكتاب: "وقد جعلته هدية إلى سدة مولانا محيي الآمال الوطنية، ومعيد النشأة المصرية عزيز مصر وحامي حمى القطر خديوينا الأفخم وملاذنا الأعظم عباس حلمي الثاني"(1).

... وعلى أي حال، فقد سد سرهنك بعض الفجوات التاريخية فيما يتعلق بتاريخ القوى البحرية، كم استخدم وثائق تاريخية

__________

(1) حقائق الأخبار، ص.3. والجدير بالذكر أن الجزء الثالث من هذا الكتاب طبع في عام 1923، أي بعد صدور كتاب علي مبارك "حقائق الأخبار في أوصاف البحار" بربع قرن تقريبا.

 

(1/1079)

 

 

أصيلة مدركا أهميتها في كتابة دراسته. ومع ذلك، فإن ما كتبه يمكن ضمه إلى التاريخ الحولي التقليدي مثله مثل علي مبارك ومجموعته.

... فعلى الرغم من أن سرهنك حاول أن يكتب عن القوى البحرية، فإن ما كتبه شمل العديد من المعلومات في كل المجالات التي خطرت بباله أثناء كتابته(1).

... وإلحاقا لهذه المجموعة من كتاب التاريخ الحولي، كتب "فيليب جلاد"، مندوب قلم قضايا نظارة الحقانية، "قاموس الإدارة والقضا"(2)

__________

(1) ناقش كرابس ذلك في كتابه سابق الذكر، صص.193-194.

(2) طبع الجزء الأول بمطبعة بني لاغوداكي بالإسكندرية، في عام 1899م.

 

(1/1080)

 

 

في سبعة أجزاء؛ واشتمل على مجموعة هامة من القوانين واللوائح والفرمانات والمعاهدات الرسمية في القرن التاسع عشر رتبت وفقا للتسلسل الزمني مع بعض التعليقات. وهذا القاموس يعد مرجعا مفيدا لمؤرخ التاريخ الاقتصادي المصري في نهاية القرن التاسع عشر. وكتب يعقوب ارتين، وكيل نظارة المعارف العمومية، "القول التام في التعليم العام"(1) باللغة الفرنسية؛ وقام علي بهجت المترجم الأول بنظارة المعارف بترجمته إلى العربية. وفي هذا الكتاب عرض المؤلف لتطور التعليم في مصر، فأوضح أن عامة

__________

(1) طبع بمطبعة بولاق في عام 1894م.

 

(1/1081)

 

 

المصريين كانوا يهملون تربية أولادهم ويعارضونها في بداية الأمر، ثم ما لبثوا أن قدروا التربية حق قدرها بحيث أصبحت الطلبات ترد إلى نظارة المعارف من جميع أنحاء القطر تطالب بإنشاء مدارس لتربية أولادهم(1)، كما تعرض لتطور ميزانية نظارة المعارف والبرامج والخطط التي اتخذتها النظارة لتحديث التعليم.

... وإلى جانب ذلك كتب يعقوب أرتين "الأحكام المرعية في شأن الأراضي المصرية" باللغة الفرنسية أيضا، وقام سعيد عمون بترجمته(2)، خاصة وأن مؤلفه كان غارقا حتى

__________

(1) القول التام، ص.6.

(2) نشر بالقاهرة عام 1306هـ.

 

(1/1082)

 

 

أذنيه في الثقافة الفرنسية إلى حد أنه لم يستطيع أن يكتب بلغة عربية سليمة.

... وأرتين كان يفضل في كتاباته أن تروي الجداول والإحصائيات والوثائق ما يريد أن يقوله، مما جعل البعض يعد ما كتبه دراسة مؤسسة على محتويات الأرشيف الحكومي.

... ومن هنا لا يمكن اعتبار جلاد أو أرتين مؤرخين. فقد كانا على الأصح مصنفين للعلوم الإحصائية دون إضافة أي جديد إليهما(1).

... واستمرت الكتابة التاريخية في طريقها تساير طريقة الحوليات، وإن كانت نغمة الاعتماد على المحسنات البديعية في الكتابة

__________

(1) كرابس، مرجع سابق، صص.253-254.

 

(1/1083)

 

 

قد خفت حدتها بشكل غير كبير. فكتب سليم النقاش(1) البيروتي "مصر للمصريين"، أرخ فيه لتاريخ مصر منذ محمد علي حتى حوادث الثورة العرابية في تسعة مجلدات: الثلاثة الأولى منها في تاريخ أسرة محمد علي حتى خروج إسماعيل من مصر(2)

__________

(1) هاجر إلى مصر في عهد إسماعيل وعمل بالتمثيل والصحافة. ولما قامت الثورة العرابية، شايع عرابي فترة، ثم انقلب عليه وأصبح واحدا من أقوى المعارضين له، وظل على ذلك الحال حتى توفي في عام 1884م.

(2) هذه المجلدات الثلاثة أوقفت الحكومة طبعها، لأنها وجدت في ترجمة محمد علي والخديوي إسماعيل ما يتحتم حذفه. (انظر: جرجي زيدان، "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج4، القاهرة، مطبعة الهلال، 1914، ص.287).

 

(1/1084)

 

 

؛ والثلاثة الثانية من ولاية توفيق باشا إلى انقضاء حوادث الثورة العرابية؛ أما الثلاثة الأخيرة، فشملت محاكمات العرابيين وصور محاضرهم الرسمية.

... وقد أفاد النقاش تماما من المادة الوثائقية التي توفرت له رؤيتها. فبعد أن وافقت دار المحفوظات له على الاطلاع على الوثائق المحفوظة لديها تمكن من رصد الفرمانات العثمانية، والذكريات الخديوية، وتنظيمات الجيش، وأوراق عن الأوضاع المالية، وترتيبات تسوية الديون، وأوراق العرابيين، ومحاكمتهم بعد الهزيمة والعديد من الوثائق الدبلوماسية الأخرى.

 

(1/1085)

 

 

... وترجع أهمية ما كتبه سليم النقاش إلى أنه كان شاهد عيان للعديد من الأحداث. يضاف إلى ذلك أنه لم يهمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في كتاباته، فتعرض لبعثة اللورد دفرين (Dufferin)، وتجارة الرقيق، والقبائل البدوية، وقيام بعض المصريين بشراء أسلحة وملابس من الإنجليز مقابل بيع مشروبات روحية لهم، إلخ.

... ومع أننا لا يمكن أن نصف النقاش بالحياد تجاه العرابيين، خاصة وأنهم أحرقوا جريدته، كما أنه يصعب علينا أن ننتقد أسلوبه في الكتابة الذي لم يستطع التخلص فيه من السجع والزخارف اللفظية، فإن ما كتبه يظل

 

(1/1086)

 

 

مفيدا للمؤرخ الذي يتعرض للثورة العرابية خاصة.

... وكتب ميخائيل شاروبيم(1) "الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث"(2). وفي هذا الكتاب تعرض المؤلف لتاريخ مصر من بداياته حتى تولية عباس الثاني أريكة الخديوية بشكل يجمع في أسلوبه بين طريقة السلف في الكتابة التاريخية ومحاولة مواكبة الأسلوب الحديث البعيد عن السجع والتكلف. وقد استخدم في

__________

(1) قبطي مصري ولد في حي السقايين بالقاهرة في عام 1861م، وتقلب في مناصب عديدة.

(2) صدر في أربعة أجزاء بين عام 1898م وعام 1900م، ويتكون من 1738 صفحة من القطع الكبيرة.

 

(1/1087)

 

 

كتابته طريقة الحوليات، واستطاع أن يرصد بها قدرا كبيرا من الحوادث والمعلومات التاريخية بشكل أراد به أن يثبت وحدة تاريخ مصر واتصاله بشكل لا ينقطع.

... ومع أن أسلوب هذا الكتاب وطريقته ينتميان إلى كتابات مؤرخي العصور الوسطى من حيث أن صاحبه لم يهتم بذكر قوائم مراجعه أو المصادر التي استقى منها كتاباته، فإن رصده للوقائع لم يخل من التحليل والتعليق في بعض الأحيان؛ كما أن تخلصه من الأنماط الأسلوبية القديمة إلى حد كبير وابتعاده عن السجع وتقييمه للحوادث يجعله يفترق عن مؤرخي العصور الوسطى.

 

(1/1088)

 

 

... وعلى أي حال، فإنه كان للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والاحتكاك المباشر بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب وما أعقبه من تدخل أجنبي في شؤون مصر، ثم حضور جمال الدين الأفغاني، وظهور الصحف السياسية، وقيام الثورة العرابية وانكسارها والاحتلال الإنجليزي لمصر وانبعاث الحركة الوطنية على يد مصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهم من رجالات مصر أكبر الأثر في ازدهار الحركة التاريخية، خاصة بعد أن بدأ المصريون يكتبون عما يجيش في صدورهم من موضوعات سياسية

 

(1/1089)

 

 

ووطنية، وعما يعانيه وطنهم من آلام وما يعتمل في نفوسهم من آمال بهدف حفز الهمم وإيقاظ العقول وتقوية الوعي الوطني لدى أفراد الشعب المصري.

... حقيقة، إن ما كتبه معظم أفراد هذه المدرسة لم يهدف إلى خدمة الدراسات التاريخية، أو إلى إقرار واقع تاريخي بقدر ما كان شغلا لأوقات فراغهم أو إبرازا لمواقف معينة. وقد أسهمت الصحافة في ذلك بجهد كبير، فساعدت على تكوين الرأي العام، وشجعت المصريين على التحدث عن شؤون بلادهم بصراحة، كما دفعتهم إلى التعبير عن آمالهم وأهدافهم.

 

(1/1090)

 

 

... ومن المعروف أن الصحف المصرية في ذلك الوقت تجاذبتها تيارات مختلفة. فكان هناك التيار الوطني الثائر الذي تمثل في كتابات جمال الدين الأفغاني وتلاميذه والذي مثلته العديد من الصحف أمثال "مصر" و"التجارة" و"الطائف" و"الزمان" و"المفيد" و"أبو نظارة"، وهناك الصحف المناوئة للحركة الوطنية والتي تدافع عن الإنجليز، وتتغنى بمحامدهم، وتشيد بنعمة الاحتلال مثل "المقطم" و"المقتطف" و"الأهرام"، كما كان هناك الصحف الموالية للتيار العثاني الذي يستمد قوته من الأصول المتعددة التي تربط مصر بالدولة العثمانية ويتخذ من

 

(1/1091)

 

 

تيار الجامعة الإسلامة مظهرا له مدفوعا بالولاء الديني. وقد مثلت صحف مصطفى كامل هذا التيار أبلغ تمثيل. وعلى الرغم من ذلك، وبالرغم من أن الصحافة قد لا يتسم أسلوبها في بعض الأحيان بالموضوعية، فإنها كانت عاملا من عوامل النهضة التاريخية الحديثة.

... يضاف إلى ذلك أن ما كتبه قادة الثورة العرابية ن مذكرات في أواخر القرن التاسع عشر كان مفيدا إلى حد كبير في تغذية الروح القومية لدى المصريين، وتفهم وقائع الأحداث، وإنعاش الحركة التاريخية بوجه عام. وأبرز الأمثلة على ذلك ما كتبه محمود فهمي المهندس وعبد الله

 

(1/1092)

 

 

النديم والشيخ محمد عبده وأحمد عرابي من مذكرات خلال فترة النفي أو الاختفاء. فكتب محمود فهمي المهندس(1) "البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر"(2)،

__________

(1) توفي في السابع عشر من يونيو 1894م في منفاه بسيلان. ومما كتبه عنه طبيبه أنه كان نشيطا، ويهوى المكتبة ويقوم بترجمة كتب التاريخ من الإنجليزية إلى العربية. (انظر: لطيفة سالم، "عرابي ورفاقه في جنة آدم 1883-1901م"، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1986، ص.84).

(2) طبع هذا الكتاب في عام 1312هـ في مطبعة بولاق بالقاهرة، أي بعد وفاته بحوالي عام.

 

(1/1093)

 

 

ذلك الكتاب الذي ساير طريقة الحوليات والذي تطرق إلى تاريخ العالم منذ أقدم العصور وامتد إلى أواخر القرن التاسع عشر. وأهم ما في هذا الكتاب ما كتبه المؤلف عن الثورة العرابية ووجهة نظره فيها، وترجع أهمية ما كتبه إلى أنه كان أحد شهود العيان الذين شاركوا في هذه الثورة، وكان من رجالها البارزين. ومع ذلك، يتضح من كتاباته تحامله على عرابي حتى وصل به الأمر إلى التجني على الحقائق التاريخية. وقد يرجع ذلك إلى خصومة حدثت بينهما في المنفى(1).

__________

(1) انظر: "البحر الزاخر"، ج1، صص.210-237.

 

(1/1094)

 

 

... وإلى جانب ذلك فمحمود فهمي مذكرات عن الثورة العرابية موجودة بدار الوثائق القومية بكورنيش النيل بالقاهرة تحت عنوان "أوراق الحضرة الخديوية والثورة العرابية"، وهي مذكراته الخاصة حول ما شاهده أثناء ضرب الإسكندرية والأعمال التي قام بها، ومذكرة عن تسليم نفسه للإنجليز، ومذكرة للخديو يتنصل فيها من التبعات التي أخذت عليه، وتلغراف منه إلى عرابي يخبره فيه بالحالة الحربية وما وصلت إليه من سوء.

... وعلى الرغم من خروج محمود فهمي على الموضوعية في بعض الأحيان، فإن ما كتبه يعد من المصادر الهامة في دراسة

 

(1/1095)

 

 

تاريخ الثورة العرابية وأحداثها.

... وكتب عبد الله النديم مذكراته السياسية تحت عنوان "كان ويكون"(1) أثناء فترة اختفائه عن أعين الإنجليز والحكومة من سنة 1882 إلى سنة 1891م. وتتضمن هذه المذكرات موضوعات دينية وأدبية وتاريخية وسياسية ومقاربات بين الأمم والأجناس الشرقية والغربية في أحوالهم وأطوارهم واختلاف طرقهم ومناهجهم، كما حكى النديم فيها عن أحواله في الفترة التي كان مختفيا فيها،

__________

(1) قمنا بنشر هذا الكتاب مع عمل مقدمة تحليلية له بالهيئة المصرية العامة للكتاب عن طريق مركز تاريخ مصر المعاصر.

 

(1/1096)

 

 

ومذكراته عن الثورة العرابية، ورسائله إلى عرابي. وإلى جانب ذلك، فللنديم مؤلفات عديدة تعرض معظمها للضياع وما تبقى منها مثل كتاب "المسامير"(1) الذي كتبه في هجاء أبو الهدى الصيادي وما تم جمعه تحت عنوان "سلافة النديم" يثبت أن أفكار النديم السياسية والاجتماعية كانت سابقة لأفكار أبناء وطنه، وكانت جديدة عليهم لم يسمعوا عنها من قبل حيث نبه أفكارهم إلى موضوعات جديدة أيقظ بها الرأي العام المصري بعد فترة رقاد.

__________

(1) قمنا بنشر هذا الكتاب مع عمل مقدمة تحليلية له عن طريق مركز تاريخ مصر المعاصر.

 

(1/1097)

 

 

... وكتب الشيخ محمد عبده "تاريخ أسباب الثورة العرابية"(1) بين فيه أسباب هذه الثورة وحوادثها، وتوقف عند مظاهرة عابدين، وقد بدأ الشيخ محمد عبده كتابه بوصف أحوال مصر عندما نزل الخديو إسماعيل عن العرش، وظروف تولية الخديو توفيق، كما أوضح أن النهضة الوطنية التي ظهرت في مصر خلال هذه الفترة ترجع إلى جمال الدين الأفغاني وما له من أثر على ازدهار الصحافة العربية وترقية أفكارها.

__________

(1) نشر محمد رشيد رضا هذا الكتاب ضمن كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده"، ج1، ص.159 وما بعدها.

 

(1/1098)

 

 

... وقد أوضح الشيخ محمد عبده أنه لم يكن راضيا عن حركة العسكريين في بداية الأمر، لأنه كان يرى ضرورة الاهتمام بتربية وتعليم الأمة. ويتوقف الكتاب –كما ذكرنا- عند حادثة عابدين وعزل رياض باشا وتولية شريف مكانه. ولم يتم الشيخ محمد عبده باقي أحداث الثورة، نظرا للخلاف الذي حدث بينه وبين الخديو عباس الثاني بسبب ما ذكره عن إسراف جده إسماعيل، وسوء إدارته للبلاد، وعن نقده للخديو توفيق لعدم تمكنه من وقف التدهور الذي حاق بمصر.

 

(1/1099)

 

 

... ويعد هذا الكتاب من الكتب المهمة في دراسة أسباب الثورة العرابية وأحداثها، ووجهة نظر الشيخ محمد عبده في بعض رجالها. وتبرز أهميته أيضا في أن الشيخ محمد عبده عبر عن وجهة نظره كأحد تلاميذ الأفغاني الذين لم يحسبوا للعسكريين حسابا أثناء مناداتهم بالإصلاح، وفي أنه أحد شهود العيان الذين شاهدوا الأحداث وشاركوا في اتخاذ بعض القرارات الهامة التي اتخذها العرابيون للدفاع عن مصر.

... وكتب أحمد عرابي "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية"(1)

__________

(1) مخطوط تحت رقم 1542، علما بأنه يوجد بدار الكتب نسخة مصورة عن الأصل، المخطوط تحت رقم ح24955 وتم نشر أجزاء منها.

 

(1/1100)

 

 

. وهذه المذكرات تضيء للمؤرخين بعض النواحي، وتذلل لهم سبل البحث، وتزيح الريب والشكوك عن الثورة وزعيمها. وقد تعرض عرابي في هذه المذكرات لنشأته ونسبه والأحداث التي تعرضت لها مصر أيامه. وأبرز ما يمكن أن نستخلصه مما كتبه عرابي أنه استعمل لفظ "المصريين" و"الأمة المصرية" بمعناه الحديث، واعتبر غير المصريين أجانب سواء كانوا من الأتراك أو الأرمن أو غيرهم، وسواء كانوا من المسلمين أو النصارى؛ كما أنه في حديثه عن الحملة الحبشية اتهم أركان الحرب الأجانب العاملين في الجيش المصري بالخيانة، وبأنهم كانوا السبب

 

(1/1101)

 

 

في المآسي التي تعرض لها الآلاف من الجنود المصريين وانتهت بإبادتهم؛ يضاف إلى ذلك اتهامه للخديو إسماعيل بعد خروجه من مصر بأنه سرق من الخزانة ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات.

... وعن الأحكام التي صدرت على زعماء الثورة ذكر عرابي أنه حكم عليه بالإعدام ومعه ستة من زملائه، ولكن استبدل ذلك الحكم بالنفي المؤبد من مصر وملحقاتها، كما صدرت الأوامر بمصادرة أملاك العرابيين ونفيهم إلى سيلان حتى أمر الخديو بالعفو عنهم في عام 1901م بعد غياب دام تسعة عشر عاما وأربعة أشهر.

 

(1/1102)

 

 

... والجدير بالذكر أن عرابي فرغ من مذكراته في السادس والعشرين من يوليو 1910م.

... وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لهذه المذكرات من الناحية التاريخية، خاصة وأن قائد الثورة العرابية هو كاتبها، فإن كثيرا مما ورد بها من معلومات يحتاج من الباحثين إلى تمحيص وتدقيق.

... وجملة القول إن كتابات ومذكرات قادة الثورة العرابية كان لها أبرز الأثر في تفهم العديد من الأحداث وإيضاح الكثير من الحوادث التي لم يتطرق إليها الآخرون.

 

(1/1103)

 

 

... وهكذا يتضح أن ما كتبه زعماء الثورة العرابية في مؤلفاتهم أو مذكراتهم انحصر إلى حد كبير في تعليل أسباب قيامهم بالثورة وشرح وقائعها والتنصل من تبعاتها وأسباب فشلها. ولعل السبب الذي دفعهم إلى هذه الكتابات هو شغل أوقات فراغهم سواء خلال فترة النفي أو الاختفاء. لذلك تأثروا جميعا بأحوالهم غير المرضية أثناء الكتابة، وانصب ذلك على خروج بعضهم على الموضوعية في بعض الأحيان.

... ومهما يكن من أمر، فإن ما كتبوه يعد لونا جديدا من ألوان الكتابة التاريخية عرفته مصر في أواخر القرن التاسع عشر، ولم تكن لها معرفة

 

(1/1104)

 

 

به من قبل(1).

... وعلى أي حال، فبعد فشل الثورة العرابية، لم تتوقف حركة النضال الفكري. فاشترك الأفغاني مع محمد عبده في إصدار جريدة "العروة الوثقى" في باريس لمهاجمة الاستعمار والدعوة إلى التضامن الإسلامي.

... ولم يتوقف الأمر على النواحي السياسية فحسب، بل ظهرت في مصر بعض الأفكار الاجتماعية المتأثرة بالتيار الليبرالي الأوربي. فدعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة في كتابيه "تحرير المرأة"(2) و"المرأة الجديدة"(3)

__________

(1) الشيال، "التاريخ والمؤرخون"، ص.174.

(2) نشر لأول مرة في عام 1899م.

(3) نشر لأول مرة في عام 1900م.

 

(1/1105)

 

 

وأرجع الاضمحلال الذي تعاني منه مصر إلى وضع المرأة المصرية وتخلفها ورأى أن العلاج الناجع لذلك هو التعليم.

... وفي نهاية هذا البحث، يمكن القول إن تطور حركة التأليف التاريخي في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي أخذ فيه الشرق يصحو من ثباته، وينفض عن نفسه غبار الخمول والتخلف، كان له أثره الواضح في ازدهار الحركة التاريخية في مصر في القرن العشرين.

... حقيقة، إن هذه الحركة لم تقم على أكتاف مؤرخين متخصصين، وإنما قامت على أكتاف الهواة وعشاق التاريخ الذين قدموا دراسات رائدة، وإن كان معظمهم قد اهتم بالجمع

 

(1/1106)

 

 

والتنسيق والمنمقات البديعية أكثر من التدقيق والتحقيق، والذين برز منهم العديد من كتاب التاريخ الثقاة أمثال عبد الرحمن الجبرتي، ذلك الشيخ الأزهري الذي دون الحوادث والوقائع كما رآها بعينيه أو سمعها بأذنيه من معاصريه، والذي يعد ما كتبه امتدادا لنظام الحوليات؛ ورفاعة الطهطاوي الأزهري المتفرنج الذي تمثل كتاباته نقطة تحول بارزة في تاريخ الفكر السياسي المصري، وإن كانت معظم كتاباته لا تخلو من السجع الأجوف؛ وعلي مبارك الذي كان مصنفا وجامعا وكانت اهتماماته بالتاريخ واضحة، بالرغم من أنه كان مهندسا؛ ومحمد

 

(1/1107)

 

 

عبده الذي اشتهر بمحاولاته في التوفيق بين الدين والعلم الحديث؛ وعبد الله النديم الذي هاجم عيوب مجتمعه بأسلوب يمتزج فيه التبكيت مع التنكيت، وغيره.

... وحقيقة، إن هذه الكتابات في مجملها لم يلتزم فيها أصحابها بقواعد الكتابة الحديثة، خاصة وأنهم عبروا عما كتبوه بطريقة عصرهم ولم تكن الكتابة التاريخية وظيفة أساسية في حياتهم. ومع ذلك، يحمد لهم ما كتبوه، ولا سيما أنهم أضاءوا الطريق لمؤرخي القرن العشرين الذين برزوا بدراساتهم الأكاديمية، خصوصا بعد افتتاح الجامعة المصرية.

 

(1/1108)

 

 

اتحاد المغرب العربي

 

... ... ... ... الدكتور عبد الكريم كريم

... كلية الآداب ـ الرباط

... عرف ابن خلدون بلاد المغرب بقوله: »إن المغرب كله على ساحل البحر الشامي، من جنوبه، فالأقرب إلى هنا برقة وإفريقية والمغرب الأوسط… والمغرب الأقصى«.

... وإذا كانت بلاد الشمال الإفريقي خلال القرون الأولى لإسلامها قد تجاذبتها تيارات مختلفة وعرفت من جهة أخرى قيام دول وإمارات في مناطق مختلفة منها، فإن هذه البلاد قد عاشت وحدة سياسية وتطوراً حضارياً متميزاً، خلال فترة ذهبية من تاريخها امتدت نحو الستين عاماً من القرن

 

(1/1109)

 

 

السادس للهجرة في عهد دولة الموحدين.

... تعاقب على حكم الدولة الموحدية خلال الفترة ما بين 540 و604 هـ أربعة خلفاء هم "عبد المومن بن علي وابنه يوسف وحفيده يعقوب وابن حفيده محمد" قاموا بمسيرات توحيدية انطلقت جميعها من المغرب الأقصى:

... فالخليفة عبد المومن بن علي:

... ... في عام 540 هـ فتح تلمسان ووهران

... ... وفي عام 544 هـ فتح مليانة وبجاية

... ... وفي عام 553 هـ فتح قابس والقيروان وسوسة وصفاقس والمهدية وطرابلس وبرقة

... والخليفة يوسف بن عبد المومن فتح في عام 575 هـ مدينة قفصة. ...

 

(1/1110)

 

 

... أما الخليفة يعقوب بن يوسف المقلب بالمنصور، فقد قام بثلاث مسيرات:

... عام 581 هـ لفتح بجاية.

... وعام 583 هـ لفتح قفصة وتونس والقيروان.

... وعام 285 هـ لفتح مدينة تونس.

... وآخر هذه المسيرات قام بها الخليفة محمد بن يعقوب في عام 598 هـ إلى الجزائر وفي عام 601 هـ إلى تونس والمهدية.

... حققت هذه المسيرات:

أولاً: الوحدة السياسية لشعوب المغرب العربي:

... »فتح عبد المومن جميع بلاد إفريقية من برقة إلى تلمسان ولم يبق له منازع«(1). أما يوسف

__________

(1) ابن أبي دينار، المونس في أخبارإفريقية وتونس، ص. 104.

 

(1/1111)

 

 

بن عبد المومن، فقد »كان ملكه من قاصية إفريقية إلى سوس الأقصى«(1).

... ويعقوب بن يوسف »كانت أيامه زينة الدهر والأمن في جميع عمله حتى أن الظعينة تخرج من برقة إلى آخر المغرب ولا يتعرض أحد«(2).

... وعن صدى هذه الجهود الوحدوية، تجمع المصادر والوثائق على أن شعوب الشمال الإفريقي قد تجاوبت معها إلى حد بعيد: فعندما وصل الخليفة عبد المومن إلى تونس، »خاطبه أهل مدينة قابس بالتوحيد… فبعث بعسكر ضخم… فلما وصلوا على ثمانية أميال من قابس، بادر أهلها مع قاضيهم

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 106.

(2) المصدر نفسه، ص. 107.

 

(1/1112)

 

 

بالخروج إلى الموحدين وتلقيهم بالطاعة والتزام أمر الدين والجماعة«(1). كما أن »عرب إفريقية والزاب والقيروان… أجابوا إلى الطاعة على حكم الاستطاعة«(2).

... أما عن الأفراح التي أقيمت بعد تحقق وحدة المغرب المغربي، فقد أورد ابن صاحب الصلاة في "المن بالإمامة" وهو معاصر وصفاً لبعضها:

 

... ذكر ورود الكتابين العزيزين المبشرين بالفتوح الواحد منها مؤرخ بالثاني من ذي الحجة من عام أربعة وخمسين بظاهر المهدية يعلم فيه بكل سرور وجذل ومنال

__________

(1) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص. 175.

(2) المصدر نفسه، ص. 417.

 

(1/1113)

 

 

وإقبال وأمل، والكتاب الثاني الجامع لجميع أشتات الفتوح والأماني مبشراً بفتح مدينة المهدية يوم عاشوراء من عام خمسة وخمسين وخمسمائة.

 

ولما فتح الله تعالى المهدية…، جلس أمير المؤمنين رضي الله عنه للموحدين أجمعين مجلس التهنئة والشكر لله تعالى على ذلك.

... وبهذه المناسبة، أقيمت بالشمال الإفريقي احتفالات تم خلالها إطعام »الناس كافة… والأجناد مدة ثلاثين يوماً… وقرع الطبول مع الإطعام متصل والبشر مشتمل والشعراء ينشدون أشعارهم بالتهاني«(1).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 120.

 

(1/1114)

 

 

ثانياً: حرص الحكام الموحدين على تشجيع هجرة القبائل العربية من ليبيا وتونس إلى الجزائر والمغرب

... 1 ـ بدافع الجهاد ضد الصليبيين بالأندلس:

... فبعد أن فتح عبد المومن المهدية، خاطب العرب قائلاً:

 

... قد وجبت علينا نصرة الإسلام؛ فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام وبكم يدفع العدو منها الآن، فأجابوا بالسمع والطاعة(1).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 144.

 

(1/1115)

 

 

... وفي عام 557 هـ، »استجلب عبد المومن الأجناد والمطوعة من سائر عمله يستنفرهم للجهاد فاجتمع له ما لم يجمع لغيره من بلاد إفريقية والمغرب والقبائل… من العرب«(1). وقبل أن ينتقل عبد المومن إلى الأندلس، أرسل مبشراً بقدومه على رأس قوات عربية لرد هجومات الإسبان. وقد جاء في هذه الرسالة:

ويصحبنا من خالص العُرْب معشر أنابوا فما ردوا وتابوا فما ارتدُّوا(2)

 

2 ـ للاستيطان في مختلف الأقطار المغربية

__________

(1) المونس، ص. 105.

(2) عبد الله كَنون، رسائل موحدية، ص. 27.

 

(1/1116)

 

 

... وبفضل ذلك، تغلغلت القبائل العربية في تونس وحواشي الأوراس وهضاب إقليم وهران وسهوله، وتسربت من ممر تازا إلى سهول المحيط الأطلسي… كما أن عرب المعقل الذين توغلوا في الصحراء تمكنوا مع الأيام من تعريب مناطق واسعة منها.

... وقد أكد ابن خلدون أن القبائل العربية في الجزائر قد انتشرت في مجموع البلاد، مما أدى إلى انتشار العربية وتبني عدد من القبائل المحلية للعربية.

... ولأخذ فكرة عن هذه الهجرة العربية، أورد ابن صاحب الصلاة:

 

(1/1117)

 

 

... وحين وصل إلى بلاد إفريقية، وجد أكثر بني عمه قد بادروا إلى طاعة هذا الأمر العظيم… فأسرع بنفسه وإخوته وجميع قبيله الأخص… ولحق بهم أولاً… بمدينة بجاية… وأقام… إلى أن وصل… أشياخ العرب بجمعهم وتحرك… إلى الحضرة العلية مراكش… ووصل أيضاً العمال والأمراء بإفريقية… بهؤلاء العرب… وكان عدد الخيل الواصلة من إفريقية أربعة آلف فرس (1).

 

... وفي مراكش كان المهاجرون العرب يجدون ترحاباً خاصاً:

__________

(1) المونس، ص. 105.

 

(1/1118)

 

 

... وخرج أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ عشية يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع المؤرخ 566 هـ بعد صلاة الجمعة إلى البحيرة خارج حضرة مراكش، فأطعم العرب والناس الوافدين وغيرهم مدة خمسة عشر يوماً يدخل كل يوم في البحيرة أزيد من ثلاثة آلاف رجل (1).

 

ثالثاً: ضبط إدارة المغرب العربي وتنظيم اقتصادياته

... بفضل الأمن والاستقرار اللذين عرفتهما بلاد المغرب العربي، استطاع القادة الموحدون أن ينظموا البلاد تنظيماً إدارياً محكماً:

__________

(1) المن بالإمامة، ص. 120.

 

(1/1119)

 

 

... أمر عبد المومن بتكسير بلاد إفريقية من برقة إلى السوس الأقصى طولاً وعرضاً بالفراسخ والأميال وأسقط الثلث من التكسير في مقابلة الجبال والأنهار. وما بقي قبض عليه الخراج وألزم كل قبيلة قسطها من الزرع، وهو أول من أحدث ذلك بالمغرب (1).

 

وهكذا وزعت بلاد المغرب العربي إلى مناطق إدارية أهمها:

... 1 ـ تلمسان التي ولى عليها عبد المومن ... »ابنه السيد الأعلى أبا حفص«(2).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 121.

(2) المونس، ص. 418.

 

(1/1120)

 

 

... 2 ـ بجاية: »وكان ابنه السيد الأجل أبو محمد والياً عليها«(1).

... 3 ـ تونس: »وكان أبو محمد عبد الواحد… صاحب تونس«(2).

... 4 ـ مراكش »فتح جميع بلاد إفريقية… وفرق عماله وقضاته«(3). وهكذا »كثرت الأموال وأمنت الطرقات«(4).

... » …وكان عدد الخيل الواصلة من إفريقية… مائة وخمسين حملاً من المال الصامت… ومن تلمسان… خمسين حملاً من المال الصامت«(5).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 104.

(2) المونس، ص. 418.

(3) المصدر نفسه، ص. 104.

(4) المصدرنفسه، ص. 106.

(5) المصدر نفسه، ص. 419.

 

(1/1121)

 

 

... رابعاً: أصبح المغرب العربي قوة مهابة الجانب باعتبار أن القادة الموحدين قد سخروا جميع الإمكانات البشرية والمادية لتوحيد الصف الداخلي وتطوير القوات المسلحة البرية والبحرية.

 

... أمر بإنشاء الأساطيل في جميع سواحل ممالكه، فأنشأ له منها أربعمائة قطعة: فمنها بحلق المعمورة مئة وعشرون قطعة ومنها بطنجة وسبتة وبادس ومراسي الريف مائة قطعة، ومنها ببلاد إفريقية ووهران ومرسى هنين مائة قطعة، ومنها ببلاد الأندلس ثمانون قطعة.

 

(1/1122)

 

 

... ونظر في استجلاب الخيل للجهاد والاستكثار من أنواع السلاح والعدد، وأمر بضرب السهام في جميع عمله، فكان يضرب له منها في كل يوم نحو عشرة قناطير، فجمع له من ذلك مالا يحصى كثرة (1).

و

... لما دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، خرج أمير المؤمنين عبد المومن من مراكش قاصداً الأندلس برسم الجهاد… فوصل إلى رباط الفتح وكتب إلى جميع بلاد المغرب والقبلة وإفريقية والسوس وغير ذلك يستنفرهم إلى الجهاد، فأجابه خلق كثير واجتمع له من عساكر الموحدين والمرتزقة من

__________

(1) محمد بوجندار، الاغتباط بتراجم أعلام الرباط، ص. 397.

 

(1/1123)

 

 

قبائل العرب والبربر أزيد من ثلاثمائة ألف فارس ومن جيوش المتطوعة ثمانون ألف فارس ومائة ألف راجل فضاقت بهم الأرض (1).

 

* * *

... بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين عام 583 هـ/ 1187 م وفتح القدس الشريف، »خاطب… يعقوب… وأخبره بأنه هزم روم الشام واستأصل شأفتهم وفتح بيت المقدس ـ شرفها الله ـ وجميع تلك البلاد التي كانت بأيدي أعداء الله«(2).

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) المؤلف المجهول، الاستبصار، ص. 104.

 

(1/1124)

 

 

... وإذا كانت شعوب المغرب قد اهتزت فرحاً للبشرى، »وكان له في النفوس من الفرح والجذل ما لا خفاء فيه«(1)، فإن الآلة العسكرية الصليبية قد عاودت هجوماتها وجعلت بلاد الشام تعيش ظروفاً صعبةً خلال أربعة أعوام متوالية (585 ـ 588 هـ): »كان قد اجتمع بصور أهل البلاد التي أخذها السلطان فأرسلوا إلى البحر يستنجدون… ووصل الفرنج في البحر عالم لا يحصى… وكانت المراكب في البحر كالجراد المنتشر ونزلوا على عكَّا ثامن رجب (عام 585 هـ)«(2)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 106.

(2) أحمد بن إبراهيم الحنبلي، شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، ص. 160.

 

(1/1125)

 

 

.

... التجأ صلاح الدين لمواجهة الأحداث إلى »استنفار الناس للجهاد«(1) و»كتب إلى المسلمين يستنجدهم«(2). ومن هؤلاء يعقوب المنصور الموحدي: »وكتب السلطان إلى يعقوب أمير المغرب يستنجده«(3).

... استقبل يعقوب المنصور بمدينة فاس في أوائل شعبان عام 585 هـ سفير صلاح الدين، ومن فاس رحل إلى تونس التي دخلها أوائل ذي القعدة 585 هـ » …ليكف… طاغية صقلية وليحصر جناح فلوله أن تطير ويعتقله في جزيرته«(4)

__________

(1) ابن شداد، النوادر السلطانية، ص. 214.

(2) شفاء القلوب، ص. 160.

(3) المصدر نفسه، ص. 169.

(4) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 6، ص. 526.

 

(1/1126)

 

 

الأمر الذي أجبر وليم الثاني، ملك صقلية، على الاستنجاد بأساطيل ريتشرد قلب الأسد الإنجليزي وفيليب أغست الفرنسي، التي رابطت بالجزيرة أواخر عام 586 هـ/ 1190 م وظلت بها إلى مطلع الصيف التالي(1).

... توالت رسائل صلاح الدين على يعقوب المنصور »فلم ندعه إلا لواجب عليه… فلا ترضى همته أن يعين الكفر الكفر ولا يعين الإسلام الإسلام وما اختص بالاستعانة إلا لأن العدو جاره والجار أقدر على الجار وأهل الجنة أولى بقتال أهل النار«(2)

__________

(1) ستيفن رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 79 وص. 95.

(2) ... أبو شامة المقدسي، كتاب الروضتين، ج 2، ص. 170.

 

(1/1127)

 

 

. حتى يتمكن المسلمون في الشرق والغرب من أن يمسكوا »طرفاً من حبل الجهاد… ونتجاذب أعداء الله من الجانبين«(1).

... استجاب يعقوب المنصور »وجهز لصلاح الدين مائة وثمانين أسطولاً ومنع الغزاة من ساحل الشام«(2). فهل حاولت القوات الصليبية المرابطة ببلاد الشام قطع الطرق على المساعدات العسكرية المغربية؟ »وعزم الفرنج على قصد مصر ثم عدلوا إلى القدس… وجاءهم خلق عظيم… وكان السلطان بالقدس«(3).

__________

(1) ... صبح الأعشى، ج 6، ص. 526.

(2) ... الناصري، الاستقصا، ج 2، ص. 182

(3) شفاء القلوب، ص. 175.

 

(1/1128)

 

 

... ويؤكد خبر التفكير في التوجه من فلسطين ضد مصر المؤرخ الإخباري لحملة ريتشرد قلب الأسد: »وعقدوا مجلساً للنظر فيما يجب أن يفعلوه، فقرر هذا المجلس أن يتخلوا عن بيت المقدس ويزحفوا على القاهرة… ثم تراجعوا وحاصروا القدس على بعد اثني عشر ميلاً من بيت المقدس «(1).

... واعتماداً على المصدر نفسه: »ثم تبدلت الحال في اليوم الثاني وجاءت الإمدادات إلى صلاح الدين واستولى الملل على رتشرد، وحبس عنه فرسان عكا وصور معونتهم فأرسل يطلب الصلح«(2)،

__________

(1) ديورانت، قصة الحضارة، ج 15، ص. 43.

(2) المصدر نفسه، ص. 178.

 

(1/1129)

 

 

وعقدت »هدنة في البر والبحر مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها سبتمبر (1192 م) الموافق حادي وعشرين شعبان«(1) لعام 588 هـ. وفي أوائل رمضان 558 هـ/ سبتمبر 1192 م جلت القوات الصليبية عن بلاد الشام (2).

... كان للمواقف التي اتخذتها شعوب المغرب العربي كبير الأثر على مجرى الحروب الصليبية في المشرق العربي، ومن أبرزها: ...

1 ـ حصار الأساطيل المغاربية للسفن الصليبية في عرض البحر المتوسط وحوضه الغربي بوجه خاص.

__________

(1) شفاء القلوب، ص. 175.

(2) المصدر نفسه، ص. 178.

 

(1/1130)

 

 

2 ـ مهاجمة مراكز التجمع الصليبي في شبه جزيرة إيبريا:

... أ ـ في البرتغال ضد سانشو هنريك عام 58 7 هـ.

ب ـ في إسبانيا ضد ألفونسو الثامن والانتصار في معركة الأرك عام 591 هـ التي جاءت مكملة للانتصار قبل ثمانية أعوام في معركة حطين.

 

* * *

... واليوم، وفي إطار ما يشهده الوطن العربي من قيام اتحادات إقليمية (مجلس التعاون الخليجي نموذجاً)، ثم التوقيع في مدينة مراكش على المعاهدة التي أنشئ بمقتضاها »اتحاد المغرب العربي« الذي يضم أقطار ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا:

 

(1/1131)

 

 

... إن صاحب الجلالة الحسن الثاني ملك المملكة المغربية، وفخامة السيد زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية التونسية، وفخامة السيد الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، وقائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم العقيد معمر القذافي، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، وفخامة العقيد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع رئيس اللجنة العسكرية للخلاص الوطني رئيس الدولة للجمهورية الإسلامية الموريتانية.

 

(1/1132)

 

 

... إيماناً منهم بما يجمع شعوب المغرب العربي من أواصر متينة قوامها الاشتراك في التاريخ والدين واللغة،

... واستجابة لما لهذه الشعوب وقادتها من تطلع عميق ثابت إلى إقامة اتحاد بينها يعزز ما يربطها من علاقات ويتيح لها السبل الملائمة لتسير تدريجياً نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها،

 

... ووعياً منهم لما سيترتب على هذه الاندماج من آثار تتيح لاتحاد المغرب العربي أن يكتسب وزناً نوعياً يسمح له بالمساهمة الفعالة في التوازن العالمي وتثبيت العلاقات السلمية داخل المجتمع الدولي واستتاب الأمن والاستقرار في

 

(1/1133)

 

 

العالم،

 

... وإدراكاً منهم أن إقامة اتحاد المغرب العربي تتطلب تحقيق إنجازات ملموسة ووضع قواعد مشتركة تجسم التضامن الفعلي بين أقطاره وتؤمن تنميتها الاقتصادية والاجتماعية،

... وتعبيراً عن عزمهم الصادق عن العمل من أجل أن يكون اتحاد المغرب العربي سبيلاً لبناء الوحدة العربة الشاملة ومنطلقاً نحو اتحاد أوسع يشمل دولاً أخرى عربية وإفريقية.

 

... اتفقوا على ما يلي:

... المادة الأولى: ينشأ بمقتضى هذه المعاهدة اتحاد يسمى "اتحاد المغرب العربي".

 

... حرر بمدينة مراكش يوم الجمعة الأبرك 10 رجب 1409 هـ

 

(1/1134)

 

 

... الموافق 17 يبراير 1989.

 

(1/1135)

 

 

الأزمة في المغرب بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل العلوي ومحاولة تأسيس طبائع جديدة للمُلك

... ... ... الدكتور أحمد الوارث

... ... ... ... كلية الآداب ـ الجديدة

 

... استطاع السلطان مولاي إسماعيل، كما هو معروف، إعادة توحيد المغرب؛ كما نجح في بناء سلطان مطلق في البلاد. وقد جاءت الوحدة الترابية، على حساب دويلات الزوايا، التي اقتسمت النفوذ الأكبر في البلاد، في أعقاب انهيار دولة الشرفاء السعديين، كما جاء بناء السلطان المطلق على أنقاض نفوذ الزعامات المحلية والجهوية، ولا سيما منها أرباب الربط والزوايا.

 

(1/1136)

 

 

ومعروف كذلك أن الآلة العسكرية كانت هي الوسيلة الرئيسة في تحقيق هذه النجاحات، إلى حد لم يعد في المغرب أي مؤسسة قادرة على مجادلة المخزن الإسماعيلي، بما فيها مؤسسة الزوايا، التي كانت زمنئذ من القوى السياسية العظمى في البلاد، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق(1).

__________

(1) سبق أن أدلى ميشو بلير برأي مهم في هذا الصدد مفاده: »خلو مملكة فاس مع نهاية القرن 18 م من أية زاوية قادرة على إثارة المشاكل للمخزن...«؛ E. Michaux-Bellaire, «Les Derqaoua: de Tanger », Revue du monde musulman, T. 39, juin 1920, p. 100.

 

(1/1137)

 

 

... وكان لسطوة المخزن الإسماعيلي آثارها البعيدة المدى أيضاً، حيث تجاوزت عهد مولاي إسماعيل إلى ما بعده. ويمكن اختزال تلك الآثار في الملاحظتين التاليتين:

... ـ أما الملاحظة الأولى، فهي ظهور ما يشبه اقتناع أرباب الزوايا ومن ارتبط بهم، بعدم صلاحية الصلاح والصلحاء للحكم. وظهر اقتناعهم بذلك بوضوح في الأزمة التي اندلعت بعد وفاة المولى إسماعيل. وبيان ذلك أنه بالرغم من حدوث »... فوضى لم يعرف لها مثيل«(1)، في تاريخ المغرب، بعد وفاة مولاي

__________

(1) محمد داود، تاريخ تطوان، تطوان، 1395 هـ، قسم 2، م 10، ص. 200.

 

(1/1138)

 

 

إسماعيل، لم يبد أي رجل من أرباب الزوايا طمعه في السلطة، لا وطنياً ولا جهوياً، وارتبطوا جميعاً في نشاطهم السياسي بأمراء البيت العلوي نفسه، مما يفسر إشارتنا إلى سطوة الجيش النظامي الإسماعيلي، في حربه مع الزوايا، ويؤكد أن هذه السطوة ظلت قائمة إلى ما بعد وفاة مولاي إسماعيل.

... أما الملاحظة الثانية، فهي مترتبة على الأولى ومكملة لها، وتتمثل في الموقف الجديد الذي تبناه أقطاب التيار الصوفي في خضم ذلك النزاع بين الأمراء العلويين. وتكمن هذه الجدة في مساندتهم جميعاً للأمراء الذين اختاروا التخلي عن

 

(1/1139)

 

 

السياسة الإسماعيلية في إدارة شؤون البلاد، أعني أنهم كانوا في مواقفهم من أنصار تيار الإصلاح الذي تزعمه بعض أمراء البيت العلوي، وبذلوا في سبيله الغالي والنفيس.

 

I ـ السلطان مولاي عبد الملك ينشد الإصلاح السياسي

... يفهم من كتب التاريخ التي اهتمت بالأزمة المذكورة أن المولى عبد الملك بن إسماعيل لقي تعاطفاً كبيراً من قطاع عريض من المغاربة، وفي مقدمتهم شيوخ التصوف وأرباب الزوايا، مقارنة مع أخيه ومنافسه على العرش، مولاي أحمد. كما يفهم من المصادر نفسها أن مرد ذلك التعاطف إلى الاختيارات السياسية التي

 

(1/1140)

 

 

تبناها مولاي عبد الملك، لما اعتلى العرش. ولعل أهم ما تميزت به هذه الاختيارات أنه خالف، في بعض وجوهها، تدابير والده مولاي إسماعيل في سياسته الداخلية. وقد ظهر ذلك جلياً في وجهين أساسيّين:

... ـ أولهما تقليص رواتب الجند النظامي المكون من العبيد(1). ولعل هذا هو

__________

(1) راجع: عبد الرحمن بن زيدان، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، المطبعة الوطنية، الرباط، 1352 هـ، ج 5، صص. 306 ـ 307؛ أحمد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، مطبعة دار الكتاب، البيضاء، ج 7، ص. 120.

 

(1/1141)

 

 

السبب الذي جعل أبا القاسم الزياني، ومن تبعه، يصفونه بالبخل والشح(1)، على عكس أخيه أبي العباس أحمد الذهبي »... الذي أفضى به جوده إلى حد

__________

(1) نقل ابن زيدان هذا الكلام عن الزياني، ثم علق عليه قائلاً: »والظاهر أن المترجم لم تكن يده مغلولة إلى عنقه ولا مبسوطة كل البسط كأخيه أبي العباس أحمد الذهبي الذي أفضى به جوده إلى حد التبذير المذموم من اتصف به على لسان الشارع. وقد بلغ جيش عبيد البخاري ومن في حكمهم من الشره ما صير الاقتصاد المحمود في نظرهم شحاً وبخلاً«. (إتحاف أعلام...، مصدر سابق، ج 5، ص. 297).

 

(1/1142)

 

 

التبذير المذموم (...)، و(...) بلغ جيش عبيد البخاري، ومن في حكمهم (في عهده) منه الشره ما صير الاقتصاد المحمود في نظرهم شحاً وبخلاً«(1).

... ولم يكن تقليص رواتب عبيد البخاري سوى مقدمة في سياسة مولاي عبد الملك الرامية إلى التخلي، في نهاية الأمر، عن خدماتهم. وفي هذا الصدد كتب الناصري أن مولاي عبد الملك »... كان قد عزم على تطهير الحضرة، وبساط الدولة، من افتيات العبيد وتحكمهم على أعياصها«(2). وكتب ابن زيدان، من جهته، ما يفيد أن

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 120.

 

(1/1143)

 

 

المولى عبد الملك أراد أن يجردهم مما اغتصبوه، بل وأن ينشئ جيشاً جديداً بدلاً منهم. وقد جاء هذا الكلام في أعقاب حديث ابن زيدان عن وصول وفد فاسي بالبيعة إلى مكناس، فقال:

... ثم إنه وصل شرفاء الوفد الذي أتى له بالبيعة بألف دينار ذهباً، كما وصل الطلبة والأعيان مثل ذلك، وأعطى الراتب للرماة، فنال كل فرد منهم سبعة مثاقيل ذهباً، ثم أصدر أوامره برد المظالم، وشدد في اجتناب المحرمات، فكبر ذلك على العبيد، وأبوا أن يردوا ما اغتصبوه للناس من عقار ومال. ولما رأى (مولاي عبد الملك) منهم ذلك صرح لهم بأنهم أحرار

 

(1/1144)

 

 

فليذهبوا حيث شاءوا، وأنه لا حاجة له بخدمتهم، وأعلن النداء في جميع البلاد التي دخلت تحت طاعته بأن من أراد الدخول في الجندية فليأت إليه، فوفد عليه سرعان الناس (1).

وهذا عكس ما قام به مولاي أحمد الذي ما إن بويع حتى زاد (العبيد) في الراتب خمسين ألفاَ(2). وكان، كما يقول القادري: »مساعفاً لهم... وليس له من الملك إلا الاسم بلا مسمى، وهو تابع لأثرهم ورأيهم، لا يقطع أمراً إلا بما

__________

(1) راجع: عبد الرحمن بن زيدان، إتحاف أعلام...، ج 5، صص. 306 ـ 307.

(2) أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 120.

 

(1/1145)

 

 

يأمرونه به... « (1).

... كما كان لمولاي عبد الملك موقف سلبي من جيش الأوداية أيضاً. ويظهر ذلك من خلال حديث القادري عن انتقال هذا السلطان إلى فاس بعد ثورة العبيد عليه في مكناس، حيث قال:

... ... لما دخل المحرم فاتح السنة (1141 هـ)، وكان السلطان مولانا عبد الملك بن مولانا إسماعيل الشريف الحسني دخل مدينة فاس بقصد أن ينصروه، ويقاتلوا من خرج عليه مع من يمكث على بيعته من القبائل، وطمع أن تجتمع عليه قبائل المغرب وسوس، فحاول أخذ المدينة البيضاء، (فاس الجدي المرينية)، ويستوطنها

__________

(1) نشر، ج 3، ص. 317.

 

(1/1146)

 

 

لأنها دار الخلافة، ويخرج منها الأوداية الخارجين عليه، لأنها ليست لهم، وإنما هم فيها إذاية فيها على أهل فاس الإدريسية، فقاتل الأوداية المتحصنين بها بعدما نهب ما هو عندهم خارج عنها من مواش ونحوها في عزائبهم، وأرسلوا صارختهم للعبيد، فجاؤوا مسرعين ومعهم السلطان مولانا أحمد الذهبي (1).

 

... أما الوجه الثاني من سياسة مولاي عبد الملك، فهو مكمل لموقفه السلبي من عسكر مولاي إسماعيل. وتجلى في تعاونه مع أعيان المؤسسات المدنية، وإشراكهم في تسيير الشأن العام، وفي مقدمتهم شيوخ

__________

(1) المصدر نفسه، ج 3، ص. 316.

 

(1/1147)

 

 

الزوايا. وقد باشر في تنفيذ هذه الاستراتيجية مبكراً، وبدأها بمراسلة أولئك الأعيان. نقول هذا الكلام وحجتنا عليه نصوص الأجوبة التي تلقاها السلطان المولى عبد الملك منهم. ومنها، على سبيل المثال، رسالتان جوابيتان بعث بهما اثنان من كبار أرباب الزوايا، زمنئذ: أولهما هو شيخ زاوية تمجروت، أبو عمران موسى بن محمد الكبير بن ناصر، الذي كان آخر من نكب في عهد المولى إسماعيل من أرباب الزوايا(1)

__________

(1) نقصد الحملة التي ترأسها القائد عبد الرحمن مرجينة سنة 1129 هـ/ 1716 م »...على الزاوية الناصرية (في درعة) برسم إخلائها وإجلاء أهلها منها«. وكان شيخها زمنئذ هو موسى بن محمد الكبير، خليفة عمه أحمد الخليفة بن محمد بن ناصر. (راجع: امحمد الخليفتي، الدرة الجليلة في مناقب أحمد الخليفة، دراسة وتحقيق أحمد اعمالك، رسالة جامعية مرقونة، ص. 124).

 

(1/1148)

 

 

؛ وثانيهما هو كبير رجالات التصوف في الصحراء الشرقية، الشيخ محمد بن أبي زيان القندوسي. وقد عبر الشيخ الناصري في جوابه عن الاحترام والتقدير الذي حظي به السلطان الجديد لدى الناصريين، ثم ضمّن الجواب مدحاً في جنابه، مما جاء فيه:

 

قم للهمام أمير المؤمنين أبي مروان

قم فابتدر للأمر وأنت طلعتها

أبشر لما كنت تأمل وتطلبه

لو أدركتك أئمة لنا سلفت

لكنْ حفيدُهمُ يقضي بحكمهمُ

 

ذي المجد والأمجاد والظفر

فالكون صار خديماً سيق بالقدر

من الهنا والمنى في الورد والصدر

لتوجوك بتاج العز والوقر

 

(1/1149)

 

 

فالكل منهم وما يغني عن القدر(1)

 

... أما الشيخ محمد بن أبي زيان القندوسي، فقد رأى في وصول المولى عبد الملك إلى العرش تصديقاً لنبوءته التي كان أشاع فيها بين الناس: »بأن مولانا عبد الملك يتولى الخلافة وراء أبيه... وأنه يدخل دار المملكة من غير قتال ولا نزاع...«(2). ولاشك في أن تلك النبوءة

__________

(1) م. الخليفتي، الدرة الجليلة...، مصدر سابق، صص. 127 ـ 128.

(2) م. مرزاق، الشيخ امحمد بن أبي زيان وزاويته بالقنادسة، رسالة جامعية في التاريخ، مرقونة، 1987 ـ 1988 م، خزانة كلية الآداب، الرباط، صص. 235 ـ 236.

 

(1/1150)

 

 

تعبير صادق عن أن هذا الأمير كان »... محباً للشيخ رضي الله عنه، والشيخ محباً له«، حسب تعبير أحد تلامذة الشيخ نفسه(1).

... ومن ثم، لما تحققت هذه "الأمنية"، باعتلاء مولاي عبد الملك العرش، لم يتردد الشيخ ابن أبي زيان في إجابة دعوة محبه، وحثه لأتباعه على بيعته، ثم رأى أن يكون جوابه على رسالة السلطان الجديد من جنس النصائح. ومن أهم ما أوصاه به: السخاء والعدل، وقال: بعد الحمدلة و»... السلام، ... يا ابن همام عليك بالسخاء فإنه يرد الشدة رخاء والحل

__________

(1) المرجع نفسه، ص, 235 نقلاً عن مخطوط "فتح المنان".

 

(1/1151)

 

 

ربطاً والقبض بسطاً... جنود البخيل مكسورة ومياه ساقيته محصورة، الدنانير المنقوشة تفتح الأبواب المغلوقة... يا ابن همام! قد جعلت في جنودك سوادين يمنعون من يشتكي إليه... فإننا من أهل الدربلة والعكاز، ليس من أهل السراويل والمهماز. والسلام« (1). بل الظاهر أن الشيخ ابن أبي زيان كتب إلى مولاي عبد الملك أكثر من رسالة في هذا المضمار، مصداقاً لقول تلميذه اليعقوبي، صاحب كتاب "فتح المنان":

__________

(1) راجع نص الرسالة كاملة عند: م. مرزاق، الشيخ امحمد...، مرجع سابق، ص. 238. (ونقلها عن مخطوط خاص).

 

(1/1152)

 

 

... وقد كنت زمن مجاورتي، الأيام السعيدة، لقراءة "البخاري"، إذا أراد كتاباً يكتب لمولانا عبد الملك أحضرني، ويأمرني بالكتابة، وأكتب له ويقول لي: يا أخي اكتب لمولانا عبد الملك، واستوص به خيراً للمسلمين والدفاع عنهم، والرأفة عليهم، واستوص بالعلماء، وأهل نسبة الله تعالى، والذود عن المسلمين، والتجاوز عنهم(1).

__________

(1) ... المرجع نفسه، ص. 235. ولسنا ندري إن كان بعث بتلك الرسائل بعد بيعة مولاي عبد الملك سلطاناً أم لما كان خليفة لوالده في درعة أو في سوس.

 

(1/1153)

 

 

... والحقيقة أن أكثر الناس كانوا على رأي الشيخ ابن أبي زيان وغيره من شيوخ الزوايا في تأييدهم لمولاي عبد الملك، بسبب ما عرفوه عنه من حسن السيرة، والسياسة، وكثرة عدله في الأحكام، وشدة تعصبه للدين وأهله(1)

__________

(1) لقد ذكر القادري بأن الناس أحبوا مولاي عبد الملك »... لحزمه وضبطه، وحسن سيرته وسياسته وكثرة عدله في الأحكام، ومحبته للمهادنة بين الناس، وتأمين الطرق، وشجاعته، حسبما شاهدوا ذلك من قبل في حياة أبيه... وأكثرهم فرحاً أهل فاس الإدريسية لأنهم حركوا معه، فكان يحسن لهم، ويواسي ضعفاءهم ويصبرهم على ما ينالونه من الأذى من عمال أبيه، فكانوا يثنون عليه، ويتشيعون له في حياة أبيه وطمعوا بولايته تهدينا للبلاد وتأميناً للعباد«. (نشر، ج 3، ص. 298).

... وظهر صدى ذلك في شهادات كثير من المؤرخين، مغاربة وأجانب. وهكذا كتب أبو محمد عبد السلام القادري في حقه بأنه: »إمام عادل شهم سخي ذو ثبات وأصالة في الرأي« (إتحاف أعلام...، ج 5، ص. 297). ووصفه بعض السفراء الأنجليز بقوله: »لهذا الإمام خلق مخالف تماماً لخلق مولاي أحمد الذهبي مقتنعاً زاهداً لا يشرب إلا الماء، وكان متديناً شديد التمسك بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان من أكثر الجنود بسالة وشجاعة، ولكن من شدة تعصبه للدين أنه كان لا يثير معركة في يوم عيد، ولو كان ذلك ما فيه من الأخطار على المملكة كلها، ويقال إنه تحت ستار الصلاح والتقوى كان جباراً سفاكاً للدماء، وكان أشياعه يرون في ذلك تنفيذاً للعدل الإلاهي«. (إتحاف...، ج 5، ص. 297). أما الناصري، فقد كتب معلقاً على قيام العبيد بعزل مولاي عبد الملك ورد أخيه مولاي أحمد للملك: »لسخائه وبسط يده... «: كذبوا، فإن المولى أبا مروان رحمه الله كان أنسب حالاً بالخلافة من أخيه المولى أحمد لنجدته وحزمه« (الاستقصا، ج 7، ص. 121).

 

(1/1154)

 

 

.

... ولا غرو في ذلك، فإلى جانب الرسائل التي بعث بها إلى شيوخ الزوايا، وزع مولاي عبد الملك ظهائر كثيرة على العائلات المرابطية، وشيوخ الزوايا في شتى نواحي البلاد، بالرغم من فترة حكمه القصيرة، وكأنه قد قام بحملة منظمة في هذا السياق. وقد نص في تلك الظهائر على تقدير واحترام »أهل الله«، وتوقيرهم، وأمر بالإنعام عليهم، رغبة منه، ولاشك، في تمتين صلاته بهذه الفئة من الأعيان(1)

__________

(1) مثل الظهير الذي خص به أولياء رجراجة (عبد الملك السعيدي، السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول، طبعة الصويرة، 1405 هـ، صص. 227 ـ 228) وأمغاريي تمصلوحت (P. Pascon, Le Haouz de Marrakech, CURS, Rabat/ CNRS, Paris/ INAV, Rabat, 1983, T. 1, p. 274) وأولاد غيلان (عبد السلام غيلان، لمحات من تاريخ زاوية أولاد غيلان، مطبعة معمورة، القنيطرة، 1987 م، ص. 99) والشيخ عبد المجيد بن علي المنالي الزبادي (محمد اللبار، »قراءة في وثائق جديدة حول مكانة العلماء في الحياة اليومية: نماذج من عصر الدولة العلوية«، ضمن ندوة: الحركة العلمية في عصر الدولة العلوية، منشورات كلية الآداب بوجدة، 1993، ص. 296؛ والشيخ أحمد بن الطاهر الخطاب ولي زاوية آل الخطاب بزرهون (إتحاف...، مرجع سابق، ج 5، ص. 309)، وأولاد أبي زيد بن القاضي (المصدر نفسه، ج 5، ص. 310) وغيرهم.

 

(1/1155)

 

 

.

... بل الظاهر أنه كان حريصاً على استغلال الفرص الممكنة للتعبير عن موقفه الإيجابي من شيوخ التصوف وأرباب الزوايا، كما فعل في رسالة بعث بها إلى أبي عبد الله محمد المعطي بن الصالح، شيخ الزاوية الشرقاوية في أبي الجعد، يعزيه في وفاة والده، حيث اغتنمها فرصة، وأشار إلى ما يكنه للشيخ الهالك من تقدير، كقوله:

 

لقد كان مصباحاً لأهل زمانه

 

وحامي دمار الدير من كل ما غمط(1)

__________

(1) أحمد بوكاري، الزاوية الشرقاوية/ زاوية أبي الجعد، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1989 م، ج 2، ص. 133.

 

(1/1156)

 

 

... وعلى كل حال، فقد دشن مولاي عبد الملك مرحلة جديدة، تبنى فيها اختيارات تقضي بوضع الأسس الكبرى لدولة »الحق والعدالة« في البلاد. وبينما حارب العسكر النظامي، ومن ناصره، هذا التوجه في سياسة القصر، لقي مساندة مطلقة من لدن »أهل الفضل«، والشرفاء(1)

__________

(1) ندلي بهذا الحكم العام، استناداً إلى ما سبق من مواقف رجال التصوف. كما أن لنا عليه دليلاً آخر هو عبارة عن رسالة مؤرخة في ربيع الثاني 1140 هـ (26 نونبر ـ 5 دجنبر 1727 م) بعث بها الأمير مولاي عبد الملك لأعيان وأهل توات يخبرهم فيها أن شرفاء وصوفية البلاد وجميع المغاربة بايعوه، وأنه ألغى جميع المغارم سوى الزكاة والعشور. (A. G. P. Martin, Quatre siècles d’histoire marocaine, Ed. Felix, Paris, 1923, pp. 87-88).

 

(1/1157)

 

 

، و»العسكر الأحرار«(1)، ومن نحا نحوهم جميعاً.

... وقد تجلى هذا التباين بين أنصار سياسة الماضي، وأنصار الإصلاح، بوضوح لما حاول العبيد خلع مولاي عبد الملك. فقد كان على رأس المدافعين عن هذا الأخير في مكناس »... من كان داخل ديوان العسكر من الأحرار الوافدين عليه«، بينما خانه بعض المقيمين داخل القصر، الأمر الذي عرضه وأنصاره للهزيمة، واضطر إلى مباركة مكناس في اتجاه فاس. وفي حضرة فاس هب سكان المدينة الإدريسية لاستقبال الأمير مولاي عبد الملك،

__________

(1) عبد الرحمن بن زيدان، إتحاف...، مصدر سابق، ج 5، ص. 307.

 

(1/1158)

 

 

لما هرع إليهم، بينما رفض الأوداية السماح له بالدخول إلى أحيائهم في فاس الجديد(1). ولما حاصره العبيد بفاس الإدريسية، كان شيوخ الزوايا وأتباعهم في مقدمة المدافعين عنه، حتى لقد قتل بعضهم مع من قتل من شيعته، ونعني هنا بالخصوص مقدم طائفة امحمد بن أبي زيان القندوسي بفاس، الشيخ أبي الحسن علي القطبي(2)

__________

(1) راجع تفاصيل هذه الأحداث في: المصدر نفسه، ج 5، ص. 307.

(2) فقد كان هذا الشيخ »... يخرج مع مولاي عبد الملك، لما كان محصوراً بفاس، للقتال، وكان ينادي بالصالحين، ويدعو الله عز وجل باللطف لعباده، فأصابته ثقيلة في صدره وتوفي« (راجع: م. مرزاق، الشيخ امحمد...، مرجع سابق، ص. 237. والنص منقول عن مخطوطة خاصة).

 

(1/1159)

 

 

، ونعني كذلك كبار مجاذيب فاس وبهاليلها (1)

__________

(1) ممن قتل في هذا الحصار أيضاً الولي المجذوب المرابط أحمد التونسي (سلوة الأنفاس، ج 3، ص. 309) والوالي البهلول عبد المجيد التركي (المصدر نفسه، ج 3، صص, 305 ـ 309)؛ والولي المجذوب السالك العربي بن عيشون الشراط، وكان وزاني الطريق. وقد ذكر القادري أن هذا الأخير قتل خارج أسوار المدينة وأنه منع من الخروج »...أولاً خوفاً عليه، فقال إن لم تتركوني أخرج لتدخلن على أولادكم العبيد، يشير إلى أنه المتصرف من الله في ردهم عن المدينة وأنه افتداهم برقبته« (م. القادري، نشر، ج 3، ص. 315؛ وراجع أيضاً: م. الكتاني، سلوة الأنفاس، ج 3، ص. 308). وفي الإطار نفسه يذكر أن العبيد جاءهم الأمر ليلة لاقتحام فاس، فبلغ الأمر إلى مولاي الطيب الوزاني بواسطة أحد رجال المخزن الموالين للمولى أحمد ويدعى صالح بن =

= صالح الأوديي، وكان من أصحاب أهل وزان، فسارع مولاي الطيب بإبلاغ الخبر لأهل فاس ليأخذوا حذرهم (م.القادري، نشر، ج 3، ص. 318؛ التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر...، تحقيق هاشم العلوي القاسمي، مطبعة دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1397 هـ، ص. 348).

 

(1/1160)

 

 

.

... ومن مشاهير أرباب الزوايا الذين نشطوا في الدفاع عن ملك مولاي عبد الملك الشيخ مولاي الطيب الوزاني، كبير دار الضمانة في وزان، منذ أن نمى إليه عزم العبيد على خلعه. ومما يذكر في هذا الصدد أن علماء فاس كتبوا في ذلك الشأن كتاباً للعبيد يعلمونهم بما في ذلك من المضرة بالمسلمين، وكلفوا مولاي الطيب الوزاني بإقناعهم لصلاته بهم »... وتلمذ أكثرهم له، وانتساب رؤسائهم بخدمته«، فلم يبينوا له جلية الأمر. ثم أرسله الأمير مولاي عبد الملك نفسه »... إليهم فكلمهم عن الرجوع... ووعدهم الخير إن أقلعوا ونهاهم عن

 

(1/1161)

 

 

الخروج عن السلطان... وخوفهم في ذلك من سخط الله، فما زادهم ذلك إلا نفوراً«(1). وقد أكد الناصري تحركات مولاي الطيب الوزاني، في هذا الاتجاه، ثم ختم حديثه بقوله:

... ولما تحقق المولى أبو مروان (عبد الملك) بما عزم عليه العبيد من خلعه، بعث إليهم الشيخ البركة مولاي الطيب

__________

(1) م. بن الطيب القادري، نشر، ج 3، ص. 302؛ وراجع المصدر نفسه، ج 3، صص. 301 ـ 302؛ الناصري، الاستقصا، ج 7، ص. 121. ويفهم من الكلام السابق أن علماء فاس كان وراء عملية الاتصال بالشيخ الطيب الوزاني، مما يفيد تعاطفهم مع مولاي عبد الملك.

 

(1/1162)

 

 

بن محمد الوزاني، واعظاً ومذكراً، فأتاهم ووعظهم ووعدهم الخير إن أقلعوا، ونهاهم عن الخروج على السلطان، واتباع سبيل السلطان، وخوفهم في ذلك من سخط الله، فما زادهم إلا نفوراً (1).

 

... والظاهر أن تحركات شيوخ الزاوية الوزانية لم تقف عند هذا الحد، وإنما تعدته إلى المشاركة في العمليات العسكرية دفاعاً عن شرعية حكم مولاي عبد الملك، الأمر الذي عرضهم وعرض أتباعهم وزاويتهم للنكبة.

... وبيان ذلك أنه في خضم حصار العبيد والأوداية لمولاي عبد الملك بفاس، ورد:

__________

(1) أحمد الناصري، الاستقصا، ج 7، ص. 121.

 

(1/1163)

 

 

... خبر على العبيد باجتماع قبائل الغرب على دعوة مولاي عبد الملك ومحاربة العبيد، فجردوا لهم خيلاً سارت إليهم فالتقوا قرب وادي إيناون فاقتتلوا، فانهزمت قبائل الغرب (...) وشدد العبيد حيئنذ في التضييق والحصار على فاس، وكثرة رمي الكور عليها بالأنفاض (...) فتجلد أهل فاس (...) وضبطوا العسة والحراسة (...)، وأهل المسكنة لا يستطيعون دفعاً ولا منعاً سوى توجههم لله تعالى في اللطف والنجاة. ثم إن قبائل الغرب أعادت الجمع... .

 

(1/1164)

 

 

لكنه انهزمت ثانية أمام العبيد، وتفرقوا«(1).

 

... (...) ولم يتبع العبيد إلا سفيان لكثرة حقدهم عليهم، حتى أدركوا حلتهم بالزيتون المطروح، فأوقعوا بهم وقعة عظيمة من القتل والسبي والوثوب على النساء والأبكار بالوطء والفضيحة، ولم يكفوا السلاح لا عن الأطفال ولا عن الكلاب. فلجؤوا لحرم وزان ظناً منهم أن يتركوهم حيث استحرموا به ويمتنعون، فلم يستحرموه ولم ينفعهم شيئاً، واستأصلوا بقيتهم، ونهبوا ديارهم وديار الشرفاء

__________

(1) محمد القادري، التقاط...، مصدر سابق، صص. 346 ـ 348؛ وراجع: نشر...، ج 3، صص. 317 ـ 318.

 

(1/1165)

 

 

أهل الحرم، ولم يجيروا من استجار بالروضات وغيرها. وكانت هذه الوقعة بوزان على الناس من أعظم المصائب،

وذلك في 25 صفر 1141 هـ(1).

 

... والمهم في الأمر أن العبيد والأوداية لم يكونوا راضين عن إصلاحات مولاي عبد الملك وأنصاره، فسارعوا إلى إجهاضها(2). وقد وجدوا في مكناس من يؤازرهم من أنصار التيار المحافظ في

__________

(1) نشر، ج 3، ص. 318.

(2) ... وقد كتب ابن زيدان في هذا الصدد: »لما تحقق عبيد مشرع الرملة بذلك، خافوا سطوته لما يعلمونه من شهامته فأجمعوا أمرهم«، ونهضوا لحربه (إتحاف...، مصدر سابق، ج 5، ص. 307).

 

(1/1166)

 

 

إدارة وقصر السلطان مولاي إسماعيل(1)

__________

(1) ... وقد شخص ابن زيدان هذه المؤازرة، كالتالي: »لم يشعر المترجم حتى دهمه العبيد، وكانوا سبعين ألف مقاتل، فجمع أتباعه، ومن كان داخل ديوان العسكر من الأحرار الوافدين عليه، وخرج لقتالهم بظاهر العاصمة المكناسية، وأمر بغلق جميع أبواب المدينة، ومع قلة جيشه إذ كان لم يبلغ عشرة آلاف مقاتل ووفور جيش العبيد فقد قاتلهم قتالاً لم يعهد له مثيل بالبلاد المغربية يقال إنه مات في هذه الواقعة ما يزيد على ثلاثين ألفاً، وكانت النصرة لمولاي عبد الملك على العبيد، ولكن ـ بكل أسى وأسف ـ أن بعض زوجات والده أمرت بفتح أبواب البلد فامتثل أمرها. ولما فتحت الأبواب، دخل العبيد القصبة المولوية وعمروها ولا علم للمترجم بذلك. ولما اتصل به الخبر، فر إلى فاس«. (إتحاف، مصدر سابق، ج 5، ص. 307).

 

(1/1167)

 

 

، كما وجدوا من يعاضدهم من أنصار التيار نفسه في فاس الجديد ودار الخلافة به(1)، مما يعني أن التيار المحافظ كان ما يزال مالكاً لزمام الأمور، حتى إن كثيراً من الناس كانوا يرون في مساندة تيار الإصلاح مغامرة خطيرة. ويظهر ذلك في اضطرار متطوعة سوس إلى الانسحاب من الصراع(2)

__________

(1) تمثل ذلك في إغلاق جيش الودايا الذين بفاس الجديد أبواب البلد في وجه مولاي عبد الملك، ثم اختلاف أهل فاس الإدريسية في نصرته، لما توجه إليهم. (إتحاف...، مصدر سابق، ج 5، ص. 307).

(2) لقد أشار القادري في خضم روايته لأحداث الصراع سنة 1141 هـ، إلى هذا المعنى، فقال: »أرسل الأوداية (من فاس) صارختهم للعبيد، فجاءوا مسرعين، ومعهم السلطان مولانا أحمد الذهبي ابن إسماعيل... وهم لا يشكون في دخولهم فاس، وعبثهم بأهلها، كما فعوا بمكناسة. ففر أهل سوس الذين جاءوا مع مولاي عبد الملك من سوس، إذ علموا أن لا طاقة لهم بالعبيد الذين جاءوا بمولاي أحمد، فأدرك العبيد البعض من أهل سوس على وادي سبو، فنهبوا لهم كثيراً من أموالهم وبعض العيال... «. (نشر، مصدر سابق، ج 3، ص. 316).

 

(1/1168)

 

 

، ثم اضطرار بعض علماء فاس وأهلها، بعد أن »انقطع من يقوم بدعوة مولانا عبد الملك« إلى التفاوض مع العبيد، أملاً في الحفاظ على حياة أميرهم مولاي عبد الملك(1)

__________

(1) حدث، في خضم النزاع، اختلاف في وجهات نظر علماء فاس. فبعضهم رأى أنه لا يحل الخروج عن طاعة مولاي عبد الملك، وفي مقدمتهم الشيخ محمد ميارة الصغير، والإمام أبو محمد عبد السلام بناني، والمحرر محمد بن زكري. بينما خالفهم أحمد بن مبارك اللمطي قائلاً بوجوب إخراجه بحجة عدم قدرتهم على مقاومة أخيه. وعلى هذا الرأي اجتمعت في الأخير كلمة أهل فاس (راجع سليمان الحوات، الروضة، مصدر سابق، صص. 231 ـ 232).هكذا يجب أن يفهم موقف الفقيه اللمطي ومن نحا نحوه وليس بكونه موالياً للمولى أحمد، كما اعتقد البعض. (التقاط...، مصدر سابق، ج 2، ص. 393؛ وراجع أيضاً: محمد القادري، نشر، مصدر سابق، ج 3، ص. 320؛ التقاط...، مصدر سابق، ص. 349).

 

(1/1169)

 

 

.

... ويؤكد هذا كله أن القوة العسكرية النظامية(1)

__________

(1) ولا يعني هذا أن المولى أحمد لم يجد بين الصوفية من ينصره، لكن من نصره منهم كانت مصلحته في ذلك ذاتية. إذ المشهور أن المولى أحمد وجد بعد بيعة منافسه الملجأ في زاوية سعيد أحنصال من أيت عطا، وأنه ظل بها لاجئاً إلى أن أعاد العبيد بيعته يوم عيد الأضحى سنة 1140 هـ؛ بل ذهب القادري إلى القول بأن يوسف بن سعيد أحنصال، شيخ الزاوية الحنصالية، زمنئذ، صحبه القدوم إلى مكناس، على رأس قوات هامة من بربر أيت عطا. (راجع: محمد القادري، نشر، مصدر سابق، ج 3، صص. 301 ـ 302، المؤلف نفسه، التقاط...، مصدر سابق، ص. 346؛ Magali Morsy, « Réflexions sur le discours historique à travers l’examen d’un document sur le Maroc au milieu du XVIII siècle », Revue de l’Occident musulman et de la Méditerranée, N° 20, 2ème semestre, 1975, p. 69).

... ... ... ... ... ... ... ... ... =

= ... ونقصد بالمصلحة الذاتية هنا تورط شيخ الزاوية الحنصالية مع أتباعه من قبائل البربر، الذين كانوا يبحثون، من خلال تأييدهم للمولى أحمد، عن الانتقال إلى السهول. وفي هذا الصدد، نشير إلى أن الناصري لمح إلى أمر هام، اعتبره من أسباب فشل حركته، وهو التفريق بين البربر والعبيد، وبين أهل فاس والبربر، وتأليب بعضهم على بعض.( الا ستقصا، مصدر سابق، ج 7، ص. 120). وهذا الأمر إن صح، فهو خطأ استراتيجي. إنما الأكيد أن صلة مولاي أحمد بالعبيد كانت أكثر وضوحاً، من صلة أخيه، وأن تقديم القبائل البربرية والعربية على العبيد عند مولاي عبد الملك كانت أكثر وضوحاً.

 

(1/1170)

 

 

ظلت تمسك بزمام الأمور بقوة، إن لم نقل إن دورها في تغليب كفة السلطان مولاي أحمد زاد من تدعيم نفوذها على حساب الجهاز الإداري(1)، مما جعل الإدارة في عهده عسكرية أكثر مما كان عليه الحال زمن والده، وجعل التوازن الذي طالما حرص مولاي إسماعيل على تثبيته بين كفتي الجهاز البيروقراطي والجهاز العسكري، يميل لصالح هذا الأخير. وقد ظهر طغيان السلوك العسكري في الصورة

__________

(1) يذكر أن المولى أحمد أهلك رجال الدولة القائمين بأمورها أيام والده، »وكان ذلك منتهى مراد العبيد... « (راجع: الاستقصا، مصدر سابق، ج 7، ص. 117).

 

(1/1171)

 

 

العنيفة التي تخلص بها العبيد من مولاي عبد الملك، وكأنهم يقتلون فيه كل تفكير، وكل من يفكر في التغيير.

... ولهول الموقف وشدة الجبروت، لجأ أنصار مولاي عبد الملك، من عامة الناس وأهل الدين المتين، إلى المتخيل، تخفيفاً منهم على أنفسهم من هول الصدمة، وضياع ناصر الحق. وهكذا، ليس غريباً إذا »... صرح بعض المتفقرة ممن له صيت وأتباع بأنه حي، وأنه يعود للإمارة(1)، ويملك المغرب ويملأه عدلاً«(2). وليس

__________

(1) محمد القادري، التقاط الدرر...، مصدر سابق، ص. 350.

(2) محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 4، ص. 212.

 

(1/1172)

 

 

غريباً إذا »بقي كثير من الناس من يكذب بموته، وقوم يعتقدون حياته، وأنه سيجتمع عليه جيش ويظهر، وربما باع بعضهم متاعه إلى أجل ظهوره ويخلصه المشتري فيه أجلاً منصرماً«(1). وليس غريباً أيضاً أن يناصروا من حذا حذوه من الأمراء.

 

II ـ تجربة مولاي عبد الله الإصلاحية

... لما كان »المولى عبد الملك منحاشاً إلى أخيه المولى عبد الملك« (2)، لقي تعيينه ـ على إثر هلاك أخويه: مولاي أحمد ومولاي عبد الملك في أوائل شهر شعبان 1141

__________

(1) المصدر نفسه، ج 3، ص. 321.

(2) أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 125.

 

(1/1173)

 

 

هـ/ 1728 م ـ الترحيب من لدن أنصار مولاي عبد الملك. ولعلنا نجد في ديباجة نص البيعة التي رفعها إليه »أهل فاس« تفسيراً لذلك الترحيب، لأن أهم ما نصت عليه هو شهرة الأمير الجديد بنصرة الحق والعدل(1)

__________

(1) ومما جاء في الديباجة: »الحمد لله الذي جعل العدل صلاحاً للملك والرعية والعباد، كما جعل الجور هلاكاً للحرث والماشية والبلاد، وسدد العادل بعنايته وأعد للجائز ما هو معلوم له يوم المعاد وجعل المقسطين على منابر من نور يوم القيامة كما جعل القاسطين في العذاب والحسرات والأنكاد، فأسعد الملوك يوم القيامة من سلك مع الرعية سبيل السداد وأصلح ما أظهره الجائر من الفساد، نحمده أن تفضل علينا بإمام عادل ونشكره أن حكم فينا من لا يصغي في الحق لقول عادل... « (راجع نص البيعة كاملاً عند: الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، صص. 126 ـ 128).

 

(1/1174)

 

 

.

... وقد جاءت هذه الديباجة شبيهة، من حيث مضمونها، بالرسائل التي بعث بها الشيخ محمد بن بوزيان القندوسي، إلى مولاي عبد الله(1)، علماً أن هذا الولي الصوفي كان من الأنصار الأقوياء لمولاي عبد الملك. وإننا نملك من تلك الرسائل نموذجاً هاماً هو عبارة عن رسالة بعث بها لقائد فاس زمنئذ محمد بن علي بن يشي(2)

__________

(1) محمد مرزاق، الشيخ امحمد...، مصدر سابق، صص. 244 ـ 245.

(2) وصف هذا القائد في الإتحاف بأنه: »كان حسن الأخلاق يوقر الأشراف والعلماء وأبناء الصالحين... إلا أنه كان فظاً غليظاً على التجار لا يقبل منهم عذراً«. (ابن زيدان، ج 4، ص. 403). وهذا القائد هو الذي جدد ضريح الشيخ المجذوب امبارك اعبابو المتوفى عام 1025 هـ/ 1616 م. (سلوة الأنفاس...، مصدر سابق، ج 3، ص. 113).

 

(1/1175)

 

 

جاء فيها:

... إنا لك من الناصحين. فاستوص خيراً بالخاصة والعامة من المسلمين، وسدد ما بينهم وبين السلطان نصره الله، واحفظ لواء العدل بين يديه، والتمس بالناس من المعاذير، واضرب التأويل في بساطه، فإن جنح للسلم فاجنح إليه؛ وإن مال إلى الانتقام، فابسط أكف الضراعة إلى الله أن يرد مأمنه برحمة ينشر لواءها بين أيديهم حتى يؤدي مراده برفق حسبما تقدم بواسطتكم؛ وإن صلحت نيتكم، فدعوة النبي السابقة تحيطكم وتصونكم وتنصركم وتقيكم، وينشر لواء العافية والستر. نسأل الله سباحانه أن يصلح حالك، ويسدد قولك وفعلك،

 

(1/1176)

 

 

ويجعل بينك وبين الفتنة المعروضة لمن يتعاطى تلك الخطط حجاباً مستوراً، ويمد عليه وعلى إخوانك وقبيلتك من رحمته لواء منشوراً في إيالة المظفر بالله السلطان مولاي عبد الله أعزه الله وأعز جنوده ونصره وأيده وأكبت عدوه وحسوده، وأدام خيراته على الأنام في ظل عدله وأنالهم من فضله ومدده وبذله بمنه. آمين...(1).

 

... ويذكر عن ابن أبي زيان هذا أنه أرسل ابنه من القنادسة إلى مكناس، فتلقاه السلطان مولاي عبد الله بالبشاشة والحبور.

__________

(1) راجع نصها الكامل عند: الشيخ امحمد بن أبي زيان مرزاق، مصدر سابق، صص. 309 ـ 311.

 

(1/1177)

 

 

»... ولما أراد أن يشيعه، أعطاه حتى أرضاه من الحوائج والكتب، وأعطاه مائتي مثقال ذهباً، وبعث كتابه إلى الشيخ، وطلب عليه كل ما في خاطره، فدعا له الشيخ«(1).

... ومن ثم، فبالرغم مما اشتهر به مولاي عبد الله من شدة في إخماد الفتن، وإسرافه في قتل زعماء العبيد والأوداية(2)، »... كان أهل الجانب العظيم كالأشراف والمرابطين والعلماء في أقوى منعة وأعز رفعة، ولم يخرق على أحد في ذلك عادة«(3)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 244.

(2) أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 132 ـ 136.

(3) محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 3، ص. 335؛ التقاط...، مصدر سابق، ص. 354.

 

(1/1178)

 

 

طيلة مدة ولايته الأولى بين 1141 و 1147 هـ اكتساحهم سهول تادلا(1)

__________

(1) هذا، والجدير بالإشارة في موضوع أيت عطا والحنصاليين أن مواجهتهم مع السلطان المولى عبد الله جاءت في أعقاب غزوته لأيت يمور في وادي العبيد لإرغامهم على التزام مواقعهم في الجبال، مما يعني أن الأمر يتعلق بقضية انزياح القبائل نحو السهول، أي أن الاصطدام مع الحنصاليين جاء في أعقاب قيادتهم لأتباعهم في زحفهم نحو سهول تادلا، وضغوطهم على القبائل الفاصلة بين مضاربهم وتلك البسائط. وهذا أمر تؤكده المصادر، ولا سيما مصادر الطائفة الناصرية التي تأثرت زواياها الواقعة في دير تادلا من زحف العطاويين، بتغريمهم لها، كزاوية أيت خليفت وأيت وزود وويزغت. (الدرة الجليلة، مصدر سابق، ص. 268؛ مقدمة الدرة الجليلة، ص. 21). بل يخيل إلينا أن إيواء الحنصاليين ونصرتهم للمولى أحمد في حربه مع أخيه المولى عبد الملك تدخل في هذا السياق أيضاً، وأن تحرك أيت عطا قد تم فعلاً لما كان الأمير المذكور لاجئاً بالزاوية الحنصالية، خصوصاً وأن تحرك أيت عطا يؤرخ لبدايته بعام 1699 م. (م. الخليفتي، الدرة الجليلة...، مصدر سابق، ص. 268؛ عبد الله حمودي، » الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والقداسة...«، ضمن كتاب: الأنثربولوجيا والتاريخ، ترجمة عبد الواحد الفلق وعبد الأحد السبتي، توبقال، البيضاء، 1981 م، صص. 75 ـ 85). =

... ... ... ... ...

= ... غير أن بعض الباحثين دفعوا في تفسيرهم للتحالف الحنصالي العطاوي إلى أبعد من مجرد إيجاد منتجع في السهل والخروج من سهوب الأطلس التي ظلوا بها محاصرين طيلة العهد الإسماعيلي، فاعتبره بعضهم ثورة شعبية، ومغامرة سياسية (M. Morsy, La Zaouia d’Ahançal..., op.cit., pp. 14-15, 20-23)، وافترض بعضهم الآخر وجود هاجس السيطرة على الحكم (م. ظريف، مؤسسة السلطان...، مصدر سابق، ص. 94) وإحياء المشروع السياسي الدلائي في الأطلس (M. Morsy, op. cit., p. 32 et suiv؛ G. Drague, Esquisse..., p. 210؛ عبد الله حمودي، الانقسامية...، مصدر سابق، صص. 80 ـ 82).

... لكن يبدو أن هذا الرأي فيه كثير من المجازفة لأسباب عدة، أولها عدم وجود وحدة في الجبهة البربرية. ويؤكد ذلك مشاركة أيت عتاب، وتحالف أيت إدراسن، مع السلطان المولى عبد الله كغيرها من القبائل التي تعرضت للضغط العطاوي في مواجهة الزاحفين نحو السهل (راجع مثلاً: م. الخليفتي، الدرة...، مصدر سابق، ص. 268؛ M. Morsy, La Zaouia..., op. cit., pp. 10-11؛ ع. حمودي، الانقسامية...، مصدر سابق، ص. 85)؛ كما أن الحضور المخزني كان لا يزال قائماً، ليس في فشتالة وحسب، بل من خلال الحزام البشري المرتبط بالقصبات الإسماعيلية والأرض التي انشروا فيها (أيت الربع)، الأمر الذي استنزف قوات الحنصاليين في الجبل قبل النزول إلى السهل. فالمخزن لم يكن سنة 1144 هـ/ 1731 م، قد فقد كل مقوماته، بل كان لا يزال للعبيد السطوة أمام السلاطين أنفسهم.

 

(1/1179)

 

 

، وهو أمر لم يوافق الشيخ أحنصال عليه الصلحاء أنفسهم(1). وفي الصدد نفسه، »حكي أن السلطان قال حين قتله: أردت أن لا أقتلك، يعني لأنه كان منتسباً للصلاح، لكن خفت أدع قتلك أن يقال إن جنونك غلبوني، لأن أحنصال كان يخالطه الحدثان« (2). وقد علق القادري في نهاية حديثه عن أحداث السنة التي قتل فيها أحنصال وانتهائه من رواية حكاية إعدامه

__________

(1) ح. المعداني، الروض اليانع الفائح في مناقب الشيخ أبي عبد الله محمد المدعو الصالح، م. خ. ع، الرباط، رقم 1835 ك، ص. 149.

(2) محمد القادري، التقاط...، مصدر سابق، ص. 358.

 

(1/1180)

 

 

قائلاً: وفيها »تمهد الغرب للسلطان غاية«(1)

__________

(1) المصدر نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الباحثين ذهب إلى القول إن مولاي الطيب الوزاني وقف ضد بيعة المولى عبد الله في أول الأمر، وربط صلة وثيقة بثورة باشا طنجة. أحمد الريفي، ضد هذا السلطان. ومن أجل ذلك، جاء مولاي الطيب إلى طنجة. فكانت فرصة لتأسيس فرع بها لزاويته. (ع. الرحموني عجولو، الزاوية الدرقاوية بطنجة، رسالة جامعية في الدراسات الإسلامية، 1412 هـ، مرقونة بخزانة كلية الآداب بالرباط، ص. 381)؛ إنما الأكيد أن الباشا أحمد الريفي نفسه، ووراءه أهل الريف بشرقه وغربه، بايع المولى عبد الله في أول الأمر، وهو الذي أخضع المناطق الشمالية عام 1143 هـ/ 1731 م، وجعلها تحت طاعة هذا السلطان، ولم تحدث النفرة بينهما إلا عام 1144 هـ أو 1145 هـ/ 1732 م، عندما نكب السلطان وفداً من أصحاب الباشا المذكور. ومن ثم، سيعلن هذا الخير استقلاله بنفسه في بلاد غمارة وطنجة والقصر والفحص وبلاد الريف وما لها إلى حدود كرسيف. (راجع: الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 134؛ عبد الرحمن الطيبي، المجتمع في منطقة الريف، رسالة جامعية في التاريخ، مرقونة بخزانة كلية الآداب بالرباط، صص. 98 ـ 100، 388).

 

(1/1181)

 

 

.

... ويفهم من أخبار أخرى أن مولاي عبد الله ظل ملتزماً باحترام الشرفاء والطلبة وشيوخ الزوايا، مقدماً إياهم على غيرهم، حتى صاروا يعرفون بشيعته. كما أنه ظل دائماً ميالاً إلى التقليل من هيمنة العبيد، إلى حد قال المؤرخون بأن ثورة العبيد على مولاي عبد الله في ربيع الثاني 1147 هـ ترجع إلى ما قام به من اغتيالات في صفوفهم وإرسالهم إلى المهالك(1). ويفيد هذا في القول بأن مولاي عبد الله تابع سياسة أخيه مولاي عبد الملك في تفضيل قوى

__________

(1) راجع عن هذه المعطيات: محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 3، ص. 370.

 

(1/1182)

 

 

»المجتمع المدني«، على العسكر في تسيير الشأن العام. ويفسر هذا الأمر المساندة التي كان يلقاها من طرف القبائل، كلما اضطر المخزن إلى إعادة بيعته، كما حصل في بيعته الثانية خلفاً لأخيه مولاي علي، والثالثة خلفاً لأخيه مولاي محمد بن عربية.

... وقد عبر محمد بن الطيب القادري عن ذلك في مناسبتين، الأولى بمناسبة حديثه عن بيعة مولاي عبد الله الثانية، في أعقاب إطاحة العبيد والأوداية بمولاي علي سنة 1148 هـ/ 1735 م، فقال بأن المغرب انقسم إلى فرقتين: »... فرقة فرحت غاية الفرح... «، لأن الأحكام لم تمض »... لمولاي

 

(1/1183)

 

 

علي دون أمر العبيد... وهذه الفرقة هي الشرفاء والمرابطون والطلبة والفقراء الضعفاء الذين لم تلزمهم وظيفة المغارم«(1). أما المناسبة الثانية التي عبر فيها القادري عن فرح المرابطين، وأمثالهم، بعودة مولاي عبد الله للحكم، فكانت بمناسبة حديثه عن الإطاحة بحكم مولاي محمد بن عربية(2).

__________

(1) المصدر نفسه، ج 3، صص. 379 ـ 380. وراجع عن تعسف مولاي علي، والعبيد في أيامه، على الشرفاء، ورفضه شفاعة الأولياء، في المصدر نفسه، صص. 370 ـ 373.

(2) المصدر نفسه، ج 4، ص. 15.

 

(1/1184)

 

 

... ويرتبط فرح فئات »المجتمع المدني« بما نالها من الأميرين المطاح بهما من نكبات، حتى قالوا عن مولاي علي بأنه أخرج مقدم الوزانيين، الشيخ عبد الرحمن بن الحسن اليازغي من قبره ودفنه خارج المدينة محتجاً بأن الدفن بين دور السكنى، والبناء على القبور بدعة، وكان دفن بحومة جناح الأمان قرب الزاوية الوزانية(1)، وقالوا بأنه أجلى الشيخ المعطي بن الصالح من زاويته في أبي الجعد(2). ولذلك كان طبيعياً أن يقابله الصوفية

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 242.

(2) أ. بوكاري، الزاوية الشرقاوية...، مصدر سابق، ج 2، ص. 144.

 

(1/1185)

 

 

بالكراهية، كما تشير إلى ذلك رواية طريفة كتبها الضعيف بمناسبة حديثه عن يوم خروج أهل فاس للقاء مولاي علي بعد بيعته سنة 1147 هـ، يقول فيها:

 

... ... فكان ذلك اليوم الولي الصالح سيدي بودفنا [أو بوفدنا] نفع الله به حاضراَ فلما سمع أهل فاس يقولون: الله ينصر مولاي علي بن مولانا إسماعيل، جعل يبرح فيهم ويقول: الله ينصر اخناثا بنت بكار ويكررها، ثم يقول: الله ينصر عبد الله بن إسماعيل ويكررها... وأهل فاس تسمع والسلطان مولاي علي يسمع، ولا وجد أحد له سبيلا... (1).

__________

(1) تاريخ الضعيف، ج 1، ص. 209.

 

(1/1186)

 

 

... وكان الأمير مولاي محمد بن عربية أكثر قسوة من أخيه مولاي علي، على أنصار أخيهما مولاي عبد الله. نقول هذا الكلام ولنا عليه حجج، منها قول القادري بأنه أنزل بمرابطي فاس »... من الظلم والجور وضروب الإهانة التي لم تجر عليهم أصلاً، لا من إخوانه، ولا من أبيه... وكذلك غالب أشراف المغرب وفقهائهم وزواياهم«(1). وكتب الضعيف، من جهته، أن السلطان مولاي محمد بن

__________

(1) نشر...، مصدر سابق، ج 4، ص. 15؛ راجع أيضاً: س. الحوات، الروضة...، مصدر سابق، ص. 671؛ ع. المراكشي، الإعلام...، مصدر سابق، ج 7، صص. 258 ـ 259.

 

(1/1187)

 

 

عربية »قبض... على كثير من الناس، وفرض عليهم الأموال الثقيلة، ونهب ديارهم وأموالهم...، ونكب الشرفاء والعلماء والمرابطين والزوايا، وغيرهم من أهل النسبة، وألزمهم بإغرام الأموال« (1). ولما عدد الضعيف وزراء هذا السلطان، علق قائلاً: »... وهم الذين كانوا يهتكون الحرمات، ومسلطون على أهل الزوايا، فكان ذلك دأبهم أيام تلك المدة«(2)، على نحو ما فعل أخوه وعامله على تافيلالت المولى سليمان، الذي كتب عنه صاحب النشر قائلاً: »وأخبر عنه من يثق

__________

(1) تاريخ الضعيف، مصدر سابق، ج 1، ص. 216.

(2) المصدر نفسه، ص. 224.

 

(1/1188)

 

 

به من أهل تازا أنه كان قد كسر الحرمات على الزوايا من أهل الجانب الرباني، وأخذهم، ونهب أموالهم، وقتل ...، وكان أظلم من أخيه« مولاي محمد بن عربية(1). وكتب الناصري، من جهته، ما يشبه ذلك، وقال إن هذا السلطان »تسلط على أهل الزوايا، وكل من ذكر له أنه من أهل اليسار« (2). ثم علق قائلاً: »وبالجملة، فقد كانت أيام المولى محمد بن عربية هذا أيام نحس ووبال على المسلمين، وكذا أيام أخيه المولى علي«(3)

__________

(1) محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 3، ص. 407.

(2) الاستقصا...، مرجع سابق، ج 7، ص. 145.

(3) المصدر نفسه.

 

(1/1189)

 

 

.

... ولا يعني الناصري بذلك تعدد الأحزاب والطوائف وتقاتل أنصارها(1)، وحسب، بل يشير إلى ما حل بالبلاد من يبس، ومجاعة، وطواعين مهلكة، بلغت حدتها في موسم 1149 هـ/ 1150 هـ(2)

__________

(1) راجع عن تلك الأحزاب: محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 3، صص. 405 ـ 408؛ أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، صص. 151 ـ 154.

(2) سبق للناصري أن لخصها في حديثه عن سنة 1149 هـ/ 1736 م، حيث يقول: »وفي هذه السنة... قويت الفتن وارتفعت الأسعار وانحبست الأمطار وقاسى الناس الشدائد من الغلاء وقل الإدام وانقطع اللحم وهلكت رقاب كثيرة، ولم يزل الأمر في شدة وفر الناس كل فرار«. (الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 140), ولما تكلم عن السنة الموالية (1150 هـ)، قال: »وفي هذه السنة هزم جيش الثائرين على مولاي عبد الله يعني العبيد هزيمة عظيمة بعد أن صدر منهم فساد كبير، وذلك على يد البربر، وارتفعت الأسعار جداً وجعل اللصوص يهجمون على الناس في دورهم ليلاً ويقتلونهم وهم يستغيثون فلا يغاثون وبلغ الخوف إلى أبواب الدور المتطرفة بفاس... وكثر الهدم في الدُّور لأخذ خشبها وكثر الخراب وخلت الحارات، فتجد الدرب مشتملاً على عشرين داراً وأكثر وكلها خالية«. (المصدر نفسه، ج 7، ص. 146). ومعلوم أيضاً أن عام 1150 هـ يوافق ما يسمى في المصادر بعام »المجاعة الكبرى« (راجع مثلاً: العباس المراكشي، الإعلام...، مصدر سابق، ج 6، ص. 62). ولم تنفك الأوضاع تزداد تعقيداً، خصوصاً بعد أن حل الوباء بالبلاد سنة 1163 هـ/ 1749 م (المصدر نفسه، ص. 61).

 

(1/1190)

 

 

، ثم في عام 1163 هـ/ 1749 م(1).

... وكان أهم ما ميز هذه الفترة أيضاً تضرر قوة العسكر الإسماعيلي من كثرة المواجهات(2)، وحدوث الانشقاق في صفوفهم(3)

__________

(1) العباس المراكشي، الإعلام...، مصدر سابق، ج 6، ص. 61.

(2) كما حدث عام 1150 هـ، استناداً إلى قول الناصري، في حديثه عن وقائع هذه السنة: »وفي هذه السنة هزم جيش الثائرين على مولاي عبد الله يعني العبيد هزيمة عظيمة بعد أن صدر منهم فساد كبير، وذلك على يد البربر«. (أحمد الناصري، الاستقصا...، مصدر سابق، ج 7، ص. 146).

(3) راجع: محمد القادري، نشر...، مصدر سابق، ج 3، صص. 393 ـ 394.

 

(1/1191)

 

 

، وكذا تضرر الزوايا وغيرها من المؤسسات التي ناصرت تيار الإصلاح(1)

__________

(1) المصدر نفسه، ج 4، صص. 240 ـ 244 ـ 251 ـ 262؛ س. الحوات، الروضة...، مصدر سابق، ص. 511؛ الضعيف، تاريخ...، مصدر سابق، ج 1، صص. 246 ـ 254 ــ 284 ـ 285. ومما يذكر في هذا الصدد أن الباشا أحمد الريفي، في حربه لمولاي عبد الله عام 1156 هـ/ 1743 م، وفي طريقه إلى فاس، قضى حوالي شهر من الزمن بوزان محاصراً بالأمطار »... فكانت شرفاء وزان يدفعون له الطعام والعلف والشمع والغنم وغير ذلك... وكان في يوم الصحو يركب لصيد الخنزير، وتأتيه اجبالة باللقاق والرماة والسلاق إلى أن عزم على النهوض من مصمودة، فارتحل، ونهض معه مولاي الطيب ذلك اليوم، ونزل الخميس [ـعوفـ] وفيه بات، وبات معه مولاي الطيب. وفي الغد لما أراد القيام أتوا له بفرسه ليركب عليه، فلما أراد أن يركب قبض له الركاب مولانا الطيب إلى أن ركب«. (تاريخ الضعيف، مصدر سابق، ج 1، ص. 253). فهل كان مولاي الطيب مخلصاً في موقفه، أم خشية جبروت الباشا الريفي؟

... نسجل في هذا الصدد أن هذا الشيخ رفض أن يشهد لأحمد بن علي الريفي بأنه شريف، عكس »العلماء من أهل تطوان والفقهاء ومن القصر والعرائش وطنجة وشفشاون... فاغتاظ من ذلك، وبعث لأهل الريف على أن يغيروا على عزبان الشرفاء (الوزانيين) وضيق بهم وبأصحابهم، وكان ينزع لهم الخيل كرهاً وتمادى عليهم وصار يقبض من أصحابهم الخراج«. (تاريخ الضعيف، مصدر سابق، ج 1، ص. 251).

 

(1/1192)

 

 

، ولا سيما في المناطق التي تمركز حولها الصراع العسكري، وخصوصاً في مكناس وفاس وما والاهما. كما وقعت بينهم وبين مولاي عبد الله، بسبب اختلاف المواقف، أحياناً، بعض الخلافات التي كان يستغلها خصوم هذا الأمير(1)

__________

(1) مما نمثل به في هذا الصدد عن الحاجة إلى الأولياء في هذه الفترة، الدور الذي قام به مولاي الطيب الوزاني. فقد كان هذا الأخير مناصراً للأخوين المولى عبد الملك ثم المولى عبد الله، على غرار أمثاله من شيوخ الزوايا. لكنه تحول إلى نصرة المولى المستضيء، وحليفه الباشا أحمد بن علي الريفي. ومرد هذا التحول إلى سيادة قوات الباشا الريفي في منطقة وزان. لكن لما انهزم الحليفان وظهرت قوات المولى عبد الله بقبيلة بني مزكلدة غير بعيد عن وزان، لم يتردد مولاي الطيب في اللحاق به لتقديم الاعتذار. (تاريخ الضعيف...، مصدر سابق، ج 1، صص. 253 ـ 254؛ تاريخ تطوان، مصدر سابق، م 2، قسم 2، صص. 218 ـ 221 ـ 231؛ G. Drague, Esquiss, op. cit., p. 230).

... والأكيد أن مولاي الطيب كان يعلم أن المولى عبد الله في أمس الحاجة لمساعدة الزوايا الوزانية. وصدقت فراسته، حيث سارع المولى عبد الله، بعد اعتذار شيخ زاوية وزان، وبعث »قائده الباشا بوسلهام الغرباوي الحمادي ومعه سبعة من الثيران وذبحها على سادات وزان وصار يعظمهم ويحترمهم«. (المصدر نفسه، ص. 224).

... كما وقفنا على مجموعة من الظهائر التي خص بها المولى عبد الله أرباب الزوايا في عصره، والتي تفيد التقدير والاحترام والإنعام، كما فعل مع الشيخ عبد الله بن محمد بن إبراهيم التملي التاسكدلتي وإخوانه، أهل زاويته بتسكدلت في السوس بتاريخ 10 رجب 1150 هـ (نصه في المعسول، ج 6، ص. 164) وآل عبد الله بن سعيد السملالي التهالي، دفين وادي إيمور بالسوس أيضاً (المصدر نفسه، ج 1، صص. 112 ـ 113) والشيخ محمد بن أحمد التاكشوتي، نزيل تاكوش بأيت صواب في =

= ... السوس كذلك، بتاريخ 1154 (المصدر نفسه، ج 8، ص. 75) وأولاد محمد بوسنة ببلاد أحمر (راجع نص الظهير، وهو مؤرخ بعام 1156 هـ، عند محمد ماكامان، مادة» بوسنة«، معلمة المغرب، مجلد 5، ص. 1723)، وآل أمغار في تامصلوحت وحوز مراكش بمقتضى ظهير يعفيهم من الكلف، ويبيح لهم ولأتباعهم التصرف في الزكوات والأعشار، وذلك بتاريخ 20 ذي الحجة 1161 هـ (لدينا نسخة منه)، مثلهم في ذلك مثل إخوانهم في زاوية حصن سايس بدكالة (راجع نص الظهير عند الكانوني، جواهر الكمال في تراجم الرجال، المطبعة العربية، البيضاء، 1356 هـ، ج 1، ص. 130)، وآل أبي محمد صالح بأسفي (لدينا نسخ من الظهائر التي خصهم بها بتاريخ 1146 و1149 و1157 و1168) وأولاد ابن ناجي بعبدة (نصه عند الكانوني، جواهر، ج 1، ص. 105) وأولاد ابن يفو بعبدة أيضاً (لدينا نسخة من ظهير مؤرخ في عام 1150 هـ) وأولاد عمرو القسطلي بمراكش (نصه عند: حسن جلاب، »ظهائر علوية لرعاية الزاوية البوعمرية بمراكش«، دعوة الحق، العدد 278، شعبان 1410 هـ/ مارس 1990 م، ص. 242، وهو بتاريخ 18 ذي القعدة 1149) والحموميين بقبيلة بني زروال (البشير الفاسي، قبيلة بني زروال، مطبوعات إفريقيا الشمالية التقنية، الرباط، 1324 هـ، ص. 52).

 

(1/1193)

 

 

. لكن هواهم، وهوى أمثالهم من الشرفاء والطلبة وعامة الناس وأهل اليسار والجنود الأحرار، وغيرهم، ظل يميل إلى مولاي عبد الله، حتى إذا توفي هذا الأخير، تقدمت جنازته »... جميع طوائف متفقرة فاس، كل طائفة يتداولون أذكارهم المعتادة لهم في ذلك، إلى أن أوصلوه إلى قبره«(1). ويحظى ضريحه الواقع في فاس الجديد، إلى الآن، بقداسة كبيرة، إلى حد يعتبره البعض ولياً أكثر منه سلطاناً.

... ويتيح لنا هذا العرض تسجيل استنتاجين هامين:

__________

(1) محمد القادر، نشر...، مصدر سابق، ج 4، ص. 123.

 

(1/1194)

 

 

... ـ الأول منهما مؤداه أن مبادرة الإصلاح جاءت من القصر، بل لقد أدى بعض الأمراء أنفسهم ثمناً في سبيل ذلك، وأن هذا الإصلاح لقي استجابة واسعة من لدن قطاع عريض من المغاربة، وكأنهم إنما كانوا ينتظرون الفرصة المواتية للتعبير عن آرائهم.

... ـ أما الاستنتاج الثاني، فمؤداه أن السلاطين الذين تزعموا تلك الحركة الإصلاحية، استندوا في عملهم على المؤسسات المدنية، وفي مقدمتها مؤسسة الزوايا، الأمر الذي جعل طبيعة الإصلاح تأخذ منحى مدنياً ـ دينياً، وجعل للمؤسسة الصوفية مكانة مرموقة في البلاد، من جديد.

 

(1/1195)

 

 

الأساطيل العربية الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط المعروف بالبحر الشامي والعربي

... ... ...

... ... ... ... ... الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله

... عضو أكاديمية المملكة المغربية والمجامع العربية والهندية

 

البحر الأبيض عرف أوائل القرن الخامس الميلادي عصر هدوء طوال مائة عام تحت إشراف الجرمان الذين دشنوا ألفية العصور الوسطى ( عام 378 م) بإزاء البيزنطيين في الامبراطورية الشرقية والوندال غربي المتوسط غير أن خلفاء ( جنسيريك أو جيسيريك) ( Geiseric ou Genseric) المتوفى عام ( 477 م ) وهو أول ملك وندالي

 

(1/1196)

 

 

في إفريقيا - انهزموا أمام ثورة البرابرة الأشاوش الذين انحدروا من الجبال فزحزحوا المغيرين إلى مدن ساحلية بجانب " أفريكا" الرومانية القديمة.

وكان البحر المتوسط منذ ذلك مركز التجارة العالمية احتكرته بيزنطة طوال القرن الخامس وقبله وكانت التوابل والحرائر هي مادة هذه التجارة مع إيران والهند والصين والدينار الذهبي هو عملة التبادل خاصة في القرنين الثاني والثالث غير أن الإمبراطورية الشرقية لم تهتم - رغم سيطرتها الاقتصادية - بقوتها البحرية نظرا لاعتمادها خاصة على طرقها وحصونها البرية يؤكد ذلك سهولة

 

(1/1197)

 

 

انقضاض الوندال أواخر القرن الخامس انطلاقا من الشمال الإفريقي على جزر البليار وسردينية وكورسيكا بل نهبهم لروما عام ( 455 م ) واندحار حملتين بحريتين رومانيتين غير أن هزيمة الرومان الشرقيين حدتهم إلى التفكير في إنشاء قوة بحرية تبلورت عام ( 508 م) في أسطول عدته مائة سفينة مسلحة وخمسة ألاف بحار وكان هذا الأسطول قوة عارضة ما لبث نفس الأمبراطور وهو ( أنسطاسيوس) أن جدد، عام ( 516 م ) بقطع قارة عزرت بمواد متفجرة أشبه بما عرف بعد ذلك بالنار الإغريقية.

 

(1/1198)

 

 

واحتفظ البيزنطيون بأسطولهم الدائم الحركة عصر ( جستنيان الأول) المتوفى عام ( 565 م ) فكان له طوال القرن السابع قواد ودور صناعة في الإسكندرية والقسطنطينية وقرطاج وعكا وسرقوسة والبليار وحتى سبتة وكانت في طليعة القطع البحرية السفن الحربية السريعة الخفيفة المجذافية المعروفة ب ( Dromono) .

وظل الأسطول البيزنطي يجول ويصول في البحر الأبيض المتوسط دون منازع إلى الفتح الإسلامي حيث تعززت السيادة البحرية بمحاولات دعم اقتصادية استهدفت ولو جزئيا استئصال سيطرة فارس الاقتصادية بقطع أرباحها من تجارة التوابل

 

(1/1199)

 

 

والحرير وذلك باستجلاب دودة القز التي انتشرت بفضلها صناعة الحرائر وأقشمة الديباح علاوة على مختلف فنون العمارة وفي الفسيفساء في عديد من الجزر والموانئ والحواضر فكانت القسططينية خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين أعظم مدينة في الشرق بلغت حضارتها الأوج وسكانها المليون نسمة (1) وغزت تجارتها حواضر العالم تليها قوة مدينة الإسكندرية التي كانت أعظم مدن البحر الأبيض المتوسط وربما اخترقت مضيق جبل طارق

__________

(1) كتاب جوستيان لدييهل ( Diehl) المؤرخ الفرنسي المتوفى عام 1944 والمتخصص في تاريخ بيزنطة، ص . 540.

 

(1/1200)

 

 

لتصدير القصدير إلى بريطانيا.

... ... ... ... ... ... ****

وقد استهل العرب فتوحهم في البحر الأبيض المتوسط بفتح الإسكندرية عام ( 21 هـ/ 641 م) وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ البحر الأبيض المتوسط دفع الفاتح العربي عمرو بن العاص إلى التفكير في البحر كوسيلة للدفاع إذ ما كانت تبزغ سنة ( 25 هـ / 645 م) حتى استعادت بيزنطة في حملة بحرية عارمة مدينة ( الإسكندرية) غير أن الجيش الإسلامي تمكن من إجلاء القوات الرومانية وهدم حصون الإسكندرية درءا لكل خطر في المستقبل وكانت هذه وسيلة عابرة مؤقتة حدت الأمير معاوية

 

(1/1201)

 

 

إلى تنظيم أول أسطول بحري قام بأول حملة عربية لغزو البحر المتوسط وقد اتجهت قطع هذا الأسطول - التي أوصلها مؤرخون عرب إلى 1.700 سفينة - عام

( 28 هـ / 648 م) إلى ( جزيرة قبرص) كما أغارت على إفريقية التي ثار حاكمها( البطريق جويجوري) ضد القسطنطينية نفسه أمبراطورا في حملتيم بدأت الأولى عام ( 27 هـ / 647 م) والثانية عام (34 هـ / 654 م ) ولعل ذلك العدد من السفن مبالغة لأن البحرية العربية كانت في منطلق نشأتها ولم تكن تتوفر على بحارين نظرا للطابع البري للجزيرة العربية حيث اضطر الخليفة الأموي في دمشق عام (

 

(1/1202)

 

 

43 هـ / 663 م) إلى استقدام نوتية فرس لملء بعض ثغور الشام انضاف إليهم عام ( 49 هـ / 669 م ) ملاحون عراقيون ومع ذلك بدأ الجانب العربي يتعزز بحريا حيث إن الوالي ( عمرو بن العاص) ما لبث أن أعاد عام ( 50 هـ/ 670 م ) بناء ما حطمه قبل من حصون وقلاع ساحلية في الإسكندرية كما تغزز اقتصاديا لأن ( عبد الملك بن مروان) ضرب لأول مرة ( الدينار العربي) ونقش عليه حروفا عربية مغفلا صورة القياصرة البيزنطيين مما أحنق جوستسنيان الثاني الذي توفى عام

 

(1/1203)

 

 

( 711 م ) وانتهت انتفاضته ضد دمشق بهزيمة منكرة على حدود آسيا الصغرى وأحرز الأمويون نصرا عظيما في الشمال الإفريقي عام ( 74 هـ/ 693 م) في حملة ضخمة قوامها أربعون ألف جندي بقيادة ( حسان بن النعمان) ما لبث أن أخضعت عام ( 76 هـ / 695 م) ( قرطاجة) التي تفلتت من أيديهم بعد تدخل ( الكاهنة الجراوية) لتعود بعد ثلاث سنوات ( 79 هـ/ 698 م) وبموت الكاهنة عام ( 81 هـ/ 700 م) انقرض الحكم البيزنطي في إفريقيا.

وقد تزايد اهتمام الخليفة عبد الملك بالأسطول البحري حيث أمر واليه على إفريقية ( موسى بن نصير) ببناء

 

(1/1204)

 

 

قاعدة بحرية أي ( دار صناعة) ساعده على إنشائها ألف قبطي من بناة السفن بمصر وكان الأسطول العربي قد استولى على جزيرة قوصرة قرب الشاطئ الإفريقي وعلى المضيق الفاصل بين الشاطئ وجزيرة صقيلية وقد تبلورت الاستراتيجية البحرية العربية آنذاك في إقامة دار الصناعة بالمكان الأمين الذي قامت فيه حاضرة ( تونس) وذلك بحفر قناة وصلت هذا المكان بالخليج القريب وهجرت قرطاجة آنذاك وقد أنشأ موسى بن نصير في القاعدة الجديدة مائة سفينة حربية فتعزز الأسطول الأموي عام ( 85 هـ / 704 م) بالقطع البحرية الجديدة وأصبح الشمال

 

(1/1205)

 

 

الإفريقي منطقة بحرية ثالثة عززت المركزين العربيين في مصر وسوريا وبذلك أمسى

البحر الشامي الذي كان شبه محصورا في الشق الشرقي للبحر المتوسط بحرا عربيا امتد إلى الشق الغربي وقد برهنت السفن الجديدة على فعاليتها حيث أغارت منذ سنتها الأولى على كل من صقيلية وسردينية ثم قاد ( موسى بن نصير) شخصيا عام ( 90 هـ/ 708 م ) أسطوله نحو ( جزر البليار) حيث أسر حاكم ( ميورقة) ليظفر بعد سنتين بالاستيلاء على جزيرة ( سردينية) وبذلك استطاع ابن نصير أن يدرأ خطر الأسطول البيزنطي عن الجزر الثلاث وانضم آنذاك إلى العرب(

 

(1/1206)

 

 

الكونت جوليان) حاكم سبتة الذي مكن طارقا بن زياد أحد قواد ابن نصير من سفنه الأربع لاجتياز المضيق إلى سفح جبل الشاطئ الشمالي الذي حمل اسمه بعد ذلك وقد أمر ابن نصير قائده بخمسة ألاف مقاتل ولعله استطاع بناء قاعدة في الشاطئ الإفريقي تنطلق منها جيوشه الزاحفة نحو العدوة الشمالية وبذلك تمكن العرب من " الالتفاف" بين عامي ( 74هـ / 693 م و 99 هـ/ 717 م) حول الجناح الأيمن لقوة البيزنطيين البحرية واختراق مراكز الدفاع البيزنطي في شمال إفريقية "فصار الإسلام كالهلال على ما يقرب من ثلث شواطئ البحر (1)

__________

(1) أرشيبها لدبويس، كتاب القوى البحرية والتجارة في حوض البحر الأبيض المتوسط، مكتبة النهضة المصرية، 1960 ،ص . 103.

 

(1/1207)

 

 

المتوسط بين نهر الرون وبلاد أرمينية وهنا يجدر أن نقارن بين الأسطول البيزنطي والأسطول العربي ونظامي القوتين إلى أوائل القرن الثامن الميلادي فقد كان أسطول بيزنطة يتألف من مجموعة مركزية وأربعة أساطيل إقليمية ترابط ثلاثة منها شرقي المتوسط واثنان في غربه (1) والمركز الجامع هو القسطنطينية وكان للأسطول قائد أعلى للأمبرالية البحرية يخضع له نائب أميرال وكان لكل منهما

__________

(1) يربطان في صقلية مع أسطول ثالث محتمل في إفريقية إلى نهاية القرن السابع يشمل جزر البليار وسردينية سبتة والمواقع البيزنطية في إسبانيا.

 

(1/1208)

 

 

بحارته ودور صناعته وأحواض بنائه ومعداته البحرية نفقاتها عن الأقاليم التي ترابط بها.

أما البحرية الأموية فمن الصعب تحديد تنظيماتها بنفس الدقة إلا أن المفروض هو وجود ثلاثة أساطيل لكل واحد منها استقلال ذاتي ويرابط في إقليم خاص به ( مصر أو سورية أو شمال إفريقية) بالإضافة إلى وحدة بحرية ( في بحر القلزم أو البحر الأحمر) خاضعة للأسطول المصري وانعقد لواء كل أسطول لأمير من أمراء البحر وكان كل أسطول يواجه الأساطيل القريبة منه في آسيا الصغرى أو صقلية أو الأسطول المركزي في القسطنطينية وقد كان أمير البحرية

 

(1/1209)

 

 

المصرية هو القائد العام للأساطيل (1) الثلاثة التي اشتركت مجمتعة في الحصار الثاني للقسطنطينية إلا أن الأسطولين العربي والبرنطي امتاز كلاهما بالاستقلال الذاتي في الغرب أمام مراكز دور الصناعة في العصر الأموي فقد كانت في الفسطاط والقلزم القواعد الأولية لبناء الأسطول العربي منذ الإنطلاقة الأولى في عهد معاوية وكذلك في ( عكا) التي أصبحت أعظم قاعدة في سوريا في حين أقام ( عبد الله بن مروان) على غرار سلفه ( معاوية) دار صناعة لأول أسطول عربي في إفريقية بعد عام (

__________

(1) Bury, Bysantine naval Policy, P : 35.

 

(1/1210)

 

 

81 هـ/ 700 م) ومع ذلك فلم يكن للقوة البحرية العربية أثر في دعم الزحف الإسلامي في إسبانيا وجنوب فرنسا رغم تفوق هذه القوة على السفن الفرنجية ومما يدل على مدى سمة الدعوة والتمدين في الحركة الإسلامية في البحر المتوسط آنذاك أن العرب لم يستغلوا فتوحاتهم لاكتساح السوق التجارية في البحر المتوسط عدا التخلص من وطأة ( ضريبة القموح) التي كانت تدفعها مصر لقسطنطينية والتي أصبحت تكدس في الأسكندرية لتوجه بدلا من تموين بيزنطة إلى إمداد مكة والمدينة المنورة على أن الفاتح العربي بدأ يضع تشريعات بحرية جديدة مغايرة

 

(1/1211)

 

 

لما فرضه ( جبستنيان) في القرن السابع خاصة بصدد الإيراد والتصدير و أصبح الشمال الإفريقي الثري خير مصدر للذهب وزيت الزيتون والحبوب والخيول والجمال ما بين ( 76 هـ/ 695 و 87 هـ / 705 م) بالإضافة إلى ما كان يصنع فيه آنذاك من طنافس فاخرة وهذا العهد الجديد الذي خلقه العرب في البحار أدى على الأقل إلى إيقاف التجارة التي كانت منبع ثراء بيزنطة لتصبح تجارة حرة لفائدة الجميع فانطلقت بيزنطة مجهدة نفسها في تخريب الأسسية الاقتصادية في المتوسط وتفكيك الوحدة التي رجع الفضل إليها قديما في ربط أجزاء البحر المتوسط

 

(1/1212)

 

 

بعضها ببعض ورغم ما يدعيه بعض المغرضين من مشوهي تاريخ الفتوح العربية فإن البيزنطيين هم الذين كرسوا كل قواهم الحربية المدمرة للانتصار بين ( 97 هـ / 715 م و 135 هـ / 752 م) على الأمويين ولو على حساب رخاء ورغد البحر المتوسط وقد تدهور الوضع في إفريقية الشمالية من جراء ذلك وخاصة بسبب السياسة العنصرية التي نهجها بعض الأمويين في تخميس البربر مما أدى إلى ثورة ( ميسرة المضغرى) حول طنجة عام ( 122 هـ/ 739 م) وفي نفس السنة تخربت المدن الجنوبية بفرنسا نظرا لتوقف استغلال بيزنطة لتجارة سورية ومصر مما أدى إلى

 

(1/1213)

 

 

الكساد الاقتصادي الذي عرفته فرنسا الكارولنجية منذ عام ( 98 هـ / 716 م).

ويظهر أن بيزنطة احتفظت بقوة فعالة في مياه البحرين المتوسط والأسود إلى أوائل القرن الثامن الميلادي لأن القوة البحرية الأندلسية التي تركزت في إمارة سرقسطة كمركز لحماية حدود الأندلس ضد هجمات الكارولنجيين لم تستعمل إلى عام ( 182 هـ / 798 م) للإغارة على مرسيليا عام ( 798 م) وإيطاليا عام ( 162 هـ / 778 م ) وناربون عام ( 177 هـ / 793 م) مما يدل على أن الأسطول الأموي في الأندلس وجه ضرباته لامبراطورية الفرنجة لا البيزنطيين الذين

 

(1/1214)

 

 

كانوا في عداء مسلح مع هؤلاء والحقيقة أن القوة النسبية التي ظهرت بها السفن البيزنطية ترجع أيضا إلى ضعف الأسطول السوري الذي لم يستطع إيقاف انفصال ( عبد الرحمن الأول) الأموي عام ( 139 هـ/ 756 م)عن الخلافة العباسية التي لم تتمكن حملات أسطولها من الوصول إلى الشواطئ الأندلسية وقد مهد ذلك لانبثاق مملكة الأدارسة المستقلة بالمغرب الأقصى عام ( 172 هـ/ 788 م) ثم الأغلبية عام ( 184 هـ / 800 م) وظلت مصر وحدها خاضعة للعباسيين ورغم ما كان للبحرية العربية من قوة غربي المتوسط فإن العواصم الجديدة كفاس وتونس

 

(1/1215)

 

 

وقرطبة اتسمت ببعدها عن البحر أي عن خطر الأساطيل الفرنجية لأن بيزنطة بدأت تفقد قوتها البحرية منذ أوائل القرن الثامن الميلادي ولذلك استطاع الأسطول الأندلسي الإغارة منذ عام ( 182 هـ / 798 م) على ( جزر البليار) وبعض مدن الساحل الشمالي إلى أن استفحلت مغامرات السفن العربية عام ( 199 هـ/ 814 م) بوصول ثوار ربض قرطبة (1)

__________

(1) الأندلسيون الربضيون الذين ثاروا على الأمير الحكم فنفاهم ونزلوا بالإسكندرية ثم أقاموا في جزيرة كريت التي انتزعوها من البيزنطيين وجعلوا منها وكرا للقراصنة وانتقل بعضهم إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى.

 

(1/1216)

 

 

الذين استطاعوا فرض سيطرتهم على الإسكندرية مدة اثني عشر عاما حتى طردهم العباسيون الذين تحركت نخوتهم منذ عام ( 191 هـ/ 806 م) - بعد عشرين سنة من خمود الأسطول السوري فأغار أسطولهم على ( قبرص) ثم في العام التالي على ( رودوس) مع فرض جزية سنوية أصبحت القسطيطينية تدفعها لبغداد ولعل تدخل أسطول الأغالبة في إفريقية عام ( 190هـ/ 805م ) هو الذي ساهم في هزيمة البيزنطيين برا وبحرا لا سيما بعد أن فرض الأغالبة اتفاقية لعشر سنوات مع بطريق صقلية جددت عام ( 198 هـ/ 813م) دون أن يحول ذلك بينهم وبين مهاجمة (

 

(1/1217)

 

 

سردينية) في السنة نفسها - رغم تعرض مائة سفينة عربية للغرق من جراء العواصف- ثم الإغارة على صقلية عام ( 209 هـ/ 820 م) واحتلال سردينية في السنة التالية وهذا التناسق الذي كان تلقائيا أحيانا - بين أساطيل المسلمين في سورية والأندلس والشمال الإفريقي والذي تحدى سلطان بيزنطة هو الذي حدا ( شرلماني) الذي كان يعاني الأمرين من ظغط بيزنطة والأندلس معا - إلى إنشاء أسطول ضخم بلغ ( ألف سفينة) بحرية في قاعدتين إحداهما على ساحل طرطوشة وبرشلونة ( اللتين احتلهما شرلماني عام ( 197هـ/ 812م)) على طول الساحل الإيطالي

 

(1/1218)

 

 

مما ساعد الأسطول الجديد على الإنتصار قرب ( جزيرة ميورقة) مما أتاح للبيزنطيين أن يتنفسوا الصعداء ولو لفترة قصيرة إلى أن قامت ثورة داخلية في صقيلية أطاحت بقوة القسطنطينية البحرية بين عامي ( 206 هـ/ 821 م) و ( 208 هـ/ 823 م) وقد انكشف ذلك عام ( 212 هـ/ 827م ) عندما أغار الربضيون المسلمون النازحون عن الاسكندرية على جزيرة ( كريت) ونزلوها دون مقاومة وظلوا مثارا للرعب للامبراطورية البيزنطية طوال قرن ونصف.

 

(1/1219)

 

 

وفي تلك الأثناء استطاع الأغالبة مهاجمة صقلية أحد مفاتح المتوسط وانتصروا على أسطولها البيزنطي بسفن انطلقت من ( سوسة) بلغت ما بين السبعين والمائة سفينة مجهزة بعدة ألاف من الرجال وبذلك انفتح عهد جديد انهارت فيه قوة بيزنطة البحرية وازدادت السيادة الإسلامية على البحار بعد أن تعززت قوة الأغالبة تلقائيا بأسطول الأندلس وهي الدولة الوحيدة في غرب البحر المتوسط التي لم تخضع للسيطرة التجارية البيزنطية وقد ظل التجار البندقيون يواصلون نشاطهم الاقتصادي بفضل مسالمتهم للمسلمين ومخالفاتهم السياسية البيزنطية التي

 

(1/1220)

 

 

حرت على البندقية ومثيلاتها مثل نابولي الاتجار مع الموانئ الإسلامية في شمال افريقيا ومصر وسورية على أن تجار الشمال الافريقي قاموا بما قام به آنذاك الإيطاليون بالنسبة لأوربا - بدور الوساطة بين سوريا ومصر من حيث ينقلون السلع المختلفة بحرا لتوزيعها على البلاد

الإسلامية في الغرب وبذلك انتقلت التجارة البحرية إلى أيدي المغاربة وساعد على ذلك تدهور البحرية العباسية حتى في البحر الأحمر الذي كان ممرا لنقل توابل الشرق وقد انهارت هذه التجارة أوائل القرن الثامن الميلادي إذا استثنينا نشاط اليهود الذين كانوا

 

(1/1221)

 

 

يعبرون ( برزخ السويس) إلى ( بحر القلزم) وعدن ثم يلاد الصين لا سيما وأن القناة التي حفرها عمرو بن العاص بين النيل والبحر الأحمر كانت قد طمرتها الرمال ومن مظاهر ثراء المغرب آنذاك أن الدرهم الفضي ظل عملة الرواج السائدة في الشمال الإفريقي وخاصة في فاس حيث سكت عملة تحمل تاريخ ( 185 هـ/ 801 م) وتوجد قطعة منها في متحف كاركوف بروسيا.

هذا بينما ساد استخدام الدرهم الفضي الذي سكه الأمويون في أماكن أخرى وقد سقطت صقلية فعلا في قبضة الأغالبة عام ( 831 م) ثم جزيرة قوصرة عام ( 835 م) بفضل أسطول إفريقي اشتمل

 

(1/1222)

 

 

على حراقات وهي سفن تقذف بلهب النفط ضد النار الإغريقية التي كان يستخدمها البيزنطيون وهو سلاح عربي سري جديد مكنهم من المزيد من السيطرة على البحار وحيث بلغت هجماتهم حتى المراكز البيزنطية في كل من البحر الأيوبي ( بين إيطاليا واليونان) والأدرياتي وقد احتل مسلمو كريت أو شمال إفريقية عام ( 224 هـ/ 838 م) - إقليم ( بريديزي) رغم تدخل أسطول بندقي من ستين سفينة كما أقام مسلمون في مدينة باري ( Bari) ( على الأدرياتيك) عام ( 228 هـ/ 841 م) دولة إسلامية تماثل دولة بالرم في صقلية استمر وجودها أكثر من ثلاثين

 

(1/1223)

 

 

عاما اعترفت بغداد لها بالاستقلال والسيادة ولم يتسطع حصار ( لويس الطويل) لمدينة باري زحزحة المسلمين عنها عام ( 850 م / 236 هـ) وبذلك أصبح بحر الأدرياتيك عرضة لغارات الأساطيل العربية ولم ينج من هذه الهجمات البحرية حتى أسطول البندقية كما أنزل المسلمون ( عام 232 هـ / 846 م) قوات على سواحل الأراضي البابوية إلى ضواحي روما ذاتها مما حرك القطسنطينية لإرسال أسطول إلى ( سرقوسة) عدته ( ثلاثمائة) سفينة فأحرز الاسطول الإسلامي نصرا عظيما في معركة بحرية فقد البيزنطيون فيها مائة سفينة وهي أخطر هزيمة مني بها

 

(1/1224)

 

 

الأسطول البيزنطي منذ عام ( 226 هـ / 840 م) وقد واصل الاسطول الإسلامي فتوحاته فاستولى على جزيرة مالطة عام ( 257 هـ / 870 م) وتعزز بذلك نفوذ الأغالبة على المضايق الواقعة بين صقلية وإفريقية ومع ذلك لم تندحر قوة بيزنطة البحرية بصورة تامة لانها جددت أسطولها عام ( 272 هـ / 885 م) ولم يمنع ذلك السفن الإسلامية من غزو قلورية عام ( 275 هـ/ 888 م) وإلحاق هزيمة شنعاء بالبيزنطيين وتحطيم سفنهم عام ( 282 هـ / 895 م) فانصاعوا لصلح فقدت القسطنطينية فيه سيادتها الموقوتة على مياه صقلية وغرب إيطاليا حيث أنزل

 

(1/1225)

 

 

الأغالبة بعد سبع سنوات الضربة القاضية في حملة بحرية عام ( 290 هـ / 902 م) وسقط مجموع الجزيرة الصقلية في قبضتهم غير أن الصراع بين الأقاليم الإسلامية كان يوقف انتفاضات الأسطول العربي ولو إلى حين فقد استولى الفاطميون على تونس عام ( 297 هـ / 909 م) وأصبحوا سادة ( القيروان) وما لبث مسلمو صقلية أن هبوا ضدهم عام ( 301 هـ / 913 م) فحطوا فرقة بحرية إفريقية قرب ( المهدية) واستمر الحرب سجالا إلى عام ( 305 هـ / 917 م) حيث سيطر الفاطميون على الجزيرة بعد أن قضوا المدة السالفة في غارات هوجاء ضموا إثرها مصر

 

(1/1226)

 

 

إلى نفوذهم ولكن قوة بحرية مشتركة بين بيزنطة وإيطاليا ( بزعامة نيقولا الصقلي وكذلك قوات من المراكز البابوية أغارت على مواقع المسلمين وحررت البلاد الإيطالية بعد نصف قرن من مضايقات السفن الإسلامية لها إلا أن محاولات هذا الأسطول الحديث فشلت أمام سفن أصغر جزيرة إسلامية في البحر المتوسط حيث أحرز مسلمو جزيرة كريت عام ( 225 هـ / 839 م) لإعادة الكرة من جديد فعجز حتى عن الإقلاع من موانئه طوال عشر سنوات إلى عام ( 239 هـ / 853 م) بفضل قوة تجهيزات ( كريت) وحنتها البحرية وظلت القسطنطينة تستعد طوال ربع قرن

 

(1/1227)

 

 

إلى عام ( 266 هـ / 829 م) للإجهاز على هذه الجزيرة التي أفضت مضاجعها فتحطم هذه المرة جزء من الأسطول الكريتي في خليج ( كورنث) وهنا توقف الصراع ربع قرن آخر إلى عام ( 292 هـ / 904 م) حيث وجهت ( كريت أقسى ضرباتها على ثاني حاضرة في الإمبراطورية البيزنطية هي ( سالونيك) التي استسلمت تحت نيران قاذفات اللهب الكريتية واقتيد اثنان وعشرون ألف أسير من سكانها إلى مختلف الأقطار الإسلامية (1) دون أن يثني نخوة بيزنطة التي تحطم أسطولها مرة أخرى عام ( 298 هـ / 910 م) وظل

__________

(1) أرشيباليد، القوى البحرية...، ص . 224.

 

(1/1228)

 

 

التهديد الكريتي مصبا على بحر( إيجي) والأسطول البيزنطي إلى عام ( 311 هـ/ 923 م) وقد جرؤ قبل ذلك على مهاجمة أنطاكية سنتي

( 213 هـ/ 828 م) و ( 227 هـ / 841 م) فهب العباسيون بأمر ( المتعصم) لتعزيز أسطول كريت والشمال الإفريقي فبنوا عام ( 228 هـ / 842م) أسطولا من ( أربعمائة قطعة) تحركت إلى بحر ( إيجي) ولكن العواصف الهوجاء تلقفته قرب سواحل آسيا الصغرى فلم تبق منه سوى أربع سفن غير أن الغارات البيزنطية توالت إلى عام ( 266 هـ/ 879 م) بالانتصار على أهل كريت ثم ما بين ( 267 هـ/880 م) و ( 886م) بهزيمة

 

(1/1229)

 

 

الأغالبة وأهل صقلية نظرا للصراعات الداخلية التي صرفت أهل طرسوس ( بتركية) وسورية ومصر بسبب امتداد النفوذ الطولولني - عن أعدائهم البيزنطيين فكان لاستعادة العباسيين سلطتهم بمصر عام ( 292 هـ/ 904 م) أكبر الأثر في ظهور قوة بحرية إسلامية جديدة ظلت مع الأسف إلى عام ( 308 هـ/ 920 م) تواجه خطرا إسلاميا هذه المرة هو خطر الأسطول الفاطمي الذي انهزمت مع ذلك قطعه السبعون وبذلك تدعمت جزيرة ( كريت) إلى أوائل القرن العاشر الميلادي بأسطول مسلمي طرطوس وسورية ومصر زاده فعالية ظهور عدو جديد لبيزنطة هو الروس أصحاب (

 

(1/1230)

 

 

كييف) وجنوبي روسيا وهم أسكندنافيون وسويديون قاموا منذ سنة ( 246 هـ/ 860 م) بغارة واسعة على القسطنطينية استغلوا هزيمتها النكراء عام (245 هـ/859 م) قرب صقلية على يد أسطول الأغالبة وأغاروا ثانية عليها بعد نحو نصف قرن عام(295 هـ/ 907 م)

وفي هذه الأثناء بقي الأسطول الأموي في الأندلس رابضا نظرا لعدائه للعباسيين ومجاملته للبيزنطيين غير أن التقاعس لم يصل إلى حد مساعدة الفرنجة ضد المسلمين لأن الإمبراطور ( تيوفيل) طلب من عبد الرحمن الثاني ( 225 هـ/ 839 م) العون ضد مسلمي صقلية وإفريقية فلم يستجب لطلبه.

 

(1/1231)

 

 

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بنعيد 3.

والواقع أن الأسطول الأندلسي كان متجها إلى عدو آخر ناصب الإسلام العداء غربي أوربا فتركزت قطعه منذ أوائل القرن التاسع الميلادي على طول الساحل الشرقي بين طرطوشة وبلنسية وباقي السواحل الكارولنجية وبدأت غاراتها عام ( 224 هـ/ 838 م) على مرسيليا انطلاقا من جزر البليار واتخذت قواعد لها عند مصب الرون في جزيرة ( كامرك) (Camargue) مما اضطر شارل الأصلع (Charles le Chauve) ملك فرنسا وإمبراطور الغرب ( 840 م - 877 م) إلى الانصياع بتوقيع صلح مهين عام ( 250 هـ /

 

(1/1232)

 

 

864 م) فاستكانت هذه المنطقة لبعض الراحة من غارات

الأسطول الأموي الذي واصل تجهيزاته بإقامة قواعد عام ( 275 هـ/ 888 م) على سواحل ( بروفانس) وحوض الرون الأدنى وهي مناطق قاست المرائر من الغزو الإسلامي طوال ( 84 ) سنة مما أدى إلى انتشار النفوذ الإسلامي في جبال الألب والممرات بين فرنسا وإيطاليا إلى البحر المتوسط ومع ذلك فإن الأسطول الأموي ظل ضعيفا لعجزه عن الصمود في وجه غارات الشماليين عام ( 230 هـ/ 844 م) عندما هاجم أسطول القراصنة الاسكندنافيين لشبونة بثمانين سفينة تجاوزت في نهبها وسلبها مدينة

 

(1/1233)

 

 

اشبيلية الأندلسية إلى حاضرة نكور بالمغرب الأقصى غير أن هؤلاء الشماليين لم يجرؤوا على مراسي بني الأغلب القوية ولا حتى بعض الموانئ الأندلسية التي كانت لها أساطيل بحرية بين دانية وطرطوشة ويظهر أن قرطبة الأموية لم تستطع إنشاء أسطول لها إلا في عهد الرحمن الثالث لأن القطع التي استهدفت بها الإغارة على جليقية المسيحية عام ( 266 هـ/ 879 م) غرقت بمجرد بلوغها مياه المحيط نظرا لرداءة تجهيزاتها وضعف ملاحيها. وكان المحيط الاطلنطيكي منذ ذاك مسرحا يخوض غماره البحارة العرب من طنجة إلى السنغال إلى القرن الثالث

 

(1/1234)

 

 

عشر الميلادي إثر العهد المريني ( روبير مونطاني - "البربر والمخزن"، ص.22.).

وهكذا يمكن القول بأن البحر المتوسط كان أوائل القرن العاشر الميلادي موزعا بين مسلمي جزر البليار غربا وصقلية في الوسط وكريت شرقا قبل ظهور الأسطول الأموي المجدد وبالرغم عن انتعاش أسطول بيزنطة الذي بدد عام ( 941 م) قوة بحرية روسية تحركت لمهاجمة القسطنطينية بألف سفينة تحت قيادة إيكور ( Igor) أمير كييف فإنه أخفق في حملته عام ( 305 هـ/ 917 م) انطلقوا يوالون غاراتهم على قلوبية وسارنو ونابولي التي لم ينجدها سوى الخنوع بدفع الجزية

 

(1/1235)

 

 

للعرب لا سيما بعد أن هاجمها الفاطميون عام ( 317 هـ/ 929 م) بأربع وأربعين سفينة وأرسلوا عام ( 324 هـ/ 935 م) أسطولهم ضد كورسيكا وجنوة حيث أحرقوا الكثير من السفن ثم حولوا نشاطهم إلى إيطاليا البيزنطية قبل عام ( 339 هـ/ 950 م) إذ أغاروا من جديد على قلورية فلم يعد السلام للمنطقة إلا بتجديد الجزية وأصبحت المراسي الإيطالية تتخلص من سيادة بيزنطة التي عجزت عن إنقاذها من ضغط الأسطول الإسلامي وكان الرستميون والأدارسة حلفاء للأمويين بالأندلس فاضطر الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث خوفا من مغبة نوايا جيرانه

 

(1/1236)

 

 

الفاطميين إلى تشييد أسطول ضخم استولى عام ( 319 هـ/ 931 م) على سبتة وأحرق عام ( 333 هـ / 944 م) معظم سفن الشمال في إشبيلية وبالفعل أغار الأسطول الفاطمي عام ( 343 هـ/ 954 م) انطلاقا من صقلية على الأندلس فهاجم ( ألمرية) قاعدة الأسطول الأموي الرئيسية فانتقم الأمويون بإرسال سبعين سفينة ضد الشواطئ الإفريقية وبالرغم عن جولات ( جوهر الصقلي) أقدر قواد الفاطميين على الجزائر والمغرب الأقصى فإن قوة عبد الرحمن الثالث ظلت مسيطرة على جزر البليار والقواعد الأمامية على طول ساحل فرنسا الجنوبي مهددة قوة الفاطميين

 

(1/1237)

 

 

في صقلية وشمال إفريقية.

وكانت روح القرصنة سائدة آنذاك سواء عند المسلمين أو المسيحين وكانت أوكارهم في جزر المتوسط وموانئه مستقلة داخليا بتشجيع من السلطات الرسمية التي كانت تشاركهم التمتع بقسط من أسلاب القرصنة وهذا يمنع من وجود أساطيل نظامية لدى الأغالبة والفاطميين والأمويين الذين تساوقت تنظيماتهم فكان ( أمير البحر) لدى الأمويين هو المشرف على مائتي سفينة في ألمرية وبجاية وأحد القادة الأربعة الكبار الذين تعتمد عليهم الخلافة كما كان قسيم الخليفة في السلطان هذا يحكم البر وذاك يسيطر على البحر وقد كان

 

(1/1238)

 

 

لكل سفينة قبطان مسؤول عن الأسلحة والمحاربين وكبير للبحارة أو رئيس إدارة الأشرعة والمجاذيف وللحملة البحرية قائد من الأمراء أو أصحاب المناصب العليا إذا لم يتول القيادة كبير أمراء البحر بنفسه ويظهر أن نظام الأسطول الإسلامي في الشرق كان شبيها بالنظام البحري غربا فكان كلاهما مجهزا بمركب نفطي مشابه للنار الإغريقية في شكل حراقات قاذفات للهب ترمي سفن الأعداء بمادة سريعة الاشتعال كما وقع عندما أحرق الفاطميون أسطول البحر التيراني عام ( 324 هـ/ 935 م).

 

(1/1239)

 

 

ويظهر أن سفن الإمبراطورية البيزنطية كانت أكثر ضخامة رغم اضطرارها إلى ملازمة الدفاع دون الهجوم إذ اتضح أن أساطيل بيزنطة كانت تدرب على تجنب ملاقاة العدو إلا في حالات الضرورة القصوى حيث كانت تعتبر سندا فقط للقوات البرية ومع ذلك ظلت القوة البرية لدى المسلمين موازية للقوة البحرية حيث ظلت الحدود بين الطرفين بالأندلس من عام ( 212 هـ/ 827 م) إلى عام ( 349 هـ/ 960 م)(1) هي دون كبير تغيير إلا أن القوات البحرية الأموية تدخلت عندما حاول القشتاليون توسع حدودهم

__________

(1) راجع كتاب الخطط الحربية Tactita ليوم 1989.

 

(1/1240)

 

 

صوب الجنوب وحتى بالنسبة لبيزنطية كان الخطر البري يأتي من جهة البلغار والقبائل الأسيوية الرحالة.

وفي هذا العام ( 960 م) كان الأسطول البيزنطي الذي هاجم جزيرة كريت يضم ألفي سفينة حربية ( 1360 للمؤن والإمداد) ومنها ما كان به ( 250 ) مجذافا في أربعة صفوف من المجاذيف ومنها سفن كانت صالحة لإنزال الجنود مع القدرة على الرسو بالشاطئ بفضل ( زلاقات) تعبر من فوقها إلى البر وقد حدا هذا الخليفة العزيز الفاطمي إلى بناء أسطول حربي من ستمائة قطعة في مثل هذه الضخامة بدار صناعة جديدة بالمقس عام ( 995 م) وقد وصف

 

(1/1241)

 

 

لنا ( ناصر خسرو) الرحالة الفارسي في القرن الخامس الهجري أو الحادي عشر الميلادي إحدى هذه السفن بأنها تبلغ ( 275 ) قدما طولا و ( 110) أقدام عرضا إلا أن مؤامرات بيزنطية خربت دار صناعة المقس عام ( 995 م) بواسطة عملاء من التجار اليونايين الذين ألقي عليهم القبض آنذاك وأعدموا واستمر بناء الأسطول بعد ذلك إلا أن الظاهرة المزعجة في خصوص تطور الأسطول الإسلامي في البحر المتوسط - رغم توفره على العدة الكافية من الأخشاب والحديد لبناء السفن - هي انعدام وحدة بحرية شاملة تضم أشتات أساطيل الدول الإسلامية المحيطة

 

(1/1242)

 

 

بالبحر فكان للوسط أسطوله في صقلية وللغرب قوته في الأندلس ولشرقه أسطول أضخك في كريت وسورية ومصر توحدت قطعه في عهد الطولونيين والإخشيديين إلا أن الاصطدام بين هذه القواعد البحرية الثلاث لم يقع إلا أوائل القرن العاشر بظهور الفاطميين الذين وجهوا ضرباتهم للمصريين والأندلسيين معا من عام ( 302 هـ/ 914 م) إلى ( 339 هـ/ 950 م) فكان من مظاهرها وجود ثلاث خلافات إسلامية بقرطبة والمهدية وبغداد (1) ومع ذلك فإن سيادة الأسطول الإسلامي كان لها كبير الأثر على إنعاش التجارة

__________

(1) أرشيبالد، القوى البحرية، ص.252.

 

(1/1243)

 

 

الدولية بين شقي البحر المتوسط الشرقي والغربي بسبب امتداد الزراعة من خلال انتشار نباتات المناطق الحارة والبرتقال والأرز وتوت دود القز وقصب السكر ففرض الغرب الإسلامي سياسته الاقتصادية في المتوسط بتوسيع تداول الذهب مظهر رخائه وثرائه - في شكل الدينار الذي أصبح عام ( 950 م) نقدا دوليا بينما كان مقتصرا حوالي ( 148 هـ/ 800 م) على شمال إفريقية وسورية ومصر وقد سك عبد الرحمن الثالث منذ أوائل القرن العاشر الميلادي دينارا أندلسيا على قاعدة الذهب لا الفضة واستمر ذلك بالمغرب الأقصى وحتى في صحرائه الممتدة إلى

 

(1/1244)

 

 

حدود السنغال من عهد المرابطين (1) إلى القرن الماضي وقد أحدث هذا التطور تغييرات جذرية في اقتصاديات المتوسط وازنت بين التصنيع والتنقيبات المنجمية والزراعة وهنا عنصر جديد كان له أثره في المساس بميزان القوى في المتوسط ففي الوقت الذي كان المسلمون يغيرون على إيطاليا حيث هاجموا مدينة بيزة عام (395 هـ/ 1004 م) انطلاقا من الشواطئ الإفريقية ومن الأندلس معا - مواصلين هجماتهم على طول الشواطئ

__________

(1) حيث بلغ وزنه 3.960 غرام من الذهب ثم ارتفع أيام الموحدين إلى قيمته في صدر الإسلام وهي ما بين 4.729 و 4.25 غرام.

 

(1/1245)

 

 

الإيطالية - ظهر النورمان لأول مرة فأحدق الخطر بصقلية الإسلامية وعاصمتها ( بالرم) فاستنجدت ببني زيري حكام المهدية (1) الذين سارعوا إلى تقديم العون وكان ( المعز بن باديس) قد بنى أسطولا فسارع حوالي ( 418 هـ/ 1027 م) إلى إرسال ( أربعمائة سفينة) لنصرة أهل صقلية قضت على معظمها عواصف عاتية قرب جزيرة قوصرة وأنقذت صقلية أحداث مكنتها من مواصلة الصراع بجنوب شمال إفريقية حتى أصبحت شواطئ اليونان عام ( 424 هـ/

__________

(1) كانت لهم دار صناعة بالمهدية مكنتهم من بناء مائتي سفينة فخمة للمرة الأولى منذ عام 407 هـ/ 1016 م.

 

(1/1246)

 

 

1032 م) هدف البحرية الإسلامية ولكن أسطولا بيزنطا استطاع عام ( 421 هـ/ 1035 م) أن يقضي على الأسطول الإسلامي في شواطئ ليسيا (Lycia) ( من آسيا الصغرى) فجنحت صقلية للسلم بسبب خلافاتها الداخلية بين العرب والبربر واعترف أميرها بسيادة القسطنطينية التي اكتسحها مع ذلك عام

( 430 هـ/ 1042 م) فتدهورت قوتهم البرية والبحرية وفقد الأسطول الفاطمي في نفس الوقت الكثير من مقوماته وكان النورمان من طوائف غرب أوربا التي شاركت في غزو صقلية عام

 

(1/1247)

 

 

( 430 هـ/ 1038 م) كما شاركت عام ( 409 هـ/ 1018 م) مع القراصنة الفرنسيين في المحاربة بجانب أمير برشلونة ضد ( مجاهد بن يوسف العامري) فتبلور في ذلك كله الاتساع الأوربي الغربي جنوبا نحو البحر المتوسط وكان ( العامري) هذا أحد ملوك الطوائف الذين ورثوا عرش الأمويين فأعد انطلاقا من حاضرته في ( دانية) أسطولا قويا ضم به جزر البليار إلى أملاكه عام ( 405 هـ/ 1014 م) ثم هاجم عام ( 406 هـ/ 1015 م) سردينية على رأس مائة وعشرين سفينة وظل هذا الأسطول يهدد شواطئ المسيحيين حيث أغار على إقليم برشلونة عام ( 409 هـ/

 

(1/1248)

 

 

1018 م) وناربون عام ( 411 هـ/ 1020 م) وظل مرهوب الجانب إلى أن مات العامري عام ( 436 هـ/ 1044 م) وتساوق ظهور النورمان مع الانتعاش المفاجئ للقوة البحرية في كل من بيزة وجنوة وكامل ساحل إيطاليا الشمالي الغربي فطردتا العامريين من سردينية عام ( 407 هـ % 1016 م) بل تجزأتا ( 426 هـ/ 1034 م) على مهاجمة ( بونة) الجزائرية وقد استطاعت ( بررفانس) في نطاق بحرية أوربا الغربية أن تطرد المسلمين من ربوعها ولم يستهل عام ( 435 هـ/ 1043 م) حتى أصبح هؤلاء البحارة الإيطاليون أصحاب القوة المداهمة في مياه هذا البحر

 

(1/1249)

 

 

الذي ظهر في منتصف القرن الحادي عشر بمظهر جديد كان أقل مجاليه استيلاء بيزنطة على كريت وقبرص وشمال سوريا وانحصرت الطريق البحرية بين بلاد الغرب والشرق الإسلامي في سبل وعرة على طول الشاطئ الإفريقي بين سوسة والإسكندرية وذلك نظرا لانهيار كريت حامية شواطئ مصر وقبرص حامية السواحل السورية وهذا التقدم الذي طرأ على المجال الملاحي في القرن الحادي عشر الميلادي يرجع في الحقيقة إلى طروء تغييرات جذرية في مجتمعات أوربا الغربية في نفس الوقت الذي طرأ انحلال خطير على المسلمين شرقا وغربا خاصة بعدما تقاعست

 

(1/1250)

 

 

الأرستقراطية العربية عن الجهاد بالأندلس تاركة الحبل على الغارب لمرتزقة مسيحين مغامرين فقد تبلور هذا التطور الذي تدرج نحو نصف قرن إلى انتصار أساطيل غرب أوربا الإيطالية على قوتي المسلمين والبيزنطيين البحريتين وأصبح الأوربيون عام ( 494 هـ/ 1100 م) سادة كورسيكا وسردينية وصقلية وجنوب إيطاليا والأقاليم الساحلية في فلسطين وسورية بالإضافة إلى سيطرتهم على طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب.

وزاد الطين بلة اكتساح ( بني هلال) و ( نبي سليم) لمصر وليبيا وتونس عام ( 444 هـ/ 1052) فانهار ( بنو زيري) وتبعهم

 

(1/1251)

 

 

( الحماديون) في قلعتهم ( قلعة بني حماد) المهاجرون من أشتات الدولتين في منطقة التلال ( منطقة القبائل الصغرى) وعقد صاحب المهدية معاهدة حلف وصداقة مع ( روجير) عام ( 468 هـ/ 1075 م) كما نكب الشرق في سورية ومصر حيث ثارت عام ( 452 هـ/ 1060 م) جيوش العبيد والمرتزقة من موالي الفاطميين والغريب أن المرابطين تحركوا في نفس السنة وحاولوا توحيد الراية الإسلامية عام ( 479 هـ/ 1086 م) إلى بجاية وكانت قوة

(بيزة) قد هاجمت في العام التالي ( 480 هـ/ 1087 م) بالأربعمائة سفينة مدينة ( المهدية) معقل الزيريين على ساحل

 

(1/1252)

 

 

تونس واستطاع ملك قشتالة أن يحتل طليطلة عام ( 478 هـ/ 1085 م) وأجبر المعتمد بن عباد أمير اشبيلية على الانصياع وأسهمت المدن الإيطالية في هذا الزحف الصليبي على الأندلس كما شاركت قوة النورمان التي انطلقت تدعم عدتها الحربية منذ أن استولى على زعامتها ( روبرت جسكارد) عام ( 435 هـ/ 1043 م) فاعترف البابا بمركزه كأمير تابع للبابوية وظهر أخوه ( ورجر) في جنوب إيطاليا حيث كان يشرف على كتائب نورماندية فاستطاع بست وخمسين سفينة احتلال مدينة ( بلرم) عاصمة المسلمين بصقلية ثم استولى عام ( 480 هـ/ 1087 م) على (

 

(1/1253)

 

 

سرقوسة) وأكمل احتلال الجزيرة بعد ثلاثين سنة من الغزوات الموصولة أعقبها عام ( 483 هـ/ 1090 م) بالاستيلاء على مالطة رغم معارضة السفن البندقية له فتفاعل كل ذلك لخلق ما سمي بالحرب الصليبية الأولى حيث خرجت عام ( 490 هـ/ 1096 م) من غرب أوربا أشتات من البشر يقودها ( بطرس الناسك) و ( والتر المفلس) فوصلت إلى القسطنطينية كقوات إقطاعية تستهدف الغنائم في مسارها وكان أسطول جنوة والبندقية هو الذي أعان الجيوش الصليبية عام ( 464 هـ/ 1100 م) على الاستيلاء على ( يافا) دون أن يستطيع أسطول الفاطميين الوصول إلى

 

(1/1254)

 

 

المياه السورية لصد الصليبيين الذين بادر الأسطول المرابطي إلى مطاردتهم شرقي البحر المتوسط إلى سواحل الشام (1) والواقع أن القطع البحرية التي أنشأها ( يوسف بن تاشفين) قد خاضت غمار المتوسط في شقيه وانبرى الزعيم المرابطي قبل الحرب الصليبية الأولى لتحرير إمارات الطوائف فأحرز في معركة الزلاقة عام ( 479 هـ/ 1086 م) ضد ( ألفونس السادس) ملك قشتالة ( 1065 - 1109 م) نصرا تردد صداه في الشرق والغرب وذاع صيت القائد الظافر الذي لقب منذ ذلك بأمير المسلمين

__________

(1) تحدث بذلك الفونسو السابع ( راجع دوزي : تاريخ الإسلام).

 

(1/1255)

 

 

مع استمرار دعوته لدار الخلافة العباسية تركيزا للوحدة الكبرى وتكونت إمبراطورية واسعة ضمت الصحراء والمغارب الأربعة( ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى) والأندلس تحت الحكم المرابطي ثلاثة أرباع قرن إلى عام ( 537 هـ/ 1142م) وقد خلدت أغنية رولان( Roland) نشاط المرابطين في البحار.

وقد اقترن ظهور الموحدين بتزايد هجرة فلاسفة وعلماء الأندلس أمثال ابن رشد الفيلسوف ( المتوفى عام 595 هـ/ 1199 م) الذي كان أول من تحدث عن القارة الجديدة في ( بلاط الموحدين) بمراكش وعنه انطلقت فكرة وجود أرض يابسة وراء المحيط.

 

(1/1256)

 

 

وقد اعترف ( كريسطوف كولومب) نفسه (1) بأنه لم يشعر بهذا الوجود إلا بعد قراءة كتاب ( الكليات) في الطب لابن رشد "في مخطوطته اللاتينية" على أن مجلة "نيوزويك" الأمريكية (2) قد أكدت أن العرب انطلقوا قبل عام 1100 م أي عام 494 هـ/ أي قبل ( كريسطوف كلومب) بأربعة قرون من "أنفا" ( أي الدار البيضاء الحالية) فرسوا في عدة مواضع على الساحل الأمريكي.

__________

(1) أكد ذلك رونان في كتابه : Averroïs et l’Averroïsme, paris, 1923.

(2) في ( عدد أبريل 1960).

 

(1/1257)

 

 

وقد حدثنا الشريف الإدريسي في نزهته عن ( الفتية المغررين) الذين غامروا انطلاقا من "مرسى آسفي" في ثبج المحيط ووصلوا إلى بعض الجزر النائية كل ذلك انسياقا مع ما أشيع آنذاك خاصة بالأندلس من احتواء غرب " المحيط الأطلنطيكي" على جزر مكثفة تستحيل في نهاية المطاف إلى أرض يابسة شاسعة وقد كان للدراسات الميدانية التي قام بها ابن ماجد أسد البحر الهائج ربان ماهر من رأس الخيمة بالخليج العربي أثر فعال في توجيه الرحلات البحرية التي قام بها أوربيون عبر المحيطات ومنهم ماجلان البرتغالي ( Magellan) الذي حاول عام

 

(1/1258)

 

 

1519 م الوصول إلى أمريكا الجنوبية واكتشف المضيق الذي يحمل اسمه وهو البوغاز الفاصل بين جنوب أمريكا من أرض النار ( Terre de feu) ووصل إلى المحيط الشرقي الذي سماه بالهادئ وقبله فاسكو دوكاما الذي اكتشف طريق الهند عام 1497.

والواقع أن الموحدين الذين انطلقوا من الأطلس الكبير بالمغرب الأقصى لتوحيد المغرب العربي هو الذين واصلوا حمل مشعل الإسلام في البحر المتوسط الذي ظل العرب وحدهم سادته (1) طوال أكثر من قرنين وقد لخص ( ابن خلدون) هذه الظاهرة بقوله :

__________

(1) جوستاف لوبون، حضارة العرب، الطبعة الفرنسية، ص.284.

 

(1/1259)

 

 

" ( وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر ( أي الرومي، أو العربي) وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقية والمغرب فصارت مختصة بها وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيله عدو و لا كانت لهم به كرة فكان قواد الأسطول به ( لعهد لمتونة) بني ميمون (1)

__________

(1) ذكر ابن خلدون في تاريخه ( ج6، ص.161) أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين عام 416هـ الذي غزا صقلية وكذلك محمد بن ميمون.

وكانت المنارات البحرية في عهد أبي الحسن المريني ممتدة بين أسفي ومدينة الجزائر ( ابن مرزوق، "المسند" مجلة هسبريس، عام 1925 ،ص.61)

 

(1/1260)

 

 

رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المومن وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا، ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوت العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي...) إلى أن قال : ( وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه...) وهنا أشار إلى أن صلاح الدين الأيوبي ملك مصر والشام لما تتابعت أساطيل النصارى ضد ثغور الشام لم تقاومهم أساطيل الإسكندرية فأوفد الأيوبي

 

(1/1261)

 

 

ليعقوب المنصور عبد الكريم ابن منقذ ( من بيت بني منقذ ملوك شيرز الخ).

نعم استطاع عبد المومن بقطع بحرية بلغت الأربعمائة (1) تشكيل مليشية بحرية لمحاربة القراصنة المسلمين والمسيحين تعزيزا للنشاط التجاري في المتوسط وتخليص إفريقية من النورمانديين والضرب على أيدي الهلاليين والسليميين بعد أن بنى أعظم قاعدة استراتيجية في المتوسط هي قاعدة جبل طارق في ( سنة الأخماس) ( 555 هـ/ 1160 ) وقد رابطت منها في مرسى المعمورة بحلق البحر على

__________

(1) ابن أبي زرع ( القرطاس، ج 2، ص.164 ؛ الاستقصا، ج 1، ص.158 و ج 2، ص.128).

 

(1/1262)

 

 

وادي سبو قرب سلا وحدها مائة وعشرون قطعة وقد جعل أبو يعقوب يوسف بن عبد المومن من هذا الأسطول أعظم أسطول في المتوسط (1) .

وقد ازدهرت حضارة جديدة في البحر المتوسط من الأندلس إلى ليبيا إلى الصحراء بزعامة يعقوب المنصور منذ ظفره على الصليبية المتكتلة في وقعة الأرك ( 591 هـ/ 1195 م) أي بعد ( وقعة حطين) بثمانية أعوام وشعر البابا إينوسان الثالث ( Innocent III) بالخطر الداهم فتكاثفت البابوية مع ملك قشتالة ( ألفونس الثامن) ( 1158 - 1164 م) وأسقف طلطلية (

__________

(1) اندري جوليان، تاريخ إفريقيا الشمالية،ص.412.

 

(1/1263)

 

 

رودريك جيمنيز) للهجوم من جديد على الإسلام المتوثب في ( وقعة العقاب) ( 609 هـ/ 1212 م) التي كانت هزيمة شنعاء ضعضعت مقومات الإمبراطورية الموحدية في الغرب في نفس الوقت الذي بدأ المسيحيون يندحرون في مصر خلال الحرب الصليبية الخامسة ( 616 هـ/ 1219 م) حيث طردوا نهائيا من الأماكن المقدسة بعد ( معركة غزة) ( 642هـ/ 1244 م) واتجه المرينيون يلمون الشمل معيدين للبلاد وحدتها في حدودها الإفريقية مع الحفاظ على جانب من الأسطول مكنهم من الجواز مرارا إلى الأندلس لإنقاذ الدولة النصرية ( دولة بني الأحمر) التي ضيق

 

(1/1264)

 

 

عليها الخناق ( ألفونس العاشر).

وفي عام ( 684 هـ/ 1285 م) نزل السلطان يعقوب المنصور المريني في ( الجزيرة الخضراء) بقصره من المدينة الجديدة التي بناها بإزائها فبرزت الأساطيل وكان عدد قطعها آنذاك ستا وثلاثين متكاملة في عدتها - وهو جالس بمشور قصره فلعبت بمرأى منه في البحر وتجاولت وتناطحت وتطاردت كفعلها مع العدو ساعة الحرب (1) .

وظلت سبتة منطلق الإنقاذ إذ عندما حدث الخلاف بين يعقوب المنصور المريني وابن الأحمر عام ( 678هـ/ 1279 م) تجمعت بمرفأ سبتة أساطيل منها خمس وأربعون قطعة

__________

(1) الاستقصا،ج 2، ص.30.

 

(1/1265)

 

 

لأبي حاتم العزفي واثنتا عشرة لابن الأحمر انطلقت من المنكب وألمرية ومالقة وخمس عشرة قدمت من بادس وسلا وأنفا التحمت مع أربعمائة قطعة للعدو فملكتها وأسرت قائدها ( الملند) الذي نقل أسيرا إلى فاس (1) وكان أبو الحسن بن كماشة قائد البحر بسبتة عام ( 409 هـ/ 1309 م) أيام استيلاء بني الأحمر على المدينة وعندما عاد أبو الحسن المريني عام ( 750 هـ/ 1349 م) من تونس بعد مقام طال عاما ونصفا وبعد أن عقد لابنه أبي الفضل نزل أسطوله بمرسى بجاية بعد خمس ليال من إقلاعه من تونس ثم أبحر من جديد فتكسرت

__________

(1) نفسه،ج2،ص.25.

 

(1/1266)

 

 

أجفانه وقذف الموج بالسلطان على حجر قرب الساحل م بلاد ( زواوة) حيث تداركه جفن من بقية الأساطيل وكانت الأساطيل ( حسب " نفح الطيب" ) نحو ( الستمائة) غرقت كلها وهلك من أعلام المغرب نحو أربعمائة عالم منهم ( محمد بن سليمان السطي) شارح " الحوفي" و ( محمد بن الصباغ المكناسي) وأبو العباس ( الزواوي) وقد ذكر الآبي في شرح "مسلم" عند كلامه على أحاديث العين أن مصاب هذا الأسطول بنظرة عائن كان معروفا بتلك الديار (1) وكان ابن فرحون زيد هو قائد أسطول بجاية أيام الحفصيين وقد شارك (2)

__________

(1) نفسه، ج2،ص.84.

(2) نفسه، ج2،ص.66.

 

(1/1267)

 

 

بست عشرة قطعة بحرية في ( وقعة طريف) عام ( 740 هـ/ 1339 م).

والأسطول المريني قد ورد وصفه في رحلة أبي عنان المريني المسماة" فيض العباب"لإبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الحاج مع ذكر أسماء بعض رؤسائه وشاراته وأعلامها وموسيقاهم، أما الأسطول السعدي فلم يكن له دور كبير في الحروب ولكنه استفاد ماديا من هجمات القراصنة على شواطئ الأندلس وكان وجوده يشكل وسيلة ضغط على إسبانيا والبرتغال اللتين كانت تذكران ما قام به الأسطول في عهود المرابطين والموحدين والمرينيين وكان قد مر قرنان إثنان على انهيار الأسطول

 

(1/1268)

 

 

المريني في عهد أبي الحسن فكانت المحاولة الجديدة عام ( 956 هـ/ 1549 م) جديرة بإثارة الانتباه وكان لربابنة المغرب صيت كبير في الشرق العربي جعلت السلطان شعبان المملوكي يختار لرياسة الصناعة بالإسكندرية عام ( 769 هـ/ 1368 م) الرايس إبراهيم التازي وقد أصبح القراصنة يعيشون في البحار وفي مراسي المغرب فرابط منهم أتراك الجزائر في ( العرائش) حيث امتدت أوكار قرصانية في موانئ أخرى كتطوان وبادس بل إن القرن الخامس عشر الميلادي أي التاسع الهجري شهد استيلاء البرتغاليين على معظم المراسي في مصبات الأنهار المغربية

 

(1/1269)

 

 

الأمر الذي حال دون قيام أسطول مغربي وقد بدأ ذلك باحتلال سبتة عام ( 818 هـ/ 1415 م) فلهذا حاول محمد الشيخ السعدي تكوين ( أسطول بحري) بالإضافة إلى وحدات كانت في ملك رؤساء تطوان وبادس بالريف قرب غابات البلوط والأرز والصنوبر وورش آخر في سلا وقد بنيت أربعة مراكب في بادس وأربعة أخرى في سلا عام ( 956هـ/ 1549 م) بالإضافة إلى مركبين مجذافيين أو شراعيين وثلاثة مراكب مجذافية وطلب محمد الشيخ من أبي حسون الوطاسي أمير بادس التعاون معه على صنع ( مائة مركب) و ( مائة أخرى) مسطحة لنقل الجند ولكن أبا حسون لم يكن

 

(1/1270)

 

 

يثق بالسلطان السعدي ففر إلى مليلية في نفس السنة ولعل السعديين كانوا يستهدفون من أسطولهم تحرير الجيوب البرتغالية الثلاثة التي كانت تقاوم خلال الحصار نظرا لما يتوارد عليها من إمدادات من جهة البحر ولكن الحرب التي نشبت بين الأتراك والسعديين عام ( 959 هـ/ 1551 م) وتهديد الأتراك للمغرب حال دون استمرار السعديين في تعزيز أسطولهم فاضطروا إلى مهادنة الإسبان والبرتغال.

ففي عهد ( عبد الله الغالب بالله) كان الأسطول الحربي يتوفر على نحو ثلاثين مركبا بلغت الأربعين ضد بداية ثورة الأندلسيين في جبال غرناطة عام (

 

(1/1271)

 

 

976 هـ/ 1586 م) وقد تعزز الأسطول السعدي بالأجفان الجهادية التي يصفها الغربيون بالسفن القرصنية والتي كانت تهاجم السواحل الإسبانية انتقاما من الاسبان الذين طردوا الأندلسيين من آخر معقل لهم بغرناطة آخر القرن الخامس عشر الميلادي ( التاسع الهجري) ومهما يكن فإن الأسطول احتفظ بهذا العدد من القطع عام ( 985 هـ/ 1577 م) في عهد ( المولى عبد المالك ولم يكن أسطول ( دايات) الجزائر أكثر عددا ولكنه كان أجود نظرا لتقلص التقاليد البحرية بالمغرب خلال قرنين ومع ذلك فالمهم هو شعور الملوك السعديين بأن تعزيز وضعهم في

 

(1/1272)

 

 

إفريقيا والبحر المتوسط لا يمكن أن يتم بدون أسطول إذ بفضل هذا الأسطول اضطر البرتغاليون إلى الجلاء عام ( 957هـ/ 1550 م) عن مراكز قوية في الساحل المغربي مثلا أصيلا والقصر الصغير وهنا شعر المنصور السعدي بالخطر البرتغالي الذي كان يهدد المغرب من الجنوب انطلاقا من ( نيجيريا) التي كان البرتغاليون يحتلونها فبادر باحتلال ما وراء تخوم المغرب الجنوبية إلى السودان للوقوف في وجه البرتغاليين لهذا لم يعد للأسطول وجود بالمغرب بعد ذلك رغم انتصاره في معركة وادي المخازن عدا أسطول القراصنة بعدوتي سلا والرباط في

 

(1/1273)

 

 

الفترة المتراوحة بين ( 1040 هـ/ 163 م) و ( 1050 هـ/ 1640م) حيث بلغت وحداته الحربية نحو ثلاثين امتد نشاطها القرصني إلى ايرلندا شمالا والجزر الخالدات جنوبا (1) .

ولم يكن لأحمد المنصور في مرسى العدوتين مراكب لمحاربة الاسبان (2) وقد أشار صاحب "تاريخ الدولة السعدية" إلى الأسطول السعدي في العرائش والعدوتين وحاول مولاي زيدان بعد معاهدة ( 1610 م/ 1019 هـ) بين المغرب وهولندا تكوين أسطول وقد صنعت بالفعل قطع أولى من الأسطول هي ثلاث سفن وقيل خمس (3)

__________

(1) هسبريس - تمودة ، م 3، 1972.

(2) دوكاستر، ص1، م1،ص.504.

(3) درة الحجال، ح1، ص.313.

 

(1/1274)

 

 

كما وصل إلى أسفي أربعة مراكب (1) وقد هاجم الإسبان هذا الأسطول في مرسى العدوتين (2) وفي عام ( 1019 هـ/ 1610 م) توجه القائد أحمد بن عبد الله إلى ( روتردام) بهولندا وطلب تزويد السلطان بعدة سفن حربية فوافق المجلس على ذلك وقرر إنشاء ثلاثة أو أربعة مراكب من حمولة مائتي طن مع تجهيزها بالملاحين والمدافع وعين لها قائد أعلى هو ( Martin Van Rysbergen) مع إمكان تزويد المغرب بالربابين والسفن والعتاد وقد أمضيت في ( 20 دجنبر 1610

__________

(1) دوساستر ، س.أ. هولندا ، م2، عام 1612؛ فرنسا م2؛ عام 1611.

(2) م2، فرنسا،ص.534.

 

(1/1275)

 

 

م / 1019 هـ) معاهدة ضمنت عدم تصادم مراكب البلدين في البحر وعدم بيع أسلاب القراصنة ضد السفن الهولندية في أسواق المغرب، ويظهر أنه بعد أن طلب السلطان مولاي زيدان من فرقاطتين أي حراقتين (1) وقد وجهتا إلى المغرب بخفارة بارجة عام ( 1622 م) ولكنهما وصلتا إلى مياه إنجلترا وعادتا لعدم استطاعتهما مواجهه أمواج عرض المحيط أما بخصوص المراكب الأخرى في المتوسط فقد نقل محمد داود في تاريخ تطوان (2)

__________

(1) دوكاستر، س.أ ، السعديون، ج3، ص.188 و 371.

(2) ج1، ص.392 ط تطوان 1379 . راجع : "حق تملك حطام السفن في العهد السعدي" في دوكاستر، السعديون، السلسلة الأولى،م1، ص.186.

 

(1/1276)

 

 

عن "رحلة" محمد بن علي الرافعي إلى الحجاز أن المؤلف نزل بجزيرة ( رودس) التركية في مركب الرئيس محمد عروج فوجد في الجزيرة ثلاثين سفينة منها واحدة فيها خمس طبقات و 75 مدفعا من النحاس وأن تلك السفن صنعها السلطان ( محمد خان) بالقسطنطينية.

وكانت الأساطيل القرصنية محط رعاية المولى الرشيد بمصب أبي رقراق لأنها كانت تشكل حاجزا دفاعيا ضد المغير الأوربي الذي بدأ يتعلل آنذاك بأبسط الأسباب للتدخل في المغرب وكان هذا الأسطول يقض مضاجع الغربيين الذين انبثوا على الساحل فالأنجليز في طنجة والبرتغاليون في البريجة (

 

(1/1277)

 

 

الجديدة) والإسبان في المعمورة ( مهدية) وأصيلا والعرائش بينما كان الفرنسيون يمخرون بسفنهم الحربية على طول المراسي المغربية بين الريف ومصب الملوية عباب البحر الأبيض المتوسط حيث حصن المولى الرشيد مرسى الحسيمة ( أو المزمة) وحجرة نكور وصارع الإنجليز الذين كانوا يعملون وراء الخضر غيلان.

و أول من وضع الأسس لبناء أسطول وطني قوي في العهد العلوي سيدي محمد بن عبد الله كان للمغرب في عهده ( حسب الناصري) خمسون سفينة منها ثلاثون حراقة ( أو فرقاطة) بقيادة ستين رئيسا أو ضابطا يشرفون على خمسة آلاف بحار وألفين من

 

(1/1278)

 

 

الرماة إلا أن الرحالة هوست ( Host) أوصل عدد هذه المراكب إلى انثي عشر فقط وقد انحدرت عام ( 1180 هـ/ 1766 م) إلى عشرة حسب شيني ( Chénier) (1) ويظهر أن الأسطول

__________

(1) مذكرة القنصلية الفرنسية العامة، الدار البيضاء عام 1943، ص.103.

وقد وجه محمد الثالث سفيره الضابط البحري الحاج التهامي الرايس عام ( 1177 هـ/ 1763 م) إلى السويد لشراء مواد بناء السفن والبارود كما وجه سفيره عبد الكريم ركون عامي 1167 هـ/ 1768 م إلى الأستانة لشراء قطع المدافع والبارود والعتاد وجلب خبراء ربانيين ورماة وإحياء دار الصناعة بسلا.

 

(1/1279)

 

 

العلوي ارتفع بعد بضع سنوات أي ( 1185 هـ/ 1771 م) إلى عشرين قطعة وهكذا شرع السلطان سيدي محمد بن عبد الله منذ بداية عهده في صنع مراكب في ( دار الصناعة) بأبي رقراق جهز كل واحد منها ببطاريات يبلغ عدد مدافعها ما بين ( 26 ) و ( 36 ) على أن بعض المراكب مثل الحراقة التي كانت تحت إمرة الرايس الطرابلسي بلغ عدد مرافعها ( خمسة وأربعين) وكانت بتطوان أيضا دور لصناعة السفن في العهد العلوي وقد وجه السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى كل من ( السويد) و ( إنجلترا) شبانا من مدينة الرباط للتدريب على بناء السفن

 

(1/1280)

 

 

والمراكب كما وجه ستمائة رجل من ( آية عطا) بالصحراء وأربعمائة من تافلالت إلى طنجة للتمرن على المناورات البحرية (1) .

والواقع أن السلطان محمد بن عبد الله ركز مقومات الحضارة وواصل تحرير الثغور وكون أسطولا قوامه خمسون سفينة معظمها حراقات حربية تحتوي على ستين قائدا" وأربعين ألف" بحار ووطد العلاقة مع الدول الإسلامية والدول الأوربية على السواء وأمضى معاهدات مع الولايات المتحدة التي كان أول من اعترف بها ومع أمم بروتستانتية كالدول الأسكندنافية تحقيقا للتوازن مع الدول

__________

(1) Caillé ، تاريخ الرباط، ص.132.

 

(1/1281)

 

 

اللاتينية الاستعمارية ومدافعة للبابوية الناقمة وكانت أوربا في غمرة من الاضطرابات زادها تأججا انبثاق الاستعمار الناشئ والتسابق نحو غزو الشرق الأقصى وتعزيز الصناعة الأوربية بمواده الأولية بينما كانت الإمبراطورية العثمانية تسير في طريق الأفول تحت ضربات الأحلاف الأوربية - وخاصة منها الحلف المقدس ( Sainte - Alliance) عام ( 1815 ) - التي أدت إلى تجريد ملك المغرب ( سليمان بن محمد بن عبد الله ( 1206 هـ/ 1238 ) - ( 1790 - 1820 ) من أسطوله بدعوى مساندته للقراصنة وحاول ( نابليون) آنذاك الضغط على المغرب

 

(1/1282)

 

 

للانضمام إلى كتلة الحصار القاري (1) وشعر العرش المغربي بالدور الذي بدأت فرنسا تقوم به لاحتلال الشمال الإفريقي.

وفي نفس الفترة كانت بعثة من الخبراء الأتراك تقوم بتكوين رماة الجيش المغربي وفي ( 1204 هـ/ 1789 م) وأواخر أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله كانت البحرية المغربية تتكون من 6 إلى 8 فركاطات تحتوي على مائتي فجوة للمدافع بالإضافة إلى 14 أو 18 مدفعا وغليونة وهي مراكب شراعية صغيرة وفي أول عهد مولاي سليمان عام ( 1208 هـ/ 1793 م) بلغت عشر فراكيط وأربع قلعية شرعية

__________

(1) Caillé، تاريخ الرباط، ص.132.

 

(1/1283)

 

 

وأربعة عشر غليونة وتسعة عشر مركبا مدفعيا مجهزة بستة آلاف مدفعا مجهزة بستة آلاف بحار ممتاز وفي عام ( 1299 هـ/ 1620 م) ثلاث قلعيات وأربعين مدفعا وثلاثة عشر مدفعيا (1) وكانت البحرية الملكية تتوفر عام ( 1793 م / 1208 هـ) عند اعتلاء المولى سليمان على عشر حراقات ( أو فرقاطات) و أربع قلعيات ( أي سفن شراعية ذات قلوع) وأربعة عشر غليونا ( مثل الذي كان الهولنديون يستعملونها للصيد) وتعسة عشرة من زوارق الإنقاذ المجهزة بالمدافع كل ذلك بتعزيز من ستة آلاف بحار من

__________

(1) كودارج، وصف وتاريخ المغرب، ج1، ص.156.

 

(1/1284)

 

 

الملاحين ذوي الشهرة والصيت (1) وقد اعترض الأسطول المغربي عام ( 1217 هـ/ 1803 م) الأسطول الأمريكي المحاصر لطرابلس ففك هذا الحصار ثم بدد الأسطول المغربي عمارة ثانية (2) وفي نفس هذه السنة عقد المولى سليمان الصلح مع الولايات المتحدة على يد الإنجليز لفك الأسارى مع رئيسهم إبراهيم لباريس وعلي بن عبد الرحمن الزناتي ( "تاريخ الضعيف" ،ص.326 ) وكانت مدة اجتياز السفن لعرض البحر الفاصل بين فرنسا والمغرب يتطلب فترة طويلة فقد قطعت السفينة

__________

(1) المصدر نفسه، ص.136.

(2) محمد بن علي الدكالي، جريدة المغرب، رقم346.

 

(1/1285)

 

 

الفرنسية التي حملت سفير فرنسا لدى المولى إسماعيل سانت - أولون ( S.Olon) في مايه ( 1963 ) ثمانية وعشرين يوما بين فرنسا وفرضة تطوان (1) وكانت السفن تدعى أحيانا باسم خاص مثل ( غراب دار الصنعة) الذي تحدث عنه خالد البلوي في رحلته ( " تاريخ المفرق") حيث ركب فيه من ألمرية إلى الحج عام ( 735 هـ/ 1334 م) فنقله من ألمرية إلى ( هنين) (2)

__________

(1) وثائق دوكاستر، ص.2؛ الفلاليون ، فرنسا م 4، ص.1963 - 1698 .

(2) مرسى هنين مركز في ساحل تلمسان توجد فيه بلدة ( تاجرة) التي ينتمي إليها عبد المومن بن علي ( معجم البلدان ، ج 8، ص.484 ) أنشأ جامعها أبو الحسن المريني.

 

(1/1286)

 

 

وقد تطور على نفس النسق الأسطول الرحماني ( 1243 هـ/ 1827 م) بين المد والجزر.

 

(1/1287)

 

 

الأسانيد القانونية المثبتة تبعية الجزر العربية الثلاث لدولة الإمارات العربية المتحدة

المستشار عبد الوهاب

قاضي بالمحكمة الاتحادية العليا - أبو ظبي

مقدمة

في الساعة الثنية والنصف من صباح يوم 30/11/1971 اجتاحت القوات البحرية الإيرانية - قبل فقط من إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وإنهاء معاهدات الحماية البريطانية لمشيخات ساحل عمان، الحدود البحرية المتحدة لإمارتي الشارقة ورأس الخيمة إثر هجوم غازية ثلاث جزر عربية في الخليج العربي هي : أبو موسى، طنب الكبرى وطنب الصغرى ومعلنة احتلالها

 

(1/1288)

 

 

(استرجاعها إلى الوطن الأم بعد أن اقتطعها بريطانيا قبل ثمانين عاما كما جاء في الخطاب السياسي الإيراني)،

... وقد أثار الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث ردود فعل عربية محلية وإقليمية على المستويين الرسمي والشعبي تمثلت في إصدار العديد من بيانات الشجب والاستنكار، واندلاع المظاهرات في معظم عواصم العال العربي، فضلا عن تحرك دبلوماسي تمثل في تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية.

... ولحد الآن، ورغم مرور أكثر من ثلاثة وعشرين عاما على احتلالها، فلا زال ملف هذه المشكلة مفتوحا ودون حل، وقد أثبتت

 

(1/1289)

 

 

الأحداث أن مثل هذه المشاكل تكون دائما

مصدر تهديد خطير للأمن والسلم الدوليين. فالادعاءات الإيرانية في شط

العرب أدت إلى حرب ضروس بين العراق وإيران استمرت ثمانية أعوام )حرب

الخليج الأولى) والادعاءات العراقية في الكويت أدت إلى اجتياح العراق للكويت واحتلالها وما ترتب على ذلك من نتائج وخيمة أبرزها اندلاع حرب دولية في الخليج العربي ( حرب الخليج الثانية).

... ورغم أن الحكومة الإيرانية قدمت عدة تبريرات يستند بعضها على التمسك بفكرة الحق التاريخي، ويستند بعضها الآخر على مقولة الاعتداد بالمصالح ذات الطبيعة

 

(1/1290)

 

 

السياسية سعيا منها لإضفاء المشروعية على احتلالها، إلا أن تبريراتها ظلت عاجزة عن أن تقدم أساسا صالحا يمكن الارتكاز عليه لإضفاء المشروعية على احتلالها.

... وبالمقابل فإن دولة الإمارات تؤسس حقها في استرجاع جزرها المحتلة على أسانيد تاريخية وسياسية وجغرافية وقانونية تقطع جميعها بعروبة الجزر وتبعيتها الواقعية والقانونية لها. ولما كان تناول كافة هذه الأسانيد بالشرح والتحليل والتعقيب يقتضي من الباحث فيها معرفة تامة بأحداث التاريخ ووقائعه وخفايا السياسة ومجاهلها، ومعطيات الجغرافية وحقائقها، وفقه القانون

 

(1/1291)

 

 

وحكمه وهو ما لا ندعيه ومن ثم فإن الحديث في هذه الورقة سيقتصر على شرح موجز - بقدر المعلومات المتواضعة لمعد هذه الورقة - عن الأسانيد القانونية المثبتة تبعية الجزر الثلاث لدولة الإمارات العربية المتحدة لما هذه الأسانيد من أهمية علمية في النزاع القائم بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة حول الجزر الثلاث.

... بيد أنه وقبل الولوج في بيان الأسانيد القانونية، فإنه من المستحسن التعرض ولو بشيء من الإيجاز للموقع الجغرافي للجزر وأهميتها الاستراتيجية، وذلك بغية الوصول إلى فهم أفضل لطبيعة النزاع من

 

(1/1292)

 

 

جانبه الاستراتيجي.

I- الموقع الجغرافي للجزر العربية الثلاث

1- جزيرة أبو موسى :

... وهي إحدى الجزر التابعة لإمارة الشارقة، ( إمارة الشارقة إحدى الإمارات

الأعضاء في الاتحاد). تقع جزيرة أبو موسى على بعد (94) ميلا من مدخل الخليج

العربي (مضيق هرمز) قبالة ساحل إمارة الشارقة، وتبعد عن مدينة الشارقة على

الساحل الغربي للخليج العربي بحوالي (45) ميلا تقريبا و (50) ميلا تقريبا عن الساحل الشرقي للخليج.

... والجزيرة ذات شكل طولي تبلغ مساحتها حوالي (35) كيلومترا مربعا. بتكون سطح الجزيرة من سهول منخفضة خالية

 

(1/1293)

 

 

من الأشجار عدا بعض المساحات القليلة التي تتواجد قرب آبار المياه العذبة. ويوجد على أرض الجزيرة مرتفع ذو صخور بركانية يزيد ارتفاعه عن ( 500) قدم.

... تمتاز الجزيرة باعتدال مناخها صيفا ودفئها شتاء حيث عليها الأمطار في فصل الشتاء فنبتت فيها الأعشاب الصالحة للرعي. تحتوي أراضي الجزيرة على معادن كثيرة أهمها البترول وأكسيد الحديد الأحمر وكبريتوز الحديد.

... كما تمتاز الجزيرة بعمق المياه المحيطة بها لتتيح فرصة جيدة لصيادي الأسماك من الاصطياد بها، حيث يبيعون ما يصطادونه، إما للسفن العابرة للجزيرة أو في

 

(1/1294)

 

 

أسواق الشارقة ودبي وأبو ظبي.

... يقطن الجزيرة حوالي ألف وسبعمائة نسمة جميعهم من العرب الأصليين الذين ينتمون إلى القبائل العربية في الساحل الغربي، ويعمل معظمهم في مجال الصيد والنقل البحريين، وإلى جانب سكان الأصليين يسكن الجزيرة بعض أبناء الدول العربية الذين يعملون في مجال التدريس والصحة، وبعض الآسيويين الذين يؤدون أعمال خدمية، وفي السنوات الثلاث الأخيرة شجعت إيران موظفيها في الجزيرة على استقدام عائلاتهم للسكن والإقامة فيهما.

2- جزيرة طنب الكبرى :

 

(1/1295)

 

 

... وهي إحدى الجزر التابعة لإمارة راس الخيمة، وتقع هذه الجزيرة على مدخل مضيق هرمز إلى الشمال من جيرة أبو موسى وتبعد عنها حوالي (50) كيلومترا، وتبعد عن رأس الخيمة بمسافة ( 75) كيلومترا وعن الساحل الشرقي للخليج مسافة (50) كيلومترا، تبلغ مساحتها حوالي ( 20) كيلومترا مربعا.

... تمتاز الجزيرة بسطحها المنبسط، وتوفر المياه العذبة والمراعي فيها.

... وقبل احتلالها كان يسكنها حوالي سبعمائة شخص من العرب الذين ينحدرون من قبائل تميم وحريز، وقد قامت إيران بتهجيرهم قسرا إلى رأس الخيمة.

 

(1/1296)

 

 

تتوفر الجزيرة على معدن النفط، وتوجد بعض الأجهزة الخدمية كالمدارس والعيادات ومركزا للشرطة وفنارا لإرشاد العابرة للخليج أقيم عليها عام 1912 بموافقة حاكم رأس الخيمة آنذاك سالم بن سلطان القاسمي.

3- جزيرة طبن الصغرى :

... وهي إحدى الجزر التابعة لإمارة رأس الخيمة أيضا، تقع هذه الجزيرة عند مضيق هرمز على بعد (10) كيلومترات غرب جزيرة الكبرى، تقدر مساحتها باثني عشر كيلو مترا مربعا.

... تبعد جزيرة طنب الصغرى عند الساحل الشرقي للخليج العربي حوالي (45) كيلومترا، وعن الساحل الغربي حوالي (81)كيلومترا. تتكون

 

(1/1297)

 

 

أراضيها من تلال صخرية داكنة اللون تقع في أطرافها الشمالية.

... والجزيرة مجدبة وغير مأهولة بالسكان نظرا لعدم توفر المياه العذبة فيها، يلجأ إليها الصيادون عند اشتداد الرياح وتشير التقارير الأولية لبعثات التنقيب عن النفط إلى وجود كميات كبيرة من هذا المعدن فيها.

II - الأهمية الاستراتيجية للجزر العربية الثلاث

... تستقي الجزر العربية الثلاث أهميتها الاستراتيجية من الأهمية الاستراتيجية للخليج ذاته. فعبر بوابة هذا الخليج (مضيق هرمز) يمر 86% من صادرات نفط الشرق الأوسط إلى العالم الصناعي، ومن دوله تستورد

 

(1/1298)

 

 

الولايات المتحدة الأمريكية ما يزيد على 60 % من احتياجاتها البترولية. وتختزن دولة في باطن أراضيها أكبر مخزون نفطي في العالم.

... وعبر هذه البوابة تصل إلى دول الخليج أكثر من 45 % من صادرات الدول الصناعية، فضلا عما يمثله موقع الخليج الجغرافي كمنطقة لطرق المواصلات البحرية بين آسيا وإفريقيا وأوروبا.

... ووسط هذه المعطيات تأتي الأهمية الإستراتيجية للجزر الثلاث. فبحكم موقعها

الجغرافي في الخليج تتحكم هذه الجزر في الممرات الملاحية الدولية في الخليج

 

(1/1299)

 

 

العربي المحددة من طرف المنظمة البحرية الاستشارية بين الحكومات (الأمكو) فقد حددت هذه المنظمة الممرات الملاحية في الخليج العربي في ثلاث مناطق هي :

1- منطقة مضيق هرمز

2- منطقة جزر الطنب فارور

3- منطقة رأس تنورة

... تقع المنطقة الثانية في الجهة الجنوبية للخليج العربي باتجاه غرب مضيق هرمز، وتمتاز بكثرة وأهمها جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى وصري وفارور، إضافة إلى عمق مياهما وكثافة حركة الملاحة فيها وازدحامها، ولذلك فقد رسمت (الأمكو) خطين لمرور السفن فيها يقع الخط الأول في الشرق ويتجه نحو الخليج

 

(1/1300)

 

 

العربي، بينما يقع الخط الثاني في الغرب ويتجه خارج الخليج العربي وقد أنشأت (الأمكو) ممرات ملاحية في الخطين المشار إليهما.

... وبسبب كثافة حركة الملاحة في المنطقة الواقعة بين مدخل مضيق هرمز وحتى جزيرة فارور، فإن الملاحة فيها تخضع للقواعد وضعتها منظمة ( الأمكو)ن وبموجب هذه القواعد فهناك مسار للسفن الداخلة إلى الخليج ويحاذي هذه المسار الساحل الإيراني، ومسار آخر للسفن الخارجة من الخليج ويحاذي الساحل العربي، ويبعد هذا المسار الخارج من الخليج شمالا عن جزيرة طنب الكبرى وطنب الصغرى تشرفان على المسارين ،

 

(1/1301)

 

 

بينما يشرف الجزء الشمالي من جزيرة أبو موسى على الجهة الجنوبية للمسار البحري الخارج من الخليج، ولذا فإن معظم القوات الإيرانية التي تحتل الجزيرة اتخذت مواقعها في شمال الجزيرة وذلك لما يمثله هذا الجزء من أهمية استراتيجية كنقطة إشراف ومراقب على خطوط الملاحة الدولية في الخليج.

... فالجزر العربية الثلاث إذن في مواقعها هذا أشبه بالصمام الذي يتحكم في الشريان المائي والملاحي الذي يمثله الخليج العربي المرتبط ببحر العرب والمحيط الهندي من جهة الشرق والبحر الأحمر من جهة الغرب.

 

(1/1302)

 

 

... وبحكم موقعها الجغرافي أيضا فإن الجزر العربية الثلاث صالحة للاستخدامات العسكرية، وهذا ما فعلته إيران مؤخرا في جزيرة أبو موسى حيث عززت قواتها العسكرية في الجزيرة وزادت أعداد العسكريين فيها من 120 إلى 500 عسكري ونصبت قواعد لصواريخ سيلك وروم وأنشأت مطار عسكريا.

... وفي إطار الأهمية الإستراتيجية للجزر، فإن الجزر الثلاث تتوفر على بعض المعادن والترواث الطبيعية كالبترول وأوكسيد الحديد الأحمر ومصائد الأسماك واللؤلؤ الطبيعي.

 

(1/1303)

 

 

III - الأسانيد القانونية المثبتة تبعية الجزر الثلاث لدولة الإمارات العربية المتحدة

... دون ما بحق عن الدوافع التي حدث بإيران على المطالبة بالجزر العربية الثلاث، ومن ثم احتلالها بالقوة العسكرية في الثلاثين من نوفمبر عام 1971، فإن الذي لا خلاف عليها أن عروبة الجزر الثلاث وتبعيتها لقواسم عمان ( الشارقة ورأس الخيمة) لم تكن محل إنكار أو اعتراض من جانب الحكومات الفارسية المتعاقبة .

... وأول مطالبة فارسية بملكيتها وتبعيتها لفارس جرت في عام 1887 م على أساس أنها من ملحقات إمارة لنجه التي أصبحت منذ هذا

 

(1/1304)

 

 

التاريخ جزءا من أراضي التاج الفارسي (1)

__________

(1) لنجة) : إمارة عربية ظهرت على الساحل الشرقي للخليج العربي ضمن إمارات عربية أخرى، وقد آل أمر الحكم فيها إلى أسرة القواسم منذ القرن السابع شعر وحتى سوقطها عام 1887م. عرف حكامها القواسم ب "قواسم الساحل الشرقي" تمييزا لهم عن أبناء عمومتهم قواسم عمان "الشارقة ورأس الخيمة".

من أشهر حكام هذه الإمارة القاسمية الشيخ قضيب بن راشد بن مطر القاسمي وابنه الشيخ محند بن قضيب، والشيخ سعيد بن قضيب والشيخ خليفة بن سعيد القاسمي وابنه الشيخ محند بن قضيب، والشيخ سعيد بن قضيب والشيخ خليفة بن سعيد القاسمي وابنه الشيبخ علي بن خليفة القاسمي والشيخ محمد خليفة القاسمي.

تولى حكم هذه الإمارة في الفترة ( 1874- 1886) أحد أعيان الأسرة القاسمية ويدعى يوسف بن محند الذي عين وصيا على الشيخ يوسف بن محمد الطي عين وصيا على الشيخ علي بن خليفة فخان الثقة التي أولتها له الأسرة القاسمية إذ قام باغتيال الشيخ علي قدرا وغيلة، وحكم الإمارة وفي عهده بدا التدخل الفارسي في الشؤون الداخلية للنجة، فكان ذلك بداية النهاية لهذه الإمارة، وهذا ما دعا الحكومة الفارسية إلى القول بان يوسف بن محمد مؤسس السيادة الفارسية عل لنجة وأحد رعاياها.

 

(1/1305)

 

 

،

ثم تبعتها مطالبات أخرى لاحقة خلاب الأعوام : 1904،1925، 1928، 1934،1951،1961،1964

اقترنت بأفعال تمثلت في إنزال العلم الفارسي بدلا منه، وتفتيشها بين الحين والآخر، واحتجازا مراكب وسفن تابعة لأهالي الإمارات وإجراء المناورات البحرية داخل الجزر وفي مياهها الإقليمية ، وإرسال موظفين إيرانيين إليها لإجراء تعداد سكاني لها ، و إرسال طائرات إيرانية إليها لالتقاط صور لها ... الخ ، وانتهت هذه الأعمال باحتلالها عسكريا عام 1971(1)

__________

(1) الواقع أن أطماع إبران في جزر الخليج العربي لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ بيد أنها ظهرت بشكل واضح في عهد الدولة الصفوية وبالتحديد في زمن ناصر الدين شاه الصفوي الذي اتخذ سياسة توسعية نشيطة في الخليج العربي، ثم امتدت هذه السياسة التوسعية لتطال الجزر التي كانت تحت السيادة العربية، فاحتلت الجزر التي كانت تحت السيادة العربية، فاحتلت جزر الجسم وهنسجان وفارور و قيس و سري ...الخ، وكانت آخر ثلاث جزر عربية احتلتها إيران عام 1971 هي جزيرة أبو موسى طنب الكبرى وطنب الصغرى في عهد الأسرة البهلوية.

 

(1/1306)

 

 

.. وكانت هذه الانتهاكات تواجه باحتجاجات شديدة من جانب حاكمي الشارقة ورأس الخيمة .

... ومنذ احتلالها ودولة الإمارات العربية المتحدة تسعى جاهدة نحو استرجاعها بكافة الطرق والوسائل السلمية ، وهي في سعيها هذا تنطلق من ثوابت أربعة أساسية هي :

أولا : أن الجزر الثلاث عربية الموقع والتاريخ والثقافة .

ثانيا : إنها جزء لا يتجزأ من تراب دولة الإمارات العربية المتحدة .

ثالثا : إنها محتلة عسكريا من طرف إيران .

رابعا : إن على دولة الإمارات واجب استرجاعها بكافة الطرق والوسائل السلمية .

 

(1/1307)

 

 

... تؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة حقها في استرجاع جزرها على أسانيد تاريخية وسياسية ، وجغرافية وقانونية وتقدم الأسانيد القانونية على المحاور التالية :

1- أسانيد قانونية مبنية على القيمة الاستدلالية للوثائق .

2 - أسانيد قانونية مبنية على القوة الإلزامية لقواعد ومبادئ القانون الدولي

3 - أسانيد قانونية مبنية على الوقائع التاريخية .

4-أسانيد قانونية مبنية على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة الإقليمية .

أولا الأسانيد القانونية المبينة على القيمة الاستدلالية للوثائق

 

(1/1308)

 

 

تتوزع الوثائق إلى ثلاثة أقسام :

أ- الرسائل : وهي ثلاثة أنواع :

... 1 - رسائل متبادلة بين قواسم عمان ( الشارقة ورأس الخيمة ) وقواسم الساحل الشرقي للخليج ( قواسم لنجه) ، وتتضمن هذه الرسائل اعترافات واضحة وصريحة من حكام لنجه بتبعية الجزر الثلاث لقواسم عمان . وتكمن القيمة القانونية لهذه الاعترافات في أنها مبرأة من شائبة الإكراه إذ أنها صدرت من أشخاص ينتمون إلى أسرة واحدة في إطار توزيع عائلي للممتلكات دون ما ضغط أو تدخل من جانب السلطات الفارسية أو البريطانية .

 

(1/1309)

 

 

... وفي هذا الصدد فإن إيران - في إطار تمسكها بفكرة الحق التاريخي كأساس لادعاءاتها بالجزر - تلوح برسائل حاكم لنجه السيد يوسف بن محمد التي بعثها إلى الحكومة الفارسية يقر فيها بتبعية الجزر الثلاث لفارس وبذهابه إليها لجباية الضرائب والرسوم من سكانها باعتبارهم من رعايا فارس ، بالإضافة إلى رسائل أخرى من حكام عرب آخرين - خلاف حاكم لنجه - يقرون فيها بتبعية الجزر الثلاث لقواسم لنجه والحقيقة إن رسائل يوسف بن محمد لا تقوى لأن تكون أساسا صالحا للادعاء لما يشوبها من تناقض ولما يعتريها من ضعف ووهن ، ولما

 

(1/1310)

 

 

أحاط بإصدارها من ظروف سياسية .

... أما رسائل بقية الحكام فإنها من الناحية القانونية لا تعدو أن تكون شهادات سماعية لا تصلح تكون دليلا للإثبات أو للاحتجاج .

... 2 - رسائل متبادلة بين الحكومة البريطانية باعتبارها الدولة الحامية والحكومة الفارسية .

... وهي عبارة عن كم وفير من الخطابات والتقارير والمذكرات المتبادلة بين الحكومة البريطانية ممثلة في حكومة الهند والمقيم البريطاني في الخليج ، ولحكومة الفارسية بخصوص النزاع على عائدية الجزر ، وتتميز هذه الرسائل بصياغتها الدبلوماسية وبتناولها النزاع من

 

(1/1311)

 

 

جوانبه القانونية والسياسية والتاريخية ، وهي إن كانت تعبر عن وجهة نظر بريطانيا باعتبارها الدولة الحامية وصاحبة المصلحة في الخليج والحكومة الفارسية باعتبارها الجهة المدعية ، إلا أنها تلقي الضوء على أسس عائدية

الجزر لدولة الإمارات ، وضعف أساس الادعاء الفارسي ، وتغطي هذه الرسائل الفترة بين أواسط القرن التاسع عشر وحتى نهاية ستينات هدا القرن .

... 3 - رسائل متبادلة بين حكام الشارقة ورأس الخيمة والسلطات البريطانية في الخليج .

 

(1/1312)

 

 

... ويشمل هذا النوع من الوثائق الرسائل والخطابات المتبادلة بين حكام الشارقة ورأس الخيمة والسلطات البريطانية عندما كانت السلطات الإيرانية تقدم على انتهاك سيادتهم على الجزر الثلاث، ومن أشهرها رسالة الشيخ صقر بن خالد القاسمي المؤرخة 16 / 10 / 1887 إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج احتجاجا على احتلال السلطات الفارسية لجزيرة صري التابعة للشارقة .

... كما تتضمن هذه الرسائل استئذان السلطات البريطانية من حكام الإمارتين في إنشاء بعض التجهيزات في الجزر ، أو الإذن بزيارتها ، أو بإجراء مناورات عسكرية

 

(1/1313)

 

 

فيها .

... وتأتي أهمية هذه الرسائل في أنها تكشف عن مظاهر الممارسة الفعلية للسيادة العربية على الجزر الثلاث منذ بزوغ فجر النزاع .

... ب - الخرائط : في مجال القيمة الاستدلالية للخرائط يفرق عادة بين أنواع ثلاثة من الخرائط، فهناك الخرائط الملحقة بمعاهدات الحدود و المنصوص عليها في صلب المعاهدة على أنها جزء لا يتجزأ منها ، وبالتالي فهي ملزمة لأطراف المعاهدة إلزام نصوصها .

... وهناك الخرائط الملحقة بمعاهدات الحدود لكن غير منصوص عليها في صلب المعاهدة على اعتبارها جزءا لا يتجزأ منها . وتتمتع هذه الخرائط

 

(1/1314)

 

 

بقيمة قانونية وقة إلزامية أقل و أدنى من قيمة وإلزامية معاهدات الحدود ذاتها ، ولهذا ففي حالة حدوث تعارض بين معاهدات الحدود وهذا النوع من الخرائط فإن الفضلية والغلبة تكون لمعاهدة الحدود .

وأخيرا هناك الخرائط التي تصدرها الدول أو إحدى التوزيعات أو إحدى التوزيعات التابعة لها من حين لآخر لأغراض مختلفة . وما لم تكن الدولة مصدرة الخريطة قد قصدت من إصدارها اتحاد موفق معين في قضية أو نزاع ما فإن هذه الخرائط لا تتمتع بقيمة قانونية أو قوة إلزامية في حد ذاتها ، فهي غير ملزمة للدولة التي أصدرتها ومن باب

 

(1/1315)

 

 

أولى للدول الأخرى التي تعنيها المعلومات المبنية عليها . غير أن تواتر الدولة على إصدار مثل هذا النوع الخرائط قد يستشف منها ( أحيانا ) موفق الحكومة المصدرة تجاه مسألة حدودها ، لأن هذه الخرائط غالبا ما تمثل وقت إصدارها مفهوم تلك الدولة لحدود سيادتها خاصة إذا ما تأيدت هذه الخرائط بوقائع وأدلة أخرى .

... ومن المؤكد تاريخيا أن السلطات البريطانية لم تبرم معاهدة لترسيم الحدود البحرية بين إمارات الساحل المتصالح سابقا ( دولة الإمارات العربية المتحدة حاليا ) وبين إيران ، لكن بعض المؤسسات التابعة لسلطات

 

(1/1316)

 

 

الحماية أصدرت لأغراض ملاحية أو تجارية خرائط بينت عليها تبعة الجزر الثلاث ليست جزءا من إيران بل من أراضي دولة الإمارات .

... وحتى عام 1780 كانت خرائط دولية كثيرة تشير إلى عروبة الجزر بل إن الخرائط الصادرة بعد ذلك التاريخ وهي كثيرة أشارت بوضوح في العديد منها إلى تبعية الجزر الثلاث للإمارات . وأبرز مثال على ذلك خريطة أصدرتها شركة خرائط إيرانية عام 1955 أوضحت فيها أن الجزر الثلاث ليست جزءا من إيران بل من أراضي دولة الإمارات .

 

(1/1317)

 

 

... وفي هذا الصدد تتمسك الحكومة الإيرانية بخريطة أصدرتها البحرية البريطانية في الطبعة الأولى من كتاب " مرشد الخليج " ( الفارسي ) الصادر عام 1875 ظهرت فيهما الجزر الثلاث بذات اللون الذي أعطته هذه الخريطة للأراضي الفارسية .

ورغم أن الطبعات اللاحقة لهذا الكتاب أظهرت الجزر الثلاث بذات اللون الذي ظهرت به أراضي دولة الإمارات ، ورغم اعتراف بريطانيا أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون دليلا للملاحة في الخليج لا لترسيم حدود دولية رغم أن السلوك اللاحق لبريطانيا ناقض ما ورد في الخريطة المذكورة، إلا أن الحكومة

 

(1/1318)

 

 

الإيرانية لا زالت تتمسك بها كأساس للمطالبة بتبعية الجزر الثلاث

لها .

... ج -مذكرة التفاهم : بعد سلسلة من التهديدات الإيرانية الواضحة والصريحة باحتلال الجزر الثلاث بالقوة ، وتحت ضغوط بريطانية وعربية ، وتحت ظل وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة التي

كانت تمر بها إمارة الشارقة آنذاك أبرم حاكمها الشيخ خالد بن محمد القاسمي مذكرة تفاهم مؤقتة مع الحكومة الإيرانية سمحت بمقتضاها بتواجد قوات إيرانية على أجزاء من جزيرة أبو موسى ، وبتحليل بنود الذاكرة يتضح أنها ميزت بين الوجود العربي والإيراني على الجزيرة ، فهي

 

(1/1319)

 

 

تصف الوضع الإيراني بأنه وضع احتلال عسكري (The will occupy area) وأن القوات الإيرانية تضع يدها على أراضي محتلة .Are accupied by iranian troops

... أما وصف المذكرة للتواجد الإماراتي فهو وصف سلمي إذ تقول : (Shrjah will have jusridiction over the remaider of the Island) وتمكن القيمة الاستدلالية لهذه المذكرة أن بنودها - عند تفسيرها على ضوء الظروف التي تم توقيع المذكرة فيها ، وعلى ضوء مبدأ حسن النية المفترض في تفسير الاتفاقات - تقطع بأن التواجد الإيراني على الجزيرة إنما هو عرض على أصل: فالأصل أن

 

(1/1320)

 

 

السيادة للإمارات والعرض أن الطارئ هو التواجد الإيراني على الجزء الشمالي من الجزيرة .

ثانيا : الأسانيد القانونية المبنية على القوة الإلزامية لقواعد ومبادئ القانون الدولي

... توفر قواعد القانون الدولي ومبادئه المتعلقة بأسس تسوية نزاعات الحدود وغطاءا قانونيا يسند حق دولة الإمارات العربية المتحدة في استرجاع جزرها المحتلة . ولعل أهم هذه المبادئ :

... أ - مبدأ عدم الاعتداد بالأوضاع الإقليمية الناجمة عن استخدام القوة .

 

(1/1321)

 

 

... يجد هذا المبدأ جذوره في العديد من الاتفاقات الدولية التي حظرت استخدام القوة في العلاقات الدولية أو التهديد بها .

... ومؤدى هذا المبدأ أن أي مكسب إقليمي يكون ناتجا عن استخدام القوة يعتبر باطلا وغير شرعي ، وبالتالي قلم يعد الفتح سببا مشروعا لاكتساب السيادة على الإقليم ، فالباطل لا يكسب حقا .

وبصدور ميثاق الأمم المتحدة ارتقى هذا المبدأ إلى مصاف القواعد القانونية الدولية الأخرى، إذ يترتب تلقائيا على المادة (2 / 4 ) من الميثاق عدم جواز الاعتراف بالتغييرات الإقليمية الناجمة عن استخدام القوة .

 

(1/1322)

 

 

... والثابت أن إيران بسطت سيادتها وسيطرتها على الجزر باستخدام القوة العسكرية ، ومن ثم فإن تواجدها على الجزر الثلاث إنما هو تواجد احتلالي غير مشروع .

ب - مبدأ تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية .

... منذ أن بدأ المجتمع الدولي الاتجاه نحو نبذ القوة كوسيلة لتسوية المنازعات الدولية وهو يفتح السبل ويمهد الطرق أمام الدول لحل منازعاتها على نحو لا تضطر معه لاستخدام القوة ، ولا يتعرض معه الأمن والسلم الدوليين للخطر . فقد جاءت الاتفاقات الكبرى التي أبرمت منذ مؤتمرات لاهاي (1899 -1907 ) لتبين طرق

 

(1/1323)

 

 

ووسائل التسوية السلمية لحل المنازعات الدولية في المادة (33 /1 ) من ميثاق الأمم المتحدة . وطبقا لهذه المادة فإن وسائل التسوية السلمية يمكن إلى نوعين :

... طرق ووسائل دبلوماسية كالمفاوضات والمساعي الحميدة والوساطة والتحقيق والتوفيق ، وطرق ووسائل قضائية كالتحكيم ومحكمة العدل الدولية .

... وفي النزاع الحاصل كان مسار دولة الإمارات مسارا سليما يتناسب مع قدراتها واحترامها للقانون الدولي ، فسعت أولا إلى طرق وسائل التسوية الدبلوماسية ، لكن التعنت الإيراني أفشل كل سعي دبلوماسي ثم جاءت دعوة دولة الإمارات

 

(1/1324)

 

 

العربية المتحدة إلى لسان رئيسها صاحب السمو الشيخ زايد سلطان آل نهيان بعرض النزاع على محكمة العدل الدولية ، وجاء الرفض الإيراني أيضا لهذا الحل لتخوفها من ضعف موفقها القانوني وصعوبة إثبات ملكيتها للجزر الثلاث .

... ليس أمام الإمارات إلا السعي نحو عرض الأمر على مجلس الأمن الدولي لفرض استصدار توصية برفع النزاع إلى محكمة الععل الدولية ، حيث أنه لا مجال لحل النزاع سلميا إلا عن هذا الطريق .

ج - مبدأ ثبات الحدود الدولية واستقرارها

 

(1/1325)

 

 

... يقصد بمبدأ ثبات الحدود واستقرار خطوط الحدود الدولية للدول وثباتها طبقا لسند الحصة الذي تستند عليه كل منها واعتبارها بالتالي خطوطا ثابتة لا يجوز تعديلها من جانب واحد. ... ومتى تم تعيين الحدود على أساس سند حق صحيح ومشروع فإنها أي الحدود تنتج آثارا قانونية ذات طبيعة دائمة وملزمة ليس فقط في مواجهة الأطراف المعنية مباشرة ، وإنما أيضا في مواجهة الكافة .

... ومن الثابت تاريخيا أن الجزر الثلاث كانت خاضعة لسيادة قواسم عمان قبل مجيء بريطانيا إلى المنطقة واستمر خضوعها لهم حتى انسحاب بريطانيا وإعلان

 

(1/1326)

 

 

قيام دولة الإمارات العربية المتحدة التي خلفت مشيخات إمارات الساحل المتصالح فيما أبرمت من اتفاقات وخصوصا اتفاقات الحدود.

... ولو سلمنا جدلا بزعم إيران من أن الجزر الثلاث كانت تابعة لها وأن بريطانيا أدخلتها ضمن حدود دولة الإمارات ، فإن احتلال إيران لها يعد إخلالا بمبدأ ثبات الحدود الدولية الموروثة عن الاستعمار.

... كما لا يجدي إيران نفعا ما تردده في أن التواجد العربي على الجزر الثلاث قبل مجيء الاستعمار البريطاني كان تواجدا إحتلاليا ، فإنه - وحتى لو سلمنا بهذا الزعم - بيد المقرر أن الاحتلال كان

 

(1/1327)

 

 

سببا مشروعا لاكتساب الأقاليم في ظل القانون الدولي التقليدي وبالتالي فإن هذا الاحتلال يكون سند الحق لدولة الإمارات .

ثالثا : الأسانيد القانونية المبنية على الوقائع التاريخية

... كثيرة هي الوقائع التاريخية التي تؤيد عروبة الجزر الثلاث ، وتؤكد تبعيتها لدولة الإمارات العربية المتحدة ، ومن الصعب استعراض كل تلك الوقائع أو حتى إيراد جرد لها ، ولذلك فسوف يقتصر الكلام هنا عن الوقائع التاريخية التي كشفت عن رغبة إيران في شراء الجزر الثلاث أو استئجارها من أصحابها الحقيقيين .

 

(1/1328)

 

 

1 -خلال المفاوضات التي جرت بتاريخ 18 أبريل 1930 بين الحكومة الفارسية ممثلة في وزير البلاط الفارسي السيد تيمور تاش والحكومة البريطانية ممثلة في السيد آر . كلايف الوزير البريطاني المفوض في طهران طرحت الحكومة الفارسية عرضا لشراء طنب الكبرى من حاكم رأس الخيمة .

2 - في 2 / 10 / 1930 عرض وزير البلاط الفارسي مرة أخرى مسألة استئجار الجزر الثلاث بعقد طويل الأجل ( 50 سنة ) . وتم تأييد هذا العرض بحضور وزير الخارجية الفارسي ، إذ قال وزير البلاط " ... إذ قام الشيخ - يعني حاكم رأس الخيمة - بتأجير الجزيرة

 

(1/1329)

 

 

لمدة خمسين سنة ، فإن الحكومة الفارسية ستدفع له إيجارا معادلا للإيجار الذي تدفع بريطانيا لإيران مقابل استئجار جزيرة هنجام .

3 - في أغسطس 1929 صرح وزير البلاط الفارسي أن إيران ستتخلى عن مطالبتها بجزيرة أبو موسى إذ قبلت الحكومة البريطانية الاعتراف بملكية إيران لجزر الطنب .

4 - أظهرت مناقشات وزير البلاط الفارسي مع المفوض البريطاني في طهران بتاريخ27 / 8 / 1929 رغبة الحكومة الفارسية بضم الجزر إليها مقابل تعويض تدفعه إلى الحكام العرب التابعة لهم هذه الجزيرة .

 

(1/1330)

 

 

5 - في عام 1968 بعث شاه إيران محمد رضا بهلوي الجنرال نصيري أحد كبار ضباط استخبارته إلى حاكم رأس الخيمة سمو الشيخ صقر بن محمد القاسمي عارضا عليه استئجار أو شراء جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى .

... خلال الجولات الحكومية التي قام بها السيد وليم لوس المبعوث البريطاني إلى دول الخليج منذ بداية عام 1971 وحتى إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة ، قدم المبعوث البريطاني مشروع تسوية - مقترح من إيران - لحكومة رأس الخيمة يتضمن تأجير جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى مقابل مبلغ مليون جنيه استرليني سنويا

 

(1/1331)

 

 

ولمدة تسع سنوات يدفع على أقساط ، إضافة إلى 49 % من عوائد البترول الذي يستخرج من طنب الكبرى .

... وتظهر القيمة القانونية لهذه الوقائع في أنها تمثل إقرارا ضمنيا من إيران بتبعية الجزر الثلاث لدولة الإمارات . ومن المعروف في فقه القانون أن الإقرار إما أن يكون صريحا أو ضمنيا ، ويستدل على الإقرار الضمني من أي سلوك أو تصرف يأتيه أحد الخصوم يسلم بمقتضاه بما يدعيه خصمه من حق أو ادعاء .

رابعا : الأسانيد القانونية المبنية على الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة الإقليمية

 

(1/1332)

 

 

... تعني السيادة الإقليمية أو الاختصاصات التي تمارسها الدولة على وجه الشمول في الحيز المكاني أو الجغرافي الذي يمثل إقليمها .

... وثمة تلازم حتمي بين الملكية الإقليمية والسيادة الإقليمية ، إذ لا يمكن للسادة ذاتها أن تخول الدولة ممارسة حقوقها السيادية على الإقليم ما لم تكن ملكية الإقليم ثابتة لها ، وكنتيجة لهذه الملكية تباشر الدولة بنفسها ممارسة مظاهر سيادتها على الإقليم وعلى جميع الأشخاص المقيمين عليه والأملاك والأشياء المتواجدة فيه وعلى هذا النحو فإن السيادة والاستئثار في ممارستها ، وتشير وقائع

 

(1/1333)

 

 

التاريخ إلى أن إماراتي الشارقة ورأس الخيمة تولتا تنظيم كافة مظاهر الحياة الإنسانية في الجزر على وجه الشمول والاستئثار .

... وتجلت ممارسة مظاهر السيادة الإقليمية في النواحي السياسية والإدارية .

أ - الناحية السياسية :

- استيفاء الرسوم وفرض الضرائب ورسوم عبور السفن .

- التعاقد ومنح الامتيازات ( امتياز الأكسيد الأحمر ، الإذن بالتنقيب عن النفط ).

- الإذن بزيارة الجزر وإقامة المنشآت عليها ( إنشاء فنار في طنب الكبرى ، الإذن بزيارة الجزر لإجراء المسح الجيولوجي بحثا عن المعادن ... الخ )

 

(1/1334)

 

 

ب - الناحية الإدارية

- مرفق الأمن ( تولي مسؤولية حماية الأمن والنظام والسكينة والتحري عن الجرائم ومتابعة مقترفيها ... الخ ).

- مرفق التعليم ( إنشاء المدارس والإشراف عليها ... )

- مرفق الصحة ( توفير الرعاية الصحية لأبناء الجزر ...)

- مرفق القضاء ( الفصل في النزاعات والخصومات وإثبات العقود والتصرفات القانونية وغيرها).

كلمة أخيرة :

... إن القضاء هو القادر على وزن هذه الأسانيد وإنزالها منزلتها الصحيحة وتقدير قوتها في الإثبات ، ومن هنا تأتي أهمية دعوة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان

 

(1/1335)

 

 

بعرض النزاع على القضاء الدولي ممثل في محكمة العدل الدولية أو هيئة تحكيم دولية .

... فهل تدرك إيران أن حل النزاع سلما أجدى و أنفع لها من الإصرار على احتلال الجزر؟

... إن القبول بحكم القانون سيؤدي إلى توسيع دائرة العلاقات بين إيران ودولة الإمارات ويخفف من حدة المشاكل بينهما . فهل يعي إيران ذلك ؟ .

 

(1/1336)

 

 

... ... ... ... الأعجمية الموركسية

 

... ... ... ... ... ... ... الدكتور الحسين بوزينب

... ... ... ... ... جامعة محمد الخامس كلية الآداب - الرباط

إن ما اصطلح على تسميته بالأدب الأعجمي الموركسي هو عبارة عن مجموعة مخطوطات عثر عليها صدفة في أكثر من مناسبة بعد إخفائها قديما في تجاويف جدران المنازل وبين السقوف وفي المغارات وكذا في مخابئ أخرى . إننا هنا أمام أدب هجين تمتزج فيه العربية والإسبانية في شتى المستويات بشكل لا أظن أنه عرف قبل هذا بين اللغة العربية ولغات أخرى ، وتمخض هذا المزيج عن نتاج معبر

 

(1/1337)

 

 

أيما تعبير وممثل أيما تمثيل لكيان أصحابه ولهويتهم الثقافية . فمع هذا الأدب نجد أنفسنا أمام كتابات إسبانية اللغة وعربية الخط تتخللها مصطلحات عربية إسلامية وتراكيب إسبانية معربة ، والكل محفوف بغطاء صوتي مورسكي يصعب نعته بالعربي أو بالإسباني . فهذه اللغة المورسكية تعكس بوفاء كبير شخصية مجموعة إنسانية متميزة داخل الجزيرة الإيبيرية أو جزيرة الأندلس كما كان يسميها المورسكيون . فهذه المجموعة كانت تشعر بخصوصية تجاه مواطنيها المسيحيين في إسبانيا وكذا اتجاه أولئك الذين مثلوا بشكل من الأشكال عنصرا عضويا

 

(1/1338)

 

 

في وجودهم . و أقصد بالخصوص العنصر البربري العربي الإفريقي الشمالي . فمع الأوائل كانوا يتقاسمون الأرض (1)

__________

(1) انظر ما قالهPedro de Valecia الذي يورده L. Cardaillac في بحثه :

« Vision simpmificatrice des groupes marginaux par le groupe dominant dans L’Espagne des XVIe et XVIIe siècles " , Les problémes de l’exclusion en Espagne (XVIe et XVIIe siècles ) , Paris Publication de la sorbonne , P . 22 .

" ففيما يرجع إلى البنية الطبيعية أي كل ما يخص الذكاء والطباع والهمة يجب اعتبار جميع هؤلاء المورسكيين إسبانيين كغيرهم من سكان إسبانيا"

 

(1/1339)

 

 

وكانت العقيدة الإسلامية وجزء من الثقافة يجمعهم بالآخرين .

 

وكان هؤلاء المورسكيون يعتبرون أنفسهم من نبت الأندلس وبالتالي أصحابها الشرعيين . غير أن زمام الأمور قد فلتتت من أيديهم ولم تعد لهم قوة لاسترجاع ما ضاع . ولكن مع ذلك فإن أملهم ما زال معقودا لاسترداد مافقد . وفي هذا الصدد سنجد أن الدين الإسلامي بكل مكوناته من عقيدة وتقاليد و أعراف ... كان يمثل عنصرا حاسما لإذكاء الأمل في مستقبل كان يظهر لهم في صورة أفضل مما كان عليه حاضرهم . وكان الإسلام ، زيادة على ذلك ، يجسد عنصر الوحدة بين شتى الجماعات

 

(1/1340)

 

 

المورسكية .

... إن الثقافة المورسكية التي كانت ملزمة بالنظر إلى داخل بيتها لإرضاء حاجيات أبنائها ، كانت مجبرة في نفس الوقت بالنظر إلى الخارج لتواجه خطرا مزدوجا يتمثل من جهة في تهجمات الثقافة التي تتربص بها الفرص للقضاء عليها و أقصد هنا الثقافة الإسبانية المسيحية ، ومن جهة أخرى في الموقف غير المكترث لكثير من المورسكين بسبب إنهزام هممهم وبرودة عاطفتهم الدينية ، الشيء الذي كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى مغادرة صفوف الإسلام .

 

(1/1341)

 

 

... فبالنظر إذا إلى هذا الدور المتشعب للثقافة الموريسكية ، حاولنا إيجازها إجماليا في جوانب ثلاثة هي : التثقيف أو التعليم والدفاع والترفيه .

... 1 - إن الجانب التثقيفي يتميز بسمات الحقبة التي قدر لهذه الثقافة أن تعيشها وسط وضع مطبوع بالممنوعات وبالترصد للقضاء عليها . إن الخطر كان موجها بالدرجة الأولى إلى العنصر الأكثر حيوية في المجتمع المورسكي أي العقيدة الإسلامية . لهذا نجد أن كتب القرآن والحديث وباقي الكتب المخصصة لتعليم الإسلام التي يحتفظ بها اليوم عدة خزانات إسبانية وغير إسبانية كانت تركز

 

(1/1342)

 

 

اهتمامها في الجوانب الأساسية التي كانت تتطلب الصيانة والإنقاد . إنه لذا دلالة كبرى أن نجد كتابا قرآنيا كذلك الموجود في الخزانة الوطنية بمدريد تحت الرقم 5078 يحتوي فقط على بعض الآيات من سور(1)مختلفة تظهر لأول وهلة وكأنها جمعت بطريقة عشوائية خصوصا

 

وأن الكتاب خال من كل تقديم أو تعليق . ولكن تحليل مضمون هذه الآيات يبين لنا أن جمعها قد خضع لاختيار دقيق تبعته بعد ذلك ترجمتها

__________

(1) وهذه السور هي التي تحمل الأرقام الآتية : 2 ، 3 ، 9 ، 26 ، 28 ، 30 ، 33 ، 36 ، 59 ، 67 ، 78 ، 79 ، 81 ، 82 ، 83 ، 84 ، 89 .

 

(1/1343)

 

 

إلى الأعجمية بهذف تعليمي محض لغرس العقيدة الإسلامية ، آخدين بعين الإعتبار الوضعية التي كان يعيشها المورسكيون بسبب الملاحقة والاضطهاد من قبل محاكم التفتيش المسيحية . ومن أجل توضيح ماذكرناه سابقا نقدم فيما يلي بعض النماذج التي لا تحتاج إلى تعليق لتوضيح ما قلناه آنفا :

... إن هذا المخطوط الذي فقد بعض أوراقه الأولى يبتدئ بالآية 163 من سورة البقرة :

... { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } .

... وتتبعها الآيات 255 ، 256 ، 257 من نفس السورة :

 

(1/1344)

 

 

{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات والأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم } .

... { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } .

... { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب

 

(1/1345)

 

 

النار هم فيها خالدون } .

... ويقفز بعد ذلك إلى الآيات 284 ، 285 ، 286 .

... { لله ما في السموات وما في الأرض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } .

... { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير } .

... { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ماكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته

 

(1/1346)

 

 

على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } .

... فمما يمكن ملاحظته من خلال قراءة هذه الآيات أن مواضيعها هي تلك التي تكون الشغل الشاغل للمورسكين أي :

... - وحدانية الإله وبالتالي الرفض التام للإشرا ك الذي يمكن بالنسبة للمورسكيين في عقيدة الثالوث المسيحي المقدس (1)

__________

(1) انظر : L . Cadaillac , Morisques et Chrétienes , Paris , Ed , Klincksieck , 1977 , P . 225 إن الإختلاف حول عقيدة الثالوث المقدس لمن المواضيع التقليدية في الجدال الإسلامي . ويكفي أن نذكر فيما يرجع إلى الجدال الإسبتني المغربي أن ابن حزم القرطبي سيخصص في القرن التاسع إحدى مؤلفاته ضد المسيحيين لانتقاد الثالوث المقدس . وفي القرن الثالث عشر سنجد القرطبي يخصص فصلين من كتابه في الجدال لتفنيد هذا المعتقد . وإسبانيا المورسكية ( ... ) لم تكن لتخرج عن هذا التقليد " .

 

(1/1347)

 

 

.

... - تسامح الإسلام الذي يقابله التشدد الذي عاملتهم ببه السلطات المسيحية وبالخصوص محاكم التفتيش الكاثوليكية .

... - التشبث بالإسلام وهو النور الذي يضيء به الإله المومنين الذين لا يزيغون عن الطريق السوي .

... - قيمة الإيمان في الإسلام .

... - الانتصار على الكفار ( أي المسيحيين ) .

وبقية المخطوط تسير في نفس الاتجاه مع المشاغل الرئيسية للمورسكين .

وفيما يرجع إلى كتب الحديث (1)

__________

(1) إننا سنعتبر النص حديثا إذا كانت له صفة الحديث بسند إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أو كان متوارثا كحديث ، ولا ندخل في اعتبارات الصحة والوضع والضعف وما إلى ذلك من المعايير الخاصة بعلم الحديث .

 

(1/1348)

 

 

فإنها تعكس نفس المشاغل التي وجدناها في كتب القرآن . وقد أبرز الأستاذ عبد الجليل التميمي(1) تشبث المورسكيين بالهوية الإسلامية باستنادهم

__________

(1) A . Temimi , " Attachement des morisques à leur religion et à leur identié à travers les habiths dans deux manuscrits morisques " , in Religion , identité et sources documentaires sur les morisques andalous , 2 éme tome , Tunis , publication de L’Institut supérieur de Documentation , 1984 , PP . 155 - 161 .

 

(1/1349)

 

 

إلى الحديث النبوي . وقد اعتمد على مخطوطين من خزانة ميغايل أسين بمدريد (1)

__________

(1) يتعلق الأمر بالمخطوطين 29 و 54 من الفهرس المنشور سنة 1915 . فالمخطوط رقم 29 ألفه مورسكي من نهاية القرن السادس عشر وهو نسخة من مجموع أحاديث نبوية جمعها العالم المصري ابن عبد الله محمد بن سالم بن أبي جعفر القضائي المتوفى سنة 455 للهجرة / 1061 للميلاد مع ترجمتها إلى الأعجمية المورسكية . وأما صاحب الممخطوط رقم 54 فأندلسي وهو العباس محمد الطجيبي الأندلسي المعروف بالإقليشي . وقد درس في بلنسية وعاش في دانية ثم في أقليش وبعدها في مصر حيث توفي سنة 550 هـ / 1155 م .

 

(1/1350)

 

 

لإظهار هذا التشبث . " فقراءة هذين المخطوطين ، يقول التميمي ، الذين يكملان بعضهما البعض (أحدهما مترجم إلى العجمية ) لم يكن يعطي للمورسكيين المضطهدين حماية وسلاما فحسب ، بل كان بالنسبة إليهم كمشغل أمل يمكن أن يعيد إليهم الثقة من جديد ويوطد بينهم روابط الجماعة ويزودهم بالقوة من أجل التضحية والقتال " (1) . وفي مايلي بعض هذه الأحاديث (2)

__________

(1) انظر : A. Temimi , " Attachement ... " P . 157 .

(2) نظرا إلى المرجع الذي أخذنا منه هذه الأحاديث كتب بالفرنسية ولم تتوفر على إمكانية الرجوع إلى المخطوط الأصلي ، فقد حاولنا أن نقدم هنا معنى الأحاديث وليس نصها العربي .

 

(1/1351)

 

 

: ... ... - " أفضل جهد المومن القتال باسم الله "

... - " من أخذ منه متاع فهو شهيد "

... - " من صلى في دين غير الإسلام فهو كاذب "

... - " العمائم تيجان العرب "

... - " من أحب العرب أحببته ومن أبغضهم أبغضته "

... - " المسلم لا يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم . لا تنصلوا من آبائكم فلا يتنصل إلا الكافرون "

... - " من غادر الجماعة مات موت الكفار"

... - " الثقة بالمستقبل تزيل القلق والحزن "

... - " بدأ الدين غريبا وينتهي غريبا . طوبى للغرباء "

... - " إن الله إذا أراد خيرا لأمة ، ابتلاها " .

 

(1/1352)

 

 

... - ... إلخ .

... إن اختيار هذه النمادج لم يكن مجانيا كما لا حظنا من خلال قراءتها . والأمثلة من هذا القبيل موجودة بكثرة .

... ولدينا مخطوط آخر وهو الحامل للرقم 5267 في الخزانة الوطنية بمدريد ، يتضمن كثيرا من النصوص التي وجدناها في تنبيه الغافلين للسمرقندي وهو كتاب تداوله المورسكيون بكثرة وترجموه إلى عجميتهم . وقد وجدنا كذلك أحاديث أخرى وردت في البخاري ومسلم ومالك ...إلخ . و أحاديث لم نستطع العثور على أصولها العربية إلى حد الآن . ولكن رغم تعدد مصادر الكتاب فإن الغلبة تبقى للسمرقندي وقد لا حظنا

 

(1/1353)

 

 

فيما يرجع إلى النصوص الواردة في السمرقندي أنها لا تتبع نفس تسلسل مخطوطنا بل توجد مبعثبرة عبره . فمثلا مخطوطنا يبتدئ بحديث يوجد في الصحفة 154 من نسخة " تنبيبه الغافلين " (1) التي استعملناها والمتداولة اليوم في السوق . وبعد ذلك يأتي حديث آخر نجده في الصفحة 83 ثم آخر الصفحة 157 ويتبعه آخر في الصفحة 159 وبعدئد نجد حديثا آخر في الصفحة 147 ثم آخر في الصفحة 8 ... إلخ وتتخلل هذه الأحاديث في مخطوطنا أحاديث

__________

(1) نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، تنبيهه الغافلين ، الدار البيضاء ، دار الكتاب ( بدون تاريخ ) .

 

(1/1354)

 

 

عثرنا عليها في البخاري ومسلم ... إلخ .

... إن هذه الطريقة التي سلكت في نسج هذا المخطوط والتي اعتمدت عدة مصادر لتذكرنا بكيفية تحضير الدروس لدى الأساتذة . لهذا أتساءل : ألم يكن لهذه المخطوطات الأعجمية المورسكية دور تعليمي كما لدروسنا في الوقت الحاضر ؟ إن هذه المنهجية الكامنة في صهر أقسام متعددة من مصادر مختلفة تطبع الأدب الأعجمي الموريسكي بااعتباره أدبا تقليديا ، وتجد مبررها هنا في الحاجة الماسة لتقديم تعليم خاص تمليه ظروف تاريخية خاصة كذلك .

 

(1/1355)

 

 

... 2 - والمظهر الثاني للأدب الأعجمي المورسكي في التقسيم المقترح سابقا يكمن في الدفاع عن الإسلام أمام المسيحية . ويتمثل بالخصوص في تلك الكتابات التي تقدم لنا الجدال الديني بين المسلمين والمسيحيين حول حقيقة العقيدتين . وقد ألف الأستاذ لوي كاردياك من

جامعة مونبلي بفرنسا كتابا (1) شيقا حول هذا الموضوع جمع فيه وعلق على العديد من النصوص التي كتبت في الجدال الديني

__________

(1) Louis Cardaillac , Morisques et Chrétiens , un affrontement polémique ( 1492 - 1640 ) , Paris , Librairie Klincksieck , 1977 , 543 PP.

 

(1/1356)

 

 

الذي دشن قبل المورسكيين بكثير (1) . غير أن هؤلاء وجدوا فيه جهازا للدفاع عن هويتهم الثقافية .

... لقد كانت نصوص الجدال الديني موجهة في نفس الوقت للمسلمين وللمسيحيين . فرسالتهم بالنسبة للمسلمين كانت رسالة تلقينية وتثقيفية . بينما كانت تتوخى بالنسبة للمسيحيين البرهان على أفضلية الدين الإسلامي وتفوقه على المسيحية المتبعة من

__________

(1) انظر الهامش (3 ) . وكذلك ( Textes de littérature religieuse des moriscos tunisiens ) ضمن المؤلف : Etudes sur les Moriscos andalous en tuunisie , Madrid , IHAC , 1973 , P. 200

 

(1/1357)

 

 

قبلهم .

... إن المخطوطات التي تطرقت إلى موضوع الجدال الديني مع المسيحيين قليلة جدا بالمقارنة مع تلك التي تجمع الحكايات والسير والقرآن والنصوص الفقهية وما إلى ذلك من المواضيع التي تطرق لها المورسكيون . ولكن في الحقيقة يمكن اعتبار الأدب الأعجمي الموريسكي في حد ذاته مجادلة ضد المسيحيين . إنها مجدلة تظهر في مضمون الكتابات وتمتد لتشمل كذلك هذه الكتابات . ففي مناسبة سالفة (1)

__________

(1) انظر مقالنا " الدين والللغة من خلال الكتابات الأعجمية المورسكية " المقدم إلى المؤتمر العالمي الثاني للجنة العالمية للدراسات المورسكية ، تونس 1984 .

 

(1/1358)

 

 

تكلمنا عن كيفية تحكم الدين الإسلامي في لغة المورسكيين وخضوع مختلف المصطلحات الإسلامية إلى قصدية تحاشي المغالطة مع المقابلات المسيحية . لهذا نجد أن لفظة الإسبانية Dios ولا الصلاة ب Oracion ولا الإمام ب Sacerdote ... إلخ لأن الإسبانية في ذهنية المورسكين لغة المسيحية كما أن العربية لغة وحتى في اللباس ، فيقول أحدهم: " لا تستعمل عبارات وتقاليد المسيحيين ولا لباسهم ولا تتشبه بهم ولا بالمذنبين الأشرار والجهنميين . عليك بالحفاظ على أقوال وعقائد و أعراف وتقاليد ولباس ذلك النبي السعيد

 

(1/1359)

 

 

محمد - صلى الله عليه وسلم -وصحابته فمن أجل العناية الإلاهية العليا أعطى هذه النعمة العليا " (1) .

... إذا أردنا أن نصف الخطاب الموريسكي باستعمال المصطلحات السياسية الحديثة فسيمكننا أن نقول أن هذا الخطاب خطاب " ملتزم " و " مناضل " حيث نجد أن لكل كلمة دلالة الالتزام ولا تستعمل جملة إلا بقصدية معينة يمكن أن ننعتها اليوم بالسياسة .

__________

(1) انظر : المخطوط الأعجمي للخزانة الوطنية بمدريد رقم 5301 الصفحات 3v و 4r .

 

(1/1360)

 

 

... وبالإضافة إلى اللغة ، فإن شتى حركات وتصرفات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -تمثل بالنسبة للمسلمين رموزا يقتادون بها ويجعلونها في سلوكهم اليومي .

... هكذا نجد إذا مواضيع الجدال متعددة بين الموركسيين والمسيحيين . ويأتي في الدرجة الأول موضوع الثالوث المقدس وهي عقيدة لم تكن أبدا لتحظى بالقبول والفهم من لدن المورسكيين عندما كان يعرض عليهم الدين المسيحي (1) ، وهذا ليس بغريب أن يحدث مع أتباع ديانة لا تقبل بأي وجه من الوجوه إشراكا مع الإله

__________

(1) انظر : L . Cardaillac ، المرجع السابق ، ص . 227 .

 

(1/1361)

 

 

الواحد الأحد مهما كانت طبيعة هذا الإشراك ، وتعد المشركين بأقسى العقاب . زيادة على هذه فالمورسكي لم يكن منطقه يستطيع أن يستوعب " وجود ثلاثة آلهة وهذه الآلهة الثلاثة تكون شيئا واحدا وهذا الشيء الواحد ثلاثة أشياء ، فهذا يتناقض مع العقل والإدراك " كما يقول موريسكي التجأ إلى تونس بعد تهجيره من إسبانيا " (1) . ...

... وهناك نقطة جدال ثانية بين المورسكيين والمسيحيين تكمن في هوية المسيح ، وهو نبي يقدسه الطرفان . وبطبيعة الحال ففي هذا الموضوع نجد

__________

(1) انظر : L . Cardaillac ، المرجع السابق ، ص . 227 .

 

(1/1362)

 

 

المورسكيين يتبنون ويدافعون على الوجهة الإسلامية (1) التي تعتبر المسيح ابن مريم ( عيسى ابن مريم ) نبي الله أي رسول . بينما نجد المسيحيين يعتبرونه ابن الله . والمورسكيون كانوا يرفضون فكرة تجسيد الإله في الإنسان بحيث كانوا يعتبرون هذا مناقضا تماما لطبيعة الإله ويرفضون كذلك مسألة صلب المسيح.

__________

(1) انظر : L . Cardaillac ، المرجع السابق ، ص . 228 : " لقد كان المورسكيون يعرفون النصوص القرآنية معرفة جيدة غير أنهم كانوا يفسرونها تفسيرا مغايرا تماما ( لما هو معتاد ) .

 

(1/1363)

 

 

... ومن ناحية أخرى نجد الكنيسة موضع جدال عندما " وجد فيها المورسكيون مؤسسة شرعوية متمسكة بالشكليات ومن وضع الإنسان ، تحاول أن ترتكز على الإنجيل ، بينما نجد أن تنظيمها ومبادئها الأساسية قد خلقتها بنفسها . والكنيسة قد حورت الإنجيل حسب مبتغاها كما غيرت ماكان متعرفا عليه " (1) .

... ونجد أحيانا أخرى أن الجدال بين المسلمين والمسيحين لا يتخذ عقيدة ما كمنطلق و إنما يتموقع في مجال شرح الألغاز وكشف الأشياء الباطنية بغرض إبراز تفوق دين على آخر كما هو

__________

(1) انظر : L . Cardaillac ، المرجع السابق ، ص .309 .

 

(1/1364)

 

 

الحال في " حديث شرجيل ابن شرجون " (1) حيث نجد أن هذا الشخص وهو " مسيحي أتى من بلاد الشام لم يعرف اسمه أبدا وكان من أقوى المدافعين على الدنيا ، صاحبه خمسون من رؤساء الأديرة أو الرهبان " (2) . توجه إلى أبي بكر " بأسئلة معاكسة ( قال ) وجدتها في كتابات لوالدي ولجدي . فإن أنت أظهرتها أمامي كما هي عندنا سنعرف أن محمدا نبي ورسول و أن

__________

(1) Ottmar Hegyi , Cinco leyendas y otros moriscos ( Ms 4953 de la Bibl . Nac . Madrid) , Madrid , Editorial Gredos , 1981 , P . 73 .

(2) المرجع السابق ، صص . 73 - 74 .

 

(1/1365)

 

 

دين الإسلام دين الحق وغيره لا شيء " (1) .

... إن الأجوبة على تساؤلات هذا المسيحي سيقدمها علي بن أبي طالب وليس أبو بكر أي سيقدمها الشخص المقلد بالقدرات الخارقة للعادة بين الشيعة والذي كان بالتالي يستطيع اكتشاف الأسرار والخفايا . فبهذا نجد أن اسم أبي بكر وهو رجل يرمز إلى إجماع المسلمين السياسي قد ترك جانبا ، هكذا إذا نجد عليا يجيب على كل الأسئلة المطروحة ك : " ما هو قصدي لما خرجت من أرض الشام ؟ ولماذا أتيت هنا ؟ واشرح لي معنى " والضاريات ضروا "؟ وماذا يقول الديك

__________

(1) المرجع السابق ، صص . 74 - 75 .

 

(1/1366)

 

 

في قوقه والكلب في عوائه والحمار في نهيقه ...؟ " زيادة على كشف اسم شرجيل ابن شرجون الذي لم يكن أحد يعرفه دون صاحبه .

...

3 - فيما يرجع إلى الجانب الترفيهي في الأدب الأعجمي فسنراه يتجلى بالخصوص في مجموعة من الروايات والقصص والحكايات المترجمة من العربية أو أحيانا من الإسبانية (1)

__________

(1) أقوال مترجمة من الإسبانية لأن الحقيقة رغم تطابق اللغتين الإسبانية والأعجمية المورسكية ، سيبقى هناك فرق بينهما في جوانب كثيرة تجعل من الأعجمية المورسكية ، كما أشرنا إلى ذلك في حينه ، لغة لا هي بالعربية الصرفة ولا بالإسبانية الخالصة ، بل مزيج منهما وإن كانت الكفة ستميل إلى الجانب الإسباني .

 

(1/1367)

 

 

. إن هذه الكتابات التي كانت تمثل متعة للمورسكين جسدت كذلك ملجأ ثقافيا كان ينقلهم إلى المحيط الثقافي العربي الإسلامي الذي كانوا يشعرون بارتباط قوي نحوه وكانت وسيلة تمرر عبرها التعاليم الدينية والأخلاقية الإسلامية .

... وكنموذج من الرواية الترفيهية الصرف يمكن أن نعتبر قصة حب باريس وبيانا (1) التي تحكي غرام ابنة خليفة فرنسا بيانا والفارس النبيل باريس . إننا هنا أمام قصة فروسية مليئة بالمبارزات والمغامرات تتوسطها عملية عاطفية نموذجية . إنها

__________

(1) A . Galmés de Fuentes , Madrid , Ed , Gredos , 1970 .

 

(1/1368)

 

 

لحكاية كلاسيكية لحب ثابت ومطارد تتخللها ذكريات الحروب الصليبية المعتادة والسفر اللازم إلى الشرق .

... لقد اعتبرنا هذه الرواية رواية ترفيهية صرف لأن العناصر الإسلامية التي تعالج عادة في الأدب الأعجمي سنجدها تختفي هنا . فمع قصة حب باريس وبيانا نحن أمام رواية فرسانية غربية نموذجية حيث المبارزات والمغامرات والحب المطارد ... إلخ تكون ثوابت الرواية ، بينما نجد أن موضوع الإسلام الذي لا يظهر إلا نادرا لا يحتل إلا مكانا جانبيا وهو خال من المواصفات التي تطبعه في الأدب الأعجمي الموريسكي فالفرصة الوحيدة

 

(1/1369)

 

 

التي يرد فيها الكلام عن المسلمين بطريقة مباشرة في الرواية هي حين سيذهب باريس لإنقاذ الخليفة ويخدع حراس السجن الذين كانوا قد سمحوا له أن يتكلم مع الخليفة . فقد قال لهم :

... " - أيها السادة ، إنكم قد أدخلتم علي السرور كبيرا بعدما تركتموني أقابل هذا الرجل. غدا سأذهب في حال سبيلي و أريد أن أقضي ليلة مرحة معكم . فقد قدم لهم طعاما بكثرة وخمرا جيدا بوفرة ، وما أن غلب عليهم النوم حتى سقط الجميع في السكر . فبالنوم

 

(1/1370)

 

 

والسكر بدا الجميع وكأنهم موتى . وبعدئد أخد باريس مفاتيح السجن منهم ففتح الأبواب ..." ، ( ص . 207 ) .

... فكما لاحظنا من خلال هذا النص فإن المورسكي الذي ترجمه لم يستعمل مقص رقابته مع هذه الفقرة التي تقدم صورة سلبية بعض الشيء عن المسلمين ، كما لم يستعمله مع فقرات أخرى تظهر بطريقة غير مباشرة كراهية الخليفة للإسلام ، عندما قال : مشيرا لباريس .

... " فإذا أخرجني من هذا السجن سأجعله سيدا على منطقة خلافتي بأكملها وذلك فقط لأموت في أرض المسيحيين " ، ( ص . 206 ) .

 

(1/1371)

 

 

... ولكن مع ذلك فإننا سنراه أحيانا أخرى يتدخل لتلافي بعض العبارات المسيحية التي لم يكن المورسكي يستصيغها ، فهذه العبارات سنجدها في كل من الترجمتين الإسبانية والكطلانية وتغيب في الأعجمية :

الترجمة الإسبانية

الترجمة الكطلانية

الترجمة الأعجمية

قولوا له أن لا يكون لديه شك

فإنني مستعد للقسم على جسم المسيح ( ص . 29 )

يجب أن يخامره شك فإنني مسرور لأقسم على جسم المسيح الطيب ( ص . 29 )

قولوا له أن لايكون لديه شك فإنني سأقسم ( ص . 37 )

 

(1/1372)

 

 

وأرجع الراهب هذا الجواب إلى باريس . ثم أمر بتقديس جسم المسيح ( ص . 29 )

و أرجع الجواب إلى باريس ثم قدس الراهب جسم المسيح الطيب ( ص . 29 )

ثم أرجع الراهب هذا الجواب لباريس ( ص . 37 )

وهناك أقسم الخليفة أنه سيقوم بإنجاز كل الأشياء التي سيطلبها منه . وكبرهان على المودة تقبل ذلك القربان المقدس

( ص . 29 )

و أقسم الخليفة على جسم المسيح المقدس أنه سيقوم بإنجاز كل الأشياء التي يريدها باريس.وكبرهان على العهد والصداقة تقبل القربان

( ص .29 )

 

(1/1373)

 

 

وهناك أقسم الخلبفة بأنه سيفعل كل ما سيأمره كبرهان على المودة ( ص . 37 )

إن هذه التساهلات والرقابات المحتشمة تنم على أن الأسبقية هنا قد منحت للترفيه قبل أي اعتبار آخر . والترفيه في هذه الحالة كان بالأدب المسيحي الذي لم يكن المورسكيون غرباء عنه.فمؤلف المخطوط (1) s 2 الذي وصفه خيما اليبار أسين بعبارة " المعجب بلبا " ( أي بالأديب والروائي والمسرحي والشاعر لبا ذا باغ ) لنموذج معبر جدا عن النفوذية الثقافية بين الشطرين المسيحي

__________

(1) مخطوط من مجموعة Gayangos محتفظ به في الأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد .

 

(1/1374)

 

 

والمورسكي . إن هذا المورسكي الذي يظهر معرفة واسعة بشعر لبا ذا باغ والذي كان يتذوق كذلك غنائية غرثلس ذا لباغ حيث كان معجبا به ، والذي استطاع أن يبرز العمق الأخلاقي والنقدي في قسم من الرمنثار(1)

__________

(1) romancero اسم يطلق على مجموعة من القصائد الغنائية القصصية الإسبانية التي ظهرت بعد حروب الإسبان وملوك الطوائف بالأندلس، و أشهر مجموعة منها تلك التي تتميز بالصبغة الملحمية وهي " رومنثيرو السيد " الذي لقبه أعداؤه العرب بالسيد لأنه قاد جيوش الإسبان إلى النصر ضدهم ( يوسف محمد رضاء المعين ، قاموس عربي -إسباني ، زوق مصبح كسروان ، لبنان 1993 ) .

 

(1/1375)

 

 

الإسباني ربما كان يمثل نموذج المورسكي المثقف والمنفتح على الأدب الإسباني المسيحي الذي كان يعيش قرنه الذهبي ، والمتذوق للمسرح والفن الإسبانيين(1) .

... ولدينا من ناحية أخرى مجموعة من القصص الخرافية والحكايات التي ظهرت في الوسط الثقافي العربي مع بداية الإسلام ، استعملها المرسكيون كأدب ترفيهي بعد ترجمتها إلى الأعجمية.

__________

(1) انظر M. . de Epalza y R . Petit , Etudes sur les Moriscos andalous en Tunisie , Madrid , IHAC , 1973 , PP . 213 - 214 .

 

(1/1376)

 

 

... إن هذا الصنف من القراءات الموريسكية المتوفرة لدينا بأعداد أكبر من الصنف السابق ، كانت لها مهمة مزدوجة . فمن جهة كانت تمتع المورسكيين ببطولات ومغامرات فضائية أو بقصة حب ممنوع أو قصة تعس يتأمل عبد سفر خيالي مشاهد الحب والسعادة ... إلخ . ومن جهة أخرى كانت عبارة عن أرضية لتقديم مجموعة من التعاليم الدينية والأخلاقية والتاريخية الإسلامية للمورسكيين وفرصة لاسترجاع أمجاد الإسلام الماضية وكذا قصص الأنبياء قبل الإسلام .

 

(1/1377)

 

 

... " كتاب المعارك " الذي حققه الأستاذ البرغلماس دا فوانتاس (1) عددا من الروايات تدور حول المعارك التي كرست الانتصارات الإسلامية الأولى ومكنت هذه الديانة من إخضاع "الكفار " و إرساء قواعدها . إن هذه الروايات التي تتوفر على قاعدة تاريخية واقعية تقدم الأشياء بشكل خيالي ومبالغ فيه يجعل منها خرافات خارقة للعادة ليس لها من التاريخ سوى أسماء بعض أبطالها وتصميم مصغر للأحداث المروية . إن المبالغ المشار إليها سابقا تجد

__________

(1) A . Galmés de Fuentes , EL libro de las batallas , Madrid , Ed . Gredos , 1975 .

 

(1/1378)

 

 

شرحها في السمو الذي خص به الشيعة شخصية علي بن أبي طالب ، البطل الذي ينفرد تقريبا بالدور الأول في هذه الروايات ، الزعيم غير المنازع لهذا المذهب المضطهد بشدة من قبل الأمويين ثم العباسيين .

... إن تداول هذه الروايات بين المورسكيين ، وهم مالكيي المذهب ، لا يمكن أن يبرر بتبعية مذهبية و إنما سيجد شرحه في إرث ثقلفي إسلامي مشترك احتمى فيه المورسكيون من الاضطهاد الممارس عليهم من قبل محاكم التفتيش الكاثوليكية وفي عودة إلى زمن أمجاد الإسلام الذي لا يقهر .

 

(1/1379)

 

 

... ومن العناوين التي نصادفها في " كتاب المعارك " حيث يبرز علي بمؤهلاته الخارقة للعادة " معركة الأشيب بن حنقر " (1) التي يتدخل فيها علي بن أبي طالب ، كعادته ، عندما يحذق الخطر بالمسلمين أو يهزمهم أعداؤهم . ففي الحالة التي بين يدينا نجد أن المسلمين عندما اقتربوا من حسم المعركة لصالحهم ، يتدخل رجل مسن من زمرة الأشيب وينصح هذا الأخير بإرسال مبعوث إلى محمد ليدعوه إلى عراك مع صنمهم ويوعده بالدخول إلى الإسلام إذا هزمه ، وقد تولى الشيخ إيصال الكتاب شخصيا لمحمد حيث

__________

(1) المرجع السابق ، صص . 245 - 256 .

 

(1/1380)

 

 

خاطبه بما يلي :

... " يا رسول الله . يقول لك الأشيب أن تبعث عليا ليبارز صنمنا . فإذا هزمه سنومن بالله ربنا وسنتخدك رسولا ونبيا صادقا .

... وبعدما استمع إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - توجه نحو علي فقال له : مارأيك يا علي في هذا الأمر؟ ... ...

... - إنني ذاهب يارسول الله ولو كان هناك من الجان الكثير . فسار علي على رأس ألف فارس وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :

... - إذهب ياعلي فكسره وفتته فإن الله سيعينك عليه .

 

(1/1381)

 

 

... فسار علي وامتثل أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - . وبعد ذلك خرج الأشيب إلى ضواحي المدينة و أمر بإحضار الصنم فأحضر . وها هو علي يأتي ومعه ألف فارس وعندما اقتربوا من الصنم إذ بالشياطين يحيطون به حتى علت سحابة من الغبار وتكدرت الأرض وخرجت جموع غفيرة من الشياطين والجان . ولما رأى الصحابة المرافقين لعلي تلك الجموع الغفيرة هربوا عن آخرهم وتركوا عليا وحده . فلما رأى علي ذلك نزل من فرسه وقال :

... - أنا علي، الفارس المعزز في كل مكان ، الصارم والمنتصر بعون الله ربي . ياقوم الجان؟هيا ، أثبتوا أمامي

 

(1/1382)

 

 

وذوقوا العذاب حتى تروا ما سألحقه بكم .

... فهاجم الجان وحاربهم طويلا حتى هزمهم ففروا عن بكرة أبيهم ولم يبق جن منهم أمام علي .

... ثم تقدم علي نحو الصنم فأسقطه على الأرض وبرجليه ركله وبذي الفقار سيفه قطعه وفتته حتى لم يبق منه شيء . ولما رأى الأشيب مافعل علي بالصنم دخل الإسلام بين يدي علي كما دخله قومه وفرسانه وأبناء عمومته ( صص 255 - 256 ) "

... ومن الحكايات ذات العمق الأخلاقي والمحتوية على تعاليم إسلامية ، لدينا مثلا " حديث العربي والجارية " (1)

__________

(1) انظر : O . Hegyi ، المرجع السابق ، صص . 185 - 196 .

 

(1/1383)

 

 

التي تحكي القصة التي يشير إليها القرآن في الآيتين 8 و 9 من سورة التكوير : { و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } والتي تتعلق بفتاة موءودة بسبب تهجمها على معتقدات والديها والإيمان بالله . فقد قالت لأبيها :

... " يا أبتاه ؟ إنك تعيش في الخطإ وفي الكذب لأن صنم اللاة والعزى لا يملك قوة ولا علما ، لا ينفع ولا يضر ولا يحمي ، يا أبتاه ؟ إن ربي ورب أمي وربك أنت ورب الصنم

الأكبر هو الله الذي خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وكل الأشياء " .

... و أمام هذا النجم أشارت الأم على أب الفتاة بقولها :

 

(1/1384)

 

 

... " خد تلك الفتاة بين يديك واذهب بها إلى الأرض خلاء فاذبحها و آت لي بقلبها وكبدها قبل أن تفسد علينا ديننا " .

... وبعدما قام الأب بما أشارت به عليه زوجته و أراد أن يعود إلى منزله إذ بنار حامية تشتعل حوله بلهيبها المهول ، ما كان ليفلته منها إلا دخوله الإسلام . لهذا قرر الدخول في الإسلام . وبذلك انطفأت النار . وبعدئد ذهب ليعلن إسلامه أمام محمد ويحكي له ما جرى له مع ابنته . وسيذهب النبي والصحابة إلى المكان الذي دفنت فيه الفتاة و بإذن الله ستبعث من جديد . سيسأل النبي الفتاة مسامحة أبيها ، وسيكون

 

(1/1385)

 

 

جوابها الرفض ما دام لم يؤمن صادقا بالله وبمحمد . وسيخبرها الرسول بأنه قد فعل ذلك ، فتسامحه . ثم سيضع الرسول أمامها اختيار البقاء مع أبيها في الدنيا ، لكن جوابها كان : " لن أبدل الجنة بمتاع الدنيا " .

... وهنالك حكاية أخرى تطرقت إلى موضوع الخلاف بين أب وابنته بسبب الإيمان ، وهي " الجارية أركين " (1) .

__________

(1) انظر

A . Galmés , " L’ I - yeisimo y otras cuestiones linguisticas en un relato morisco del siglo XVII " , en Estudios dedicados a Menéndez Pidal , Madrid , 1956 .

 

(1/1386)

 

 

... إن هذه الفتاة هي ابنة ملك اسمه الجفر وكان يعبد صنما من الذهب . وكانت هذه الفتاة قذ طلبت من أبيها أن يعبد الله الأحد ويتخلى عن عبادة الأصنام فجازاها بقطع يديها ونفيها إلى غاية كثيفة ومخيفة .

... إن التناقض في العقيدة ليس هو نقطة الاختلاف الوحيدة بين الأب وابنته في هذه الحكاية بل هناك جانب آخر مفجع أكثر من الأول ويكمن في نوايا الأب في ارتكاب المحارم تجاه ابنته: ... ...

... " كانت الفتاة وسيمة وجميلة جدا . ولما بلغت سن الرشد عشقها الملك أبوها وطلب حبها . ولقد أدركت هذه الفتاة العفيفة والمحتشمة

 

(1/1387)

 

 

باندهاش أن كل ملاطفات أبيها وحبه كانوا خارج نطاق المشاعر الأبوية وتحكمهم نية الفسق " ( ص . 5 ) .

... فما رأيناه من بتر ليدي الفتاة ونفيها كان إذا لعدم رضوخها لنوايا والدها الفاسق وليس فقط بسبب الاختلاف حول العقيدة .

... هكذا إذا وبعد نفيها إلى الغابة سنرى أن مأساة أركين ستخفف بظهور ظبية بيضاء ستقودها إلى " مغارة جميلة الصنع " وستوفر لها الطعام فكانت تطعمها بفمها وتلحس بلسانها مكان قطع يديها حتى شفيت من الجرح . وبعد هذا سيأتي أمير أنطركية الذي سيغرم بأركين التي سيتزوجها بعد ذلك . ولكن والدة

 

(1/1388)

 

 

الأمير سوف لا ترضى على هذا الزواج وستستغل فرصة خروج ابنها إلى الحرب لتأمر خدامها بإرجاع أركين إلى الغاية التي كانت بها سابقا . وهناك في الغابة ستستعيد يديها بعد استجابه الإله لتضرعها إليه . و إثر عودة الأمير من الحرب قالت له أمه أن أركين بمجرد ذهابه إلى الحرب غادرت القصر وحملت معها ابنها هاربة إلى الغابة . فبعد كل ما فعلته لا داعي إذا ليشغل باله بها . ولكن الأمير الذي لم يصدق ماقالته أمه ، خرج باحثا عن أركين وعن ابنه . وعندما وجدها اندهش بالسعادة لما رأى أن يديها قد كبرت من جديد . وهكذا رجع

 

(1/1389)

 

 

بهما إلى القصر الملكي ليعيشوا هناك معا ، بينما ذهبت الأم لتعيش في قصر جميل في مكان آخر . وبعد ذلك سيقوم الأمير بحملة ضد الملك الجعفر والد أركين الذي سيهزمه بسهولة وسيقضي على وثنيته العنيدة . و أخيرا تجدر الإشارة إلى أن أركين لا تألو من ذكر الله في لحظات الحزن أو الفرح وذلك مرددة عبارة " ليله يلا الله " ( لا إله إلا الله ) .

... ومن الحكايات التي تتضمن مرجعيات إسلامية بصفتها من الخصوصيات الثابتة في معظم النصوص الأعجمية المورسكية يمكن الإشارة إلى قصة " تميم الداري " . و إذا تركنا جانبا تلك

 

(1/1390)

 

 

المرجعية الإسلامية الثابتة فالقصة قد تستهوينا باعتبارها نمودجا رائدا لما يسمى اليوم بأدب الخيال العلمي وبسبقها في هذا الميدان الذي يجلب إليه العديد من محبي المغامرات الفضائية و أسفار سكان الأجرام الأخرى .

وقصة " تميم الداري " نذكرنا بسناريو فيلم سبيلبارغ الأمريكي " لقاءات من النوع الثالث "

أو بالعكس ، الفيلم يذكرنا بقصة تميم الداري . فقصتنا تروي احتجاز شخص واختطافه من باب منزله والذهاب به إلى الأجواء العليا فوق كائن يطير ، وبعد وقت معين سيرجع هذا الشخص إلى المكان الذي اختطف منه بالضبط ، وكل ذلك

 

(1/1391)

 

 

كما سيحدث في الفيلم الأمريكي بعد قرون طويلة .

... إن المورسكيين عندما ترجموا هذه القصة لم تكن نيتهم هي الترفيه بقصة عربية خيالية فحسب ، بل كانوا يتوخون كذلك تماثل واقعهم المعاش وغبر إبرازه رمزيا من خلال قصة رجل أرغم بدوره على مبارحة أرضه ودينه قسرا لا لشيء إلا لعقيدته أو لأفكاره كما نقول اليوم . لا ننسى أن المورسكيين كانوت محط اضطهاد وتهجير وتعديب وتقتيل من قبل خصومهم في العقيدة . ولهذا نؤكد على الجانب الرمزي في قراءة النصوص الأعجمية المورسكية بإحضاره دائما .

 

(1/1392)

 

 

... لقد حاولنا التطرق إلى بعض الجوانب من الثقافة الموريسكية من خلال نمادج من كتاباتهم التي استطاعت أن تفلت من رقابة محاكم التفتيش لتصل إلينا وتأتمننا على تاريخ وفكر أصحابها . فلو طلب منا اليوم أن نحكم على هذه الثقافة أو نصنفها لوضعها شرطا مسبقا لذلك وقضينا بترك المصطلحات التقييمية التي تنظر إلى الأشياء نظرة عمودية لأن هم الثقافة المورسكية لم يكن في " النمو" بل في "البقاء" . لهذا يجب أن تبعد عليها نعوت مثل "منحطة" (1)

__________

(1) L.P. Harvey, El Mancebo de Arévalo y la literatura aljamiada, Actas del Coloquio Intenational sobre Litereatura Aljamiade y Morisca, Madrid, Ed. Gredos,1978, P .23.

"فيما يخص الإرث الإسباني العربي، تجدر الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بثقافة منحطة، ويمكن أن نقول أن ثقافة ما منحطة عندما لا تستطيع تجديد بنياتها الخاصة، فتشل وتموت بعد فترة قد تقصر أو تطول".

أنظر كذلك :

A. Domingeuz ortiz ( Y B. Vincent), Histoire de los Morisocs, Mardir, Biblioteca de Revista de Occidente, de Revista de Occidente, 1979, P : 124 :

"( ...) يمثلون ثقافة ذات تقليد عريق ولكنها وصلت إلى أوج انحطاطها وانحلالها".

 

(1/1393)

 

 

و"فقيرة"... الخ. إنني أظن أن ما يجب مساءلة الثقافة الموريسكية حوله هو مدى توفقها في الحفاظ على الهوية الإسلامية لتلك الجماعة التي لم تكن تركن أبدا إلى راحة العيش في ظل خصوصيتها وكانت تعيش وشح المطاردة وراءها، مطاردة عقيدة لم تقنعها فلم تقبلها. إن هذه الثقافة لن تجيبنا أبدا عما طرحناه عليها من سؤال، بل سيكتفي بإحالتنا على قرار وتنفيذ تهجير المجتمع المورسكي لنعتبره جوابا إذا كنا نلح على الجواب.

فإذا كان حكمنا سيسير وفق هذا المعيار الأخير، فإننا سنرى أن الثقافة المورسكية قد استطاعت رغم هشاشة

 

(1/1394)

 

 

الوسائل التي كانت تتوفر عليها، في وسط كله عداء وفي جو لا هواء تتنفسه فيه، أن تؤدي رسالتها. فلم تكن تهمها جودة المنتوج الثقافي بقدر ما كان يهمها وجود هذا المنتوج ماديا. فلم تكن تهم جودة التعاليم التي كان تقدم للمورسكيين بقدر ما كان يهم تلقينها الفعلي. ففي هذا الصدد يقول المؤرخ الفرنسي برنار فانسان (1) : "كان يوجد في منطقة ساغربا سنة 1505 ثلاثة فقهاء يعلمون السكان على وتيرة اجتماع أسبوعي واحد.

__________

(1) أنظر : المرجع السابق، ص.135.

 

(1/1395)

 

 

وقد كان هذا النشاط فعالا رغم خفيته. ولكن، إلى أي حد يمكن أن نعتبر هذا كافيا للحفاظ على الإسلام في جميع أبعاده ؟ ففي الواقع سنجد أن الانتهازية التي تمثلها التقية كانت تؤدي إلى اختيار بين الرموز الخارجية للإنتساب إلى الإسلام.

فمن أجل الحفاظ على الأهم، كانت تترك بعض هذه الرموز جزئيا أو كليا".

"الحفاظ على الأهم"، هذا هو بالضبط ما كان يسعى المورسكيون لصيانته لأنهم كانوا يومنون بالتحرر يوما ما من قبضة المسيحيين واسترجاع زمام أمورهم. ولم تكن تعوزهم التنبؤات التي كانت تعلن عن قرب عتقهم بفضل تدخل

 

(1/1396)

 

 

الأتراك : "فالله سيحرك قلوب ملوك المسلمين وسيكون رئيسهم هو التركي الذي سينزل من أتباعه في البحر ما لا يعد ولا يحصى. وأول شيء سيعود إلى دين الإسلام هي جزيرة صقلية وستبعها جزيرة الزيتونة وهي ميرقة ثم جزيرة الملح وهي اليابسة (...) ويقول إن المسلمين سيريحون جزيرة إسبانيا الكبرى" (1)

__________

(1) Maecedes Sanchez Alvarez, El Manuscrito 774 de la Biblioteca Nacional de Paris, Madrid, Ed. Gredos, 1982.

« Rekontamiiento de los eskandalos ke an de akaçer en la çagueria de los tiempos en la isla de Espana », P.241.

 

(1/1397)

 

 

هكذا، فالانتماء إلى الإسلام هنا لا يتوقف على معرفة دقيقة لتعاليمه بقدر ما كان يكفي الانتساب الشكلي إليها، فلم يكن مهما جدا أن يستظهر النص القرآني دون ارتكاب هفوات وتشويهات للآيات المقدسة بقدر ما كانت تهم القراءة المادية لذلك النص ولو شوه تشويها. فالمهم هو أن يقرأ بالعربية بأي شكل كان لأن المورسكي كان بذلك يبقى في محيط وجو الإسلام. ففي مناسبة من المناسبات عطست الفتاة أركين واستنجدت بالصنم الذي كانت تعبده آنذاك. عندئذ ظهر أمامها فأمرها بقول : ألنند لله أربن اللمن ( alandu lilahi arabin allamin)،

 

(1/1398)

 

 

وهي عبارة إسلامية نجدها وقد تلاشت شكلا ولا يمكنها أن ترمم إلا بوضع الأصل ( الحمد لله رب العالمين) أمامها وكأننا بصدد تحفة تاريخية نال منها الدهر فاحتاجت إلى ذلك الترميم، ونفس الشيء نجده عندما قالت : آمن أرب اللمن ( Emin a rabi yllami).

 

(1/1399)

 

 

الأندلس والمغرب وحدة أم تكامل ؟

الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله

عضو أكاديمية المملكة المغربية

... عاش المغرب في الأندلس ثمانية قرون من أواخر القرن الأول الهجري إلى بداية القرن التاسع أي نهاية المملكة النصرية في غرناطة . وقد كان للعدوتين طوال هذه الحقبة المترايمة تجاوب وتجاذب سبقته هجرة الوندال ( Vandales واندليس ) في القرن الخامس الميلادي هي التي انطلق منها اسم الأندلس حسب تخمين مؤرخين في مرحلة وسطى دعوا خلالها منطقة بيتك (Bétique ) الرومانية بواندلوسية (Vandalicia ) (1)

__________

(1) راجع دوزي ، " أبحاث حول تاريخ وأدب عرب إسبانيا خلال العصور الوسطى " ، الطبعة الفرنسية الثالثة ، ليد 1881 ، ج 1 . ص . 301 .

 

(1/1400)

 

 

ومع تقلص الإمبراطورية الإسلامية في الجزيرة الإيبيرية إلى الآن أصبحت كلمة ( أندلس ) مقصورة على أقاليم جنوبية تمر بإشبيلية وقرطبة و غر ناطة لتشع في وقت مبكر على جهات أخرى من العدوة الجنوبية ثم تتسع بعد هجرة الأندلسيين إلى المغرب الكبير وخاصة المغرب الأقصى بعد النفي العام وحركة الغزو الإيبيري ( Reconquista ) .

... ولعل نوعا من التلاحم قد تحقق في أرض الأندلس بتمازج فلول شرقية بعناصر من إفريقية والمغرب تزاوجت في كيان مشترك تمخض عبر القرون عما سماه الغربيون بالغرب الإسلامي تبلورت فيه ألوان متكاملة

 

(1/1401)

 

 

شملت أدق مجالي الحياة حتى ما عرف منها بالفن الإسباني المورسكي ، وقد انصهرت مؤشرات أموية عربية عريقة خاصة خلال القرن الرابع الهجري في مؤشرات صنهاجية مصمودية تحت تأثير المرابطين والموحدين ، ومن هناك انطبع تراث الأندلس بعطاءات مغربية إفريقية عربية انبثقت عنها حضارة فذة خلقت عالما ثالثا بين الشرق والغرب كاد يرتكز بين المحيط والمتوسط في المغرب وصحرائه كصلة وصل بين ثلاث قارات وثلاث حضارات ، وكان السبق في كل ذلك منذ الانطلاقة الأولى للفوج الإفريقي

 

(1/1402)

 

 

المغربي الذي غزا الأندلس (1) .

... وقد بدأ فتح الأندلس بحرا عام 27 هـ على يد عبد الله بن نافع وعبد الله بن الحصين ( نقله ابن عذارى عن الطبري في البيان ، ج 2 ص 5 . )

... وقد ظلت الأندلس خلالا قرون متأرجحة بين التبيعية والانفصال عن المغرب ، واستوثق هذا الرباط طوال ثلاثة قرون من عهد المرابطين إلى عهد المرينيين .

__________

(1) بلغ جيش طارق الذي حارب رودريك في معركة وادي بكة (Rio Barabate ) إثني عشرة ألفا كلهم أفارقة انضم إليهم بإمرة موسى بن نصير عام 93 هـ/712 م عشر آلاف عربي فيهم القيسية واليمنيون .

 

(1/1403)

 

 

... وفي غضون ذلك كله طرأت على الأندلس أحداث كيفت بنيتها وأسيستها تدريجيا عبر العصور .

... ففي عام 123 هـ/741 م وقعت أول انتفاضة بربرية عامة في الأرض الإسبانية كانت امتدادا لانتصارات البربر في وقعة طنجة بقيادة ميسرة الخفير قبل ذلك بسنة ، وقد أعقبتها ثورة أخرى عام 124 هـ تسلسلت طوال عقد من السنين أدت بعد استيلاء عبد الرحمان الداخل على الحكم إلى عودة الكثير من البربر إلى المغرب عام 136 هـ/753 م إثر مجاعة عارمة ، ولكن الأمير عبد الرحمن ما لبث أن استدعى البرابرة الأفارقة لتضخيم فيالقه . وقد حفلت

 

(1/1404)

 

 

الأندلس منذ ذاك بعرب عدنانيين قرشيين وأمويين بالإضافة إلى فصائل يمنية قحطانية تركزت في شرق الأندلس وغربها وتفتقت عن الأسر المالكة في قرطبة و إشبيلية وعن حضارة اليمن بغرناطة وبذلك تجمعت اليمنية في جبال وأرباض الحواضر الكبرى التي تتكون منها الأندلس ، ولعل لذلك صلة خفية بينهم وبين صنهاجة ومصمودة في عهد المرابطين والموحدين وهم أيضا من محتد يمني ولا تزال ‘إلى الآن بقايا جزولة بين غرناطة والمحيط على مسافة غير بعيدة من الحزيرة الخضراء في جبال جزولة Sierra de las Gazules (1)

__________

(1) " إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر " ليفي بروفنصال ، لاروز ، باريس 1932 . ص . 27 .

 

(1/1405)

 

 

.

... ويتوارد مهاجرين أفارقة جدد إلى قرطبة بدعوة من المنصور بن أبي عامر تضخمت أفواج القرطبيين البرابرة الذين عزز الناصر الأموي بهم قيادته العسكرية وخططه الإدارية والقضائية ، وهؤلاء هم الذين أفردهم ابن حزم بكتاب الأنساب مدرجا بينهم الأصناف المذكورة من صنهاجيين ومصامدة وكتاميين (1) .

... إن من الصعب أن نرسم لأنفسنا صورة صحيحة عن مسرى التطورات الحضارية خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الأندلس

__________

(1) راجع نقول لبن عبد الحليم عن هذا الكتاب في كتاب " مفاخر البربر " ، مخطوط بالمكتبة العامة بالرباط .

 

(1/1406)

 

 

أو المغرب (1) قبل المرابطين وربما قبل الموحدين مثلما أمكننا ذلك في نفس الفترة في الشرق العربي ، وقد بدأت هذه النظرية تتضح مع المقريزي ( المتوفى عام 845 هـ/1442 م ) والقلقشندي صاحب " صبح الأعشى " المتوفى عام 821 هـ/1418 م ) وابن فضل الله العمري ( 748 هـ/1348 م ) .

... وهكذا ظللنا في حاجة ماسة إلى أن نتحسس ونتلمس من خلال الشذرات المنتثرة في مظاهر ومجالي تبرز نتفا من الإبداعات التي حققها الأمويون وكان لها - أخذا أو عطاء - صلة مع الأوضاع الغامضة

__________

(1) راجع كوتيي ، " العصور الغامضة في تاريخ المغرب "

 

(1/1407)

 

 

التي رسم لنا بعض خطوطها دون عمق في خصوص العدوة الجنوبية مؤرخون أمثال ابن خلدون وابن زرع وعبد الواحد المراكشي وصاحب " تاريخ الدولتين " وابن بسام " في الدخيرة " والمقرئ في " نفح الطيب " كل ذلك نقلا عن كتب ظلت مغمورة بين ثنايا المخطوطات الغميسة من أهمها " المقتبس " لابن حيان الذي لم نتعرف على أهميته إلا خلال ما نقله عنه ( ابن بسام ) ، وقد برزت أكثر فأكثر قيمة هذا الكتاب بعد ما صدرت منه أقسام أثرت معلوماتنا بفيض من النقول المباشرة عن مخطوطات ضاع بعضها ، فقد نشر ابن حيان (1)

__________

(1) راجع الجزء الخامس .

 

(1/1408)

 

 

فصولا بكاملها اقتبسها من " تاريخ أحمد بن محمد الرازي " (1) و " تاريخ الأندلس " لابن الفرضي و " نقط العروس في نوادر الأخبار " لابن حزم وغريب بن سعيد والحسن بن محمد بن مفرج القبشي صاحب " كتاب الخلفاء " وإسحاق بن سلمة في"تفضيل الأندلس " ومحمد بن مسعود في كتابه " الأنيق " مدليا أحيانا بآرائه المخالفة لما ينقل عن الرازي ومفصلا بشروح واسعة ما أجمله غريب بن سعيد .

__________

(1) ينقل أحيانا عن ولده عيسى بن أحمد الرازي .

 

(1/1409)

 

 

ويستخلص ابن حيان من كل هذه المصادر نظرات دقيقة عن عصر عبد الرحمن الناصر مستعرضا الكثير من مظاهر العمران والحضارة في بلاط قرطبة أو كبريات الحواضر ، وقد استمد ابن حيان بعض معلوماته مباشرة من خطوط علماء أندلسيين مثل صاعد بن صاعد قاضي قرطبة أو رسائل موسى بن أبي العافية القائم بدعوة الناصر لدين الله بالمغرب أو ولده أبي منقذ بن موسى ( عظيم أهل الولاية بالمغرب ) ، و آخر ما لدينا من " المقتبس " جزؤه الخامس الذي صدر عام 1979 و و وتبلوت فيه كل المصادر المذكورة في مجال زمني يبتدئ عام 300 هـ وينتهي عام 329

 

(1/1410)

 

 

هـ وبقيت ملازم أخرى مجهولة ، وهكذا أشار ابن حيان (1) إلى كتابه الخليفة الناصر لدين الله الذي ندد فيه بمذهب ابن مسرة وأتباعه و قرئ في الأمصار ناقلا " عن تاريخ الرازي " و " تاريخ الأندلس " لابن الفرضي الذي أكد (2) أن والد محمد بن مسرة هو عبد الله مولى رجل من البرابرة أهل فاس.

__________

(1) " المقتبس " طبعة المعهد الإسباني العربي للثقافة بمدريد ، كلية الآداب بالرباط 1979 ، ج 5 ، ص . 25 .

(2) طبعة كوديرا رقم 650 وطبعة القاهرة رقم 652 .

 

(1/1411)

 

 

... كما أكد لنا ابن حيان ( حسب نقل ابن الآبار في " الحلة السيراء " ، ص . 33 ) أن عبد الرحمن الناصر كان أول من تسمى بالخلافة وتلقب بأمير المومنين في حين يلاحظ مؤرخو المرابطين أنهم إنما انتحلوا لقب إمارة المسلمين تاركين لدار السلام ببغداد شمولية الإشراف على العالم الإسلامي بأكمله .

... نعم كانت المعالم غامضة لم تسمح لنا بتوضيح قتامة بعض الخلفيات في رسومات المقارنة رغم ما بذله مؤرخون أجانب أمثال ( جوزيف أشباخ ) الألماني في كتابه عن " الرابطين والموحدين " (1)

__________

(1) ترجمه إلى العربية الأستاذ محمد عبد الله عنان .

 

(1/1412)

 

 

والمستشرق الهولندي ( رينهارت دوزي ) في " تاريخ المسلمين في الأندلس " (1) والأستاذ ( ليفي بروفنصال ) الذي لم يتعد القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي أي آخر العهد الأموي ) (2) غير أنهم استطاعوا تحقيق بعض التقدم في دراساتهم بسبب ما أمكن الكشف عنه من مخطوطات غميسة مثل كتاب " أعز ما يطلب " لمحمد المهدي بن تومرت (3)

__________

(1) أنجز منه ثلاثة أجزاء وقف عند فتح المرابطين للأندلس .

(2) في كتابه " إسبانيا المسلمة في القرن العاشر " ، طبعة باريس .

(3) نشره ( لوشياني ) عام 1903 بالجزائر بتقديم المستشرق جولد زيهر .

 

(1/1413)

 

 

و " أخبار

المهدي بن تومرت " لأبي بكر الصنهاجي الملقب بالبيذق و ( مجموع رسائل موحدية من إنشاء كتاب الدولة المومنية ) (1) ثم بعد نحو عقدين من السنين ظهرت أبحاث أخرى كشفت عن جوانب جديدة مثل كتاب " قيام دولة المرابطين " للدكتور حسن أحمد محمود (2)

و "المرابطون" (3) للدكتور ( خاثينثو بوسك فيلا ) والقسم الثاني من كتاب " المن

__________

(1) نشرها مع مجموعة أخرى ليفي بروفنصال في باريس عام 1938 أعقبها حسين مؤنس بمجموعات من رسائل الدولة المرابطية .

(2) نشر بالقاهرة عام 1957 .

(3) نشر بالإسبانية في تطوان عام 1956 .

 

(1/1414)

 

 

بالإمامة " لابن صاحب الصلاة (1) أصدره الأستاذ ( إمبروسيو أويثي ميراندا ) ثم أعقبه " البيان المغرب " لابن عذاري في طبعتين بتطوان (2) مما أتاح له فرصة توليف أوسع في كتابه " التاريخ السياسي لدولة الموحدين " طعمه بمعلومات دقيقة من مصنف جديد هو كتاب " نظم الجمان " لابن القطان الكتامي (3)

__________

(1) نشر الدكتور عبد الهادي التازي المخطوطة الوحيدة الموجودة في مكتبة ( البودليانا ) في إسكفورد .

(2) عامي 1956 و 1961 ثم طبعة جديدة بتحقيق الأستاذين محمد إبراهيم الكتاني ومحمد بن تاويت .

(3) كان أعاره إياه ( ليفي بروفنصال ) بعد أن نشر جزءا منه دون أن يعرف أنه لابن القطان الكتامي ولكن معهد الدراسات الإسلامية بمدريد تملك من بين تركة بروفنصال بعد وفاته القطعة غير المنشورة من ( نظم الجمان ) وهي فريدة في العالم .

 

(1/1415)

 

 

الذي حققه الدكتور محمود علي مكي (1) والذي ظل مرجعا لكثير من المؤرخين أمثال ابن عذاري وصاحب " الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية " وابن الخطيب السلماني، و يقال إن ابن القطان هذا هو الحسن علي محمد الكتاني الفاسي الموفى عام 628 هـ/1230 م .(2)

__________

(1) بإشراف معهد مولاي الحسن بتطوان ( المطبعة المحمدية )

(2) و إن كان الدكتور محمود علي يرى عن حق أنه ربما كان ابنا له أو أحد أقاربه لأن الكتاب يشير إلى خلافة المرتضي الذي وليها بين عامي 646 و 665 أي بعد وفاة أنب القطان بقريب من عشرين سنة .

 

(1/1416)

 

 

... ولعل بعض المجالي الحضارية الأندلسية قد تسربت إلى المغرب منذ القرن الثلاثة الأولى لا سيما بعد نزوح أربعمائة عائلة إلى فاس غب ( وقعة الربض ) ، ذلك أن نظام البلاط في العهد الأموي - وإن كان قد تأثر بما عرفه العباسيون والفاطميون - فإن له مميزات اتسمت بمعطيات جهوية رغم وحدة الهيكل البنيوي ، فالصقالبة قد شكلوا معظم حشم الصقر الخليفي أو أطره كالفتيان وأصحاب المطبخ والبنيان والخيل والبرود ( الرقاص المحلف ) والطراز والصباغة والبيزرة (صيد الغرانيق ) والسيف وخزانة السلاح بالإضافة إلى القهارمة وخاصة

 

(1/1417)

 

 

الخليفة . وقد استعملت نفس المصطلحات بالمغرب الأقصى في مجالات أخرى كالبيعة وولاية العهد والسدة العالية وعبيد القصر والحجابة والخطط الإدارية والقضائية ( كقضاة الجماعة وقاضي القضاة وقاضي العسكر ) والمحتسب وصاحب السوق والمشاورة وعمال الولايات ويعين أصحابها بصكوك بدل ظهائر. وهنالك وظائف أخرى تدخل في إطار "خدمة الخلافة " ككتاب الزمام والرسائل و الأسجال الخراجية والكتابة الخاصة والتوقيعات وتنجيزها والأوقاف وبيت المال ( أو خزانة المال التي كانت تحتوي على الصدقات والأعشار والخراجات والضمانات والأموال

 

(1/1418)

 

 

المرسومة على المراكب الواردة والصادرة ورسم بيوع الأسواق والمواريث الحشرية زد على ذلك الرسوم غير المنظمة مثل المغارم أو الوظائف

أو القبالات والمكوس وجباتها المترفين أو الأمناء وربما أمراء الجبايات ) أما موارد الخليفة فكانت تندرج في المستخلصات ( وهي مما يسمى بخاصيات بيت المال ) فيها غلات الضياع بالعزائب السلطانية في المغرب .

... ورغم التطعيمات المغربية والصحراوية المختلفة لحضارة الأندلس فإن روح الاستماتة والجهاد كانت هي العامل الأساسي الذي مكن الأندلس من أن ترفع راية الحضارة الإسلامية طوال ثمانية

 

(1/1419)

 

 

قرون ، وكانت الصليبية قد بدأت تتحرك من الأندلس للإيقاع بالإسلام فانبرى القائد المرابطي يوسف بن تاشفين ( 479 هـ/1086 م ) أي قبل الحرب الصليبية الأولى بعشر سنوات ( 1096 م ) لتحرير إمارات ملوك الطوائف من ضعط الإسبان فأحرز في معركة الزلاقة (عام 1086 ) (1) ضد ( ألفونس السادس ) ملك قشتالة (عام 1065 - 1109 ) نصرا تردد صداه في الشرق والغرب وذاع صيت القائد

__________

(1) وقعت معركة ( حطين ) التي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين بعد قرن كامل ( عام 1187 م ) فكأنها كانت ذكرى مائوية لانتصار ( الزلاقة ) .

 

(1/1420)

 

 

الظافر الذي لقب منذ ذلك اليوم " بأمير المسلمين " مع استمرار دعوته لدار الخلافة العباسية تركيزا للوحدة الكبرى . وتكونت إمراطورية واسعة ضمت الصحراء والمغارب الأربعة ( ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ) الأندلس تحت الحكم المرابطي ثلاثة أرباع قرن ( إلى 5537 هـ ) برز خلالها ملوك طوائف جدد بالأندلس وزحف صليبي عارم في إفريقية ( أي تونس ) ، وكان المهدي بن تومرت قد بدأ جولته في الشرق منذ أوائل القرن السادس فانبرى يجدد معالم الدين ويركز العقيدة السلفية ويجمع من جديد تحت ظلال الإسلام المملكة المرابطية الشاسعة

 

(1/1421)

 

 

التي بدأت تنهار وقد استطاع خليفته عبد المؤمن الموحدي في سنة الأخماس ( 555 هـ ) تخليص إفريقية من الغزو النرمندي وتحصين جبل الفتح ( جبل طارق ) بالأندلس بفضل أسطوله العتيد الذي أصبح أول أسطول في البحر الأبيض المتوسط (1) والضرب على أيدي العرب الهلاليين والسلميين الذين نشروا الرعب والدمار بإفريقية فازدهرت بذلك حضارة جديدة أسهمت الأندلس في طبعها بميسم خاص بزعامة يعقوب الملقب بالمنصور منذ ظفره على الصليبيين المتكتلة في وقعة الأرك ( 591

__________

(1) أندري جوليان ، " تاريخ إفريقيا الشمالية " عام 1931 ، ص . 412 .

 

(1/1422)

 

 

هـ-1195 م ) أي بعد وقعة (حطي) بثمانية أعوام . وشعر ( البابا إينوسان الثالث Innocent II ) ( عام 1198 / 1217 م ) بالخطر الداهم فتكاتفت البابوية بموجب تصميماتها المعتادة مع ملك قشتالة ( ألفونس الثامن ) ( 1158 - 1214 م ) و أسقف طليطلة ( رودريك جيمنيز ) للكر من جديد على الإسلام المتوثب في ( وقعة العقاب ) ( 609 هـ/1212 م ) التي كانت هزيمة شنعاء ضعضعت مقومات الإمبراطورية الموحدية في الغرب في نفس الوقت الذي بدأ المسيحيون يندحرون في مصر خلال الحرب الصليبية الخامسة ( 1219 م ) حيث طردوا نهائيا من الأماكن

 

(1/1423)

 

 

المقدسة بعد معركة عزة ( عام 1244 م ) . واتجه المرينيون فيما بعد يلمون الشمل معيدين للبلاد وحدتها في حدودها الإفريقية بينما هب ( الفونس العاشر ) لتضييق الخناق على المملكة النصرية ( أي دولة بني الأحمر ) التي لم تفد من جوازات المرينيين المتوالية للأندلس سوى حضد مؤقت لشوكة المسيحية . والواقع أن الإمبراطورية المرينية كانت منهارة من أساسها رغم ذيوع صيت أبي الحسن أعظم ملوكها الذي مني بآخر هزيمة في وقعة طريف ( 741 هـ/ 1340 م ) (Reo de Solado ) قطعت الأمل في إنقاد الأندلس واجهت مملكة غرناطة مصيرها وحدها

 

(1/1424)

 

 

.

... غير أننا ندرك مدى التلاحم بين حضارة العدوتين إلا إذا استعرضنا نماذج تبرز التكامل إذا لم نقل وحدة البنية في شتى مجالات الحضارة ومرافق المعرفة ، فلنضرب أمثلة لهذا التزاوج الفكري بين شقي البحر الأبيض المتوسط في مختلف حقول العلم والفن وخاصة في الطب والصيدلة والرياضيات وفي العلوم الإسلامية والمعمارية .

العلوم الإسلامية

... لقد أدخل عمر بن الحسن الهوزني " صحيح البخاري " إلى الأندلس(1) وأدخل أبو

__________

(1) " النفح " ج 3 ، ص . 385 .

 

(1/1425)

 

 

بكر بن الأحمر محمد بن معاوية بن مروان المحدث الأندلسي( المتوفى عام 365 هـ ) النسائي(1) كما أدخل ابن الضابط أبو عمرو عثمان بن أبي بكر الصدفي صاحب " الرحلة إلى الشرق" كتاب " غريب الحديث " للخطابي (2) على أن صعصعة بن سلام الشامي هو أول من أدخل الحديث عموما إلى الأندلس والمغرب وقد روى عن الأوزاعي(3) وقد كتب علماء المغرب كما قال ابن خلدون

__________

(1) " جذرة المقتبس " ، ص . 82 ؛ و " بغية الملتمس " ، ص . 116 .

(2) " رحلة التجاني " ، ص . 80 .

(3) لبن الفرضي ، " تاريخ علماء الأندلس " طبع مجريط ، 1890 م ، ص . 169 .

 

(1/1426)

 

 

على " صحيح مسلم " خاصة وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له من التراجم ، وأملى الإمام المازري من فقهاء المالكية عليه شرحا سماه " المعلم بفوائد مسلم " ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه وسماه " إكمال المعلم " وتلاه محيي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء وفيا (1) وقد دشن تدريس الحديث بمراكش يعقوب المنصور الموحدي في القرن السادس الهجري (2)

__________

(1) ابن خلدون في باب علوم الحديث ، م 1 ، ص . 801 .

(2) " الاستبصار " ( الإعلام للمراكشي ، ج 1 ، ص . 65 ) . وذكر النعيمي المتوفى عام 927 هـ في " الدارس في تاريخ المدارس "، ج 1 ، ص . 14 ، أنه كان من شروط الوقف في دمشق قراءة البخاري في ثلاثة أشهر .

 

(1/1427)

 

 

ونفق سوقه أيام أبي سالم المريني (1) وعقد المنصور الموحدي مجلسا في حضرته لتدريس الحديث عين له شيخا هو ابن القطان الذي استبحر في علوم الحديث وبصر بطرقه وميز بين سقيمه وصحيحه ونقد رجاله فكان أول شخصية مغربية ركزت الدراسات الحديثة على الأساليب والناهج المتبعة في الشرق مع نوع من الأصالة والجدة . وقد عقد الملوك مجالس قراءة " الصحيح " من عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله لقراء الحديث شطرا من السنة .

__________

(1) " سلوة الأنفاس " ج 3 ، ص . 168 .

 

(1/1428)

 

 

... وحاول الملوك الموحدون الارتكاز على القرآن والحديث فأحرق يعقوب المنصور كتب المذهب المالكي بعد تحريرها من الحديث (1) وكان جده عبد المومن بن علي قد أمر عام 550 هـ بتحريق الفروع ورد الناس إلى قراءة الحديث وأصدر بذلك تعليماته إلى طلبة المغرب وعدوة الأندلس (2) .

 

... وقد تتلمذ للإمام مالك مباشرة في علم الحديث يحيى بن يحيي الليثي الطنجي البربري ومحمد بن سعيد القيسي قاضي المولى إدريس كما تتلمذ الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث شرقا

__________

(1) المراكشي " المعجب " ص . 171 .

(2) " الأنيس المطرب " ج 2 ، ص . 154 .

 

(1/1429)

 

 

وغربا لمحدثين مغاربة كأبي البركات الكمال المكناسي وتقي الدين الفاسي وابن شقرا محمد بن بدر السلاوي ، وكان إدريس الفاسي أحفظ من ابن حجر .

... وقد حاول ابن حزم في رسالته في " فضل الأندلس " (1) أن لا يذكر مؤلفا لمشرقي إلا ذكر ما يقابله لأندلسي مفضلا الثاني على الأول وهو فهرس جليل لمعارف الأندلسيين وعلمائهم ومؤلفاتهم ، وبالرغم عن كون " تفسير " محمد بن جرير الطبري قد بلغ ألف مجلدة ضخمة " (2)

__________

(1) أورد المقريزي هذه الرسالة في " نفح الطيب " ج 2 ، ص . 125 - 128 .

(2) الشعراني ، " لواقح الأنوار القدسية " ، ج 2 ،ص . 169 على هامش اللطائف .

 

(1/1430)

 

 

فقد قطع ابن حزم بكون بقي بن مخلد " لم يؤلف في الإسلام مثل " تفسيره " لا " تفسير " محمد ابن جرير الطبري ولا غيره " كما قال عن مسنده :

... " مسند بقي " روي فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنف وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث " (1) وقد ضرب ابن حزم نفسه المثل الحي بنشاطه في دراية الحديث وروايته مستوفيا أبواب هذا الفن (2)

__________

(1) " المقريزي " ، ج 1 ،ص . 580 .

(2) له (1 ) " شرح أحاديث الموطأ والكلام على مسائله " ، ( الذيل - ياقوت ) ، (2 ) " الناسخ والمنسوخ " ( الذيل ) ، يوجد بهذا الإسم منسوبا لابن حزم في مكتبة الكتاني ولعله لابن العربي المعافري ) ؛ (3 ) " الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد "( الذيل).

 

(1/1431)

 

 

.

... والواقع أن كل مسجد أو جامع في المغرب كان دارا للحديث حتى صغار القرى بالبادية ، ففي أغمات كان خلف بن عمر الباجي يدرس " صحيح مسلم " ويحضر درسه ابن الصقيل الشاطبي المتوفى بفاس بعد ( 500 هـ ) وكان علماء المغرب يميلون إلى الحديث في تأويل كثير من التفريعات فقد نقل الحافظ ابن حجر في " الدرر الكامنة " عن " سير النبلاء" للذهبي أن ابن رشيد السبتي كان على مذهب أهل الحديث في الصفات لا يتأولها . وقد انتقل علم الحديث من الأندلس إلى حاضرة القيروان " فلما اضطرب أمر إفريقية ببعث العرب فيها وقرطبة آخر

 

(1/1432)

 

 

ملوك بني أمية رحل من هذه وتلك من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل

طبقة فرارا من الفتنة فنزل أكثرهم مدينة فاس (1) .

الفن المعماري

... اتجه المرابطون خاصة نحو هندسة المساجد التي لم يعد يخلو منها ربض ولا زقاق لا سيما في فاس ، كما اهتموا ببناء القلاع على غرار الحصون الأصلية مع الاقتباس في

__________

(1) " شجرة النور " ،ص . 450 ، وكان في سبتة محدثون حيث أجاز الحافظ تقي الدين بن تيمية لصاحب سبتة بجملة من أسانيده في عشر ورقات وصدر عنه ذلك وهو معتقل في سجن الإسكندرية عام 790 هـ " فهرس الفهارس " ج 1 ، ص . 199 .

 

(1/1433)

 

 

آن واحد من الأندلس . وأول ما تجلى هذا الاقتباس في فاس حيث استقدم يوسف ابن تاشفين من قرطبة جملة من صناع طوروا مساجد المدينة وسقايتها وحماماتها وخاناتها كما استقدم علي بن يوسف المهندسين الأندلسيين لبناء قنطرة ( تانسيقت ) .

... ثم جاء الموحدون فاستطاعوا بفضل ما أبدعوه من روائع ، تبوؤ المقام السامي في تاريخ الفن الإسلامي لا سيما في عهد يوسف الذي عاش في إشبيلية حيث زينها بأروع البنايات والمؤسسات العمومية . ثم جاء ولده يعقوب المنصور فكان أبدع بناء في تاريخ المغرب الفني وقد تجلت هذه البدائع خاصة في

 

(1/1434)

 

 

إشبيلية والرباط ومراكش ومناراتها وخيرالدا وحسان والكتبية . و أصبحت مراكش ببناياتها وقصورها وحدائقها أشبه ببغداد في الشرق كما أشبهت مدينة فاس دمشق في روائها الفني وطبيعتها الخلابة .

... ويمكن أن تعتبر مدينة فاس أول مركز عربي تفتق في البلاد المغربية و أصبح بعد ذلك - حسب كوتيي ( Gautier ) - مظهر إعجاز في ميدان التكييف بالطابع الشرقي ، ذلك أن الفن اتخذ مناهج جديدة منذ العصر الأموي في كل من الشرق الأدنى والمغر بالعربي بفضل مرونة حساسية العرب ومداركهم الإبداعية . فهناك عوامل حدت العرب في الأندلس

 

(1/1435)

 

 

والمغرب وكذلك بمصر إلى الاستيحاء في زخارفهم من معطيات الهندسة وهذه العوامل هي إهمالهم للأشكال والصور المستمدة من الطبيعة وتعميقهم في دراسة الرياضيات وسعة مواهبهم و أذواقهم .

... وكان لفاس أثرها القوي حتى في إقريقيا وبذلك أمسى علماء الإسلام بإفريقيا تابعين لمدرسة برابرة الغرب الإسلامي (1) ويرجع فضل هذه النهضة إلى المولى إدريس الثاني الذي أمد حاضرة العلم بأولى مؤسساتها .

__________

(1) جورج مارسي ، " الفن الإسلامي " ج 2 ، ص . 469 .

 

(1/1436)

 

 

... وقد أكد المؤرخ الفرنسي طيراس (1) لدى حديثه عن الفن المرابطي أن عليا ابن تاشفين فاق والده بكثير في المؤسسات المعمارية مع أن يوسف نفسه كان من كبار البناة والمؤسسين ، وقد اندثرت معالم جميع ما أقامه من قصور ومساجد في مراكش باستثناء قبة الردعيين ( قرب جامع بن يوسف ) ومسجد تلمسان ( عدا منارته ) ومعظم أروقة ججامعة القرويين الزاخر بروائع الفن المقتبس طبق الأصل من الفن الأندلسي بما كان ينطوي عليه في القرن الخامس الهجري من رقة ورشاقة وروعة زخرف ، ومع ذلم فإن مساهمة

__________

(1) " تاريخ المغرب " ، ص . 252 .

 

(1/1437)

 

 

المرابطين في الفن كان مهما لا يخلو من تجديد فالفنان لا يمكن أن يستسيغ ويقتبس إلا ما تمكن تقريبا من الكشف عنه (1) ولنا على ذلك دليل قوي في النفوذ الشامخ الذي بسطه المرابطون في الأندلس وإفريقية وذلك في العمل البناء الذي حققوه في هذا الجزء من المغرب الإسلامي ، وقد لا حظ ( كودار ) (2) عن حق أن إقامة المرابطين لصروح أكبر إمبراطورية أسست في العالم ( حيث امتدت من الأندلس إل ىجزر الباليار إل ىنهر النيل Niger ) لتنم لدى

__________

(1) مارسي ، " مقدمة كتاب الفن الإسلامي "

(2) في كتابه " وصف وتاريخ المغرب " ص . 314 .

 

(1/1438)

 

 

الفاتح المرابطي عن تفتح مدارك قوية .

... إن قادة الموحدين الذين ركزوا للمرة الأولى وحدة الإسلام السياسية من حدود ( قشتالة ) إلى ( ليبيا ) قد ساهموا في تأصيل نوع من التوحيد بين عناصر الفن الإسلامي في المغرب (1) .

... وقد استمر نفوذ الموحدين أزيد من قرن كان لهم في غضونه أعمق الأثر في عدوة الأندلس المترامية الأطراف ، فانتصار يعقوب المنصور في الأندلس قد أضفى على الفن طابعا خاصا وحقق بتساوق مع مدرسة القيروان التجانس الفني بين الشرق والغرب .

__________

(1) مارسي ، " الفن الإسلامي " ، ص . 305 .

 

(1/1439)

 

 

... وقد تجلى ذلك في جامع القرويين فعندما دعت زناتة لعبد الرحمن الناصر ملك الأندلس وبايعه أهل فاس قام العامل ( أحمد بن أبي بكر الزناتي ) بتوسيع المسجد منفقا عليه " من أخماس غنائم الروم " فزاد أربعة بلاطات من الغرب وخمسة من الشرق وثلاثة من الجوف .

... وفي عهد علي بن يوسف اشتريت دور كان أكثرها في ملك اليهود وزيدت في المسجد عشرة بلاطات من الصحن إلى القبلة (1)

__________

(1) يوجد بجامع القرويين 19 بلاطا موازيا للقبلة وقد لاحظ ( جورج مارسي ) أن هذا الأسلوب يرجع عهده إلى صدر الإسلام ونجده في مصر ( جامع عمرو وجامع ابن طولون ) وظل هو الغالب في مساجد فاس ، " فن الإسلام " ، ص . 95 )

 

(1/1440)

 

 

والقبة بأعلى المحراب " بالجبص المقربص الفاخر الصنعة " ورقش ذلك كله بورقة الذهب واللازورد و أصناف الأصبغة (1) وركبت في الشماسات التي بجوانب القبلة أشكال متقنة من أنواع الزجاج و ألوانه ، ثم غشيت أبواب الجامع " بصفائح النحاس الأصفر بالعمل المحكم والشكل المتقن " ، ( كل ذلك عام 533 هـ ) وقد لاحظ ( ابن أبي زرع ) أن هذا الفن كان يبهت الناظرين ، فلما دخل ( عبد الرحمن بن علي ) ( عام 540 هـ ) خاف الفقهاء والأشياخ أن ينتقد ذلك النقش والزخرف لأن الموحدين نهجوا سياسة

__________

(1) " الأنيس المطرب " ، ج 1 ، ص . 87 .

 

(1/1441)

 

 

التقشف فغطى البناؤون النقش والتذهيب الذي فوق المحراب وحوله بالكاغد ثم لبسوا عليه بالجص وغسل عليه بالبياض (1) .

... وقد علق ( جورج مارسي ) على هذا الحدث فزعم أنه قصة لتبرير البياض والفراغ الملحوظين في قبة المحراب (2) إلا أن الحفريات التي قامت بها ( مصلحة

__________

(1) " الأنيس " ج 1 ، ص . 88 .

(2) كتاب " الفن الإسلامي " ، طبعة 1926 ، ج ، ص . 302 وقد أكد ( مارسي ) هذا الزعم في الكتاب الذي صنفه عام 1954 وهو " الهندسة المعمارية الإسلامية في الغرب " ، ص . 188 ، إلا أن الأستاذ ( طيراس ) أيد مقالة ابن أبي زرع .

 

(1/1442)

 

 

الفنون الجميلة ) منذ عام 1952 أكدت حكاية المؤرخ العربي ، فقد كشف عن نقوش رائعة غير أنها لا تحتوي على أي توريق ذهبي ، وقد لوحظ أن أصناف الأصبغة المشار إليها من طرف صاحب ( القرطاس) هي الأزرق والأحمر والمغرة الصفراء ، ومازالت الألوان متماسكة وفي رائق غضاضتها ، ويظهر أن مزيج الأصباغ كان يحتوي على مح البيض الذهبي اللون وأن الدهان كان كامدا للتخفيف من بريق أشعة النور المنعكس من النوافذ .

... وقد احتل الموحدون في تاريخ الفن الإسلامي مكانة تفوق ما كان للمرابطين في هذا الحقل ، وذلك بالرغم عن معارضة

 

(1/1443)

 

 

المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية لبعض مظاهر هذا الفن كالموسيقى والسماع والزخارف والنقوش .

... وكان ابن يوسف هذا يقطن في ( إشبيلية ) التي زخرف معمارها بأبهى و أروع مما زين به حاضرة مراكش ، أما ولده ( يعقوب المنصور ) فإن بدائعه الفنية تشهد بأنه أروع بناء في العصر الموحدي (1) مثال ذلك المؤسسات المقامة في إشبيلية والرباط ومراكش .

... وبفضل الموحدين تجلى القرن السادس لبعض علماء الآثار كعصر بلغ فيه الفن الأوج في القسم الغربي من العالم الإسلامي (2)

__________

(1) مارسي ، " الفن الإسلامي " ج 1 ، ص . 303 .

(2) " الهندسة المعمارية الإسلامية في الغرب " ص . 200.

 

(1/1444)

 

 

.

... وتبدو الهندسة المعمارية الموحدية في أجلى و أجل معالمها في مساجد مراكش وحسان ( بالرباط ) ومرصد الخالدة بإشبيلية (1) .

... وقد أكد كل من ( طيراس ) و ( باسي ) أن الكتبية أجمل معبد أقامته الخلافة الإسلامية في المغرب ، وأنه يعادل في جدة أسلوبه روائع ( الجامع الكبير بقرطبة ) ، فجامع قرطبة رغم سعته لا يتسم بنفس الطابع من التجانس والتناسق ومع ذلك فإن عددا كبيرا من رؤوس الأساطين في ( الكتبية ) هو من أصل

__________

(1) يوسف هو الذي شرع عام 567 هـ في بناء المسجد الأعظم بإشبيلية ، ( ابن زرع ، " القرطاس " ) .

 

(1/1445)

 

 

أندلسي ، فالأعمدة الأربعة التي تساند ( قوس المحراب ) من مخلفات ( الفن الأموي ) وتوجد أيضا في المسجد الموحدي بقصبة مراكش أعمدة أموية من الصعب وجودها ملتئمة في قرطبة نفسها ) .

... ويرى كل من ( طيراس وباسي ) أن المنبر هو من أجمل منبر في المغرب الإسلامي بل أبهى و أروع منبر في العالم الإسلامي أجمع وما زال قائم الذات إلى عصرنا هذا في ( الكتبية ) إلا أن بعض أجزائه تميل إلى التداعي .

... وقد ازدهرت مظاهر الحضارة والعمران في عهد بني مرين الذين أصبحوا أقوى ملوك إفريقيا الشمالية (1)

__________

(1) راجع أندري جوليان ، " تاريخ افريقيا الشمالية " .

 

(1/1446)

 

 

إذ بالرغم عن محتدهم الصحراوي فإن هؤلاء الرجال استطاعوا ، بفضل اتصالهم المزدوج ب ( بني نصر ) ورثة الحضارة الأندلسية وبالموحدين التكيف والإنسياق في مجرى الحضارة تبعا للمقتضيات المدنية مع استمداد من معطيات الفكر الإسلامي والمججالي الطريفة في التجديد ، وقد تبلور اتجاههم في إقامة المدارس المحصنة والمساجد وقباب الأضرحة

والفنادق المزخرفة والمدارس الفخمة التي أضفت على المغرب المريني طابعا خاصا من الروعة والبهاء .

 

(1/1447)

 

 

... تلك هي المظاهر الجوهرية التي يمكن أن نستخلص منها صورة عن الفن المريني الذي بدأت تتبلور فيه مجالي الازدواج بين الطابعين الأندلسي والمغربي في شكل جديد سمي بالفن الإسباني الموريسكي .

... وبالرغم عن التأثرات الأندلسية التي رسمت هذا الفن فإته اصطبغ بسمة خاصة إذ عوضا عما كان يذكي المهندس الأندلسي من رغبة في تحقيق التوازن بين القوى في معالم المعمارية هدف المهندس المغربي إلى ضمان متانة الهيكل بالإضافة إلى ما كان يشعر به من حاجة إلى مزيد من الزخرفة والتنسيق ، وهذا هو الطابع العام الذي يتسم به مجموع

 

(1/1448)

 

 

الفن الإسلامي من تسطيرات ناتئة ومقربصات وتلوينات علاوة على روعة الهندام . ورغما عما يتسم به هذا الفن المعماري ، الدي بلغ في العصر المريني أوج عنفوانه ، من إيغال في التوريق والتسطير والنقش مع قلة توازن بين الأجزاء وعدم جودة المواد فإن المجموع ظل - كما يصفه المؤرخ أندري جوليان - واضح المعالم متوازي النسب تتجانس نقوشه تجانسا رائعا ضمن الحيز الذي يملأه وهذا بالإضافة إلى ما انطوت عليه الألوان من دقة وجناس كاملين(1) .وقد أشع الفن المريني شرقا وغربا بثروته التي

__________

(1) " تاريخ إفريقا الشمالية " ، ص . 456 .

 

(1/1449)

 

 

لا تضاهي وروعته الطريفة الأصلية فكان فنا أندلسيا مغربيا تتناسق عناصره في ( العدوتين ) .

... وهذا التناسق الفني يرجع الفضل فيه إلى نشاط المهندس الأندلسي الذي كان تأثيره ملحوظا في مجموع المآثر المعمارية (1)

__________

(1) كان ذلك منذ المرابطين وقد لاحظ ( الناصري ) نقلا عن صاحب " الجذوة " أن المهندس الإشبيلي محمد ابن علي هو الذي رسم تصميم ( دار الصناعة البحرية بسلا ) واستعمل الأساليب المعروفة بالأندلس ( " الاستقصا " ، ج 2 ، ص . 11 ) كما أن نقل مياه (وادي فاس ) لتزويد قصر يوسف بن يعقوب كان على يد مهندس إشبيلي اختصاصي في علم الحيل هو ( محمد بن الحاج )

 

(1/1450)

 

 

.

... وإذا كان الفن قد استطاع الصمود في نهاية العهد المريني فما ذلك إلا بفضل العناصر الأندلسية التي هاجرت إلى المغرب ، بحيث أصبح المغاربة منذ عهد الوطاسيين عالة في كثير من الفنون والحرف على الأندلس (1) ومع ذلك فإن الفن المغربي الذي نشطت مقوماته العمرانية ظل محتفظا بجودته النادرة رغما عن انعدام الفخامة في مجاليه ذلك أن وفرة الزخرفة وثراءها وروعتها انتظمت في إطار من الوضوح والدقة لا غبار عليه .

__________

(1) " كودار " ، ج 2 ، ص . 461 .

 

(1/1451)

 

 

... وقد لا حظ طيراس (1) أنه بالرغم من الجهود التي بذلها كبار الأمراء السعديين فإنهم لم يسهموا في انبعاث الحضارة الإسلامية بالمغرب ، غير أن صلات عابرة وغير مباشرة بالفنون الإسلامية الشرقية تحققت من جديد بفضل ما كان للسعدين من علاقة بالأتراك ولعل بعض هذه الآثار تتجلى في فن الطراز والنسيج والتجليد والتذهيب .

__________

(1) " تاريخ المغرب " ، ج 2 ، ص . 234 .

 

(1/1452)

 

 

...

الأندلسيون والمغاربة في طرابلس الشام

 

الدكتور عمر عبد السلام تدمري

... ... ... الجامعة اللبنانية ـ طرابلس

 

العلائق الثقافية

... تعود العلائق الأندلسية ـ المغربية بطرابلس الشام إلى أكثر من ألف سنة خَلَتْ، وبالتقريب إلى مائة عام وألف من الآن، أي إلى عهد الحكم الإخشيدي (330 ـ 358 هـ/ 941 ـ 969 م)، وتنوعت تلك العلاقات ما بين ثقافية وسياسية وعسكرية وتجارية وعمرانية. وكانت بداياتها في رحلات طلبة العلم من الأندلسيين إلى المغرب الإسلامي لسماع الحديث على كبار المحدثين والحُفّاظ والمسندين.

 

(1/1453)

 

 

... وكانت طرابلس الشام منذ القرن الثاني الهجري (8 م) قد أصبحت حاضرة مهمة من حواضر العالم الإسلامي، فأخرجت جماعة موفورة من كبار المحدثين والرواة الإخباريين، يأتي في مقدمتهم أبو مطيع معاوية بن يحيى الأطرابُلُسي(1) المتوفى بحدود 170 هـ/ 785 م.

... ويُعتبر خيْثَمَة بن سليمان القُرشي الأطرابُلُسي(2) المولود سنة 250

__________

(1) ... انظر: عبد اللام تدمري، مسند معاوية الأطرابلسي، دار الإيمان، طرابلس، ودار ابن حزم ـ بيروت، 1997.

(2) ... انظر كتابنا: من حديث خيثمة الأطرابلسي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1980.

 

(1/1454)

 

 

هـ/ 862م. أشهر من أخرجته طرابلس من رجال الحديث، حيث كان حافظاً، ثقةً، مكثراً في الرواية، عُرف في عصره بأنه مُسند الشام، اشتهر حديثه في بلاد الشام، والعراق، وفارس، وعمت شهرته الآفاق، حدَّث في الجامع الأموي بدمشق، وعاد إلى طرابلس، فكان كبير محدثيها، وقصده الطلبة والشيوخ من أقطار الدنيا، فسمعوا منه، وأخذوا إجازته في رواية الحديث، وعُمّر أكثر من 90 عاماً، فكان من بين طلبته الكُثُر طلبة قدموا من الأندلس، ونزلوا طرابلس وارتادوا مجلسه في مسجدها الجامع، وشاركوا في حركتها الثقافية، وكان منهم :

 

(1/1455)

 

 

... ( محمد بن عبد الله بن عبد البر التُجيبي الأندلس القرطبي(1)، وهو يُنسَب إلى كُشكينان من قرى قرطبة، ورحل إلى المشرق مرتين. وعندما عاد من رحلته الأولى، كانت له الوجاهة عند الخاصة والعامة في الأندلس، مع العلم والزُهد، وسمع منه الناس كثيراً،

__________

(1) ... ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ج 1، صص. 356 ـ 357؛ الضبي، بغية الملتمس، ص. 89؛ عمر بعد السلام تدمري، موسوعة علماء المسلمين في تاريخ لبنان الإسلامي، طبعة المركز الإسلامي للإعلام والإنماء، بيروت، 1984، ق 1، ج 4ـ ص, 241، رقم 1495، وفيه مصادر أخرى.

 

(1/1456)

 

 

وحج في رحلته الثانية، وجاء إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي سنة 341 هـ.

... ( وأبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلف الأندلسي(1) من أهل أستجة بالأندلس، رحل إلى طرابلس فحضر مجلس خيثمة وسمع منه، ثم انتقل إلى بغداد ومكة وأصبهان ونيسابور ومرو، وطوف البلاد إلى أن توفي في بخاري سنة 348 هـ.

__________

(1) ... الحمدي، جذوة الاقتباس، صص. 234 ـ 235؛ ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص. 207؛ تاريخ دمشق، ج 21، صص. 312 ـ 313، رقم 2563؛ الموسوعة، ق 1، ج 2، صص. 290 ـ 291، رقم 631.

 

(1/1457)

 

 

... ( وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر الأموي الأندلسي(1) من أهل قرطبة، نزل طرابلس الشام وأقام بها مدة حتى أكثر من السماع على خيثمة، ثم رحل إلى الكوفة وأصبهان ومَرو، وصحب عميد الدولة صاحب مدينة بَلْخ فكسب معه مالاً عظيماً، وانتهى به المطاف في بخاري حيث توفي هناك سنة 365 هـ.

__________

(1) ... تاريخ علماء الأندلس، ج 1، ص. 278؛ تاريخ دمشق، 42، ص. 344 ـ 346؛ الموسوعة، ق 1، ج 3، صص. 142 ـ 143، رقم 819.

 

(1/1458)

 

 

... ( وأبو جعفر أحمد بن عون الله بن جدير بن يحيى القرطبي الأندلسي(1)، وِلد سنة 300 هـ. وسمع الحديث ببلده قرطبة، ثم رحل إلى مصر والشام والحجاز، وقصد طرابلس فسمع من خيثمة، وبلغ شيوخُه الذين روى نهم اثنين وسبعين رجلاً وامرأتين. وعاد إلى قرطبة فكان يحدث بمسجدها بسنده عن خيثمة الأطرابلسي وغيره، إلى أن توفي سنة 378 هـ.

__________

(1) ... تاريخ علماء الأندلس، ج 1، ص. 54؛ الموسوعة، ق 1، ج 1، صص. 362 ـ 363، رقم 176 وفيه مصادر أخرى.

 

(1/1459)

 

 

... ( وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج الأموي القرطبي(1) المحدّث الحافظ القاضي المصنف الفقيه. صنف في فقه الحديث، وفقه التابعين. ولد سنة 315 هـ. وكان يسكن بقرب عين قنت أورية من قرطبة. قام برحلة واسعة لسماع الحديث، فارتاد مصر، وسمع بالإسكندرية والقُلزم والفَرما وغزّة وفيساريّة وعسقلان والرملة وطبرية وصور وصيدا وبيروت، وسمع على خيثمة بطرابلس،

__________

(1) ... تاريخ علماء الأندلس، ج 1، ص. 385؛ الحميدي، جذوة الاقتباس، ص. 40؛ بغية الملتمس، ص. 49؛ الموسوعة، ق 1، ج 4، صص. 105 ـ 106، رقم 1312.

 

(1/1460)

 

 

ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى جدة ومكة والمدينة، وبلغ شيوخه 230 شيخاً، وعاد إلى بلده سنة 345 هـ. واتّصل بالحَكَم المستنصر، وصارت له مكانة عنده، واستقضاه على أستجة، ثم على المَرِيّة، وصنف "فقه الحسن البصْري" في 7 مجلدات، و"فقه الزُهْريّ" في أجزاء كثيرة، وكان من أوثق المحدثين بالأندلس، وأبصرهم بالرجال، وأصحهم كتباً. توفي سنة 380 هـ.

... ( وأبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد القحطاني المعافري(1)

__________

(1) ... تاريخ علماء الأندلس، ص. 89؛ ابن السمعاني، الأنساب، ص. 444 أ؛ المقري، نفح الطيب، ج 2، ص. 342 و352؛ الموسوعة، ق 1، ج 4، صص. 211 ـ 213، رقم 1447.

 

(1/1461)

 

 

أحد فقهاء المالكية بالأندلس. طوف في رحلته إلى المشرق طلباً لسماع الحديث بين مصر والحجاز والشام والجزيرة وأصبهان ونيسابور، ووصل إلى مَرُو وبُخارى، وتوفي هناك. وقد نزل أثناء رحلته بطرابلس وحضر مجلس خيثمة وسمع منه. وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته.

... ( وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حَصْن الغافقي الأندلسي(1)، رحل إلى المشرق، وسمع بديار مصر

__________

(1) ... ابن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، طبعة الجزائر، 1919، ص. 163؛ نفح الطيب، ج 3، ص. 360؛ الموسوعة، ق 1، ج 1، صص. 233 ـ 234، رقم 32 وفيه مصادر أخرى.

 

(1/1462)

 

 

والشام والعراق والجبال وطبرستان، ونزل أثناء رحلته بطرابلس، وأخذ الحديث عن اثنين من محدثيها، هما : عمر بن داود بن سلمون(1) (توفي سنة 390 وقيل 395 هـ)، والحسين بن عبد الله بن محمد المعروف بـ"ابن أبي كامل الأطرابلسي"(2)

__________

(1) ... تاريخ دمشق، ج 54، صص. 5 ـ 7؛ سبط ابن الجوزي، مرآت الزمان (مخطوط)، ج 11، ق 2، ص. 211؛ الأنساب، ص. 105 ب؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، ج 6، ص. 37؛ الموسوعة، ق 1، ج 3، صص. 379 ـ 381، رقم 1151.

(2) ... انظر عن ابن أبي كامل في: تاريخ بغداد، ج 1، ص. 411؛ والخطيب البغدادي، موضح أوهام الجمع والتفريق، ج 2، ص. 17؛ والكراجكي، التفصيل، ص. 7 و13 (طهران 1370)؛ وتاريخ دمشق، ص. 13، ص. 97؛ وابن القيسراني، الأنساب المتفقة، ص. 11؛ ومعجم البلدان، ج 2، ص. 190؛ وابن القرنسي، ذيل تاريخ دمشق، ص. 106؛ وابن نقطة، تكملة الإكمال، ج 3، ص. 559، رقم 3710؛ وابن الخطاب، المشيخة، ص. 252، والجزء الباقي من الفوائد المخرجة للسلمي (مخطوط بالظاهرية)، مجموع 80، وراقة 26 ب، 27 أ؛ نفح الطيب، ج 3، ص. 360؛ ابن الأبار، التكملة، ص. 599 (مدريد 1889)؛ ديوان عبد المحسن الصوري، ج 1، صص. 396 ـ 397؛ الموسوعة، ق 1، ج 2، ص. 146 ـ 150، رقم 486.

 

(1/1463)

 

 

ابن أخت خيثمة (توفي سنة 414 هـ). وبعد انتهاء رحلته، عاد إلى دمشق وولى الحسبة فيها سنة 375 هـ وبقي حتى توفي سنة 404 هـ.

 

* * * * ...

... وفي مقابل الأندلسيين الذين قاموا إلى طرابلس الشام وأخذوا على شيوخها، فقد رحل من طرابلس إلى الأندلس ونزل عاصمتها قرطبة واستوطنها الشيخ عبد الرحمن بن حاتم التميمي في أوائل القرن الرابع الهجري، فكان من عقبه هناك ابنه محمد المعروف بـ"ابن الطرابلس"(1) وكان محدثاً، توفي بمرسية سنة 417 هـ.

__________

(1) ... ابن بشكوال، الصلة، ج 2، ص. 480؛ الموسوعة، ق 1، ج 4، ص. 221، رقم 1464.

 

(1/1464)

 

 

... ( وحفيده أبو القاسم حاتم بن محمد بن عبد الرحمن بن حاتم الطرابلسي، الأندلسي(1) كبير محدثي قرطبة والأندلس على الإطلاق. كتب جده تاريخ ولادته في النصف من شعبان سنة 378 هـ. ورحل إلى المشرق سنة 402 هـ. فأخذ على شيوخ عصره في القيروان ومكة، ولم يأخذ في ديار مصر عن أحد، وعاد إلى القيروان سنة

__________

(1) ... الصلة، ج 1، صص. 154 ـ 157؛ بغية الملتمس، ص. 270؛ فهرسة الإشبيلي، صص. 44 ـ 45؛ القاضي عياض، الغنية، ص. 106 و171 و187 و228 و280؛ مخلوف، شجرة النور الزكية، ص. 120؛ الموسوعة، ق 1، ج 2، صص. 67 ـ 74، رقم 385.

 

(1/1465)

 

 

404 هـ. ومكث مدة يقابل كتبه، وينسخ سماعاته من أمالي شيوخه وأصولهم، وجالس كبار العلماء، وانصرف إلى بلده وقد جمع علماً كثيراً، وسكن طليطلة مدة فأخذ عنه الكبار والصغار لطول عمُره، ودُعي ليتولى القضاء بقرطبة فأبى، وكان في عداد المشاورين بها، وطبقت شهرته بلاد الأندلس كلها وبلاد المغرب، فكان الطلبة والشيوخ يتقاطرون بالعشرات لسماعه والأخذ عنه، وكان عالماً بالقراءات والنحو واللغة والتفسير والحديث والفقه وعلم الرجال والجرح والتعديل وغريب الحديث والمغازي وغيره، فكان شيخ الأندلس، وعالمها ومسندها، حتى توفي

 

(1/1466)

 

 

سنة 469 هـ.

 

* * * * ...

... وقبل أن أختم موضوع العلائق الثقافية بين الأندلسيين وطرابلس الشام، لابد من التنويه بواجد من مشاهير نظار دار العلم بطرابلس، من أهل الأندلس، هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الطليطُلي(1) الذي يُعتقد أنه غادر طُليطلة بعد سقوطها في أيدي القشتاليين(2) سنة 478 هـ/

__________

(1) ... عمر عبد السلام تدمري، لبنان من السيادة الفاطمية حتى السقوط بيد الصليبيين، القسم الحضاري، دار الإيمان، طرابلس، 1994، صص. 238 ـ 239.

(2) ... د. سيد عبد العزيز سالم، طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، ص. 387.

 

(1/1467)

 

 

1085 م. فنزل طرابلس الشام في عهد أميرها جلال المُلك ابن عمار(1)، ثم أصبح ناظراً على دار العلم في عهد فخر الملك ابن عمار(2)، وبقي في منصبه حتى سقطت طرابلس بين الفرنج الصليبيين سنة 502 هـ/ 1109 م. فأحرقوا دار العلم ومكتبتها الذائعة الصيت ذات الثلاثة ملايين مخطوط(3)، وأخذوا

__________

(1) ... انظر عنه في كتابنا: لبنان من السيادة الفاطمية، القسم السياسي، ص. 165 وما بعدها.

(2) ... انظر عنه: المرجع السابق، ص. 189 وما بعدها.

(3) ... ابن الفرات، تاريخ الدول والملوك، مخطوطة فيينا، رقم 814، ورقة 38 أ، ب.

 

(1/1468)

 

 

الطُليطُلي أسيراً. ونظراً لمكانته وفضله وعلمه، فقد دفع أمير شَيْرز وأخوه مبلغاً من المال للفرنج وافتدياه، واستضافه أمير شيرز عنده ليكون أستاذاً لابنه الأمير أسامة بن منقذ؛ فأقام عندهم عشر سنين يعلمه النحو. وكان من تلامذته الأمير سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ(1)، وهو من مواليد طرابلس سنة 464 هـ/ 1072 م. وقد درس عليه قبل أن يصبح ناظراً على دار العلم؛ كما قصد

__________

(1) ... انظر عن سلطان بن منقذ في كتابنا: لبنان من السيادة الفاطمية... القسم الحضاري، صص. 245 ـ 246، وقد حشدت فيه مصادر كثبيرة لترجمته.

 

(1/1469)

 

 

طرابلس الشاعر الدمشقي المعروف بـ"ابن الخياط"، فالتحق بدار العلم، وغشي حلقة الدرس التي كان يعقدها الطُليطُلي. فكان الطُليطُلي أستاذاً صارماً يعنِّف الطلاب الذين لا يحفظون ما يمليه عليهم من دروس، وكان ابن الخياط من بينهم. وقد نقل المؤرخ الذهبي عن الطُليطُلي قوله :

 

... وكان ابن الخياط أول ما دخل طرابلس وهو شاب، يغشاني في حلقتي وينشدني ما أستكثره له، فأتهمه، لأني كنت إذا سألته عن شيء من الأدب لا يقوم به، فوبخته يوماً على قطعة عملها، وقلت : أنت لا تقوم بنحو ولا لغة، فمن أين لك هذا االشعر؟

 

(1/1470)

 

 

فقام إلى زاوية ففكر، ثم قال : اسمع :

 

وفاضلٍ قال إذ أنْشدْتُهُ نُخَباً

لا شيء عندَكَ مما يسْتَعينُ به

فلاَ عروضٌ ولا نحْوٌ ولا لُغَةٌ

فقلْتُ قول امرئٍ صحَّت قريحَتُهُ :

ذوْقِي عروضِي، ولفْظِي جُلُّهُ لُغَتِي،

 

من بعض شعْري، وشعْرِي كلُّهُ نُخَبُ

من شأْنُهُ النَظْمُ والخُطَبُ

قل لي، فمن أين هذا الفضل والأدب

إن القريحة عِلْمٌ لَيْسَ يُكْتَسَبُ

والنحوُ طبْعي، فهل يعتاقني سبب؟

 

فقال أبو عبد الله الطُليطُلي : حسبُك الله، والله لا استعظمتُ لك بعدها عظيماً. ولزمه بعد ذلك، فأفاد ابن الخياط من الأدب ما

 

(1/1471)

 

 

استقل به(1).

... وكان الطُليطُلي من الحفَظَة المُكثرين، ويتمتع بملكة نادرة وذاكرة قروية في حفظ نصوص الكتب والمتون. وقد أشار الأمير أسامة بن منقذ إلى ذلك في كتابه "الاعتبار" عندما اختبره في قوة حفظه فقال ما نصه :

 

... الشيخ العالم، أبو عبد الله الطُليطُلي، النحوي، رحمه الله. وكان في النحو سيبويه زمانه. قرأت عليه النحو نحواً من عشر سنين وكان متولي دار العلم بطرابلس، وشاهدت من الشيخ أبي عبد الله عجباً. دخلت عليه يوماً لأقرأ عليه، فوجدت بين

__________

(1) ... الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 19، صص. 480 ـ 481.

 

(1/1472)

 

 

يديه كتب النحو، "كتاب" سيبويه، وكتاب "الخصائص" لابن جني، وكتاب "الإيضاح" لأبي علي الفارسي، وكتاب "اللُّمع"، وكتاب "الجمل". فقلت : يا شيخ أبا عبدا لله ! قرأت هذه الكتب كلها؟! قال: قرأتها! لا والله إلا كتبتها في اللوح وحفظتها. تريد تدري؟ خذ جزءاً وافتحه واقرأ من أول الصفحة سطراً واحداً، فأخذت جزءاً وفتحته وقرأت منه سطراً، فقرأ الصفحة بأجمعها حفْظاً حتى أتى على تلك الأجزاء جميعها. فرأيت منه أمراً عظيماً ما هو في طاقة البشر(1).

__________

(1) ... ابن منقذ، الاعتبار، صص. 208 ـ 209.

 

(1/1473)

 

 

... وممن قرأ على الطُليطُلي وهو في شيْزر الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة الكفرطابي(1) المتوفى سنة 553 هـ. وعبد القاهر بن عبد الله المعروف بالوأواء الحلبي(2) المتوفى سنة 551 هـ.

... وبقي الطُليطُلي مقيماً في شيْزَر حتى عُرف بنزيلها، إلى أن توفي حول سنة 512هـ/ 1019 م.

... وتذكر المصادر التاريخية أن مناظرة فقهية قد جرت في مجلس فخر المُلْك ابن عمار بين ابن أبي روْح(3)

__________

(1) ... العماد الأصفهاني، خريدة القصر، قسم شعراء الشام، ج 1، ص. 573.

(2) ... الخريدة، ج 1، ص. 76.

(3) ... انظر عن ابن روح في : لبنان من السادة الفاطمية، القسم الحضاري، صص. 236 ـ 238، وفيه مصادر كثيرة لترجمته.

 

(1/1474)

 

 

قاضي الإمامية وناظر دار العلم، وبين بعض الفقهاء المالكية(1)، وهو ما يؤيد وجود جماعة من الأندلسيين أو المغاربة في طرابلس.

 

العلائق السياسية

... وفي مجال العلائق السياسية، احتل المغاربة المرتبة الأولى بحضورهم، إلى جانب الحضور الديني والعسكري، وذلك في العصر الفاطمي. إذ منذ أن بسط الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام بعد سنة 360 هـ، أخذوا يولّون القُضاة والوُلاة

__________

(1) ... الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، المجلد 36 (حوادث 501 ـ 520 هـ)، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1994، ص. 449.

 

(1/1475)

 

 

والقادة على المدن الرئيسة والولايات، وبشكل خاص في طرابلس، لأنها كانت قاعدة أمامية متقدمة على ساحل الشام في مواجهة الدولة البيزنطية التي كانت تهدد الأطراف الشمالية في بلاد الشام. ولذا أضحت طرابلس قاعدة أساسية للدعوة الفاطمية الإسماعيلية من الناحية الدينية، ومركزاً مهماً للأسطول البحري والقوات البرية من الناحية العسكرية، فضلاً عن اتخاذها عاصمة لولاية إدارية متَّسعة الأرجاء تمتد حدودها من نواحي نهر الكلب جنوباً، حتى مدينة اللاذقية شمالاً.

 

(1/1476)

 

 

... ونظراً لهذه الأهمية، فقد حرص الفاطميون على أن يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، وهم الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم؛ ولذا أعْطيت الولاية وقيادة العسكر للقائد نزّال الغوري الكُتامي، وهو من قبيلة كُتامة المغربية البربرية، ومن صناديد المغاربة، ووُضع تحت إمرته ستة آلاف رجل من عسكر طرابلس(1)، ثم ابنه المظهر محمد بن نزّال(2)، والقائد جيش بن الصمصامة(3)،

__________

(1) ... ذيل تاريخ دمشق، ص. 30.

(2) ... لبنان من السيادة الفاطمية، القسم الحضاري، صص. 60 ـ 61.

(3) ... المرجع نفسه، ص. 61.

 

(1/1477)

 

 

والقائد أبو سعادة المغربي(1)، والوالي علي بن جعفر بن فلاح الكُتامي(2)، ومختار الدولة ابن نزّال(3).

... وحين كلّف الخليفة المعزُّ لدين الله الفاطمي والي طرابلس ريان الخادم بإخراج القائد الفاطمي أبا محمود وابن أخته مقدم العسكر ابن الصمصامة من دمشق، خرج الاثنان في جماعة يسيرة من الجند، وبقي القسم الأكبر مع ريان، فأتى بهم وبمن كان خرج معه من عسكر المغاربة إلى طرابلس للدفاع عنها في وجه الإمبراطور البيزنطي

__________

(1) ... المرجع نفسه، ص. 63.

(2) ... المرجع نفسه، صص. 61 ـ 62.

(3) ... المرجع نفسه، ص. 63.

 

(1/1478)

 

 

باسيل(1). وقبل أن تصل حملة الإمبراطور إلى المدينة، اصطدمت قواته بنحو ألفين من العسكر المغاربة كانوا يرابطون عند وجه الحجر، وقد سماهم الإمبراطور بـ"الإفريقيين"(2).

... ولما استولى بنو أبي الفتح على طرابلس، جاءهم الأمير حيدرة بن مُنْزو الكُتامين وتمكن من القضاء على حركتهم بمساعدة ابن قبيلته أيضاً أمين الدولة ابن عمار(3)، وتزوج جلال المُلْك ابن عمار صاحب طرابلس

__________

(1) ... Documents arméniens, vol. I, p. 18.

(2) ... المصدر نفسه.

(3) ... المرجع نفسه، ص. 86؛ تاريخ دمشق، مخطوطة التيمورية، 1041، 43/37.

 

(1/1479)

 

 

ابنة الأمير حيدرة بن مَنْزر(1)، كما التجأ مُعلَّى الكُتامي وهو ابن حيدرة إلى طرابلس ليحتمي بصهره خوفاً من الخليفة الفاطمي(2).

... وبلغ الحضور المغربي أوجه بإعطاء منصب القضاء للشيوخ من بني عمار الكُتاميين، اعتباراً من أوائل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وهم يُنْسَبون إلى أبي محمد حسن الملقب بأمين الدولة، شيخ كُتامة ووزير مصر(3)

__________

(1) ... ذيل تاريخ دمشق، ص. 86، تاريخ دمشق، مخطوطة التيمورية، 1041، 43/ 37.

(2) ... ذيل تاريخ دمشق، ص. 86، تاريخ دمشق، مخطوطة التيمورية، 1041، 43/ 37

(3) ... انظر سلسلة نسب بني عمار في كتابنا: لبنان من السيادة الفاطمية، القسم السياسي، صص. 150 ـ 151.

 

(1/1480)

 

 

، وقد قتله الحاكم بأمر الله سنة 390 هـ. ومنهم أبو الحسن عمَّار الملقب بـ"خطير الملك رئيس الرؤساء"، وقد وقع عن الحاكم بأمر الله، وبايع الخليفة الظاهر في سنة 411 هـ وعزل وقُتِلَ سنة 412 هـ(1).

... وممن كان بطرابلس من هذه الأسرة: أبو الكتائب أحمد(2) الذي ألف له الكراجكي(3)، وأبو طالب عبد الله الملقب بـ"أمين الدولة"،

__________

(1) ... تاريخ الأنطاكي، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، طبعة جروس برس، طرابلس، 1989، ص. 374، وفيه مصادر أخرى.

(2) ... راجع سلسلة النسب.

(3) ... الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 3، ص. 105.

 

(1/1481)

 

 

وهو مؤسس إمارة طرابلس شبه المستقلة عن الدولة الفاطمية، بعيد سنة 457 هـ؛ وتوفي سنة 464 هـ(1). وأبو طالب محمد المعروف بالرئيس وكان موجوداً سنة 420 هـ(2). وأبو علي الحسن وهو قرأ على المؤرخ الخطيب البغدادي بجامع صور سنة 459 هـ(3)، وأبو الحسن علي الملقب بـ"جلال الملك" الذي حكم طرابلس 28 عاماً (464 هـ ـ 492 هـ) وجدد بناء "دار العلم"(4)

__________

(1) ... انظر سلسلة النسب.

(2) ... انظر سلسلة النسب؛ وابن حجر، لسان الميزان، ج 2، ص. 267.

(3) ... البغدادي، الفقيه والمتفقه، ج 1، ص. 39.

(4) ... ابن العديم، الإنصاف والتحري، مخطوطة دار الكتب المصرية، 1085؛ تاريخ تيمور، ورقة 50.

 

(1/1482)

 

 

، وأخوه أبو علي عمار الملقب بـ"فخر الملك" الذي حكم نحو عشر سنين (492 ـ 501 هـ) قبل أن تخرج طرابلس من يده(1)، وابن عمه أبو الفرج محمد الملقب بـ"شمس الملك ذي المناقب"، الذي حكم لفترة قصيرة من سنة 501 هـ(2)، وغيره. وفيهم يقول المقريزي:

... وكانت الدولة قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية. فلما جاءت الشدائد، تغلبوا عليه. ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه، فلم يرموا

__________

(1) ... راجع كتابنا: لبنان من السيادة الفاطمية، القسم الساسي، ص. 225 وما بعدها.

(2) ... المرجع السابق، ص. 221 وما بعدها.

 

(1/1483)

 

 

أيديهم في يدها، ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح على ولاتهم... (1).

 

... ولبني عمار الكتاميين تاريخ حافل بطرابلس لا مجال للإحاطة به في هذا البحث. فهو يحتاج مجلداً ضخماً؛ فقد كان دورهم متعدد الأوجه: سياسياً، وثقافياً، وعمرانياً، وعسكرياً، واقتصادياً، طوال نصف قرن تقريباً.

... وفي أيامهم كانت السفن التجارية تأتي من بلاد الأندلس والمغرب، كم كان للخليفة الفاطمي سفن تسافر من طرابلس إلى المغرب للتجارة(2)

__________

(1) ... المقريزي، اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، ج 3، ص. 78.

(2) ... ناصر خسرو، سفر نامه، ص. 48.

 

(1/1484)

 

 

.

... ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502 ـ 688 هـ/ 1109 ـ 1289 م. أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعاً إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516 هـ/ 1123 م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله(1)

__________

(1) ... اتعاظ الحنفا، ج 3، ص. 78 ـ 80.

 

(1/1485)

 

 

.

...

في عصر الحروب الصليبية

... رزحت طرابلس تحت الاحتلال الفرنجي أكثر من 180 عام. وكان من الطبيعي أن ينقطع كل ذكر للوجود الأندلسي ـ المغربي فيها، فلم يصلنا عن تلك المدة بطولها، وفي كل المصادر على كثرتها، سوى إشارة واحدة إلى استعانة الفرنج بمحاربين من الأندلس أتوا بهم بحراً للمشاركة في قتال المسلمين وحصار دمشق سنة 543 هـ/ 148 م. إذ يقول أبو الحكم الأندلسي ـ وهو مقيم بدمشق ـ من قصيدة له:

 

أتَانَا مائَتَا ألْفٍ

فبعضُهَم من أنْدَلُس

ومن عكا ومِنْ صور

إذَا أبْصرتَهُم أبصر

 

عَدَداً أو يزيدونَا

 

(1/1486)

 

 

وبعضهم من فلسطينَا

ومن صيْدَا وتبنِينا

ت أقْواماً مجانينا(1)

 

... ومن غير المعروف إن كانت طرابلس استقبلت أحداً من أولئك المحاربين الأندلسيين. والمرجّح انهم لم يصلوا إلى مينائها، إذا امتنع كونت طرابلس ريموند الثاني (531 ـ 546 هـ/ 1133 ـ 1152 م) عن المشاركة في تلك الحملة خوفاً على عرشه(2).

__________

(1) ... أبو شامة، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، ج 1، ق 1، ص. 139.

(2) ... عمر عبد السلام تدمري، لبنان من السقوط بيد الصليبيين حتى التحرير، دار الإيمان، طرابلس، 1997، ص. 62.

 

(1/1487)

 

 

... ولكن من اللافت للنظر أن عالماً أندلسياً هو علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي الأندلسي المعروف بالحرالي، نسبه إلى حرالة من أعمال مُرسية، نزل طرابلس وسكنها وهي تحت احتلال الفرنجة، وكان صوفياً كبيراً، وإماماً شهيراً في العلوم. صنف تفسيراً أبدى فيه من مناسبات الآيات والسور ما يبهر العقول، فكان هو الأساس الذي بني عليه البرهان البقاعي تفسيره المعروف بـ"نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، وقيل هو رأس مال البقاعي؛ ولولاه ما راح ولا جاء. ولكن تفسير الحرالي لم يتم، ومن حيث وقف، وقف حال البقاعي

 

(1/1488)

 

 

في مناسباته، حسب قول المناوي.

... دخل الحرالي مصر فأقام ببلبيس مدة، ثم سكن طرابلس الشام، وأخيراً انتقل إلى حماة فمات بها، وقيل مات بحلب سنة 637 هـ(1).

 

في عصر المماليك

... غير أن الأندلسيين والمغاربة يعود وجودهم بقوة في عصر المماليك، وهم يتبعون المذهب المالكي، ويكثر جمعُهُم بطرابلس حتى أصبح لهم قُضاة يفصلون في قضاياهم على مذهبهم، مثلهم مثل الشافعية والأحناف والحنابلة، وكان المالكيون يأتون في المرتبة

__________

(1) ... النبهاني، جامع كرامات الأولياء، ج 2، ص. 173؛ الموسوعة، ق 2ن ج 3، ص. 17، رقم 692.

 

(1/1489)

 

 

الثالثة بعد الشافعية والأحناف، وهم يتقدمون على الحنابلة.

... كما ظهر ـ ولا يزال زاهراً حتى الآن ـ الأثر الأندلسي ـ المغربي في عمارة طرابلس المملوكية، في الهندسة والتزيينات والكتابة بالخط المغربي، والمظاهر الأخرى.

... ويمكن القول إن جماعة من الأندلسيين والمغاربة كانوا من جملة المتطوعة الذين أتوا من مصر مع جيش المنصور قلاوون(1) وأسهموا في فتح طرابلس وتحريرها من الفرنجة سنة 688 هـ/ 1289 م، ثم نزلوها واستوطنوها، وشاركوا في إعادة بناء مدينة المنصور

__________

(1) ... لبنان من السقوط بيد الصليبيين، ص. 368.

 

(1/1490)

 

 

المستحدثة بعد أن هُدمَت المدينة الساحلية القديمة. وتركوا طابعهم واضحاً على عمارتها المدنية والدينية. وكان لهم مشاركتهم في الدفاع عن المدينة، وإثراء القضاء والحياة الثقافية.

 

المشاركة العسكرية

... ينفرد النُوَيْرِيّ السَّكَنْدَري دون غيره من المؤرخين بذكر الرئيس البطرني المغربي قاضي طرابلس، ومشاركته في جهاد الفرنج، حين خرج مع نائب السلطة بها أسندمر الكُرجي لحصار جزيرة أرواد سنة 702 هـ/ 1302 م. وكان الفرنجة قد اتخذوها قاعدة لمواصلة اعتداءاتهم على سواحل الشام، والتعرض للسفن التجارية في البحر،

 

(1/1491)

 

 

واعتنى صاحب قبرس بها وبعمارتها مع جماعة من قادة الفرنج، وبنوا فيها سوراً تحصنوا به، وأسموها عكا الصغيرة(1). وتم فتح الجزيرة بعد قتال لم يدُم سوى ساعة واحدة(2). فمن هو الرئيس البطرني المغربي هذا؟

... إن المصادر المعتمدة لم تفدنا عنه شيئاً. بل جاء في "إنباء الغُمٍْ في أبناء العُمْر" لابن حجر العسقلاني، و"الضوء اللامع" للخاوي، ترجمة لواحد يُعرب بالبطرني هو محمد بن إسماعيل تاج الدين ابن العماد

__________

(1) ... العيني، عقد الجمان، مخطوط، ج 21، ق 2، ص. 264.

(2) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ج 3، ص. 928.

 

(1/1492)

 

 

المغربي الأصل، الدمشقي، المالكي. كان في خدمة القاضي عَلَم الدين القفصي، وعمل نقيبه. وبعد موته ولي قضاء طرابلس، ثم ناب عن القاضي المالكي. وكان عفيفاً في مباشرته، يستحضر طرفاً من الفقه. مات بالطاعون في شهر صفر سنة 833 هـ(1). فيُحتمل أن يكون البطرني المجاهد في أرواد واحداً من أجداد محمد بن إسماعيل هذا.

... وفي السيرة الشعبية للظاهر بيبرس يرد ذكر أبي بكر البَطَرني الطنجاوي، وهو بحار يقود غليوناً ومعه 475 بحار يأتمرون

__________

(1) ... ابن حجر، إنباء الغمر، ج 3، ص. 449؛ السخاوي، الضوء اللامع، ج 7، ص. 44.

 

(1/1493)

 

 

بأمره، وهو ابن حاكم طنجة... وتزعم السيرة أنه شارك في موقعة بحرية دارت بين الروم (!) والملك الصالح الصالح بن أيوب، بالقرب من ميناء جنوى الإيطالي، فينتصر أبو بكر البَطَرني على الروم، ثم يدخل الميناء بفضل غرابه البحري(1). وتروي السيرة عنه أخباراً كثيرة؛ ومن بين تلك الأخبار دخوله جزيرة أرواد مع السلطان الظاهر بيبرس! والقبض على ملك الجزيرة المدعو جمجرين ! (2)

__________

(1) ... سيرة الملك الظاهر بيبرس، صص. 126 ـ 129.

(2) ... السيرة، ج 3، ص. 344.

 

(1/1494)

 

 

... وسواء كان البَطَرني الذي شارك في فتح أرواد مع نائب طرابلس هو نفسه الذي ورد في السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، أو غيره، فإن تواتر الروايات يدعم وجود المغاربة بطرابلس. ويقال إن قبر البطرني المغربي لا يزال موجوداً على ساحل البحر في مدينة اللاذقية(1).

... وكان بطرابلس جنود من المغاربة يرابطون على ساحلها(2)

__________

(1) ... إحسان جعفر، "أرواد درة البحر"، مجلة الفيصل، العدد 91، سنة 1984، ص. 24.

(2) ... عمر عبد السلام تدمري، تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور (دولة المماليك)، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص. 149.

 

(1/1495)

 

 

، وقد اشتركوا في الدفاع عن المدينة وتصدوا لملك قبرس بطرس دي لوزنيان بن هيو الرابع عندما غزاها بآلاف الفرنج وعشرات السفن الحربية في سنة 769 هـ/ 1367م. وحين داهمها الفرنج، كان عسكرها خارج المدينة شمالي بيروت قد خرج مع الحاجب لاستقبال نائب جديد، ولم يبق بها سوى القليل من التركمان والمغاربة. ولذا تمكن الغزاة من الاستيلاء على طرابلس يوماً وليلة، حتى تكاثر أهل المدينة، ومن أتاهم من التركمان المرابطين عند عرقة(1) مع قاضيها، ولحق بهم المغاربة حتى زاد

__________

(1) ... السلامي، مختصر التورايخ، مخطوط، ورقة 415.

 

(1/1496)

 

 

جمعُهم على خمسة عشر ألفاً، ودارت معارك طاحنة في الأسواق وبين البساتين، حتى دُحِر الغُزاة، وكان أول من استشهد اثنان من المغاربة، واثنان من التركمان، وواحد من أهل طرابلس(1).

... ويتكرر ذكر المغاربة مجدداً في حوادث سنة 802 هـ/ 1400 م أثناء الفتنة التي عصفت بطرابلس بين أهلها ونائب السلطنة يونس بُلطا، إذ بادر أجد الأمراء ـ ويدعى ناصر الدين محمد بن

__________

(1) ... النويري السكندري، الإلمام بالإعلام فيما جرت به الأحكام والأمور المقضية في واقعة الإسكندرية، مخطوط بدا الكتب المصرية، رقم 4193 تاريخ، ورقة 68.

 

(1/1497)

 

 

بهادر المؤمني ـ إلى الاستيلاء على برج من أبراج طرابلس الساحلية، وهو برج الأمير الأتابك سيف الدين أيتمش البجاسي، ومعه جماعة من المغاربة، وركب من هناك البحر إلى مصر، وعاد ومعه نحو عشرة من قادة المغاربة وغيرهم. والتجأ ثانية إلى برج ايْتْمُش. وعندما ثار أهل المدينة على نائب الغيبة، فر منهم إلى ناحية حمص، فعاث الناس فساداً وكسروا أبواب القلعة ودخلوها ونهبوا ما فيها من حواصل النائب، وخرج المغاربة من البرج وشاركوا العوام في النهب، واستمروا على ذلك إلى آخر النهار حتى نودي بالأمان. ولما عاد النائب يونس

 

(1/1498)

 

 

بُلطا، اقتحم المدينة وقتل من أهلها 1732 إنسان(1)، وكان بين القتلى مفتيها، وقاضيها الحنفي، وقاضيها الحنبلي، وقاضي المالكية ابن شاشي وهو شهاب الدين أحمد بن إبراهيم الأذرعي المالكي(2)، وكان معزولاً عن منصبه قبل قليل.

 

القضاء

__________

(1) ... تاريخ ابن قاضي شهبة (المصور بدار الكتب المصرية)، ج 4، ص. 155؛ السلوك، ج 3، ق 3، ص. 996.

(2) ... انظر قائمة قضاة المالكية بطرابلس في: عمر عبد السلام تدمري، تاريخ طرابلس، عصر دولة المماليك، ص. 67.

 

(1/1499)

 

 

... يعتبر محمد البقاعي المالكي أول من تولى قضاء المالكية بطرابلس بصفة شرعية ابتداء من سنة 776 هـ/ 1374 م. ولم يلبث أن توفي في السنة ذاتها(1).

... وقد أحصيت أسماء عشرين قاضياً تعاقبوا على قضاء المالكية بطرابلس منذ سنة 776 هـ/ 1374 م حتى نهاية دولة المماليك 922 هـ/ 1516 م. وهم من أصول أندلسية ومغربية من تلمسان وطنجة وغيرها. وينسبون إلى بني أمية، ولخم، وصنهاجة، والتجاني، وغيره(2)

__________

(1) ... تاريخ طرابلس السياسي والحضاري، ص. 67؛ الدرر الكامنة، ج 5، ص. 86.

(2) ... راجع قائمة قضاة المالكية في تاريخ طرابلس، صص. 67 ـ 69.

 

(1/1500)

 

 

. ووصل الأمر بأحدهم من بني الناسخ، وهو كمال الدين محمد الناسخ الأطرابلسي المالكي أن أصبح هو الحاكم على طرابلس دون منازع في سنة 862 هـ، بالاستناد إلى نص المرسوم الذي أصدره في السنة المذكورة، ونقش على بوابة مدرسة سبط العطار(1)، وهذا نصه:

 

... الحمد لله. بتاريخ المحرم الحرام سنة اثنين وستين وثمانمائة أطل سيدنا ومولانا قاضي القضاة كمال الدين ابن الناسخ

__________

(1) ... انظر عن مدرسة سبط العطار في: عمر عبد السلام تدمري، تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر الممايك، طبعة دار البلاد، طرابلس، 1974، ص. 310.

 

(1/1501)

 

 

حال مباشرية (الصواب: مباشرته) وظهر القضاء المالكي بطرابلس ما كان على النحيرة...

 

... ومن الواضح أن هذه الكتابة يعتريها النقص، ولكننا نفهم من النقص أن مكساً كان يفرض على النحيرة من الأغنام وغيرها، فرسم قاضي القضاة المالكي ابن الناسخ بإبطاله.

... وليس لدينا ما يؤكد أن هذا المرسوم قد عمل به عند صدوره، إذ أن مرسوماً آخر بإبطال ما على النحيرة في طرابلس صدر بعد حوالي عشر سنين، في نيابة الأمير إينال الأشقر اليحياوي الظاهري (872 ـ 873 هـ)، ولكن صدور المرسوم عن قاضي القضاة المالكية دون نائب السلطنة،

 

(1/1502)

 

 

يعطينا انطباعاً بأن القاضي ابن الناسخ كان هو المنفرد في حكم طرابلس.

... ومن أشهر المغاربة الذين زاروا طرابلس في عهد المماليك الرحالة ابن بطوطة، محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي. فقد زارها في رحلته سنة 726 هـ/ 1326 م، وكتب عنها وصفاً رائعاً، إذ وصفها بأنها »إحدى قواعد الشام، وبلدانها الضخام، تخترقها الأنهار، وتحف بها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة، والبر بخيراته المقيمة، ولها الأسواق العجيبة، والمسارح الخصيبة، والبحر على ميلين منها«(1)

__________

(1) ... العوامري وزميله، مهذب رحلة ابن بطوطة، صص. 52 ـ 53.

 

(1/1503)

 

 

.

... وابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي، المصري، من ولد رويفع بن ثابت الأنصاري، وهو القاضي، صاحب معجم "لسان العرب" وغيره من المؤلفات الكثيرة. وقد اشتهر باختصار أمهات الكتب كـ"الأغاني"، و"تاريخ دمشق"، و"الذخيرة"، و"المحكم"، و"الصحاح"، و"الجمهرة"، و"النهاية"، و"مفردات" ابن البيطار، وغيره، وقيل إن مختصراته بلغت 500 مجلد.

... ولد سنة 630 هـ، وتولى قضاء طرابلس الشام للشافعية سنة 711 هـ (1)، وهي سنة وفاته؛ كما تولى نظر جيشها

__________

(1) ... تاريخ طرابلس، صص. 465 ـ 466. وفيه مصادر كثيرة.

 

(1/1504)

 

 

مدة. ويخطئ من يقول إنه ولي نظر طرابلس الغرب، ويظهر أن نسبة الأنصاري الرويفعي الإفريقي تجعل بعضهم يظنون ذلك، والمصادر الرئيسة لترجمته تذكر طرابلس دون إضافة إلى الشام أو إلى الغرب. ولكن من واقع دراسة عصر المماليك يمكن معرفة المدينة المقصودة، إذ أن وظيفة الناظر من الوظائف المعروفة في دولة المماليك. ولم تكن طرابلس الغرب تابعة لدولة المماليك. والمعروف أن المذهب السائد فيها هو المذهب المالكي، ولذا يمكن القطع بأن المقصود هو طرابلس الشام، ومؤرخو عصر المماليك المعاصرون كانوا يذكرون طرابلس دون إضافتها

 

(1/1505)

 

 

إلى الشام لاستغنائها عن التعريف وشهرتها عاصمة لإحدى نيابات السلطة. وهي كثيراً ما ترد في تواريخهم هكذا. أما الغربية (المغربية)، فكانت قليلاً ما يأتي ذكرها، وإذا ذكرت أضافوها إلى الغرب لتمييزها عن الشامية.

... ويؤكد ما ذهبنا إليه من أن المقصود هو طرابلس الشام، قول المؤرخ الحافظ الذهبي: »كتبت عنه«(1). والمعروف أن الذهبي نزل طرابلس الشام، وكتب فيها عن علمائها، ولم يعرف عنه أنه رحل إلى طرابلس الغرب.

__________

(1) ... الذهبي، ذيل تاريخ الإسلام، ص. 125؛ موسوعة علماء السلمين، ق 2، ج 4، صص. 208 ـ 210، رقم 1220.

 

(1/1506)

 

 

... ( ومن الأندلس، نزل طرابلس الشام وسكنها مدة شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهاجر الأندلسي، الوادي آشي، من مدينة وادي آش من كورة البيرة، بينها وبين غرناطة أربعون ميلاً(1). ثم رحل إلى حلب، وتحول إلى الحنفية، واشتمل عليه ابن العديم قاضيها، واستنابه في عدة مدارس، وفي الأحكام، وكان قيماً بالنحو والعروض، رائق النظم، خمَّس "لامية العجم" تخميساً جيداً. ومدح ابن الزملكاني لما ولي قضاء حلب بقصيدة على وزن

__________

(1) ... موسوعة علماء المسلمين، ق 2، ج 1، صص. 323 ـ 324، رقم 166، وفيه مصادر أخرى.

 

(1/1507)

 

 

قصيدة ابن النبيه التي أولها:

باكر صبوحك أهنى العيش باكره ... فقد ترنم فوق الأيك طائره

ومطلع قصيدته هو:

يمن ترنم فوق الأيك طائره ... وطائر عمت الدُّنْيا بشَائره

 

وله شعر كثير. وكانت وفاته سنة 739 هـ عن نحو خمسين سنة(1).

 

... ( ومن المغرب شهاب الدين أحمد بن البدر بن محمد بن أويس المغربي، الشافعي، نزل طرابلس فأقام بها مدة طويلة إلى أن توفي. وكان عالماً بالقراءات والفقه والنحو والحديث والفرائض. قرأ بالروايات على أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان التونسي

__________

(1) ... ذيل مرآة الزمان (المخطوط)، 2، ورقة 259 ب.

 

(1/1508)

 

 

نزيل طرابلس الشام في سنة 782 هـ. ولبس خرقة التصوف بحصن الأكراد سنة 784 هـ. وقرأ على محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري، وبهادر القرمي مسند طرابلس، ومحمد بن هبة الله، وأحمد بن علي بن محمد الأرموي، ومحمد بن المظفر الحسيني، وعلي بن اليونانية البعلبكي.

... وجلس للتدريس والإفتاء، فأخذ عنه جماعة من شيوخ طرابلس، منهم: ابن الوجيه، وجود القرآن عليه: علي بن أبي بكر بن أحمد بن شاور العلاء البرلسي البلطيمي الضرير (ت 874 هـ)، وقرأ عليه الحديث: محمد بن عبد الله بن خليل البلاطنسي الشافعي (ت 863 هـ)، وقرأ عليه

 

(1/1509)

 

 

الفرائض والوصايا: البرهان إبراهيم الشوبيني شيخ طرابلس وعالمها(ت859 هـ)، وأخذ عنه القراءات السبع والد القاضي الصلاح الطرابلسي الحنفي. مات في ذي القعدة سنة 830 هـ.

... وأبو الفضل محمد بن محمد بن أبي القاسم المشدالي الزووي، البجائي، المغربي، العالم العلامة الفيلسوف المتصوف الطبيب المرابط الرحال المنطقي المفسر المحدث الفقيه المهندس الزاهد المالكي. ولد ببجاية سنة 821 أو 822 هـ. وبدأ بحفظ القرآن في الخامسة، وأتمه في سنتين ونصف، وقرأ عشرات الكتب في علوم كثيرة، ورحل في أول سنة 840 هـ. إلى تلمسان فأخذ

 

(1/1510)

 

 

العلوم النقلية والعقلية، ومنها الجبر والمقابلة والهيئة وجر الأثقال والتقاويم والميقات بأنواعه من فنون الإسطرلابات والصفائح والموسيقى والأرتماطيقي والطلسمات، علم المرايا والمناظر، وعلم الأوفاق، وعلوم القياس والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والأدب، والمنطق، والجدل، والفلسفيات، والطب، والهندسة، والحساب، والفرائض، ثم عاد إلى بجاية في سنة 844 هـ. وقد برع في كل العلوم، وتصدر للإقراء ببجاية، ثم دخل عنابة، وقسنطينة، ثم دخل تونس في أواسط 845 هـ. ورحل في أواخرها إلى مصر، فساقت الريح مركبه إلى قبرس،

 

(1/1511)

 

 

ومنها انتقل إلى بيروت ودمشق، ثم نزل طرابلس، وحماة، وقطن بيت المقدس، ثم حج، وعاد إلى القاهرة.

... درس للناس في عدة فنون، فبهر العقول وأدهش الألباب. قال السخاوي: حضرت دروسه في فقه المالكية بجامع الأزهر في ذي القعدة سنة 852 هـ. فظهر لي أنني ما رأيت مثله، وأن من لم يحضر درسه لم يحضر العلم ولا سمع كلام العرب ولا رأى الناس، بل ولا خرج إلى الوجود. وكان سماع درس واحد من تقريره أكثر نفعاً من سماع مائة غيره... (1).

__________

(1) ... الموسوعة، ق 2، ج 1، صص. 284 ـ 285، رقم 109، وفيه مصادر ترجمته.

 

(1/1512)

 

 

... وقال ابن أبي عذيبة: شهد له الأئمة ببلدنا القدس وبدمشق ومصر وطرابلس الشام أنه أوحد أهل الأرض، وأنه عديم النظير في جنس بني آدم... وطول العلماء في وصفه وذكائه وسعة علمه وإحاطته بالعلوم، وما يزال يطوف البلاد براً وبحراً حتى مات غريباً فريداً في عنتاب أواخر سنة 864 هـ(1).

 

الآثار الأندلسية ـ المغربية

__________

(1) ... الموسوعة (المستدرك على القسم الثاني)، صص. 261 ـ 264، رقم 226؛ الضوء اللامع، ج 9، صص. 180 ـ 188، رقم 466.

 

(1/1513)

 

 

... ظهرت تأثيرات المهندسين والمعماريين الأندلسيين والمغاربة واضحة جداً في كثير من عمارة طرابلس، مثل مئذنة الجامع المنصوري(1) الكبير شبه المربعة الأضلاع، ومئذنة مسجد البرطاسي(2)، ومئذنة جامع طينال(3) ذات السلمين اللولبيين فوق بعضهما والتي لا مثيل

__________

(1) ... عمر عبد السلام تدمري، آثار كرابلس الإسلامية، طبعة دار الإيمان، طرابلس، 1994، ص. 19 وما بعدها.

(2) ...

(3) ... بناء الأمير سيف الدين طينال الحاجب الأشرقي سنة 736 هـ. (انظر عنه: عمر عبد السلام تدمري، تاريخ وآثار، مرجع مذكور، صص, 162 ـ 189).

 

(1/1514)

 

 

لها إلا في قرطبة، وفي القاعة العلوية من قصر الأمير عز الدين أيبك الموصلي(1) نائب السلطنة بطرابلس، وهي تشبه بالعقد الذي يتوسطها أقواس قاعات قصر الحمراء في غرناطة، في ألأفاريز الناتئة، والزخارف المتناغمة، على الرخام، والنافذة الشرقية المزدوجة التي تزينها الزخارف فوق أعمدتها وتيجانها، وفي النافذة الصغيرة في أعلى الواجهة الشرقية للمدرسة الطواشية(2)

__________

(1) ... تولى نيابة السلطنة بطرابلس من سنة 694 إلى 698 هـ، وتوفي ودفن بها بين قصره وحمامه، في محلة باب الحديد.

(2) ... بناها سيف الدين الطواشي في عصر المماليك، وسط سوق الصناعة. (انظر: تاريخ وآثار، مرجع مذكور، ص. 287 وما بعدها).

 

(1/1515)

 

 

، في وسط سوق الصاغة، حيث يتدلى من وسطها عمود بشكل حبل مجدول أندلسي الطراز، والشعاعات الرائعة في أعلى حنية بوابة المدرسة وهي تخرج من تجويفات هندسية بديعة تشبه المحارة أو الصدفة، وفي العمود الرخامي التي نقشت عليه أشكال حبال مجدولة، وتلتف حول نفسها بأبعاد متساوية داخل حرم مسجد الحجيجية(1). وفي محراب مقام الشيخ فضل الله المغربي(2)

__________

(1) ... يقع مسجد الحجيجية في وسط سوق النحاسين. (انظر عنه: تاريخ وآثار، مرجع مذكور، ص. 314 وما بعدها).

(2) ... تاريخ طرابلس (عصر المماليك)، صص. 371 ـ 372، رقم 107؛ النابلسي، التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية، صص. 93 ـ 94.

 

(1/1516)

 

 

، حيث تبدو التأثيرات الأندلسية ـ المغربية في تجويفة المحراب العليا التي زينها المهندس بتجويفات طولية في الجبس (الجص) على شكل شعاعات متوازية، وتجويفة المحراب نصف كروية شبيهة بمحارة البحر، وهي أشبه بحنية بوابة الطوشية. وليس جامع السيد عبد الواحد المكناسي(1) إلا واحداً من المعالم المغربية البناء بمئذنته الصغيرة، السداسية الأضلاع، ومحرابه البسيط، وقبته المفصصة، ولوحته الرخامية ذات الخط

__________

(1) ... بنى جامع السيد عبد الواحد سنة 705 هـ/ 1305 م. (انظر عنه: تاريخ وآثار، مرجع مذكور، ص. 155 وما بعدها).

 

(1/1517)

 

 

المغربي المميز، وهي تؤرخ لبناء الجامع. وقد وقف السيد عبد الواحد ـ وهو من مدينة مكناس المغربية ـ رواقاً للمغاربة ينزلون في حجراته العلوية، ويستضيف الرواق الحجاج المغاربة في ذهابهم وإيابهم، وجعل للجامع والرواق أوقافاً كثيرة للإنفاق من ريعها على مصالح الجامع ونزلائه. ولا يزال الرواق قائماً حتى الآن وجميع نزلائه من أصول مغربية. وعلى باب الجامع يقوم ضريح عبد السلام المشيشي، وهو من سلالة السيد عبد الواحد المكناسي، ومن أتباع الطريقة المشيشية التي انتشرت في المغرب الأقصى.

 

(1/1518)

 

 

... ويظهر التأثير الأندلسي واضحاً على الواجهة الغربية لمئذنة مسجد البرطاسي، حتى يخيل للناظر إلى هذه الواجهة لأول وهلة أنه يرى إحدى مآذن الأندلس أو المغرب العربي. ويشتد الإحساس بأن المهندس أندلسي الأصل، هاجر إلى طرابلس وأسهم في بناء معالمها وسجل طابعه الهندسي المميز في زخرفة العقدين التوأمين المنكسرين عند رأسهما، وتتناوب فيهما الحجارة البيضاء والسوداء، ويتركزان على ثلاثة مناكب من الحجارة البيضاء، وتنفتح تحتهما نافذتان مستطيلتان، يفصل بينهما عمود داكن اللون، والنافذتان مع العقدين ضمن إطار مجوف

 

(1/1519)

 

 

مستطيل الشكل غائر في واجهة المئذنة بحيث يبدو سطح العقدين بمستوى سطح واجهة المئذنة. وفوق هاتين النافذين الأخيرتين مباشرة مقرنصات متدرجة تشكل أسافين لقاعدة برج المئذنة المشرف إلى الخارج بحجم يزيد عن حجم ساق المئذنة، وهي الشرفة التي يقف عليها المؤذن(1).

... وقد لفت نظر المؤرخ الرحالة ابن فضل الله العُمَري في النصف الأول من القرن 8 هـ/ 14 م أن جميع أبنية طرابلس بالحجر والكلس، مبيضة ظاهراً وباطناً(2)

__________

(1) ... تاريخ وآثار، مرجع مذكور، صص. 212 ـ 213.

(2) ... ابن فصل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، مصور بدار الكتب المصرية، رقم 2568؛ تاريخ، ج 2، ق 3، صص. 448 ـ 450.

 

(1/1520)

 

 

. وظاهرة تبييض المباني نراها في مدن المغرب، وليست الدار البيضاء إلا نموذجاً من الطراز المغربي بتسميتها وطابعها، وليست طرابلس الشام إلا انعكاساً لها ببياض مبانيها.

... وحين بنى المماليك الأبراج الحربية الستة على ساحل طرابلس، اختص المغاربة بالمرابطة في واحد منها على الأقل. ولذلك عُرف بـ"برج المغاربة"(1)، ويُرجح أنه أحد اثنين: إما برج الأمير أيْتَمُش البجاسي(2)

__________

(1) ... J. Sauvager, « Notes sur les défenses de la marine de Tripoli », Bulletin du Musée de Beyrouth, N° II, Paris, 1938.

(2) ... هو الأمير الكبير أتابك العساكر بالديار المصرية، توفي سنة 802 هـ/ 1400 م، وبرجه لا يزال قائماً حيث أقيم مبنى سكني فوقه، وكان يعرف قبل سنوات ببرج عز الدين.

 

(1/1521)

 

 

، وإما برج الأمير مَنْكلي بُغا الأحمدي(1) المعروف أيضاً ببرج القناطر، أو الفاخورة، والأرجح لديّ هو البرج الثاني، وكان قريباً من برج الأمير برسباي الناصري المعروف ببرج السباع، وقد هُدم في النصف الأول من القرن العشرين لإنشاء محطة سكة القطار الحديدي مكانه(2)

__________

(1) ... تولى منكلي بغا الأحمدي نيابة السلطنة بطرابلس 4 مرات بين سنة 775 و782 هـ، حيث توفي. وذكر برجه بطرابلس غرس الدين الظاهري في: نيل الأمل في ذيل الدول، مخطوطة أكسفورد، ج 1، ورقة 249.

(2) ... الشيخ محمد كامل الباب، طرابلس عبر التاريخ، بتحقيقنا مع الحاج فضل المقدم، طبعة جروس برس، طرابلس.

 

(1/1522)

 

 

. ولدينا صورة نادرة عنه قبل هدمه. ويتردد ذكره كثيراً في سجلات المحكمة الشرعية بطرابلس العائدة للعصر العثماني. ففي سنة 1079 هـ كان إمام مسجد المغاربة داخل البرج الشيخ مصطفى بن محمد جلبي(1)، وفي سنة 1165 هـ تولى إمامته عمر أفندي قايمقام نقيب السادة الأشراف الابن الصُّلْبي لحاكم طرابلس الشرعي، لانحلال الوظيفة عن محمد بن مصطفى مقابله جي(2)، وفي سنة 1194 هـ تقرر في إمامته عبد

__________

(1) ... سجل المحكمة الشرعية بطرابلس، رقم 2، سنة 1079 هـ، ص. 104.

(2) ... سجل المحكمة الشرعية بطرابلس، لسنة 1165 هـ، ص. 278.

 

(1/1523)

 

 

القادر بن حسين مفتي زاده لوفاة شقيقه عبد الرحمن، ثم فرغ عبد القادر للشيخ حامد بن الشيخ حسين أبي النصر في الخامس في المحرم(1).

... وفي وثيقة عثمانية لسنة 974 هـ/ 1566 م، جاء أن عدد الجُند المرابطين في برج المغاربة كانوا سبعة (7) فقط يعرفون بـ"مستحفظان"(2). وفي وثيقة أخرى لسنة 1144 هـ ارتفع عدد المرابطين إلى خمسة

__________

(1) ... سجل المحكمة الشرعية بطرابلس، رقم 27، ص. 265.

(2) ... العسكر في بلاد الشام لنوفان حمود، صص. 30 ـ31، دفتر مالية مدورة لرئاسة الوزارة التركية لسنة 974 هـ/ 1566 م، صص. 77 ـ 83.

 

(1/1524)

 

 

وعشرين، بينهم بلوكباشي، وأوضه باشي، وطوبجي(1). وعاد العدد فانخفض إلى عشرة أنفار في سنة 1208 هـ(2).

... وكان المغاربة يتوزعون، منذ عصر المماليك، في أكثر من محلة من محلات طرابلس. فقد ورد في أول وثيقة عثمانية وصلتنا بعد سقوط دولة المماليك بنحو 3 سنين فقط، أن الأسر المغربية كانت تسكن في سبع محلات من أصل 26 محلة، هي: محلة جامع كبير، ومحلة زقاق الأكوز، ومحلة مسجد القرمشي، ومحلة خان عديمي، ومحلة مسجد الخشب، ومحلة الطواحين، ومحلة

__________

(1) ... سجل المحكمة، ج 6، ص. 100.

(2) ... سجل المحكمة، ج 34، ص. 152.

 

(1/1525)

 

 

ساحة الحمصي، وكان في المحلة الأخيرة لوحدها ثلاث أسر مغربية(1).

... وكانت وظيفة المشيخة على طائفة السعاة، المعبر عنها بالمقدمية، توجه على المغاربة خصوصاً، لما هو معروف عنهم من سرعة الجري، وتحمل المشاق في السفر لمسافات طويلة. (والمعروف الآن أن المغاربة هم من أوائل الفائزين في مباريات السباق الدولية للمسافات الطويلة). ولهذا كانت وظيفة الساعي لتوصيل البريد والمراسلات من اختصاصهم،

__________

(1) ... دفتر مالية لواء طرابلس الشام، رقم 68، لسنة 925 هـ/ 1519 م، محفوظ بالأرشيف العثماني برئاسة الوزراء، استنبول.

 

(1/1526)

 

 

وكانت هي ووظيفة التولية على وقف المغاربة توجه على واحد من مشايخهم من ديوان السلطان مباشرة، لدينا حول ذلك وثيقة مؤرخة في أواخر سنة 1088 هـ. تتضمن ما نصه:

 

... بالمجلس المشار إليه، بعد أن وجِّهت وظيفة التولية على وقف زاوية المغاربة الكاينة باطن طرابلس، ووظيفة المشيخة على طايفة السعاة المعبر عنها بالمقدَّمية، من طرف السدة العلية الخاقانية، على الحاج إبراهيم بن فتح الله، بموجب ما بيده من البراءتين الشريفتين المودع علمهما بالسجل المحفوظ، وقرره بهما الحاكم الشرعي المشار إليه، وأذِن له بمباشرتهما

 

(1/1527)

 

 

وتناول معلومهما أسوة من تقدَّمه على الرسم المعتاد، حضر الآن الحاج قاسم ابن الحاج ابن سعيد المغربي تصادقاً شرعياً، محرراً، معتبراً، مرعياً، على أن تشارك معه في تعاطي خدمة الوظيفتين المزبورتين. ومهما تحصل من ذلك من عُلُوفة التولية ورسوم المشيخة، يكون ذلك بينهما نصفين، مصادقة صحيحة شرعية جرت بينهما بالطوع والرضا حسبما تصادقا على ما فيه. ووقع الإشهاد عليه في اليوم العاشر من شهر ذي القعدة الحرام في شهور سنة 1088(1).

__________

(1) ... سجل المحكمة، ج 3، ص. 95.

 

(1/1528)

 

 

... وقد حدث بعد مدة أن تعدى أحد سكان طرابلس من غير المغاربى على وظيفة التولية على وقف المغاربة، ويدعى عبدي أغا بن أبدال، وكان يترجم المراسلات التركية بديوان المدينة. وبحكم اتصاله بالحكام، انتزع الوظيفة لنفسه دون وجه حق، وبقيت بيده حتى قُتل بيد والي طرابلس إبراهيم باشا بن إسماعيل باشا العظم في سنة 1143 هـ/ 1730 م بعد أن ثار الأهالي على الوالي وأعوانه لظلمهم، وبموت عبدي بن أبدال عادت الوظيفة إلى أصحابها المغاربة، كما أفادتنا وثيقة مؤرخة في أوائل شهر ربيع الثاني سنة 1144 هـ، ونصها الآتي:

 

(1/1529)

 

 

قضية تقرير وظيفة

 

... بمجلس الشرع الشريف المشار إليه، حضر فخر الفُضلا السيد إبراهيم أفندي بن المرحوم أحمد آغا، وقرر أن وظيفة التولية على وقف مسجد المغاربة، الكاين باطن طرابلس، المنسوب إلى المرحوم السيد عبد الواحد المغربي ـ نوَّر الله مرقده الشريف ـ كانت مقررة عليه سابقاً مع المشيخة على طائفة المغاربة السالكين في ربع المسجد، بموجب حجة شرعية وبراءة عالية شريفة، وأن عبدي أغا الترجمان بديوان طرابلس، طلب منه فراغها. فبانتسابه للحكام وتقدمه عندهم وقوة جرأته، لم يمكنه إلا الفراغ له عنها، ولم يقم بخدمة

 

(1/1530)

 

 

الوقف وتعطل مصالح المسجد ووهن بناء مسقفاته.

 

... وأنه في السنة السابقة لما قتل، أخذه محلولاً عنه بموجب حجة شرعية. والآن فرغ عنها بالطوع والرضا، لكل من فخر الفضلا، محمد أفندي بن مفخر الفضلا عبد الحق(1) أفندي، ولفخر الطلبة الشيخ مصطفى بن الحاج عبد اللطيف مكناسي(2) زاده، فراغاً شرعياً. فالتمسا من الحاكم

__________

(1) ... هو عبد الحق المغربي الطرابلسي. ذكر المرادي في سلك الدرر، ج 4، ص. 250؛ وانظر: عمر عبد السلام تدمري، موسوعة علماء المسلمين، ق 3، ج 2، رقم 532 ، ص. 354.

(2) ... تصحف في الأصل إلى "مكانسي".

 

(1/1531)

 

 

الشرعي المشار إليه أن يقررهما في الوظيفة المرموقة، وفي المشيخة. فقررهما بوجه الاشتراك مناصفة بينهما، وأذن لهما بمباشرة الوقف، من القيام أولاً بتعميره وبفرشه وبتنويره، وما فضل من غلته يقتصا منه معلوم الوظيفتين، أسوة من تقدمهما، ويدفعا مواجب أرباب الجهات، حسب المعتاد بقدر الفائض، سالكين بذلك تقوى الله تعالى في السر والإعلان، تقريراً وإذناً شرعيين، مقبولين منهما فبولاً شرعياً. التمسا بأن يسطر لهما بذلك صك شرعي. فسطر بالطلب، في أوائل شهر ربيع الثاني من شهور سنة أربع وأربعين ومائة وألف(1)

__________

(1) ... سجل المحكمة، سنة 1144 هـ.

 

(1/1532)

 

 

.

 

... ... شهود:

 

مولانا عبد الحق فخر الفضلاء عبد الرحمن ... مولانا كاتب أصله

أفندي زيد مجده ... أفندي مغربي زاده ... الشيخ محمد مقابله جي زاده

فخر المحررين محمد أفندي ... ... ا لسيد مصطفى

عربي كاتبي ... ... بن إسماعيل باشه

 

(1/1533)

 

 

الأيوبيون ومملكة أرمينية الصغرى

 

... ... ... الأستاذ فتحي سالم حميدي اللهيبي

... ... ... ... كلية الآداب ـ جامعة الموصل ـ العراق

 

مقدمة

... لم يكد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي يشرف على الانتهاء حتى تمخض عن ولادة مملكة مسيحية صغيرة في الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا الصغرى، وهي مملكة أرمينية الصغرى التي لعبت الحركة الصليبية دوراً كبيراً في نشوئها بصفتها مملكة تقف على قدم المساواة مع الإمارات والممالك الصليبية في الشرق.

 

(1/1534)

 

 

... وأصبحت هذه المملكة أحد الخصوم الذين يضمرون العداء للدولة العربية الإسلامية، مما جعلها وسيلة بيد القوى الصليبية والمغولية. فكان دورها فعالاً في هذا الجانب، وخاصة في أثناء حكم الأسرة الأيوبية، من خلال إقامة الأحلاف سواء كان ذلك مع الإمارات الصليبية، أو مع الدولة المغولية وبيزنطة وأوربا، لتحقيق أغراضها.

... ويهدف البحث إلى تسليط الأضواء على الدور التآمري الذي لعبه الأرمن ضد الدولة العربية الإسلامية؛ كما يعالج الموقف الأيوبي وكيفية التصدي للمحاولات التآمرية لمملكة أرمينية الصغرى.

 

(1/1535)

 

 

... ويعتمد البحث على مجموعة من المصادر والمراجع العربية والأجنبية والأرمينية التي ساعدت على إظهار البحث بالشكل اللائق.

 

* * *

... قامت مملكة أرمينية في المنطقة المعروفة بإقليم قيليقيا الذي تحده من الشرق جبال الأمانوس، ومن جهتي الشمال والغرب جبال طوروس، ومن جهة الجنوب البحر المتوسط. وتبلغ مساحتها 40000 كم2 يطول 400 كم2 من الشرق إلى الغرب ويعرض 100 كلم من الشمال إلى الجنوب(1)

__________

(1) ... ل. استارجيان، تاريخ الأمة الأرمينية، الموصل، 1951، ص. 203؛ مروان المدور، الأرمن عبر التاريخ، بيروت، 1982، ص. 223.

 

(1/1536)

 

 

.

... أطلق المؤرخون العرب المسلمون على هذا الإقليم عدة تسميات منها "الدرب" لوقوعها على الطريق الذي يصل بين مدينة طرطوس القيليقية الواقعة على ساحل البحر المتوسط وبلاد الروم عبر جبال طوروس(1)؛ كما سميت بـ»منطقة الثغور الشامية« لوقوعها على أطراف بلاد الشام من جهة الإمبراطورية البيزنطية المحاددة لها من جهة أخرى وكانت مقرّاً للقوات

__________

(1) ... شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، 1955، م 2، ص. 97؛ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله، التعريف بالمصطلح الشريف، مصر، 1952، ص. 56.

 

(1/1537)

 

 

الإسلامية لصد الغارات والهجمات البيزنطية؛ وسميت بـ »بلاد ابن لاون«، نسبة إلى ملكهم ليفون حيث أطلق المؤرخون العرب المسلمون لقب ابن لاون على ملوك الأرمن جميعاً؛ كذلك أطلقوا عليها تسمية »بلاد سيس« (1)، نسبة إلى عاصمتهم سيس التي تعد من أكبر المدن الأرمينية و»بلاد التكفور« (2)

__________

(1) سيس: ويقال لها سيسة، وهي مدينة قريبة من عين زربة. وهي مستقر الأرمن. تقع بين حلب وبلاد الروم. (ينظر: محب الدين أبي الفضل محمد الشحنة، الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، تحقيق محمد بن اليان، بيروت، 1909، ص. 188).

(2) تكفور: لفظ أرميني معناه الملك المتوج. أطلقه الأرمن على ملوكهم؛ كما كان يطلق على ملوك الدولة البيزنطية. (ينظر: أحمد بن علي المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1975، ج 1، ق 2، ص. 551).

 

(1/1538)

 

 

، حيث أطلقت المصادر العربية لقب التكفور على كل من يعتلي عرش أرمينية الصغرى(1) مثلما لقب الأمبراطور البيزنطي بالأشكري وملك الحبشة بالنَّجاشي(2). وعلى الرغم من تعدد التسميات، فإن المقصود منها جميعاً قيليقيا (أرمينية الصغرى). وأشهر مدنها طرسوس

__________

(1) ياقوت الحموي، المصدر السابق، م 2، ص. 97؛ ابن فضل الله، المصدر السابق، ص. 56؛ أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، بيروت، 1987، ج 8، ص. 30.

(2) ... سعيد عبد الفتاح عاشور، بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى، بيروت، 1977، ص. 239.

 

(1/1539)

 

 

وآياس والمصيصة ومرسين ومرعش وعينتاب وزيتون وهاجين وسيس وأدنه وإنطاليا وبورسان وسلوقيا(1).

... خضع هذا الإقليم للدولة العربية الإسلامية منذ الفتح العربي الإسلامي في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، وازدادت أهميته بعد الفتح لموقعه الإستراتيجي: إذ اهتم به الخلفاء والأمراء وأجروا فيه تحصينات وأصبح مستقراً للقوات الإسلامية لحماية حدود الدولة من الهجمات البيزنطية. وبعد ثلاثة قرون من التبعية، بدأت الأوضاع في هذا الإقليم تتغير

__________

(1) استارجيان، المرجع السابق، ص. 203؛ المدور، المرجع السابق، ص. 223.

 

(1/1540)

 

 

تغيراً ملحوظاً. إذ أن الإمبراطورية البيزنطية، أخذت تستغل فرصة ضعف الدولة العربية الإسلامية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي الذي تزامن مع نهوض الإمبراطورية البيزنطية، فاستعاد الإمبراطور نقفور (352 ـ 359 هـ/ 963 ـ 969 م) سيطرته على مدينة المصيصة وطرسوس وغيرها من مدن قيليقيا(1). وبذلك يكون هذا الإقليم قد خرج من أيدي

__________

(1) ... ستيفن رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، بيروت، 1967، ج 1، ص. 94؛, David Marshall Lang, Armenia Cradle of Civilization, London, 1970, p. 200.

 

(1/1541)

 

 

المسملين.

... وبظهور السلاجقة بصفتهم قوى إسلامية كبيرة وانتصارهم على البيزنطيين في معركة ملاذكرد(1) 463 هـ/ 1071 م التي أبيدت فيها القوات البيزنطية عن بكرة أبيها وأسر فيها الإمبراطور رومانوس ديوجين(2)

__________

(1) ملاذكرد: يطلق عليها عدة تسميات منها منازجرد وملاذكرد وملادجرت، وهي بلدة مشهورة بين مدينة خلاط عاصمة الكرج وبين بلاد الروم في أرمينيا الكبرى. (ينظر: صفي الدين بن عبد المؤمن ابن عبد الحق، مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق علي محمد النجاوي، بيروت، 1955، ج 3، ص. 1314).

(2) ... أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق الفارقي، التاريخ الفارقي، تحقيق بدوي عبد اللطيف، القاهرة، 1959، ص. 186؛ كمال الدين أبي القاسم محمد بن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، بيروت، 1954، ج 2، ص. 28.

 

(1/1542)

 

 

. ونتيجة لهذه الظروف التي مرت بها المنطقة تحت الضغط البيزنطي والسلجوقي الذي عاناه الأرمن في أرمينيا الكبرى(1)، هاجر عدد كبير منهم إلى منطقة كبدوكيا وجبال طوروس في قيليقيا لبعدها عن خط توسيع السلاجقة. وبعد ازدياد خطر السلاجقة وتهديدهم لكبدوكيا، انتشر

__________

(1) أرمينيا الكبرى: يحدها من الشمال جورجيا وأذربيجان القوقازية، ومن الشرق الحدود الإيرانية التركية، ومن الجنوب الحدود العراقية التركية. أما حدودها الغربية، فتمتدّ إلى كبدوكيا (أنقرة وقيصرية الحاليتين). (ينظر: استارجيان، المرجع السابق، ص. 44).

 

(1/1543)

 

 

الأرمن في آسيا الصغرى وخاصة في الجزء الجنوبي الشرقي من الأناضول(1). وعلى أثر ضعف الإمبراطورية البيزنطية في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أخذ نفوذ الأمراء الأرمن الذين عينهم الأباطرة البيزنطيون حكّاماً على الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية(2) في الازدياد والتوسع مؤسسين

__________

(1) ... علية عبد السميع الجنزوري، إمارة الرها الصليبية، القاهرة، 1975، ص. 36.

(2) Roberts Lopez, Byzantium and the World Around It : Economic and Institutional Relations, London, 1979, p. 342.

 

(1/1544)

 

 

بذلك إمارات مستقلة أو شبه مستقلة عن سيادة الإمبراطورية البيزنطية. ومن بين الزعماء الأرمن الذين برزت أسماؤهم في عالم السياسة الأرمينية فيلاريتوس براخاميوس (463 ـ 482 هـ/ 1071 ـ 1090 م).

... استغل فيلاريتوس فرصة الفوضى التي أصابت الإمبراطورية البيزنطية عقب معركة ملاذكرد، فرفض الاعتراف بالإمبراطور الجديد(1)

__________

(1) ... أسد رستم، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، بيروت، 1956، ج 2، ص. 115؛ ج. ب. سيغال، الرها المدينة المباركة، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا، حلب، 1988، ص. 273؛ Long, op. cit., p. 201.

 

(1/1545)

 

 

وأعلن استقلاله في مرعش والإبلستين ورعبان وملطية ودخل في تبعيته الكثير من الأمراء الأرمن المجاورين. وبذلك يكون قد فرض سيطرته على أهم مدن قيليقيا كطرسوس والمصيصة وأدنه وعين زربة، فضلاً عن سيطرته على الرها في سنة 470 هـ/ 1077 م وعلى أنطاكيا في سنة 471 هـ/ 1078 م بعد أن قتل آخر حاكم بيزنطي عليها(1). بعد أن دعم فيلارتيوس نفوذه في قيليقيا، أخذ في اتباع سياسة الحذر والاعتدال تجاه جيرانه. فقد اعترف بسيادة اسمية لبيزنطة

__________

(1) عاشور، الحركة الصليبية، القاهرة، 1962، ج 1، ص. 99؛ سيغال، المرجع نفسه، ص. 275.

 

(1/1546)

 

 

في الوقت الذي كان يدفع فيه الجزية للسلاجقة المسلمين(1). إلا أن إمارته لم تلبث أن تلاشت بعد أن انقسمت إلى عدة إمارات صغيرة على أثر وفاته سنة 482 هـ/ 1090 م: إذ استقل الأمراء الصغار التابعون له كل في المدينة أو الإقليم الذين كان يحكمه كإمارة الرها الأرمينية التي استقل بها توروس وإمارة مرعش وإمارة كوغ باسيل في كسيوم ورعبان الواقعة شمالي مرعش وإمارة ملطية التي استقل بها جبريل الأرميني وإمارة أبي الغريب في قلعتي بابرون

__________

(1) ابن فضل الله، المصدر السابق، ص. 55؛ القلقشندي، المصدر السابق، ج 8، ص. 30.

 

(1/1547)

 

 

ولامبرون الواقعتين في الجزء الغربي من قيليقيا. إلا أن جميع هذه الإمارات أخذت تتلاشى بظهور الصليبيين الذين أخضعوها جميعاً لسيادتهم(1). ولم يبق في معترك السياسة الأرمينية سوى إمارتين هما الإمارة الهيثومية والإمارة الروبينية اللتين ظلتا تتنافسان وتتناطحان لأجل الانفراد بالسلطة. أما أسرة الهيثوميين، فمؤسسها الأمير أوشين الأول (465 ـ 504 هـ/ 1073 ـ 1110 م) الذي نزح إلى قيليقيا في سنة 467 هـ/ 1075

__________

(1) للمزيد من الاطلاع على تفاصيل نشوء الإمارات الأرمينية، ينظر: الجنزوري، المرجع السابق، صص. 42 ـ 45.

 

(1/1548)

 

 

م. وعلى أثر معركة ملاذكرد، التجأ إلى أبي غريب الأرميني حاكم طرسوس الذي منحه قلعتي لامبرون وبابرون وزوجه من ابنته مورفيا(1).

... أما الأسرة الروبينية، فإن أصلها لا يقل غموضاً عن الأسرة الهيثومية؛ إذ ينتسبون إلى روبين الأول (473 ـ 489 هـ/ 1080 ـ 1095 هـ)، وهو أحد أقرباء جاجيك ملك أرمينيا الكبرى المتوفى سنة 463 هـ/ 1071 م. واستقر روبين في بعض القلاع الشرقية، ثم خلفه ولده قسطنطين ليدعم نفوذ الأسرة الروبينية في

__________

(1) M. Setton Kenneth, A History of the Crusades, Pennsylvania, 1995, vol. II,

p. 633.

 

(1/1549)

 

 

قيليقيا في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي(1).

... وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشرق في سنة 491 هـ/ 1097 م، فوجد الأمراء الأرمن في الصليبيين الحليف والحامي القوي الذي يمكنهم من إنشاء مملكتهم، بعد صراع دام طويلاً بين الأمراء الروبينيين والهيثوميين، أدّى فيه البيزنطيون دوراً كبيراً من خلال دعمهم للبيت الهيثومي بسبب العداء المشترك للأمراء

__________

(1) ... أنطوان خانجي، مختصر تواريخ الأرمن، أورشليم (القدس)، 1886، ص. 215؛ Sirape Der Nersession, , The Armenians, Paris, 1977, p. 44.

 

(1/1550)

 

 

الروبنيين الذين حملوا بيزنطة مسؤولية ضياع استقلالهم في الوطن الأم أرمينيا الكبرى، فضلاً عن محاولاتهم التوسُّع على حساب الأراضي البيزنطية(1).

... أما الأمراء الروبينيون، فقد دأبو على عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الصليبيين؛ إذ وجد كل من الطرفين ضالته في الطرف الآخر: فقد طمح الأمراء الأرمن إلى اتخاذ الصليبيين سنداً لهم في صراعهم ضد البيزنطيين والأمراء الهثيوميين، في حين وجد الصليبيون في الأمراء الروبينيين أعواناً لهم في تحقيق أهدافهم لإقامة كياناتهم في الشرق. ويتضح

__________

(1) خانجي، المرجع نفسه، ص. 215.

 

(1/1551)

 

 

ذلك من الدعم الذي قدمه الأرمن للحملة الصليبية الأولى: إذ أرشدوهم إلى الطرق المؤدية إلى بلاد الجزيرة والشام(1)، فضلاً عن دورهم في مساعدة الصليبيين أثناء استيلائهم على الرها وأنطاكيا عن طريق الإمدادات العسكرية والدعم المادي الضخم، وخاصة عند حصارهم لأنطاكيا سنة 492 هـ/ 1098 م(2).

... وبعد صراع لا هوادة فيه، استقر الأمر في حكم قيليقيا للبيت الروبيني. غير أن العلاقات بين الأمراء الروبينيين

__________

(1) المدور، المرجع السابق، ص. 225.

(2) رنسيمان، المرجع السابق، ج 1، ص. 314؛ Lang, op. cit., p. 202.

 

(1/1552)

 

 

والصليبيين سرعان ما شابها التوتر بسبب رغبة الأرمن والصليبيين في التوسع كل على حساب دائرة نفوذ الطرف الآخر؛ إلا أنهم سرعان ما كانوا يوحدون جهودهم أمام التهديدات الخارجية لكياناتهم من جانب السلاجقة والأراتقة والزنكيين والأيوبيين. وبما أن الأرمن حلفاء مخلصون للصليبيين، فقد دخلوا في صراع مع القوى الإسلامية بشكل مباشر منذ العهد الزنكي: إذ أخذ الزنكيون ابتداء بعماد الدين زنكي (520 ـ 541 هـ/ 1126 ـ 1146 م) الذي وجه لهم عدة ضربات بسبب محاولتهم التآمرية مع الصليبيين، ومن ثم ولده نور الدين محمود (541 ـ

 

(1/1553)

 

 

569 هـ/ 1146 ـ 1173 م) الذي تصدى لهذه المحاولات وأخضع الأرمن في قيليقيا لتبعيته في سنة 564 هـ/ 1169 م وعين عليها الأمير مليح الأرمني (564 ـ 569 هـ/ 1169 ـ 1173 م) نائباً عنه(1). وبقي مليح تابعاً للزنكيين حتى وفاة نور الدين زنكي سنة 569 هـ/ 1173 م(2).

__________

(1) ... قوام الدين أبو الفتح محمد بن حامد البنداري، سنا البرق الشامي، تحقيق رمضان ششن، بيروت، 1970، ج 1، ص. 231؛ أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، د. ت، ج 4، ص. 225.

(2) رنسيمان، المرجع السابق، ج 2، ص. 275.

 

(1/1554)

 

 

... اختلف الموقف في الربع الأخير من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، إذ قامت الدولة الأيوبية في خضم الأحداث المضطربة وأخذت على عاتقها مهمة قيادة العالم الإسلامي ومكافحة القوى الأجنبية الغازية؛ فكان على الأرمن أن يواجهوا السياسة التي رسمها الأيوبيون والقائمة على أساس الجهاد ومكافحة الصليبيين. فبعد وفاة نور الدين زنكي، استطاع صلاح الدين الأيوبي (569 ـ 589 هـ/ 1173 ـ 1193 م) أن يرسخ جذور دولته ويوسع حدودها لتشمل مصر ومعظم بلاد الشام والجزيرة واليمن والموصل. وبذلك أصبحت ممتلكات الأيوبيين

 

(1/1555)

 

 

متاخمة لحدود إمارة الأرمن في قيليقيا؛ فكان له الأثر الأكبر في نشوء علاقات متوترة بين الطرفين. هذا، فضلاً عن أن الأمراء الأيوبيين لا يمكنهم أن يغضوا النظر عن دور الأرمن التآمري مع الصليبيين ضد المسلمين في بلاد الشام والجزيرة وما أبدوا للصليبيين من مساعدات أثناء إقامة كياناتهم. فكانت بداية الصدام الأيوبي ـ الأرميني في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي: إذ استغل روبين الثالث (571 هـ ـ 582 هـ/ 1175 ـ 1186 م) الذي تولى السلطة بعد مقتل عمه مليح (نهاية سنة 569 هـ/ 1173 م) فرصة الاضطرابات التي حصلت

 

(1/1556)

 

 

بالدولة الزنكية بعد مقتل نور الدين محمود.

... بدأ الأمير روبين الثالث بسياسة التحالف مع الصليبيين لمهاجمة ممتلكات الزنكيين في بلاد الشام. إلا أن صلاح الدين بعد توليه لزعامة العالم، ابتدأ بردع هذه الأطماع،وخاصة بعد أن نجح في تأمين الجبهة الداخلية من خلال عقده لصلح سنة 576 هـ/ 1180 م مع السلطان السلجوقي قلج أرسلان (551 ـ 584 هـ/ 1156 ـ 1188 م) ومع حكام الموصل وديار بكر. فكانت أول ثمرة لهذا الصلح ما أحرزه من انتصار على روبين الثالث أمير قيليقيا(1)

__________

(1) ... الباز العريني، الشرق الأوسط والحروب الصليبية، القاهرة، 1963، ج 1، صص. 778 ـ 779؛ الملا ناصر جاسم، صلاح الدين الأيوبي في الدراسات الاستشراقية الأنجليزية والأمريكية، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة الموصل، 1992، ص. 180.

 

(1/1557)

 

 

، حيث حدث ذلك عندما توجه السلطان صلاح الدين في سنة 576 هـ/ 1180 م إلى بلاد الأرمن يدعمه عسكر الصالح بن نور الدين زنكي صاحب حلب(1)، بموجب الصلح المعقود معه في سنة 572 هـ/ 1176 م، الذي كان أحد شروطه ضرورة مشاركة القوات الحلبية مع السلطان صلاح الدين في حروبه(2)

__________

(1) ... هاملتون كب، صلاح الدين الأيوبي، ترجمة يوسف ايبش، بيروت، 1973، ص. 167.

(2) ... أبو العباس شمس الدين أحمد بن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، بيروت، د. ت، ج 6، ص. 28؛ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة، د. م، د. ت، ج 6، ص. 28.

 

(1/1558)

 

 

. وكان السبب الرئيس لهذه الغارة أن السلطان السلجوقي قلج أرسلان أرسل إلى صلاح الدين كتاباً يستنجد فيه من الأرمن في قيليقيا، ويشتكي إليه أمرهم، ويطلب منه أن يقصد بلادهم، حيث أخبره أن الأمير روبين الثالث استمال قوماً من التركمان ليرعوا مواشيهم في بلاده فغدر بهم وهاجمهم(1) وتمكن من أسرهم جميعاً واستولى على مواشيهم.

__________

(1) ... بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، 1964، ص. 54؛Andrews S Ehrenkrutz, Saladin, New-York, 1972, p. 166.

 

(1/1559)

 

 

فدخل السلطان صلاح الدين إلى قيليقيا، وبث فيها سراياه. فخشي الأمير روبين الثالث من ذلك، فأحرق حصن المناقير في جبال طوروس الذي كان موضع ذخيرة الأرمن(1). غير أن السلطان صلاح الدين أدركه قبل أن تلتهم النيران المؤن

__________

(1) ... عز الدين أبو الكرم محمد بن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1966، ج 11، ص. 466؛ جمال الدين بن محمد ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، 1953، ص. 98؛ أحمد بن إبراهيم الحنبلي، شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، تحقيق ناظم رشيد، بغداد، 1978، ص. 98.

 

(1/1560)

 

 

التي فيه(1). فبادرت العساكر الإسلامية إلى إخراج كل ما فيه من الغلال والمؤن والآلات، فتقوَّوْا بها، ثم هدموا الحصن. فاضطر الأمير روبين إلى طلب الصلح وأعلن طاعته للسلطان صلاح الدين، وأطلق جميع ما بيده من الأسرى التركمان، فضلاً عن دفعه مبلغاً كبيراً من

__________

(1) ... عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، 1979، م 5، ص. 265؛ ستانلي لين بول، صلاح الدين وسقوط مملكة القدس، ترجمة فاروق سعد أبو جابر، القاهرة، 1995،صص. 144 ـ 145.

 

(1/1561)

 

 

المال مقابل انسحاب السلطان عن أراضيه(1).

... بعد كل ما بذله الأمير من أموال، لم يرض السلطان صلاح الدين بذلك. فاضطر روبين الثالث إلى زيادة المال المدفوع للسلطان، كما قام بشراء خمسمائة أسير مسلم ممن في أسر الصليبيين، فأعتقهم. فأجابه السلطان إلى طلبه، وأخذ منه الرهائن. وأطلق السلطان سراحهم بعد أن طبق الأمير روبين جميع الشروط المفروضة عليه(2).

__________

(1) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 11، ص. 467.

(2) ابن واصل، المصدر السابق، ج 2، ص. 99؛ W. B. Stevenson, The Crusedors in the, East, Cambridge, 1965, p. 224.

 

(1/1562)

 

 

ويذكر البنداري(1) مختصر كتاب "البرق الشامي" للأصفهاني المعاصر للأحداث في تلك الفترة انسحاب السلطان صلاح الدين قائلاً: »كان الوقت متعسراً والقوت متعذراً، وكان من لطف الله إذعان الأرمني حتى عجلنا رحيلنا بالنصر السني«.

... إذا ما تأملنا في هذا النص، تبيَّنَّا أن إذعان الأمير روبين الثالث جاء في الوقت المناسب، بسبب قلة المؤن في معسكر السلطان وضيق الوقت. فجاء إذعان الأمير روبين فرصة للقوات الإسلامية بالانسحاب والعودة إلى بلادها. ولو طال الوقت أكثر من ذلك ولم يذعن

__________

(1) سنا البرق الشامي، ج 1، ص. 248.

 

(1/1563)

 

 

الأرمن، لاضطر السلطان إلى الانسحاب من تلقاء نفسه.

... بعد عودة السلطان صلاح الدين من غزوة عام 576 هـ/ 1180 م، أبرم في السنة ذاتها معاهدة أمدُها سنتان مع السلطان السلجوقي قلج أرسلان وأمير قيليقيا الأرميني روبين الثالث، فضلاً عن أمراء الموصل والجزيرة وأربل وحصن كيفا وماردين، واتفق معهم على جعل الوئام والسلام بينهم محل الاعتداء والخصام(1)

__________

(1) ... حافظ أحمد حمدي، المشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، دزم، 1950، ص. 125؛ Stanley

Lane - Poole, A History of Egypt in the Middle Ages, London, 1968, p. 206;

 

Ehrenkrutz, Saladin, p. 166.

 

(1/1564)

 

 

. ولم تكن هذه المعاهدة إلا معاهدة عدم اعتداء بين جميع الأطراف المتعاهدة على ذلك.

... بقي الأمير روبين الثالث، بموجب هذه المعاهدة، تابعاً للسلطان صلاح الدين الأيوبي ويدفع الجزية السنوية له حتى وفاته سنة 582 هـ/ 1186 م. تولى السلطة من بعده أخوه الأمير ليفون الثاني (582 ـ 616 هـ/ 1186 ـ 1219 م)(1)، الذي عقد تحالفاً مع يوهمنيد الثالث أمير أنطاكيا الصليبي(2)

__________

(1) ... نظير حسان سعداوي، التاريخ الحربي المصري في عهد صلاح الدين الأيوبي، القاهرة، 1957، ص. 212.

(2) ... عبد المنعم ماجد، الناصر صلاح الدين الأيوبي، القاهرة، 1958، ص. 138.

 

(1/1565)

 

 

. كما تعاون مع قادة الحملة الصليبية الثالثة التي توجهت إلى الشرق في سنة 585 هـ/ 1189 م تحت قيادة الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا (543 ـ 586 هـ/ 1152 ـ 1190 م)، إذ نظر إليها نظرة المخلص من خطر صلاح الدين الذي يهدده. لهذا قدم لهم كل ما يمكن من مؤن وإمدادات وأعلاف لخيولهم(1)، وأعلن طاعته للإمبراطور الألماني وقدم له الهدايا، وأرسل إليه يعلمه بأنه على أتم الاستعداد لتقديم كل ما تحتاج إليه القوات الصليبية، بل وطلب منه

__________

(1) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 12، ص. 49؛ استارجيان، المرجع السابق، ص. 220.

 

(1/1566)

 

 

أن يقدم بعساكره إلى قيليقيا(1). وعلى النقيض من ذلك، نجد جاثليق الأرمن جريجوري السادس يرسل كتاباً إلى السلطان صلاح الدين يعلمه بخبر مسير ملك الألمان(2) ويقول فيه:

... كتاب الداعي المخلص الكاغيكوس، مما أطالع به علوم مولانا وملكنا الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدين والدنيا سلطان الإسلام والمسلمين من أمر ملك الألمان وما جرى عند ظهوره، وذلك أنه ما خرج من دياره دخل بلاد الهنكر غصباً، ثم دخل أرض مقدم

__________

(1) خانجي، المرجع السابق، ص. 231.

(2) ماجد، المرجع السابق، ص. 138.

 

(1/1567)

 

 

الروم وفتح البلاد ونهبها(1).

 

يبدو أن موقف الأمير ليفون الثاني ومراسلته الإمبراطور الألماني من جهة والموقف المعاكس لجاثليق الأرمن، أن وراءهما أهدافاً خفية، ألا وهي الخوف من المستقبل. فإذا ما انتصر أي من الطرفين، يكون الأرمن قد ضمنوا وجودهم وسلامة بلادهم، فضلاً عن طموح الأمير ليفون الثاني إلى الحصول على التاج الملكي عن طريق الغرب، مما دفعه إلى مراسلة الإمبراطور الألماني

__________

(1) ... شهاب الدين أبو محمد بن عبد الرحمن أبو شامة، الروضتين بأخبار الدولتين النورية والصلاحية، بيروت، د. ت، ج 2، ص. 155..

 

(1/1568)

 

 

ودعوته إلى قيليقيا، إذ وعده بمنحه التاج الملكي إذا ما قدم له المساعدة. إلا أن الإمبراطور غرق في أحد أنهار قيليقيا، فخابت آمال الأمير ليفون الثاني(1).

... على الرغم من ذلك، استمر الأمير ليفون الثاني في تقديم الدعم المادي والعسكري للحملة الصليبية الثالثة التي تولى زعامتها الإمبراطور الألماني هنري السادس (586 ـ 594 هـ/ 1190 ـ 1197 م) ابن الأمبراطور فردريك باربروسا وريتشارد قلب الأسد ملك أنجلترا(2)

__________

(1) Setton, op. cit., vol. II, p. 646.

(2) Carl Erdman, The Origin of the Idea of Cruseds, New Jersey, 1977, p. 187.

 

(1/1569)

 

 

؛ كما اشترك الأمير ليفون في حصار عكا، فضلاً عن تقديمه المساعدة للملك ريتشارد قلب الأسد في أثناء غزوه لجزيرة قبرص سنة 587 هـ/ 1191 م(1).

... لم يلبث الأمير ليفون أن تغير موقفه من حلفائه الصليبيين. فبدل أن يقدم لهم المساعدة، حرص على الالتزام بموقف الحياد أثناء غارة السلطان صلاح الدين على أنطاكيا سنة 587 هـ/ 1191 م، وعلى الرغم من تحالفه مع أميرها بوهميند الثالث(2). والحقيقة التي لابد من ذكرها أن الأمير ليفون الثاني قصد من وراء

__________

(1) Long, op. cit., p. 203.

(2) رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 163.

 

(1/1570)

 

 

موقفه هذا إضعاف شوكة الأمير بوهميند الثالث أمير أنطاكيا، الذي كان يمثل أقوى خصومه من بين الأمراء الصليبيين المعاصرين له، وبالتالي التوسع على حساب ممتلكاته من جهة، وعدم إثارة السلطان صلاح الدين من جهة أخرى خشية أن يحدث لبلاده ما حدث لأنطاكيا على يده.

... توفي السلطان صلاح الدين سنة 589 هـ/ 1193 م، فدب الانقسام في ممتلكاته بين أفراد الأسرة الأيوبية. فأصبحت حلب من نصيب الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين (589 ـ 613 هـ/ 1193 ـ 1216 م)، ودمشق من نصيب الأفضل بن صلاح الدين، وأصبح شقيقه الملك العزيز عثمان

 

(1/1571)

 

 

ملكاً على مصر. وبذلك انقسمت المملكة وأصبحت مسرحاً للصراع والخلافات والاضطرابات(1). فازداد طمع الأمير ليفون الثاني في التوسع على حساب الدولة الأيوبية، مستغلاًّ هذه الصراعات بين أفراد البيت الأيوبي، مما جعله في مواجهة الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب الذي حمل على عاتقه مهمة التصدي لغارات الأرمن بسبب التتاخم الحدودي بين حلب الأيوبية ومملكة أرمينية الصغرى، مما جعلها مسرحاً لغارات الأرمن، وخاصة بعد أن استقل

__________

(1) ... محمود ياسين التكريتي، الأيوبيون في شمال الشام والجزيرة، بغداد، 1981، ص. 263.

 

(1/1572)

 

 

بحكمها الظاهر غازي في سنة 590 هـ/ 1194 م. وردّاً على هذه الغارات، قامت القوات الأيوبية في سنة 594 هـ/ 1197 م بالهجوم على ممتلكات الأرمن واجتياحها بنجاح. وعادت هذه القوات في السنة ذاتها ومعها من السبي خمسون وأربعمئة أسير(1). إلا أن الأمير ليفون الثاني استمر في سياسته العدائية ودعمه للصليبيين مستغلاً فرصة انقسام الدولة الأيوبية. فكان ذلك النشاط في حدّ ذاته كفيلاً بإعلاء مكانته لإخلاصه وتجاوبه مع الأهداف الصليبية، مما دفعه إلى إرسال سفارة إلى

__________

(1) أبو شامة، الذيل على الروضتين، بيروت، د. ت، ص. 13.

 

(1/1573)

 

 

البابا كالستين الثالث (587 ـ 595 هـ/ 1191 ـ 1198 م) والأمبراطور هنري السادس في سنة 594 هـ/ 1197 م، وأعلن الأمير ليفون تبعيته للتاج الألماني. ونجح السفراء في مهامهم، فأرسل الإمبراطور في السنة ذاتها علماً ثميناً عليه رسم أسد تلميحاً لاسم ليفون مع كبير أمنائه كوزيزاد ومعه تاج ملكي للأمير ليفون الثاني. وبذلك أصبحت للأرمن مملكة تدعى مملكة أرمينية الصغرى التي توج عليها الأمير ليفون تحت لقب الملك »ليفون الثاني«(1)، مما أثار غضب الملك

__________

(1) Der Nersession, op. cit., pp. 46-47; Lang, op. cit., p. 203.

 

(1/1574)

 

 

الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب الذي استجاب لطلب بوهيمند الرابع (598 ـ 631 هـ/ 1201 ـ 1233 م) أمير أنطاكيا الصليبي في عقد تحالف معه في سنة 599 هـ/ 1202 م لمواجهة التحالف الذي عقده منافسه على السلطة ابن شقيقه ريموند ـ روبين مع خاله ليفون الثاني ملك أرمينية الصغرى الطامع في السيطرة على إمارة أنطاكيا وضم أراضيها إلى ممتلكاته(1).

__________

(1) التكريتي، المرجع السابق، ص. 269؛ رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 243.

 

(1/1575)

 

 

... حاول الأمراء الصليبيون الإصلاح بين ملك أرمينية الصغرى والأمير بوهيمند الرابع بجمع كلمتهم ضد الأيوبيين(1). إلا أن الفشل كان من نصيب هذه المحاولة، بسبب ما اقترفته قوات الملك ليفون الثاني من أعمال تخريب ونهب لأنطاكيا في سنة 599 هـ/ 1202 م. وفي سنة 600 هـ/ 1203 م، ضيق ليفون الحصار على أنطاكيا، فخرج

__________

(1) ابن واصل، المصدر السابق، ج 3، صص. 154 ـ 155؛ شمس الدين الذهبي، دول الإسلام، الدوحة، 1988، ص. 107؛ محمد بن راغب بن محمد بن هاشم الطباخ، أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، حلب، 1924، ج 2، ص. 205.

 

(1/1576)

 

 

الملك الظاهر غازي لنجدتها بعد أن استنجد به حليفه بوهيمند الرابع، فخيم الظاهر على حارم. وعندما علم الملك ليفون الثاني بخروجه، اضطر إلى الانسحاب عن أنطاكيا بدلاً من الدخول في حرب خاسرة مع الملك الظاهر غازي.

... أعاد الملك ليفون الثاني الكرة، فشن هجوماً على أنطاكيا في السنة ذاتها، وحوصر الأمير بوهيمند في قلعة المدينة، الأمر الذي دفعه إلى الاستنجاد ثانية بحليفه الملك الظاهر غازي صاحب حلب الذي خرج على رأس قوة عسكرية قاصداً أنطاكيا. وما أن علم الملك ليفون بذلك حتى سحب عساكره بسرعة، وبذلك أنقذ الملك

 

(1/1577)

 

 

الظاهر غازي مرة أخرى حليفه أمير أنطاكيا(1). وعلى الرغم من ذلك، لم يتخل الملك ليفون عن مخططه في ضم أنطاكيا إلى ممتلكاته؛ فكرر المحاولة في سنة 601 هـ/ 1203 م، مستغلاً فرصة انشغال الأمير بوهيمند الرابع بإخماد الثورة التي قامت عليه في طرابلس التابعة له. ففرض ليفون الثاني حصاراً على إمارة أنطاكيا وضيق عليها، ولم يرفع عنها الحصار إلا بعد أن تقدم جيش من قبل الملك الظاهر غازي لنجدة بوهيمند الرابع(2)

__________

(1) ابن العديم، المصدر السابق، ج 3، ص. 152؛ رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 244.

(2) ابن خلدون، المصدر السابق، م 5، ص. 340.

 

(1/1578)

 

 

.

... لقد كان للمساعدة التي أبداها الملك الظاهر غازي للأمير بوهيمند الرابع دورها في دفع الملك ليفون الثاني إلى الضغط على الملك الظاهر، عندما أغارت القوات الأرمينية على التركمان النازلين في سهل النهر الأسود، وهو من أعمال حلب في سنة 202 هـ/ 1205 م. فأسر منهم عدداً كبيراً وسلب مواشيهم وعاد إلى بلاده(1). وردّاً على ذلك، توجه الملك الظاهر إلى أرمينية الصغرى؛ إلا أن الملك ليفون الثاني ما أن علم بتوجهه وإدراكه التام عجزه

__________

(1) ابن العديم، المصدر السابق، ج 3، ص. 152؛ رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 244.

 

(1/1579)

 

 

عن المقاومة(1)، توسل إلى الملك الظاهر غازي طالباً الصلح، وإرجاع كل ما سلبه من التركمان، وهدم الحصن الذي بناه قرب قلعة دربساك، وطلب رسولاً من السلطان الظاهر لكي يتحدث معه في ذلك. فأرسل الملك الظاهر أحد رجاله، وهو سعد الدين بن فاخر، فتحدث معه في الصلح ورد جميع الأسرى والغنائم واطمأنت القلوب وعم الأمن والسلام.

__________

(1) ... أبو طالب علي بن أنجب بن الساعي، الجامع المختصر في عيون التواريخ وعنوان السير، بغداد، 1934، ج 9، ص. 177.

 

(1/1580)

 

 

... عاود الملك ليفون الثاني أطماعه من جديد في أملاك الظاهر غازي في حلب. فهاجم حارم في سنة 203 هـ/ 1206 م وسلب ونهب وقتل، الأمر الذي أثار حفيظة الظاهر ثانية. فجهز القوات واتفق مع حليفه أمير أنطاكيا(1) على أن يدخل إلى قيليقيا من جهته، ويدخل الملك الظاهر من جهة حلب لاستئصال شأفة الملك ليفون. وعندما علم ليفون بذلك الاتفاق، سارع بإعلان خضوعه التام للملك الظاهر غازي(2).

__________

(1) ابن العديم، المصدر السابق، ج 3، ص. 158؛ Setton, op. cit., vol. II, p. 642.

(2) ابن العديم، المصدر نفسه، ج 3، ص. 171.

 

(1/1581)

 

 

... وافق الملك الظاهر على ذلك مقابل قيام الملك ليفون الثاني بإطلاق سراح الأسرى المسلمين في أرمينية الصغرى، وعقد معه صلحاً. فأرسل سعد الدين، فتسلم جميع الأسرى الذين في حوزته. ثم عاد الملك الظاهر إلى حلب(1). فكانت هذه الموافقة على الصلح بسبب رغبة الظاهر في حماية ممتلكاته من غارات الأرمن من جهة، ونظراً لعدم ثقته بحلفائه الصليبيين وخشيته من انقلابهم عليه إلى جانب أبناء دينهم من الأرمن، ولا سيما أن الأمراء والملوك الصليبيين كانوا يسعون في إزالة أسباب الصراع بين الملك

__________

(1) Setton, op. cit., p. 649.

 

(1/1582)

 

 

ليفون الثاني والأمير بوهيمند الرابع أمير أنطاكيا، فضلاً عن انشغال الملك الظاهر بتصفية مشاكله مع عمه وأشقائه في الممالك الأخرى. إلا أن الملك الظاهر لم يلبث أن اشترك في سنة 605 هـ/ 1208 م إلى جانب السلطان السلجوقي غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان (588 ـ 609 هـ/ 1192 ـ 1212 م) الذي وصل إلى مرعش قاصداً أرمينية الصغرى. فأمده الملك الظاهر غازي بجماعة من عساكره، وعلى رأسهم أشهر قادته سيف الدين علم الدين بن جندر، وعز الدين أيبك. فدخل غياث الدين إلى الأراضي الأرمينية واستولى على عدد من القلاع والحصون(1)

__________

(1) ابن العديم، المصدر السابق، ج 3، ص. 159؛ Joan Hussey, Cambridge Medieval History, Cambridge, 1966, vol. IV, Part. I, p. 631.

 

(1/1583)

 

 

.

... ساد الهدوء العلاقات الأيوبية الأرمينية بعد غزوة سنة 605 هـ/ 1208 م. واستمر هذا الهدوء حتى سنة 613 هـ/ 1216 م. ويستدل على ذلك من اشتراك الطرفين الأيوبي والأرميني جنباً إلى جنب في مساعدة السلطان السلجوقي كيكاوس (609 ـ 616 هـ/ 1212 ـ 1219 م) ضد عمه، الذي نازعه السلطة بعد وفاة السلطان كيخسرو سنة 609 هـ/ 1212 م(1)، واتفاقهم على عقد معاهدة عدم اعتداء في 610 هـ/ 1213 م(2). وأطلق ليفون الثاني بموجب هذه المعاهدة

__________

(1) ابن العديم، المصدر السابق، ج 3، ص. 217.

(2) رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 247.

 

(1/1584)

 

 

سراح جميع الأسرى المسلمين. غير أن الملك الظاهر نقض هذه المعاهدة في سنة 613 هـ/ 1216 م، وعندما اشترك مع السلطان السلجوقي كيكاوس في الغارة على أرمينية الصغرى، فأحرق عاصمتها سيس ونهب كل ما فيها(1).

... كما أشار ابن واصل(2)، في رواية أخرى، إلى أن السلطان كيكاوس السلجوقي أرسل في سنة 613 هـ/ 1216 م إلى الملك الظاهر غازي يطلب منه

__________

(1) ... أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة، 1971، ج 7، صص. 182 ـ 184.

(2) ابن واصل، المصدر السابق، ج 3، صص. 135 ـ 136.

 

(1/1585)

 

 

عقد صلح بينهما وبين بوهيمند الرابع أمير أنطاكيا، بهدف الدخول إلى قيليقيا واستعادة أنطاكيا التي استولى عليها الملك ليفون الثاني واتفقوا على أن يدخل كل من جهته. فجمع الملك الظاهر عساكره، وبذل الأموال، وبعث الجواب إلى كيكاوس مع أحد الأمراء التابعين ويدعى عبد الرحمن المنجي، الذي أوصل الرسالة وحرف فيها شروطاً تضر بالأخير، وتوافق السلطان كيكاوس. فاستشار الملك الظاهر غازي عمه العادل صاحب مصر، فنصحه الأخير بعدم التدخل. وعندما علم الملك ليفون الثاني بذلك الاتفاق، أرسل إلى الظاهر رسالة مضمونها:

 

(1/1586)

 

 

... إني مملوك السلطان وغرس دولته. وقد دخلت عليه دخول العرب وأطلب منه إنقاذي من هذه الورطة وأكون مملوكه ما عشت. وقد حفظت بلاد السلطان غير مرة وخدمته؛ إن السلطان لما حاصر دمشق للمرة الأولى وبقيت بلاده شاغرة من العساكر، ما شغلت قلبه، ولا آذيت باله، بل ساعدته بمالي ورجالي. لذلك لما حاصر دمشق للمرة الثانية، وقدموا لي الأموال كلها لأشغل قلبه ويفتر عن الحصار، فلم أفعل. وإن كان البرنس قد خدم السلطان، فخدمتي أكثر من خدمته، وسوف يبصر السلطان ملازمتي بابه الشريف. وقد أوصيت ابن أختي الذي نصبته لأنطاكيا

 

(1/1587)

 

 

بملازمة خدمته.

كما بعث الملك ليفون الثاني الهدايا الفاخرة مع هذه الرسالة. فمال قلب الملك الظاهر وبقي متردداً، ثم قدم إليه قاضي أقصر وهو قاضي عسكر السلطان كيكاوس السلجوقي. وعندما كان القاضي في بلاط الملك الظاهر، أغار السلطان السلجوقي على أعمال حلب التي يسكن فيها الأرمن مدعين مساعدة هؤلاء الأرمن للملك ليفون. فرد الملك الظاهر عليهم: »عجباً، أتطلبون المعونة منا وتهاجمون بلادنا؟«!. وكان ذلك سبباً في إعراض الملك الظاهر عن الحركة والالتحاق بمعسكر السلطان كيكاوس(1)

__________

(1) ... المصدر نفسه، ج 3، صص. 135 ـ 136.

 

(1/1588)

 

 

.

... ونحن بدورنا بعد البحث والتمحيص في كلتا الروايتين، نرجح رواية ابن واصل (ت 697 هـ)، لكونه أقرب إلى الحدث؛ في حين أن الرواية التي أوردها ابن أيبك (توفي في القرن الثامن الهجري) تعتبر متأخرة على رواية ابن واصل. وعليه، فإن الملك الظاهر لم يدخل قيليقيا كما أورد ابن أيبك.

 

... توفي الملك الظاهر غازي في سنة 613 هـ/ 1216 م، فخلفه في الحكم ولده العزيز (613 ـ 634 هـ/ 1216 ـ 1236 م) الذي كان صغيراً وتحت وصاية شهاب الدين طغرل(1)

__________

(1) شهاب الدين طغرل الوصي على عرش حلب وعلى ملكها العزيز بن الظاهر غازي بعد وفاة والده سنة 613 هـ/ 1216 م. وكان الخادم والي القلعة ومتولي الخزانة وتربية أبناء الظاهر والنظر في مصالح الدار والنساء. فعند ولاية العزيز، كانت المناصب الدينية بيده. (ينظر: ابن الأثير، المصدر السابق، ج 12، ص. 170).

 

(1/1589)

 

 

. فاتفق الأخير مع قسطنطين الوصي على عرض أرمينية الصغرى والذي استمر في تبعيته وولائه للأيوبيين؛ كما كان عهد ليفون الثاني لملك حلب الأيوبي على مهاجمة أنطاكيا سنة 621 هـ/ 1224 م لثني بوهيمند الرابع عن مهاجمة أرمينية الصغرى. فاضطر الأخير إلى العودة إلى حاضرته أنطاكيا للدفاع عنها من الخطر المشترك(1). وفي سنة 623 هـ/ 1226 م، عاود بوهيمند الرابع أمير أنطاكيا إلى استهداف قيليقيا رغبة منه في التوسع على حسابها. غير أن محاولته كان نصيبها الفشل، إذ قدم طغرل الوصي

__________

(1) رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 308.

 

(1/1590)

 

 

على عرش حلب الإمدادات للأرمن فضلاً عن الرجال والسلاح. فلما علم أمير أنطاكيا الصليبي بذلك، انطلق عائداً إلى بلاده ثانية دون أية مكاسب تذكر(1). ويلاحظ أنه بعد هذه الحادثة، أصاب الفتور العلاقات الأيوبية الأرمينية، بسبب الصراع الداخلي والظروف السياسية والاقتصادية السيئة التي سادت كلتي القوتين(2)، حيث انشغل الأرمن بأمر انتقال السلطة من البيت الروبيني إلى البيت الهيثومي وتتويج هيثوم الأول ملكاً على أرمينية الصغرى في

__________

(1) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 12، ص. 466.

(2) عاشور، المرجع السابق، ج 2، ص. 126.

 

(1/1591)

 

 

سنة 623 هـ/ 1226 م، وكذلك انشغال البيت الأيوبي في حلب بأمر تثبيت اركان دولتهم في عهد العزيز الذي توفي سنة 634 هـ/ 1236 م وولده الناصر (623 ـ 658 هـ/ 1226 ـ 1260 م) الذي كان تحت وصاية عمه تورانشاه وجدته ضيفة خاتون بسبب صغر سنه. فاستمر ذلك الفتور حتى دخول الأرمن في تبعية المغول على أثر السفارات التي بعثها الملك هيثوم الأول إلى قراقورم عاصمة المغول بزعامة شقيقه الكندسطبل سمباذ في سنة 644 هـ/ 1246 م، حيث قابل سمباذ كيوك خان(1)

__________

(1) كيوك (644 ـ 646 هـ/ 1246 ـ 1248 م): أحد خانات المغول. ويقال إنه اعتنق النصرانية، إذ كانت والدته على المذهب النسطوري في الوقت الذي أشرف على تربيته الأمير قداق النصراني. للمزيد من التفاصيل، ينظر: رنسيمان، المصدر السابق، ج 3، ص. 354.

 

(1/1592)

 

 

، وحصل منه على وعد يضمن فيه لأخيه الملك هيثوم وحدة ممتلكاته وسلامتها وحق الاستيلاء على القلاع والحصون التابعة للأيوبيين(1)؛ كما توجه الملك هيثوم الأول إلى قراقورم لزيارة كيوك خان في سنة 651 هـ/ 1253 م، إذ أصبح الوقت ملائماً لإسقاط الخلافة العباسية واستعادة بيت المقدس. ونجح في عقد تحالف أرميني مغولي صليبي. إذ

__________

(1) Henry H. Howorth, History of Mongols from the 9th to 19th Century,

London, 1986, vol. III, p. 88; Der Nersessian, op. cit, p. 48; J. Glubb, The

Lost Centuries, London, 1967, p. 248.

 

(1/1593)

 

 

تكلم الملك هيثوم بالنيابة عن الأمراء الصليبيين، ومنهم صهره بوهيمند السادس (649 ـ 667 هـ/ 1251 ـ 1268 م)، أمير أنطاكيا(1)، وإذ كان الهدف الرئيس من هذه الزيارة هو التباحث في أمر حملة مشتركة ضد العراق وبلاد الشام. فتم إسقاط بغداد سنة 656 هـ/ 1258 م بمشاركة فرقة من الخيالة الأرمن التي ألحقت ضرراً كبيراً بالمدينة(2)

__________

(1) ... فؤاد عبد المعطي الصياد، المغول في التاريخ، بيروت، 1980، ص. 108؛ R. Grousset, Histoire des croisades et du Royaume Franc de Jerusalem, Paris, 1936, vol. III, p. 576.

(2) ... كارلتون كون، القافلة قصة الشرق الأوسط، ترجمة برهان دجاني، بيروت، 1959، ص. 201؛ جوزيف نسيم، الوحدة وحركات اليقظة العربية إبان العدوان الصليبي، الأسكندرية، 1967، ص. 14؛ Avedisk Sanjian, The Armenian Cammunities in Syria under Ottoman Dominion, Cambridge, 1965, p. 4.

 

(1/1594)

 

 

؛ كما اشترك الأرمن في الحملة المغولية على بلاد الشام والجزيرة وبلغ عدد الجيش الأرميني فيها ستة عشر ألف مقاتل بقيادة الملك هيثوم الأول(1)، حيث أنزل مذبحة كبيرة بمسلمي مدينة ميفارقين الأيوبية بعد أن ساهم مع المغول في إسقاطها؛ وكذلك كان حال مدينة نصيبين وحران وسروج والرّها والبيرة(2).

__________

(1) J. J. Saunders, The History of the Mangols Congusts, London, 1971, p. 105.

(2) Crousset, op. cit, vol. III, p. 580; Sanders, ibid, p. 113; M. Cbem. Three Italian Travellers, Moscow, 1965, p. 18.

 

(1/1595)

 

 

... كما اشترك الملك هيثوم في الوقت ذاته في احتلال مدينة حلب وارتكب فيها الكثير من المجازر في السكان المسلمين دون النصارى في سنة 658 هـ/ 1260 م(1)، وأشعل النار في الجامع الكبير والمساجد الأخرى في المدينة(2). وقد كافأه هولاكو على اشتراكه في هذه الحملة بأن منحه كميات كبيرة من الغنائم، فضلاً عن منحه بعض أملاك الأيوبيين. كما

__________

(1) ... عماد الدين إسماعيل أبو الفدا، المختصر في أخبار البشر، القاهرة، د. ت، ج 3، صص. 200 ـ 201؛ المقريزي، المصدر السابق، ج 2، ص. 442.

(2) عاشور، المصدر السابق، ج 2، ص. 1025.

 

(1/1596)

 

 

بيع الأسرى الحلبيّون البالغ عددهم مائة ألف أسير من نساء وأطفال وشيوخ في أسواق سيس عاصمة الأرمن. وكافأ هولاكو صهر الملك بأن منحه مدينة اللاذقية وبعض قلاع الأيوبيين وحصونهم الواقعة على الساحل الشامي(1).

... واستمر الملك هيثوم في تحالفه مع المغول، فاشترك في احتلال مدينة دمشق في السنة ذاتها وقام بتدميرها وإنزال المذابح بسكانها من المسلمين وحول المسجد الجامع إلى كنيسة(2)

__________

(1) الصياد، مؤرخ المغول الكبير رشيد الدين فضل الله الهمذاني، القاهرة، 1967، ص. 49؛ رنسيمان، المرجع السابق، ج 3، ص. 526.

(2) Saunders, op. cit., p. 113.

 

(1/1597)

 

 

، بناء على طلب الملك هيثوم وبعد عودة هولاكو إلى العاصمة قراقورم كما طلب منه شقيقه الخان. فترك هولاكو قائده كتبغا بسبب إلحاح الملك هيثوم على استكمال الخطة التي بدأها. فواصلوا احتلال بلاد الشام حتى الحدود المصرية(1). إلا أن اصطدامهم بالمماليك في مصر سنة 658 هـ/ 1260 م في موقعة عين جالوت التي ألحق فيها المماليك هزيمة

__________

(1) ابن العبري، »تاريخ الدول السرياني«، مجلة المشرق اللبنانية، ع. 5، سنة 1965، ص. 137؛ ابن شاكر الكتبي، عيون التواريخ، تحقيق نبيلة عبد المنعم وفيصل السامر، بغداد، 1977، ج 20، ص, 224.

 

(1/1598)

 

 

كبرى بالمغول وحطموا الأسطورة التي تقول بأن المغول قوم لا يهزمون. وانتهى بذلك دور الأيوبيين في مقارعة الأرمن على أثر سقوط ممالكهم وانضمامها إلى المماليك في مصر والذين تولوا مهمة مقارعة الأرمن.

 

المصادر والمراجع

 

أوّلاً: بالعربية

ابن الأثير، عز الدين بن أبي الحسن بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، بيروت، 1966 م.

استارجيان، ل.، تاريخ الأمة الأرمينية، الموصل، 1951.

ابن الأزرق الفارقي، أحمد بن يوسف بن علي، تاريخ الفارقي، تحقيق بدوي عبد اللطيف، القاهرة، 1959.

 

(1/1599)

 

 

ابن أيبك، أبو بكر بن عبد الله، كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة، 1971.

البنداري، قوام الدين أبو الفتح محمد بن حامد، سنا البرق الشامي، تحقيق رمضان ششن، بيروت، 1970.

ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف، النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة، د. م، د. ت.

الجنزوري، علية عبد السميع، إمارة الرها الصليبية، القاهرة، 1975.

حمدي، حافظ أحمد، المشرق الإسلامي قبيل الغزو المغولي، د. م، 1950.

 

(1/1600)

 

 

الحنبلي، أحمد بن إبراهيم، شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، تحقيق ناظم رشيد، بغداد، 1978.

خانجي، أنطوان، مختصر تواريخ الأرمن، أورشليم (القدس)، 1886.

ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، العبر في ديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، 1979.

ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، بيروت، د. ت.

الذهبي، شمس الدين، دول الإسلام، الدوحة، 1988.

 

(1/1601)

 

 

رستم، أسد، الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، بيروت، 1956.

رنسيمان، ستفن، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، بيروت، 1967.

ابن الساعي، أبو طالب علي بن أنجب، الجامع المختصر في عيون التواريخ وعنوان السير، بغداد، 1934.

سعداوي، نظير حسان، التاريخ الحربي المعادي في عهد صلاح الدين الأيوبي، القاهرة، 1957.

سيغال، ج. ب.، الرها المدينة المباركة، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا، حلب، 1988.

 

(1/1602)

 

 

أبو شامة، شهاب الدين أبو محمد بن عبد الرحمن، الروضتين بإخبار الدولتين النورية والصلاحية، بيروت، د. ت.

ــــ ــــ ، الذيل على الروضتين، بيروت، د. ت.

ابن الشحنة، محب الدين أبو الفضل محمد، الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، تحقيق محمد بن اليان، بيروت، 1909.

 

ابن شداد، بهاء الدين أبو المحاسن يوسف، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، 1964.

عاشور، سعيد عبد الفتاح، بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى، بيروت، 1977.

ــــ ــــ ، الحركة الصليبية، القاهرة، 1963.

 

(1/1603)

 

 

ابن عبد الحق، صفي الدين بن عبد المؤمن، مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق علي محمد النجاوي، بيروت، 1955.

ابن العبري، غريغوريوس الملطي، »تاريخ الدول السرياني«، مجلة المشرق اللبنانية، ع. 5، 1965.

ابن العديم، كمال الدين أبو القاسم محمد، زبدة الحلب في تاريخ حلب، بيروت، 1954.

العريني، الباز، الشرق الأوسط والحروب الصليبية، القاهرة، 1963.

ابن العماد الحنبلي، أبو الفلاح عبد الحي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، د. ت.

أبو الفدا، عماد الدين إسماعيل، المختصر في أخبار البشر، القاهرة، 1967.

 

(1/1604)

 

 

ابن فضل الله، شهاب الدين أبو العباس أحمد، التعريف بالمصطلح الشريف، مصر، 1952.

القلقشندي، أبو العباس أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، بيروت، 1987.

كب، هاملتون، صلاح الدين الأيوبي، ترجمة يوسف أيبش، بيروت، 1973.

الكتبي، ابن شاكر، عيون التواريخ، تحقيق نبيلة عبد المنعم وفيصل السامر، بغداد، 1977.

كون، كارلتون، القافلة قصة الشرق الأوسط، ترجمة برهان دجاني، بيروت، 1959.

لين بول، ستانلي، صلاح الدين وسقوط مملكة القدس، ترجمة فاروق سعد أبو جابر، القاهرة، 1995.

 

(1/1605)

 

 

ماجد، عبد المنعم، الناصر صلاح الدين الأيوبي، القاهرة، 1958.

المدور، مروان، الأرمن عبر التاريخ، بيروت، 1982.

الملا جاسم، ناصر، صلاح الدين الأيوبي في الدراسات الاستشراقية الأنجليزية والأمريكية، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة الموصل، 1992.

المقريزي، أحمد بن علي، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1975.

نسيم، جوزيف، الوحدة وحركات اليقظة العربية إبان العدوان الصليبي، الأسكندرية، 1967.

 

(1/1606)

 

 

ابن هاشم الطباخ، محمد بن راغب بن محمود، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، حلب، 1924.

ابن واصل، جمال الدين بن محمد، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، 1953.

ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله، معجم البلدان، بيروت، 1955.

 

ثانياً: باللغة الإنجليزية

Cbem, M., Three Italian Travellers, Moscow, 1965.

Clubb. J., The Lost Centuries, London, 1967.

Der Nersession, Sirap, The Armenians, Paris, 1977.

Ehrenkrentz, Andrews, Saladin, New York, 1972.

 

(1/1607)

 

 

Erdman, Carl, The Origin of the Idea of Crusedes, New Jersey, 1977.

Grousset, R., Histoire des Croisades et du Royaume Franc, Paris, 1943.

Howorth, Henry , The History of the Mongols from 9th to 19th Century, London, 1989.

Hussey, Joan, Cambridge Medieval History, Cambridge, 1966.

Lane-Poole, Stanley, A History of Egypt in the Middle Ages, London, 1968.

Lang, David Marshall, Armenia Cradle of Civlization, London, 1970.

 

(1/1608)

 

 

Lopz, Roberts, Byzantium and World Around It: Economic and Institutional Relations, London, 1979.

Sanjian, Aledisk, The Armenian Sommumties In Syria under Ottoman Dominion, Cambridge, 1965.

Saunders, J. J., The History of the Mongols Couquests, London, 1970.

Setton, Kenneth, M., A History of the Cruseds, Pennsylvania, 1955.

Stevenson, W. B., The Cruseders in the East, Cambridge, 1963.

 

(1/1609)

 

 

الإبداع عند المؤرخين المسلمين؛ إضافة في منهجية علم التاريخ

... ... ... ... ... ... الدكتور عبد المنعم ماجد

... ... ... ... أستاذ التاريخ الإسلامي بقسم التاريخ بكلية

... ... ... الآداب، والخبير الوطني بمركز الدراسات البردية،

... ... ... ... ... في جماعة عين شمس - القاهرة

 

أوجد المسلمون علوما، والعلوم لا تقوم إلا على المنهجية؛ فهم لم يكونوا مجرد نقلة. ولا شك أن علم التاريخ، وهو من مظاهر تقدم حضارة المسلمين في العصور الوسطى، قد ألفوا فيه كتبا عديدة، وزاد عدد المؤرخين عندهم زيادة كبيرة؛ حتى أنها لا

 

(1/1610)

 

 

تقارن بما كان يوجد قبلهم، أو لدى غيرهم؛ بحيث أن علم التاريخ في عصرنا يدين لهم بالكثير.

والواقع؛ كان للمؤرخين المسلمين قدم راسخة في إبراز منهجية علم التاريخ؛ لتعنى ما يتمثل من قواعد ومعايير ضرورية يلتزم بها القائمون به؛ إذ الحقيقة التاريخية ليست شيئا جامدا، وإنما بالأولى هي مرحلة فاصلة في شيء تجريبي متصل بغيره؛ يعتبر جزءا من وعي المؤرخ؛ بقصد التوضيح والوصول إلى غاية محددة.

ومع أن معظم إدراكنا لمنهجية علم التاريخ في وقتنا وقد أتى من أوربا؛ إلا أن الواقع يبين أن المؤرخين المسلمين يعتبرون واضعي

 

(1/1611)

 

 

أسسها؛ نتيجة لتراث تاريخي إسلامي عريض، استمر عدة قرون. ومن قبل لم يكن يوجد عند العرب في الجاهلية غير الخبر(1) ، مصطلحا ليعي مضمون التاريخ، وله ميزة المعرفة الواسعة ؛ بسبب أنه كانت لهم ذاكرة قوية تحفظه، لم تتوفر لأي شعب من الشعوب الأخرى.

ولقد وردت لفظة "المنهجية"(2)

__________

(1) انظر: ماجد، "الخبر التاريخي عند المسلمين" نشر في مجلة المؤرخ العربي، بغداد، 1988.

(2) يقول ابن خلدون إن أغلب التواريخ عامة المناهج. انظر: مقدمة ابن خلدون، القاهرة، 1322هـ/1904، ص.3، ص. 13؛ انظر: ماجد، ذيل على مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، القاهرة، 1979، ص. 16، س 11.

 

(1/1612)

 

 

، في كتب المؤرخين المسلمين الأوائل، إلا أنها لم تظهر محددة المعنى؛ ربما على أساس أنها بديهية وضرورية للعلم.

إضافة إلى أن العلوم الإسلامية كانت لا تزال متداخلة، وأن علم التاريخ في أول أمره لم يظهر في تقسيم العلوم كعلم مستقل، وإنما ارتبط مثل غيره بالعلوم الدينية(1) ، أو ما سمي أيضا بالعلوم الشرعية أو النقلية أو الوضعية أو الطبيعية؛ لأنها مستمدة من الدين، ومنقولة عنه.

__________

(1) مقدمة ابن خلدون، ص. 45؛ الغزالي، إحياء علوم الدين، مصر 1346هـ، ج 1، صص.13 -15-16؛ انظر:

Ency de l’Isl, (art uim), l’ed, cf.

 

(1/1613)

 

 

يضاف إلى ذلك أن المسلمين استخدموا عبارة لم يستخدمها مؤرخون قبلهم، وهي عبارة: "فن التاريخ"(1) ؛ التي لم تظهر إلا في العصر الحديث؛ فهم ذكروا صراحة أن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، واعتبروا علم التاريخ صناعة(2) ؛ وله ملكته الخاصة(3) ؛ كما رتبوا القائمين به في درجات، ومنهم؛ "فحول المؤرخين"(4) أو "المشاهير"(5) ؛ ويعنون بهؤلاء المبدعين، الذين لهم

__________

(1) مقدمة ابن خلدون، ص. 2، س. 12، ص. 22، س. 4.

(2) نفسه، ص. 3، س. 17.

(3) نفسه، ص. 23، (في آخر سطر).

(4) نفسه، ص. 2، س.22.

(5) نفسه، ص. 2، س. 9.

 

(1/1614)

 

 

عبقرية الهضم، والقدرة على التفكير.

* * * *

فكان أول مظهر لإبداعهم في علم التاريخ أن اهتموا بصحة مصادره، وكان الحفاظ هم الوسطاء الذين ينقلونه من الذاكرة، أو الشاهد العيان الذي يدرك الصورة والزمن؛ مما دعا إلى ظهور ما عرف: بالسند أو الإسناد أو الأسانيد(1) ، أو العنعنة بمعنى رفع القول إلى قائله، أو ما سماه المؤرخون المسلمون بعد ذلك بالنقل المتواتر الذي لا شبهة فيه، وأصبحت الطريقة المثلى للإجماع على صحة الخبر التاريخي، وكانت هذه الطريقة عينها؛ قد اتبعت عند جمع الأحاديث

__________

(1) نفسه، ص. 452، س. 11.

 

(1/1615)

 

 

النبوية، حتى يطمئن جامعو الأحاديث في اتصالها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) . وللتأكيد من صحة السند التاريخ يطبقوا عليه ما طبق على سند الحديث من الجرح والتعديل(2) . مما يبين أن التاريخ أخذ طريقة الحديث في أول تأليفه؛ حيث كان علم الحديث يسمى علم الرجال(3) ؛ لارتباطه بعلوم كثيرة.

__________

(1) حاجي خليفة، كشف عن أسامى الكتب والفنون، ط1، ج1،ص.422.

(2) نفسه، ج 1، ص.39؛ مقدمة ابن خلدون، ص.28، س.5.

(3) نفسه، ج1، ص.390؛ مسلم، صحيح، القاهرة 1329-1331، ص.240.

 

(1/1616)

 

 

وقد استمر الإسناد أو السند وقتا طويلا من مصادر التاريخ؛ حتى لما كثرت الكتب المؤلفة فيه؛ فظهر لأول مرة ما عرف أيضا بأسانيد الكتب(1) ، واكتسب هو الآخر قداسة مماثلة للإسناد الشفهي؛ بسبب أن المسلمين في أي وقت لم يكونوا يستطيعون أن يكتبوا تاريخهم دون أن يذكروا المصادر، التي استقوا منها أخبارهم. فكان حرص المؤرخين المسلمين على ذكر مصادرهم من الكتب إضافة جديدة لإبداعهم في هذا العلم، وهو تطوير واضح في اتجاه الموضوعية التاريخية؛ لا زلنا

__________

(1) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دمشق 1349/1930، ص. 13.

 

(1/1617)

 

 

نقوم بها إلى الآن فيما يعرف بالتهميش أو الحواشي، وهو الإبداع في التوثيق التاريخي.

كذلك ظهر إبداع آخر على أيديهم؛ يتمشى مع المناخ السياسي الإسلامي؛ فيما سمي بالتدوين بالحوليات؛ جمع حولية، وهي طريقة لجمع الأخبار تعتبر اتجاها من عربيا إسلاميا لم يعرف قبل؛ عبارة عن تزامن أو معاصرة لمعلومات التاريخ، لفترة معينة تحدد بالسنة؛ وإن كان بعضها قد يستمر لمدة سنين، فمن قبل كانت شعوب مثل المصريين القدماء أو اليونان، أو حتى الفرس الذين أخذ العرب كثيرا من نظمهم في الإسلام لا يرتبون معلوماتهم على حسب السنين،

 

(1/1618)

 

 

وإنما على حسب الملوك والأسر الحاكمة، وكليهما سادة العالم القديم(1) ؛ وإن أخذ الفرس المسلمون بعد ذلك في تدوين معلوماتهم بالترتيب التاريخي على حسب السنين. وقد أخذت شعوب أخرى غير إسلامية عن المسلمين ترتيب المعلومات على حسب السنين، مثل: الإسبان الذين سموها: مدونات (Cronicas)، والفرنسيين الذين سموها الأنال (Anales)؛ بحيث ظهرت في فرنسا مدرسة(2)

__________

(1) انظر: روز نثال، علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة، مقدمة، ص. 16؛ صرنشو، علم التاريخ، ترجمته، ص. 67.

(2) انظر مفرنس، "التاريخ والمؤرخون"، عالم الفكر، العدد الأول، 1974، ص. 109.

 

(1/1619)

 

 

خاصة بها (Ecole des Annales).

فهذا الترتيب على السنين أو الحوليات؛ بقصد ألا تعرض الأخبار عشوائيا، ولترتبط بعضها ببعض، بجعلها في حيز واحد؛ مهما تعددت روافدها؛ باعتبار أن الزمن وعاء لتحرك الإنسان. ثم إن ترتيب الخبر في الإسلام بترتيب السنين، يتمشى مع الاتجاه الإسلامي، الذي أصبح يهتم بالإنسان؛ بصرف النظر عن أن يكون وارثا لعرش، أو من أسرة نبيلة؛ فيقتصر الخبر عليه. فهذا الترتيب على السنين، له إذن فلسفة؛ فالحوليات لا تشتمل على أبناء الصفوة من الناس، وإنما على أخبار كل الناس؛ حتى أن مؤرخا مثل الجبرتي

 

(1/1620)

 

 

فيما بعد، لا يهتم في تاريخ عصره بالحكام فقط، وإنما يهتم بالشعب أيضا؛ فأتى بالحوادث من الحواري والقرى. ويؤيد هذا الاتجاه الإنساني في الخبر التاريخي، أنه أصبح يمتد عندهم إلى بدء الخليقة(1) ؛ مما يدل على ارتباط الإنسان بالإنسان؛ مهما امتدت به عدد السنين. حقا إن التاريخ سوف يهتم بالصفوة أحيانا، ولا سيما الملوك، حينما كان يضعف الاتجاه

__________

(1) انظر: روزثال، علم التاريخ، ترجمة، ص. 102.

(17) انظر: ماجد، "مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي"، تعريف بمصادر التاريخ الإسلامي ومنهاجه الحديث، ط.4، القاهرة 1946، ص. 37.

 

(1/1621)

 

 

الإسلامي الديموقراطي؛ ليدخل التاريخ في متاهات الشعوبية على الخصوص.

والواقع؛ فإن كبار المؤرخين المسلمين، قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر(1) . ومن المؤكد أن المؤرخ ابن جرير الطبري (ت 210هـ/923م)، اعتبر العمدة في كتابة أخبار التاريخ، على ترتيب السنين أو الحوليات، وذاع صيت مؤلفه: تاريخ الرسل والملوك، الذي أصبح يعرف بتاريخ الطبري أيضا. كذلك حاول مؤرخون مسلمون آخرون أتوا بعد الطبري أن يقلدوه، مثل ابن الأثير (ت 620هـ/1233م)، الذي سار على

__________

(1) المقدمة، لابن خلدون ص. 2، س. 23.

 

(1/1622)

 

 

نهجه في الأخذ بالترتيب الزمني على السنين، أو حتى بالشهر.

 

حقا؛ إن كتابة الخبر التاريخي على ترتيب السنين؛ قد ظهر أول ما ظهر في العراق، ولكن بعد ذلك، لما برزت المدرسة المصرية التاريخية؛ فإنها أوجدت ترتيب الخبر التاريخي على حسب القرون؛ مما يبين مجهودها في تطوير ترتيبه؛ باعتبار أن القرون تستوعب عددا أكبر من الأخبار التاريخية؛ ليست في حوزة الحوليات؛ وإن اختلف لغويا(1) في تعريف القرن، الذي قد يعني مائة أو ثمانين أو أربعين أو ثلاثين عاما؛ بحيث ظهر من مؤرخي المدرسة

__________

(1) لسان العرب، ج17، ص. 211 وما بعدها.

  التاريخية المصرية من تناول بأخباره مائة عام كاملة.

وإذا ما قارنا تفاصيل الأخبار في كتب المؤرخين المسلمين بما كان يوجد في العصور السابقة؛ فإنه من الملاحظ أنها قد تعددت بشكل لم يسبق إليه؛ بحيث كانت تكتب بأسلوب الشفرة قصيرة جدا، ودسمة جدا، والسطر الواحد قد يشتمل على أخبار بجزئيات نادرة تجعل منها أشبه بمتحف للمعلومات. ومثل هذا الجمع للأخبار التاريخية، لا يوجد إلا عند المؤرخين المسلمين وحدهم، ولم يظهر في حجمه الكبير هذا من قبل ولا من بعد؛ مما يحير الأفكار.

 

(1/1624)

 

 

فكانت هذه الأخبار التاريخية شاملة لنواح متعددة؛ خاصة بطوائف المجتمع، وبالمدن، وبالأفراد، وبالحروب، وحتى بالخبر العلمي والفكري، بحيث وجدت أنماط من الكتابة التاريخية لم تعرف قبلهم، يكمل بعضها بعضا. فمؤرخ مصري مثل السخاوي أورد أربعين نمطا من الكتابة التاريخية(1) ، كما بين أن التصنيف في التاريخ قد يصل إلى نحو من ألف تصنيف(2) ؛ تظهر في كتب مؤرخي الإسلام، وذكرت بعض عناوينها مختصرة، مثل: سير، وأخبار، ومغازي،

__________

(1) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، دمشق 1349/1930، ص. 96 (في آخر سطر).

(2) نفسه، ص. 84، س. 14.

 

(1/1625)

 

 

وفتوح، وتاريخ، ومختصر، وذيل وشرح، وأنساب، وتراجم، وطبقات، ووفيات، ومعاجم، وغرائب، وتحفة، وعقود، ونزهة، وروضة، ودر، وحديقة، وحسن، وحقائق، وخريدة، وخطط، وغير ذلك. كذلك ربط المسلمون التاريخ بكل العلوم، مثل: الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفقه، والجغرافيا، وغير ذلك؛ فكان بحق علم العلوم.

... ... ... ... * ... * ... * ... *

وفوق ذلك؛ فإن المؤرخين المسلمين لم يكتفوا باستيعاب الخبر فقط بشكل مذهل، والالتزام بنقله صحيحا؛ مما يؤكد إبداعهم في علم التاريخ، ولكنهم عمدوا إلى تحري صحة الخبر في ذاته. فكان هذا

 

(1/1626)

 

 

الاتجاه يعتبر مرحلة جديدة حاسمة في كتابة التاريخ؛ بحيث أن التاريخ لم يعد الخبر وحده، وإنما المؤرخ أيضا، الذي لم يعد همزة الوصل بين الخبر وناقله، وإنما أصبح يفحص الخبر في ذاته؛ بحيث خصص مؤرخون كبارا كتبا تناولت معظمها ضرورة فحص الخبر. فألف ابن خلدون (ت 808هـ/1407م): المقدمة، والسخاوي ت 831هـ/1427م): الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، والسيوطي (ت 911هـ/1505م): الشماريخ في علم التاريخ. وبسبب هذا الاتجاه الجديد في المنهجية التاريخية برز دور المؤرخ على أساس ما يضيفه إلى المادة التاريخية من حيثيات،

 

(1/1627)

 

 

قائمة على الدراسة والقدرة على التفكير؛ فهو الذي ينتخبها من المادة الأرشيفية الهائلة، وهو الذي يعرضها، ويحللها، وينقدها؛ ليستنبط فيها، ويصل بها إلى نتائج. وبذلك أصبح للتاريخ نبض، وليس كالمومياء الهامدة في المتحف بدون حياة، أو اجترار للماضي فقط.

ولا شك أن ابن خلدون، وهو الشيخ العلامة العالم، يعتبر أول من أشار بوضوح إلى ضرورة فحص الخبر التاريخي في ذاته في مقدمته المشهورة، التي ألفها وهو في القاهرة، واحتوت على معرفة تامة بعلم التاريخ. فتكلم ابن خلدون كثيرا عن أن التاريخ؛ وإن كان يبدو في ظاهره وقائع

 

(1/1628)

 

 

وأخبار؛ إلا أنه بالأولى سبب ومسبب؛ وأنه في باطنه(1) نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق؛ وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق. ولذلك هاجم ابن خلدون المؤرخين الأوائل لاعتمادهم على مجرد ما نقلوه أو سمعوه، وعدم تأمل حقيقة الخبر ومناقشتها؛ إذ في رأيه أن الفحص عن صحة الخبر قليل، والتنقيح في الغالب كليل(2) . بل ينصح أن يكون التاريخ مفيدا(3) للأجيال الناشئة، ويتساءل ما الفائدة منه إذا لم يكن كذلك. فمعنى هذا أن رؤى ابن خلدون في

__________

(1) نفسه، ص. 2، س. 20 وما بعدها.

(2) نفسه، ص. 3، س. 1.

(3) نفسه، ص. 3، س. 25.

 

(1/1629)

 

 

علم التاريخ غير رؤى سابقيه. فيطالب المؤرخ بألا ينفصل عن روح العصر ومجتمعه؛ وألا يكون سلبيا أو محايدا/ وإنما يتدخل في التاريخ بنظرته فيه، وذلك على عكس ما هو معروف من طلب الحيدة من المؤرخ.

وقد دعاه إبداعه في علم التاريخ أنه بحث في أغوار مجتمعاته؛ ليس فقط الإسلامية، وإنما الإنسانية بعامة؛ ويبدو ذلك بسبب اتساع رقعة الإسلام، والاتصال بالأمم المختلفة. وقد كان ابن خلدون يقدر قيمة هذه النظرة المتعمقة في التاريخ الإنساني؛ وحتى أنه رأى أن ملاحظاته عنها، وكأنها بداية لعلم جديد ألهم إليه إلهاما، ولم يجده

 

(1/1630)

 

 

من قبل في علوم الأوائل. مثل الفرس والفراعنة واليونان؛ وأطلق عليه: العمران(1) الاجتماعي البشري أو الإنساني. ولعل علماء العصر الحديث؛ بسبب اكتشافه لمعايير اجتماعية، جعلوه مؤسسا لعلم الاجتماع. ولكن من المؤكد أن ابن خلدون لم يقصد بعلمه الجديد أو بنظريته الجديدة عن العمران البشري أن يخرج بقوانين

__________

(1) نفسه، ص. 30، س. 25؛ (انظر: ماجد، العمران، نظرية لابن خلدون في تفسير التاريخ"، بحيث ألقي في ندوة الحضارة الإسلامية بمناسبة مرور عام على وفاة المرحوم أحمد فكري، نشر في كتاب خاص عن جامعة الإسكندرية.

 

(1/1631)

 

 

اجتماعية، وإنما بالأولى قصد تقصي الأسباب والأصول وحركات العوامل لمعرفة التاريخ، الذي هو أحد رجاله؛ معرفة سليمة. فالتاريخ في رأيه هو خبر عن الاجتماع الإنساني، الذي هو العمران؛ فيقول بلفظه: أنشأت في التاريخ كتابا(1).

وعلى صعيد آخر سلط ابن خلدون الأضواء بشدة على الحضارة وتركيبها، وأطلق عليها أيضا: التمدين(2) أو التمدن أو المدنية، وقصد بها رفاهية العيش، وكأنه

__________

(1) مقدمة ابن خلدون، ص. 27، س. 20.

(2) نفسه، ص. 97، س. 9: انظر: ماجد، "منهجية جديدة لابن خلدون في علم التاريخ"، مجلة المؤره العربي، تونس 1979.

 

(1/1632)

 

 

طبيب يشرحها، حتى جعلها تمر بأطوار(1) في الحياة مثل الإنسان. ثم هو وإن كان يرى أن الحضارة ترتبط أساسا بالحضر وما في نوعها؛ إلا أنه جعلها ترتبط بالعلوم والفنون، واعتبر ازدهار المدن يعني ازدهار العلوم والفنون، وتدهورها تدهور لها. ولذلك؛ فهو يأتي بعبارات لا توجد إلا عنده، ومنها: إن تفصيل(2) الثياب من مذاهب الحضارة وفنونها.

... ... ... ... * ... * ... * ... ... * ... ... ... ...

__________

(1) نفسه، ص. 132 وما بعدها.

(2) نفسه، ص. 326، س. 25.

 

(1/1633)

 

 

والخلاصة أن هذا التوهج الإبداعي في علم التاريخي، ظهر بسبب أن الإسلام اهتم بالعقل، وأن البيئة الإسلامية قد ساعدت على ذلك؛ فظهر مؤرخون كبار يبحثون عن دوره ويطورونه؛ إلى أن هذا العلم قد يمتهن بالكذب والتزييف والتعصب والذهول عن المقاصد، ولا سيما بالتقرب به إلى الحكام؛ كما يقول ابن خلدون.

 

(1/1634)

 

 

الإسلام في إسبانيا

 

... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور علي منتصر الكتاني

1 - وصف عام لإسبانيا

... إسبانيا دولة ملكية تقع في غرب البحر الأببيض المتوسط ، مساحتها 504.750 كيلومترا ، وسكانها 40 مليون نسمة سنة 1991 . وتحد إسبانيا شمالا فرنسا والمحيط الأطلسي ، وغربا البرتغال وجنوبا مضيق جبل طارق الذي يفصلها عن المغرب ، وشرقا الببحر الأبيض المتوسط . وتكون إسبانيا مع البرتغال شبه الجزيرة الإيبرية وتفصلها عن فرنسا جبال البرانس ، وتتبع إسبانيا الجزر الشرقية في البحر الأبيض المتوسط ، وهي ميورقة

 

(1/1635)

 

 

ومنورقة ويابسة وفرمنتيرة ، ومساحتها 5.014 كيلومترا مربعا وسكانها 766.000 نسمة( 1991 ) ، وكذلك الجزر الخالدات المقابلة للشاطئ المغربي على البحر المحيط ، ومساحتها 7.273 كيلومترا مربعا وتعداد سكانها 1.600.000 (1991 ) . ويتكون القسم القاري من إسبانيا من هضبة تحدها من جهاتها الأربع جبال عالية كشارات الثلج في الجنوب ، وأعلى قمة فيها قمة أم الحسن وعلوها 3.478 مترا فوق سطح البحر ، وفي الشرق شارات كونكة وابن الرزين ، وفي الشمال شارات وادي الرمان ، وأعلى قمة فيها المنصور وعلوها 2.592 مترا فوق سطح البحر .

 

(1/1636)

 

 

وتتحلل هذه الجبال سهول نهرية وساحلية كانت مركزا للحضارة الإسلامية قديما . و أهم أنهارإسبانيا الوادي الكبير ووادي تاجه ونهر إبره ونهر الدويرة .

... وتتجزأ إسبانيا إداريا إلى 17 ولاية ذات استقلال ذاتي وهي : الأندلس وأراغوان و ستورياش وقشتالة ليون وقشتالة مانشة وقطلونية وإسترامدورة وجليقية ومرسية ونبارة وبلنسية

والجزر الشرقية والجزر الخالدات و أوسكادي وقنتبرية ومجريط ولاريوخا . و أهم مدن إسبانيا اليوم العاصمة مدريد وبرشلونة وبلنسية و إشبيلية وسرقسطة وقرطبة وغرناطة . حكم إسبانيا منذ الحرب الأهلية

 

(1/1637)

 

 

التي دامت بين سنة 1936 وسنة 1939 ، الجنرال فرانكو . وبعد موته سنة 1975 أصبح خوان كارلوس ملكا على البلاد .

... و إسبانيا بلاد زراعية لكن الصناعات أخذت تنتشر خاصة في المناطق الشمالية ، ويزور إسبانيا كل سنة ملايين السواح حتى أصبحت السياحة من أهم مشاغل البلاد في مناطق مختلفة خاصة في الأندلس .

2 - تاريخ الوجود الإسلامي قبل سقوط غرناطة

... كانت الجزيرة الإيبيرية ،قبل دخول الإسلام لها ، تعيش تحت حكم الغزاة القوط وقد استنجدوا بالمسلمين حينما وصلوا إلى المغرب ، فأنجدهم رئيس الجيوش الإسلامية في المغرب

 

(1/1638)

 

 

موسى بن نصير بإرسال أحد قواده وهو طارق اببن زياد على رأس جيش أغلبه من المغاربة. فساند الأهالي هذا الجيش ، وتحررت الجزيرة بأكملها بين سنتي 711 و 713 م .

... وقد أصبحت المنطقة الجديدة مقاطعة تابعة لولاية المغرب في الدولة الإسلامية التي كانت القيروان عاصمتها . لكن المسلمين أهملوا منطقة صغيرة في الجبال الوعرة شمال البلاد اتخذت منطلقا للغزو النصراني الذي قضى على دولة المسلمين في الأندلس مع مر العصور . هكذا وبعد الفتح أخذت الهجرة الإسلامية تنتقل إلى الأندلس بأعداد صغيرة من المشرق العربي ، وبأعداد

 

(1/1639)

 

 

كبيرة من شمال المغرب الأقصى المجاور . فكثرت أعداد كبيرة من شمال المغرب الأقصى المجاور. فكثرت أعداد المسلمين وارتفعت نسبتهم بين السكان باعتناق الأهالي الإيبيريين الإسلام بصفة جماعية . وعندما قدم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس سنة 756 م كانت نسبة المسلمين قد ارتفعت ، وبذلك استطاع أن يؤسس دولة أموية قوية في الغرب اتخذ عاصمة لها مدينة قرطبة الواقعة على الوادي الكبير .

... وقد أصبح المسلمون أغلبية في البلاد أيام الحكم الأموي حين وصلت الأندلس إلى أوج حضارتها وقوتها ، لا تضاهيها دولة في أوروبا آنداك ،

 

(1/1640)

 

 

أما النصارى فعادوا أقلية صغيرة أضاعت

لغتها وتعربت واتخذت الأسماء العربية أسماءا لها . لكن هذه الأقلية بقيت كطابور خامس داخل الدولة الإسلامية مستعدة للانقضاض على البلاد في حالة ضعفها والتعاون مع كل غاز ومهاجم.ونظم النصارى الخارجون عن الدولة نفسهمفي إمارات جبلية نائية شمال غرب شبه الجزيرة الإيبيرية ، ووصلت الدولة الأموية إلى أوجها أيام عبد الرحمن الناصر الذي حكم البلاد 49 سنة بين 912 و 921 م .

... وبدأ الضعف يسري في الدولة الأموية أيام حفيد الناصر حين سيطر على الحكم حاجبه المنصور بن أبي عامر .

 

(1/1641)

 

 

وكان المنصور هذا من أحسن القواد ومن أبرع رجال الولة . فأعاد للبلاد قوتها الأولى ووحدها تحت راية الإسلام من جديد ، لكن أبناء المنصور لم يكونوا في مستوى أبيهم ولا أحفاد الناصر في مستوى جدهم . زد على ذلك أن المجتمع الإسلامي الأندلسي أصبح مجزأ عنصريا . فالمنصور بن أبي عامر اضطر إلى تقوية جيشه بإعداد كبيرة من البربر المغاربة والمماليك السقالبة من فرنسا و إيطاليا وشمال أوروبا ، اعتنقت الإسلام عند وصولها إلى الأندلس .

 

(1/1642)

 

 

... فأصبحت في البلاد أربعة عناصر إسلامية : العرب والبربروالإيبيريون المسلمون والسقالبة المماليك . فعندما ضعفت الدولة الأموية ، أخذت هذه العناصر تتطاحن مع بعضها البعض فانهارت الدولة الأموية سنة 1031 م وتجزأت الأندلس إلى مجموعة من الدويلات العنصرية تحت حكم ملوك الطوائف قضت على الوحدة الأندلسية . و أصبح عدد هذه الدويلات الإسلامية الأندلسية 23 دولة ، منها العربية كبني عباد في إشبيلية وبني هود في سرقسطة ، ومنها البربرية كبني الأغطس المكناسيين في بطليوس وبني ذي النون الهواريين في طليطلة ، ومنها

 

(1/1643)

 

 

السقلبية كبني مجاهد وبني غانية في شرق الأندلس .

ولما أخذت الدول النصرانية تلتهم الدويلات الإسلامية ، استنجد الأندلسيون بالمغاربة . فعبر إلى الأندلس أمير المسلمين يوسف بن تاشفين المرابطي بجيش عظيم هزم به القوات المسيحية في معركة الزلاقة سنة 1086 م ، ثم ضم الأندلس إلى المغرب وقضى على ملوك الطوائف ، غيبر أن النصارى احتفظوا بالأراضي التي احتلوها ، مثل طليطلة الثغر الأوسط ، ولما ضعفت الدولة المرابطية أخذت الأندلس تتجزأ ثانية .

 

(1/1644)

 

 

فاستنجد المسلمون بالموحدين لمغاربة سنة 1145 م فأنجدهم بعد أن ضاعت مناطق أخرى في شرق الأندلس مثل سرقسطة .

... وضعفت الدولة الموحدية وانهزم المسلمون انهزاما فادحا سنة 1212 م في معركة العقاب على يد القوات النصرانية ، وأصبح تدخل الدولة المغربية المرينية متواصلا لإنقاد ما تبقى من الأندلس ، لكن المرينيين لم يكونوا في قوة المرابطين والموحدين ، وأصبح المغاربة يخوضون معارك دفاعية مع النصارى لأول مرة في التاريخ على أرض المغرب . وسقطت مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى . وكانت الفاجعة الكبرى بسقوط قرطبة سنة

 

(1/1645)

 

 

1236 م و إشبيلية سنة 1248 م وكانت آخر عهد الأندلس لولا عبقرية محمد الغالب ابن الأحمر الذي استطاع أن يجمع الكلمة حوله في جبال الأندلس الجنوبية . وبقيت الأندلس تشع بنورها في ذلك الجزء الصغير إلى سنة 1492 م. واستنجد الأندلسيون بالمسلمين ، ولكن هذه المرة لم يكن هناك من يجيب ، بل بكى المسلمون في الشرق والغرب على الأندلس بكاء العاجز ، ونذبها الشعراء من أهلها ومن غيرهم إلأى يومنا هذا كالشاعر الرندي صصالح بن شريف المعروف بأبي البقاء الذي نظم قصيدة مطلعها :

لكل شيء إذا ما تم نقصان

 

(1/1646)

 

 

فلا يغر بطيب العيش إنسان

إلى أن قال

دهى الجزيرة أمر لا غزاء له

هوى له أحد وانهد ثهلان

أصابها العين في الإسلام فارتأزت

حتى خلت منه أقطار وبلدان

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

و أين شاطبة أم أين جيان

و أين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شن

و أين حمص وما تحويه من نزه

ونهرها العذب فياض وملآن

قواعدكن أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركان

تبكي الحنيفية البيضاء من أسف

كما بكى لفراق الألف هيمان

على ديار من الإسلام خالية

قد اقفرت ولها بالكفر عمران

حيث المحاريب تبكي وهي جامدة

 

(1/1647)

 

 

حتى المنابر ترشي وهي عيدان

ثم يستنجد بالمسلمين ويصف حالة الأندلسيين في يد النصارى يباعون في أسواق الرق فيقول :

يا له من لذلة قوم بعد عزهم

أحال حالهم كفر وطغيان

بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم

واليوم هم في بلاد الكفر عبدان

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم

عليهم من ثياب الذل ألوان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لهالك الأمر واستهوتك أحزان

يارب أم وطفل حيل بينهما

كما تفرق أرواح و أبدان

وطفلة مثل حسن الشمس إذا طلعت

كأنما هي ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حيران

 

(1/1648)

 

 

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام و إيمان

ولنأخذ فكرة على هذا التقهقر الإسلامي في الأندلس بالأرقام من الجدول ( 1 ) حيث بينا مساحة الأراضي الإسلامية في الأندلس عبر العصور بالكيلومترات المربعة .

... ... الجدول رقم ( 1 ) : مساحة الأندلس عبر العصور

العصر

السنة الميلادية بالتقريب

المساحة بالكيلومترات المربعة

عهد الولاة

740

700.000

 

عهد الأمويين أيام الناصر

940

440.000

 

عهد المنصور بن أبي عامر

1000

580.000

 

عهد المرابطين

1100

250.000

 

عهد الدولة النصرية

1450

30.00

 

(1/1649)

 

 

3 - الإسلام في إسبانيا بعد سقوط غرناطة

... عندما كان الإسلام يحكم إسبانيا تحت إسمها الإسلامي ( الأندلس ) كان معظم السكان مسلمين وكان كلما استعمر النصارى القادمون من الشمال أراض إسلامية جديدة هاجر كثير من المسلمين عنها وأتى النصارى بمستعمرين من المقاطعات النصرانية الشمالية . وبقيت تحت الحكم النصراني مجموعات إسلامية كبيرة كانت تعرف تحت اسم " المدجنين " وكان هؤلاء هم أصحاب الخبرة في البلاد ، غير أنهم كانوا يعاملون معاملة العبيد .

 

(1/1650)

 

 

... ولما وقعت مدينة غرناطة ، آخر المدن الإسلامية ، تحت قبضة النصارى عام 1492 م عقد هؤلاء معاهدة مع المسلمين يلتزمون فيها باحترام دينهم ومعتقداتهم . ولكن عندما استتب لهم الأمر نقضوا العهد و أجبروا المسلمين على التنصر . ولكن الإسلام في إسبانيا لم ينقرض بضياع غرناطة ، فلقد حافظ المسلمون على دينهم سرا جيلا بعد جيل وقاموا في كل هذه الأثناء بتعليم أطفالهم الدين الإسلامي . وكان كلما اكتشف أحد منهم حكمت عليه محاكم التفتيش بالإحراق حيا . وهؤلاء المسلمون في السر ، والنصارى في العلانية واسماء سماهم

 

(1/1651)

 

 

الإسبان " الموريسكوس " . ولقد ألفوا كتبا باللغة الإسبانية والحروف العربية ، وهي اللغة التي تسمى بالعجمية ، في سيرة الرسول ، - صلى الله عليه وسلم - ، وتفسير القرآن وتعاليم الإسلام ، ولا زالت تلك الكتب موجودة في المكتبات الإسبانية . وحاول هؤلاء المسلمون الهجرة بدينهم إلى المغرب العربي كلما سنحت لهم الفرصة ، فكان يصل منهم سيل متواصل إلى الشواطئ المغربية . وفي عام 1568 م ، ثار المسلمون في جبال البشرات ، جنوب غرناطة ، تحت زعامة البطل المسلم " فرناندو دي بالور " الذي غير اسمه إلى محمد ابن أمية .

 

(1/1652)

 

 

ودامت الثورة ثلاث سنوات استبسل فيها المسلمون. لكنهم هزموا بعد ذلك ، واستشهد الكثير منهم بما فيهم زعيمهم محمد بن أمية رحمه الله ، وهرب الكثير منهم إلى المغرب .

... وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه " الحلل السندسية " ( الجزء الأول ) ، قصة بعض الموريسكيين ، وكيف كانوا يكونون جمعيات سرية تعلم بعضها البعض الإسلام . كما جاء الباحث المصري محمد عبد الله عنان بقصة موريسكي آخر اسمه الشهاب الحجري الذي فر بدينه سنه 1597 م من ضواحي غرناطة ، وذهب إلى مرسى شنتمرية بالبرتغال ، وتنكر كإسباني من إشبيلية ،

 

(1/1653)

 

 

وركب بارجة برتغالية إلى مدينة الجديدة التي كانت تحت الاحتلال البرتغالي ، ومنها هرب هو وجماعة معه إلى مدينة آزمور المغربية .

... وبقي الإسلام حيا في الأندلس بعد فشل ثورة جبال البشرات وتابع الإسبان مطاردتهم للمسلمين وحرقتهم أحياء كلما كشفوا أنهم على دين أجدادهم ، ولم ينطفئ أمل هؤلاء الأندلسيين في استرجاع بلادهم ، فأخدوا يستنجدون بالعثمانيين ، لكن لم تأت أي نجدة . وكان آخر هجوم لقوة بحرية إسلامية على الشواطئ الإسبانية تحت قيادة خير الدين بربروسة ، وال الجزائر ، سنة 1535 م .

 

(1/1654)

 

 

... ولما يئس من تنصير المسلمين ، أمر طاغيتهم سنة 1609 م بطرد جميع الموريسكيين عن إسبانيا ، بعد أن صادر كل أموالهم وأخذ كل أبنائهم الذين تقل أعمارهم عن الخمس سنوات. فخرج من إسبانيا حوالي ربع مليون مسلم إلى الشواطئ المغربية والعثمانية ، حينئد غيروا أسمائهم النصرانية إلى أسماء إسلامية وجهروا بإسلامهم في أرض الإسلام .

... ولكن الإسلام لم يمت في إسبانيا بهذه الهجرة ، بل بقي دفينا في قلوب الكثيرين جيلا ببعد جيل . ففي سنة 1769 م ، ضبطت محاكم التفتيش مسجدا سريا في مدينة قرطاجنة أنشأه المسلمون المنتصرون

 

(1/1655)

 

 

ظاهرا .

4 - تكوين القومية الأندلسية في القرنين 19 و 20

... قضى طرد 1609 م على تنظيم النخبة المورسكية الذي حافظ على الإسلام في الأندلس مدة مائة و عشرون سنة بعد سقوط غرناطة.و لكن الانتماء الأندلسي ظل دفينا في النفوس، دون تعبير واضح إلى أن غزت جيوش نابليون الفرنسية إسبانيا سنة 1808 م ، وعاثت فيها فسادا، فانهارت أمامها مقاومة الدولة الإسبانية وثار أهل الأندلس في قادس ضد الغزو الفرنسي بصفتهم أندلسيين ، فاستسلمت لهم البحرية الفرنسية في قادس وهزموا الجيش الفرنسي في معركة بايلن (مقاطعة جيان ) وكونوا

 

(1/1656)

 

 

حكومة سرية في إشبيلية تحت اسم " المجلس الأعلى المركزي " ، وأعلن الثوار في قادس في 19 / 3 / 1812 م دستورا جديدا لإسبانيا كمملكة دستورية حددوا فيه سلطات الكنيسة والملك وقرروا الديمقراطية في المعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسبانية . واعترف الدستور لأول مرة بالأندلسيين كإحدى الشعوب الإسبانية .ذات الشخصية المميزة . وظل دستور قادس مطلب الحركات التصحيحية في إسبانيا طوال القرن التاسع عشر .

 

... ولكن بعد خروج الفرنسيين ، ألغى الملك الذي عاد في سبتمبر عام 1812 م دستور قادس، و أرجع إسبانيا إلى

 

(1/1657)

 

 

استبداد الملك والكنيسة . وثار الأندلسيون سنة 1820 م ثم سنة 1823 م مطالبين بدستور قادس ، وهاجموا محاكم التفتيش و أحرقوها . وتتابعت محاولات الرجوع إلى دستور قادس . ففي سنة 1831 م ، ثار الجنرال طرخوس في الجزيرة الخضراء ، وثارت مالقة سنة 1835 م وطردت ممثلي الحكومة ، وتبعت مالقة مقاطعات الأندلس الأخرى . فهزموا الجيش الإسباني ، وكونوا في بلدة أندوخر ( مقاطعات جيان ) " مجلس أعلى للثورة " حرر دستور أندوخر الذي أعلن حكما ذاتيا للأندلس . ولكن فشلت ثورة عام 1835 م ورغم فشلها كانت لها أهمية كبرى في بلورة

 

(1/1658)

 

 

الهوية الأندلسية الجديدة ، إذ تحركت الأندلس لأول مرة ، منذ ثورات المورسكيين ، كأمة واحدة ، أمام الحكم المركزي في مجريط .

... ثم رجعت إسبانيا إلى فسادها الأول ، وظلت الأندلس لأفقر مناطقها يرزخ أهلها تحت تجاوزات النبلاء الشماليين والكنيسة . فثار فلاحوها سنة 1857 م في مقاطعة إشبيلية يطالبون بأرض أجدادهم ، فقضى الجيش عليهم ، وقتل منهم من قتل ونفى من نفى . فأيقضت تلك الثورة الفلاح الأندلسي من سباته وحررته من عقدة الخوف المسيطرة عليه . ثم ثار فلاحو مالقة وغرناطة سنة 1861 م ، فقضى عليهم كما قضى على

 

(1/1659)

 

 

إخوتهم في إشبيلية . وفي سنة 1868 م، انطلقت الثورة من قادس وانتشرت في كل البلاد . فهزمت حيش الحكومة وهربت الملكة إلى فرنسا . وطالب الثوار بتأسيس جمهورية إسبانية اتحادية تعترف بالحكم الذاتي للأندلس وبإلغاء الدين الكاثوليكي كدين الدولة الرسمي . لكن الجيش أعاد السيطرة على البلاد و أرجع الملكة عام 1873 م . وفي سنة 1874 م ، تأسس " الحزب الجمهوري الاتحادي " الذي تبنى سنة 1883 م

" دستور انتقيرة " الذي خطط لإنشاء دولة الحريات الشخصية ، تفصل فيها بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، و أصبح دستور

 

(1/1660)

 

 

انتقيرة أساس المشاريع الاتحادية التي اقترحت فيما بعد .

... تتلخص أهم سمات الحركة الأندلسية في القرن التاسع الميلادي في الانتماء إلى منطقة واحدة ( الأندلس ) و أمة واحدة ( الأندلسية ) ، والمطالبة بحقوقها ، والوقوف في وجه تجاوزات الدولة المركزية الكنيسة الكاثوليكية والإقطاع الزراعي . لكن بقيت أجوبة هامة في نفوس الأندلسيين تنتظر الجواب : هل الأندلسيون يرتبطون فقط بمصالح متصلة بمنطقتهم؟ أم أنهم يكونون قومية تختلف عن كل القوميات الأخرى بخاصيات مميزة ؟ و إن كان الأمر كذلك، فما هي الخاصيات ؟

 

(1/1661)

 

 

... أجاب عن هذه الأسئلة ( بلاس انفانتا بيريز ) الذي يعده الأندلسيون اليوم ، بما فيهم المسلمون ، أب قوميتهم ومفكر انبعاثهم المعاصر .

... ولد بلاس انفانتا في بلدة قشريش ( مقاطعة مالقة ) في 5/ 7 / 1885 م ، ودرس في بلده وفي أرشذونة ( مقاطعة مالقة ) وقبرة ( مقاطعة قرطبة ) ، ثم التحق بجامعة غرناطة حيث تخرج في الحقوق بامتياز سنة 1906 م . وفي سنة 1910 م عين انفانتا عدلا في بلدة قنطنيانة ( مقاطعة إشبيلية ) ، وعين سنة 1913 م عضوا في مجلس المحامين.

 

(1/1662)

 

 

... وظهرت أفكار انفانتا لأول مرة في خطاب ألقاه سنة 1914 م في إشبيلية عن " النظرية الأندلسية " ، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية . وفي نفس السنة ، فتح مكتب محاماة في إشبيلية . وفي سنة 1916 م ، أسس انفانتا أول " مركز أندلسي " في إشبيلية، تبعته مراكز أخرى في مدن الأندلس وقراها ، و أصدر مجلة " الأندلس " كلسان حال المراكز الأندلسية . ومع الأيام ، تحولت تلك المراكز إلى مدارس لأنشطة أندلسية تثقيفية وتخطيطية ، وأخذت تستعمل عبارة " الأمة الأندلسية " لأول مرة . ثم تبلور الفكر الأندلسي في

 

(1/1663)

 

 

اجتماع رندة عام 1918 م في النقطتين التاليتين :

... 1 - الاعتراف بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي على أساس دستور انتقيرة .

... 2 - اختيار العلم الأخضر والأبيض ، علما للأمة الأندلسية ، وهو علم المسلمين الأندلسين التاريخي .

... ثم أسس انفانتا في إشبيلية دار نشر ومكتبة ، نشر فيها عددا من كتبه ، كما أسس مركز الدراسات الأندلسية ، وفي سنة 1920 م ، ظهر كتاب " المعتمد ملك اشبيلية " ، وهي

قصة مسرحية تاريخية عرف فيها انفانتا بجدور الهوية الأندلسية الإسلامية .

 

(1/1664)

 

 

... وفي سنة 1923 م ، تحولت إسبانيا إلى الحكم الدكتاتوري ، فأقفلت الحكومة المراكز الأندلسية واتهمت القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة و أسكنت القوى المعادية للكنيسة . فركز انفانتا في التفكير في مصير الأندلس وجدور الهوية الأندلسية ، فانتقل إلى أغمات بالمغرب حيث ضريح المعتمد ين عباد ، فقرر إشهار إسلامه هناك ، ثم حاول بعد إسلامه ربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية .

... وبعد انهيار الدكتاتورية ، رجع انفانتا للحياة العامة بلغة جديدة ، يمجد فيها التاريخ الإسلامي كأساس للهوية الأندلسية ،

 

(1/1665)

 

 

ويطالب الأندلسيين باستعادة هويتهم ، وإزاحة هيمنة الكنيسة عنهم ، وشارك القوميون الأندلسيون سنة 1930 في مؤتمر " الشعوب التي لا دول لها " بالهند ، ثم التقى انفانتا بالحركات التحررية العربية عبر مجلة " الأمة العربية " في جنيف(سويسرا) التي كان ينشرها الأمير شكيب أرسلان و إحسان المجابري .

... لكن لم يعش بلاس انفانتا ليرى انتصار أفكاره ، إذ بعد أيام من انفجار الحرب الأهلية الإسبانية ، قبض عليه أتباع كتائب الجنرال فرانكو وأعدموه رميا بالرصاص في إشبيلية يوم الاثنين 10/ 8 / 1963 م ، فمات شهيدا ، رحمه

 

(1/1666)

 

 

الله ، وهو يصرخ مرتين : " عاشت الأندلس حرة " .

5 - التنظمات الإسلامية الأولى المعاصرة

... غاب الإسلام ، ظاهرا ، عن أرض الأندلس منذ عام 1609 م وحفظ في القلوب و أصبح التنصير شرطا للإقامة في إسبانيا . وقد خف هذا الوضع بعد الحرب العالمية الثانية وهجرة عدد من أهل منطقة الحماية الإسبانية بشمال المغرب إلى إسبانيا إلى أن وصل عددهم سنة 1971 م حوالي 90.000 نسمة ( 0,3 في المائة من السكان ) ، منهم حوالي 13.000 ممن تجنسوا بالجنسية الإسبانية ، ولم يكن من بينهم سوى أفراد قلاائل من أصول إسبانية أو غير أندلسية

 

(1/1667)

 

 

، وقد

وصل هذا الرقم إلى حوالي 350.000 مسلم سنة 1991 م ( 0,9 في المائة من مجموع السكان )، ومنهم حوالي 80.000 مسلم حاصلين على الجنسية الإسبانية ، معظمهم من أصول مغربية ، وحوالي عشرة آلاف منهم ممن اعتنق الإسلام من أهل البلاد و أولادهم . ومعظم ما تبقى من المغاربة ويأتي بعدهم بأعداد أقل أهمية ، الجزائريون والتونسيون والمشارقة وسكان أفريقيا جنوب الصحراء وباكستان وإيران إلخ .

... ولأول مرة سمح قانون الجمعيات بتاريخ 24/ 12 / 1964 م للجمعيات الدينية غير الكاثوليكية بالوجود . وفي 28 / 6 / 1967 م ، أصدرت

 

(1/1668)

 

 

الحكومة الإسبانية قانونا جديدا يسمح بحرية الأديان ، أصبح معه من الممكن تأسيس جمعيات إسلامية لأول مرة بعد سقوط غرناطة . واستفاد من هذين القانونين الطلبة المسلمون في الجامعات الإسبانية . إذ بعد زيارة أبو الحسن الندوي لإسبانيا سنة 1965 م اقترح على الطلبة تأسيس جمعية اسلامية فأسسوها في غرناطة سنة 1966 وسجلوها رسميا بوزارة العدال الإسبانية سنة 1971 تحت اسم " الجمعية الإسلامية في اسبانيا" . وفي 22 / 4 / 1974 م ، عدل نظامها لتمكينها من بناء المساجد والمراكز الإسلامية عبر إسبانيا ، فكانت هذه أول جمعية

 

(1/1669)

 

 

إسلامية تأسست في الوقت المعاصر في إسبانيا . وقد فتحت بعد ذلك فروعا لها في عدة مدن إسبانية .

... ابتدأت الجمعية نشاطها في شقة متواضعة في غرناطة ، ثم انتقل مقرها الأساس إلى مجريط في شقة كذلك . ثم بنت الجمعية مسجدا ومركزا اسلاميا متكاملا في حي تطوان بمجريط ، وهو أول مسجد بني حديثا في العاصمة الإسبانية . أما مراكز المدن الأخرى فكلها شقق اشتريت وأجرت . ومعظم أعضاء هذه الجمعية طلبة من سوريا وفلسطين ، تخرجوا بعد ذلك ، وتزوج كثير منهم بإسبانيات واستقروا في البلاد وحصلوا على جنسيتها .

 

(1/1670)

 

 

... و إلى سنة 1978 م ظلت هذه الجمعية داخل الجامعات كجمعية طلابية . ثم أخذ معظم الطلاب يتخرجون ويتزوجون ، فأخذت الجمعية تكتسب طابعا لجمعية جالية اسلامية . وتركز دورها الاعلامي في إصدار دورتين بالإسبانية كل شهرين : العروة الوثقى والإسلام . وفي نفس السنة انفصل " المركز الإسلامي بإسبانيا " عن هذه الجمعية وتتكون الجمعية المفصلة كذلك من قدماء الطلاب العرب المشارقة ، ويقع مركزها الأساس في مجريط في شقة بشارع الونسو كانو. وللجمعية فرع في برشلونة ( قطلونية ) والجزر الخالدات وغرناطة واشبيلية ومالقة

 

(1/1671)

 

 

بالأندلس .

... وفي سنة 1990 م ،كلفت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة " المركز الإسلامي بإسبانيا" بإدارة مسجد الملك عبد العزيز بمربلة ( مقاطعة مالقة ) بالأندلس .

وقد ابتدأت فكرة بناء هذا المسجد سنة 1979 بقرار من الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود ، وانتهى من البناء عام 1981 م . ومن أهم أنشطة " المركز الإسلامي في إسبانيا " المحاضرات واللقاءات وتوزيع الكتب الإسلامية و إحياء الشعائر الدينية .

وقد أسس " المركز الإسلامي بإسبانيا " مدرسة ابن رشد في غرناطة التي تم افتتاحها عام 1985 م ب74 تلميذ .

 

(1/1672)

 

 

... وفي 28 / 6 / 1973 م ، قدم عمدة مجريط للهيئات السياسية الإسلامية قطعة أرض مساحتها 1.500 متر مربع بإحدى أحياء مجريط الجديدة لإقامة مسجد جامع عليها. وانتهت المدة المحددة ولم بين على الأرض شيء فاستعادت البلدية الأرض، ثم بعد تعهد السفراء المسلمين ببناء المسجد، قدمت البلدية أرضا أخرى بضواحي مجريط الشرقية مساحتها 30.465 متر مربع. وفعلا تبنت المملكة العربية السعودية مشروع المسجد الذي انتهى بناءه سنة 1990 م تحت إشراف سفارتها. وقد أصبح هذا المسجد أكبر إسلامي في إسبانيا إذ يتسع ل 830 مصل وبه مكاتب

 

(1/1673)

 

 

وقاعة محاضرات ومركز ثقافي ومكتبة. وتدير هذا المركز رابطة العالم الإسلامي.

6- الطريقة الدرقاوية في غرناطة والجماعة الإسلامية في الأندلس

... لم يبدأ الأندلسيون وباقي الإسبان في العودة إلى الإسلام وتكوين الجماعات الإسلامية المنظمة إلا في أواخر السبعينات. وكان الدافع للإسلام اتجاهان : اتجاه صوفي واتجاهه قومي أندلسي.

... أما الاتجاه الصوفي فكانت بدايته في نفس السنة التي توفي فيها فرانكو سنة 1975 م، عندما توجه عدد من شباب بلدة بورتيانو ( مقادعة قلعة رباح) إلى بريطانيا حيث التقوا برجل اسكتلاندي اسمه

 

(1/1674)

 

 

الشيخ عبد القادر، كان قد اعتنق الإسلام في مكناس بالمغرب على يد الشيخ ابن حبيب، شيخ الطريقة الدرقاوية. فأمرهم الشيخ عبد القادر بالتوجه إلى قرطبة سنة 1977 م فانضم إليهم هناك عدد من الراجعين إلى الإسلام. وفي سنة 1979 م، قررت الجماعة الانتقال إلى إشبيلية ، لكنها اصطدمت مع الشرطة لمعارضتها احتفالات " الأسبوع المقدس"، فقررت الاتجاه إلى مقاطعة أولبة ثم إلى غرناطة سنة 1980 م حيث أعلنت أن اسمها "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". وفي 22/9/1980، سجلت الجمعية بوزارة العدل الإسبانية تحت اسم "الجمعية الدينية

 

(1/1675)

 

 

لنشر الإسلام في إسبانيا"، واستأجرت عمارة في الحي القديم من غرناطة، وأقامت فيها مسجدها ومكاتبها ومشاريعها الاقتصادية. و أقامت أول نشاط لها علني بالمدينة عندما أقامت صلاة عيد الفطر بحدائق قصر الحمراء سنة 1400 هـ ( 13/8/1980 )،وحضر هذه الصلاة حوالي 200 مسلم إسباني، رجالا ونساء وأطفالا.

... وأخذت أعداد أفراد الجماعة تتضاعف، فابتدأت ترسل وفودا إلى البلاد العربية، وشرعت في إقامة المشاريع الإسلامية كإقامة مسجد في حي البيازين الذي لم ير النور إلى اليوم، وشراء بيت كبير في نفس الحي، حولته إلى زاوية

 

(1/1676)

 

 

للطريقة الدرقاوية ومركز إسلاميا،وقد بيع مؤخرا. وتكاثر أعضاء الجمعية إلى عدة مئات، وأخذ الطابع الإسلامي يظهر بوضوح في غرناطة، ونظمت الجمعية مؤتمرات إسلامية كما نشرت مجلة إسلامية اسمها "البلاد الإسلامية".

... لكن ما كادت تشتهر هذه الجماعة حتى أخذت تتقهر لأسباب متعددة، منها داخلية ومنها خارجية، الداخلية كطريقة تنظيمها المبنية أساسا على المركزية المطلقة حول الشيخ عبد القادر، والأسلوب الخشن والعنيف في تعامل الجماعة مع الغير، ومطالبة الجماعة المنضمين إليها بالانسحاب من المجتمع الأندلسي الذي تعده

 

(1/1677)

 

 

كافرا، واتهام الجماعة لكل من سواها من المسلمين بالضلال والكفر. والأسباب الخارجية،أدت إلى تبعثر آراء أعضائها حول القومية الأندلسية والتضوف بسبب تأثير مسلمي الخارج، فكثرت الانشقاقات.

... ونتج عن هذه الجمعية الأم عشرات الجمعيات الإسلامية عبر الأندلس، وغير أتباع الشيخ عبد القادر الباقون اسم الجمعية واسم مجلتها باسم جديد هو "المرابطون"، وارتبطت الجماعة

بشكل أوثق بالمراكز التابعة للشيخ عبد القادر في بريطانيا والدانمارك والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلاد. أما في إسبانيا فلهم ثلاث مراكز

 

(1/1678)

 

 

رئيسية : إشبيلية ( الأندلس ) وبالمة ميورقة ( الجزر الشرقية) وبلباو ( اسكادي).

... أما "الجماعة الإسلامية بالأندلس"، فقد انبثقت عن تجربة أندلسية بحتة، وتكونت كنتيجة طبيعية للحركة القومية الأندلسية ذات الجذور الإسلامية. وتعد هذه الجماعة نفسها حركة إسلامية ذات أصالة في أرض الأندلس، وترى في بلاس انفاتنا مؤسسها الأول وأبوها الروحي، ففي سنة 1981 م، أشهر أنطونيو مدينة، أحد الشباب المتشيعيين بالقومية الأندلسية، إسلامه وسمى نفسه عبد الرحمن والتقب "جماعة اشبيلية الإسلامية" المكونة من أفراد من المجموعة

 

(1/1679)

 

 

الأولى، وبعد شهور التحق به العشرات من زملائه. وانشقت هذه المجموعة عن "جماعة اشبيلية الإسلامية" سنة 1982 م، وكونت "الجماعة الإسلامية بالأندلس" وأقامت مركزا جديدا في إشبيلية.

... ثم انطلقت "الجماعة" من اشبيلية، وفتحت مراكزها في غرناطة وشريش ومالقة والمرية وغيرها من المدن. وتنظمت هذه الجماعة على أساس شوري لا مركزي، فلها مجلس أعلى يتكون من ممثلي فروعها في المدن المختلفة، يرأسه منتخب، ونؤخذ كل القرارات بالتشاور.

 

(1/1680)

 

 

... وقامت الجماعة بأول نشاط لها علني سنة 1983 م بتنظيم ثقافي إسلامي أندلسي على مستوى رفيع في اشبيلية تخليدا لذكرى المعتمد بن عباد. فكان حفلا رائعا حضره آلاف من أهل اشبيلية وجارتها طريانة. ثم نظمت الجماعة في نفسها السنة أسبوعا ثقافيا مع جامعة مالقة. وفي سنة 1984 م، أقامت الجماعة حفلا معاكسا في غرناطة لذلك الذي تقوم به الكنيسة والدولة احتفالا بسقوط المدينة من يد المسلمين. وكان لمظاهرة المسلمين المعاكسة صدى كبيرا في الصحافة. وقد حضره عدة آلاف من أهل غرناطة. ثم عقدت الجماعة مؤتمرها العام في ضواحي

 

(1/1681)

 

 

غرناطة لتدشين انطلاقة جديدة. وفي سنة 1985 م، نظمت الجماعة المؤتمر الدولي الأول للمسلمين الأوروبيين في اشبيلية بهدف توحيد جهود الدعوة إلى الإسلام من طرف أهل البلاد في أوروبا.

 

... وفي سنة 1986 م اشترت الجماعة بيتا في قرطبة وحولته إلى مركز إسلامي وقررت أن تكون قرطبة مركزه، ومنذ سنة 1988 م، أخذت الجماعة تهتم بالشتات الأندلسي فأقامت مؤتمرا عاليا له في بلدة قسطلة، بمنطقة جبل طارق، كان له صدى كبيرا في إسبانيا.

 

(1/1682)

 

 

... وأهم إنجاز للجماعة تأسييها سنة 1994 م ل "جامعة ابن رشد الإسلامية" بمدينة قرطبة وأول مسجد حديث بالمدينة. وقد ابتدأت هذه الجامعة بإعطاء دروسها سنة 1995 - 1996 م. والجامعة كانت ضرورية لأن الأعداد الهائلة التي تنضم إلى الجماعة وتعتنق الإسلام تحتاج إلى توعية إسلامية. وقد أرسلت الجماعة العشرات من أفرادها إلى جامعات البلاد الإسلامية، ولكن النتيجة كانت أقل من المرغوب فيه. لذا تقرر فتح جامعة إسلامية في الأندلس كمؤسسة إسلامية لنشر الدعوة بين أهل الأندلس.

7- المنظمات الإسلامية بالأندلس :

 

(1/1683)

 

 

... تتكون منطقة الأندلس من ثمان مقاطعات، وهي من الغرب إلى الشرق، أولبة واشبيلية وقادس وقرطبة وجيان ومالقة وغرناطة والمرية. ولم يفتح في هذا المنطقة مركز إسلامي إلا سنة 1974 م، على يد المسلمين في مدينة غرناطة. ومنذ ذلك الحين تكاثرت المراكز الإسلامية والمساجد إلى أن وصلت إلى 38 في أوائل سنة 1996 م حسب الجدول رقم 2 . وهي في تزايد مستمر.

الجدول رقم 2 : المساجد والمراكز الإسلامية في الأندلس سنة 1996

المقاطعة

الأندلسية

المغربية

الأخرى

المجموع

 

أولبة

اشبيلية

قادس

قرطبة

جبان

مالقة

غرناطة

المرية

1

3

1

4

 

(1/1684)

 

 

-

2

9

2

1

1

2

-

-

1

-

5

-

1

-

-

1

2

1

1

2

5

3

4

1

5

10

8

 

المجموع

22

10

6

38

 

ومن بين هذه المراكز، 22 مركزا لهم في اشبيلية. وكل هؤلاء من الراجعين إلى الإسلام من بين المسلمين، و 10 مراكز أسسها المغاربة المقيمون في الأندلس و 6 أسسها غيرهم من المسلمين القاطنين في الأندلس.

... ففي مقاطعة أولبة يوجد مصلى في عاصمتها أسسه المغاربة في سنة 1992 م. وفي نفس السنة قررت بلدية قرية المنستير تحويل مسجد قلعتها العتيق إلى العبادة الإسلامية، واستدعت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" لتدشينه. وقد تكونت جماعة إسلامية

 

(1/1685)

 

 

في تلك البلدة الجبلية حول ذلك المسجد.

... أما في مقاطعة فكل مراكزها الإسلامية موجودة في العاصمة. فأول جمعية إسلامية تكونت في اشبيلية هي "جماعة اشبيلية الإسلامية" سنة 1981 م، وله مستأجر. كما فتحت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" مركزها سنة 1983 م. ثم بعد سنين أسس المرابطون مركزا لهم في اشبيلة. وكل هؤلاء من الراجعين إلى الإسلام.

ومن جهة أخرى فتح المغاربة في أوائل التسعينيات مركزا إسلاميا لهم ثم فتح المسلمون العرب الشرقيون مركزا آخر. فيكون مجموع المراكز الإسلامية في مدينة اشبيلية خمسة، وكلها بيوت

 

(1/1686)

 

 

وشقق مستأجرة.

... أما في مقاطعة قادس، فقد فتحت "الجماعة الإسلامية بالأندلس" مركزا لها في مدينة شريش سنة 1985 م، واشترت بيتا سنة 1990 م وحولته إلى مسجد. كما قام المغاربة سنة 1992 م، باستئجار محل حولوه إلى مركز إسلامي في نفس المدينة، وقام المغاربة بفتح مصلى سنة 1990 في مدينة الجزيرة الخضراء، فيكون عدد المراكز الإسلامية في مقاطعة قادس ثلاثة.

... أما في مقاطعة قرطبة، فلقد اشترت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" بيتا سنة 1986 م وحولته إلى مسجد ومركز إسلامي. وفي سنة 1994 م بنت الجمعية أول مسجد في==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...