Translate

الأربعاء، 22 مارس 2023

ج10. مجلة التاريخ العربي

ج10. مجلة التاريخ العربي

حدث في مطلع العصور الحديثة، عقب اكتشاف البرتغاليين للطريق البحري المباشر الواصل بين غرب أوربا والمحيط الهندي خارج نطاق الطريق البحري القديم. وكان لهذا التحول أبلغ الأثر في النشاط الاقتصادي والحركة التجارية في مدينتي الإسكندرية والبندقية، وخاصة في سنة 923 هـ/ 1517 م عندما انتقلت السلطة في مصر من أيدي المماليك إلى أيدي الأتراك العثمانيين، الذين وقع على عاقتهم إيجاد الحلول الممكنة لمواجهة هذا الموقف الصعب الذي كانت تعاني منه الإسكندرية ومصر كلها بوجه خاص، بل والمشرق العربي كله بوجه عام. وكان حجم

(1/7709)

تلك التجارة العابرة كبيراً، وسلعها متعددة متنوعة، وعائداتها كثيرة مجزية، والعاملون عليها أعداداً كبيرة في مختلف المجالات، ومن مختلف العناصر والأجناس، مما يظهر مدى أهميتها لشعوب كثيرة في مقدمتها سكان مدينتي الإسكندرية والبندقية، باعتبارهما محطتين هامتين لهذه التجارة، ومركزين أساسيين في استقبالها وتسويقها.

... والإسكندرية كما هو معروف ـ من أعرق مدن العالم وأقدمها. ولم يكن القرار الذي اتخذه الإسكندر الأكبر في عام 331 ق. م. ببناء هذه المدينة عند موقع « راقودة" في الشمال الغربي لدلتا وادي النيل

(1/7710)

العظيم وعلى ساحل مصر الشمالي الغربي المطل على البحر الموسط، نابعاً من فكرة مثالية استهوت الإسكندر عند رؤيته لهذا الموقع الفريد فقط، بل كان فكرة امتزجت فيها المثالية بالنفعية في آن واحد. فقد كان هذا القائد الفاتح يبحث عن عاصمة لمملكته المصرية الجديدة، تكون على اتصال بمقدونيا. ولهذا ينبغي أن تكون هذه العاصمة في مدينة ساحلية تطل على البحر المتوسط الذي يربط مصر بأوربا، وتختص بموقع جميل وجو مثالي تتوافر فيه المياه العذبة والمحاجر الجيرية، فضلاً عن مدخل سهل إلى النيل. واكتسبت الإسكندرية شهرتها من

(1/7711)

جامعتها العريقة ومكتبتها التي تعتبر أول معهد أبحاث حقيقي التاريخ بحيث أصبحت هذه المدينة قبلة الباحثين(1). وظلت الإسكندرية قرابة ألف عام، أي منذ إنشائها حتى الفتح العربي، عاصمة لمصر، إلى أن اتخذ العرب من مدينة الفسطاط عاصمة للبلاد. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي للإسكندرية دورها الحضاري المؤثر، ليس في تاريخ مصر العام فقط، بل في تاريخ حوض البحر المتوسط بأكمله. وساعدها حينذاك موقعها المتميز على

__________

(1) ... Mostafa El-Abbadi, The Life and Fate of the Ancient Library of Alexxandria (UNESCO, 1990), p. 8.

(1/7712)

أداة هذا الدور؛ كما مكنتها إمكاناتها الاقتصادية من مواصلة القيام بدورها بكفاءة واقتدار، طوال العصور الوسطى وحتى مطلع العصور الحديثة.

... أما مدينة البندقية، فقد تأسست في القرن الخامس الميلادي على شواطئ الأدرياتي الشمالية، وأسسها بعض سكان أوربا الفارين من غارات الهون أثناء اكتساحهم لوسط القارة الأوربية وشمال شرقي إيطاليا. وأصبحت مدينة البندقية في القرن الحادي عشر الميلادي تتكون من سبع عشرة ومئة جزيرة تربط بعضها ببعض الجسور والقناطر، وأصبح لها أسطول تجاري وحربي ضخم؛ وكما اهتمت جنوة بتجارة غربي

(1/7713)

البحر المتوسط، كذلك اهتمت البندقية بالتجارة الشرقية، تشاركها في هذا جنوة وبيزا. وكان للبندقية مدرستها الفنية الممتازة في الرسم والتصوير الخاصة بها.

... وبدت جمهورية البندقية منذ القرن الحادي عشر الميلادي جمهورية أرستقراطية تركزت السلطة والحكومة فيها في يد فئة من السكان حرصت على المحافظة على حقوقها، حيث تميزت البنية السكانية بنمو الطبقة الوسطى البرجوازية على عكس ما كانت عليه البنية السكانية في معظم أوربا التي خضعت للنمط الإقطاعي، بل إن هذه المدينة احتفظت بدستورها الجمهوري قرابة سبعمائة عام من

(1/7714)

العصور الوسطى، واستطاعت البندقية أثناءها، وهي "ملكة الإدرياتي" كما كان يطلق عليها، أن تشيد عظمتها وقوتها المادية والاقتصادية على التجارة، وتمتعت بنفوذ عظيم في حوض البحر المتوسط، ولها محطاتها التجارية منبثة على شواطئه، وكانت لها علاقات تجارية ومالية قوية بوسط أوربا حيث تقوم بتسويق تجارتها في هذا النطاق، كما توطد فيها نظام البنوك، وكانت لها علاقاتها المتينة مع مصر وشرقي البحر المتوسط ومع العالم الإسلامي تركزت على تجارة الشرقين الأقصى والأدنى، وكانت مركز اتصال حضاري بعيد المدى بين الشرق الإسلامي

(1/7715)

والغرب المسيحي الأوربي.

... وكان دستور جمهورية البندقية فريداً في نوعه، حيث »كانت جمهورية البندقية مثلاً لسلطان الجمهورية الرومانية وعظمتها«، واستطاع دستور هذه المدينة أن يحافظ على سلامها وأمنها الداخلي وأن يرفع ذكرها في العالم. فهو دستور استطاع في ظله كل فرد أن يؤدي عمله بنجاح، وهو دستور نُظمت فيه السلطات، وكانت فيه كل هيئة أو سلطة رقيبة قوية على الأخرى. ويتكون دستور البندقية من مجلس كبير (480 عضو) من الأشراف، وينتخب أعضاؤه لمدة عام واحد، وهذا المجلس هو حاكم البلاد الفعلي، وبيده السلطة

(1/7716)

التشريعية، وله حق مناقشة أمور الدولة والبلاد؛ كما له الحق في اختيار رجالات الدولة جميعهم من رئيس الدولة وهو "الدُّوج" (Doge) إلى أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس العشرة والموظفين المدنيين. وبعد إنشاء المجلس الكبير، أنشئ مجلس صغير ومحكمة الأربعين؛ كما أنشئت هيئة سياسية هدفها تحديد سلطة الحاكم، ووضع أساس مجلس الشيوخ البندقي الذي أخذ شكله النهائي في القرن الثالث عشر وأصبح عدد أعضائه حوالي ثلاثمائة شخص. ومجلس الشيوخ هو أساس الاطمئنان والاستقرار في جمهورية البندقية، فهو يتولى أمور الإشراف على الإدارة

(1/7717)

والضرائب والأمور المالية بصفة عامة؛ كما له حق توجيه السياسة الخارجية. وأما "الدوج"، فهو رئيس الجمهورية ورمز الدولة؛ وهو يرأس جميع المجالس. وقد عاشت جمهورية البندقية ما يزيد على سبعمائة عام، ولم يزعزع قوتها إلاَّ تحول طريق التجارة العالمية عنها وعن حوض البحر المتوسط إلى طريق رأس الرجاء الصالح عبر المحيط الأطلنطي في نهاية القرن الخامس عشر على أيدي البرتغاليين(1).

__________

(1) ... محمد مصطفى صفوت، الجمهورية الحديثة، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1958، صص. 4 ـ 5.

(1/7718)

... وكانت التجارة العالمية الآتية من بلاد الشرق إلى أسواق أوربا طوال العصور القديمة والوسطى تظفر برواج واسع وتحقق أرباحاً خيالية للمشتغلين بها منذ شحنها في موانئ التصدير الآسيوية والأفريقية المطلة على المحيط الهندي. وكانت هذه التجارة تعبر مصر والشام لتصل إلى عالم البحر المتوسط حيث تستقبلها الموانئ الأوربية التي تقوم بتوزيعها في أسواق أوربا. وكانت مدينتا الإسكندرية والبندقية بحكم موقعهما المتميز تشكلان محطتين هامتين على هذا الطريق. وكانت هذه السلع متعددة ومتنوعة، ويتشكل قوامها من البخور والعطور

(1/7719)

والتوابل(1) التي عُرفت تجارتها باسم تجارة الكارم(2)، والعقاقير، والبن، والأقمشة الحريرية، والسَّجاد، والعاج، والأحجار الكريمة، والأخشاب النادرة التي يصنع منها أرقى أنواع الأثاث الفاخر والتحف الثمينة. فالتوابل كان في مقدمتها القرفة والزنجبيل والفلفل وجوز الطيب، واستخدمت في إعداد ألوان الطعام وحفظ

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، طرق التجارة ومحطاتها بين الشرق والغرب (أواخر العصور الوسكطى)، صز 192.

(2) ... توفيق إسكندر، بحوث في التاريخ الاقتصادي (مترجم)، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، 1961، ص. 140.

(1/7720)

اللحوم، وأصبح علية القوم من الأوربيين لا يُقبلون على طعام لم يمزج بالتوابل الشرقية(1)؛ كما أقبلت النساء الأوربيات على المسك والعنبر وماء الورد وأنواع العطور والبخور والمنسوجات الحريرية الراقية، وكانت تشاركهم في ذلك أيضاً الكنائس في أوربا. أما العقاقير المتعددة الأنواع مثل الأفيون والكافور والصمغ وغيرها، فكان الأوربيون يستخدمونها في إعداد الدواء ويكتبون عليها ما يدل على استيرادها من بلاد الهند أو بلاد العرب تأكيداً لجودتها(2)

__________

(1) ... Sonia Howe, In Quest of Spices, pp. 13-14.

(2) ... عبد العزيز محمد الشناوي، أوربا في مطلع العصور الحديثة، ج 1، ص. 160.

(1/7721)

.

... وكان البن من أهم السلع الشرقية التي انفردت بلاد اليمن في العصور الوسطى بإنتاجه، وأقبل عليه الأوربيون إقبالاً متزايداً، حتى كان هذا المحصول في القرون التالية موضع تنافس حاد بين الشركات الاحتكارية الأوربية الهولندية (1594) والإنجليزية (1600) والفرنسية (1664)، وبين شركة الهند الشرقية الإنجليزية بوجه خاص وطلائع التجار الأمريكيين الذين حاولوا احتكاره في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مما جعل بريطانيا تعمل على كسر احتكار الأمريكيين لهذه التجارة وتحويلها من ميناء مخا اليمني إلى ميناء عدن الذي

(1/7722)

قامت باحتلاله في 19 يناير 1839(1).

... أما تجارة الأقمشة الحريرية، فقد عُرفت في ديار الشام ومصر منذ القرن الأول قبل الميلاد حيث كان الرومان يحتلون تلك البلاد. وكان الحرير هو المادة الرئيسة في التجارة بين العالم الروماني والصين، إذ كان

__________

(1) ... فاروق عثمان أباظة، "التنافس الدولي في جنوب البحر الأحمر في النصف الأول من القرن التاسع عشر"، ندوة "البحر الأحمر في التاريخ والسياسة الدولية المعاصرة" التي أقامها سمنار الدراسات العليا للتاريخ الحديث بكلية الآداب بجامعة عين شمس، 10 ـ 15 مارس 1979، ص. 377.

(1/7723)

الحرير يشكل تسعة أعشار ما يستورده الرومان منها، وكان يصل إلى موانئ صور وصيدا وأنطاكيا والإسكندرية. وفي الموانئ الفينيقية كان يعالج بالأصباغ المختلفة، وأشهرها الأرجوان، حتى يُصبح لباس الأباطرة؛ وفيما بعد أصبح لباس كبار رجال الكنيسة في العصور الوسطى. وكان الحجاج البنادقة والجنويُّون وغيرهم يعودون من الأراضي المقدسة في فلسطين حاملين معهم النسائج الحريرية التي كان الطلب يتكاثر عليها من قبل مراكب البندقية حيث ينشط طلبها من الشرق نشاطاً ملحوظاً(1)

__________

(1) ... نقولا زيادة، "الطرق التجارية في العصور الوسطى"، مقال نشر بمجلة تاريخ العرب والعالم، بيروت، السنة السادسة، العددان 71، 72، أكتوبر 1984، صص. 38 ـ 40.

(1/7724)

.

... وكانت التجارة العالمية بين الشرق والغرب في العصور الوسطى تسلك عدة طرق برية وبحرية من مصادرها الأصلية في بلاد الشرق التي يُطل معظمها على المحيط الهندي حتى تصل إلى الأسواق الأوربية. وكان الحجم الأكبر من هذه التجارة يسير في طرقين، أولهما: طريق البحر الأحمر إلى السويس ثم إلى القاهرة بالقوافل، ومنها على ظهر السفن في فرع رشيد إلى قرب مدينة الرحمانية، ومن هناك إلى الإسكندرية إما بالملاحة في ترعة كانت تصل ما بين النيل والإسكندرية أو على ظهر الدواب(1)؛

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، ص. 24.

(1/7725)

وثانيهما: طريق الخليج العربي ونهر الفرات، ثم إلى حلب ومنها إلى الموانئ الواقعة شرقي البحر المتوسط. وإلى موانئ مصر والشام كانت تأتي سفن البنادقة والجنويِّين وغيرهم فتنقل سلع التجارة إلى أوربا. ولما كان سلاطين المماليك يحكمون مصر والشام في نهاية العصور الوسطى حتى مطلع القرن السادس عشر، فقد كان الطريقان في قبضتهم، وبذلك جنوا فوائد مادية عظيمة من الضرائب الكثيرة التي كانوا يفرضونها على هذه التجارة عند مرورها بالأراضي المصرية والشامية، فضلاً عن احتكارهم لكثير من سلعها المختلفة(1)

__________

(1) ... A. T. Wilson, The Persian Gulf, pp. 10-13.

(1/7726)

.

... ومنذ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي بدأ ملوك أرغونة يحرصون على إقامة علاقات ودية قوية مع سلاطين المماليك في مصر والشام من أجل رعاية شؤون كاثوليكيّي الشرق وفتح أسواق جديدة لأرغونة في مصر. وقد أثبتت المصالح التجارية والاقتصادية تفوقها على المصالح الدينية في علاقات الأوربيين بالمماليك ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي، بحيث كان لكل من البندقية وجنوه وأرغونة تجارة نامية مع مصر. وساعدتهم علاقاتهم الطيبة بالمماليك على التدخل لصالح المسيحيين الكاثوليك المقيمين في أراضي الدولة المملوكية

(1/7727)

آنذاك(1).

... وكانت مدينة الإسكندرية تحظى بأهمية بالغة على طريق التجارة الدولية عبر مصر وعالم البحر المتوسط في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. فقد كانت بحكم موقعها على هذا البحر تفوق القاهرة في اتصالها بأوربا مباشرة. وكانت المدينة تزدحم طوال العام بالأجانب الوافدين إليها للتجارة أو للعبور للحج للأماكن المقدسة في سيناء وفلسطين(2). وكان لدول أوربا وعالم

__________

(1) ... قاسم عبده قاسم، أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، صص. 97 ـ 98.

(2) ... محمد بن أحمد ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج 2، ص. 347.

(1/7728)

البحر المتوسط بصفة خاصة قناصل وسفراء ووكالات وأحياء كاملة وفنادق بالإسكندرية يمارسون فيها حياتهم الخاصة في حرية، وكان السلاطين المماليك قد سمحوا للحجاج العابرين بدخول الفنادق منذ أواخر القرن الرابع عشر الميلادي بعد دفع رسم سنوي للسلطان. ومن أشهر الفنادق التي كانت تقوم بهذا النوع من الخدمات فندق أهالي مدينة ناربون، وفندق البنادقة، وفندق القطالونيين(1). وكانت الإسكندرية قد خَلَفَتْ مدينة دمياط كميناء مصر الأول على

__________

(1) ... W. Heyd, Histoire du Commerce du Levant au Moyen Age, T. 2, pp. 434-435.

(1/7729)

البحر المتوسط منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر بعد أن هدم المماليك جزءاً من الميناء وردموا فم بحر دمياط حتى يأمنوا أي غزو أوربي منه. لذا لم يعد في استطاعة السفن الأوربية الكبيرة الوصول إليها، وأصبحت ترسو بالبحر قريباً من مصب فرع دمياط وتستخدم القوارب النيلية بينها وبين الميناء(1).

... ولهذا شهدت مدينة الإسكندرية نشاطاً تجارياً ملحوظاً من النصف الثاني من القرن الخامس عشر وخاصة بعد عام 1453 حتى أن إيرادات الحكومة المملوكية كان معظمها من جمرك

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، ص. 129.

(1/7730)

الإسكندرية التي كانت تتراوح يوميّاً ما بين ألف وألفي دينار عدا رسوم السفن والسياح والحجاج. ولا تقل المدينة اتساعاً وأهمية عن أكبر مدن البحر المتوسط التجارية مثل البندقية وجنوه ومرسيليا، ولها عدة أبواب يُفتح أحدُها إلى الميناء حيث يوجد به مرسى البرج للسفن الوافدة من أوربا، ومرسى السلسلة للسفن الوافدة من شمال إفريقيا، وتقِلُّ فيه رسوم الجمارك عن المرسى الأول. وإلى الشرق من ميناء الإسكندرية يقع ميناء "أبو قير" عند بحيرة تعرف باسم "رأس المعدية". ويتصل الميناء بقناة تصل إلى البحيرة ويبعد ميناء " أبو

(1/7731)

قير" حوالي ثمانية أميال شرقي الإسكندرية ويعد مرفأ للسفن السورية القادمة للإسكندرية وتدخله السفن الصغيرة. أما السفن الكبيرة، فتتصل به من البحر بواسطة القوارب(1).

... وكانت الإسكندرية ترتبط في نشاطها البحري بحركة الملاحة في الموانئ الأخرى سواء بالبحر المتوسط أو البحر الأحمر، خصوصاً ما كان منها يشكل المحط الرئيس للحجاج المسيحيين الوافدين لمصر كميناء الطور في خليج السويس الذي كان المحط الرئيس للحجاج المسيحيين الوافدين لمصر من دير سانت كاترين

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع نفسه، صص. 130 ـ 131.

(1/7732)

بسيناء، وللحجاج المسلمين المتوجهين إلى الحرمين الشريفين بالحجاز أو العائدين منهما. إذ كان الحجاج المسيحيون يهتمون خاصة بمواعيد وصول سفن التجار إلى الطور، نظراً لأن البندقية كانت تضع توقيتاً لسفنها التجارية بالإسكندرية يتفق مع حساب فرق الوقت والتوزيع عن الطور للقاهرة ثم للإسكندرية، وحتى يستطيع الحجاج المسيحيون القاصدون أوربا اللحاق بقوافل التجارة إلى القاهرة والرحيل إلى أوربا على سفن البندقية التي تنتظر المتاجر في الإسكندرية(1)

__________

(1) ... J. Hammer, Histoire de l’Empire Ottomane, T. 5, pp. 301-302.

(1/7733)

.

... وتجدر الإشارة إلى أن مدينة الإسكندرية كانت للمغاربة محطة أساسية لهم(1) حيث كانت تقع على طريق الحج والتجارة. ولهذا أنشأوا واستأجروا بها الوكالات والمخازن لتخزين السلع التي يجلبونها من الهند والشرق الأقصى، وموانئ شبه الجزيرة العربية، والموانئ الواقعة في الجانب الشرقي من البحر المتوسط. كما كَوَّن المغاربة تنظيماتهم الاجتماعية في الإسكندرية وأخذوا يؤدون دورهم في بيئتها الحضارية في العصور الوسطى(2)

__________

(1) ... عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، المغاربة في مصر في العصر العثماني، ص. 58.

(2) ... سعد زغلول عبد الحميد، الأثر المغربي والأندلسي في المجتمع السكندري في العصور الإسلامية الوسطى، ص. 207.

(1/7734)

والحديثة. وينطق اهتمام المغاربة بالإسكندرية على موانئ مصر الأخرى الواقعة على البحر المتوسط مثل رشيد ودمياط، أو تلك الواقعة على البحر الأحمر مثل السويس والقصير. بل إنهم ربطوا هذه الموانئ عن طريق عمليات الاستيراد والتصدير بالموانئ التجارية العربية الأخرى والموانئ الأوربية التي كان لهم فيها وكالات تجارية، كما كان لهم وكلاء يقيمون بهذه الموانئ(1).

__________

(1) ... عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، المغاربة في مصر في العصر العثماني، ص. 58.

(1/7735)

... وتجدر الإشارة كذلك إلى الجاليات الأجنبية الأخرى التي كان لها نشاط تجاريّ ملحوظٌ في الموانئ المصرية المطلة على البحر المتوسط والتي لقيت عناية كبيرة من قبل المماليك في نهاية العصور الوسطى والعثمانيين في العصور الحديثة وخاصة مدينة الإسكندرية. فقد أنشأت السلطات المملوكية على نفقتها فنادق خصصتها للتجار الأجانب. وكانت الإسكندرية تضم عدة فنادق لجاليات أجنبية مختلفة، أولاها وأهمها جالية البنادقة، ولهم فندقان، على حين فندق واحد لكل من أهل جنوه، وبيزا، وفلورنسا، وانكونا، وبالرمو. وكان لأهل نابلي فندق

(1/7736)

بالاشتراك مع آخرين من الإيطاليين. أما الفرنجة، فكان لهم فنادق خاصة بهم، ولا سيما أهل مرسيليا وناربون وقطالونيه وراجوزة. وبالرغم من أن جزيرة كانديا كانت إحدى مستعمرات البندقية، فإنه وجد لها فندق خاص. وكان لمملكة قبرص قبل غزوة بطرس لوزينان، وليونان الإسكندرية فندق، وللأتراك فندق، وكذلك فندق لكل من المغاربة، والتتار. والمعروف أن التتار بصفة خاصة كانوا يجلبون الرقيق للمتاجرة فيهم. ولذا كان فندقهم عبارة عن سوق للرقيق(1)

__________

(1) ... إبراهيم علي طرخان، مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة 1382 ـ 1517، صص. 283 ـ 284.

(1/7737)

.

... وحرصت السلطات المملوكية كذلك على رعاية الشؤون الروحية للجاليات الأجنبية، فسمح لهذه الجاليات ببناء الكنائس في نطاق الفنادق المشار إليها، فكان لكل فندق كنيسة، ولكل جالية قساوستها، بينما كان للجاليات الكبرى كنائس كبرى مثل كنيسة القديس نيقولا لأهل بيزا، وكنيسة القديسة مارياك للجنويِّين، وكنيسة القديس مشيل للبنادقة(1). وقد ظل هذا الحال على ما هو عليه في عهد العثمانيين في العصور الحديثة.

__________

(1) ... W. Heyd, op. cit., p. 433.

(1/7738)

... وكانت سفن البنادقة والجنويين تنقل المتاجر من مصر والشام إلى أوربا في العصور الوسطى، وكانت سفن البنادقة بصفة خاصة تحمل الجزء الأكبر من تجارة الشرق إلى ميناء البندقية(1)، حيث تعرض في سوق ريالتو (Rialto) هناك، لتباع في المزاد العلني للتجار الألمان والإنجليز وغيرهم. وكان سوق "ريالتو" الكبير في البندقية من أشهر الأسواق التجارية في حوض البحر المتوسط، حيث كانت المتاجر الشرقية توضع في عربات وتزحف بها من هذا السوق متجهة إلى أنحاء أوربا عن طريق سهل

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، ص. 50.

(1/7739)

لومبارديا وممرات جبال الألب، وطريق الراين، لتصل أخيراً إلى تجار التجزئة في شتى البلاد الأوربية ليتلقفها المستهلكون هناك(1). واستطاعت جمهورية البندقية أن توطد علاقتها بسلاطين المماليك ـ الذين كانوا يحكمون مصر والشام والحجاز ـ وأن تحتكر معظم المتاجر الشرقية الواردة إلى مصر عن طريق البحر الأحمر أو الواردة إلى موانئ الشام عن طريق الخليج العربي والعراق(2)

__________

(1) ... عبد العزيز الشناوي، أوربا في مطلع العصور الحديثة، ج 1، ط. 2، ص. 107.

(2) ... محمد رفعت، تاريخ حوض البحر المتوسط وتياراته السياسية، صص. 60.

(1/7740)

.

... وقد أنشأت جمهورية البندقية ستة أساطيل بحرية من طراز واحد كانت تمخر عباب البحر المتوسط في نهاية القرن الخامس عشر، وعينت لكل منها الموانئ التي يتردد عليها. واستهدفت من توحيد طراز سفنها أن يكون في استطاعة قناصلها ووكلائها في موانئ البحر المتوسط إمداد السفن بما تحتاج إليه من قطع غيار ذات طراز واحد. وجنت البندقية أرباحاً خيالية من نقل التجارة الشرقية إلى أوربا ومن تصريفها هناك. وأصبح الالتحاق بالبحرية مطمحاً ترنو إليه أنظار الشباب أهل البندقية الذين رأوا في البحرية المجال الطبيعي للمال والشهرة

(1/7741)

والمجد.

... ولقيت البندقية منافسة شديدة من جمهورية جنوه في ميادين التجارة الشرقية، وتطورت هذه المنافسة التجارية إلى صراع سياسي حاد أدى فيه البحر المتوسط دوراً حاسماً. وتراءت لهاتين الجمهوريتين الضرورة السياسية في إخضاع البحر المتوسط أو على الأقل الجزء الهام منه لنشاطهما ـ لسيطرة أي منهما. وكانت نتيجة ذلك أن طالبت البندقية بتقرير سيادتها على البحر الأدرياتيكي، كما ادعت جنوه حقَّ السيادة على بحر ليجوريا. وقد قبلت أوربا ادعاءات هاتين الجمهوريتين لحاجتها الملحَّة إلى التجارة الشرقية، وبخاصة التوابل

(1/7742)

والعطور والعقاقير، وبذلك ظهرت في تاريخ العلاقات السياسية الدولية لأول مرة فكرة سيادة الدولة على البحار(1). ولم يقف التنافس السياسي بين البندقية وجنوه عند هذا الحد، بل قام بينهما صراع حربي بالغ العنف انتهى بهزيمة أهالي جنوه في معركة "كيوجا" (Chioggia). وعلى أثرها عقد صلح "تورينو" سنة 1381 م. ولكن جنوه أخذت تفكر في وسيلة أخرى لحرمان البندقية من مصادر قوتها وثروتها، وذلك بإيجاد طريق بحري متصل تأتي منه السلع الشرقية إلى أوربا(2)

__________

(1) ... حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، صص. 567 ـ 568.

(2) ... عبد العزيز محمد الشناوي، أوربا في مطلع العصور الحديثة، ح 1، ص. 109.

(1/7743)

. وهو ما سيفسر التقارب الذي تم بينهم وبين البرتغاليين في مطلع العصور الحديثة.

... وتجدر الإشارة كذلك إلى دور فلورنسا في النشاط التجاري مع مصر والشام، خاصة وأن أسرة "ميدتشي" الحاكمة في فلورنسا في نهاية العصور الوسطى عملت على توثيق صلاتها التجارية مع السلطات المملوكية(1). أما أهالي فرنسا وإسبانيا، فقد كانوا

__________

(1) ... نعيم فهمي، المرجع السابق، أشار إلى الامتيازات التجارية التي منحتها السلطنة المملوكية لطائفة الفرنتيين (أهالي فلورنسا) في مصر والشام في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، صص. 439 ـ 381).

(1/7744)

يحصلون على حاجتهم من المتاجر الشرقية من أسواق مصر وشرق البحر المتوسط عن طريق الوسطاء البنادقة والجنويّين(1).

... ونظراً لاشتغال البنادقة بالحجم الأكبر من التجارة الشرقية سواء من ناحيتي النقل أو التسويق، فقد شكلوا أكبر جالية في مدينة الإسكندرية في نهاية العصور الوسطى؛ كما كان لهم حي خاص. وكان يشرف على مصالحهم قنصل تعيِّنُه جمهورية البندقية. وكان حي البنادقة بالإسكندرية يضم فندقين وحمَّاماً ومخبزاً وكنيسة، كما كانت حكومة المماليك قد أعفتهم من عدة

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، ص. 20.

(1/7745)

ضرائب وسمحت لهم بالتجارة في اللآلئ والأحجار الكريمة والفراء. ولهذا لم يتردد البنادقة في جلب كل ما تحتاج إليه مصر من السلع الخارجية، حتى الأدوات الحربية التي حرمت البابوية التجارة فيها، كالأسلحة والحديد والأخشاب والرقيق والكبريت والقار، وكذلك بعض المواد الغذائية كالحبوب والزيت، وذلك بالرغم من تشدد البابوات وتكليفهم فرسان الإسبتارية والداوية بمراقبة البحار ومنع وصول هذه المواد إلى المسلمين(1). وقد زادت نسبة اهتمام

__________

(1) ... سعيد عبد الفتاح عاشور، العصر المماليكي في مصر والشام، صص. 294 ـ 295.

(1/7746)

البنادقة بالتجارة الشرقية بعد فتح الأتراك العثمانيين لمدينة القسطنطينية عام 1453 م حين أضحت التجارة في البلقان وموانئ البحر الأسود صعبة ومحفوفة بالمخاطر. ولذلك وجه البنادقة عنايتهم إلى حوض البحر المتوسط الشرقي، ونشطت أعمالهم التجارية في موانيه ومدنه كالإسكندرية وبيروت وحلب ودمشق(1). وكانت قوافل البندقية التجارية

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق. وقد أشار إلى الاتفاقيات التي عقدها البنادقة مع السلطات المملوكية في نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين، صص. 373 ـ 480.

(1/7747)

البحرية تصل إلى مصر مرتين في كل عام في الخريف والشتاء. وكانت القافلة تتكون في العادة ما بين ثمان سفن وثلاث عشرة سفينة، وتقدر حمولتها بمليوني بندقي على أقل تقدير. ولهذا تمتع البنادقة بالمكانة الأولى بين الجاليات الأوربية في الإسكندرية طوال العصر المملوكي في نهاية العصور الوسطى وأثناء العهد العثماني في مطلع العصور الحديثة(1).

... وتجدر الإشارة إلى أن العملة الأجنبية كانت متداولة في أسواق الإسكندرية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية

__________

(1) ... شارل ديل، البندقية جمهوية أرستقراطية، صص. 141 ـ 142.

(1/7748)

القرن السادس عشر. ومن أمثلة هذه العملة عملة البندقية التي تعرف باسم "دوكات" (Ducat) نسبة إلى "الدوج" (Doge). وكانت العملة الخاصة ببلاد الفرنجة في فرنسا وإيطاليا والأراضي المنخفضة المسماة الأفرنتية (جمع أفرنتي)، وهي التي تعرف بالفلورين (Florino)، وإن عرفت العملة الأجنبية بوجه عام باسم "مشخصة"، وذلك بسبب صور القديسين وملوك الفرنجة المنقوشة على وجهيها(1).

__________

(1) ... عبد المنعم ماجد، عصر السيوطي، ص. 27.

(1/7749)

... وبعد أن تمكن البرتغاليون من الوصول إلى الهند عبر طريق رأس الرجاء الصالح في سنة 1498 م. فقد أخذت التجارة الشرقية التي كانت تصل من المحيط الهندي ـ الذي كان أشبه بوعاء العسل، بما فيه من خيرات ـ تتحول إلى طريق رأس الرجاء الصالح، بحيث لم تعد الإسكندرية المركز الرئيس الذي تتجمع فيه السلع الشرقية، فيشتريها البنادقة وغيرهم. ولما أصبح البرتغاليون يتحكمون في منابع هذه السلع من أرجاء المحيط الهندي بعد حركة الكشوف، لم تعد هناك حاجة إلى وساطة الإسكندرية أو البندقية ـ تلك الوساطة التي أدت إلى ارتفاع

(1/7750)

أثمانها في الأسواق الأوربية. إذ كان ثمن قنطار الفلفل على سبيل المثال يتراوح بين 2,5 و3 بندقيات في قاليوقوط، ويصبح ثمنه بعد وصوله إلى الإسكندرية 80 بندقياً، في حين صار يباع في لشبونه البرتغالية بعد الكشوف الجغرافية بسعر يتراوح بين 20 و40 بندقيّاً، أي أن أسعار السلع انخفضت بواقع نصف قيمتها على أكثر تقدير. كما أن السفن البرتغالية وفرت على المستهلك الأوربي مشقة الوصول على السلع الشرقية حتى من لشبونه التي أصبحت مركزاً لتجميع هذه السلع وتسويقها، إذ صارت السفن البرتغالية تنقل السلع الشرقية مباشرة إلى

(1/7751)

مناطق الاستهلاك مثل إنجلترا والأراضي المنخفضة وغيرها من الدول الأوربية(1).

... وهكذا ذبلت مدينة الإسكندرية وغيرها من ثغور الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز وأقفرت أسواقها بعد أن انصرف عنها التجار الأوربيون نتيجة لتحول التجارة العالمية إلى طريق رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين. ويقول ابن إياس عن مدينة الإسكندرية في حوادث سنة 920 هـ/ 1514 م، عندما زارها السلطان الغوري، إنها أصبحت:

__________

(1) ... إبراهيم علي طرخان، المرجع السابق، ص. 293.

(1/7752)

... في غاية الخراب بسبب ظلم النائب وجور القباض. فإنهم صاروا يأخذون من التجار العشر عشرة أمثال. فامتنع تجار الفرنج والمغاربة من الدخول إلى الثغر، فتلاشى أمر المدينة، وآل أمرُها إلى الخراب، حتى قيل طُلب الخبز، فلم يوجد بها، ولا الأكل، ووجد بعض الدكاكين مفتحة والبقية لم تفتح(1).

... وواضح من كل ما تقدم أن تدهور الأحوال الاقتصادية في مدينة الإسكندرية وفي مصر كلها في نهاية عهد الدولة المملوكية لم يكن نتيجة عامل واحد أو سبب بعينه، بل جاء نتيجة أسباب

__________

(1) ... ابن إياس، المصدر السابق، ج 4، ص. 424.

(1/7753)

وعوامل عدة تضافرت لتهز قواعد الدولة هزّاً عنيفاً، حتى فقدت أسباب رخائها وثروتها(1). وكان تحول التجارة العالمية عن مصر وعالم البحر المتوسط عقب وصول البرتغاليين إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح في سنة 1498 من أبرز عوامل التدهور الاقتصادي وفي نهايتها من ناحية التوقيت الزمني، مما جعل هذا الحدث الهام أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير.

__________

(1) ... سعيد عبد الفتاح عاشور، التدهور الاقتصادي في دولة سلاطين المماليك، ص. 88.

(1/7754)

... ولا شك في أن البنادقة بوجه خاص قد أحسوا بمدى خطورة تحول التجارة عن مصر وعالم البحر المتوسط إلى رأس الرجاء الصالح على أيدي البرتغاليين في سنة 1498 م، والذي أدى إلى فقدانهم لمصدر هام من مصادر ثروتهم الناتجة عن اشتغالهم بالتجارة العالمية آنذاك. لهذا، فإن البنادقة أخذوا يراقبون مشروعات البرتغاليين وتحركات سفنهم، ويحاولون من جانبهم إقناع سفراء ملوك الهند في لشبونه بعدم مقدرة البرتغاليين على نقل السلع الشرقية دون مساعدة مالية من البندقية. كما حرص البنادقة على تكوين تحالف مع المماليك لمواجهة

(1/7755)

النشاط التجاري البرتغالي الذي سيطر على طريق رأس الرجاء الصالح وحوّل التجارة العالمية إليه. ولهذا جاءت سفارات البندقية الدبلوماسية المتكررة إلى بلاط السلطان المملوكي قونصوه الغوري، وأشهرها سفارة "باندتو سانوتو" (Benedotto Sanuto) إلى الغوري في سنة 1503 م. وأشار هذا السفير على السلطان الغوري بأن يبعث برسله إلى أمراء الهند لحملهم على قطع علاقاتهم بالبرتغاليين وإقفال موانئهم في وجه السفن البرتغالية. كذلك طلب السفير من الغوري أن يعمل على تخفيض الأثمان الباهظة التي تباع بها التوابل في الإسكندرية حتى

(1/7756)

يستطيع البنادقة منافسة خصومهم في الأسواق الأوربية(1).

... غير أن السلطان الغوري رأى أن يبعث برسالة إلى بعض الدول الأوربية، لتعمل هذه الدول على وقف حملات البرتغال على الهند، وهدد باتخاذ إجراءات عنيفة ضد المسيحيين في بلاده، ولا سيما بالقدس. بل إنه هدد كذلك بإغلاق الأماكن المقدسة، وقام بحمل هذه الرسالة راهب إسباني فرانسسكاني في بيت المقدس اسمه الأخ مورو (Moro)، وكلفه الغوري بالمرور في طريقه بالبندقية. فقصد هذا الراهب إلى روما حيث التقى بالبابا يوليوس

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، ص. 378.

(1/7757)

الثاني في ربيع عام 1504 وأحسن البابا لقاءه ووعده بالكتابة إلى ملك البرتغال لوقف إرسال الحملات الحربية إلى الهند. وقد أتم هذا الراهب جولته في بلاط كل من إسبانيا والبرتغال دون أن يكون لمهمته الدبلوماسية أي جدوى. وعندما زاد إحساس البندقية بخطورة الموقف، أرسلت سفارة دبلوماسية أخرى إلى الغوري في سنة 1504 م، وتركزت مهمتها حول تقديم عروض أحسن وأقوى للسلطان نظراً لاطراد عجز البنادقة عن مقاومة البرتغاليين الذين غمروا أسواق أوربا بالمنتجات الشرقية، لدرجة أن قام حزب كبير في البندقية يطالب الحكومة بالشراء

(1/7758)

من لشبونه وليس من الإسكندرية. ولذا اقترحت سفارة عام 1504 م من جديد أن يُغرق السلطان الغوري الأسواق بالتوابل حتى يستطيع منافسة البرتغال، وأن يستخدم نفوذه لدى أمراء الهند لقطع صلاتهم بالبرتغاليين. ثم إنها اقترحت كذلك شق قناة في برزخ السويس. ونظراً لأنها أهملت موالاة المشروع، فقد تُرك دون تنفيذ(1).

... وقد اتجه السلطان قونصوه الغوري إلى مواجهة النشاط البرتغالي بالقوة عندما أصدر أمره في سبتمبر سنة 1505 بإعداد حملة حربية بقيادة

__________

(1) ... Roux. J. Charles, L’isthme et le Canal de Suez, T. I, p. 45.

(1/7759)

الأمير حسين الكردي نائب جدة. وتكونت من خمسين سفينة من نوع "الأغربه"، وتحركت الحملة من القاهرة وسارت في النيل عن طيق القناة (خليج أمير المؤمنين) في شرق الدلتا إلى البحيرات المرة إلى السويس، ومنها إلى ينبع فجدة، ثم غادرت جدة واستولت في طريقها على سواكن عام 1506.

... غير أنه يهمنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن الغوري قد أرسل سفيره الترجمان تغري بردي الإسباني بنداء إلى أوربا في أبريل سنة 1506 م. واستغرقت رحلة هذا الترجمان ثمانية عشر شهراً، زار فيها قبرص التابعة للسلطنة المملوكية آنذاك، واصطحب منها من

(1/7760)

أرشده إلى رودس حيث استقبله الرئيس "أمري دامبواز" (Aimery D’amboise)، ثم خرج تغري بردي من رودس إلى البندقية حيث وقّع اتفاقية تجارية جديدة معها. ولم تحقق هذه السفارة كسابقتها أي جدوى كما حدث مع سفارة الراهب مورو من قبل، وعاد تغري إلى مصر في سبتمبر عام 1507 م(1).

... وعندما يئست البندقية من مقدرة المماليك على التغلب على البرتغاليين واستعادة التجارة العالمية إلى طريقها التقليدي القديم، فإنها لجأت إلى التعاون مع الصفويّين علَّهم ينجحون فيما فشل

__________

(1) ... إبراهيم علي طرخان، المرجع السابق، ص. 296.

(1/7761)

المماليك في تحقيقه، مما أدى إلى تدهور العلاقة بين السلطنة المملوكية والبندقية. إذ حدث أن قبض السلطان الغوري على بعض البنادقة ومعهم خطابٌ من الشاه إسماعيل الصفوي للاستعانة بدولة أوربية للقيام بهجوم بحري على سواحل مصر، في حين يقوم الصفوي بمهاجمتها برّاً، ولم يذكر ابن إياس اسم هذه الدولة. ولكن المصادر الأوربية أشارت إلى أن هذه الدولة هي جمهورية البندقية. وهذا ما جعل السلطان الغوري يقبض على قنصل البندقية في دمشق، وجيء به مكبلاً إلى القاهرة؛ كما قبض على زملائه الآخرين في طرابلس والإسكندرية، وحقق

(1/7762)

معهم، وحينئذ لم يسع الغوري إلا أن يُنفد ما سبق أن هدد به وهو إغلاق الأماكن المقدسة في القدس، فقبض على جميع مسيحيي القدس وأغلق كنيسة القيامة وصادر محتوياتها في يناير سنة 1511 م. وفي الوقت نفسه علم بخيانة الترجمان تغري بردي، إذ كاتب الدول الأوربية بضعف المماليك الحربي وعدم تحصين السواحل المصرية التحصين الكافي، فقبض عليه في مارس 1511 م(1).

... وقد توالت احتجاجات الدول الأوربية على تصرف الغوري. وجاءت إلى مصر سفارة فرنسية من قبل الملك لويس الثاني عشر ملك فرنسا في مارس

__________

(1) ... المرجع نفسه، ص. 297.

(1/7763)

سنة 1512 م. وكان هدف هذه السفارة عقد اتفاق تجاري مع مصر وإطلاق حرية التجارة في موانئ مصر والشام والسماح للحجاج بزيارة الأماكن المقدسة كالمعتاد، ووعدت السفارة بمساعدة فرنسا ضد بلاد البرتغال. غير أن السفير الفرنسي لم ينجح إلا في إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين. ولما انتشرت أنباء السفارة، أسرعت البندقية وأوفدت بعثة دبلوماسية على رأسها "دومينكو تريفزاني" (Domenico Trevsani)، واستطاع هذا السفير أن يعقد أول اجتماع مع السلطان الغوري في مايو سنة 1512 م، وبدأت البعثة عملها وفق برنامج مفصل محدد في لين وسلامة

(1/7764)

مع شيء من العناد والصلابة يحمل على الإعجاب. وكان يظاهر البعثة بعض قطع من الأسطول التجاري البندقي الذي مر بكريت وقبرص والإسكندرية، فسر السلطان الغوري، مما أظهره البنادقة ـ أصدقاؤه القدماء ـ من إخلاص، ونجحت مهمة السفير في إطلاق سراح المسجونين، وأعيدت الصداقة والصلة بين السلطنة المملوكية والبندقية، وتعهد البنادقة بتزويد المماليك بالأسلحة والأخشاب لمواصلة نضالهم ضد البرتغاليين؛ ثم غادر "تريفزاني" مصر في أغسطس سنة 1512(1). ومن الواضح أن الغوري كان يهدف آنذاك إلى تجديد

__________

(1) ... المرجع نفسه، ص. 298.

(1/7765)

علاقاته مع البندقية حتى يحصل على مساعداتهم له في مواجهة النشاط البرتغالي المتزايد في البحار الشرقية.

... وعندما تم للعثمانيين السيطرة على مصر بدخول السلطان سليم الأول مدينة القاهرة في اليوم الثالث من شهر المحرم عام 923 هـ الموافق للسادس والعشرين من شهر يناير عام 1517 م، وامتدت إقامته فيها ثمانية أشهر، أدرك العثمانيون أن مصر معبَرٌ مهمٌّ للتجارة العالمية، ومدى ما أصابها من تدهور اقتصادي نتيجة لتحول هذه التجارة إلى طريق رأس الرجاء الصالح على أيدي البرتغاليين منذ وصولهم إلى الهند في سنة 1498.

(1/7766)

ولهذا حرص السلطان سليم الأول على إنعاش حركة التجارة، التي كان يرد إلى مصر آنذاك جزء منها عبر الطرق البرية، ومن المناطق المطلة على البحر الأحمر والخليج العربي الداخلية، أي من النواحي الواقعة شرقي مصر وجنوبها وغربها، والتي كان من دواعي استمرار الحركة التجارية فيها رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة في الحجاز حيث كان الحجاج يحضرون معهم الكثير من المتاجر الشرقية لتغطية تكاليف رحلتهم، ولممارسة النشاط التجاري عبر الطرق المذكورة. ولهذا أراد السلطان سليم أن يضمن تسويق ما يصل إلى مصر من هذه التجارة عن طريق

(1/7767)

البنادقة الذين يقومون بتوزيعها في أوربا، وذلك بعقد معاهدة تجارية معهم لهذا الغرض. وكان للعثمانيين خبرة سابقة في هذا المجال حيث عقد السلطان محمد الثاني الفاتح اتفاقية مع الجنويّين في الحادي عشر من مارس عام 1454، واتفاقية أخرى مع البنادقة في الثامن عشر من أبريل من السنة نفسها، أي في العام الثاني مباشرة لفتح العثمانيين للقسطنطينيّة(1).

... وهكذا عقد السلطان سليم الأول معاهدة مع البندقية في الثاني والعشرين من شهر المحرم عام 923 هـ الموافق للرابع

__________

(1) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، صص. 435 ـ 438.

(1/7768)

عشر من فبراير عام 1517 م لتشجيع البنادقة على القدوم إلى الإسكندرية بسفنهم وبضائعهم ومباشرة نشاطهم التجاري في جو من الطمأنينة والعدالة والأمن. وقد نشر الأستاذ "إتين كومب" (Etienne Combe) نصوص هذه المعاهدة باللغة الفرنسية(1)، ونشرت بعد ذلك مترجمة إلى العربية(2)

__________

(1) ... E. Combe, Précis de l’Histoire d’Egypte, T. III, p. 6 sq. (Wiet. G) La Traite: veneto-Turc. de 1517.

(2) ... نعيم زكي فهمي، المرجع السابق، صص. 429 ـ 436؛ عبد العزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، الجزء الثاني، صص. 700 ـ 706.

(1/7769)

. وجاءت في ديباجتها ملاحظة تفيد بأن التعليمات التي أوردتها موجهة بصفة خاصة إلى حاكم مدينة الإسكندرية وموظفيها العموميين ومفتشي الشرطة وضباطها كي يحاطوا علماً بما تم الاتفاق عليه بين المتعاقدين على الامتيازات السابق منحها لهم أيام المماليك بعد موافقة السلطان سليم الأول عليها. وأشارت المادة الأولى من هذه المعاهدة إلى أن جميع البراءات الممنوحة للبنادقة من قبل صار الموافقة والتصديق عليها، وأن رعايا البندقية يعاملون بالعدل ويقابلون بترحاب من الجميع. ولا يحق لأي فرد أن يهينهم أو يتكبر عليهم في

(1/7770)

الموانئ المصرية عامة، وأن من حقهم البيع والأخذ والعطاء، ولا يدانوا لخطإ ارتكبه غيرهم من أبناء الأمم الأخرى بالمدن المصرية، وأن يُعلن هذا لجميع القضاة والهيئات المسؤولة. وليس من حق أي فرد الخروج على هذه القوانين كما يجب معاملتهم حسب الأصول والعادات المرعية دون أي تغيير أو تعديل.

... وأوردت المادة الثانية من هذه المعاهدة بين العثمانيين والبنادقة الالتزام بعد تكدير البنادقة أو الاستيلاء على ممتلكاتهم أو متاجرهم بالقوة أو على مراكبهم أو ما في داخل مخازنهم، كما لا يحق لأيّ فرد أن يجبرهم على البيع

(1/7771)

إذا لم يوافقوا على ذلك، كما لا يجبرون على دفع عوائد غير عادة أو لا لزوم لها. بينما أشارت المادة الثالثة إلى أن بإمكان قنصل البندقية أن يبيع ويشتري بالنقد بلا حدود. وحددت المادة الرابعة أن القنصل يحصل على مرتبه مجمداً كل أربعة أشهر. وأشارت المادة الخامسة إلى أن القنصل دون سواه هو الذي يباشر الشؤون القانونية والقضائية لمواطنيه ويبت في الأمور لصالحهم. أما من يرفض الانصياع لحكم القنصل ويلجأ إلى القضاء الوطني الإسلامي لينقض قانوناً أو حكماً أصدره القنصل، فلا يُستمع له ولا يحق للقاضي استقباله أو نظر

(1/7772)

شكواه، وعليه أن يعيده إلى قنصله؛ وإذا رغب القنصل في طرد أحد البنادقة، فعلى القاضي أن يُعينه على ذلك. كما منح القنصل حق إبداء الرأي في سفر الأفراد على سفن بلاده، ولا يحق لأي فرد أن يغادر الإسكندرية على ظهر إحدى سفن البندقية ليعود إلى وطنه أو يبارحها إلى أي قطر شاء إلا بعد الحصول على تأشيرة خروج من القنصل نفسه.

... وحددت المادة السادسة من المعاهدة الإجراءات المسموح باتخاذها إزاء سفن البنادقة عند وصولها إلى الإسكندرية، فأشارت إلى أنه إذا وصلت أي سفينة من البندقية إلى الإسكندرية فأشارت إلى أنه إذا

(1/7773)

وصلت أي سفينة من البندقية إلى الإسكندرية أو باسم البنادقة، فلا يحق لأيّ موظف أن يرتقيها ويحصل منها على ما يريد من معلومات أو بيانات، ولا أن يحتك بأي فرد من أفرادها ويسمح لهم بصعود السفينة في حالة الشراء فقط، ويدخل ضمن السلع المشتراة السلع التي تحملها السفن "كالعسل والفاكهة". وحرّمت المادة السابعة على أي فرد من أفراد الشعب أو لقبطانها على سفن الميناء أن يستولوا على أي سفينة للبنادقة تصل إلى الميناء، أو على حمولتها أو قلوعها أو مجاديفها لأي سبب سواء كان قرضاً أو شراء. وأشارت المادة الثامنة إلى

(1/7774)

أنه يصير تنفيذ كل التجديدات أو المباني اللازمة أو الأعمال الضرورية في فندق البنادقة. وإذا رغب القنصل في بناء مبنى جميل خاص به، فله ما يشاء، ويُمنَعُ منعاً باتاً التعرض له أو دفع أجور العمال أو أسعار المواد اللازمة للبناء، وممنوع على أي فرد مضايقتهم أو التعرض لهم إذا رغبوا في استخدام صناع من البندقية أو من الأجانب دون الوطنيين. ونصت المادة التاسعة على أنه إذا رغب قنصل البندقية في مقابلة أي فرد من الحكومة في دواروينهم، وامتطى صهوة جواده أو رغب في الخروج إلى الحدائق العامة أو أي مكان في أطراف

(1/7775)

الإسكندرية، فله أن يفعل ما يشاء وليس لأي فرد أن يعترضه.

... وقد أشارت المادة العاشرة إلى أن السلع الخاصة بالبنادقة والتي تتعرض للغرق يصير إنقاذها وتُردّ لأصحابها. أما السلع التي تقذفها الأمواج إلى الشاطئ نتيجة الغرق لإحدى السفن، فهي تُرَدُّ لأصحابها إن عُرفوا أو أثبتوا شخصياتهم وملكياتهم لهذه السلع أو تردُّ لقناصل البندقية. أما السفن التي تصل إلى الشاطئ سليمة بعد إنقاذها، فيجب صيانتها. وجاء في المادة الحادية عشرة أن سفن البنادقة التي تلجأ لميناء الإسكندرية لسوء الأحوال الجوية ولا ترغب في تفريغ

(1/7776)

حمولتها لها أن تتم رحلتها إذا لم يكن عليها سلع للإسكندرية، وإذا كان عليها سلع خاصة بالإسكندرية، فلا يحق لها أن تفرغها في أي ميناء إلا في الإسكندرية نفسها. وإذا كانت هذه السفن تحمل سلعاً لم يُنَصّ عليها في المعاهدات ولا يُتاجر فيها إلا في الإسكندرية، فتُمْنَع من التعامل أو الملاحة على طول سواحل مصر.

... أما العلاقات السياسية، فقد أوردت المادة الثانية عشرة من المعاهدة المعقودة بين البندقية والسلطان سليم الأول عام 1517 أنه إن حدث أيُّ حدث لأحد رعايا السلطان في البندقية أو الجزر التي تقع تحت

(1/7777)

سيطرتها، فلا يُسأل القنصل عن هذا؛ كما أنه لا يحتمل النتائج المترتبة على الحادث. أما من يكون مديناً لأحد رعايا السلطان، فإنه يُحجز حتى يُوفَّى الدِّين ويسْرِي ذلك على الضامن، ويجب أن يكون جميع رعايا السلطان في أمان تام في موانئ البندقية والبلاد الخاضعة لها. كما أعفت المادة الثالثة عشرة القنصل البندقي من دفع ضريبة الإيراد أو ضرائب أخرى ما عدا في حالات صدور أوامر خاصة بذلك من السلطان أو من القضاء. واشترطت المادة الرابعة عشرة أنه إذا أصر القراصنة على أسر سفن للبنادقة، ثم جاؤوا لبيعها في موانئ

(1/7778)

السلطان يُحْظَر على أي فرد شراؤها أو التعامل مع القراصنة ويجب تحرير السفينة وما عليها من متاجر وردها للتجار. ونصت المادة الخامسة عشرة من المعاهدة أنه إذا حدث خلاف بين عربي وأجنبيّ سواء كان من البنادقة أو من غيرهم أو القنصل أو تاجر أو أي مواطن عادي أو عضو في وكالتهم، فلا يحق لأيّ فرد إهانته أو إلحاق الضرر به. واشترطت المادة السادسة عشرة أن كل هذه المنح والشروط والامتيازات الممنوحة للبنادقة تُسجل في سجل خاص ويتعرفها كل مسؤول بالولاية وكل من له علاقات بالأجانب أو بالحكم في مصر. وبموجب المادة

(1/7779)

السابعة عشرة، يكون لقنصل البندقية السلطة التامة إذا رغب في أن يقيم نائباً عنه (قنصل بالنيابة) أو نائب قنصل في البرلس، وله أن يفعل ذلك كلما شاء دون استئذان السلطان.

... وقد قررت المادة الثامنة عشرة أن قنصل البنادقة قد عرض أنه ـ حسب المعتاد آنذاك ـ كانت تصل بعض السفن من كريت أو أقطار تابعة للبندقية تجلب كميات من الزيت اللازم للسفن؛ وكان المعتاد بيعها على السفن، ولكن سلطات الإسكندرية كانت ترفض هذا البيع لكي تبيع ما لديها في مستودعاتها. هذا الأمر ـ كما أشارت تلك المادة ـ كان ينبغي أن يتدارك. فسفن

(1/7780)

البندقية كانت تستطيع مند عقْد المعاهدة فصاعداً بيع هذا الزيت دون إنزاله للساحل ولا يعترضها أيُّ فرد. وفي حالة وصول هذه السفن إلى بولاق تتبع القواعد المرسومة في هذا الميناء. وقد أشار قنصل البندقية في المادة التاسعة عشرة إلى العبيد والفقراء الأجانب الذين يعيشون في الإسكندرية واعتادوا الورود إلى فندق البنادقة لكي يأكلوا. وكان إذا مات أحد العبيد بالفنادق، فالقنصل مطالب بدفع ثمنه؛ وكان الثمن يُفرض مرتفعاً. وقد اشترطت هذه المادة أن يُمنع هذا من ذلك الحين؛ كذلك حظرت المادة العشرون على موظفي الجمرك

(1/7781)

والحمّالين والكشافين مضايقة البنادقة في حالة إعادة تسليمهم الفواكه أو سلعاً أخرى تحملها سفنهم. وفيما يتعلق برسوم الحمالين والكشافين وأجورهم، نصت المادة الحادية والعشرون على أن يدفع دينار واحد عن كل سلة توابل مملوءة ويحملها الكشاف البحريّ ويحصُل الحمال على دينار واحد عن كل سلة يحملها. وقررت المادة الثانية والعشرون إنقاص وتخفيض الضرائب التي تُدفع عمن يموت من الأجانب في بلاد السلطان. كما قررت المادة الثالثة والعشرون أن الإفرنجي الذي يرد للقاهرة من الإسكندرية أو شيد أو دمياط لا تحصل منه ضرائب لا في

(1/7782)

حلِّه ولا في ترحاله. واختصت المادة الرابعة والعشرون من المعاهدة المعقودة بين السلطان سليم الأول والبندقية عام 1517 بالإشارة إلى أن السماسرة الذين يعملون لدى الوسطاء التجاريين لهم حق استخدام تراجمه ولا يمنع عنهم معاونة التراجمة الرسميين لقاء رسوم معينة. كما قررت المادة الخامسة والعشرون أنه في حالة نقل البضائع المستوردة أو المصدرة من الجمرك للسفن. وبالعكس لا يطالب القنصل ولا التاجر بشيء ما، كما لا يحق منع التجار من توزيع الفواكه المحفوظة والمسكرة والطازجة وبيعها للمسافرين. هذا، بينما حددت المادة

(1/7783)

السادسة والعشرون أنه لا يجوز إطلاقاً مضايقة القنصل أو التجار أثناء تجوالهم وتنزههم في حدائق الإسكندرية وعلى ضفاف القناة أو في أي مكان آخر. وأكدت المادة السابعة والعشرون على حق التجار البنادقة في شحن سلعهم وتوزيعها وتفريغها في قواربهم وسفنهم الخاصة. كما سوغت المادة التاسعة والعشرون للكشافين القيام بعملهم في حالات الشحن والتفريغ يكون بموافقة البنادقة، وما يُفسده أو يستهلكه الحمالون يجب أن يعوض عنه البنادقة.

(1/7784)

... واشترطت المادة الثلاثون أن لا يتصدى أي فرد للقنصل أو للتجار البنادقة إلا عن طريق القضاء وأمام المحاكم، ويراعى ألا يؤخذ الابن بجريرة الأب، ولا الأب بجريرة الابن، إلا إذا كان أحدهما ضامناً للآخر شخصيّاً ومالياً. أما الديون، فتكون استعادتها حسب الشريعة. كما اشترطت المادة الحادية والثلاثون أن يُعاملَ جميع التجار ومرافقوهم الذين يصلون إلى موانئ مصر بكل احترام واعتبار من الجميع. وفي خاتمة المعاهدة، نصت المادة الثانية والثلاثون على أن قنصل البندقية في الإسكندرية قد قدم مذكرة قرر فيها أن البنادقة

(1/7785)

كانوا يتمتعون أيام دولة المماليك الشراكسة بالإعفاء من ضريبة البهار. ولكن حدث أن فرضت حكومة السلطان قونصوه الغوري رسوماً جديدة بلغت خمسة آلاف دينار سنويّاً. وطالب القنصل بإعادة تقرير هذا الإعفاء الضريبي وتقرر الاستجابة لهذا الطلب.

... كانت هذه هي البنود الثانية والثلاثون للمعاهدة التي عقدن بين السلطان سليم الأول والبنادقة عقب فتح العثمانيين لمصر في سنة 1517. وهي تشكل دليلاً تاريخياً على حرص الأتراك العثمانيين على تشجيع رعايا جمهورية البندقية على تكثيف نشاطهم التجاري والاقتصادي مع مصر التي غدت

(1/7786)

ولاية عثمانية حتى تعود الحركة التجارية ـ بقدر الإمكان ـ إلى نشاطها المعهود قُبيل تحول التجارة العالمية إلى طريق رأس الرجاء الصالح. ولا شك في أن هذه المعاهدة تعد أبلغ رد على الفردية التي يرددها بعض المؤرخين والباحثين المتحاملين على الدولة العثمانية والذين يدعون أنها فرضت على ولاياتها العربية العزلة عن أوربا. كما أن هذه المعاهدة تميزت بوجود فارق بينها وبين المعاهدات التي عقدها السلطان سليمان القانوني وخلفاؤه تباعاً مع الدول الأوربية في هذا الصدد. فبينما كان الهدف من المعاهدات الأخيرة هو تشجيع

(1/7787)

رعايا الدول الأوربية على توثيق صلاتهم التجارية مع ممتلكات الدولة العثمانية بوجه عام، كانت معاهدة البندقية تستهدف تشجيع رعايا جمهورية البندقية على تكثيف نشاطهم التجاري في مصر والإسكندرية بوجه خاصّ. كذلك ترجع أهمية معاهدة البندقية إلى أن كثيراً من نصوصها، أو نصوصاً على غرارها، قد أُدرِجَت بعد ذلك في المعاهدات اللاحقة التي عقدتها الدولة العثمانية مع الدول الأوربية، إذ كان هناك تنافس بين الدول على الحصول على أكبر قدر من الامتيازات لرعاياها آنذاك، فكانت كل دولة أوربية تحرص على أن تجيء المعاهدة التي

(1/7788)

تعقدها مع الدولة العثمانية جامعة شاملة لكل الامتيازات التي سبق تقريرها لغيرها(1).

... على أن هذه المعاهدات التي عقدتها الدولة العثمانية مع دول البحر المتوسط والتي بدأت بمعاهدتها مع البندقية في سنة 1517 قد أدت إلى تنشيط حركة التجارة العالمية التي كان يدعمها فتح العثمانيين للطرق البرية المؤدية إلى مصر والشام سواء من ناحية الشرق من المناطق الآسيوية، أو من ناحية الجنوب من أواسط القارة الأفريقية، أو من ناحية الغرب من أرجاء المغرب العربي، والتي كانت تحركها رحلة

__________

(1) ... المرجع نفسه، صص. 706 ـ 707.

(1/7789)

الحج السنوية إلى الأماكن المقدسة في الحجاز وفلسطين ذهاباً وعودة، أثناء قيام البرتغاليين بإحكام حصارهم للمنافذ البحرية المؤدية للمحيط الهندي أثناء القرن السادس عشر الميلادي. وتوضح الوثائق المحفوظة بأرشيف الشهر العقاري بالإسكندرية والتي تخص محكمة الإسكندرية الشرعية والعائدة إلى منتصف القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي استمرار النشاط التجاري النسبي في مصر بوجه عام وفي الإسكندرية بوجه خاص وامتداده منها إلى البندقية وغيرها من مدن البحر المتوسط في ذلك الحين. وقد شملت هذه التجارة نوعيات عديدة من

(1/7790)

سلع التجارة الشرقية التي تبادلها سكان مدينة الإسكندرية والمدن الساحلية المصرية الأخرى مع الأوربيين الذين وفدوا إليها آنذاك وخاصة البنادقة، بالإضافة إلى تأجير وكالات تجارية لهم ومراكب ودواب لنقل التجارة، مع استخدامهم للعملات المعاصرة في أوربا وبلاد الشرق. هذا، فضلاً عما صاحب ذلك من نمو للعلاقات الاجتماعية المتمثلة في العديد من عقود الزواج ومختلف المعاملات الأخرى. غير أن هذا القدر من التجارة العالمية، وهذا النشاط التجاري النسبي الذي تبادلته موانئ مصر وخاصة الإسكندرية مع موانئ جنوب أوربا المطلة

(1/7791)

على البحر المتوسط وفي مقدمتها البندقية، لم يوفر لشعوب البحر المتوسط المستوى نفسه من الازدهار الاقتصادي الذي عاشوا في ظلاله الوارفة قروناً عديدة قبل تحول التجارة العالمية عن حوض البحر المتوسط إلى طريق رأس الرجاء الصالح(1)

__________

(1) ... أرشيف الشهر العقاري بالإسكندرية، محكمة الإسكندرية الشرعية، دفتر سجل مبايعات رقم 1، ويعود للفترة من 24 شعبان سنة 957 هـ/ 1550 م إلى 17 شعبان سنة 958 هـ/ 1551 م، ص. 92، مادة 435، ص. 96، مادة 456، ص. 114، مادة 540، ص. 328، مادة 1394، وهي وثائق تتعلق بالنشاط التجاري للجاليات الأجنبية بالبحر المتوسط وخاصة البنادقة في مدينة الإسكندرية في ذلك الحين.

(1/7792)

.

ثبت المصادر والمراجع

أولاً: باللغة العربية

... أرشيف الشهر العقاري بالإسكندرية، محكمة الإسكندرية الشرعية، سجل مبايعات رقم (1)، من 24 شعبان 957 هـ/ 1550 م إلى شعبان 958 هـ/ 1551 م.

... ابن إياس، محمد بن أحمد، بدائع الزهور في وقائع الدهور، خمسة أجزاء، حققها وكتب لها المقدمة والفهارس محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984.

... توفيق إسكندر، نظام المقايضة في تجارة مصر الخارجية في العهد الوسيط، بحث مستخرج من المجلد السادس من مجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة،

(1/7793)

1957.

... حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، القاهرة، 1962.

... إبراهيم علي طرخان، مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة (1382 هـ/ 1517 م)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1960 م.

... سعد زغلول عبد الحميد، »الأثر المغربي والأندلسي في المجتمع السكندري في العصور الإسلامية الوسطى«، ضمن أبحاث مجتمع الإسكندرية عبر العصور، جامعة الإسكندرية، 1975.

... سعيد عبد الفتاح عاشور، مصر في عصر دولة سلاطين المماليك البحرية، القاهرة، 1959.

... ـ ـ ، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، القاهرة، 1962.

(1/7794)

... ـ ـ ، »صور من مجتمع القاهرة في العصور الوسطى«، ... محاضرة ألقيت بالجمعة المصرية للدراسات التاريخية، المجلد 18، 1971.

... ـ ـ ، التدهور الاقتصادي في دولة سلاطين المماليك (872 ـ 923 هـ/ 1468 ـ 1517 م) في ضوء كتابات ابن إياس، الندوة التي نظمتها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالاشتراك مع المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية، 16 ـ 21 ديسمبر 1973.

... ـ ـ ، العصر المماليكي في مصر والشام، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1976.

(1/7795)

... شارل ديل، البندقية جمهورية الأرستقراطية، تعريب أحمد عزت عبد الكريم وتوفيق إسكندر، القاهرة، 1948.

... عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، »المغاربة في مصر في العصر العثماني 1517 ـ 1798، دراسة في تأثير الجالية المغربية من خلال وثائق المحاكم المصرية«، المجلة التاريخية المغربية، تونس، 1982.

... عبد العزيز محمد الشناوي، أوربا في مطلع العصور الحديثة، مكتبة الأنجلو المصرية، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1977.

(1/7796)

... الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ثلاثة أجزاء، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1983.

... عبد المنعم ماجد، عصر السيوطي، بحوث ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالاشتراك مع الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ونشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976.

... فاروق عثمان أباظة، »التنافس الدولي في جنوب البحر الأحمر في النصف الأول من القرن التاسع عشر«، ندوة البحر الأحمر في التاريخ والسياسة الدولية المعاصرة، أبحاث الأسبوع العلمي الثالث، 10 ـ

(1/7797)

15 مارس 1979، سمنار الدراسات العليا للتاريخ الحديث بجامعة عين شمس، القاهرة، 1980.

... قاسم عبده قاسم، أهل الذمة في مصر العصور الوسطى: دراسة وثائقية، دار المعارف، الطبعة الثانية، 1979.

... محمد رفعت، تاريخ حوض البحر المتوسط وتياراته السياسية، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1959. ...

... محمد مصطفى صفوت، الجمهورية الحديثة، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1958.

... نعيم زكي فهمي، طرق التجارة ومحطاتها بين الشرق والغرب، أواخر العصور الوسطى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973.

(1/7798)

... نقولا زيادة، »الطرق التجارية في العصور الوسطى«، مقال نشر بمجلة تاريخ العرب والعالم، السنة السادسة، العددان 71 ـ 72، سبتمبر ـ أكتوبر، بيروت، 1984.

...

ثانياً: باللغات الأجنبية

... Charles, Roux, F., Autour d’une route, L’Angleterre, L’isthme de Suez, T. 1-2, Paris, 1901.

... Combe, E., Précis de l’Histoire d’Egypte, T. 3, L’Egypte, Ottoman de la Conquest par Selim I. 1517 à l’Arrivée de Bonaparte 1798.

... El-Abbadi, M., The Life and Fate of the Ancient Library of Alexandria. (UNESCO, 1990).

(1/7799)

... Hammer, J., Histoire de L’Empire Ottoman depuis son Origine jusqu'à nos jours, T. 18, Paris, 1936.

... Heyd, W., Histoire du commerce du Levant au Moyen Age, T. 1, 2, Leipzig, 1925.

... Howe, Sonia, E., In Quest of Spices, London, 1946.

... Wilson, A. T., The persian Gulf, London, 1954.

... ...

الجامع الأموي الكبير بحلب (جامع زكريا)

... ... ... ... ... ... ... الدكتور شوقي شعث

... ... ... ... ... ذمار ـ اليمن

(1/7800)

... جامع بني أمية الكبير، من أكبر الجوامع التي أقيمت في حلب. أقيم في قلب المدينة، وقيل إن بانيه هو الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك؛ وهناك من قال إن بانيه الوليد بن عبد الملك، بُني هذا الجامع على نمط الجامع الأموي الكبير بدمشق ومضاهاة له. فعلى الرغم من أن دمشق عاصمة الدولة الأموية، فإن حلب لا تقل شأناً عنها: فهي عاصمة الثغور التي كانت بمثابة خط المواجهة مع البيزنطيين، وكثيراً ما كان الخلفاء يوجدون في خط المواجهة إلى جانب الجند ومنهم سليمان بن عبد الملك، الذي مات ودفن في شمال حلب وهو يرابط مع

(1/7801)

جنده في مواجهة البيزنطيين. ومن هنا برزت الحاجة إلى مسجد جامع يصلي فيه الخليفة صلاة الجمعة ليحث الناس على الجهاد ضد الأعداء، وليفهم الأصدقاء والأعداء أن الدولة قادرة على إقامة المنشآت المعمارية الدينية الكبيرة التي يفخر بها على الأعداء. فقد سبقه إلى ذلك أخوه الوليد بن عبد الملك في بناء الجامع الأموي بدمشق، وجامع قبة الصخرة المشرفة، والمسجد الأقصى التي كانت كلها تحفاً معمارية لا يماثلها في روعتها وعظمتها أي بناء آخر في العالم الإسلامي كله.

(1/7802)

... ترجع أهمية الجامع الأموي بحلب، إضافة إلى كونه عملاً معمارياً اعتنى بإضافات كثيرة عبر العصور التاريخية التي مرت عليه (فلا يكاد يمر عصر من العصور التاريخية الإسلامية إلا وله شاهد في المسجد الجامع المعروف بالأموي بحلب) ـ إضافة إلى ذلك، فإن القرارات المصيرية الهامة والأحداث التي ارتبطت بالجامع قد أكسبته أهمية خاصة، فظلت صلوات الجُمَع تقام فيه، والاحتفالات والاجتماعات وغيرها من المناسبات الدينية والوطنية الهامة تعقد فيه إلى يومنا هذا. وإن انتقلت فترة قصيرة إلى جامع الأطروش بحلب، فإنها ما لبثت أن

(1/7803)

عادت إلى الجامع الأموي الكبير بحلب؛ لأنه يقع في قلب المدنية الحافل بالنشاطات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

... تعرض الجامع الأموي بحلب إلى محن قاسية عبر تاريخه الطويل منها الحريق والتدمير والإهمال، إلاّ أنه كان يجابه تلك المحن ولا يلبث أن يعود إلى سيرته الأولى مركزاً دينياً واقتصادياً وسياسياً هامّاً. ففي أوائل العهد العباسي انتقلت عاصمة الدولة إلى بغداد، فقل شأن سورية عموماً ودمشق وحلب خصوصاً، فلحق الخراب والإهمال الجامع الأموي بحلب، وقام البعض بنقض حجارته ورسومه ونقولها إلى جامع الأنبار

(1/7804)

بالعراق على حد قول بعض المؤرخين. إلا أن الأمور سرعان ما عادت سيرتها الأولى، فاستقر الأمن وعادت إلى حلب أهميتها الأولى وعاد الجامع إلى عمارته وأهميته التي كان عليها، عندما أصبحت حلب عاصمة للإمارة الحمدانية عام 333 هـ. إلا أن الحرب الضروس التي دارت رحاها بين البيزنطيين والحمدانيين والتي كانت بمثابة الكر والفر بين الطرفين، جلبت الخراب في إحدى المرات إلى الجامع حين تمكن الإمبراطور البيزنطي نقفور فوقاس عام 251 هـ/ 962 م من دخول مدينة حلب وأحرق جامعها الكبير وذبح الكثير من أهلها كما ساق العديد منهم

(1/7805)

أسرى انتقاماً من الأمير الحمداني سيف الدولة الذي أقضّ مضاجع الإمبراطورية البيزنطية ردحاً طويلاً من الزمن. غير أن الأمير الحمداني سرعان ما تمكن من العودة إلى عاصمته حلب وأصلح جامعها الكبير، وأكمل المهمة ابنه أبو المعالي سعد الدولة ومولاه قرعويه من بعده.

... وعندما اخترق الجامع من جديد عام 564 هـ/ 1169 م، قام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بترميمه؛ وزاد في توسعته، ونقل إليه الأعمدة الحجرية التي اقتطعها من قرية بعاذين، كما نقل إليه بعض العمد من مسجد قنّسرين الخرب يومذاك، وأدخل إليه سوقاً كان

(1/7806)

موقوفاً على الجامع ليصبح الجامع واسعاً على التربيع. ومن أجل ذلك، استفتى الفقهاء، ومنهم الفقيه الجامع واسعاً على التربيع. ومن أجل ذلك، استفتى الفقهاء، ومنهم الفقيه علاء الدين أبو الفتح عبد الرحمن بن محمود الغزنوي الذي أفتاه بجوار ذلك.

... تعرض العالم الإسلامي عام 656 هـ/ 1258 م إلى غزوة مدمّرة قادها هولاكو التتاري الذي أسقط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية. بعد ذلك، قاد التتار نحو الغرب، فاستولى عام 658 هـ/ 1260 م على حلب، ودخل معه صاحب سيس الأرمني إليها وتوجها إلى الجامع الأموي، فقتل فيه

(1/7807)

خلقاً كثيراً ثم أحرقه. فتضرر من ذلك الحريق الحائط القبلي للجامع كما تضررت المدرسة الحلوية وتضرر سوق البزازين. إلا أن هولاكو عندما علم أن صاحب سيس وأتباعه استهدفوا جوامع المسلمين وممتلكاتهم فقط، أخذته الغيرة الإسلامية، وهو المسلم، فأمر بوقف الاعتداءات وإطفاء الحرائق، والتفت إليهم، أي إلى أصحاب سيس، فقاتلهم وقتل منهم خلقاً كثيراً. إلا أن ذلك لم يغفر لهولاكو المذابح والدمار الذي أوقعه بالمسلمين وممتلكاتهم بحلب وغيرها من المدن الإسلامية. ومع ذلك، فقد قضت إرادة الله بالانتقام لحلب وللعالم الإسلامي

(1/7808)

من التتار في وقعة عين جالوت بفلسطين عام 663 هـ/ 1260 م، فعاد التتار مدحورين خائبين إلى بلادهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة. وعلى الرغم من الأعمال الانتقامية التي قاموا بها في حلب وفي غيرها من البلاد أثناء التحامهم، فإن خطرهم زال على يد المماليك ولو إلى حين.

... دخلت حلب بعد ذلك تحت الحكم المملوكي، فأعيد إعمارها وإعمار جامعها الكبير. وفي عام 679 هـ/ 1280 م، عاد صاحب سيس ـ وفي غفلة من أهل المدينة ـ إلى مهاجمتها وإحراق الجامع الأموي، فأعاد نائب حلب المملوكي قرا سنقر الجوكندار عمارة الجامع وترميمه،

(1/7809)

وأكمل البناء والترميم عام 648 هـ/ 1285 م الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي الصالحي، ومن جاء بعده من السلاطين المماليك. ويذكر القلقشندي (صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج 4، ص. 220) أن المماليك اهتموا بالجامع الكبير بحلب، وجعلوا له وظيفة خاصة للنظر في شؤونه هي وظيفة "نظر الجامع الكبير" ويتولاها أحد أرباب السيوف ويكون رفيقاً لنائب المدينة، وولايتها من الناس بتوقيع كريم.

... وتابع العثمانيون اهتمامهم بالجامع الكبير بحلب، فقاموا بكثير من الترميمات والإصلاحات كان منها: واجهة القبلية والأروقة

(1/7810)

والصحن وغيرها. ولا تزال أعمال الصيانة والترميم مستمرة حتى يومنا هذا؛ ونتحدث عن ذلك بإسهاب في حينه.

عمارة الجامع وأقسامه

... سبق أن ذكرنا أن الجامع أقيم في الأصل على بستان للمدرسة الحلاوية التي كانت أصلاً كنيسة للروم بنتها هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين بعد أن صالح المسلمون على المكان منذ يوم الفتح. ويقوم الجامع اليوم على مساحة من الأرض يبلغ طولها 105 متر من الشرق إلى الغرب ويبلغ عرضه نحو 77,75 متراً من الجنوب إلى الشمال؛ وهو يشبه إلى حد كبير في مخططه وطرازه جامع دمشق. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه

(1/7811)

بني على نمط جامع دمشق. يتألف جامع حلب من عدة عناصر سنتحدث عنها تباعاً. وأول هذه العناصر:

ـ الأبواب (المداخل والمخارج)

... يدخل إلى الجامع ويخرج منه عبر أربعة أبواب هي:

... الباب الشمالي: ويقع إلى جوار المئذنة ويعرف أحياناً بباب الجراكه. وقد أقيم هذا الباب حديثاً مكان باب قديم بعد أن قامت البلدية بتنظيم المنطقة عندما أزيلت الأبنية الواقعة أمام واجهة الجامع القديم، وذلك لإبراز واجهة الجامع وليسهل الوصول إليه.

... الباب الغربي: وينفذ منه إلى الجامع من شارع المساميرية نسبة إلى صانعي المسامير.

(1/7812)

... الباب الشرقي: وينفذ منه إلى الجامع من أمام سوق المناديل، ويعرف أحياناً بباب الطيبية.

... الباب الجنوبي: ويدخل منه أو يخرج منه إلى سوق النحاسين؛ ومن هنا جاء اسمه أحياناً باسم "باب النحاسين". ويذكر أبو ذر سبط بن العجمي في كتابه "كنوز الذهب" أن لهذا المدخل باباً خشبياً في غاية الروعة مكتوباً عليه: »نجر في شعبان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة«. إلا أن هذا الباب الخشبي ذهبت به الأيام واستُعيض عنه بالباب الحالي.

ـ الصحن

(1/7813)

... للجامع صحن واسع تبلغ أبعاده 79 متراً طولاً، وعرضه 47 متراً. تزين أرض الصحن حجارة ملونة مصقولة ومرصوفة تتوزع على شكل وحدات وتقسيمات تتخذ أشكالاً مختلفة تتناوب فيها الحجارة السوداء والصفراء والبيضاء والمرمرية والسماقية. وتبدو هذه التشكيلات لمن ينظر إليها من شرفة المئذنة منظراً ساحراً في تشكيلاته الهندسية. ويذكر المرحوم محمد فارس في كتابه "الجامع الأموي الكبير بحلب" أن حجارة صحنه السابقة استبدلت بالحجارة الحالية نظراً لتكسرها بسبب الغارات والحرائق والعوامل الأخرى، وذلك عام 1042 هـ/ 1632م؛

(1/7814)

ويُعتقد أن الحجارة القديمة بقيت تحت الحجارة الحديثة، وأنه يمكن تعرُّفها إذا ما أجريت تنقيبات أثرية هادفة.

ـ المئذنة

... تقول المصادر التاريخية إن المئذنة الأساسية للجامع لم تكن في هذا المكان، وإنما كانت في الحائط الغربي للجامع ملاصقة لحائط القبلية الملاصق للصحن. أما المئذنة الحالية، فهي مربعة المسقط ويبلغ ارتفاعها نحو خمسة وأربعين متراً حتى شرفة المؤذن. أما طول ضلعها، فيبلغ نحو 4,95 م. ويزين المئذنة عدد من الكتابات والعناصر الزخرفية والتيجان الكورنتية والعقود المقصصة والنوافذ. ويستدعي الاختصار

(1/7815)

عدم الخوض في التفاصيل؛ إلا أنه يمكن القول إن بناء أساس المئذنة قد تم في عهد سابق محمود بن صالح المرداسي بين سنتي 468 ـ 472 هـ/ 1075 ـ 1079 م. أما البناء التالي، فقد تم على مرحلتين: الأولى في عهد قيم الدولة آق سنقر عام 479 هـ/ 1087 م عندما تسلم المدينة نائباً عن السلطان السلجوقي ملكشاه؛ أما الثانية، فقد بدأت عام 485 هـ في عهد السلطان تُتُش حتى عام 487 هـ/ 1094 م حيث اكتملت المئذنة أيامه.

...

ـ القبلية (بيت الصلاة)

(1/7816)

... هي واسعة رحبة، تتألف من ثلاثة أروقة تقوم على دعائم حجرية ضخمة بنيت بطريقة المغمس. ويبلغ عدد تلك الدعائم ثمانين دعامة ويعتقد أنها حلت محل الأعمدة الرخامية البعاذينية التي مر ذكرها والتي تخربت وتفتتت بسبب الحرائق التي لحقت بالمسجد عبر تاريخه الطويل. وفوق القبلية قبة عالية تجاه المدخل الأوسط للقبلية. ويذكر بعض مؤرخي حلب أن في قبلية هذا الجامع كانت تعقد حلقات الدرس والعلم في كافة علوم المعرفة.

... تضم قبلية هذا الجامع عدداً من المعالم الهامة التي تعتبر من الأساسيات ليقوم الجامع بوظيفة كاملة. من

(1/7817)

تلك المعالم: المنبر المحاريب وحجرة الخطيب والحجرة النبوية والسدة والمقصورات. وسنتحدث عن كل منها باختصار يتناسب وطبيعة النص:

ـ المنبر

... يقع منبر الجامع الكبير بحلب إلى اليمين من المحراب الأوسط، وهو من القطع الفنية الثمينة ليس له مثيل في مساجد حلب. بدت فيه الصناعة الخشبية غاية في الإتقان، صنع من أخشاب الأرز الحلبي والأبنوس، ورصع بالعاج والصدف، يبلغ ارتفاعه نحو 2,58 م وطوله 2,65 م. أما عرضه، فيبلغ 1.08 م ويرقى إليه بعشر درجات. ويعد اليوم من أقدم المنابر الحلبية بعد إحراق الصهاينة للمنبر الحلبي

(1/7818)

في المسجد الأقصى بالقدس الشريف عام 1969 م. ويتكون هذا المنبر من عدة أقسام منها:

... 1 ـ المدخل: ويتألف من باب ذي مصراعين يعلوه ساكف متوج بمقرنص من حطة واحدة فوقه تاج زخرفي مورق، تحت المقرنص وعلى حشوة بارزة نص كتابي يقول: »عمل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عز نصره«. وتحت هذا النص نص كتابيّ آخر أصغر حجماً يقول: »عمل العبد الفقير إلى الله محمد بن علي الموصلي«. وهناك نص قرآني على مصراعي الباب: {وإذا قلنا ادخلوا} على المصراع الأيمن و{هذه القرية فكلوا منها} على المصراع الأيسر،

(1/7819)

وتحته النص الكتابي الثاني: »بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان الحداد«.

... 2 ـ مجلس الخطيب: مستطيل الشكل يأخذ تلك المنصة، تبلغ أبعاده 104 × 98,5 سم، وعلى طرفي المجلس حاجز يرتفع حتى قاعدة القبة (قبة المحراب) بنحو 1,72 م ينتهي بعقد زخرفي مقرنص، ويبدو المجلس بتشكيله كأنه الجوسق الصغير.

... 3 ـ المعبر: يقع تحت مجلس الخطيب ويرتفع إلى علو 2,82 م، وفتحة مدخله 84 سم. يضم هذا المعبر واجهة زخرفية داخلية جميلة التصقت بجدار القبلية وعليها كتابة من الأعلى بالخط الثلث المملوكي تشير إلى من أمر

(1/7820)

بعمله.

... 4 ـ المجنّبتان: وهما تقومان يميناً وشمالاً على مثلث قائم الزاوية ارتفاعه 2,82 م وطول وتره 2,90 م وفوق خط هذا الوتر حاجز خشبي جعل على شكل متوازي المستطيلات يبلغ عرضه 60,5 سم يحيط به إطار بعرض 11,5 سم، زين بزخارف نباتية منفذة بطريقة فنية عالية مع العارضتين اللتين قسمنا الحاجز إلى ثلاثة أقسام. وهذه النقوش تماثل النقوش السائدة في العهدين الأتابكي والأيوبي.

ـ المحاريب

... تضم القبلية ثلاثة محاريب، أكبرها وأوسعها هو المحراب الأوسط. وكان هذا المحراب فيما مضى مكرّساً للشافعية؛ أما المحراب

(1/7821)

الذي يقع على اليمين، فهو مكرس للحنفية؛ والمحراب الثالث الواقع إلى الجهة اليسرى، فهو مكرس للحنابلة. كان المحراب الأوسط محراباً جميلاً مصنوعاً من الخشب النفيس، ولم تبق منه عوادي الأيام إلاّ بقايا قليلة يمكن أن تساعد على دراسته الفنية. والمحراب الحالي أقيم من الحجر البعاذيني المصقول، أقامه كافل حلب قرا سنقر الجوكندار عام 684 هـ/ 1285 م، بدلاً من المحراب الخشبي الذي أحرقه الأرمن السيسيون أحلاف التتار. يتخذ تجويف المحراب شكل نصف دائرة ويتميز بالدقة والإتقان. يقع المحراب الأيمن إلى الغرب من المحراب

(1/7822)

الأوسط، ويعرف أحياناً باسم "محراب العلمين" لوجود علمين من أعلام الطرق الصوفية على جانبيه، وهو بسيط في بنائه الحميري، عميق التجويف وعقده مدبب، ليست عليه نقوش أو كتابات. وأخيراً يقع المحراب الأيسر إلى الشرق من المحراب الأوسط، وقد بني من الرخام الأصفر البعاذيني شأنه في ذلك شأن المحراب الأوسط، وتجويفه عميق لا يحمل أي كتابة أو زخرفة.

... ـ حجرة الخطيب: تقوم هذه الحجرة إلى الغرب من المنبر، وهي صغيرة الحجم مربعة الشكل طول ضلعها 1,6 م ومخصصة لخطيب الجامع يخرج منها ليصعد المنبر ليلقي خطبته. صفحة الحجرة

(1/7823)

الخارجية مزينة بزخارف وكتابات، لها باب خشبي ذو مصراع واحد مزين بزخارف نجمية بطريقة التداخل. وقد أحيط الباب من طرفه العلوي وجانبيه بشريط كتابي بطريقة الحفر البارز وبالخط الثلث المملوكي.

... ـ الحجرة النبوية: تقع إلى يسار المحراب، وهي مربعة الشكل كسيت جدرانها الداخلية بأنواع القاشاني الجميلة، كما شبك المغلاق الخاص بالغرفة تشبيكاً جميلاً من النحاس الأصفر تعود هذه الحجرة تاريخياً إلى العصر العثماني وهي تتساوق مع باقي نواحي القبلية روعة وفنّاً. هناك دفين في الحجرة تضاربت الآراء حوله: فهناك من يقول

(1/7824)

إن الدفين هو رأس النبي يحيى بن زكريا؛ وهناك من يعتقد أن الدفين هو النبي زكريا نفسه.

... ـ المقصورات: كانت توجد في قبلية الجامع الأموي بحلب ثلاث مقصورات: اثنتان منها تعودان إلى العصر المملوكي؛ وتعود الثالثة إلى العهد العثماني؛ ذكرها هرتزفيلد وعدّد أسماءها، وذكر مواقعها وهي: مقصورة الوالي ومكانها بين العضادتين الرابعة والخامسة من الصفين الأول والثاني؛ ومقصورة قرا سنقر، وتقع بين العضادتين السادسة والسابعة من الصف الأول؛ والمقصورة الثالثة هي مقصورة القاضي، وكانت تقوم على الطرف الغربي للباب الجنوبي

(1/7825)

في قبلية الجامع إلى جانب الدرج. من المؤسف أن تلك المقاصير لم يعد لها وجود في قبلية الجامع بعد أن أزيلت نتيجة للأعمال التي تمت بالمسجد مؤخراً.

... ـ السدّة: كانت في قبلية الجامع. ذكرها الشيخ كامل الغزي في كتاب "نهر الذهب". ويقول إنها كانت موجودة فيما بين العضادة التاسعة والعاشرة من الصف الثالث؛ وكانت مجموعة على أربعة أعمدة من الخشب على بابها كتابة تدشينية، إلا أنها أزيلت واستبدلت بالسدة الحالية. وترتفع هذه السدة فوق المدخل الأوسط للقبلية بين الدعامتين التاسعة والعاشرة من الدعامات التي التصقت

(1/7826)

بالجدار الشمالي للقبيلة أمام المحراب الأوسط الكبير. وفي الصف الرابع من الدعامات يؤدي درج حلزوني إلى السدة، وتبلغ أطوالها 5,75 م × 4,20 م. ويبدو أن هذه السدة تعود إلى مطلع هذا القرن بعد عام 1242 هـ/ 1923 م، أي بعد طباعة الغزي لكتابه "نهر الذهب"، خاصة الجزء الثاني.

... ـ الحجاوية: تقوم هذه الحجازية في الركن الشمالي الشرقي للجامع. ويمكن الوصول إليها من الصحن في الزاوية الشمالية الشرقية، ومن باب آخر في الباب الشمالي. ويذكر أبو ذر سبط بن العجمي في كتابه "كنوز الذهب" أنها سميت بالحجازية، لأنها كانت

(1/7827)

منزل أهل الحجاز. وهناك رأي آخر مفاده أن امرأة حجازية أقامتها من مالها لتكون خاصة بالنساء لأداء الصلاة.

... ـ الأروقة: للجامع ثلاثة أروقة في جهاته الشمالية والشرقية والغربية نفذت بطريقة الغمس محمولة على دعائم حجرية ضخمة وكلها تطل على الصحن. ويضم الرواق الشمالي الميضأة التي تستمد من القسطل ماءها، وفوق القسطل نص كتابي يتألف من ثلاثة أسطر تشير إلى منشئه. وكان يضم مدخل المدرسة العشائرية أو دار القرآن العشائرية التي لم يبق منها غير الباب. أما الرواق الغربي المحيط بالصحن، فيتألف من عشرة عقود: أحدهما

(1/7828)

هو مدخل الباب الغربي، وهو حديث البناء، بني مع الباب الشمالي استكمالاً لطرازه. ويظن أنه جاء بديلاً عن باب يعود إلى أواخر العهد العثماني نحو عام 1200 هـ/ 1882 م في عهد جميل باشا والي حلب بعد أن حصل على إذن من الأستانه بنقض الرواق القديم لتوهنه؛ وهناك صفراء عثمانية تعلو الباب من الخارج.

... يضم هذا الرواق سبيل الماء الحمري ليشرب فيه المصلون. وقد أقيم هذا السبيل بسعي مدير الأوقاف الإسلامية بحلب السيد يحيى الكيالي. في عام 1241 هـ/ 1922 م. ويتألف الرواق الشرقي من رواقين متتاليين، تضم غرفاً صغيرة

(1/7829)

لسدنة الجامع والمشرفين عليه؛ ويقوم على ستة عقود. وهناك عقد سابع اتخذ مدخلاً لباب الجامع الشرقي. واجهة القبلية: إلى الجنوب من صحن الجامع، تظهر القبلية بواجهتها الجميلة وبزخارفها ونقوشها وقد توزعتها أقواس متتالية مؤلفة من خمسة عشر عقداً. في وسط تلك العقود مدخل القبلية، وهو غاية في دقة الصنعة. ويقوم على جانبي المدخل عقدان قد سدّا ليكونا نافذتين تستمد القبلية نورها منهما. وتوجد كثير من النصوص الكتابية فوق ساكف المدخل نفذت بطريقة الحفر النافر.

(1/7830)

... يقول محمد فارس بأن المدخل الأوسط للقبلية يعود إلى الفترة المملوكية، على الرغم من وجود الكتابات العثمانية، معتمداً على أن ما جرى في العهد العثماني إنما هو ترميم لجدار القبلية وصيانة له، وليس إحداثاً جديداً كما يرد في عبارة على مخطوط أبي ذر صاحب "كنوز الذهب".

... نجد في صحن الجامع حوضاً كبيراً سداسيّ الشكل تحت الظلة التي فوقها قبة تستند إلى أعمدة رخامية. ويستخدم هذا الحوض للوضوء. وقد أقيم عام 1203هـ/ 1884 ـ 1885 م تجديداً لحوض سابق، يتوسط الحوض جرن صغير حديث الصنع انبثقت عنه نافورة. ويبدو أن

(1/7831)

الجرن الصغير قد ذهب عندما استبدل بالجرن الحالي. وفي الطرف الجنوبي يوجد سبيل ماء يخرج منه الماء. وشيد هذا السبيل عام 1242 هـ/ 1924 م تجديداً لسابق قديم؛ وهناك مصطبة حجرية ترتفع قليلاً عن أرضية الصحن يحيط بها حاجز حجري ويستخدمها المؤذنون والمنشدون عندما تضيق القبلية بالمصلين؛ كذلك هناك مزولة تعرف بالبسيط تقوم على عمود حجري، وفي أعلاه فوهة يثبت عليها البسيط أو المزولة. وفي الرواق الشمالي توجد مزولة شمسية، وهي على لوحة مرمرية منفذة بطريقة الحفر، وقد علقت على جدار الرواق، تحدد ساعات النهار وأوقات

(1/7832)

الصلاة.

... ـ مظاهر الجامع: هناك عدد من المظاهر يصل عددها إلى أربعة مظاهر، بعضها يقع في الأسواق المجاورة؛ وبعضها داخل الجامع ذهب بمضي هذه المظاهر الآن وأقيم في بعض أمكنتها مساجد صغيرة أو إضافات ضرورية للجامع.

ـ صيانة الجامع وترميمه

... إن الصيانة والترميم والزيادة كانت تحدث بالجامع الأموي الكبير باستمرار، فهو أهم معلم ديني بالمدينة خاصة وفي سوريا عامة. وقد حرص الحلفاء والسلاطين والنواب والولاة، كل في زمانه، على أن يظل هذا الجامع مسجداً جامعاً عامراً في كل العصور؛ كذلك كانت صيانة الجامع

(1/7833)

والعناية به تمتد إليه كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فبعد كل حريق أو تدمير أو هجر ـ كما لاحظنا ـ كانت النفوس الحرة تسارع إلى التعاضد مع السلطة أو مع نفسها لترميم الجامع أو صيانته أو تعميره، كيف لا وهو أهم بناء أثري يزهو به المسلمون على جيرانهم البيزنطيين. فبعد حريق الجامع زمن نور الدين محمود، سارع إلى ترميم الجامع وتوسعته كما مر معنا. وكذلك بعد الحريق الذي ألحقه هولاكو وأنصاره من السيسيّين الأرمن، سارع المماليك إلى تعمير الجامع وترميمه وجعله جامعاً فخماً يتناسب وغنى الدولة المملوكية وعظمتها. ولم

(1/7834)

يتوان العثمانيون عن الاهتمام بالمسجد الجامع حتى آخر أيامهم، حيث ظلوا يباشرون أعمال الترميم والصيانة والقيام بالإضافات التي تتناسب مع أهمية المدينة وتطورها الاقتصادي والاجتماعي. كما لم تتقاعس دائرة الأوقاف الإسلامية، إبان الانتداب الفرنسي، عن مباشرة الإصلاحات الضرورية فيه. وإبان الحكم الوطني، قامت أعمال صيانيّة كثيرة توخت المحافظة على الجامع كي يستطيع أن يقوم بوظيفته خير قيام. آخر تلك المحاولات جرت مؤخراً عندما حاولت تقوية الجامع من الداخل رغبة في تقوية البناء وتلقيحه بالرخام. إلا أن الجهات

(1/7835)

الأخرى بالمدينة التي تعنى بالتراث الإسلامي، وخاصة الجامعة وكليتي الهندسة المعمارية والمدنية ومديرية الآثار والمتاحف ونقابة المهندسين وجمعية العاديات تدخلت، محاولة تصحيح العمل وتنهيج مساره ضماناً للمحافظة على تراث الجامع الإسلامي المعماري وتقويته. وهذا ما رحبت به مديرية الأوقاف الإسلامية. ورغبة في تنسيق الجهود وتأطيرها، قام السيد محافظ حلب بإصدار عدة قرارات بتأليف لجان فنية وإدارية لدراسة وضع الجامع بشكل شامل، فقامت لجان بدراسة البنية التحتية تتعلق بمجاري المياه المالحة وتمديدات مياه الشرب وأثر

(1/7836)

دخلة العبارات الموجودة تحت أقبية الجامع، كما درست اللجان الفنية الأخرى أهمية الجامع التاريخية والأثرية والمعمارية والتراثية ووضعت تقارير الجدوى والتكلفة، توطئةً للقيام بعمل فني متقن ومفيد. وقد قام السيد المحافظ بعقد عدة اجتماعات لتلك اللجان ووقف على سير أعمالها والنتائج التي آلت إليها تلك الأعمال لمتابعة تنفيذها. كذلك استقدمت مديرية الأوقاف بالاتفاق مع السيد المحافظ أحد الخبراء الدوليين في ترميم المباني التاريخية من جمهورية مصر العربية الذي اطلع على بناء الجامع التاريخي وشخص أسباب التآكل فيه

(1/7837)

وقدم الاقتراحات اللازمة، كما قام خبراء جامعة حلب بالتعاون مع أحد الخبراء الفرنسيين بتقديم مشورتهم حول الميل الحاصل في مئذنة الجامع (40 ـ 50 م)؛ وكذلك شخصت الأمراض التي لحقت بحجارة بناء الجامع ونسبة الرطوبة والميل الحاصل في بعض جدرانه وصنعت التقارير مشخصة الداء ومقترحة الدواء.

... من المتوقع أن يباشر المعنيون بترميم الجامع وصيانته الأعمال التنفيذية في وقت قصير، حالما تكتمل هيكلة الجهاز الفني والإداري الذي سيشرف على المشروع وتتوافر الاعتمادات المالية اللازمة.

(1/7838)

... وهكذا، فإن هذه الآبدة الخالدة خلود مدينة حلب، والتي تتمثل فيها عمارة وفنون كل العصور التي مرت عليها منذ العهد السلجوقي حتى وقتنا الحاضر، وربما قبل ذلك. فلكل عصر من العصور التي مرت منذ ذلك الزمن شاهد معماري أو فني يتمثل في إضافة أو ترميم أو صيانة أو نص كتابي ـ تلك الشواهد الهامة مجتمعة مع الأهمية التاريخية للجامع والمتمثلة في الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية شكلت أهمية هذا الجامع وأمدته بعناصر استمرار الحياة وأكسبته تقدير واحترام الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل، ومنها جيلنا الحالي

(1/7839)

وبكل تأكيد الأجيال المقبلة بإذن الله.

المصادر والمراجع

... ابن جبير، الرحلة، دار صادر ودار بيروت، 1384 هـ/ 1964 م.

... ابن شداد، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق دومنيك سورويل، المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1952. القسم الأول، الجزء الأول.

... ابن الشحنة، الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب، تحقيق يوسف بن الباب سركيس، بيروت، 1909.

... ابن العديم، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق الدكتور سامي الدهان، المعهد الإفرنسي، دمشق، 1951.

(1/7840)

... أبو ذر سبط بن العجمي، كنوز الذهب في تاريخ حلب، مجلدان، تحقيق الدكتور شوقي شعث والمهندس فالح بكور، نشر دار العلم العربي، حلب، 1998.

... الريحاوي، عبد القادر، العمارة العربية الإسلامية خصائصها وآثارها في سورية، وزارة الثقافة، دمشق 1989.

... شعث، شوقي، حلب تاريخها ومعالمها التاريخية، جامعة حلب، ط. 1، 1971؛ وط . 2، 1991.

... طلمس، أسعد، الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب، منشورات مديرية الآثار العامة، مطبعة الشرقي، 1956.

(1/7841)

... الطباخ، محمد راغب، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، ط. 1، المطبعة العلمية، 1929؛ وط 2، دار العلم العربي بحلب في ثمانية مجلدات.

... الغزي، الشيخ كامل، نهر الذهب في تاريخ حلب، مجلدان، طبع ونشر دار العلم العربي؛ وطبع للمرة الأولى في المطبعة المارونية بحلب عام 1342 هـ.

Herzfeld, E. Inscriptions et monuments d’Alep.

Sauvager, J., Alep, Text et albut, Paris, 1948.

(1/7842)

تطور المذهب الحنفي بالقيروان خلال القرون الوسطى

الأستاذ نجم الدين الهنتاتي

المعهد الأعلى للحضارة الإسلامية جامعة الزيتونة - تونس

تقديم

... بالرغم من أن المذهب الحنفي بالقيروان لم يكن محل دراسة علمية مستقلة، فقد كان تاريخه محل اختلاف بين الباحثين. اختلفوا في أول من أدخله إلى إفريقية، وبالتالي في تاريخ دخوله إليها؛ اختلفوا في مدى سيطرته عليها؛ اختلفوا كذلك في أسباب تراجعه وبالتالي تلاشيه أمام توسع انتشار المذهب المالكي.

(1/7843)

... يعود هذا الاختلاف أساسا إلى نوعية المصادر التي اعتمد عليها هؤلاء الباحثون، نعني أساسا كتب طبقات علماء المالكية. فهي تتناول المذهب الحنفي بصفة عرضية، ومن زاوية تريد من خلالها تمجيد المذهب المالكي، وبالتالي استنقاص الحنفية بصفتهم منافسين للمالكية. فالحنفية، كما تصورهم تلك الكتب، يمثلون الأرستقراطية المتعاملة مع السلطان، سواء كان ذلك في العهد الأغلبي أو في العهد الفاطمي، وبالتالي هم صنائعه، تبنوا دون صعوبة تعاليم المذاهب "المبتدعة" سواء معتزلية كانت أو شيعية. هم أيضا قليلو العلم. كل هذا طبعا

(1/7844)

بخلاف المالكية.

... ما مدى صحة هذه التهم؟ هل عرف انتشار المذهب الحنفي بالقيروان توسعا؟ وإن كان هذا، ما حدوده الزمنية؟ ثم ما أسباب انتشاره بها وفي الأخير بماذا نفسر تراجعه أمام المذهب المالكي؟

I – دخول المذهب الحنفي إلى القيروان وسيطرته بها إلى منتصف القرن 3هـ/9م.

... دخول المذهب الحنفي إلى إفريقية

... تنسب بعض المصادر إدخال المذهب الحنفي إلى إفريقية إلى أسد بن الفرات (ت213هـ/828م)(1)

__________

(1) المقدسي، "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، تحقيق دي خويه، ليدن، مطبعة بريل، 1906، ط2، ص.237؛ على أن المصادر تخلفط أحيانا بين عبارتي القيروان وإفريقية.

(1/7845)

. وقد سلم بعض الباحثين بذلك مثل أحمد بكير والحبيب الجنحاني(1)، بالرغم من وجود من سبق أسد في هذا الشأن. أما فندرهايدن، فقد انفرد بإرجاع ذلك إلى أحد المشارقة وهو عبد الله بن المغيرة الكوفي(2)، الذي قدم إلى إفريقية في تاريخ مجهول. في حين أن جل

__________

(1) A. Békir, Histoire de l'école malikite en Orient…, Tunis, 1962, p.31؛ الحبيب الجنحاني، "القيروان عبر عصور ازدهار الحضارة الإسلامية…"، تونس، 1968، صص.158-159.

(2) M. Vonderheyden, La Berbérie orientale sous les Banu'l Arlab 800-909, Paris, 1927, p.140.

(1/7846)

المصادر تنسب ذلك إلى عالمين إفريقيين هما عبد الله بن فروخ الفارسي (ت حوالي 185هـ/801م) تلميذ أبي حنيفة (ت150هـ/767م)، وعبد الله بن غانم (ت190هـ/805م)؛ وهو الرأي الأصوب. وقد قدمه كل من حسن حسني عبد الوهاب وهند شلبي(1).

... أما القاضي عياض، فقد أكد أن المذهب الحنفي غلب على إفريقية إلى أن دخل إليها علي بن زياد (ت183هـ/799م) وابن أشرس والبهلول بن راشد بمذهب

__________

(1) حسن حسني عبد الوهاب، "الإمام المازري"، تونس، د.ت.، صص.22-23؛ هند شلبي، "القراءات بإفريقية"، ليبيا-تونس، الدار العربية للكتاب، 1983، ص.213.

(1/7847)

مالك بن أنس (ت179هـ/795م) (1). وهذا يعني أن المذهب الحنفي سيطر بإفريقية، ولا سيما القيروان في فترة ما، ثم تراجع ذلك المذهب حوالي سنة 150هـ/767م تاريخ دخول ابن زياد بـ"موطإ" مالك إلى إفريقية. ولئن صح هذا الخبر في جزئه الأول، فهو قابل للنقاش في جزئه الثاني.

... فمن المعروف أن ابن زياد استقر بمدينة تونس، وهناك أخذ في التعريف بفقه مالك، مما جعل أهل هذه المدينة يبادرون بصفة مبكرة بتقديم تعاليم مالك(2)

__________

(1) القاضي عياض، "ترتيب المدارك…"، تحقيق أحمد بكير، بيروت، طرابلس، 1387هـ/1967م، ج1، ص.54.

(2) اظر مقالنا "تاريخ المذهب المالكي بمدينة تونس في القرون الوسطى". ورد هذا تحت مادة "مذهب" في "موسوعة مدينة تونس" التي نسبها توفيق البشروش إلى نفسه وأصدرتها المطبعة الرسمية بتونس سنة 1999.

(1/7848)

. أما القيروان فيبدو أن أهلها آنذاك ظلوا يعيشون نوعا من التشتت المذهبي.

... فالعالمان المشهوران بها آنذاك هما عبد الله بن فروخ وعبد الله بن غانم. كلاهما أخذ العلم عن أئمة المذهب الحنفي بالكوفة، كما سمعا من مالك بن أنس. وعندما اجتمع حولهما الطلبة بالقيروان، درسا المذهبين الحنفي والمالكي؛ وعندما أفتيا، كانت فتاويهما على هذين المذهبين. وهذا يعني أن القيروان مرت آنذاك بمرحلة من التعايش المذهبي: تعايش بين المذهب الحنفي والمذهب المالكي.

(1/7849)

... إلا أنه يبدو أن المذهب الحنفي بالقيروان، دخل منعرجا جديدا على أثر وفاة هذين العالمين. وقد كان لأسد بن الفرات دور حاسم في هذا التحول.

سيطرة المذهب الحنفي بالقيروان إلى منتصف القرن 3هـ/9م: الأسباب والمظاهر:

... بعد اتصال أسد بمالك في المدينة، تفرغ للسماع من محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ/804م) بالكوفة، ثم ساءل عبد الرحمان بن القاسم بالفسطاط حول مسائل "المدونة" التي أصبحت تعرف فيما بعد بـ"الأسدية". وبهذه الموسوعة الفقهية عاد إلى القيروان سنة 181هـ/797م، فنال بفضلها هناك شهرة واسعة. وبسبب خلافه

(1/7850)

مع سحنون بن سعيد (ت240هـ/854م) وابن القاسم حول تلك الموسوعة، انتهى بالتحيز للمذهب الحنفي بصفة نهائية.

... ساهمت هذه المعطيات في ارتقائه إلى وظيفة القضاء بالقيروان سنة 203هـ/818م، فتوافرت الحظوظ لمزيد انتشار المذهب الحنفي. فقد نسب المقدسي فشو ذلك المذهب بالمغرب إلى أسد(1). أما المقريزي، فقد ربط بين ولاية أسد القضاء وتغليب المذهب الحنفي بإفريقية(2). وهذا يعني أن ذلك المذهب بدأ في السيطرة هناك منذ أوائل القرن

__________

(1) المقدسي، المصدر نفسه، ص.237.

(2) المقريزي، "الخط"، مصر، 24-1325هـ/1907م، ج4، ص.144.

(1/7851)

3هـ/9م. وإذا علمنا من جهة أخرى أنه كانت لأسد مساهمة حيوية في تدوين المذهب الحنفي، وفي إدخال كتب الشيباني إلى القيروان، يمكن أن نفهم مدى خطورة الدور الذي لعبه أسد في تاريخ المذهب الحنفي بالقيروان.

... فقد ذكر القاضي عياض أن ابن فروخ أدخل إلى إفريقية حوالي 10.000 مسألة غير مدونة عن أبي حنيفة، وأتى أسد ليدون جزءا منها في "مدونتـ"ـه.

... ساعدت عوامل أخرى على انتشار المذهب الحنفي بالقيروان، نذكر منها تقديم الأغالبة لذلك المذهب منذ عهد زيادة الله الأول (201-223هـ/817-838م)، مقلدين في ذلك أسيادهم

(1/7852)

العباسيين. فقد ميز العباسيون هذا المذهب منذ ولاية أبي يوسف القضاء ببغداد بعد سنة 170هـ/786م. وكان أبو يوسف "لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية إلا أصحابه المتهيئين إلى مذهبه"(1). وقد عين عبد الله بن غانم قاضيا على القيروان سنة 171هـ/787م بإشارة من أبي يوسف، مما ساهم في نشر المذهب الحنفي بإفريقية، بالرغم من أن ابن غانم يدخل في إطار مرحلة التعايش بين المذهبين الحنفي والمالكي.

(2)

__________

(1) السيوطي، "تزيين الممالك…"، المطبعة الخيرية، 1325هـ/1097م، ط1، ص.56.

(1/7853)

المصادر والمراجع

أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة، تأليف د.محمد ابن شريفة، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م.

الإحاطة في اخبار غرناطة (مج 1)، لابن الخطيب، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه محمد بن عبد الله عنان، ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1393هـ-1973م.

الإحاطة في اخبار غرناطة (مج 2،3،4)، لابن الخطيب، تحقق محمد بن عبد الله عنان، ط1، الشركة المصرية للطباعة والنشر، 1394، 1396، 1397هـ/1974، 1975، 1977م.

(1/7854)

إحكام صنعة الكلام، لأبي القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي الإشبيلي الأندلسي، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الثقافة، بيروت، 1966م.

إحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد الباجي، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد المجيد تركي، ط1، دار الغرب الإسلامس، بيروت، 1407هـ/1986م.

أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، ط3، دار المعرفة، بيروت، 1392هـ/1972م.

أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، تأليف أبي بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيدق، حققه عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة

(1/7855)

والوراقة، الرباط، 1971م.

اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار، تأليف محمد بن القاسم الأنصاري السبتي، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط2، الرباط، 1403هـ/1983م.

ارتشاف الضرب من لسان العرب، لأبي حيان، تحقيق وتعليق د.مصطفى أحمد النماس، ط1، 1404هـ/1984م.

أزهار الرياض في أخبار عياض، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني حقق الأجزاء الثلاثة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، وحقق الجزء الرابع سعيد أعراب ومحمد بن تاويت، والجزء الخامس د.اعبد السلام الهراس وسعيد أعراب، مطبعة فضالة،

(1/7856)

1399هـ/1978م.

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت.

الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف العباس ابن إيراهيم السملالي، راجعه عبد الوهاب بن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1413هـ/1993م.

إفادة النصيح بالتعريف بسند الجامع الصحيح، لابن رشد السبتي الفهري الأندلسي، تحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، د.ت.

الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا

(1/7857)

ود.حامد عبد المجيد، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1981.

الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، ومكتبة الهلال، بيروت، 1387هـ/1968م.

الإكسير في فكاك الأسير، لمحمد بن عثمان المكناسي، حققه وعلق عليه الأستاذ محمد الفاسي، مطبعة أكدال، الرباط، 1965.

الإلماع إلى معرفة أحوال الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض، تحقيق السيد أحمد صقر، ط2، دار التراث بالقاهرة والمكتبة العتيقة بتونس، د.ت.

(1/7858)

الإملاء المختصر في شرح غريب السير، لأبي ذر مصعب بن أبي بكر محمد بن مسعود الخشني، تحقيق ودراسة د.عبد الكريم خليفة، ط1، دار البشير، عمان، 1412هـ/1991م.

انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك، لشمس الدين محمد بن محمد الراعي الأندلسي، تحقيق محمد أبو الأجفان، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981م.

أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب، لأبي محمد بن أحمد القيسي السراج، حققه وقدم له وعلق عليه محمد الفاسي، فاس، 1388هـ/1968م.

(1/7859)

أنس الفقير وعز الحقير، لابن قنفذ القسنطيني، اعتنى بنشره وتصحيحه محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965.

أوصاف الناس في التواريخ والصلات، لابن الخطيب، تحقيق ودراسة د.كمال شبانة، صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطبعة فضالة، 1977م.

إيضاح شواهد الإيضاح، لأبي علي الحسن بن عبد الله القيسي، دراسة وتحقيق د.محمد بن محمود الدعجاني، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408هـ/1987م.

البحث الأدبي، للدكتور شوقي ضيف، ط4، دار المعارف، 1979م.

(1/7860)

بدائع السلك في طبائع الملك، لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي:

أ-تحقيق وتعليق د.علي سامي النشار، 1975م-1976م.

ب- دراسة وتحقيق د.محمد بن عبد الكريم، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، 1976م.

برنامج الوادي آشي، محمد بن جابر، تحقيق محمد محفوظ، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1400هـ/1980م.

البسيط في شرح جمل الزجاجي، لابن أبي الربيع عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله القرشي الإشبيلي السبتي. تحقيق ودراسة د.عياد بن عيد الثبيتي، ط1، دا الغرب الإسلامي، 1407هـ/1986م.

(1/7861)

بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، للقاضي عياض، تحقيق صلاح الدين بن أحمد الإدلبي وصاحبيه، ط2، مطبعة فضالة، المحمدية، 1982م.

بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تأليف أبي زكريا يحيى ابن خلدون، المكتبة الوطنية، الجزائر، 1400هـ/1980م.

بقي بن مخلد القرطبي ومقدمة مسنده (عدد ما لكل واحد من الصحابة من الحديث)، دراسة وتحقيق د.أكرم ضياء العمري، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب، لمؤلف مجهول، تحقيق

(1/7862)

عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1404هـ/1984م.

بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، وتأليف أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق محمد مرسي الخولي، ومراجعة د.عبد القادر القط، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دار الجيل للطباعة، القاهرة، 1967م.

البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة، لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، تحقيق د.محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1404هـ/1984م.

(1/7863)

تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، تأليف خالد بن عيسى البلوي الأندلسي، نشر وتحقيق الحسن السائح، 1964م.

تاريخ افتتاح الأندلي، لابن القوطية القرطبي:

أ - حققه وشرحه وعلق عليه وقابله عى مخطوطتي باريس ومدريد وقدم له عبد الله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت، 1958م.

ب - حققه وقدم له ووضع فهارسه إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1400هـ/1980م.

تاريخ الضعيف الرباطي، لمحمد بن عبد السلام بن أحمد بن محمد الرباطي:

(1/7864)

أ - تحقيق وتعليق وتقديم الأستاذ أحمد العماري، ط1، دار المأثورات، 1406هـ/1986م.

ب - دراسة وتحقيق، الأستاذ محمد البوزيدي الشيخي، ط1، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1408هـ/1988م.

تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد الحطاب، تحقيق عبد السلام محمد الشريف، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1404هـ/1984م.

تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، لأبي حامد الأندلسي الغرناطي، تحقيق إسماعيل العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989م.

(1/7865)

تحقيق النصوص ونشرها، تأليف عبد السلام هارون، ط5، مكتبة السنة، 1410هـ.

تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والمعاملات الشرعية، لعلي بن محمد ابن مسعود الخزاعي، تحقيق د.إحسان عباس، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/1985م.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض:

أ - عارضه بأصوله وعلق حواشيه وقدم له محمد بن تاويت الطنجي، الرباط، 1965م.

(1/7866)

ب - تحقيق د.أحمد بكير محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، ودار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا، 1387هـ/1967م.

تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، لابن رشد:

أ - تحقيق وتعليق د.محمد سليم سالم، القاهرة، 1361هـ/1971م.

ب - تحقيق د.تشارلس بترورث ود.أحمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.

تلخيص منطق أرسطو، لابن رشد، تحقيق جيرار جهامي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1982م.

التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر النمري الأندلسي، حققه وعلق حواشيه وصححه مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد

(1/7867)

الكبير البكري، ط2، 1402هـ/1982م.

التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، لأبي المطرف أحمد ابن عميرة، تقديم وتحقيق محمد ابن شريفة، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1412هـ/1991م.

ثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي الوادي آشي، دراسة وتحقيق د.عبد الله العمراني، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403هـ/1983م.

جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، لعلي الجزنائي، تحقيق عبد الوهاب ابن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1411هـ/1991م.

(1/7868)

حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، للوزير أبي القاسم بن محمد بن إبراهيم الغساني، حققه وعلق حواشيه ووضع فهارسه محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/1985م.

الحلل السندسية في الأخبار التونسية، لمحمد بن محمد الأندلسي الوزير السراج، بتحقيق محمد الحبيب الهيلة، دار الكتب الشرقية، 1973، ودار الغرب الإسلامي، 1984م.

درة الحجال في أسماء الرجال، لأبي العباس أحمد بن محمد المكناسي (ابن القاضي)، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، والمكتبة العتيقة، تونس، 1390هـ/1970م.

(1/7869)

درة الغواص في محاضرة الخواص، لبرهان الدين ابراهيم بن فرحون المالكي، تقديم وتحقيق وتعليق محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، دار التراث بالقاهرة والمكتبة العتيقة بتونس، 1979م.

درر السمط في خبر السبط، لابن الأبار الأندلسي:

أ - تحقيق وتقديم د.عبد السلام الهراس وسعيد أعراب، تطوان، 1972م.

ب - تحقيق عز الدين عمر موسى، دار الغرب الإسلامي، 1407هـ/1987م.

ديوان أبي إسحاق الألبيري الأندلسي، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1396هـ/1976م.

(1/7870)

ديوان الأمى التطيلي، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1963م.

ديوان الأمير أبي الربيع سليمان بن عبد الله الموحد، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي ومحمد بن العباس القباج، وسعيد أعراب، ومحمد بن تاويت التطواني، المركز الجامعي للبحث العلمي، د.ت.

ديوان حازم القرطاجني، تحقيق عثمان الكعاك، دار الثقافة، بيروت، د.ت.

ديوان ابن حمديس، صححه وقدم له د.إحسان عباس، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1379هـ/1960م.

ديوان ابن خاتمة الأنصاري، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، 1399هـ/1978م.

(1/7871)

ديوان ابن خفاجة، تحقيق د.سيد غازي، ط2، منشأة المعارف، الإسكندرية، د.ت.

ديوان ابن دراج القسطلي، حققه وعلق له د.محمود علي مكي، ط2، المكتب الإسلامي، 1389هـ.

ديوان الرصافي البلنسي، لأبي عبد الله محمد بن غالب، جمعه وقدم له د.إحسان عباس، ط2، دار الشروق، بيروت والقاهرة، 1403هـ/1983م.

ديوان ابن الزقاق البلنسي، تحقيق عفيفة محمود ديراني، دار الثقافة، بيروت، 1964م.

ديوان ابن زيدون ورسائله، شرح وتحقيق علي عبد العظيم، دار نهضة مصر، القاهرة، 1374هـ/1955م.

(1/7872)

ديوان ابن شهيد الأندلسي، جمعه وحققه يعقوب زكي وراجعه د.محمود علي مكي، دار الكاتب العربي، القاهرة، د.ت.

ديوان ابن عبد ربه، جمعه وحققه وشرحه د.محمد رضوان الداية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979م.

ديوان ابن فركون، تقديم وتعليق محمد بن شريفة، ط1، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1407هـ/1987م.

ديوان لسان الدين بن الخطيب السلماني، صنعه وحققه وقدم له د.محمد مفتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1988م.

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لان بسام الشنترني، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1979م.

(1/7873)

الرحلة الحجازية، لمحمد السنوسي، تحقيق علي الشنوفي، الشركة التونسية للتوزيع، 1396هـ/1976م.

الرحلة الحجازية، للفقيه الحافظ محمد بن محمد المختار الولاتي، تخريج وتعليق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

رحلة العبدري (الرحلة المغربية)، لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الحيحي، حققه وقدم له وعلق عليه محمد الفاسي، الرباط، 1968م.

رحلة القلصادي، لأبي حسن علي القلصادي الأندلسي، دراسة وتحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م.

(1/7874)

رسائل أبي علي اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة فاطمة خليل القبلي، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1401هـ/1981م.

الرسالة الفقهية، للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، إعداد د.الهادي حمو ود.محمد أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م.

روضة التعريف بالحب الشريف، لابن الخطيب، عارضه بأصوله وعلق حواشيه وقدم له محمد الكتاني، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1970م.

روضة النسرين في دولة بني مرين، لاسماعيل ابن الأحمر، بتحقيق عبد الوهاب ابن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1411هـ/1991م.

(1/7875)

الروض المريع في صناعة البديع، لابن البناء المراكشي، تحقيق رضوان بنشقرون، ط1، دار النشر المغربية، البيضاء، 1985م.

ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، لابن الخطيب، حققه ووضع مقدمته وشواهده محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1980م.

زهرة الأكم في الأمثال والجكم، للحسن اليوسي، حققه د.محمد حجي ود. محمد الأخضر، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1401هـ/1981م.

شرح عيون كتاب سيبويه، لأبي نصر هارون بن موسى القيسي المجريطي القرطبي، دراسة وتحقيق د.عبد ربه اللطيف عبد ربه، ط1، مطبعة حسان، القاهرة، 1404هـ/1984م.

(1/7876)

شرح المشكل من شعر المتنبي، لعلي بن إسماعيل بن سيده، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا ود. حامد عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976م.

شرف الطالب في أسنى المطالب، لأحمد ابن قنفذ، تحقيق محمد حجي (ضمن كتاب "ألف سنة من الوفيات")، الرباط، 1396هـ/1976م.

شفاء السائل لتهذيب المسائل، أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، نشره وعلق عليه الأب أغناطيوس عبده خليفة اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م.

(1/7877)

الشهب اللامعة في السياسة النافعة، لأبي القاسم ابن رضوان المالقي، تحقيق د.علي سامي النشار، ط1، دار الثقافة، بيروت، 1404هـ/1984م.

صلة الخلف بموصول السلف، لمحمد بن سليمان الروداني، تحقيق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، 1408هـ/1988م.

ضرائر الشعر، لابن عصفور الإشبيلي، 1980م.

طبقات الأطباء والحكماء، لأبي داود سليمان بن حسان الأندلسي (ابن جلجل)، تحقيق فؤاد سيد، ط.2، مؤسسة الرسالة، 1405هـ/1985م.

طبقات الأمم، لصاعد الأندلسي، تحقيق حياة بوعلوان، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1985م.

(1/7878)

طوق الحمامة في الألفة والألاف، لابن حزم الأندلسي:

أ - ضبط نصه وحرر هوامشه د.الطاهر أحمد مكي، دار المعارف، 1975م.

ب - حققه وقدم له صلاح الدين القاسمي، ط3، الدار التونسية للنشر، 1988م.

عمدة الطبيب في معرفة النبات، لأبي الخير الإشبيلي، قدم له وحققه وأعاد ترتيبه محمد العربي الخطابي، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1990م.

العمدة في غريب القرآن، لأبي مكي بن أبي طالب القيسي، حققه وعلق عليه وخرج نصه د.يوسف عبد الرحمان المرعشلي، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

(1/7879)

العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيراواني، تحقيق محمد قرقزان، ط1، دار المعرفة، بيروت، 1408هـ/1977م.

الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة، لابن سعيد الأندلسي، تحقيق إبراهيم الإبياري، ط3، دار المعارف، 1977م.

الغنية: فهرست شيوخ القاضي عياض، تحقيق ماهر زهير جرار، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1402هـ/1982م.

فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، تقديم وتحقيق وجمع وتعليق د.المختار بن الطاهر التليلي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1407هـ/1987م.

(1/7880)

فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، لأبي عبد الله البرتلي الولاتي، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1401هـ/1981م.

فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان، لابن رزين التجيبي، حققه وقدم له محمد بن شقرون، وأشرف على إعداده د.إحسان عباس، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984م.

فيض العباب وإفاضة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسنطينة والزاب، لابن الحاج النميري، دراسة وإعداد د.محمد ابن شقرون، 1984م.

(1/7881)

قصائد ومقطعات، صنعة أبي الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، الدار التونسية للنشر، د.ت.

كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، لكاتب مراكشي من كتاب القرن السادس الهجري، نشر وتعليق د. سعد زغلول عبد الحميد، دار النشر المغربية، البيضاء، 1985م.

كتاب التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر من أخبار وأعيان المائة الحادية والثانية عشر، لمحمد بن الطيب القادري، دراسة وتحقيق هاشم العلوي القاسمي، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401هـ/1981م.

(1/7882)

كتاب بسط الأرض في الطول والعرض، لابن سعيد المغربي، تحقيق د.خوان قرنيط خينيس، تطوان، معهد مولاي الحسن، 1958م.

كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، لأبي عبد الله محمد بن الكتاني الطيب، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1966م.

كتاب الجامع، لأبي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، صححه وقدم له وعلق عليه محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، والمكتبة العتيقة، تونس، 1982م.

كتاب جامع العبارات في تحقيق الاستعارات، لأحمد مصطفى الطرودي التونسي، دراسة وتحقيق د.محمد رمضان الجربي، ط1، الدار

(1/7883)

الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراتة، 1986م.

كتاب الحدود في الأصول، لأبي الوليد الباجي الأندلسي، تحقيق نزيه حماد، ط1، مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر، بيروت وحمص، 1392هـ/1973م.

كتاب الحلة السيراء، لابن الأبار، حققه وعلق جوانبه د.حسين مؤنس، الشركة للطباعة، القاهرة، د.ت.

كتاب الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، لمؤلف أندلسي من أهل القرن الثامن الهجري، حققه د.سهيل زكار والأستاذ عبد القادر زمامة، ط1، دار الرشاد الحديثة، البيضاء، 1399هـ/1979م.

(1/7884)

كتاب الخيل مطلع اليمن والإقبال في انتقاء كتاب الاحتفال، لعبد الله بن محمد بن جزي الكلبي الغرناطي، حققه وقدم له محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1406هـ/1986م.

كتاب الرد على النحاة، لابن مضاء القرطبي، تحقيق د.شوقي ضيف، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1982م.

كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار، لمحمد بن عبد المنعم الحميري، حققه د.إحسان عباس، ط2، مؤسسة ناصر للثقافة، 1980.

كتاب العنوان في القراءات السبع، لأبي طاهر إسماعيل بن خلف المقرئ الأنصاري الأندلسي، حققه وقدم له د.زهير زاهد ود.خليل

(1/7885)

العطية، ط2، عالم الكتب، بيروت، 1406هـ/1986م.

كتاب الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق محيي الدين رمضان، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

كتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي، تقديم وتحقيق وتعليق د.فوقية حسين محمود، ط1، دار الأنصار، القاهرة، 1977م.

كتاب معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، لابن الخطيب، تحقيق د.محمد كمال شبانة، الرباط.

(1/7886)

كناسة الدكان بعد انتقال السكان، لابن الخطيب، تحقيق د.محمد كمال شبانة، ومراجعة د.حسن محمود، دار الكاتب العربي، 1966م.

لحن العامة، لأبي بكر محمد بن الحسين الزبيدي، تحقيق د.عبد العزيز مطر، دار المعارف ومطابع سجل العرب، 1981م.

لقط الفرائد من لفاظة حقق الفوائد، لأحمد ابن القاضي، تحقيق محمد حجي (ضمن كتاب "ألف سنة من الوفيات")، الرباط، 1396هـ/1976م.

المثلث، لابن السيد البكليوسي. تحقيق ودراسة د.صلاح مهدي الفرطوسي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1401هـ/1981م.

(1/7887)

المحاضرات، لأبي علي اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1982م.

المختار من شعر بشار وشرحه، لأبي طاهر التجيبي البرقي، اعتنى بنسخه وتصحيحه وتعليق الفوائد عليه وتخريج أبياته ووضع فهارسه السيد محمد بدر الدين العلوي، دار المدينة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.

مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، للقاضي عياض وولده محمد، تقديم وتحقيق وتعليق د.محمد ابن شريفة، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

(1/7888)

مستفاد الرحلة والاغتراب، للقاسم بن يوسف التجيبي السبتي، تحقيق وإعداد عبد الحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب، تونس-ليبيا، 1975م.

مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، لعبد الرحمن بن محمد ابن الدباغ الأنصاري، تحقيق هـ. ريتر، دار صادر ودار بيروت، 1379هـ/1959م.

مشاهير الشعراء والكتاب (وهو كتاب "نثير فرائد الجمان")، لابن الأحمر، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، عالم الكتب، بيروت، 1406هـ/1986م.

"مصطلح التحقيق في استعمال محققي التراث المغربي الأندلسي"، لمصطفى اليعقوبي، ضمن أعمال ندوة "تحقيق التراث

(1/7889)

المغربي الأندلسي: حصيلة وآفاق"، صص.65-139، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، 1997م.

المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية، تحقيق إبراهيم الأبياري وصاحبيه، راجعه د.طه حسين، دار العلم للجميع، بيروت، 1954م.

مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، للفتح بن خاقان الإشبيلي، دراسة وتحقيق محمد علي شوابكة، ط1، دار عمار ومؤسسة الرسالة، 1403هـ/1983م.

المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، ضبطه وصححه وعلق حواشيه وأنشأ مقدمته محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، ط1، مطبعة

(1/7890)

الاستقامة، القاهرة، 1368هـ/1949م.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، للبكري، عارضه بمخطوطات القاهرة وحققه وضبطه مصطفى السقا، ط3، عالم الكتب، 1403هـ/1983م.

المعيار المعرب والجامع عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، لأحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف د.محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1401هـ/1981م.

المغرب في حلى المغرب، لابن سعيد الأندلسي، حققه وعلق عليه د.شوقي ضيف، ط3، دار المعارف، 1978-1980م.

(1/7891)

مفردات ابن الخطيب، لابن الخطيب، تحقيق وتقديم د.عبد العلي الودغيري، منشورات عكاظ، الرباط، 1988م.

المقتبس من أنباء أهل الأندلس، لابن حيان القرطبي:

أ - تحقيق عبد الرحمن حجي، دار الثقافة، بيروت، 1965. ("بلد الأندلس" عوض "أهل الأندلس").

ب - حققه وقدم له وعلق عليه د.محمود علي مكي، القاهرة، 1390هـ/1971م.

المقتطف من أزاهر الطرف، لابن سعيد الأندلسي، تقديم وتحقيق ودراسة د.سيد حنفي حسنين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م.

(1/7892)

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد ابن رشد، تحقيق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408هـ/1988م.

مقدمة ابن خلدون، للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مهد لها ونشر الفصول والفقرات الناقصة من طبعاتها وحققها وضبط كلماتها وشرحها وعلق عليها وعمل فهارسها د.علي عبد الواحد وافي، ط2، لجنة البيان العربي، 1384هـ/1965م.

(1/7893)

المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تأليف عبد الحق بن إسماعيل البادسي، تحقيق سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط، 1402هـ/1982م.

ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة، تقييد ابن رشيد الفهري السبتي، تقديم وتحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، الدار التونسية للنشر، ج2: 1402هـ/1982م؛ ودار الغرب الإسلامي، ج5: 1408هـ/1988م.

ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، تأليف أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي

(1/7894)

الغرناطي:

أ - تحقيق سعيد الفلاح، ط1، دار الغرب الإسلامي، 1403هـ/1983م.

ب - تحقيق د.محمود أحمد كامل، دار النهضة العربية، بيروت، 1405هـ/1985م.

ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضرموت، للفقيه يوسف بن عابد الإدريسي الحسني الفاسي، حقق المخطوط وقدم له وعلق عليه د.أمين توفيق الطيبي، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1988م.

الممتع في التصريف، لابن عصفور الإشبيلي، تحقيق د.فخر الدين قباوة، ط3، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1970م.

(1/7895)

مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، تأليف د.رمضان عبد التواب، ط1، مكتبة الخانجي ومطبعة المدني، القاهرة، 1406هـ/1985م.

مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا، لأبي فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد الله كنون، 1964م.

المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، لأبي محمد القاسم السجلماسي، تقديم وتحقيق د.علال الغازي، ط1، مكتبة المعارف، الرباط، 1401هـ/1980م.

المن بالإمامة، لعبد الملك بن صاحب الصلاة، تحقيق د.عبد الهادي التازي، ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987م.

(1/7896)

منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لحازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981م.

الموافقات في أصول الأحكام، لأبي إسحاق ابراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، د.ت.

نتيجة الاجتهاد في المهانة والجهاد، لأحمد بن المهدي الغزال، حققه وقدم له إسماعيل العربي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1980م.

(1/7897)

نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان، لابن الأحمر، دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية، دار الثقافة، بيروت، 1967م.

نشر المتاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، لمحمد بن الطيب القادري، تحقيق محمد حجي وأحمد التوفيق، الرباط، 1397هـ/1977م.

نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، لابن القطان المراكشي، درسه وقدم له وحققه د.محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

النكت الحسان في شرح غاية الإحسان، لأبي حيان النحوي الأندلسي الغرناطي، تحقيق ودراسة د.عبد الحسين الفتلي، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت،

(1/7898)

1405هـ/1985م.

وسيلة الإسلام بالنبي عليه الصلاة والسلام، لابن قنفذ القسنطيني، تقديم وتعليق سليمان الصيد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984م.

وفيات الونشريسي، لأحمد الونشريسي (ضمن "ألف سنة من الوفيات")، تحقيق محمد حجي، الرباط، 1396هـ/1976م.

... وقبل شهرة هذين المذهبين، عرف مذهب سفيان الثوري ومذهب عبد الرحمان الأوزاعي شيئا من الانتشار بإفريقية.

فقد دخلت إليها "جوامع" سفيان الثوري، وتم إسماعها للطلبة إلي جانب "الموطإ" مثلا. ومذهب الثوري كوفي مثل مذهب أبي حنيفة، أي أنهما استقيا تعاليمهما من الوسط

(1/7899)

نفسه؛ بل أكثر من ذلك. فقد أثر عن أبي يوسف أنه قال: "سفيان الثوري أكثر متابعة لأبي حنيفة مني"(1). إن صح هذا أمكن القول إن مذهب الثوري مهد السبيل لانتشار المذهب الحنفي بالقيروان.

... كل هذه المعطيات ساهمت في نتشار هذا المذهب بالقيروان وفي سيطرته بها انطلاقا من بداية القرن 3هـ/9م، وبذلك يمكن رد ما أوحى به نص المقدسي من انتشار ذلك المذهب هناك أتى نتيجة لعامل الصدفة(2)

__________

(1) ابن عبد البر، "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء..."، القاهرة، 1350هـ/1931م، ص.128.

(2) المقدسي، المصدر نفسه، ص.237. ويبدو أن المرحوم سعد غراب قد ساند المقدسي في ذلك النوع من التفسير ("العامل الديني والهوية التونسية"، تونس، 1990، ص.41).

(1/7900)

.

... ومن أهم الحجج على سيطرة ذلك المذهب آنذاك، خبر ذكره المالكي يخص نوعية طلبة أسد بن الفرات. فقد سأل هذا الأخير شابا كان يختلف إليه عن صناعته، فسمى له الشاب صناعته، فأمره أسد بالقيام إلى عمله قائلا:

... صاحب الحانوت إنما بالحرفاء، فإذا جاءك حريفك اليوم ولم يجدك وغدا ولم يجدك وبعد غد مثل ذلك، استبدل بك غيرك، فضررت بنفسك وبمن تعوله"، ثم أضاف أسد: "انظر إلى هؤلاء الذين يأتوننا، إنما هم أهل حرث وحصاد؛ فإذا كان حرثهم وحصادهم، لم تر منهم أحدا يجيء إلينا؛ فإذا انقضى حرثهم أو حصادهم، عادوا إلى ما

(1/7901)

كانوا فيه(1).

... فالمهتمون بفقه أبي حنيفة لم يكونوا من الأثرياء فحسب، إنما وجد في إطارهم أيضا متواضعون اجتماعيا من صنف الحرفيين وحتى المزارعين. وضمن هؤلاء المتواضعين تخرجت نسبة من الجيل الأول من فقهاء الحنفية، مثل معمر بن منصور هذا الذي كان يطلب المساعدة المالية من كبار علماء المالكية أمثال سحنون وعبد الله بن طالب (ت275هـ/888م) (2)

__________

(1) المالكي، "كتاب رياض النفوس"، تحقيق بشير البكوش، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1983، ج1، ص.269.

(2) الخنشي، "كتاب طبقات علماء إفريقية"، نشر الشيخ محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1332هـ/1914م، ص.113؛ "تراجم أغلبية مستخرجة من "مدارك القاضي عياض""، تحقيق محمد الطالبي، تونس، 1968، صص.215-217.

(1/7902)

. ولا ننسى من جهة أخرى أن أسدا كان من أصل اجتماعي متواضع. فقد وصف نفسه خلال رحلته إلى الشرق بـ"ابن السبيل"(1).

... وعلى يدي أسد تخرج الجيل الأول من علماء الحنفيى مثل عمر المذكور أعلاه وابن قادم سليمان بن عمران (ت270هـ/884م) الملقب بخروفه لشدة ملازمته الأسد. فقد غمرت شهرة

__________

(1) ابن ناجي، "معالم الإيمان..."، أصله للدباغ، تونس، 1320هـ/2-1903م، ج2، صص.5-7. وبذلك يمكن رد ما ذهب إليه عبد العزيز المجدوب. فقد ذكر أن أسدا ينتسب إلى أسرة أرستقراطية ("الصراع المذهبي بإفريقية"، تونس، 1395هـ/1975م، ص.50).

(1/7903)

هؤلاء العلماء النصف الأول من القرن 3هـ/9م. وقد اعترف القاضي عياض، في إطار حديثه عن ظروف تعيين سحنون على القضاء، حوالي سنة 233هـ/847م، بأن عدد الأحناف آنذاك كان أكثر من عدد المالكية(1).

... كل هذه المعطيات تبرهن على مدى توسع انتشار المذهب الحنفي بالقيروان خلال النصف الأول من القرن 3هـ/9م. ونتيجة لذلك، ظهرت آنذاك عائلات حنفية قيروانية شهيرة، مثل عائلة بني وهب وعائلة بني قادم وعائلة بني الثوام.

__________

(1) "تراجم أغلبية"، ص.99.

(1/7904)

... إلا أنه ابتداء من النصف الثاني من القرن 3هـ/9م، أخذت الكفة ترجح لفائدة المذهب المالكي.

II - أسباب تراجع المذهب الحنفي بالقيروان ابتداء من النصف الثاني من القرن 3هـ/9م:

... وفر خروج أسد بن الفرات إلى صقلية سنة 212هـ/827م، مرفقا ببعض شيوخ الحنفية ومن بينهم ابن قادم، فرصة سانحة لسحنون كي يعرف بالمذهب المالكي بالقيروان. وهذا لا يعني أن المذهب الحنفي أخذ في الانحسار منذ ذلك الحين. كل ما في الأمر أن زعامته انتقلت إلى سليمان بن عمران. إلا أننا لن نجانب الحقيقة عندما نقول إن ابن عمران ألحق بصفة غير

(1/7905)

مباشرة ضررا بالمذهب الحنفي. تم ذلك عندما أشار على الأمير بتعيين سحنون على قضاء القيروان، مقدما إياه على نفسه. فما كان من سحنون إلا أن أحسن استغلال الفرصة. فقد حيد المذهب الحنفي، بتعيين زعيمه قاضيا على الأربس وباجة، وسمح له بالقضاء حسب فقه أبي حنيفة(1). وهذا يعني أن سحنون أبعد زعيم الحنفية عن أصحابه بالقيروان، فتسبب ذلك في إضعاف الحنفيين. وبهذه الطريقة أيضا، أمكن له أن يكون حلفا سنيا ضد المذاهب "المبتدعة" من

__________

(1) "تراجم الأغلبية"، ص.120. ويأتي هذا خلافا لما ذكره الخنشي (المصدر نفسه، ص.180).

(1/7906)

معتزلة وخوارج، فألحق بها ضريبة قاسمة، وركز في الوقت نفسه موقع المذهب المالكي.

... ولئن تولى سليمان بن عمران القضاء القيرواني مباشرة بعد سحنون، فقد تم ذلك بعد فوات الأوان على المذهب الحنفي.

... لم يسع الأحناف من جهة أخرى إلى تكوين جبهة موحدة لمواجهة المالكية، على ما يبدو. فقد ذكر المالكي أن أبا عبد الله محمد بن زرزر (ت291هـ/903م) الفقيه الحنفي، كان كثير السخرية من سليمان بن عمران ومن أبي المنهال(1)، في حين أن سحنون مثلا تجنب تخطئة صاحبيه أمام القاضي أسد في

__________

(1) المالكي، المصدر نفسه، ج1، ص.514.

(1/7907)

مسألة تسرعا في الإجابة عنها. وقد برز تصرفه قائلا: "كرهت أن أخالفكما، فندخل عليه إخوانا ونخرج أعداء"(1).

... لم يظهر الحنفية استعدادا للتكافل الاجتماعي فيما بينهم، في حين لاحظنا عكس ذلك بين المالكية. فعندما طلب حنفي متحمس لمذهبه مساعدة مالية من أصحابه، خذلوه، فمكنه منها عبد الله بن طالب(2)

__________

(1) ابن ناجي، المصدر نفسه، ج2، ص.63. وهذا لم يمنع، فيما بعد، ظهور خلافات بين المالكية ذاتهم.

(2) "تراجم الأغلبية"، صص.216-217، مع التنبيه إلى أن مثل هذه الأخبار لا تخلو من مجاملة للمالكية واستنقاص للحنفية. فهؤلاء بخلاء، وأولئك كرماء.

(1/7908)

.

... تنوعت من جهة أخرى مواقف الحنفية من الاعتزال. فقد أخذت بعض عناصرهم ببعض مبادئه، مثل ابن حبيب السدري، بينما خير جلهم مذهب السنة، مثل أسد بن الفرات وسليمان بن عمران وعبد الله بن هارون الكوفي السوداني كاتب سليمان بن عمران أيام قضائه ومحمد بن عثمان الخراساني الفقيه (ت318هـ/930م).

... إذا علمنا أيضا أن علماء المالكية اتفقوا بالإجماع على مقاومة الاعتزال، فمن الراجح أنهم تعمدوا اتهام الأحناف ككل بالاعتزال، حتى ينفروا العامة من المذهب الحنفي. وربما ساعدت على ذلك نوعية عقلية أهل إفريقية التي لم

(1/7909)

تتفاعل مع الاعتزال. لذلك من الطبيعي أن هؤلاء سينتهون بالتخلي عن المذهب الحنفي لفائدة المذهب المالكي. وقد وصلنا صدى تهمة الخنفيين بالاعتزال في إطار طبقات المالكية، فصدقها عدد من الباحثين، بل إن أحمد بكير ذهب إلى القول إن سليمان بن عمران كان على سنة عندما كان متعاونا مع القاضي سحنون، ثم "اعتزل" على أثر وفاة هذا الأخير(1)

__________

(1) اتفق الخشني وابن ناجي على أن ابن عمران لم يقل بالاعتزال. (الخشني، المصدر نفسه، ص.181؛ ابن ناجي، المصدر نفسه، ج2، ص.103). فيما يتعلق بأحمد بكير، انظر "الجدل حول العقيدة"، في ملتقى الإمام المازري المنستير، 1975، تونس، 1978، ص.32.

(1/7910)

.

... وقد أتى اعتزال بعض الحنفية نتيجة لأسباب منها مجاراتهم للأغالبة الذين قدموا الاعتزال مذهبا عقائديا، والحنفية مذهبا فقهيا. فاختلطت الأوراق على أهل القيروان، وتخلوا عن المذهب الحنفي في إطار معارضتهم للأغالبة، مما ساهم في تراجع انتشاره بينهم. فأصبح المذهب الحنفي خلال النصف الثاني من القرن 3هـ/9م مذهب الخاصة، ومذهب الأرستقراطية، وهو أمر استنتجه كل الباحثين. إلا أنهم طبقوا هذا الاستنتاج على العهد الأغلبي كله، في حين كان من الأولى تطبيقه على النصف الثاني من القرن 3هـ/9م، وهي الفترة التي تراجعت

(1/7911)

خلالها شعبية المذهب الحنفي.

... وفي سياق التهم الموجهة إلى الأحناف، سعت كتب طبقات المالكية إلى إقناعنا بأن المذهب الحنفي هو مذهب الرخص. فهو يجوز شرب النبيذ إلى حد الإسكار، ويبيح الربا عن طريق التحيل على النصوص الشرعية. فكان لهذا تأثير على الباحثين، بل إن أحدهم ذكر أن الذين تولوا نشر المذهب الحنفي بإفريقية بعد أسد "تجاوزوا أصوله وقدموه في صورة التيسير، فتعلق به الخاصة وأصحاب السلطة"(1).

__________

(1) عبد المجيد بن حميدة، "المدارس الكلامية بإفريقية..."، تونس، 1986، ص.40.

(1/7912)

... ومن المعلوم أن أسدا، ناشر المذهب الحنفي بإفريقية، كان من الموالي الفرس. وقد أخذ هذا المذهب عن مولى مثله وهو محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الفارسي الأصل أيضا. فالنسبة غير العربية لدى زعماء هذا المذهب كان لها دور لا يستهان به في تراجع عدد من أهل إفريقية عن ذلك المذهب. ولتأكيد هذا، ذكر الغزي أن "من جملة ما يشنع به الحساد على أبي حنيفة (رضه) أنه من جملة الموالي، وليس هو من العرب، وأن من كان مجتهدا من العرب أولى بالتقديم من غيره"(1)

__________

(1) تقي الدين الغزي، "الطبقات السنية في تراجم الحنفية"، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، الرياض، 1983، ط1، ج1، ص.134.

(1/7913)

. وبالفعل، فقد انتهى أهل إفريقية بتقديم المذهب المالكي لأسباب منها انتساب صاحبه مالك، وناشره هناك، نعني سحنون، إلى العرب(1).

... إذا أضفنا إلى هذا أن المذهب الحنفي لم يلق عموما رواجا بمصر، وذلك انطلاقا من تجربة أهلها مع القاضي الحنفي إسماعيل بن اليسع الكوفي، ابتداء من سنة 164هـ/780م، أمكن لنا أن

__________

(1) انظر بحثنا "المذهب المالكي بإفريقية من منتصف القرن 2هـ/8م إلى منتصف القرن 5هـ/11م"، شهادة التعمق في البحث، تحت إشراف الأستاذة منيرة شابوطو، نص مرقون، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تونس، 1990-1991.

(1/7914)

نضيف سببا آخر لتراجع أهمية ذلك المذهب بإفريقية.

... فإفريقية فتح مصري، بما أن الفاتحين دخلوا إليها انطلاقا من مصر. كما ظلت تلك المنطقة تابعة لمصر من الناحية الثقافية خلال فترة طويلة. وقد انتشر بهذه البلاد مذهب مالك، ثم مذهب الشافعي، وبصفة أقل مذهب أبي حنيفة. والراجح أن وضعية هذا المذهب بمصر كان لها تأثير على مصير المذهب الحنفي بإفريقية، في حين أن المذهب المالكي الغفريقي ظل مدة يتغذى بمالكية مصر.

... كان من الممكن للمذهب الحنفي الإفريقي أن يتغذى بحنفية بغداد عاصمة العباسيين. إلا أن العراق ليست

(1/7915)

على طريق الحجاج كما ذكر ابن خلدون. لذلك ظل المذهب الحنفي الإفريقي معزولا عن نقطة ارتكازه الأولى وهي العراق، مما جعله يعرف تقوقعا وبالتالي ذبولا على المدى الطويل.

... لاحظ أبو زهرة من ناحية أخرى أن المذهب الحنفي يقوى بمصر كلما قوي سلطان العباسيين عليها، دون أن تكون له مكانة لدى أهل مصر(1). وإذا علمنا أن نفوذ العباسيين تدرج نحو التراجع بإفريقية نتيجة لسعي الأغالبة إلى إثبات استقلاليتهم عنهم، أمكن أن نجد تفسيرا آخر لتراجع

__________

(1) أبو زهرة، "أبو حنيفة. حياته..."، دار الفكر العربي، 1955، ط2، ص.464.

(1/7916)

الحنفية بإفرقية. على أن ذلك التراجع سيبلغ مداه بعد سقوط الدولة الأغلبية سنة 296هـ/909م، بما أن علاقات إفريقية بالعباسيين ستنقطع تماما في العهد الفاطمي.

... ومن أهم مظاهر ذلك التراجع، أن عددا من الحنفية تحولوا إلى المذهب المالكي. وأشهر مثال على ذلك يقدمه جبلة بن حمود (ت299هـ/911م)، هذا الذي كان ينتسب إلى عائلة حنفية ثرية تتعامل مع السلطان(1). تحول كذلك جعفر بن الثوام إلى مذهب مالك بعد أن "كان أجداده كلهم ينتحلون مذهب أهل الكوفة". لهذا السبب كان شيخه أبو بكر بن

__________

(1) "تراجم أغلبية"، صص.279-280.

(1/7917)

اللباد (ت333هـ/944م) يسميه "مؤمن آل فرعون"(1)، وكأننا بأجداده كانوا من الكفار.

... ويبدو أن أحد أعوان القاضي سليمان بن عمران قد تفطن لذلك التطور، فحاول عرقلته. فقد سعى إلى إقناع أهل المنستير باتباع تعاليم المذهب الحنفي، "فأغلظوا له في ذلك اتباعا منهم لمذهب مالك". فأراد القاضي سليمان بن عمران معاقبة جماعة منهم، "فارتجت القيروان... وامتلأت السقيفة" عليه... لذلك سارع بالعفو عنهم(2).

__________

(1) المالكي، المصدر نفسه، ج2، ص.284.

(2) المصدر نفسه، ج1، ص.453.

(1/7918)

... ومع قيام الدولة الفاطمية، زاد المذهب الحنفي تراجعا.

... فعندما فر زيادة الله الثالث إلى الشرق، اصطحبه عدد من خاصته، وهم من الحنفية أساسا. أما من بقي منهم بالقصر القديم، فقد منحهم السلطان الأمان. إلا أن المخاوف سرعان ما راودتهم على أثر مقتل أبي عبد الله الصنعاني وأخيه، فثاروا على الخليفة المهدي. فما كان منه إلا أن قتل جماعة منهم وحبس باقيهم وشردهم(1)

__________

(1) القاضي النعمان، "كتاب افتتاح الدعوة"، تحقيق فرحات الدشراوي، تونس، 1975، صص.320-322؛ ابن الأثير، "الكامل في التاريخ"، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، ج8، صص.52-53.

(1/7919)

. وقد أدى هذا إلى مزيد تناقص عدد الحنفية بالقيروان.

... هناك من الحنفية من احتفظ بوظيفته في الإدارة، بعد سقوط دولة الأغالبة، مثل أبي اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني البغدادي المعروف بالرياضي (ت298هـ/910م) (1).

... على أن هذا الأخير كان من جملة من خرج مع أبي عبد الله الصنعاني إلى سجلماسة لاستنقاذ الإمام المهدي، وهذا يعني أنه "تشرق"، أي انتقل إلى المذهب الإسماعيلي. أما أحمد بن محمد بن

__________

(1) ابن عذاري، "البيان المغرب..."، تحقيق ومراجعة ج. س. كولان وليفي بروفنسال، ليبيا-تونس، 1983، ط3، ج1، ص.163.

(1/7920)

سيرين، فقد خرج "راجلا" للغرض نفسه، وهو "يرى أنه محتسب للثواب في طلب الإمام"(1). بينما "تشرق" أبو ربده بن خلاد في "أول دخول القوم طائعا"، ثم أوصى "بكل ماله للسلطان وأخرج منه ولده"(2).

... كل هذا يعني أن عددا من الأحناف بادروا بـ"التشريق" بسرعة وبسهولة وعن اقتناع. وإلى هؤلاء يمكن أن نضيف القاضي النعمان الذي كان على الأرجح حنفيا.

__________

(1) ابن عذاري، المصدر نفسه، ج1، ص.153.

(2) الخشني، المصدر نفسه، ص.224.

(1/7921)

... ولئن سارع هؤلاء بـ"التشريق"، فإن ذلك أتى نتيجة لأسباب منها اتفاق الحنفية مع الشيعة في قضية التفضيل على ما يبدو، وفي بعض المسائل الفقهية(1). فميول أبي حنيفة الشيعية لا يمكن الشك فيها. أما مهمر بن منصور، فقد كان يتولى عليا ويتعمد

__________

(1) "تراجم أغلبية"، ص.391؛ ابن عذاري، المصدر نفسه، ج1، ص.155. انظر أيضا أبا المهلب هيثم بن سليمان، "أدب القاضي والقضاء"، تحقيق فرحات الدشراوي، تونس، 1970، ص.17، 23، 29، حيث يعتمد الأحناف على أقوال علي بن أبي طالب لأسباب منها أنه كان اتخذ الكوفة عاصمة له أيام خلافته.

(1/7922)

ثلب معاوية بن أبي سفيان(1)؛ بينما كان القاضي النعمان يجامل الحنفية ويتحامل على المالكية في مؤلفاته(2).

... هناك من الحنفية من "تشرق" لمصلحة ما مثل خلف بن معمر بن منصور (ت303هـ/915م)، تشرق حتى لا يطالب الشيعة ابنه في مال "غمس يده فيه عند هروب زيادة الله

__________

(1) الخشني، المصدر نفسه، صص.113-114.

(2) R. Brunschvig, « Fiqh fatimide... », dans Mélanges d’histoire et d’archéologie de l’Occident musulman, Alger, 1957, p.15; H. R. Idris, La berbérie orientale sous les Zirides..., Paris, 1962, T.II, p.734.

(1/7923)

من رقادة"(1)؛ أو قاسم بن خلاد الواسطي الذي "دعوه إلى التشريق ووعدوه بقضاء باجة"، ففعل؛ أو أحمد بن وهب الذي تشرق، فولي مظالم القيروان(2).

... كل هذا أدى إلى زيادة تراجع شعبية الأحناف. ولئن بدا عدد "المتشرقين" من الحنفية مرتفعا نسبيا وهو أحد عشر على ما ذكر الخشني، فقد ذهب فرحات الدشراوي إلى أن العدد الحقيقي يتجاوز ذلك(3)

__________

(1) ابن عذاري، المصدر نفسه، ج1، ص.173.

(2) الخشني، المصدر نفسه، ص.194-224.

(3) F. Dachraoui, Le califat fatimide au Maghreb, Tunis, 1981, p.400، على أنه من الممكن أن عددا ممن تشرقوا انتقلوا من القيروان إلى عاصمة الفاطميين "المهدية".

(1/7924)

. وفعلا، فقد عرفنا ابن عذاري بأمثلة أخرى لأحناف "تشرقوا".

... إلا أن هذا لا يعني أن كل الأحناف قد "تشرقوا". فعندما أراد القاضي محمد بن عمر المروذي (ت303هـ/915م) فرض المذهب الإسماعيلي، أصدر أمرا بأن "لا يظهر أحد من كتب مالك وأبي حنيفة شيئا"(1). وعندما أراد مناظرة فقهاء القيروان في مسألة صلاة التراويح، أرسل إلى "مدنيهم وعراقيهم"(2)

__________

(1) إدريس الداعي، "عيون الأخبار وفنون الآثار"، الجزء الخامس، تحقيق فرحات الدشراوي، تونس، 1979، ص.20.

(2) المالكي، المصدر نفسه، ج2، ص.60؛ ابن ناجي، المصدر نفسه، ج2، ص.206.

(1/7925)

.

... هناك من الأحناف من لقي القتل، مثل أحمد بن يحيى بن طيب المتطبب، قتل سنة 297هـ/909م، هذا إلى جانب من حبس منهم أو قتل بالقصر القديم. فالراجح أن نواة حنفية احتفظت آنذاك بذاتيتها بالقيروان، ورفضت الذوبان في دعوة الفاطميين. والدليل على استمرار تلك النواة في العهد الفاطمي، أن عددا منها شارك المالكية في التحالف مع أبي يزيد أيام ثورته على الفاطميين (332-336هـ/943-947م) (1).

__________

(1) المالكي، المصدر نفسه، ج2، ص.339.

(1/7926)

... وتحالف المالكية وتلك النواة من الحنفية مع أبي يزيد، يعني أنه ظهر تقارب بين هؤلاء في العهد الفاطمي. لم لا وقد جمعت بينهم معارضة الفاطميين. ويبدو أن ذلك التقارب قد تواصل مداه، حتى أن المقدسي (ت380هـ/990م) شهد عليه فقال: "من أهلها ليس غير حنفي ومالكي مع ألفة عجيبة، لا شغب بينهم ولا عصبية... وارتفع الغل من قلوبهم، فهي مفخرة المغرب"(1).

... كل هذا يسمح لنا بمناقشة المرحوم حسن حسني عبد الوهاب الذي ذهب إلى أن المذهب الحنفي انقطع في آخر عهد المعز وقبل انتقاله إلى

__________

(1) المقدسي، المصدر نفسه، ص.225.

(1/7927)

مصر(1)، كما يسمح لنا برد مبالغة أخرى وقع فيها القاضي عياض. فقد ذكر أن "الظهور في دولة بني عبيد كان لمذهب الكوفيين"(2).

... فالراجح أن عدد الحنفية تراجع كثيرا في العهد الفاطمي، دون أن يؤدي ذلك إلى اختفائهم تماما آنذاك. على أن اندثار مذهبهم تم بصفة رسمية في إفريقية مع إعلان القطيعة عن الفاطميين في منتصف القرن 5هـ/11م، ربما إذا استثنينا بعض الحالات مثل ذلك العالم الحنفي الذي تحدث عنه التجاني؛ إلا

__________

(1) حسن حسني عبد الوهاب، "الإمام المازري"، تونس، د.ت.، ص.24.

(2) القاضي عياض، المصدر نفسه، ج1، ص.54.

(1/7928)

أنه لم يكن مقيما بالقيروان(1)

__________

(1) هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الزناتي المعروف بالحنفي (ت655هـ/1257م). (التجاني، "الرحلة"، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، ليبيا-تونس، الدار العربية للكتاب، 1981، ص.369). وهو من مواليد المهدية، لزم سكنى المنستير بعد رحلته إلى الشرق. ولا ندري هل يمكن ربط انتسابه إلى ذلك المذهب بكونه عقبا للأحناف الذين كانوا تشرقوا في العهد الفاطمي وانتقل بعضهم -عاى ما يبدو- نتيجة لذلك من القيروان إلى المهدية. يؤيد هذا أن هـ.ر. إدريس أشار إلى أن تشرق الحنفية لا يعني بالضرورة تخليهم تماما عن تعاليم مذهبهم. انظر مقاله: « Essai sur la diffusion de l’ascarisme en Ifriqiya », Les cahiers de Tunisie, 1953, p.139.

(1/7929)

. ومن المؤكد أن هذا الاندثار تم أساسا عن طريق تحول الحنفية إلى المذهب المالكي. وبذلك يمكن رد ما ذهب إليه ابن خلكان وابن الأثير. فقد ذكرا أن المذهب الحنفي ظل مسيطرا بإفريقية إلى أن أتى المعز بن باديس (406-454هـ/1016-1062م) وحمل الناس على التمسك بمذهب مالك، عند إعلانه القطيعة(1).

... فالمذهب المالكي سيطر بصفة موسعة على البلاد منذ منتصف القرن 3هـ/9م.

خاتمة

__________

(1) شمس الدين بن خلكان، "وفيات الأعيان"، تحقيق إحسان عباس، بيروت، د.ت. ج5، صص.233-234؛ ابن الأثير، المصدر نفسه، ج9، ص.257.

(1/7930)

... الراجح أن دخول المذهب الحنفي إلى القيروان تم في بداية النصف الثاني من القرن 2هـ/8م، على أيدي عبد الله بن فروخ وعبد الله بن غانم. ولئن جمع هذان العالمان بين الفقه الحنفي والفقه المالكي في الوقت نفسه، فقد رجحنا أن القيروان مرت بمرحلة تعايش بين المذهبين الحنفي والمالكي إلى حد أواخر القرن 2هـ/8م. وببروز أسد على الساحة العلمية القيروانية، ولا سيما بعد توليه القضاء، رجحت الكفة لفائدة المذهب الحنفي. ساعدته في ذلك عوامل أخرى منها تبني الأغالبة للحنفية مذهبا رسميا وانتشار مذهب سفيان الثوري هناك في

(1/7931)

مرحلة سابقة.

... إلا أن سوء تقدير سليمان بن عمران للمواقف، بما أنه قدم على نفسه سحنون في خطة القضاء، مثل عاملا لا يستهان به في إضعاف المذهب الحنفي وبالتالي في تنامي شهرة المذهب المالكي.

... ساهمت عوامل أخرى في تراجع المذهب الحنفي ذكرنا منها قلة سعي الأحناف إلى تكوين جبهة موحدة لمواجهة المخالفين، وتبني أقلية منهم لبعض المبادئ المعتزلية. هذه المبادئ التي رفضها أهل إفريقية واعتبروها "بدعة"، فاستغلها المالكية للدعاية ضد الأحناف، مما ساعد في تراجع الأفارقة عن مناصرة المذهب الحنفي.

(1/7932)

... ساعد على ذلك التراجع أيضا تعامل الحنفية مع الأغالبة، فكان رفض العامة للحنفية شكلا من أشكال المعارضة السياسية. ساهم في ذلك التراجع كذلك التقوقع الذي وقع فيه المذهب الحنفي نتيجة لضعف اتصاله بالشرق، ولا سيما بغداد حيث العباسيون الذين ضعف نفوذهم بإفريقية. لهذه الأسبب انتقل عدد من الأحناف إلى المذهب المالكي.

... زاد في تراجع ذلك المذهب قيام الدولة الفاطمية. فقد فر بعض الأحناف نحو الشرق، وقتل آخرون ولا سيما بالقصر القديم، و"تشرق" جل بقيتهم، وربما انتقلوا نتيجة لذلك إلى المهدية. فاستفحل تراجع

(1/7933)

المذهب الحنفي بالقيروان، بالرغم من التقارب الذي تم بين بعض الحنفية والمالكية خاصة أيام ثورة أبي يزيد.

... على أن التجربة الحنفية بالقيروان خلال النصف الأول من القرن 3هـ/9م، قدمت فرصة سانحة للتأسيس لحركة فكرية متميزة، عرفت خلالها هذه المدينة ازدهارا ثقافيا. فقد ساد هناك في أيام الأحناف نوع من الحرية الفكرية، إذ كان من الممكن لأصحاب مختلف المذاهب أن يحلقوا بجامع عقبة، مما هيأ الجو لتلاقح فكري مثمر. وقد كان هذا من بين أسباب انفتاح بعض الحنفية على أصناف مختلفة من العلوم وعلى ما أطلق عليه المذاهب

(1/7934)

"المبتدعة"، نعني الاعتزال والإرجاء والتشيع. والانفتاح يعني إمكان إدخال الجانب العقلاني في بعض المسائل الدينية، ويعني أيضا الإيمان بوجوب تنويع مصادر التكوين العلمي.

... وفعلا، فإن عددا من الأحناف الذين وصلتنا أخبار حول نوعية تكوينهم، كانوا يتميزون بتبحرهم في أصناف مختلفة من العلوم وخاصة بنزعتهم الموسوعية. كل هذا، بخلاف جل علماء المالكية(1)

__________

(1) بخصوص علماء المالكية، انظر مقالنا "مدرسة الحديث وعلاقتها بمدرسة الفقه بإفريقية من بداية القرن 3هـ/9م إلى أواخر القرن 4هـ/10م"، الكراسات التونسية، صص.159-160، الثلاثة أشهر الأولى والثانية لسنة 1992، ص.196.

(1/7935)

.

... فأبو عبد الله محمد بن زرزر (ت291هـ/903م) "كان حافظا للغريب، بصيرا باللغة، راوية للأشعار يحسن الصنعة لها، وشعره كثير جدا وأكثره في توحيد الله". وقد كان يقول: "إني أحفظ تفسير يحيى بن سلام كما أحفظ القرآن، وأحفظ فقه أبي حنيفة كما أحفظ التفسير، وأحفظ "الموطأ" وفقه مالك كما أحفظ فقه أبي حنيفة، وأحفظ بعد ذلك كثيرا من دواوين العرب وأشعارها وأخبارها"(1).

... أما إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزان القيرواني اللغوي الحنفي (ت346هـ/957م)، فقد قال فيه عبد

__________

(1) ابن ناجي، المصدر نفسه، ج1، صص.166-167.

(1/7936)

الله المكفوف النحوي: "ولو قال قائل إنه أعلم من المبرد وثعلب، لصدقه من وقف على علمه"(1).

... هذان المثالان يكفيان لرد بعض التهم التي نسبتها كتب طبقات المالكية إلى الحنفية. فهي تتهمهم بقلة العلم والجهل. كل ذلك، بالرغم من التقوقع الذي عرفه المذهب الحنفي بالقيروان في فترة ما بحكم ضعف اتصاله بالشرق.

(1/7937)

تعامل العربي مع المعرفة الصوت والصدى، الصورة والانعكاس

... ... ... الأستاذ محمد الصادق عبد اللطيف

... ... ... ... ... تونس

1 ـ تساؤل

... كيف يمكن تناول موضوع في هذا الاتساع، وهل يمكن الإتيان بجديد بالنسبة إلى ما يزخر به عالم المطبوعات من المؤلفات التي تهتم بهذه الحقيقة بشكل أو بآخر في مختلف اللغات؟

... هل من سبيل إلى إثبات جدوى البحث العلمي والمقاربة العقلانية في ميدان يرى كل كاتب نفسه مؤهلاً للخوض فيه ولو كان نصيبه من الثقافة المتخصصة محدوداً بشكل أو بآخر؟

(1/7938)

... إن الإجابة عن هذه التساؤلات تفرض توضيح الإشكالية المطروحة ووضع بعض المعالم المنهجية التي من شأنها أن تعيننا على رفع ما عسى أن يكتنف القضية من لبس(1).

2 ـ مدخل عام: عصر العلم والاستفاقة

... كان التعلم ـ كتابة وقراءة ـ من أهم الوسائل العلمية التي ساعدت العرب على إقامة نهضتهم الباهرة بعد اعتناقهم الدين الإسلامي. وهي نهضة ـ كما نعلم ـ مستوحاة من القرآن والسنة، بحيث كان مجيء الإسلام فاتحة عصر العلم العالمي والإنساني وعهد ارتقاء

__________

(1) عبد المجيد الشّرفي، دروس تقوية في الجامعة التونسية، 1988.

(1/7939)

العقل البشري (علم الحساب والجبر والهندسة والفيزياء والطب والصيدلة ثم الميكانيكا وعلم الفضاء). ذلك بأن الإسلام شجع أبناءه على العلم والتعلم والتأمل والتأويل والنظر. قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة، الآية 11)، وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر، الآية 10)؛ وكما قال رسول الله: »من خرج في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع«(1). هنا يتناسب الاهتمام بالعلم مع

__________

(1) عبد الرحمان الكبلوطي، ملتقى ابن أبي الضيّاف (ندوة)، نشرية سليانة، 1989.

(1/7940)

مدى تقدير دوره في تقدم البشرية. لذلك، فإن قياس هذه الموازنة الدقيقة في مجتمع ما يكون دوماً بمعرفة مكانة العلماء في هذا المجتمع ومستوى الوعي السائد بين أفراده بدور التفكير المبدع في النهوض بالأمم وتقدمها في مضمار الحضارة.

... إن أهم القواسم المشتركة بين الحضارات هو مبلغ اعتنائها بالعلماء وإذْكاء التنافس بينهم لمصلحة المعرفة.

... والمجتمع العربي قبل الإسلام، بالرغم من انتشار ألوان الجهل المختلفة، توصل إلى مبدإ أهمية المعرفة وضرورتها والأخذ بها. وعندما شع الإسلام، أبقى على هذه العلاقة وحث على طلب

(1/7941)

العلم. وحين انتشر وامتد إلى أمم وشعوب مختلفة وتلاقت الحضارات، أضفى المنظور القيمي الإسلامي أبعاداً جديدة على الأمم الأخرى وإبداعها الفكري. فكان من نتائج ذلك التلاقي والتفاعل بروز الحضارة الإسلامية التي صهرت عطاءات الأمم والشعوب وصاغتها في بوتقة منهج الإسلام ومفهومه القائم على تأكيد »سَعَةِ العلم وشموله«.

... لقد أكّدت آيات قرآنية عديدة أهمية العقل والفكر والحكمة والبرهان والنظر إلى الكون والتفكير في خلق السماوات والأرض والأنفس، وأشارت الآيات إلى أولي الألباب والحكمة والعلم.

(1/7942)

... بهذا المنظور الراقي، فتح الإسلام للإنسانية آفاقاً جديدة للتقدم في شتى مجالات العلوم والفنون والآداب. وقد تعهّد المسلمون عبر عصور طويلة بالاهتمام بالمعرفة لصوغ حضارة متوهجة وصولاً إلى تأسيس مناهج البحث العلمي وأخلاقياته(1).

3 ـ الصوت والصدى

... أ ـ الطرح الأول: لما ازدهرت المعرفة، تغيرت صورة الحياة، بل تلاشت الحدود أمام زحف العلوم والمعارف. وكانت الترجمة أحد المفاتيح الأساسية للتعاون وتمهيد الطريق بمعارف جديدة ومزايا حضارية

__________

(1) زيد بن عبد المحسن، جائزة الملك فيصل ودلالاتها الحضارية، 1996.

(1/7943)

متنوعة. وعلى امتداد تاريخ الحضارة وتعاقب دورانها وانتقال مشاعلها من أمة إلى أخرى، كانت الترجمة إحدى السبل لبلوغ الرقي الحضاري بوصفها الوسيلة المثلى لكشف مكنون حضارات أخرى واعتناء المعرفة الإنسانية بجديد الفكر والعلم.

... إن التعلق بالمعرفة لم يعد انعكاساً لطور حضاري، بل تعبيراً عن إرادة متنامية للوجود في موقع القلب من الحضارة الإنسانية. كان الرواد في طليعة هذه الحقيقة انطلاقاً مما أوجده فيهم الإسلام من اقتناع بقيمة العلم والمعرفة معاً. ولتبليغ هذه الرسالة، انكب العرب ـ في عصر الفتوحات ـ على

(1/7944)

التراث المعرفي لمختلف الأمم التي لها السبق في مضمار الحضارة، فترجموا إلى اللغة العربية أمهات تراث الآخرين وأنعموا النظر في ذلك الإرث المعرفي (من فكر وثقافة وعلم)، وهي اليقظة الفكرية التي تعامل فيها العربي مع المعرفة، والتي منها انطلقت إشعاعاتها من مدائن العلوم في دولة الخلافة الإسلامية، وانتشرت في أرجاء الدولة؛ كما تمثلت في الحضارة الإسلامية التي شمخت وبلغت شأواً عظيماً إلى حد أن تجاوزت حضارات كانت يومئذ ملء الأسماع والأبصار. وهذا ما أدى إلى النهوض بنشاط مماثل في حركة التأليف، وهي عملية إبداعية

(1/7945)

ونمط متقدم من التفكير، ولا سيما حين يعبر عنه باللغة الأم. وكانت مراكز مفاتيح هذه المعرفة (بيت الحكمة البغدادي، مكتبة الإسكندرية، وجنديسابور وحران، وبيت الحكمة في القيروان)(1). إن تعامل العربي مع المعرفة قديماً قد زاوج بين ما نقله من تجارب الأمم الأخرى وبين مضامين الرسالة التي يحملها بصفتها مسؤولية لإبلاغها، ومن ثم الإبداع فيها باللغة الأم، حتى غدت تلك اللغة لغة الحضارة والمعرفة والتبليغ.

__________

(1) زيد بن عبد المحسن، الترجمة في ظل الحضارة الإسلامية وأثرها في الآداب والعلوم، الرياض، ص. 19.

(1/7946)

... لقد أكسب الإسلام هذه الشريحة قوة الدفع الإيجابية بصفتها سبباً موضوعيّاً للكل، تنقّل قيادة الحضارة الإنسانية للغير بعد أن عمّر قلوبهم إيمان عميق بشمولية الرسالة التي يضطلع بها العربي لاعتقاده أن العلم النافع أحد أسباب التمكين في الأرض. وكان من الطبيعي أن يكون الغرب وارثاً للجوانب العظيمة من حضارة العرب التي صنعها الإنسان العربي في تعامله مع المعرفة والعلم.

... من خلال المراكز التي انتشرت في شتى أمصار العالم وفي الأندلس وصقلية، كانت تلك المراكز وأمثالها أبرز المنافذ التي تسلّلت منها تأثيرات

(1/7947)

الحضارة الإسلامية إلى أوروبا. وحين بدأت الأمة الإسلامية تتقهقر متيحة المجال لحضارة الغرب كي تتبوأ الصدارة، خبت أضواء المشاعل التي كانت لا تنطفئ (حركة الترجمة خاصة)، وانكفأ العربي على نفسه غير مكترث بالتغييرات التي تتحكم في العالم حوله، فتضاءل قدره وذهبت هيبته، مما أدى بالعقل العربي إلى أن يكون مطمعاً للطامعين وهدفاً لترويضه بحجة أو بأخرى (غسل فكريّ ـ تعليم غربي ـ عشق الآخرين ـ خلق عدم الثقة في أمته ـ الميل لكل ما هو غربي ـ الإعجاب به من منطلق ثقافي وتكويني ـ زعزعة العقيدة ـ بلبلة التفكير ـ خلق

(1/7948)

عقلية السخط على العروبة والإسلام من منطلق التخلف والإعجاب بحضارة الغرب، إلخ).

... لقد تعامل العربي مع تراث الإغريق، فنقله للعربية. وقد أغناها بالشرح والتعليق (مؤلفات بطليموس وأرسطو وأقليدس وغيرهم) نتيجة ازدهار الثقافة الإسلامية. وعنه ـ أي العربي ـ استطاع المسيحيون أن يحيطوا علماً بما في كتب عرب طليطلة ووجدوا مجال معارفهم يتصل بقدر هائل بجهد هذا العربي الذي تعامل مع المعرفة بمحبة وعشق وإخلاص.

... إن اكتشاف الفكر العربي أحدث اضطراباً في العقلية المسيحية الوسيطية (حسب نظرية دينية خالصة). إن

(1/7949)

المسلمين يملكون ثقافة بالغة العمق ويجب أن يتحاربوا بالعقل بدل قتالهم بالسيف، وذلك لدراسة عقيدتهم وعلومهم. وهذا ما قامت به فرق التنصير والاستشراق مع بداية الحرب الصليبية في حملات الاستعمار الحديثة، وفيما بعد خلال القرن 19 (النصف الثاني) حين بلغ الاستعمار الأوروبي غايته. وفي الوقت نفسه، كان العالم العربي والإسلامي يعاني تدهوراً سريعاً. وهكذا عاد المنصِّرون يتدفقون عليه من جديد: يردون نجاح الأمم الأوروبية إلى المسيحية وإخفاق العالم الإسلامي إلى الإسلام، ويقرنون المسيحية بالتقدم والإسلام بالتخلف.

(1/7950)

فاشتد الهجوم من جديد(1).

... إن الجيل الثاني من المثقفين العرب المسلمين الذي قام بعملية التدوين (تدوين العلوم وتبويبها) ـ وهو جيل واسع عريض ـ يضم فئات مختلفة:

... 1) فئة تصدّت لبناء التراث الديني الإسلامي، جمعاً وتبويباً. وفي مقدمة هؤلاء جامعو الحديث والمفسرون وأصحاب المغازي. وقد قضى كثير من الأئمة الذين كانوا قد اعتزلوا الانخراط في الصراعات السياسية وفضّلوا الاشتغال بالعلم والعبادة.

__________

(1) الطاهر المكي، »الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية في المجالات الأدبية والإنسانية«، الفيصل.

(1/7951)

... 2) فئة تصدّت لجمع التراث اللغوي والأدب العربي وتبويبه والتأليف فيه نحواً وبلاغة وأخباراً وقصصاً. وقد قضى كثير من هؤلاء جلّ أعمارهم في جمع اللغة من أفواه الأعراب طلباً للفصيح الذي لم تشبه شائبة الاختلاط وجعلوا منه ومنه وحده مادة المعاجم اللغوية التي صنفوها في الألفاظ والمعاني والنوادر والأخبار.

... 3) فئة تجنّدت للدفاع عن العرب والإسلام وردّ هجمات الشعوبية والمانوية خاصة. وهذه الفئة هي التي ارتفعت (بالكلام) من مجرد ممارسة للسياسة بواسطة الدين (قضايا الإيمان والجبر وخلق القرآن نظرية ذات أبعاد

(1/7952)

فلسفية تمحورت حول العقيدة الإسلامية، عقيدة التوحيد أمام انبعاث العقائد القديمة من مانوية وحشوية وتجسيم، إلخ).

... 4) فئة انقطعت ... لدراسة علوم الأوائل وترجمتها والتأليف فيها. فوضعوا بذلك الأساس للنهضة العلمية التي جعلت من الحضارة العربية الإسلامية وريثة الحضارات السابقة ومرجعية ومهمازاً للحضارة الإنسانية المعاصرة التي عرفت ميلادها في أوروبا انطلاقاً من قاعدتين إسلاميتين: طليطلة وصقلّية(1).

__________

(1) محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية.

(1/7953)

... ذلك هو جيل التدوين والترجمة والبناء الثقافي العام.

...

ب ـ الطرح الثاني

... لما نضجت عمليّة التزاوج الفكري بين المسلمين والعرب وشعوب البلدان التي افتتحوها وأقاموا في ربوعها قواعد العدل والمساواة، أخذت تعطي ثمارها الطيبة، وذلك لسعة ما ولجه من الفكر الإسلاميّ من آفاق وما برز فيه من علوم وفنون وما تهيّأ له من تراث الأمم الغابرة. كانت حركة الترجمة والنقل من اللغات الأخرى الشهيرة في ذلك العهد (الإغريقية، السريانية، الهندية، الفارسية، النّبطية، العبريّة) إلى اللغة العربية من العوامل الأساسية التي

(1/7954)

مهدت لتلك النهضة العربية الإسلامية الفريدة التي بهرت العالم وأفاضت عليه أنوار المعرفة والعلم.

... إن التأثير الذي أحدثه »بيت الحكمة« في الفكر العربي الإسلامي من السّعة بحيث لا يستطيع أحد أن يحدد مداه ويعين أبعاده، بالإضافة إلى فتح آفاق جديدة من التفكير في ميادين شتى من العلوم والمعارف. فقد هيأت »بيت الحكمة« مجالات جديدة وواسعة أمام الفكر العربي الإسلامي حيث:

... 1 ـ كانت الفلسفة من الميادين الجديدة التي فتحها »بيت الحكمة« أمام المفكرين المسلمين، وذلك بما أتاحته لهم من وسائل الاطلاع على جميع

(1/7955)

النظريات والآراء التي جاء بها فلاسفة الإغريق واستيعابه والإضافة إليه والإتيان بنظريات جديدة، بعضها يتمم ما جاء به فلاسفة اليونان وبعضها الآخر يعارضه ويظهر بطلانه. وهكذا برزت طائفة جديدة من الفلاسفة المسلمين في المشرق والمغرب، مما لعب دوراً خطيراً في تاريخ الفلسفة وتطوير نظرياتها.

... 2 ـ أما في ميدان الطب، فقد هيأت بيت الحكمة تربة خصبة أمام العقل العربي لأن يقتحم هذا الميدان وتجوّد فيه )ترجمة كتب الطب لدى اليونان والهند والفرس).

(1/7956)

... لقد واكب طلاب العلوم الطبية المؤلفات يقتلونها بحثاً وتمحيصاً وترجمة، لأن التجربة الطبية هي الأساس الأول الذي بنى عليه الأطباء المسلمون والعرب أبحاثهم. كما أنهم كانوا أول من اتّبع طريقة التخصص في الطب وأول من وضع المؤلفات الطبية المصورة التي تشرح مراحل العملية الجراحية.

... 3 ـ كذلك في العلوم الرياضية، فإن العرب هم الذين ابتدعوا علم الجبر ووضعوا العديد من المعادلات الهندسية واكتشفوا قانون حل المثلثات الكروية.

(1/7957)

... 4 ـ استنبط العرب آلات دقيقة لاحتساب الثقل النّوعي للسوائل والجوامد وضغط الهواء والماء.

... 5 ـ أنشأ العرب علم الضوء، وأبدعوا علم الميكانيكا، وبرعوا في صناعة الساعات، واستنبطوا آلة القانون، وزادوا في الموسيقى.

... 6 ـ حسب العرب الاعتدال الصيفي والشتوي بصورة دقيقة، وقاسوا محيط الكرة الأرضية وحساب الميل في فلك الأبراج والخلل في حركة القمر.

... 7 ـ كانت حلقات الدروس والمناظرات تعقد جهاراً، ويشترك فيها مختلف العلماء والحكماء يتناظرون ويناقشون بكل حرية وصراحة.

(1/7958)

... 8 ـ كان النصارى يجادلون المسلمين في قضايا أمورهم الدينية.

... 9 ـ كانت المناقشات التي يخوضها أصحاب الرأي من معتزلة وخوارج ومتصوفين وغلاة الشيعة تتم بكل تسامح ومن دون أدنى ضغط أو إنكار(1).

... تلك هي الصورة التي تعامل بها العربي مع المعرفة، فأعطى الفكرَ العربيَّ والإنسانيَّ عموماً عصارة جهد لوجه الله ولوجه المعرفة ولوجه العلم.

4 ـ موازنة عصر: انحلال أم إمدادات جديدة؟ (الغرب نموذجاً)

__________

(1) سليم طه التكريتي، »بيت الحكمة وأثرها في تطوير الفكر الإسلامي«، مجلة الأقلام، 1997.

(1/7959)

... نسمّي عصرنا الحالي عصر العلم، عملاً بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} (الإسراء، الآية 85)، والدين يأمرنا بالنظر في ملكوت السماوات والأرض في محاولة لقراءة الأفكار (الحيوانات، الأفلاك، البحار، الفضاء). والحضارة هي عطاء الإنسان (عقله وروحه ووجدانه…) وقف عقله وراء تجاربه، يدرك الأشياء ويربط بينها، ويحلل ويستنتج ويستشف، يصل إلى جوانب السؤال الذي طرحه عليه واقعه. ذلك بأن الفكر الإسلامي، ومنه العربي، انتشر لا انتشار العمود الإغريقي في أنحاء الأرض كما هو دون تغيير. ولكن الفكر العربي

(1/7960)

والفن الإسلامي والإبداع العربي انتشر الانتشار الديمقراطي الذي يتيح لكل إنسان أن يشارك ويضيف(1).

... ما يميز الحضارة الإسلامية أنها نجت من داء الحضارات، وهو الانحلال والاضمحلال، لأن أساسها ليس عنصراً بشرياً، ولأن حضارة الإسلام والعربية قامت بالإسلام وتدهورت بالمسلمين، عرباً وعجماً، دون الإسلام. فالإسلام قيم ونظم وتشريعات وإنسانيات(2).

__________

(1) نعمات أحمد فؤاد، من عبقرية الإسلام، دار المعارف، مصر، 1983.

(2) المرجع نفسه.

(1/7961)

... إن الحضارة الغربية الحديثة الآن تنسب أصولاً ـ باستثناء المنصفين منهم ـ إلى الحضارة الإغريقية، أي الهيلينية، وهي قامت على الحضارة المصرية؛ كما أن الحضارة الإسلامية قامت بترجمة الحضارة الإغريقية، فوفرت على أوروبا ألف عام على الأقل(1).

... خلال القرن العشرين، اشتهر من العلماء من أغنى الحضارة الحديثة بالبحوث والإبداعات والاختراعات والصناعات. نقرأ أسماءهم فنندهش لما حققوه في الغرب لمّا تعامل العالم الغربي مع المعرفة بتشجيع، فأثرى الساحة وأبدع. وفيما يلي جرد لعلماء القرن الماضي

__________

(1) المرجع نفسه.

(1/7962)

قياساً بالغير (31 غربيّاً/ 1 عربي).

... 1 ـ سيغموند فرويد (1865 ـ 1939): عالم النفس الشهير الذي أرسى قواعد التحليل النفسي (كمعالجة المعافين وتفسير الأحلام).

... 2 ـ ماكس بلانك (1858 ـ 1947): عالم الفيزياء الذي وضع نظرية الكمّ التي تؤكد أن الطاقة لا تصدر بشكل متواصل من الأجسام المشعّة، بل بكميات خفيفة. وظهرت هذه النظرية عام 1900.

... 3 ـ هانز شيمان (1896 ـ 1941): عالم الأجنّة الألماني الذي أثبت خلال سنة 1900 أن خلايا الجنين تحمل كل المعلومات الوراثية اللازمة لنمو أعضاء جديدة. ...

(1/7963)

... 4 ـ جويلمو ماركوني (1874 ـ 1937): عالم الفيزياء الإيطالي الذي أجرى أول اتصال لا سلكي عام 1901 عبر المحيط الأطلنطي؛ كما اكتشف الموجات القصيرة واستعان بشفرة »مورس« لوضع النظام اللاّسلكي. حصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1909.

... 5 ـ إيلي إيميل فون بيرنغ (1917 ـ 1954): طبيب ألماني منح جائزة نوبل للمرة الأولى في مجال الطب لجهوده في تطوير العلاج بالمصل وخصوصاً لمرض الدفتريا سنة 1901.

... 6 ـ فيلهيلم كونوادرو نتجن (1845 ـ 1923): طبيب ألماني حصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1901، تقديراً

(1/7964)

لاكتشافه أشعة »روتنجن« التي تعرف بـ»أشعة إكس«.

... 7 ـ هنري بيكريل (1852 ـ 1908): عالم الفيزياء الفرنسي. يحدد مصدر الإشعاعات الغامض (ذرّات اليورانيوم). وهذا الاكتشاف (1901) أول دليل على أن الذّرّة هي أصغر وحدة للأشياء لها بنية داخلية.

... 8 ـ إيميل فيشر (1852 ـ 1919): عالم الكيمياء الألماني الذي اكتشف عام 1902 تركيبة للأدوية المهدئة للأعصاب (بتعرُّف السّكّر في الأنسجة والبروتينات). منح جائزة نوبل في الكيمياء عام 1902.

(1/7965)

... 9 ـ ماكس تيلر (1899 ـ 1972): طبيب باحث نجح في إعداد لقاح لمرض الحمّى الصفراء (1937). وكان أول مواطن من جنوب أفريقيا يحصل على جائزة نوبل في الطب سنة 1951.

... 10 ـ كاري سكلودورفسكا كوري (1867 ـ 1934): عالمة فرنسية بولونية الأصل. زوجها هو الفرنسي بيار كوري (1859 ـ 1906). منحت جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1903، لاكتشافها عنصري الرّاديوم والبلوتونيوم. وقد مهّد اكتشافها للأبحاث الحديثة في مجال الفيزياء النّوويّة.

(1/7966)

... 11 ـ إيفان بياروفيتش بافلول (1849 ـ 1936): طبيب روسي اكتشف من خلال أبحاثه مدى تأثير الجهاز العصبي على إفرازات المعدة والبنكرياس. وقد منح جائزة نوبل في الطب عن أعماله عام 1904.

... 12 ـ ألبرت أينشتاين (1879 ـ 1955): عالم ألماني وأحد عظماء القرن العشرين. وضع نظرية النّسبيّة التي تحدد الأفكار الأساسية (الزمان، المكان، الكتلة، الحركة، الجاذبية) التي نعتمد عليها لوصف الأحداث الطبيعية. وقد أدت نظريته هذه عام 1905 إلى إعادة النّظر في نظرية الفيزياء والرياضيات والفلك.

(1/7967)

... 13 ـ روبرت كوخ (1843 ـ 1910): طبيب ألماني مكتشف مسببات مرض السّلّ. منح جائزة نوبل للطب سنة 1905.

... 14 ـ أوغيست فون فاسرمان (1866 ـ 1925): عالم الجراثيم والمناعة الألماني. قام بتطوير تحليل للدم للكشف عن الإصابة بمرض الزّهري سنة 1908.

... 15 ـ بول إيريش (1854 ـ 1915): طبيب ألماني اخترع مادة الأرسينوبترول أول دواء كيميائي في تاريخ الطب يستخدم في علاج مرض الزّهري سنة 1909 (منح عن اكتشافه هذا جائزة نوبل في الطب سنة 1908).

(1/7968)

... 16 ـ برتراند راسل (1832 ـ 1913): وألفريد نورث وايتهد (1861 ـ 1947): الفيلسوفان وعالما الرياضيات البريطانيّان. وضعا مبادئ منطق الحساب سنة 1910 والتي طبّقت بعد ذلك في علم الاجتماع والتعليم والسياسة.

... 17 ـ ألكني كاريل (1873 ـ 1944): جرّاح فرنسي أثبت عام 1912 أن الأنسجة يمكن أن تعيش بعيداً عن الأعضاء التي اقتطعت منها إذا تمّت تغذيتها بشكل سليم. حصل على جائزة نوبل في الطب سنة 1912، تقديراً لأبحاثه في مجال جراحة الأوعية الدّموية وزرع الأعضاء والأنسجة.

(1/7969)

... 18 ـ توماس ألفا إديسون (1847 ـ 1931): المخترع الأمريكي لأول مصباح كهربائي يتّسم بالأمان لاستخدامه في المناجم (1914). وكان قد اخترع الفوتوغراف والتلغراف والآلة الكاتبة والبطّارية والميكروفون وطوّر آلة السينما.

... 19 ـ أدين هابل (1889 ـ 1935): عالم الفلك الأمريكي يكتشف عام 1919 وجود نجوم لا يبقى لمعانها ثابتاً على مر الزمان. وقد أدّى هذا الاكتشاف إلى تحديد المسافات بين المجرّات. وفي سنة 1923 أثبت وجود مجرّات أخرى غير مجرّاتنا في الكون.

(1/7970)

... 20 ـ روبرت أندروز ميليكيان (1868 ـ 1953): عالم الفيزياء الأمريكي. اكتشف الأشعة الكونيّة عام 1925، وهو من أبرز العلماء الأمريكيين الذين ساهموا في دراسة الشحنات الكهربائية للإلكترونيات الذّرية ونجح في قياس كثافة الأشعة الكونية.

... 21 ـ ألكسندر فلمنغ (1881 ـ 1955): عالم البكتيريا البريطاني الذي اكتشف البنسلين بمحض الصدفة عام 1929. رأى الفطر ينمو في طبق نسيه في معمله ويدمّر البكتيريا من حوله.

... 22 ـ غراهم بيل (1847 ـ 1922): اخترع التلفون، أشهر وسيلة اتصال.

(1/7971)

... 23 ـ جيمس تشار دويك (1891 ـ 1974): عالم الفيزياء البريطاني. اكتشف النيترون وإحدى الجزئيات التي تتألف منها نواة الذّرة (1932). منح جائزة نوبل للفيزياء عام 1935.

... 24 ـ فريدريك جوليو (1900 ـ 1958) وزوجته إيرين جوليو كوري (1897 ـ 1956): عالما الفيزياء الفرنسيان اكتشفا العناصر المشعّة، وحصلا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1935.

... 25 ـ روبرت أتسون وات: عالم بريطاني وضع تصميماً لجهاز يكشف وجود طائرة من صدى الصوت. وقد أدّى هذا الاختراع إلى إنتاج محطات الرادار التي أقيم أربع منها سنة 1936.

(1/7972)

... 26 ـ بول مولر (1899 ـ 1956): عالم الكيمياء السويسري اكتشف خواص »دي دي تي« بما هو مبيد للحشرات وفاعليتها. منح جائزة نوبل عام 1948.

... 27 ـ أنريكو فيرمى (1901 ـ 1954): عالم الفيزياء الأمريكي الإيطالي الأصل. نجح في توليد أول مفاعل نووي مسلسل سنة 1942. حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938.

... 28 ـ ويلارد ليي (1908 ـ 1980): عالم الكيمياء الأمريكي. استطاع مع مجموعة من الباحثين (1946) تطوير طريقة تحديد التاريخ باستخدام اشعة الكربون، وذلك لتعرُّف عمر بعض الأشياء. منح جائزة نوبل في الكيمياء سنة

(1/7973)

1960.

... 29 ـ جيمس واتسون: عالم الأحياء الأمريكي (1928) وفرانسيس كريك (1916) عالم الفيزياء الحيوية البريطاني يتوصلان لتركيبة الحامض النووي الريي سنة 1953، ويضعان تصوراً لرموز كيميائية حيوية يمكن أن تنقل معلومات وراثية متنوعة.

... 30 ـ كريستيان برنار: طبيب فرنسي قام بأول عملية ناجحة لزرع قلب بشري في جنوب أفريقيا.

... 31 ـ أحمد زويل (1974): العالم المصري العربي الوحيد (الأمريكي الجنسية). توصل إلى إنجاز خطير سيحدث ثورة علمية ـ توصل لوسيلة لرصد سلوك الجزئيات أثناء التفاعلات الكيميائية؛ وكان هذا

(1/7974)

مستحيلاً من قبل، لأن سلوك الذّرّات أثناء التفاعلات يحدث بسرعة فائقة تصل إلى جزء من مليون ميل، أي 1210 من الثانية.

... وقد تمكن من استخدام اللّيزر في رصد الأحداث في عالم الذّرّات، وهو ما سيؤثر في العلوم البيولوجية في القرن العشرين(1).

... وهكذا كان القرن الماضي حافلاً بالإنجازات والاكتشافات والاختراعات، لأنه قفز بالإنسان خطوة هائلة نحو عالم تحكمه التكنولوجيا. وهي محطات هامة في تطور العلوم وتقدّمها وطفرة علمية غيرت حياة الإنسان.

__________

(1) مقال تفصيلي في جريدة البيان، تونس، يناير، 2001.

(1/7975)

5) الانعكاس والتأويل

... إذا كان العلم الحديث قد قام بدافع السيطرة وليس بدافع الحب (نشأ من تطلع الغرب إلى استعمار الشّرق)، فإنه أثمر القوة ولم يثمر الرحمة، اهتم بالسرعة ولم يهتم بالكينونة. وهذا، بالرغم من أن حضارة الغرب أضافت إلى تراث الإنسان (التنظيم الذي يتطلبه العلم الحديث بالفهرسة والتصنيف حتى لا يضيّع وقته في جهد مكرّر (التصنيف يعني تكنولوجيا)، أي تطبيق العلم بالتصنيع، وأن التحرر المعنوي مع استيعاب التراث يعين على إعادة بناء الشخصية وحمل أمانة التاريخ.

(1/7976)

... إن الكساء الخارجي (عارية) لا يصنع شخصية ولا يكسب جنسية إلا إذا كان نابعاً منها، منسوجاً من خيوطها. ونريد من العربي أن يكون قادراً على العطاء دون تبعية ولا رجعية ولا انعزال، بلا نزعة عدائية للشرق أو للغرب، بلا استعلاء أو استخذاء، بلا تعصّب.

... ولعل من أهم مقتضيات إحياء الفكر العربي وتفعيل حضوره المعرفي ووضعه في السياق الصحيح الذي يتناسب والإرث الحضاري التليد للأمة أن يعاد النظر في مراكز البحث الجامعي في العلوم الإنسانية والرياضية والفيزيائية، وفي ما يلقي من دروس نظرية وأشغال تطبيقية

(1/7977)

بالجامعات العربية مشرقاً ومغرباً، ممّا يؤدي إلى التمكّن من خلق عقلية منتجة تتعامل مع المعرفة ووسائلها المتعددة بعيداً عن »الأنا« والاستهلاك والوظيفة فيما بعد ولا شيء بعد ذلك. وبهذا يمكن صياغة الإنسان العربي من جديد في ضوء القيم القديمة التي تعامل معها العربي في البحث عن المعرفة وتوظيفها لفائدة الغير والتاريخ، وحتى تعود للعلم وللمعرفة بصفتهما كلاًّ قيمتهما في ذاكرته ووعيه، لأنه لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا عقيدة تجمع عليها وتتجمع حولها اعتناقاً وتمضي بها سلوكاً لا يعرف الازدواج. وذلك يتم:

(1/7978)

... 1) بالعودة لأصولنا العقيدية عودة تتجاوز المناداة بالشعار إلى النهج الذي بنى عليه رواد هذه الحضارة الشامخة أنفسهم أولاً، فبنوا مع ذلك دولاً عظمى حفظت لإنسانها علماً رفيعاً في الخارج؛ كما تمتّع في ظلال تلك الأعلام الكبرى بكرامته وأمته ورخائه.

... 2) لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا تاريخ تحبه وتعتز به أجيالها.

... 3) لا وجود ولا مستقبل لأمة بلا لغة واحدة تفهم بها عقيدتها وتزن بها تاريخها وتتفاهم بها أجيالها بعيداً عن استفحال الشتات تركيزاً في القلب، حيث نشأت اللغة وانطلقت العقيدة(1)

__________

(1) مجلة رسالة الخليج، س 8، 1988.

(1/7979)

.

... يجب أن نتصرف في الأزمة الثقافية العميقة برؤية حضارية توضح كافة مواردنا المتاحة للخروج من القطيعة المعرفية. ويشمل هذه المواد أساساً في الإيمان بقيمة العلم والتشجيع على البحث والإضافة العلمية للإنسانية والتفتح على الثقافات واللغات الأخرى.

... العربي اليوم يهزه التقدم العلمي والتكنولوجي وقد فرض عليه:

... 1 ـ الاعتقاد بوجود الأسرة البشرية وحق الجميع في حياة كريمة.

... 2 ـ الأخذ بعقلانية الثقافة مهما اختلفت أصولها وأهدافها ومصادرها.

... 3 ـ بروز بيروقراطية وسيطرتها على العمل الثقافي.

(1/7980)

ولذلك، فالعربي اليوم:

1 ـ فكره غير متناسق وغير منسجم بصفة واضحة، صفته الاستقلالية والمصلحيّة. وهو مهمش أمام الغزو الثقافي والعلمي ـ الغربي ـ في ظل العولمة الحائزة.

2 ـ مستسلم، لأنه يشعر بضعف دائم من منطلق إرادة استعمارية سابقة (لغة، اقتصاد).

... 3 ـ تباعد سياسي وتربوي يسبب في تعطل الفكر من منطلق الخلق والإبداع والمبادرة. وهذا التباعد خلق تأخراً في التوحد الجغرافي الذي أدى إلى تعطل الفكر عن تلاقحه عربيّاً فدوليّاً.

(1/7981)

... إن إشكالية الثنائية (الحداثة والتراث) قد تؤدي بهذا العربي اليوم إلى التباعد والذوبان، مع وجود عدم فهم للدور الفكري الذي يجب أن يؤديه في الوقت الحاضر أمام التحديات الأخرى، وأن يتميز سلوكه المعرفي بالجرأة والفاعلية في اقتحام النظريات العلمية والتعامل معها وتطويعها لخدمة مجتمعه ووطنه، وذلك بلغته، دون تهميش أو ذوبان، جاعلاً نصب عينيه مبدأ »التفكير لأنفسنا وأن لا يفكر الغير لنا«.

...

6 ـ المعوقات

... إن ما يعاني منه العربي اليوم في محيطه وفي مجتمعه وفي كيانه أيّاً كان، هو:

(1/7982)

... 1) التبعية الثقافية: فبالرغم من تخلص الأوطان العربية من الاستعمار السياسي المباشر، فإنها ما تزال تعاني من مخلَّفات التبعية والاستلاب الثقافي. ويتمثل ذلك في إغراق المجتمع العربي بمواد مناهضة تعمل على انفصام شخصيته بمواد تكنولوجية غالباً ما تكون غير ملائمة وصار يعتبرها ضرورية. فكفّ عن الإنتاج والإبداع. وهذه هي المأساة.

... 2) التغريب وهجرة الكفاءات: لا يتحقق استقرار العربي في وطنه إلا بتوفير العمل المناسب حتى يسهم في التنمية الثقافية والفعل الثقافي.

(1/7983)

... 3) وجود العوائق التي يصنعها الآخر ويُساعد على تبنيها، وهي عوائق تحول دون تبادل الأفكار والآراء ووسائل نشر الثقافة المنقولة، وأخصها الكتاب والصحيفة. وهكذا يعيش العربي في محيطه مجهولاً، لأن إنتاجه الفكري محدود الحضور، وبالتالي غير ميسور لتقديمه للباحثين خارج وطنه وفي محيطه العربي خاصة.

... 4) تحرص النخبة في المجتمع على أن يدرس أبناؤها في المدارس الخاصة، وفي الجامعات الحرة، وفي الجامعات الغربية والأمريكية بالخصوص.

(1/7984)

... 5) عامل الفقر الذي يصنع التخلف المعرفي والاجتماعي والتربوي. وهو من العوامل التي ركز عليها المستعمر، مما جعل العربي يقلّل من حظوظ التعامل مع قنوات المعرفة أيّاً كان نوعها، ولأن التفكير اليوم في العيش والخبز يجعل هذا الإنسان يقصر تفكيره المعرفي على توفير القوت وضمان العيش والحياة له ولمحيطه ليس غير.

7 ـ التّحدَّيّات

... تتمثل التحديات المطروحة على المجتمعات العربية وفي مقدمتها النخبة المنتجة للفكر في أن على هذه المجتمعات أن تعمل بقواها الثقافية الفاعلة على بلورة شخصية جديدة لتغيير مقولة إن

(1/7985)

المفكرين المعاصرين استعادوا أجهزتهم المعرفية من مفكري عصر النهضة من جهة ومن مفكري الغرب من جهة ثانية. لهذا كانوا عاجزين عن تقديم نظرية للعقل العربي متكاملة، وكان فكرهم فكراً تراكمياً، مما جعلهم سجناء العقل الغربي ومفاهيمه. فالمفكرون العرب لم يسائلوا العقل العربي ولم ينقدوه، وظلوا بذلك أسرى تصور للعقل الواحد(1).

... إن أبرز معالم التحدي لدى العربي اليوم وغداً هو أن يعمل في محيطه على:

__________

(1) الشاذلي الساكر، مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية (ندوة)، 24/1/1994.

(1/7986)

1 ـ بناء قدرته حتى يشحن الفعالية الروحية في الأمم كلها.

... 2 ـ استيعاب ثقافة العصر استيعاباً كاملاً.

... 3 ـ تبني أساليب الحضارة المعاصرة أو إبداع البدائل. ...

... 4 ـ حماية المنجزات الحضارية للأمة.

وإن العناصر البارزة لجوانب التحدي الحضاري تكمن في:

... أ ـ العقيدة بصفتها عنصراً بارزاً في معركة التحدي والبقاء.

... ب ـ الرصيد الإنساني والاجتماعي.

... ج ـ القيم والمثل والمبادئ.

... وبالنظر للموضوع وجوانبه المتشعّبة، نجد أنه مكتوب فيه، والمؤلفات التي مست أحد جوانبه متوافرة بدءاً بـ"ـالقرآن"،

(1/7987)

وكيف تعامل العرب مع ما فيه من أخبار تاريخية للأمم الخالدة، وكيف أن العرب الجاهليين ردوها إلى أساطير الأولين، وكيف أعطاها المؤمنون ما تستحقه من أهمية، خصوصاً تلك التي لم يأت ذكرها في "التّوراة" و"الإنجيل"، ثم كيف تعامل العرب مع المعرفة خلال القرون الوسطى الإسلامية الأولى وما تبع ذلك من إشعاع الثقافة العربية وازدهار المعرفة وأسباب انحطاطها.

8 ـ الأماني

... ما أتمنى ان يكون أمام العربي في تعامله مع المعرفة:

... 1 ـ أن يخرج من الفردية إلى الجماعية (تشخيص الداء ووضع الحلول).

(1/7988)

... 2 ـ المنطلق من التراث العربي والإسلامي قراءة ودارسة وتحليلاً وإنتاجاً باعتباره أكبر إنجاز للثقافة العربية والإسلامية معاً.

... 3 ـ بناء شخصية عربية متمثلة في:

... أ ـ اقتصاد متين.

... ب ـ مجتمع سليم.

... ج ـ فكر حر.

... د ـ حب مفتوح للإبداع والإضافة.

... 4 ـ العمل على أن يقترن الفكر الحديث في ذهن الآخرين بالعلم.

... 5 ـ اقتران العمل اليدوي بالعمل الفكري. وإذا انعزل أحدهما عن الآخر، تجبر الذّهن. وهذه هي المأساة (الذهن في ناحية بلا قلب، واليد في ناحية بلا فكر، بلا روح. وساءت النتيجتان).

(1/7989)

... 6 ـ العمل على أن تترجم اليد عن نفس واعية وحساسية مثقفة متدينة لتعد قوة خالقة وطاقة حيوية.

... إذا كان الهدف من العلم هو إيجاد القانون، فهدف الصنعة تيسير الوسيلة، وهدف الفكر تحقيق القيمة. والقيمة معنى جامع لاستئناف العلم والعمل.

... ما يستنتج من كل هذا:

... 1) قديماً، كان دور طلبة العلم جاداً من أجل البحث والمعرفة (جمع اللغة، تدوين الحديث، تلقّي أصول الشعر العربي، البحث عن نظريات علمية، الجري و.... للظفر بمعلومة ما، قراءة مخطوط أو نقله، أو إنجاز التجارب الكيميائية). يظهر حرصهم على تسخير

(1/7990)

طاقاتهم ووقتهم من أجل المعلومة من خلال السّفر وتعرّضهم للمتاعب والجوع والمخاطر دون مقابل من أجل الغير. وبذلك أبدعوا وأفادوا الإنسانية، والأمة العربية بالخصوص، بما حصلوا عليه وأشاعوه.

... 2) اليوم، أصبحت المعلومة أداة ووسيلة للذّات وفي المجتمع العربي والإسلامي صارت المعلومة من أجل »الأنا« »مادية بحتة« للحصول على الرفاهية وبناء علاقات وظائفية في أنانية صرف.

... 3) النتيجة:

... أ ـ التعامل مع المعرفة في بعض الأوطان العربية أوجد أناساً عاجزين عن الإبداع (الطلبة يتلقون معلومات في مجال معين).

(1/7991)

... أي نعم! الطالب يتلقّى المعلومة ولا يبدع ولا يساهم في إيجادها (مستهلِك). وهذه القصية التربوية والحضارية معاً من شأنها أن تخلق إشكالية أخرى عند التخرج ومباشرة الحياة. والكثير منهم يندمج في المجتمع ويصير فيه مستهلِكاً إلا قلّة قليلة تحاول أن تكون طرفاً في العملية الإبداعية (كالعلوم الإنسانية وغيرها).

... تبقى إشكالية أخرى جديرة بالاهتمام والدرس، وهي التساؤل عن كيفية الاستفادة من التراث والإضافة إليه، وهو تساؤل يتضمن في صلبه إشكالية »رتق تعامل العربي مع المعرفة«.

(1/7992)

... ب ـ بخصوص هجرة الكفاءات العربية للغرب مثلاً:

... لا يتوفر للعربي في بلده مجال المشاركة والإبداع (مراكز البحوث محدودة الفاعليّة، المخابر القاصرة على أداء ما يمكن أن يحتاجه غداً، المعارف في مستوى الجامعات محددة بشكل لا يجعلها وظيفية عند التخرج.

... ـ غياب رؤية واضحة للبحث في سياق التنمية بمفهومها الواسع.

... ـ الركض وراء الآخر بحجة أو بأخرى.

... ـ إن مثل هذه الإشكالات تجعل العربي يتعامل مع المعرفة خارج الوطن، لأن:

1) الكفاءات العلمية متوافرة عند الطلب وبلا معوقات.

(1/7993)

2) مراكز البحوث مفتوحة للتكوين والاستفادة فالإبداع.

3) المغريات المالية التي تقدمها الحكومات الغربية (منح دراسية، منح بحث، منح تأطير، تشغيل).

4) الحضور العلمي الذي يضمن الإشعاع والاستمرار والفاعلية.

5) وضوح الرؤيا العلمية من منطلق إيمان الغرب بالعلم والمعرفة.

... علينا إذن أن نقرأ تاريخنا العلمي والمعرفي بصدق ونعلّم أبناءنا بموضوعية كاملة وندربهم على البحث والتعامل مع المعلومة بأن نغرس فيهم الثقة والقدرة على التعامل مع المعرفة كالآخر، وأن ندرس بصدق وبعلم وبحكمة كل فجوات في التكوين المعرفي لنضمن

(1/7994)

استمرارنا ومساهمتنا من جديد في التراث الإنساني.

...

...

المراجع والمصادر

الكتب:

تاريخ العلوم عند العرب، إعداد مجموعة من الأساتذة، بيت الحكمة، تونس، 1990.

الأدباء العرب في مواجهة التحديات (ندوة)، منشورات الاتحاد العام للأدباء العرب، عمان ـ الأردن، 1992.

ملتقى أحمد بن أبي الضياف للفكر السياسي والاجتماعي الحديث (ندوة)، سليانة، تونس، 1989.

إبراهيم زيدان، في الفكر والثقافة والعلوم، عمان، 1992.

الأمير علي، مختصر تاريخ العرب، بغداد، 1928.

أحمد أمين، ضحى الإسلام.

جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي.

(1/7995)

مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب.

ـــــ ـــــ ـــــ ، وحي القلم.

حنا الفاخوري، تاريخ الأدب العربي.

أندريه ميكال، الإسلام وحضارته، ترجمة الدكتورة زينب عبد العزيز.

الأمير شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟

محمد كرد علي، غرائب الغرب.

ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران.

محمد مفيد الشّوباجي، العرب والحضارة الأوروبية، مصر، 1961.

محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية.

(1/7996)

محمد عبد المولى، تطور الفكر الاقتصادي والاجتماعي عبر العصور. بحث سوسيولوجي. (موقف الفكر العلمي من ظواهر التخلف في الوطن العربي)، تونس، 1986.

حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، القاهرة، 1964.

محمد القاضي وعبد الله حولة، الفكر الإصلاحي عند العرب في عصر النهضة، تونس، 1992.

علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، لبنان، 1985.

مفرح بن سليمان القوسي، الشيخ مصطفى صبري وموقفه من الفكر الوافد، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، السعودية ـ الرياض، 1997.

(1/7997)

أنور الجندي، العالم الإسلامي والاستعمار السياسي الاجتماعي والثقافي، لبنان، 1979.

الحبيب الجنحاني، »الثقافة العربية المعاصرة«، من قضايا الفكر، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، تونس)، تونس، 1975.

لبيب عبد الستار، الحضارات، لبنان، 1974.

ــــ ــــ ، أحداث القرن العشرين، لبنان، 1977.

أحمد بهاء الدين، المثقفون والسلطة في عالمنا العربي، سلسلة كتاب العربي 38، الكويت، 1999.

توني أ. هف، فجر العلم الحديث، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2000.

(1/7998)

وحدة الثقافة العربية (ندوة)، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عمان، 1993.

محمد السويسي، أدب العلماء إلى نهاية القرن الرابع هجرية.

محيي الدين صبحي، قضايا الثقافة العربية المعاصرة.

عبد الكريم غلاب، الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات، تونس.

المجلات:

مجلة الأقلام، بغداد.

التاريخ العربي، الرباط (المغرب).

الحياة الثقافية، تونس.

مجلة 7 نوفمبر، تونس.

الإتحاف، سليانة، تونس.

الدوحة، قطر.

الفيصل، الرياض (السعودية).

الهداية، تونس (المجلس الإسلامي الأعلى).

الرّافد، الشّارقة (الإمارات).

(1/7999)

المؤرخ العربي، بغداد.

الفكر العربي، لبنان.

الوحدة، الرباط (المغرب).

التنوير، تونس (معهد أصول الدين).

أفاق عربية، بغداد.

الصحف:

القدس، لندن.

العرب، لندن.

الصّباح، تونس.

البيان، تونس.

الشروق، تونس.

(1/8000)

تقييد جديد حول النقود والأوزان والمكاييل المغربية في القرن السابع الهجري (تقديم وتحقيق)

... ... ... ... ... الأستاذ محمد الشريف

... ... ... كلية الآداب ـ تطوان

... تظل عملية »تحديد الأوزان والمكاييل والنقود من أصعب المهام المنوطة بالتاريخ الاقتصادي للغرب الإسلامي وأولى الخطوات التي ينبغي القيام بها لتتجاوز أي دراسة حول الاقتصاد المغربي الطابع الوصفي الكيفي إلى التدقيق العلمي الإحصائي الدقيق«(1)

__________

(1) ... انظر الدراسة التي أفردناها لكتاب أحمد العزفي، "إثبات ما ليس منه بد لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمد" (تحت الطبع ضمن منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة).

(1/8001)

. فالمؤرخ يجد نفسه داخل مشاكل أساسية، لأن عدم فهم النقود وآليات الوزن والكيل داخل الوظيفة الاقتصادية لمجتمع القرون الوسطى في الغرب الإسلامي يؤدي إلى خلل داخل المفاهيم الأساسية في المنظومة الاقتصادية(1). ونعتقد أنه إلى جانب المسكوكات الموجودة في المتاحف وفي

__________

(1) ... Chalmeta Pedro, «Monnaie de compte, monnais fiscale et monnaie réélle en Andalus », in Documents de l’Islam médiéval. Nouvelles perspectives de recherche, Institut français d’archéologie orientale du Caire, 1991, p. 65 sq.

(1/8002)

الكاتالوغات المختلفة. هناك نصوص كتابية حول العملة والأوزان والمكاييل لا يجب إغفالها أو التقليل من أهميتها في أي مشروع يروم كتابة تاريخ اقتصادي علمي دقيق للغرب الإسلامي. وعدم أخذ تلك النصوص بعين الاعتبار قد يدفع بنا إلى مزالق منهجية ويوصلنا إلى خلاصات غير دقيقة(1)

__________

(1) ... مثل تلك التي وصل إليها عز الدين أحمد موسى، أحد الباحثين في التاريخ الاقتصادي للغرب الإسلامي في العصر الوسيط، من أن دول المغرب لم تبذل جهداً لتوحيد الموازين والمكاييل المستعملة في العمليات التجارية (انظر كتابه: النشاط الاقتصادي في الغرب الإسلامي، دار الشروق، بيروت، 1983، صص. 297 ـ 298).

(1/8003)

.

... لقد عمل فقهاء المغرب والأندلس وعلماؤها على حل المشاكل التي تطرحها عملية الصرف والمعادلات انطلاقاً من الدرهم الفضي والدينار الذهبي وتقسيماتهما الفرعية، وذلك بهدف الوصول إلى نظام موحد للأوزان والنقود. لذلك لا غرابة إن كثر ما سماهم صاحب "الدوحة المشتبكة" »أصحاب المقادير«(1)، أي العلماء الذين اجتهدوا في تدقيق وزن النقود والمكيلات والأوزان بهدف تقديم إطار واضح لدفع الضرر وفق مصادر التشريع الإسلامي وأعراف كل بلد؛ لأن أنظمة الكيل والوزن

__________

(1) ... أبو الحسن المديوني، الدوحة المشتبكة، ص. 140.

(1/8004)

المستعملة كانت تختلف باختلاف الفترات الزمنية وباختلاف المناطق، بل وداخل المنطقة الواحدة؛ كما كانت تحدد في أغلب الأحيان بالاستناد إلى العرف. وإلى ذلك يشير ابن خلدون قائلاً »صار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم، بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية«(1). وبغض النظر عما تتضمنه كتب الحسبة والمؤلفات الفقهية النظرية الكلاسيكية وغيرها من تدقيقات في هذا الموضوع، فإن التآليف في هذا الميدان قليلة جداً. وجلها لم يصلنا

__________

(1) ... ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992، ص. 277.

(1/8005)

وما وصلنا ما يزال مخطوطاً وأقله هو المطبوع المتداول.

... نشير في هذا الصّدد إلى بعض التصانيف التي وصلتنا من الغرب الإسلامي، وعلى رأسها:

... ـ "مقالات وتنبيهات في المكاييل والأوزان" لأبي بكر بن خلف المواق، قاضي فاس (ت, 559 هجرية/ 1202 م) (1).

... ـ "ذكر مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة" لأبي محمد عبد الواحد بن محمد الباهلي الغافقي(2)

__________

(1) ... نشرها R. Brunschvig, «Esquisse d’histoire monétaire almohado-hafside », in

Etudes d’Islamologie, T. 1, Paris, 1976, pp. 97-98.

(2) ... مخطوط الخزانة العامة (الرباط) ضمن مجموع رقمه 1586، د، ص. 40 ق ـ 43 ق.

(1/8006)

.

... ـ "الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة" لأبي الحسن علي بن يوسف الحكيم(1).

... ـ "فتوى" لأبي محمد عبد الحق بن عطيّة أصدرها سنة 616 هـ احتفظ بها ابن الجياب في كتابه "التقريب والتيسير لإفادة المبتدين [أو المبتدئة] بصناعة مساحة السطوح"(2)

__________

(1) ... نشر حسين مؤنس، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد 6، 1958، العدد 1 ـ 2.

(2) ... أبو طاهر محمد ابن الجياب المرادي (حوالي 680 هـ)، التقريب والتيسير لإفادة المبتدين بصناعة مساحة السطوح، مخطوط الإسكوريال، رقم 929؛ وينقل عنها الخزاعي (تخريج الدلالات السمعية، تحقيق د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، صص. 599، 602، 604).

(1/8007)

.

... ـ "إثبات ما ليس منه بُدّ لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمُدّ" لأبي العباس أحمد العزفي السبتي. أما تلك التي لم تصلنا منها سوى شذرات في المؤلفات الأخرى، فنذكر منها:

... ـ "مقالة في الأوزان" لعلي بن محمد بن القطان الفاسي (ت. 628 هـ/ 1230 م) (1).

__________

(1) ... انظر ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، السفر الثامن، الرباط، 1984، ص. 168؛ أحمد بن القاضي، جذوة الاقتباس، الرباط، 1973، ج 2، ص. 106.

(1/8008)

... ـ "مقالة" لولده حسن بن علي بن محمد(1).

... ـ "مقالة في المكاييل الشرعية" لابن البناء المراكشي (ت. 721 هـ/ 1321 م)(2).

... ـ "النكت العلمية في مشاكل الغوامض الوزنية" لأبي بكر القللوسي الملقب بالفار، وهي أرجوزة عروضية كان يقرؤها بمراكش على عهد الموحدين(3).

المخطوط وصاحبه

__________

(1) ... ينقل عنها علي الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية، ص. 614، 616، 793.

(2) ... ينقل عنها علي الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية، صص. 603 ـ 616؛ وانظر كذلك جذوة الاقتباس، ج 1، ص. 151.

(3) ... انظر جذوة الاقتباس، ج 1، ص. 150.

(1/8009)

... ونود في هذه الدراسة الوقوف عند تأليف فريد خصصه صاحبه كما يدل على ذلك عنوانه ـ لـ"تلخيص القول في الأكيال والأوزان والنصب الشرعية وتبيين مقاديرها من أقوال العلماء المعتنين بتحقيق ذلك"(1). يضم التقييد مقدمة مقتضبة تعلن عن محتويات التأليف واثني عشر فصلاً متباينة الطول، حتى أن بعضها عبارة عن فقرات مقتضبة.

... ـ يبتدئ المؤلف كلامه بالوقوف على حقيقة الدرهم الكيل الذي »تُركب منه الأوقية والرطل والمد والصاع ويُحقق قدر كل واحد منها به«، أي

__________

(1) ... مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 416 ق، ص. 434، 449.

(1/8010)

»الذي تحققت به المكاييل في الشرع وعرفت مقاديرها منه«. ثم يتعرض لمسألة أصل تركيب الدرهم وما قام به الخليفة الأموي عبد المالك بن مروان بهذا الصدد (الفصل الأول) ليتطرق إلى العملة الموحديّة، وبالضبط »الدرهم الذي ضربه عبد المومن بن علي بالمغرب« ومقداره من حب الشعير، ومقداره بالنسبة للدرهم الكيل (الفصل الثاني)؛ وذلك ليتسنى له معرفة »العدد الذي تجب فيه الزكاة من الدراهم المومنية« ومبلغ الواجب فيها. ثم يتطرق في السياق نفسه للعدد الذي يخرج منه الزكاة من الدراهم الجارية ببلاد إفريقية، والدنانير اليوسفية،

(1/8011)

والدينار اليعقوبي، والدنانير المعروفة بالأميرية الجارية بإفريقية. ونجد المؤلف في كل معطياته يستند إلى عمليات حسابية دقيقة وواضحة تتخللها تفسيرات مختلفة وكأني به يتوجه بذلك إلى عامة الناس وخاصتهم (الفصلان الثالث والرابع).

... وبعد أن يوضح مقدار الصداق عند مالك، يحسب مقداره بالدراهم المومنية، والدراهم الجارية والدينار اليوسفي والدينار الأميري (الفصل الخامس). ويفعل مثل ذلك في حساب قدر الدية. فبعد وقوفه على حكم الشرع فيها، يوضح مقدارها بالعملات نفسها (الفصل السادس). ولا يفوته أن يشير إلى أن

(1/8012)

»الدينار عند مالك ـ رحمه الله ـ على نوعين: نوع للزكاة والجزية، وهو من صرف عشرة دراهم شرعية؛ ونوع ثان للديات والنكاح، وهو من صرف اثني عشر درهماً من الشرعية أيضاً« (الفصل السابع).

... ـ أما في الفصل الثامن، فيعرفنا بالفرق بين »الدرهم المصطلح عليه ودرهم الكيل الأصلي الذي عليه العلماء«. وفي الفصل التاسع يلخص المؤلف »ما تقدم ذكره من الأعداد والنصب مرسوماً بالوضع المعروف بالرومي«. ويخصص الفصول الثلاثة المتبقية لتحقيق الأوزان والأكيال الشرعية، معتمداً في ذلك على بعض الكلاسيكيات في الموضوع مثل كتاب

(1/8013)

"الأموال" لأبي عبد القاسم بن سلام، و"إكمال" القاضي عياض وعلى كتّاب اللغة ومحققيها كالأزهري والفراء والجواليقي...

... توجد النسخة المخطوطة بالزاوية الناصرية بتامكَروت، ضمن مجموع رقمه ق 416 في سبع ورقات، خطها مغربي جلي واضح خال تقريباً من الأخطاء. تم نسخها يوم الأحد 7 شعبان المبارك عام 904 هـ (1498 م).

فرضيات حول مؤلف التقييد

... ـ لا يتضمن التقييد أيّ إشارة إلى هويّة الكاتب. فباستثناء معرفته الدقيقة بالحساب والطابع التّعليمي لتأليفه وإلمامه الواسع بمبادئ المذهب المالكي، فإننا لا نعرف شيئاً عن

(1/8014)

مؤلِّف هذا التقييد. إن بعض معطيات التالي قد تفيد للوهلة الأولى أن صاحبه من إفريقية. فهو يتحدث مثلاً عن »الدنانير المعروفة بالأميرية الجارية بإفريقية« ويستعمل عبارة »دينارنا الأميري« أو »المسماة عندنا بالأميرية«، لكنه يستعمل في الوقت نفسه عبارة »دينارنا اليوسفي« و»دراهمنا المومنية«، مما يدل على أن »نا« ليس لها أيُّ إحالة جغرافية في ذهن المؤلف.

... وفي الفصل الحادي عشر ما يوحي للوهلة الأولى بأن مؤلف التقييد هو ابن القطان. يقول: »ولكن من وجه النظر السديد أن تكون أوقيتنا بدراهمنا عشرين بزيادة هذا

(1/8015)

القدر اليسير الذي يوجبه الاحتياط لكون العادة جرت بنقصها لطول استخدامها في المدة القريبة. هكذا قال أبو الحسن علي بن محمد بن عبد المالك، وهو ممن حضر لتحقيق ذلك بمراكش«(1).

... ـ لذلك هناك من يُرجِّح أن يكون صاحبه هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى الكتامي الحميري الفاسي المعروف بابن القطان، صاحب "مقالة في الأوزان والمكاييل"(2) أملاها سنة 642 هـ. على أن

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 6.

(2) ... ابن عبد المالك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 8، الرباط، 1985، ص. 158. (والمصادر المثبتة هناك).

(1/8016)

التقييد يتضمن معطيات قطعيّة تنفي هذه النسبة.

... ـ أولاً: في معرض حديث صاحب التقييد عن وزن الأوقية المغربية يحيل على ما قاله »أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك«، موضحاً أن هذا الأخير كان »ممن حضر لتحقيق ذلك بمراكش«... ولا نعتقد أن هذه الإحالة من زيادة الناسخ.

... ـ ثانياً: لا يمكن أن يكون ابن القطان مؤلف "التقييد" لعدم معاصرته له، فصاحب المجموع ينص صراحة على أن »التاريخ الذي قُيِّد فيه ما حقق من هذه الأوزان والأكيال... هو عام خمسة وثمانين وستمائة« [1286 م]، ونحن نعلم أن ابن القطان الفاسي توفي

(1/8017)

سنة 628 هـ (1230 م).

... ـ ثالثاً: ينقل أبو الحسن علي ابن يوسف الحكيم صاحب "الدوحة المشتبكة" كثيراً من نصوص مقالة ابن القطان الفاسي لا يتضمنها التقييد الذي بين أيدينا(1).

... فهل يمكن نسب التقييد إلى ابن البناء المراكشي؟ نعلم أن لهذا الأخير »مقالة في المكاييل الشرعية«(2) ينقل عنها صاحب "الدوحة المشتبكة" بعدما فرغ من النقل عن ابن القطان الفاسي. ونحن نعلم أن مقالة ابن البناء المراكشي (ت. 721 هـ/ 1321 م) تتضمن

__________

(1) ... انظر مثلاً الدوحة، ص. 101، 102، 105.

(2) ... انظر: جذوة الاقتباس، ج 1، ص. 151.

(1/8018)

تفاصيل عن النقود وأسمائها وأوزانها في عصر الموحدين والمرينيين حسبما تدلّ على ذلك بعض الشروحات على بعض مؤلفاته(1). لكن في غيبة معطيات موثوقة، لا نستطيع الجزم بأن التأليف لابن البناء المراكشي.

... لكن ألا يمكن أن يكون التقييد »مقالة« هو حسن بن علي بن محمد ابن القطان الابن الذي نقل عنها الخزاعي صاحب "تخريج الدلالات

__________

(1) ... أبو القاسم محمد كرو، التعريف بمخطوط أندلسي نادر ونفيس، ضمن كتاب التراث المغربي والأندلسي، التوثيق والقراءة، منشورات كلية الآداب بتطوان، ندوات، د. ت، 4، صص. 183 ـ 190.

(1/8019)

السمعية"(1) أكثر من مرة؟ الوقع أننا لا نبرح ميدان الفرضيات في غيبة معطيات صريحة حول هوية مؤلف التقييد.

... أما عن سنة تأليف هذا التقييد، فقد صادفت وفاة السلطان أبي يوسف المريني (656 ـ 685 هـ/ 1258 ـ 1286 م). ونرجح أن يكون التأليف قد تمَّ في نهاية عهد السلطان أبي يوسف الذي اهتم اهتماماً خاصاً بالتنظيم النقدي وبأدوات الوزن والكيل في دولته، وهو الذي »عمل على تنظيم السكة المغربية تنظيماً جديداً«

__________

(1) ... علي الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية، تحقيق د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، 1985، ص. 793.

(1/8020)

بعدما كانت النقود بالمغرب عند قيام المرينيين مختلفة السكة والوزن. مما أدى إلى حدوث »فوضى في قيمة النقود وفي المعاملات«(1). وصاحب "الدوحة" يخبرنا بهذا الصدد قائلاً:

... لما اشتدت واستوثقت خلافة مولانا أمير المسلمين [...] أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق [...] سمت همته إلى ما يُصلح ملكه، ويُعْلي دينه ونُسْكه، أن نظر فيما ليس منه بدّ من تحقيق الدينار والدرهم والقنطار والرطل والأوقية والوسق والصاع والمد(2)

__________

(1) ... محمد المنوني، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، الرباط، 1979، ص. 97.

(2) ... الدوحة، ص. 107.

(1/8021)

.

وبعد هذه الفقرة مباشرة، يخبرنا المديوني بأن السلطان المريني

... قدم أميناً وناظراً عليها بدار سكته بفاس جدنا الحكيم علي بن محمد الكومي المديوني لمعرفته بالنقود وسائر ما يتعلق بها [...] وما زالت سكته كذلك وعلى مذهبه، وذلك في سنة أربع وسبعين وستمائة [...] وأقام فيها نحواً من خمسين عاماً(1).

فالتقييد تم تأليفه بعد عشر سنوات فقط من تولية الحكيم المديوني. فهل يمكن أن يكون هو مؤلف التقييد الذي بين أيدينا؟

بعض مميزات التقييد

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 150.

(1/8022)

... يمكن القول إن هذا التقييد، على الرغم من صغر حجمه وقلة أوراقه، اجتمع فيه من التدقيقات ما يبرر نشره وعرضه على الناس.

... 1 ـ ولو أن المؤلف يصرح في عنوان تقييده بأنه سيلخص القول في الأكيال والأوزان والنصب الشرعيّة ويبين مقاديرها »من أقوال العلماء المعتنين بذلك«، فإنه يجاوز ذلك ليقدم لنا تقويماته الخاصة للوضعية التي عاصرها.

... 2 ـ يتناول الكتاب الموضوع معتمداً على أهم ما جاء في أبواب الزكاة والديّة والصداق من كتب الفقه النظرية ليرتبط بالموضوع المعاشي المغربي. فهو يعالج قضايا في عصره من الجانب

(1/8023)

النظري لكي يعتمد عليها في الجانب العملي.

... 3 ـ بعد الفصل النظري، عقد فصلاً للدرهم والدينار في المغرب. وهو بذلك يعطينا معلومات في غاية الأهمية عن العملات المغربية وأوزانها وقيمتها...، متحرياً الدقة في ما يورده من تقديرات. فأهميته لا تقدر من هذه الناحية من النظم المغربية. فهو مثلاً يخبرنا بأن»الدينار اليعقوبي كان من القلة بحيث لا يوجد منه نصاب« زمن المؤلف. ويتحدث عن »الدرهم المصطلح عليه ودرهم الكيل الأصلي الذي عليه العلماء«، قائلاً: »إن اعتبار ما قدر به درهم الكيل والمثقال الشرعي بحب الشعير

(1/8024)

المتوسط هو عمل العلماء قديماً وتبعهم فيه من أراد تحقيق ما ركب من ذلك من النقود والمكيلات والموزونات، واستعمل الناس بعد ذلك حب القمح. فلا تجد اليوم أحداً من الصاغة وغيرهم يقدر إلا بالقمح«.

... 4 ـ يظهر المؤلف أكثر تفصيلاً وبيداغوجية من صاحب "الدوحة المشتبكة" ومن كثير من المؤلّفين في »المقادير« كالمواق والباهلي وابن باق مثلاً. وأسلوب شرحه يتميز بالسلاسة والوضوح بالرغم من موضوعه العلمي الجاف. ويظهر الطابع التعليمي للتقييد في كثرة إيراده لتعابير تفيد أنه كان يتوجه لعامة الناس مثل: »إذا أردت معرفة

(1/8025)

كذا...، فاعلم أن...«.

... 5 ـ في التقييد معلومات تاريخية وملاحظات اجتماعية من الطراز الذي نجده في كتب الحسبة وأحكام السوق. فبعد أن يدقق المؤلف مقدار مختلف النقود بحب القمح، يعطينا ملاحظة دقيقة عن وزن الدرهم المومني الذي جرت العادة بنقص وزنه: »الأصل في وزن الدرهم المومني من اثنتين وثلاثين حبة قمحاً. إلا أنه لا يوجد اليوم إلا ما ينقص عن ذلك«.

... 6 ـ ومن خلال تدقيقات التقييد، نقف على بعض المعطيات الدفينة المهمة للتاريخ الاقتصادي المغربي؛ كما يقدم بيانات هامة عن المقادير. من ذلك أن وزن الأوقية على

(1/8026)

عهد الموحدين كانت في زمن المؤلف »تسعة عشر درهماً وخُمُس درهم«. ويتحرى صاحب التقييد الدقة ويستدرك قائلاً: »لكن من وجهة النظر السديد أن تكون أوقيتنا بدراهمنا عشرين بزيادة هذا القدر اليسير الذي يوجبه الاحتياط لكون العادة جرت بنقصها لطول استخدامها في المدة القريبة«.

... 7 ـ يتوسع المؤلِّف في بعض القضايا العلمية ويخرج بها من نطاقها الرياضي المحدود إلى آفاق أخرى تتصل باللغة والمصطلح. فيخبرنا مثلاً أن »بالمغرب صاعـ[ـاً هو أربعة أمداد من مدِّ أبي حفص يسمى في مراكش السطل، وعندهم صحفة فيها ثلاثة أصوع من

(1/8027)

هذا الصاع«، وبإفريقية مد يعرف بالقروي، إلى غير ذلك من المعلومات المتصلة بالمصطلحات الاقتصادية والحضارية للغرب الإسلامي.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تلخيص القول في الأكيال والأوزان والنصب الشرعية وتبيين

مقاديرها من أقوال العلماء المعتنين بتحقيق ذلك

... وهذا يثبت الأسماء المبينة في هذا الجزء.

... الدرهم الشرعي ـ المثقال الشرعي ـ الدانق ـ الدرهم المومني ـ الدرهم القرطبي ـ الدرهم الجاري بإفريقية ـ الدينار اليوسفي ـ الدينار الشّرعيّ ـ الدينار الأميري ـ دينار

(1/8028)

الزكوات والدّيات ـ نصاب النكاح ـ نصاب القطع ـ الدرهم الذي تسميه الصاغة درهم الكيل ـ القيراط ـ الخروبة ـ الأواقي ـ النش ـ النّواة ـ الأرطل ـ المُدّ والصاع ـ مد أبي حفص ـ السطل ـ الصحفة ـ المدي والقفيز ـ المد القروي ـ الويبة ـ الوسق ـ المنّ ـ القنطار ـ البهار ـ الكرّ ـ الأردب ـ المكُوك ـ الكيلجة(1)

__________

(1) ... لن يتطرق إليها مؤلف التقييد. وقد أورد العزفي في كتاب "إثبات ما ليس منه بد لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمد"، ورقة 117 ـ 118، تحقيق محمد الشريف (تحت الطبع)، أن »الكليجة نصف الصاع. ذكره الأزهري. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليمتد ربع الصاع يعني مد النبي . والصاع مقدار كليجة بغدادية يزيد الصاع عليها شيئاً يسيراً. وما قاله الأزهري هو الكليجة بالبصرة. وهذا الاسم أعجمي«.

(1/8029)

ـ الفرق ـ القسط ـ الويبة أيضاً ـ مد مروان ـ مد هشام. نفعهم الله ونفع بهم وجعل العلم لنا ولهم حجّة ونوراً يهدينا إليه بمنّه وفضله.

... اعلم ـ وفقنا الله وأرشدنا ـ أن الدرهم الكيل(1) هو الذي تركب منه الأوقية والرطل والمدّ والصاع ويحقق قدر كل واحد منها به. ولذلك قيل درهم الكيْل، أي الذي تحققت به المكاييل في الشرع وعرفت مقاديرها

__________

(1) ... الدرهم الكيل: ويسمى درهم السنة والدرهم الشرعي. وهو من حيث الاستعمال يعتبر أصلاً وكزكاة الحبوب، التي يحدد نصابها بهذا الدرهم ولذلك سمي كيليّاً، أي: درهم الكيل.

(1/8030)

منه. وصحّ بالنقل أن وزنه من حب الشعير خمسون حبة وخمسا حبة، لا خلاف عندهم في ذلك(1)، تكون الحبة المقدر بها ذلك متوسِّطة غير مقشورة قد قطع من طرفيْها ما امتد وخرج عن حلقتها.

... وفي هذا الدرهم ستة دوانق، كل دانق سُدس. وقدْر هذا الدانق من حبّ الشعير ثمان حبّات وخُمسا الحبة. والمثقال الشرعي يعدل من دراهم الكيل درهماً واحداً وثلاثة أسْباع الدرهم؛ وذلك من حبّ الشعير اثنان وسبعون لا خلاف بينهم

__________

(1) ... من المعروف أن قيمة الدرهم بالنسبة للدينار لم تكن قارّة وقد اختلفت اختلافاً كبيراً (E. I. II, 329).

(1/8031)

فيه. وفي المثقال أربعة وعشرون قيراطاً. كل قيراط ثلاث حبوب من الشعير. هكذا يقولون. والتحقيق يوجب أن يكون في كل قيراط ثلاث حبات وثلاثة أرباع خُمُس الحبة. ولتقدر تحقيق ذلك بالفعل، جعلوا ذلك ثلاثاً وأسقطوا الكسر، واعتبروا درهم الكيل بثمانية وأربعين حبة. والمثقال منه درهم ونصف. وعلى هذا جرى عملهم. ولكن الذي أوجب أن قدر درهم الكيل بخمسين وخُمُسيْ حبة هو اتفاق الجميع من غير خلاف. يعلم في ذلك أن سبعة دنانير تزن من دراهم الكيل عشرة(1)

__________

(1) ... أساس نظام الأوزان الإسلامية عامة هو الدرهم والمثقال. ونسبة وزن المثقال إلى الدرهم من الوجهة الشرعية هي كنسبة 1020/7، بينما هي من الوجهة العملية3/2. وعلى التحديد الوثيق لهاتين الوحدتين يتوقف تحديد جميع الأوزان الأخرى. وهذه العملية صعبة للغاية. فقد نشأت في البلدان الإسلامية أوزان عديدة متأرجحة حسب المكان والزمان لكل من الدرهم والمثقال. (انظر: فالتر هنتس، المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري، ترجمه عن الألمانية الدكتور كامل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1970، ص. 9). كما أن نسبة 7/10 كانت سائدة قبل الإسلام (الريس، 342), ومن المعروف أن قيمة الدرهم بالنسبة للدينار لم تكن قارة، وقد اختلفت اختلافاً كبيراً: (E. I. 2, 329).

(1/8032)

. وبيانه أنك إذا أخذت اثنين وسبعين التي هي عدد حبوب الدينار الشرعي المتفق أيضاً، وضربتها في سبعة، عدد الدينار، اجتمع لك خمسمائة وأربعة، ثم قسمتها على أيمة العشرة وتلك اثنان وخمسة خرج لك خمسون وخُمُسان واتضح لك بذلك أن كل دينار من هذه يعدل درهماً واحداً وثلاثة أسباع درهم، لأن سبع خمسين وخُمُسَيْن فثلاثة بأحد وعشرين وثلاثة أخماس. فإذا أضفتها إلى خمسين وخُمُسيْن، كان المجتمع اثنين وسبعين.

... فصل: كان الأصل في تركيب الدرهم من هذا المقدار ما فعله عبد المالك بن مروان بموافقة من حضره من العلماء رضي

(1/8033)

الله عنهم على ما حُكي أنه(1) كانت الدراهم التجارية بين الناس قديماً نوعين: نوع منها عليه نقش الروم يقال لها الدراهم السّود والوافية(2) وكانت زُيوفاً(3)

__________

(1) ... ينقل عن أبي الحسن بن القطان الذي ينقل عنه المديوني في الدوحة المشتبكة، صص. 140 ـ 142).

(2) ... هي دراهم فارس. والبغليّة نسبة إلى « بغل"، وهو اسم يهودي ضرب تلك الدراهم وسميت باسمه. وكان يعرف بـ"رأس البغل". (أنستاس الكرملي، النقود العربية وعلم النميات، ط. 2 منقحة، القاهرة، 1987، ص. 27، هامش 1).

(3) ... هي الدراهم التي خُلط بها نحاس وغيره ففات صفة الجودة. (الكرملين م. س، 75، هامش 4).

(1/8034)

، وزن كل درهم منها ثمانية دوانق(1). ونوع ثان (عليه نقش الروم) (2) يقال لها العُنق والطبريّة(3)

__________

(1) ... تقي الدين المقريزي، شذور العقود في ذكر النقود، نشرها وترجمها للفرنسية:

D. Eustache, « Etude de numismatique et de métrologie musulmanes », II,

Hespéris-Tamuda, vol. X, fasc? 1-2, 1969, p. 97.

(2) ... ما بين معقوفتين زيادة من "الدوحة المشتبكة"، ص. 89.

(3) ... من الدراهم المضروبة في طبرستان. ويعتقد أن الطبرية من الدراهم المنسوبة إلى طبرية، وهي قصبة بالأردن؛ ولكن المنسوب إلى هذه المدينة يقال فيه طبراني... وظن آخرون أنها منسوب إلى طبرية: قرية بواسطة التي يقال في النسبة إليها طبرس وطبرك، لكن لم يضرب فيها دينار (انظر الكرملي، م. س.، ص. 29، هامش 6).

(1/8035)

كانت جياداً كل درهم منها فيه أربعة دوانق. وكان الناس تبعاً يتعاملون بها مجموعة، شطر من هذه وشطر من هذه. وكذلك كانوا يؤدون زكواتهم منها. فجمع عبد المالك حين أراد ضرب الدرهم (بنقوش الإسلام) بين درهم من ثمانية دوانق ودرهم من أربعة دوانق فكان ذلك اثني عشر دانقاً، ثم قسّمها بنصفين وضرب الدرهم من ستة دوانق فجاء مقدراً بنصفها على حدِّ تعامل الناس بها(1) ووافق ذلك ما اجتمع عليه الناس من أمر الدينار الذي

__________

(1) ... أبو عبيد القاسم بن سلام؛ كتاب الأموال؛ ابن خلدون، المقدمة، صص. 275 ـ 276؛ العزفي، ص. 93.

(1/8036)

لم يختلف فيه أنه من أربعة وعشرين قيراطاً (والقيراط ثلاث حبات). ففي الدينار على ما تقدّر اثنان حبة شعيراً(1)

__________

(1) ... إن المحاولة الأولى لإدخال تغيير جزئي على العملة المتداولة في العصر الراشدي هو ضرب عمر بن الخطاب الدراهم على الطراز الساساني في السنة الثامنة من خلافته، أي سنة 20 للهجرة... والدراهم التي ضربها عمر هي الدراهم التي أطلق عليها اسم الوافية لاستيفائها الوزن الأساسي للدرهم، وسميت كذلك بالدراهم البغلية وتزن مثقالاً، أي وزن الدينار الذهب، 8 دوانق، هي 20 قيراطاً. (انظر الحبيب الجنحاني، التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، ص. 42؛ الريس، م. س، 344).

(1/8037)

.

... فصل: اعلم أن الدرهم الذي ضربه عبد المومن بن علي بالمغرب(1)

__________

(1) ... لقد امتازت الفترة الموحدية بكثرة إصداراتها من الدراهم حتى فاقت كل إصدارات من سبقها أو أتى من الدول في الغرب الإسلامي. هناك إحصائيات تفيد أن نسبة الدراهم المضروبة بدول الغرب الإسلامي كانت على الشكل التالي: عصر الإمارة: 442 درهم (نسبة 6 %) 108 سنة؛ عصر الخلافة 826 درهم (نسبة 11 %) 122 سنة؛ عصر الطوائف 266 درهم (نسبة 3,5 %) 79 سنة؛ عصر المرابطين 89 قيراط (نسبة 1,2 %) 62 سنة؛ عصر الطوائف الثاني 17؛ عصر الموحدين 5103 درهم (نسبة 69,5 %) 144 سنة؛ عصر الطوائف الثالث 604 درهم (نسبة 8,2%) 269 سنة. (انظر: محمد الشريف، "تدقيقات جديدة حول المسكوكات الموحدية"، مجلة مواسم (طنجة)، العدد 5/6، ص. 52).

(1/8038)

وزنه من حب الشعير المتوسط ثمان وعشرون حبة(1). صحّ ذلك باختيار

__________

(1) ... انظر المديوني، 102: "قال أبو الحسن بن القطان في مقالته إنه وجد... في درهم الموحدين... ثماناً وعشرين حبة". واشتهر الدرهم الموحدي بشكله المربع. وهناك نوعان من الدراهم الموحدية: الدرهم الكامل ونصف الدرهم الذي يعرف بالدرهم المومني. بل إن الموحدين ضربوا على عهد عبد المومن ربع الدرهم وثمنه وسُدس عشره (انظر A. Bel, « Contribution à l’étude de dirhams almohades », Hespéris, 1933, Fasc. 1 et 2, 1-68؛ وعبد الواحد المراكشي، المعجب).

(1/8039)

أهل المعرفة(1). ففي درهم الكيل المتفق عليه من هذه المومنية درهم واحد وأربعة أخماس درهم. بيان ذلك أنك إذا أخذت ثمانية وعشرين من خمسين وخُمُسين، بقي اثنتان وعشرون وخُمُسان. فإذا قسمت ثمانياً وعشرين على خمسة، كان كل خُمس من خمس حبات وثلاثة أخماس حبة. وكانت اثنتان وعشرون. خُمسا الحبة أربعة أمثال هذا الخمس. واتضح ذلك أن في المائة درهم كيلاً، مائة وثمانون

__________

(1) ... انظر كذلك أبو بكر بن خلف المواق، ص. 97؛ ويعتقد عبد الواحد المراكشي أن الدينار المومني =

... هو "نصف دينار النصيب"، أي أن نصف درهم الكيل (

(1/8040)

درهماً مومنية. وتحقيقه أنك تزيد على المائة المومنية أربع مائة خمس، مع كل درهم منها أربعة أخماس وتقسم الأخماس المجتمعة على خمسة يخرج لك من الصحاح ثمانون، فيقال في هذه: يدخل أربعين(1)

__________

(1) ... نعلم أن درهم الكيل الشرعي يساوي 50 حبة و5/2 حبة شعير، أو 0.4 حبة أو 50.4 حبة شعير.

... درهم الكيل تزن ما تزنه 140 درهم من السكة القرطبية:

... وزن الدرهم القرطبي عادة هو: 36 حبة. كما أن:

... درهم الكيل يزن دائماً: 50 حبة و5/2 حبة شعير متوسطة إذن:

× 100 = حبة 36 × 140

= 5040

يشرح ابن القطان الدرهم القرطبي الدخلي قائلاً: "إذا زدت عليه خُمسيه، كان كيلاً وإذا أنقصت منه 5/2 كان دخلاً. ويسمى دخلاً بإدخالك عليه خمسيه الناقصين من الكيل فصار كيلاً بهذه المداخيل". (Joaquin Valve, op. Cit, p. 149; P. Chalmeta, "El dirham arba ini, duhl. Qurtubi, andalusi, su valors", Acta Numismatica, 1986.

المديوني، الدرحة المشتبكة في ضوابط دار السكة، م. س، صص. 85 ـ 86.

(1/8041)

، أي أن زنة الدرهم القرطبي ست وثلاثون حبة، فيفضله درهم الكيل بأربع عشرة حبة وخُمسيْ حبة(1). فإذا كان معك من القرطبية مائة وزدت على كل درهم مثل خُمُسيْه، صار ذلك من الأخماس مائتي خُمس أقسمها على خمسة مقام الخمس يخرج لك من الصحاح أربعون، أضفها إلى المائة التي معك وقابل بالمجموع مائة من دراهم الكيل تجدها سواء.

... فصل: إذا أردت معرفة العدد الذي تجب فيه الزكاة من الدراهم المومنية، فاعلم أن ذلك ثلاثة مائة وستون درهماً(2)

__________

(1) ... الدوحة، ص. 147.

(2) ... العزفي، ص. 69: "الزكاة تجب عندنا من الدراهم الجارية الآن في ثلاث مائة وستين درهماً".

(1/8042)

. ومبلغ الواجب فيها تسعة دراهم أدنى ربع العشر منها. وبيانه أن الزكاة تجب في مائتي من دراهم الكيل(1) وقد تقدم أن مائة منها تعادل مائة وثمانين مومنية. فالذي يعادل المائتين هو ثلاثمائة وستون بلا شك. ووجه آخر هو أنط قد علمت أن كل درهم من دراهم الكيل يزيد على المومني بمثل أربعة أخماسه. فإذا أخذت مائتين مومنية وزدت على كل درهم منها أربعة أخماسه لتعادل به درهم الكيل اجتمع لك من الأخماس ثمانمائة، لأن ضرب أربعة أخماس في مائتين ثمان مائة أقسمها على خمسة

__________

(1) ... أبو عبيد، كتاب الأموال، صص. 392 ـ 393.

(1/8043)

يخرج لك مائة وستون صحاحاً، أضفها إلى المائتين يجتمع لك ثلاث مائة وستون. وذلك عدل مائتي درهم كيلاً. وإن شئت، جمعت حبوب مائتين كيلاً، وذلك عشرة آلاف وثمانون حبة وقابلت بها مجموع حبوب الثلاثمائة والستين المومنية، كانت مثلها. وإن شئت، قسمت ذلك على أيمة ثمان وعشرين التي هي سبعة وأربعة يخرج لك ثلاثمائة وستون. وأما العدد الذي تخرج منه الزكاة من الدراهم الجارية ببلاد إفريقية في حين التاريخ الذي قُيِّد فيه ما حُقِّق من هذه الأوزان والأكيال في هذا المجموع، وهو عام خمسة وثمانين وستمائة، فإن ذلك ثلاثمائة

(1/8044)

درهم وسبعة وثمانون درهماً وتسعة أجزاء من ثلاثة عشر، لأن كل درهم منها وزنه من حب الشعير المعتدل ست وعشرون. فإذا ضربت خمسين وخُمُسين في مائتين، اجتمع لك عشرة آلاف وثمانون، أقسمها على أيمة ستة وعشرين، وذلك ثلاثة عشر واثنان، يكون الخارج ثلاثمائة وسبعة وثمانين وتسعة أجزاء من ثلاثة عشر. وعلى حسب اعتنائك بتعديل حب الشعير، يكون العدد الذي يعادل الدرهم المذكور مثل الذي ذكرت لك. والله الموقف.

... فصل: الدينار الذي تجب الزكوات في عشرين منه هو عدل اثنين وسبعين حبة شعيراً حسبما تقدم تبيينه. فإن أردت معرفة

(1/8045)

ما تجب فيه الزكاة من الدنانير اليوسفية التي وزن كل دينار منها اثنتان وأربعون حبة شعيراً(1)

__________

(1) ... إن عيار الدينار الموحدي يختلف عن الدينار المرابطي. فهذا الأخير كان يزن 72 حبة شعير، بينما كان الدينار الموحدي من 42 حبّة. إن الرجوع إلى المعطيات النميّة يؤكد هذه الفكرة (Ben Romdhane, 1979, p. 146)، ولكن سكوت المصادر التاريخية المعاصرة للموحدين لا يسمع بالوقوف عند الدواعي الحقيقية لهذا النقص من وزن المثقال. فهل هو نقص في المعادن القابلة للسك أو أن الاتساع الكبير للإمبراطورية هو الدافع إلى اختيار دينار من 42 حبة شعير؟ (انظر: محمد الشريف، "تدقيقات جديدة حول المسكوكات الموحدية"، م. س. صص. 50 ـ 51).

(1/8046)

، ويعدل ذلك من الدراهم المومنية درهم ونصف، وذلك ثلاثة قراريط، وزن كل قيراط أربع عشرة حبة. ويقابل الدينار الشرعي منه دينار واحد وخمسة أسباع دينار؛ فاعلم أنها تجب في أربعة وثلاثين ديناراً يوسفية، وسُبُعيْن دينار منه(1)

__________

(1) ... المواق، ص. 98: "فالزكاة تجب عندنا من الدنانير الجارية الآن في أربعة وثلاثين ديناراً وسُبعيْ دينار. وبيان ذلك أن الدينار الجاري عندنا زنته اثنتان وأربعون حبة، ودينار الزكاة اثنتان وسبعون حبّة، فبينهما ثلاثون حبّة. فدينار وخمسة أسباع الدينار الجاري عندنا بدينار من دنانير الزكاة. والزكاة تجب عندنا من الدراهم الجارية الآن في ثلاث مائة درهم وستين درهماً، لأن وزنه درهم الزكاة خمسون حبّة وخُمسا حبّة، ووزن هذه الدراهم الجارية عندنا ثمان وعشرون حبّة وخُمسا حبة. قدرهم من دراهم الزكاة وزنه درهم وأربعة أخماس درهم من الجارية الآن عندنا" (العزفي، إثبات، ورقة 87 ـ 88).

(1/8047)

. ويتضح لك ذلك إذا قسمت اثنين وأربعين على سبعة. فإن كل سبع يكون ست حبات. وفي الثلاثين الزائدة في الشرعي على اليوسفي خمسة أسباع، كل سبع من ست حبات. وإن شئت، جمعت حبوب العشرين الشرعية وذلك ألف وأربعمائة وأربعون حبة، وقابلت به حبوب اليوسفية المذكورة فتجدهما سواء، وقسمت ذلك على اثنين وأربعين عدد حبوب الدينار اليوسفي صح لك ما ذكرته. والقدر الواجب في ذلك من الزكاة ستة أسباع دينار يوسفي، وهو ربع العشر من العدد المذكور.

(1/8048)

... وأما من الدينار اليعقوبي(1)

__________

(1) ... نسبة لأبي يوسف يعقوب المنصور (580 ـ 595 هـ/ 1184 ـ 1199 م). ويبدو أن الشهرة التي اكتساها الدينار اليعقوبي غطت على ما سواها من الدنانير. بل حتى دور السكة بالقاهرة في هذه الفترة اعتبرت الدنانير اليعقوبية أحسن عملة متداولة في حوض البحر المتوسط (انظر: منصور بن بعرة الذهبي الكاملي، كتاب كشف الأسرار العلمية بدار الضرب المصرية، تحقيق وتقديم عبد الرحمان فهمي، القاهرة، 1385 هـ/ 1966 م، ص. 43).

... وقد امتاز هذا الدينار بالإضافة إلى وزنه، بارتفاع نسبة الذهب الخالص فيه حيث كانت تتراوح ما بين 98 % و7.98 66 % وأطلق على الدينار اليعقوبي اسم "الدبلون"، أي المضعف. وهذه التسمية غير دقيقة. فهي توحي بأن "الدبلون" كان يزن ضعف الدينار الشرعي (2×4.25). والواقع أن هذا الدينار كان يزن ضعف الدينار المومني (أو اليوسفي) الذي كان وزنه 2.47 غراماً تقريباً. (انظر: Ben R. Benhain Mesmoudi, Approche quantitative de l’or monnayé en Occident musulman (450-1058-9 à 830-1426-27). Thèse, Paris I, 1944).

(1/8049)

الذي يعدل كل دينار منها اثنين من اليوسفية(1)

__________

(1) ... يفترض الأستاذ خالد بن رمضان ـ بكثير من الحذر ـ أن البتّ في مرجعية وزن الدينار عند الموحدين يرجع لأسباب شرعية... ويربط ذلك بالحظوة التي كانت Les Monnaies) almohades, (op. cit., p. 50-167) للمذهب الظاهري في الدولة الموحدية، وبالأخص لدى أبي يوسف يعقوب الذي كان يضع ابن حزم في أعلى مرتبة بين العلماء. إن ابن حزم يتميز برأي منفرد مفاده أن الوزن الشرعي للدينار هو 84 حبة من الشعير لا 70.72 حبة. ومهما يكن، فإن قرار يعقوب المنصور سك ذلك الدينار الكبير الذي سمي في المصادر "الدينار اليعقوبي" يدل على مبلغ طموحه إلى أن يكون في مستوي الخلفاء الكبار للدولة الإسلامية، باعثاً لجانب من أمجادها القديمة. (انظر: محمد الشريف، "تدقيقات جديدة..."، م. س، صص. 51 ـ 52).

(1/8050)

، فإن الزكاة تخرج من سبعة عشر ديناراً يعقوبية، وسبع دينار. إلا أنه من القلة بحيث لا يوجد منه نصاب عند أحد اليوم.

... وأما من الدنانير المعروفة بالأميرية الجارية بإفريقية حين التاريخ المذكور، ففي ثمانية عشر [ديناراً]. وبيان ذلك أن في دينارنا الأميري من حب الشعير المتوسط ثمانين حبة. فإذا قسمت ما اجتمع من ضرب عشرين في اثنين وسبعين عدد حبوب الدينار الشرعي وذلك ألف وأربعمائة وأربعون على ثمانية عشرة أيمة الثمانين، خرج لك ثمانية عشر. اضرب هذه الثمانية عشر في ثمانين يخرج لك العدد المقسوم. وربع العشر من

(1/8051)

هذا العدد أقل من نصف دينار منه بشيء يسير. وإخراج النصف منه كاملاً أربح وأصلح إن شاء الله تعالى.

... فصل: أقل الصداق عند مالك ـ رحمه الله ـ محدود بربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق(1). فإذا أردت معرفة قدر ذلك بالدراهم المومنية، فقد تقدم أن درهم الكيل يزيد على المومني

__________

(1) ... الورق والورْق هي الدراهم المضروبة. ولا يقال... لما عداها من النُّقر والمسبوك والمصوغ ورق ولا رقة وإنما يقال لها فضة. والفضة اسم جامع لهذه الأنواع كلها. ذكر ذلك نقلة اللغة ومفسرو الأغربة، (العزفي، صص. 102 ـ 103).

(1/8052)

أربعة أخماس. فاجمع أربعة أخماس ثلاث مرات تكون اثنا عشر خُمُساً واقسمها على خمسة، يخرج لك اثنا وخُمُسان. أضفها إلى ثلاثة مومنية، يصير الجميع خمسة دراهم وخُمسين. وذلك عدل ثلاثة دراهم كيلا. وقدر ذلك بالدراهم الجارية حين التاريخ عندنا خمسة دراهم وأربعة أخماس درهم بتقريب يسير. وربع الدينار الشرعي يعدل ثلاثة أسباع دينارنا اليوسفي حسبما تقدم بيانه. وإن شئت، قلت: زنة اليوسفي اثنتان وأربعون حبة كل سبع منها ست حبات. فمجموع ثلاثة أسباع ثمان عشرة حبة. والدينار الشرعي من اثنين وسبعين حبة، ربعها ثمان عشرة

(1/8053)

فتعادلا. ويعدل أيضاً من ربع الدينار الشرعي من دينارنا الأميري الربع بتقريب يسير. وبيانه أن ثمانية عشر التي هي ربع الشرعي تقصر عن عشرين ربع دينار المذكور بحبتين.

... فصل: وإن أردت معرفة قدر الديّة بالدنانير اليوسفية، فاعلم أنها على أهل الذهب ألف دينار شرعية. وتقدم لك أن كل دينار منها يزيد على اليوسفي بثلاثين حبة، وذلك عدل خمسة أسباع اليوسفي. فإذا أخذت ألفاً يوسفية وزدت على كل دينار منها خمسة أسباعه، اجتمع لك خمسة آلاف سبع. اقسمها على سبعة، يخرج لك من الصحاح سبع مائة وأربعة عشر ويبقى من الكسور

(1/8054)

اثنان هما سُبعان. فيكون الذي يعدل ألف دينار شرعية من اليوسفية، ألف دينار وسبعمائة وأربعة عشر وسُبعا دينار. وأما بالمسماة عندنا بالأميرية، فتسعمائة دينار، وذلك بيّن إذا ضربت اثنين وسبعين في ألف وقسمت على ثمانية وعشرة أيمة الثمانين التي هي عدد حبوب الدينار الأميري المذكور.

... وأما قدر الديّة بالدراهم المومنية والجارية عندنا، فقد تقرر أن الديّة على أهل الورق في الشرع إثنا عشر ألفا درهم. وتقدم أن درهم الكيل يزيد على درهمنا المومني أربعة أخماس. فإذا أخذت من المومنية اثنا عشر ألفاً وزدت مع كل درهم

(1/8055)

منها أربعة أخماسه كي يعادل بها درهم الكيل، اجتمع لك من الأخماس ثمانية وأربعون ألفاً اقسمها على مقام الخمس، يخرج لك من الصحاح تسعة آلاف وستمائة. أضفها إلى الاثني عشر ألفاً، يكون الجميع أحد وعشرون ألفاً درهم وستمائة درهم مومنية.

... والديّة من الجارية عندنا ثلاثة وعشرون ألفاً درهم ومائتا درهم وأحد وستون درهماً وسبعة أجزاء من ثلاثة عشر، هي نصف درهم بتقريب يسير. وهذا على ما قدمت لك أن درهمنا المذكور وزنه ست وعشرون حبة.

(1/8056)

... فصل: الدينار عند مالك ـ رحمه الله ـ على نوعين: نوع للزكاة والجزية وهو من صرف عشرة دراهم شرعية، ونوع ثان للديات والنكاح وهو من صرف اثنا عشر درهماً من الشرعية أيضاً. وقال في "المدونة": »مضى أن صرف دينار الزكاة عشرة دراهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة. وفي المائتين خمسة دراهم. وفي العشرين نصف دينار". فقرن العشرين ديناراً بمائتي الدرهم فعلم أن الدينار بعشرة دراهم. وذلك سنة ماضية. ولا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار من الذهب. وإن كان ذلك أكثر من ثلاثة دراهم

(1/8057)

ولا في أقل من ثلاثة دراهم كيلاً. وإن كان ذلك أكثر من ربع دينار. ومن سرق ما سوى الفضة والذهب لم يقطع أن تكن قيمته ثلاثة دراهم. ولا تقوّم السرقة إلا بالدراهم لا بالدنانير. كذلك فعل عثمان ـ رحمة الله عليه ـ في الأترجة، قوّمها بالدراهم فبلغت قيمتها ثلاثة دراهم من صرف اثنا عشر بدينار فقطع يد سارقها«. هذا كله مذهب مالك رحمه الله.

... فصل: اعتبار ما قدر به درهم الكيل والمثقال الشرعي بحب الشعير المتوسط هو عمل العلماء قديماً وتبعهم فيه من أراد تحقيق ما رُكِّب من ذلك من [النقود] والمكيلات والموزونات،

(1/8058)

واستعمل الناس بعد ذلك حب القمح. فلا تجد اليوم أحداً من الصاغة وغيرهم يقدر إلا بالقمح. ودرهم الكيل عندهم من أربعة وستين حبة قمحاً لا خلاف بينهم فيه. ومن نوى الخروب ستة عشر نواة معتدلة، وزن كل نواة أربع حبات من القمح، ويسمون هذه النواة خروبة وقيراطاً. وأربعاً وعشرين منها مثقالاً. وذلك ستة وتسعون حبة قمحاً درهم ونصف من درهم الكيل عندهم. وعلى هذا وزن الدينار المسمى بالأميري. والدرهم الجاري اليوم بيننا من ثمانية وعشرين حبة قمحاً. وعلى ذلك ركبوا الأوقية من اثنين وعشرين درهماً وجزء من درهم، هو على

(1/8059)

التحقيق ستة أسباع الدرهم. وهم لا يحققونه، إلا أنهم لا يختلفون أن الأوقية من تلك الدراهم أزيد من اثنين وعشرين، وأقل من ثلاثة وعشرين. كما أنه لا خلاف أن درهم الكيل عندهم وزنه من حب القمح أربع وستون، فيعادله من دراهمنا المذكورة درهمان وثمان حبات. والأصل في وزن الدرهم المومني من اثنين وثلاثين حبة قمحاً. إلا أنه لا يوجد اليوم إلا ما ينقص عن ذلك. فاعرف هذا الدرهم المصطلح عليه ودرهم الكيل الأصلي الذي عليه العلماء رحمة الله عليهم يتضح لك السبيل إلى ما تريد معرفة تحقيقه إن شاء الله.

(1/8060)

... فصل: وبتلخيص ما تقدم ذكره من الأعداد والنصب مرسوماً بالوضع المعروف بالروميّ(1) على ما تراه الدرهم الشرعي من حب الشعير (5/ 2 50)، الدرهم المومني من حب الشعير(28). فالدرهم المومني ومثل أربعة أخماسه عدل درهم شرعي. والدرهم الجاري بإفريقية من حب الشعير (26)، الدينار الشرعي (72)، الدينار اليوسفي الصغير (42) فالدينار اليوسفي

__________

(1) ... انظر J. A., Sanchez Péres, « Sobre las cifras Rûmies », Al Andalus, vol. III, 1935, pp. 97-125.

... وقد أعرضنا عن إثبات الأرقام بهذا الرسم لعدم توفر الحاسوب عليها.

(1/8061)

ومثل خمسة أسباعه عدل دينار شرعي. والدينار الأميري من حب الشعير (80).

... الديّة من الذهب بالشرعي ألف دينار. الدية من الدنانير اليوسفية (7/2 1714). الدية من الدنانير الأميرية (900). الدية بالدرهم الشرعي (12000). والدية بالدرهم المومني (21600). والدية بالدراهم الجارية بإفريقية (13/7 23261).

... نصاب الزكوات من الذهب بالشرعي (20) وباليوسفي (7/2 34) باليعقوبية (7/1 17) وبالأميرية الجارية بإفريقية (18). نصاب الزكاة بالدرهم الشرعي (200)، وبالدرهم المومني (360) وبالدرهم الجاري (13/9 387).

(1/8062)

... نصاب النكاح والقطع من الذهب الشرعي ربع دينار، ومن الدينار اليوسفي ثلاثة أسباعه، ومن الدينار الأميري الربع بتقريب، ومن الورق بالشرعي (3 دراهم) ومن الورق بالمومني (5/2 5)؛ ومن الدرهم الجاري بإفريقية (5/4 5).

... الدرهم الذي تسميه الصاغة درهم الكيل وزنه من حب القمح (64) والدرهم الجاري من القمح (28) والدينار الأميري من القمح (96).

... فصل: في تحقيق الأوزان والأكيال الشرعية ونسبة ما عمل بعدها إليها. من ذلك الأوقية: والجمع أواقيّ (بتشديد الياء) [فيها] وأواق تخفيفها في الجمع. وحكى اللحياني وَقية

(1/8063)

(بفتح الواو). وجمعها وقايا. وقال هي لغة قليلة.

... قال أبو عبيد: الأوقية اسم لوزن(1)، مبلغه أربعون درهماً كيلاً والنش نصفها. والنواة زنة خمسة دراهم كيلاً. هذا قول أكثر أهل العلم. وقال أحمد بن حنبل: النواة ثلاثة دراهم وثلث درهم. وقد قيل المراد بها وزن نواة الثمر من ذهب وعلى قدر هذه الأوقية اعتبر صدقات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها حين سألها أبو سلمة عن ذلك كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشر. ثم قالت له: أتدري ما النش؟ قال:

__________

(1) ... في الأًصل: لون.

(1/8064)

لا. قالت: نصف أوقية. فتلك خمسمائة درهم بخمسة أواق من هذه التي فيها أربعون درهماً مائتا درهم. وذلك نصاب الزكاة. قال القاضي عياض في إكماله(1)

__________

(1) ... كتاب "الإكمال" من "أنفس وأعظم الكتب التي ألفها عياض. ولقد أصبح عمدة لدى كل المحدثين، خصوصاً منهم شراح صحيح مسلم وعلى رأسهم الإمام النووي. سمي بـ"الإكمال"، لأنه كمل به شرح شيخه وأستاذه أبي عبد الله محمد بن علي المازري المسمى بـ"المعلم بفوائد مسلم". ويقع الإكمال في عدة مجلدات. ذكر ولد عياض أنه يشتل 29 مجلداً، وما يزال مخطوطاً بالخزانة العامة (رقم 560 و4037 و6411) بالرباط وخزانة القرويين والخزانة الملكية".

(1/8065)

: لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة القدر في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، وتقع بها البيوعات والأنكحة كما جاء في الأحاديث الصحيحة وهذا كله يبين أن قول من ذكر أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد المالك [وهْمٌ]. وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانق درهم، وإنما معنى ما ذكر من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب [أهل] الإسلام على صفة لا تختلف. وإنما كانت مجموعة من ضرب فارس والروم، وصغاراً وكباراً وقطع فضة غير مضروبة ولا

(1/8066)

منقوشة [ويمنية ومغربية]، فرأى ردّها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزناً [واحداً] لا يختلف وأعياناً يستغنى فيها(1) عن الموازين، [فجمعوا] أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم الكيل. ولعله كان الوزن الذي يتعاملون به كيلاً حينئذ بالمجموع. ولهذا سمى كيلاً. وإن كانت قائمة مفردة غير مجموعة، فلا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة. وإلا فكيف تتعلق بها حقوق الله في الزكاة وغيرها وكانت الأوقية معلومة(2)

__________

(1) ... في الأصل: فيهما.

(2) ... التصحيح والزيادات من الريس، 346 ـ 347 نقلاً عن المقريزي. ونجد صدى لهذا الرأي عند ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992، ص. 277.

(1/8067)

.

... فصل: أما الأوقية التي في الرطل العراقي منها اثنتا عشرة، فزنتها عشرة دراهم وثلثان من درهم الكيل. فيكون في ذلك الرطل من الدراهم المذكورة مائة وثمانية وعشرون درهماً. وذلك بين إذا ضربت اثني عشر في عشرة وثلثين. وهذه الأوقية هي على التقريب قدر الأوقية التي في زماننا التي رطلنا منها ستة عشر أوقية. وتحقيقها يوجب أن يكون فيها من دراهمنا المومنية تسعة عشر درهماً وخمس درهم؛ لأن الدراهم المومني من ثمانية وعشرين حبة شعيراً ودرهم الكيل منه درهم وأربعة أخماس فعشرة دراهم معها أربعون خُمساً، وذلك ثمانية

(1/8068)

صحاحاً فتجتمع لك ثمانية عشر ويبقى ثلثا درهم الكيل الثلث الواحد منه ستة عشر حبة وأربعة أخماس. فالثلثان ثلاثة وثلاثون حبة وثلاثة أخماس. وذلك من دراهمنا درهم واحد وخمس درهم، أضفه إلى الثمانية عشر يكن الجميع تسعة عشر درهماً وخُمس درهم. فهذا وزنة وقيتنا على التحقيق. ولكن من وجهة النظر السديد أن تكون أوقيتنا بدراهمنا عشرين بزيادة هذا القدر اليسير الذي يوجبه الاحتياط لكون العاجة جرت بنقصها لطول استخدامها في المدة القريبة. هكذا قال أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك وهو ممن حضر لتحقيق ذلك بمراكش. قلت

(1/8069)

والأوقية عندنا اليوم، وقد تقدم ذكر التاريخ، هي من دراهمنا الجارية من اثنين وعشرين درهماً وستة أسباع الدرهم حسبما سبق تبيينه بحول الله سبحانه. وأعلم بعد هذا أن رطلنا الذي هو ستة عشرة أوقية، معادل لرطل وثلث عراقي. إذ هو اثنتا عشرة أوقية. فإذاً مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - برطلنا رطل واحد، لأنه رطل وثلث بالعراقي. فمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر نصف مد أبي حفص، ومد أبي حفص هو نصف صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الصاع خمسة أرطال وثلث. وإلى هذا راجع أبو يوسف القاضي(1)

__________

(1) ... أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي: صاحب أبو حنيفة، توفي سنة 218 هـ. (الوفيات، ج 5، ص. 421).

(1/8070)

حين ناظره مالك رحمه الله بين يدي الرشيد. وقد كان يقول إن في الصاع ثمانية أرطال. والصحيح في ذلك ما عليه أهل الحجاز(1). وقد اختلف في مائة بوزن المد الذي وزنه رطل وثلث. فقيل بالماء، وقيل بالبر المتوسط. ويسع مد أبي حفص من وسط حب الشعير ما زنته رطلان برطلنا الذي هو ستة عشر أوقية. وقال أبو محمد بن أبي زيد ـ رحمه الله ـ قد عُبّر المد في غير ما بلد وغير ما زمان فاخلتف في ذلك على حسب اختلاف الموازين. فلم أجد لها عياراً أقوى ولا أصح أن يعرف ولا يختلف في زمان

__________

(1) ... انظر: الداودي، كتاب الأموال، ص. 149.

(1/8071)

ولا بلد زادت الموازين أو نقصت من أن الصاع أربع حفنات بكف الرجل الذي ليس عظيم الكفين(1) ولا صغيرهما. إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكره غيره عن عبد المالك بن حبيب أنه صح عنده أن مدي النبي حفنة باليدين جمعياً من كفي(2) وسط الرجال وذكر مثل قول ابن أبي زيد سواء.

... فصل: بالمغرب صاع هو أربعة أمداد من مد أبي حفص يسمى في مراكش السطل. وعندهم صحفة فيها ثلاثة أصوع من هذا الصاع، وذلك اثني عشر مداً من مد أبي حفص، وعشر صحاف

__________

(1) ... في الأصل: الكفتين.

(2) ... في الأصل: كيفى.

(1/8072)

من هذه هو المدي، وذلك مائة وعشرون مدّاً منه. ويقال القفيز أيضاً. وبإفريقية مد يعرف بالقروي [و] هو قدر ثلثي الحفصي بتقريب، وعلى التحقيق يكون مد قروي ومثل ستة أعشاره عدل مدّ واحد حفصي، واثنا عشر مداً من هذا القروي هي الويبة. وستة عشر من هذه الويبات هو القفيز. والمدي أيضاً وفيه من الأمداد القروية مائة وإثنان وتسعون، وذلك عدل مائة وعشرين مداً حفصية. وهذا هو قدر الوسق الشرعي. ففي خمسة أقفزة من هذه تجب الزكاة. بيان ذلك أن الزكاة واجبة في خمسة أوسق. والوسق بلا خلاف ستون صاعاً بصاع النبي- صلى الله عليه

(1/8073)

وسلم -، وتقدم لك أنه مثلاً مد أبي حفص فخمسة أمداد مثل خمسة أوسق سواء ثلاثمائة صاع شرعية التي هي ألف مد ومد بمده - صلى الله عليه وسلم -، وهو عدل مائة مدّ [حفصية].

... [والوسق] من قولك وهو يجوز فيها الفتح والكسر. قالوا هو حمل بعير، وقيل هو الحمل عامة. ومنه وسق النخلة، أي وقرها. وفي الوسق من الأرطال على ما تقرر أن كل صاع خمسة أرطال وثلث ثلاثمائة رطل وعشرون رطلاً، وذلك مائة وستون مناً؛ لأن المن مقداره عندهم رطلان، وهو اسم لصنجة يوزن بها، جمعه آمنا بالمد والواحد مقصور. ويقال أيضاً منّ (بالتشديد).

(1/8074)

والجمع أمنان. ذكروا أنها لغة بني تميم.

... والقنطار اسم لجملة من المال. جاء في التفسير أنه ملء مسك تور ذهباً. وقال معاد هو ثمانون ألفاً. ويروى عنه أنه قال إنه ألف ومائة أوقية. وعن غيره هو سبعون ألف دينار. وقال الجواليقي وغيره: القنطار مائة رطل.

... والبُهار (بضم الباء) ثلاثمائة رطل. قال أبو عبيد: أرى هذه الكلمة قبطية عربتها العرب. وقال الفراء [والأزهري البُهار]. وهو ما يحمل على البعير بلغة أهل الشام، عربي صحيح. وفي حديث عمرو بن العاص أن ابن الصعبة، يعني طلحة بن عبد الله، ترك مائة بُهار في كل

(1/8075)

بُهار ثلاثة قناطير ذهباً وفضة.

... والكرّ (بالضم) ستون قفيزاً بالعراقي، وأربعون إردباً بالمصري. والإردب ست ويبات. والقفيز ثمانية مكاكي. والمكوك صاع ونصف وهو ثلاث كيلجات. فيكون الكرّ على هذا اثني عشر وسقاً كل وسق كما تقدم. والكر بفتح الراء وسكونها. والفتح فيه [أكثر] وأفصح. قيل هو اثنا عشر مداً. وقال أبو الهيثم(1) هو إناء يأخذ ستة عشر رطلاً التي هي ستة أقساط، لأن القسط رطلان وثلثان لا خلاف عندهم فيه، وذلك نصف

__________

(1) ... أبو الهيثم مالك بن التيهان الأنصاري: صحابي، ت 20 هـ. (الأعلام، ج 5، ص. 258).

(1/8076)

صاع لأن الصاع خمسة أرطال وثلث. وهو، أعني الصاع، ثلث الفرق.

... والويبة أربعة وعشرون مداً. والمكوك نصفها. والأمداد الشرعية ثلاثة: مد النبي - صلى الله عليه وسلم - للزكوات والكفارات. والثاني مد مروان بن الحكم للنفقات خاصة، وفيه مدّ وثلث

بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل مدّ وربع. والثالث مدّ هشام بن إسماعيل المخزومي(1)

__________

(1) ... مد هشام الحادث الذي أخذ به أهل المدينة في كفارة الظهار لتغليظها على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم إنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً. ومد هشام أكبر من مد النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلثي مد. (العزفي، ص. 24 ـ -25).

(1/8077)

لكفارات الظهار خاصة. وفيه مدان إلا ثلثاً. قاله ابن القاسم(1) في المدونة. وذكر البغداديون عن مدّ ابن عيسى أنه مدان بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حبيب هو مدّ وثلث. وكان هشام بن إسماعيل أمير المدينة(2) في خلافة هشام بن عبد الملك. فكانت [المرأة] (3) تسأله أن يفرض لها النفقة على بعلها فكان

__________

(1) ... أبو عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي: تلميذ مالك، ت. 191 هـ. (الأعلام، ص. 323).

(2) ... في الأًصل: المدونة. والتصحيح من عند العزفي (ص. 53).

(3) ... في الأًصل: المسألة.

(1/8078)

يستقل أن يفرض لها مدّاً في كل يوم بمدّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأى أن يزيدها على المد ثلث مدّ، فجمعه وجعله مدّاً واحداً. فيه مد وثلث. قال واستحسنه مالك رحمه الله. حكى ذلك ابن حبيب. وقال أتينا على ما تيسر لنا تبيينه من ذلك والحمد لله حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

... كان يوم الأحد 7 شعبان المبارك عام 907 للهجرة المحمدية. ونختم بالصلاة على سيدنا محمد خاتم النبيين ونتوضأ على آله وصحبه الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً مؤبداً.

(1/8079)

تكهنات بشأن حضور عربي في أمريكا

الأستاذ محمد العربي المساري

الربا ط - المغرب

كتب محمد عزيزة، المسرحي التونسي المعروف ، قصة بعنوان "العالم الجديد" صاغها في شكل مذكرات سفر، على غرار تلك التي كتبها كريصطوبال كولون (*)، و جعلها على لسان أميرال ، قاد نحو القارة الأمريكية رحلة جرت في1442، أي خمسين سنة قبل رحلة كولون . وفي هذه المذكرات نجد الأميرال مقتنعا، نتيجة لما قرأه في الكتب العربية، بأن المحيط يشتمل على جزر عديدة بل و"حتى على قارة شاسعة وعميقة". وصحب الأميرال في تلك الرحلة رجل عربي اسمه جابر

(1/8080)

يصفه بأنه "أكبر عالم جغرافي في وقته ". وكان هو مساعده الأول في تلك الرحلة. وكان جابر يصطحب دائما بوصلته ، وأسطرلابه ، وعدة أدوات لا بد منها. ويقول الأميرال إنه كثيرا ما كان يهتدي بإيضاحاته الثمينة (أي العربي جابر).

ويرمز وجود هذه الشخصية في الرواية إلى تلك الحصيلة الهامة من المعارف التي تكونت للعرب من خلال البيروني ، وياقوت ، والإدريسي ، والمسعودي ، وابن بطوطة، وابن حوقل ، وعلماء عرب آخرون ، تمثلت فيهم خلاصة المعرفة العربية في الخرائط والملاحة البحرية، والفلك أي قمة ما كان في متناول البشرية إذ

(1/8081)

ذاك .

(*) مكتشف القارة الأمريكية، المعروف في النصوص المشرقية بكريستوفر كولومبوس، نقلا عن النطق الإنجليزي . أما نحن ، فنعتمد على النطق الإسباني .

و لعل محمد عزيزة قد أراد، بإلحاحه على ما سبق ، أن يوحي إلينا بأن العلم العربي هو الذي مهد بكيفية مباشرة لرحلة كولون الاستكشافية، وبالتالي فإنه إذا لم يكن العرب هم الذين أنجزوا اكتشاف أمريكا، فإن المسألة ترجع إلى سوء الحظ أو إلى مزيج من الظروف المعاكسة التي أدت إلى حرمانهم من مكافأة كانوا يستحقونها نظرا لمعارفهم ومركزهم وقدرتهم . بعبارة أخرى، كان يجب

(1/8082)

أن يكون العرب هم الذين يكتشفون العالم الجديد.

لكن هناك من يقول إن العرب لم يكونوا غائبين عن الحدث ، وهناك من يضيف أن العرب وصلوا فعلا إلى أمريكا قبل كولون . وبالطبع كتب أدب غزير عن التأثير المباشر وغير المباشر للعرب في صياغة أمريكا ما بعد كولون في الثقافة والمعمار والإدارة، إلخ . وقد ظهرت تكهنات عديدة في هذا السياق ، بانتظام ، في محافل علمية عربية وغير عربية .

في 1991 نشر في لبنان كتاب بعنوان "الفينقيون وأمريكا، فصول شغلت العالم ، لعبد الله الحلو، دار كله حول فكرة رئيسية مؤداها أن الفينقيين

(1/8083)

اتصلوا بأمريكا قبل كولون .و تابع المؤلف ، فيما يبدو(1) الجدل الذي قام حول آثار اكتشفت في ولاية ياريايبا في البرازيل ، وفي نيويورك ، وفي أمريكا الوسطى. ويتعرض المؤلف لأبحاث أنجزها علماء ألمانيون وأمريكيون حول تلك الآثار. ويذكر أنها تتوافق مع ما أورده زيليا نوطال في كتابه "المبادئ الأساسية لحضارات العالم القديم والجديد" المنشور في 1901 حيث يقول : "إن الدور الذي قام به الفينقيون في نقل الحضارة القديمة كان أكبر مما كنا نتوقع ، ويجب أن تكون أمريكا قد استعمرت خلال فترات منقطعة من قبل وسطاء مسافرين

(1/8084)

أتوا من البحر المتوسط ".

والآثار التي أثارت هذا الجدل منذ القرن الماضي هي تمثال اكتشف في نيويورك في 1869، ونص مكتوب بالفينيقية اكتشف في ياريايبا (البرازيل ) في 1873. وقد تجدد فضول الباحثين بشأن الآثار المذكورة في منتصف الستينات من هذا القرن ، ثم انبعث الآن . ففي 1968 انبرى الأمريكي سيروس غوردن ليؤكد أن نص ياريايبا، المنقوش في صخرة هو بالفعل مكتوب بالفينيقية.

(1) مقال في الشرق الأوسط 1991/8/29

وجاء باحث مكسيكي هو خوصي إيبزاير لامارنيا(2) ليردد بدوره ، وذلك في مقال بجريدة "اكسيلسيور" المكسيكية

(1/8085)

(91-12-2) : إن الفينيقيين عرفوا أمريكا قبل كولون ، وإنهم مثله وصلوا إليها بطريق الصدفة . وقد ظلوا فيها بعض الوقت ثم قفلوا عائدين . وقبل رحلة العودة، أمر رئيسهم أحد الكتاب بأن ينقش على حجر العبارات التالية :

"نحن أبناء كنعان من صيدا، مدينة الملك ، التجارة جاءت بنا إلى هذا الساحل النائي من أرض الجبال . لقد ركبنا البحر في البحر الأحمر، وأبحرنا في عشر سفن ، ومكثنا في البحر مدة سنتين ندور حول أرض حام إفريقيا. إلا أننا فرقنا على يد بعل بواسطة عاصفة، فافترقنا عن أصدقائنا. وهكذا وصلنا إلى هنا12 رجلا و3

(1/8086)

نساء".

ويقول الباحث المكسيكي إن هيرودوت قد تحدث عن مغامرة قام بها فريق من الفينيقيين برئاسة أمير البحر كودمو، مؤسس أثينا، وإن هؤلاء ركبوا في عشرة مراكب ، وإن العاصفة ذهبت بهم بعيدا.

وهذه اللوحة الحجرية لم تعترف بها الأكاديمية البرازيلية لشكها في أن تكون مكتوبة بالفينيقية. غير أن سيروس غوردن المتقدم الذكر قال إن المخطوطات التي اكتشفت في البحر الأحمر تمكننا، بمقارنتها مع صخرة البرازيل ، من أن نتبين أن الأسلوب متشابه ، وأن الأكاديمية البرازيلية حينما شكت في أمرها لم تكن في 1872 متمكنة من أداة

(1/8087)

المقارنة.

هذا وكان الدكتور عبد الهادي التازي الذي طالما طرح السؤال وقلب مختلف الآراء عن سوابق مغربية في أمريكا، قد وافاني بقصد التحقيق ، بالنص المنقوش في اللوحة الحجرية المذكورة كما نشره الأستاذ أحمد توفيق المدني الذي ذكر أن تلك اللوحة تحمل تاريخ 125 قبل الميلاد. وقد دون الأستاذ المدني بالحروف العربية منطوق المفردات الفينيقية ولاحظ وجود تشابه كبير بين العربية ومفردات تلك اللوحة الحجرية، ولم يذكر ما إذا كان هذا النص مضمنا في اللوحة الحجرية التي عثر عليها في

(2) الشرق الأوسط ، 1992/1/21

(1/8088)

ياريايبا (في الشمال الشرقي للبرازيل ) أم تلك التي عثر عليها في غافيا، أحد مرتفعات مدينة ريو دو جانيرو. ولكن اشتهر أن ينسب النص المذكور إلى لوحة غافيا.

وفيما يلي نبذة عن لوحة غافيا، استقيها من مقال نشرهGustavo Barroco في مجلة Etapas(3).

تم في الدورة الثامنة الاستثنائية للمعهد التاريخي والجغرافي التي انعقدت في 1839/3/23 عرض مسألة اللوحة الحجرية التي تم العثور عليها في ضواحي ريو دو جانيرو، باعتبار أنها تتضمن كتابة بالفينيقية. وعين المعهد لجنة لفحص اللوحة المذكورة، و توجهت اللجنة إلى عين المكان

(1/8089)

وعاينتها ونسخت ما هو منقوش فيها، وأبلغت المعهد تقريرا يتضمن وصفا دقيقا للوحة ومكان العثور عليها. وسجلت اللجنة ثلاث ملاحظات ، منها أنه كما دفعت الرياح سفينة كابرال(مكتشف البرازيل ) إلى الساحل الأمريكي، فإنه جائز أن تكون شعوب قديمة، مدفوعة بالحرص على توسيع التجارة، قد وصلت إلى بلادنا وتركت هذا النقش . ومن جهة أخرى، لاحظت اللجنة أن الأشكال التي تتضمنها اللوحة لا تشبه الأشكال التى تستعملها شعوب العالم القديم . إلا أنها لاحظت أن تلك النقوش لا تشبه الكتابة الفينيقية أو الكنعانية أو القرطاجية أو

(1/8090)

اليونانية، وأن تلك الأشكال ربما تكون من فعل التعرية الطبيعية، وأن مثل تلك الأشكال حفرتها الرياح في صخور أخرى توجد في نفس المكان .

هذا، وقد نشرت مجلة Libras، وهى نشرة عربية تصدر في صاو باولو في عدة أعداد منها من 1986 إلى1990 صورا ومقالات عن اللوحة الحجرية المشار إليها، استنادا إلى الأعمال التي قام بها )Bernardo Azevedo de lima ramosالمعروف بتشامبوليون البرازيلي، لأنه فك رموز اللوحة المذكورة)، وخرج منها جازما بأنها فينيقية. ولهذا العالم البرازيلي كتاب عن النقوش ما قبل التاريخية في البرازيل(4).

(1/8091)

ولا يضيف ما نشرته "ليبراس " شيئا حاسما، وإنما يدور حول الأصل الفينيقي للنص المنقوش على اللوحة الحجرية .

(3)Etapas,Sao paulo,n° 339/12.Ano 31.Maio/junho 1985

Inscipçoes et tradiçoes de America prehistorica.(4)

ووقفت في مكتبة جامعة برزيليا على تقرير مركز عن المنقوشات الصخرية في البرازيل (5) نشر في 1924، هو حصيلة تمحيص للمعلومات المتوفرة عن صخريات الشمال الشرقي للبرازيل . وينص هذا التقرير الذي تغلب عليه الصرامة العلمية على أن ما نسب إلى أمم شرقية شتى (فينيقيين ، يهود، يونان ، إلخ ) ليس سوى آثار

(1/8092)

لأمم قديمة عمرت البلاد قبل الاكتشاف ، وهى في الأغلب نتيجة أعمال عدة أجيال من الأمم الأهلية . وفي ص . 51 يقول هذا التقرير : "ليس هناك شيء حاسم بالنسبة لرحلات قام بها فينيقيون ويهود أو يونانيون إلى البرازيل ، ولا عن مجيء سكان الأطلانطيدا الأسطورية. فكل هذا يجب أن يعتبر ثمرة خالصة للتخيل ،)(*).

وهذا الإلحاح على السوابق الفينيقية يكتسي أهمية كبرى من جانبين الأول هو القول بأنه إذا كانت الصدفة هي التي أدت بالأوربيين إلى اكتشاف أمريكا، فإنه لا يستبعد منطقيا أن يكون الفينيقيون قد توغلوا في المحيط وهم

(1/8093)

المعروفون بارتيادهم الإرادي للموانئ في كل المعمور. والجانب الثاني هو أنه إذا سلمنا بفرضية وصول الفينيقيين إلى أمريكا، فلا يبقى مبرر لكى نستبعد قيام أحفادهم العرب بنفس المسعى.

أما لويس فلسطين ، فقد تناول في مقال له نشر في مجلة "القلم " (calamo) التي كان يصدرها المعهد العربي الإسباني للثقافة، افتراضا بإمكانية وصول العرب إلى أمريكا قبل كولون (6). وينسب إلى كتب عربية محفوظة في الأسكوريال أن عرب الأندلس عرفوا السواحل الأمريكية قبل1492 . "فهم كانوا يأخذون بكروية الأرض ". ويستند إلى مخطوط عربي للإشارة

(1/8094)

إلى بحار اسمه "خشخاش البحري " ركب

( 5 )Inscripçoes rupestres no brasil.luciano Jacques de Moraes

(*) إن فكرة الوجود الفينيقي في أمريكا قبل كولون تثير حماسا كبيرا. وقد تشكلت في لبنان لجنة لتحضير احتفالات عالمية بذكرى وصول الفينيقيين والعرب إلى القارة ونزولهم بها. ونشرت مجلة "الصياد" اللبنانية تحقيقا موسعا في العدد الصادر في 1995/10/20حول الاقتراح الذي قدم إلى الحكومة اللبنانية بشأن الاحتفال المذكور. ونشرت المجلة في 1996/2/2 نبذة عن الموضوع للدكتور إلياس القطار رئيس قسم التاريخ بالجامعة

(1/8095)

اللبنانية تناول فيها المتناقضات التي تكتنف الفرضية الفينيقية . وفي نفس المجلة عدد 1996/4/26 والذي بعده نشر رد طويل للدكتور يوسف مروة باسم اللجنة المذكورة آنفا جزم فيها بأن الفينيقيين وصلوا إلى أمريكا قبل كولون .

(6) calamo,n° 10,julio 1986

من لشبونة سفينة شقت به عباب "بحر الظلمات " في سنة850في اتجاه الجنوب ، حيث اكتشف جزيرة يسكنها بشر عاد منها بهدايا لعبد الرحمن الثاني ، واستمر في مغامراته البحرية إلى أن لقي حتفه في صدام مع الفيكينغ .

(1/8096)

ويذكر ل . فلسطين أن هناك إشارة ثانية إلى رحلة قام بها بحارة مغاربة في القرن العاشر لم يعرف شيء عنهم بعد أن توغلوا في المحيط الأطلسي . ثم يشير إلى مغامرة "الفتية المغررين " التي يتعرض لها المسعودي والإدريسي . وكان المغررون - وعددهم ثمانية-قد ركبوا من لشبونة في اقتفاء آثار من سبقوهم ممن لم يعرف شيء عن مصيرهم . لكن المغررين وصلوا إلى جزيرة تعرفوا فيها على شخص واحد بقي على قيد الحياة من جماعة خرجت من لشبونة قبلهم . وعاد المغررون إلى لشبونة واستقبلوا بحفاوة وأطلق اسمهم على شارع تخليدا لمغامرتهم .

(1/8097)

ونقل ل . فلسطين ما قاله الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله من أن كولون عاد من أمريكا بكمية من الذهب مسبوكا بنفس النسب التي كان يعتمدها العرب . ومن جهة أخرى. فإن الأب أنسطاس الكرملي كتب مستدلا على وجود العرب في أمريكا قبل كولون بتداول كلمات عربية لتسمية بعض الظواهر مثل الطوفان والموسمية، كما يذكر ل . فلسطين خريطة الزيات المتوفى سنة 1198 وفيها تظهر أجزاء مأهولة في المحيط الأطلسي، وهى الخريطة التي نشرها خوان فارطيط من جامعة برشلونة.

(1/8098)

ويذكر لويس فلسطين أيضا خريطة للأميرال التركي بيري رايس المتوفى 1513 والذي ترك خريطة تتضمن بيانات وتفاصيل - قال ل . فلسطين - لم يكن كولون يعرفها. والواقع أن الأميرال التركي لم يتوف في تلك السنة، بل إنه قدم خريطته للملك سليم الأول سنة 1517 وهو في مصر.

وهذه الخريطة وقفت عليها شخصيا في المتحف البحري من ريو دو جانيروا، وهى مكتوبة بالحروف العربية التي كان يستعملها الأتراك حينئذ. و تتضمن فعلا بيانات عن سواحل تقع إلى الجنوب من المنطقة التي عرفها كولون ، وهى بالذات السواحل الشرقية الشمالية للبرازيل .

(1/8099)

ولابد من القول إن هذه الخريطة أنجزت حتما بعد وصول كابرال إلى البرازيل في 1500، وبالتالي بعد رحلتي كولون . ولم يزد الأميرال

التركي على أن دون في خريطة المعطيات التي أفرزتها رحلتا كولون وكابرال ، خاصة وأن أسماء المواقع واردة فيها باللسان البرتغالي ، أي نفس الأسماء التي أعطاها البرتغاليون للمواقع التي اكتشفوها، وهي أسماء القديسين المسيحيين . ووقع الأميرال بيري رايس في خطإ حينما سمى ريو دو جانيرو (سان ريو) على غرار سان سالفاضور وغيرها من المدن المسبوقة بكلمة "سان " ومعناها "قديس ". فهذه الخريطة

(1/8100)

إذن ليست سابقة لعهد كولون . بل إن بيري رايس يذكر أنه استفاد من خريطة كولون وأخرى برتغالية كما نجد في كتاب عن خريطة رايس ألفه المؤرخ التركي يوسف أقصورة. وقد نشر في اسطمبول سنة1985.

وفي بحث أمريكي عربته مجلة "البحث العلمي "(7) المغربية ترد تكهنات مركزة بشأن حضور مجموعة مغربية مسيحية في القرن الثامن الميلادي بأمريكا الشمالية . وجاء في ذلك البحث أن هؤلاء أقاموا في ما يسمى اليوم بولاية كونيكتيكوت. وأيضا يتعلق الأمر بنقوش على الصخر فحصت لمدة عامين أدت إلى الظن بأن مجموعة من المسيحيين الأوائل هربوا

(1/8101)

من الاضطهاد ووصلوا إلى المغرب ، وأنه حينما هجم الواندال على المنطقة أبحر أفراد من هذه المجموعة إلى الطرف الآخر من المحيط الأطلسي بحكم أن الريح يسرت لهم العبور. وتحكى نقوش على الصخر وجدت بواحة في فكيك بالمغرب قصة هذه الطائفة التي أفلتت من الواندال و كيف أنها اتجهت "نحو مغرب الشمس" وهو ما تدل عليه نقوش كونيكتيكوت .

شغلت مسألة تعرف العرب على أمريكا قبل كولون الباحثين العرب بإلحاح ، وأورد الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في بحث له نشر في 1985(8) عن الأسطول المغربي ما ذكره توفيق المدني - مما تقدم

(1/8102)

ذكره - عن "الرخامة البرازيلية"، وأشار إلى كتاب عن وصول الفينيقيين إلى كولومبيا لإبراهم هاجر صدر في أخنتينا (مجلة المعرفة، عدد10، دمشق ). وذكر أن ابن الوردي سجل في جغرافيته أنه يوجد وراء الجزر الخالدات جزائر عظيمة وصفها وصفا ينطبق على بلاد أمريكا. وعاش ابن الوردي في القرن الرابع عشر (عبد القادر المغربي ، محاضرات الجمع العلمي ، دمشق ،

(7) عدد32 سنة 17، نوفمبر 1981

(8) المناهل ، العدد32، س2ا، مارس 1985 .

(1/8103)

ج .ح .،ص .33). ويضيف الأستاذ بن عبد الله أن ابن عربي لاحظ أن وراء المحيط الأطلسي أمما من بني أدم وعمرانا. وقد عاش ابن عربي قبل كوأءت بثلاثة قرون . وتحدث صاحب "مسالك الأبصار" نقلا عن شيخه الأصفهاني ، قبل كولون بخمسين سنة، عن احتمال وجود أرض وراء المحيط ، وتساءل الأستاذ بن عبد الله مسايرا لتوفيق المدني : "وهل يرجع اسم "برازيل " إلى اسم القبيلة البربرية المسيلية "بني برزل " أو "البرازلة" الذين هاجروا من الجزائر في القرن العاشر الميلادي إلى الأندلس ومنه أيام ملوك الطوائف إلى أمريكا ؟

(1/8104)

إن ما يقوله البرازيليون عن أنفسهم هم أن اسم بلادهم مشتق من "ياوبرازيل ". وهو خشب كان يستعمل للصباغة اشتهرت به بلادهم .

لكن السيد أنطونيوليتي بيصوا، وهو باحث برازيلي عضو في أكاديمية بياوى، ألف كتابين ليثبت أن اسم البرازيل عربي و أن الكلمة محرفة عن "برالج ابن " التي قال إنها اسم أمير مغربي قام برحلتين إلى البرازيل في 705 م و719 م ، وينسب الباحث المذكور لهذ الرجل (برالج ابن ) أعمالا قام بما فيما بين 695م و742م تختلط فيها ملامح كل من موسى بن نصير وعبد الرحمن الداخل على ما بين الرجلين من تباعد.

(1/8105)

ويورد كلاما عن أحداث وقعت طيلة حوالي مائتي سنة يضغطها جميعا ليطنب في مناقب الحاكم المغربي المزعوم الذي يذكر بصيغة القطع أنه قام برحلتين إلى البرازيل دون أن يذكر مصدرا لروايته تلك . ولما دخلت معه في سلسلة مراسلات مستفسرا وموضحا بعض التناقضات الواردة في كتابه ، لم أخرج بنتيجة تدلني على أن العمل ليس مجرد تمرين طريف لتشغيل الخيال . وكان الثمن الذي أديته هو تعب في عملية معقدة لاستقصاء كل حدث أتى على ذكره منسوبا للقائد "برالج ابن "، وعملت على إرجاعه إلى سياقه في التاريخ ، كما حدث ، ومتى حدث فعلا،

(1/8106)

وليس كما ذكره السيد بصيوا الذي شاب كلامه كثير من الخلط .

وفي البرازيل بالذات وجدت لدى الرعيل الأول من أدباء المهجر ولعا دفينا بالتساؤل عما إذا كان العرب قد وطئوا الأمريكتين قبلهم وقبل كولون وكابرال . وفي هذا السياق تدخل مقالة منشورة في مجلة "العصبة" الشهيرة، عام 1910 للدكتور رزق خوري .

(9) ع 2 ، س 1، فبراير 1935 .

ولم يفت هذا العالم أن يبدأ من حيث يبدأ جميع من دار ولف حول هذا الموضوع ، وهو أن النهضة الأوروبية قامت على أنقاض المدنية العربية التي أخذ منها الأوروبيون . ثم يمضى فورا إلى الجزم بأن

(1/8107)

العرب هم الذين اكتشفوا البرازيل . ويعتبر ذلك من الحقائق التي طمسها الأوروبيون . وينطلق الدكتور خوري في معتقده هذا من أن ضوم مانويل الأول ملك البرتغال كان قد جهز عام 1500 أسطولا مؤلفا من عشر سفن كبيرة فضلا عن غيرها من السفن التجارية، وزودها بما تحتاج إليه لثمانية عشر شهرا وسلم قيادتها لأمير البحر بيدور الفاريس كابرال ، وأرسلها إلى الهند عن طريق الشاطئ الإفريقي وهو الطريق الذي سلكه فاسكو دي غاما. وحدث أن تقاذفت الرياح والأمواج هذا الأسطول إلى الشواطئ البرازيلية بعد44يوما. لكن المؤرخ البرازيلي

(1/8108)

روشا بومبو يكذب أمر اكتشاف البرازيل بالصدفة، بل يقول إن موكب كابرل اتجه في منتصف أبريل (مغادرة البرتغال كانت في 9 مارس ) إلى عرض البحر وكان في الدرجة 17، بعيدا عن الشاطئ الإفريقي ب 300 ميل . ومن ثم سار نحو الجنوب على خط مستقيم كأنه يقصد نقطة معينة. وحينما وصل إلى الشاطئ، رفع الصليب وأقام نصبا يرمز إلى التاج البرتغالي . وترك المكتشفون الأرض الجديدة ذاهبين إلى الهند، دون أقل دهشة، فكأنهم قاموا بأمر منتظر. وعن وصول السفينة التي حملت الخبر إلى لشبونة لم يكن رد الفعل هو الاندهاش ، بل إبلاغ الدول

(1/8109)

الأوروبية أن البرتغاليين اكتشفوا جزيرة في عرض الأوقيانوس. وهذا ما يؤكده البحاثة البرتغالي ريكار دو سيفيرو الذي يقول إن كابرال أخذ طريقه عملا بتعليمات سرية من الملك ، وقام برحلته دونما عطب . ويذكر المؤرخ البرازيلي فيرياتو كواريا أن كابرال صحب معه 1200 ملاح و 300من الأشراف والكهنة والتجار والتراجمة والجنود والمغامرين وربابنة عربا سبق أن قادوا فاسكو دي غاما من مالندي إلى كاليكوتا. ثم إن كابرال قائد هذا الأسطول لم يكن قد مخر عباب البحر من قبل. وقد قام بأطول رحلة حتى ذلك الوقت دون أن يعرف أسرار

(1/8110)

الملاحة.

وبعد أن يعرض الدكتور خوري هذه البيانات ، يستنتج أن البرتغاليين إنما اعتمدوا على الربابنة العرب الذين كانوا من خدمتهم ب حد أن عملوا مع فاسكو دي غاما. ومن أبرزهم شهاب الدين أحمد بن ماجد، الذي ظلت تعاليمه سارية حتى

القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن اكتشاف البرازيل لم يكن صدفة بل أمرا مؤكدا، سره عند الربابنة العرب الذين عرفوا البرازيل بأنفسهم أو سمعوا عنها من رفاقهم ، ثم يتساءل : إذا كان أسطول كابرال قد ضل الطريق بسبب العواصف ، فكيف اهتدى إلى إرسال إحدى السفن عائدة رأسا إلى البرتغال لتحمل

(1/8111)

البشرى ؟ وما السر في أن رحلة كابرال دامت 44 يوما ورحلة كولون قبله 68 يوما ؟ ويتساءل الكاتب أيضا : لماذا وقد عرف العرب أمريكا قبل كولون وكابرال ، لم يستقروا بها ويعلنوها مفتوحة ؟ ويجيب بأن السبب هو أنهم كانوا يغزون البلدان المتحضرة العامرة والقريبة، وأنهم لم يكترثوا بالأرض الجديدة وعادوا أدراجهم .

ويذكر هذا الكاتب ما رواه الإدريسي في "نزهة المشتاق " عن الفتية المغررين ، وما ذكر عن السلطان محمد قاو ملك السودان الغربي الذي أرسل تباعا أسطولين للتوغل في المحيط الأطلسي. غير أن من فصل القول في هذا هو

(1/8112)

الأستاذ المهدي البرجالي الذي كتب عدة مقالات عما وراء المحيط الأطلسي أورد فيها بيانات وملاحظات طريفة مؤداها أن المحيط الأطلسي لم يكن مجالا مجهولا كما دلت على ذلك تجربة "رع " التي تمت في أواخر الستينات انطلاقا من مدينة آسفي بالمغرب .

ويورد البرجالي قصة السلطان محمد بن قو ملك مالي القديمة الذي تذكر المصادر الإفريقية أنه قام برحلة في الأطلس غربا في أسطول كثيف . وقد تحدث عنه خلفه السلطان منسى موسى (10) لدى توقفه بمصر في طريقه للحج . وقد نقل عنه القلقشندي في "صبح الأعشى" إن سلفه جهز أسطولا في مائة

(1/8113)

سفينة ضاعت جميعها إلا واحدة روى قائدها لدى عودته ، الأهوال التي صادفها الأسطول . فتجهز السلطان بنفسه ليعلم الحقيقة، وكان ذلك آخر العهد به وبمن معه . ويستنتج الكاتب أنه إما أن الأسطولين لم يصادفا طقسا ملائما مثل الذي أتاح رحلة العودة للفتية المغررين ، وإما أنهما توغلا إلى حد لم يتجاوزه المغامرون الذين توجهوا إلى الأصور والخالدات وقفلوا راجعين إلى لشبونة. يشير الكاتب في مقاله عن رحلة الفتية المغررين إلى أن بعضهم ذهب به الاعتقاد إلى احتمال كونهم أدركوا منطقة الأنتيل وحلوا بجزيرة

(1/8114)

((10 حكم قيما ين 1312 و1337 .م.

من جزره ، إلا أنه - يقول في الختام - ليس من اليسير، على ما يلوح ، توفير الإثبات العلمي الكافي لهذا الاعتقاد. والآن ان لنا أن نختم هذه الجولة بما دونه الأستاذ العربي الصقلي عن وجود المغاربة في أمريكا ألف سنة قبل كولون (11) الذي بعد أن يستثمر الصخرة المكتشفة في أمريكا الشمالية والأبحاث التي أجراها كل من Norman Totten K Barry fellK John Gallager ، وبعد أن يضع تجربة "رع2 " في سياق إثبات تواصل عبر الأطلسي ، يشير إلى تأملات الباحث الفرنسي الكومندان couvert الذي لاحظ

(1/8115)

وجود أسماء قبائل من هوندوراس وغوايان ونيكاراغوا تثير الانتباه بشكل خاص مثل الماميس ، ومرابطين ، ومارابيطا نا س .

كل ما مضى كان ينقلنا إلى فترات ما قبل كولون . لنقل كلمات سريعة الآن عما بعد كولون.

يجزم غوي مازلينى(12) أن مغربيا من أزمور شارك ي جلة استكشافية توغلت في خليج مكسيكو ضمت300 فرد توجهوا إلى فلوريدا. ويقول هذا الباحث إن تلك البعثة لم يبق منها إلا ثلاثة أفراد هم المغربي واثنان من الإسبانيين قطعوا 7000 كلم حتى وصلوا إلى الشاطئ الباسيفيكي ، واستغرقت الرحلة تسعة أعوام . وقد عرف هذا المغربي

(1/8116)

فلوريدا و ألاباما وميسيسيبي ولويزيانا و تكساس . وكان أول من دخل قرية "بويبلو". وكان من بقايا ضحايا جفاف شديد القسوة ضرب المغرب ، مما أدى به ، ألف معريي إلى الوقوع في الرق حيث حملوا من أزمور إلى البرتغال وإسبانيا. وكان صاحبنا من نصيب ملاح إسباني هو أندريس ضورانطي الذي اصطحبه معه في 1527 إلى العالم الجديد. وهناك يخوض سلسلة مغامرات خلال عامين عرف فيهما الأسر لدى قبيلة هندية إلى أن تمكن هو ورفيقاه من الهروب والهيمان في الأراضي الأمريكية. وعادوا من مسيرتهم الطويلة في يوليو ،1536 حيث أدلوا بمعلوماتهم

(1/8117)

لنائب الملك في صانطو ضومينغو. وعلى إثر ذلك ، عاد الإسبانيان إلى بلدهما بينما بقي الأزموري في بيئته الجديدة في شمال غرب مكسيكو، حيث نجده يشارك من جديد

Mémoirial du Maroc, Tom 1 p270(1)

Le Matin magagin 20/12/87 guy Martinet (2)

في جلة استكشافية أخرى في 1539 . وإليه يرجع الفضل في الاهتداء إلى عدد من المواقع ومنها "cibola " التي يصفها الراهب الفرانسيسكاني ماركو بأنها أفضل من مدينة مكسيكو.

ودون أن نتوغل أكثر ي فترة ما بعد كولون ، نكتفي بالإشارة إلى ما يورده لويس كاردياك في بحثه "الموريسيكون في

(1/8118)

أمريكا،(13)، حيث يستعرض قضايا درست في محام التفتيش في ليما ومكسيكو وكارطاخينا، أبانت أن الموريسكيين كانوا موجودين في ركاب الجيوش الإسبانية في العالم الجديد لفترات طويلة، رغم أن ذ حليمات صارمة كانت قد صدرت عدة مرات تمنع السماح بنقلهم إلى العالم الجديد الذي كان يجب أن يبقى خالصا لحملة الصليب . فمعلوم أن الموريسمكيين حتى ولو أدعوا اعتناق المسيحية لم يكونوا يوحون بالثقة إلى سلامة تنصرهم . ورغم ذلك ، فإنهم تسللوا إلى أمريكا، وإليهم يعزى نقل المزروعات الجديدة مثل الذرة الصفراء والطماطم وبعض أنواع

(1/8119)

اللوبيا الخضراء والفلفل الأحمر والهندية (التين الشوكي) التي نقلوها بعد طردهم من إسبانيا إلى المغرب . وكانت الأوامر مشددة بعدم السماح باستعمالهم في أمريكا حتى لا يحولوا دون نشر المسيحية فيما بين الهنود الحمر. ولكن تكرار صدور مراسيم ملكية إسبانية بهدا الصدد، وكذا إيقاع العقاب بمخالفين لها في فترات زمنية متباعدة، يدل على أن الأوامر كانت تخالف . ويتبين من محاضر محاكم التفتيش أن من دواعي مثول موريسكيين أمام هذه الهيئات كان رغبة المتهم في أن يجتمع بالعرب وخاصة أثناء أعيادهم ، أو ممارسة تقاليدهم في

(1/8120)

الأكل والشرب واستعمال آلات الغناء. وحتى سنة 1732، لدى إنشاء مدينة جديدة في جزيرة كوبا، ظولب أكابر المسؤولين والضباط الملكيون وعدد من الشخصيات بإثبات نقاء دمهم من العرب واليم كود والهنود والسود، وبالتالي فإن الموريسكيين وجدوا دائما وفي أماكن متعددة من العالم الجديد.

وهل كان هناك مفر من ذلك ؟

(13) ترجمه إلى العربية د. عبد الجليل التميمي ونشهر بعنوان "المورسكيون الأندلسيون والمسيحيون ".

إن هذه الإطلالة التي تدل على أن التاريخ ليس إنتاجا تام الصنع ، وأن الماضي ما فتى يغري باستكناه خباياه . وهذه

(1/8121)

التساؤلات والمحاولات المتكررة لاستقراء ب حض التفاصيل والعلامات ، هي في حد ذاتها تعبير عن استنكار مبطن لكون التاريخ لم يكن منصفا للعرب حينما حرمهم من أن يحققوا هم ذلك الإنجاز المتمثل في تحطيم حاجز المحيط الأطلسي وجعله ممرا مائيا مطروقا كما أصبح فعلا بعد 1492. بشكل من الأشكال ، لم يكن العرب غائبين عن هذا الإنجاز. إن الاستكشافات العلمية ليست عمليات مستقلة بذاتها عما سبقها. فإن أحدث الإنجازات العلمية ما هي إلا ثمرة حلقات من البحث والابتكار تمتد في عمق الزمن . وبترام العارف التي أفرزتها مختلف

(1/8122)

التجارب ، أتيح للإنسانية أن تقطع الطريق الطويل من ابتكار العجلة إلى صنع المحطات الفضائية. فالحضارة فهر كبير صبت فيه كثير من الجداول .وإذا كنا قد قمنا بجولة عبر تكهنات وافتراضات بعضها ليس منطلقا من عدم ، وبعضها، وهو قليل ، إنما يدخل في صنف التخيل ، فإننا اقتربنا في أغلب الأحيان من حقيقة لا يمكن جحودها، وهى أن العرب لم يكونوا غائبين عن جلة كولون إلى العالم الجديد.

(1/8123)

تميز المنظور الإسلامي لحقوق الإنسان (خصوصيات)

الدكتور عباس الجراري

عضو أكاديمية المملكة المغربية

محاور العرض

مقدمة : مفاهيم ومنطلقات

الخصوصية الأولى : حقوق الإنسان جزء من حقوق ثلاثةذ

1 - حقوق الله

2 - حقوق العباد

3 - حقوق النفس

الخصوصية الثانية : حقوق الإنسان نابعة من تكري الله له

1 - أهم مظاهر هذا التكريم

2 - نعمة العلم (السبيل إلى خلافة الله)

3 - نعمة الحرية : أبرز تجلياتها (حرية التعبير)

أ - حكم المرتد

ب - حماية الحرية من العبث وربطها بحقوق أخرى (المساواة)

ج - مسألة الرق

(1/8124)

الخصوصية الثالثة : تحول حقوق الإنسان إلى واجبات

1 - الحرية : شرط في التكليف ومسؤولية

2 - العلم : طلبه فريضة لارتباط الإيمان ولأن العبادة لا تكون بجهل

3 - العمل : واجب بحكم الدعوة الى السعي والكسب

4 - الأمن : شرط للعبادة

خاتمة : ضرورة مراجعة مسألة حقوق الإنسان في ضوء منظور الإسلام

إن موضوع (حقوق الإنسان) قديم جديد، شغل به المفكرون على امتداد العصور، واهتمت به الإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان.

والسبب في هذه العناية أن الإنسان بطبيعته متطلع للحياة الحرة الكريمة، وأن البشرية تعاني باستمرار مواقف

(1/8125)

القهر والاضطهاد، سواء بين شعب وآخر أو بين فئةوأخرى داخل الشعب الواحد بحكم التفاوت الطبقي أو غيره من الإختلالات الاجتماعية والرغبة نتيجة ذلك في التسلط والاستبداد.

ومن ثم كان الناس في مقاومة دائمة للإحراز على الحقوق، ولا سيما على الحقوق الأولية والبسيطة التي يمكن وصفها بالطبيعية. وبعد ذلك جاءت الحروب لتعمق هذه المشاعر والمواقف.

وإن الفرد المسلم ليتساءل في خضم هذه القضية - قضية حقوق الإنسان - عن رأي الإسلام فيها والموقف منها، خاصة وأن المسلمين اليوم هم من أكثر سكان الأرض مقاساة منها ومعاناة، ومن

(1/8126)

أكثر الشعوب المتهمة بإغفال هذه الحقوق وتجاهلها والتعمل معها بالخرق والانتهاك.

ولعل هذا العرض الذي يسعدني أن أشارك به في هذه الندوة العلمية القيمة أن يلقي الضوء على بعض جوانب المنظور الإسلامي لحقوق الإنسان، بدءا من المدلول اللغوي لكلمة "الحق" التي وردت في القرآن الكريم أربعا ومائة مرة الى جانب ألفاظ أخرى مشتقة منها جاءت ست وسبعين آية.

ويمكن إجمال هذا المدلول في كل مايظهر ويثبت ومطابقة ووضوح. وهو بهذا يدل على الصدق والعدل والعلم والحكمة، وعلى ذات الله وكتبه وشرائعه، وعلى كل ما ينافي الباطل

(1/8127)

والضلال، كما يدل على الواقع الموجود الذي لا يرتفع، وعلى ما يعبر به عن هذا الواقع، ثم يدل على ما يجب للناس أن يتمتعوا به ويستفيدوا منه ويفعلوه في إطار ما تتيحه فطرة الإنسان وطبيعته البشرية، وفي نطاق ضوابط دينية أو قوانين وضعية أو عادات متبعة، وفي تقابل مع الواجب الملزم لغيرهم.

من هذا الجانب يلتقي مفهوم الحق مع ما جاء به "الآعلان العالي لحقوق الإنسان"؛ وهو الإعلان الذي صادقت عليه هيئة الأمم المتحدة يوم عاشر دسمبر سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف، نتيجة شعور جديد بمبادئ وما يتبعها من حقوق فردية

(1/8128)

وجماعية، مما جعله يدعو إلى إعادة النظر في العلاقات بين شعوب العالم وضمان حقوقها في حدود يتفق عليها الجميع.

ثم عزز هذا الإعلان بمواثيق ومعاهدات تأكيدية، على غرار الاتفاقية الأروبية لحقوق الإنسان عام خمسين وتسعمائة وألف، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان سنة تسع وستين وتسعمائة وألف.

وتجدر الإشارة إلى أن الإعلان العالي كان مسبوقا، بل مستوحى من "نداء حقوق الإنسان والمواطن"؛ وهو النداء الذي أقرته الجمعية التأسيسية الفرنسية يوم السادس والعشرين من غشت سنة تسع وثمانين وسبعمائة وألف، والذي أبرز الحقوق

(1/8129)

الطبيعية والمقدسة للإنسان، في ضوء تطبيق شمولي لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وكذا مبدأ فصل السلطات.

وكتب المفكرون الغربيون عن هذه المبادئ ما بين مؤيد ومعارض. وكان معظم المعترضين من رجال الكنيسة، مما قاد الصراع على امتداد عقود نحو تركيز العلمانية، مرورا بإعمال سلطة الطبيعة الإنسانية وما تفرض من حقوق.

كما أن الإعلان العالمي لم يلبث - بعد تحرر عدد من الدول الأسيوية والإفريقية - أن وجه انتقاداتها، إذ لم يراع ما عندها في هذا المجال وما لها فيه من مقتضيات، بحكم غيابها يوم صياغته؛ مما أثار ويثير

(1/8130)

الآن وبإلحاح ضرورة مراجعة هذا الميثاق في ضوء ثقافات جميع الشعوب وما لها من خصوصيات، إذ تشكل مرجعيات مختلفة في سياق التعدد والتنوع، بعيدا عن الأحادية القائمة الآن باسم "عالمية حقوق الإنسان"، والمتخذة - بحق أو بباطل - سوطا يلهب ظهر المخالفين، في حين أن القصد من أي إعلان أو ميثاق عالمي أن يضبط متعلقات حقوق الإنسان أينما كان وكيفما كان، في منظومة قانونية خلقية قادرة على مرافقة حياته، مع ما في سير هذه الحياة من مد وجزر أو سلب وإيجاب.

(1/8131)

من هنا وسعيا إلى إغناء هذه المنضومة إن لم أقل إلى إعادة تشكيلها، كان البحث في النظور الإسلامي لهذه الحقوق.

وليس المقصود استعراض جميع الحقوق وتتبعها في شموليتها واستجابتها لمختلف متطلبات الحياة الفردية والجماعية، ولا تتبع ما لها من حرمة وقداسة في التنظير والممارسة، مما لا يتسع له مثل هذا العرض المحدود والمحدد وإن كان بعض ذلك يتضح من خلاله. وإنه ليكفي الوقوف عند فقرات مختزلة نقتبسها من نص واحد هو خطبة حجة الوداع، لتتأكد مدى تلك الشمولية والقداسة. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه

(1/8132)

الخطبة التي جاءت ميثاقا مبكرا لحقوق الإنسان، كان - صلى الله عليه وسلم - يلح على تبليغه والإشهاد عليه : "... أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته ... أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد. فمن كانت له أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع ... وإن دماء الجاهلية موضوعة ... أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حق ... أخدتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله

(1/8133)

في النساء واستوصوا بهن خيرا. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد. أيها الناس إنما المومنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ... أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عن الله أتقاكم. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد ... أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث. والولد للفراش وللعاهر الحجر من ادعى

(1/8134)

إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل"(1).

كما أن المقصود لا يرمي إلى إقامة مقارنة لإثبات سبق الإسلام إلى إقرارها

والمناداة بها وتطبيقها؛ إذ لو كان الأمر كذلك لوقع الإكتفاء ببعض مواد الإعلان

العالمي، ليتضح أن الإسلام سبق إليها ليس في مضمونها فحسب، ولكن حتى في أسلوب التعبير عنها، ولتكن هاتين المادتين :

__________

(1) انظر أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب في العصور العربية الزاهرة، ج 1، ص. 57-49، المصادر المذكورة، (ط. الأولى، مصر، 1352 هـ / 1933 م).

(1/8135)

الأولى تتعلق بالحرية وتنص على أنه "يولد جميع الناس أحرارا متساويين في الكرامة، وفي الحقوق". وفي غير حاجة إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي تركز على هذا الحق، تكفي الإشارة إلى قول عمر بن الخطبا رضي الله عنه : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟" إن النص يكاد أن يكون هو في لفظه ومعناه، مع قوة في قولة ابن الخطاب مردها إلى استنكار الإستعباد.

الثانية تتعلق بالمساواة وتنص على أن "لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان ودون أي تمييز،

(1/8136)

كالتمييز بين العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر". والشواهد الإسلامية في هذا الباب أكثر من أن تحصى، سواء من القرآن الكريم أو السنة النبوية التي منها ما جاء في الخطبة المشار إليها حول المساواة والتي أعطى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفهوما بعيدا لهذا الحق وعلل له. على أن الموقف الإسلامي في هذا الصدد - وشواهده أكثر من أن تحصى عددا - لا يكتفي بتثبيت مبدأ المساواة، ولكنه يتجاوز مجرد التثبيت إلى

(1/8137)

جعله مجالا للتعارف والتعاون لتحقيق التعايش والتسامح وفق قول الله عز وجل : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أثقاكم}(1).

لو حاولنا - بعيدا عن مثل هذه المقارنات الدالة - أن نتأمل الخصوصيات التي تميز منظور الإسلام للحقوق، لوجدنا بإجمال نابعة من القيمة التي منحها الله للإنسان وما نتج عنها من انعدام وتكريم، ونابعة كذلك من كون الإسلام دين رحمة وهداية وتكليف موجها للناس كافة، إضافة إلى كونها مرتبطة بالفطرة السليمة

__________

(1) سورة الحجرات (الآية 13).

(1/8138)

والطبيعة السوية. يقول تعالى : {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله طلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(1).

من هذه الخصوصيات :

أولا : أن حقوق الإنسان من حقوق أخرى متعددة مردها إلى رؤية الإسلام للإنسان في نطاق علاقاته مع الكون وما فيه، رؤيته كذلك للإيمان باعبتاره اعتقادا وعملا وسلوكا، إذ جعل لكل من هذه المحاور الثلاثة وجودا أساسيا في حياة المومن مع ما يمثله هذا الوجود من حقوق يمكن حصرها في أنماط ثلاثة تتصل بالله وبالعباد والنفس :

__________

(1) سورة الروم (الآية 29).

(1/8139)

1- حقوق الله : وتقتضي الإسلام لله، أي الانقياد له وتوحيده والثقة به، وطاعته وعبادته، وإحسان هذه العبادة بإقامة شرائعه لتتم بصدق وإتقان وضمير حي يقظ، سواء في السر أو العلن. يقول تعالى : {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}(1)، ويقول : {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(2). ويشرح القرآن الكريم هذا الإحسان في قوله عز وجل ينبه إلى مدى علمه بما يفعله الإنسان : {وهو معكم أينما كنتم}(3) ،

__________

(1) سورة الإسراء (الآية 23).

(2) سورة البقرة (الآية 111).

(3) سورة الحديد (الآية 4).

(1/8140)

{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء}(1) ، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}(2) . كما يشرحه الحديث النبوي الشريف في قوله - صلى الله عليه وسلم - يجيب عن سؤال جبريل : "... قال : أخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(3) . وهذه لا شك مرتبة الإيمان الكامل أو أفضل الإيمان الكامل أو أفضل الإيمان لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

__________

(1) سورة إبراهيم (الآية 40).

(2) سورة غافر (الآية 19).

(3) أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب.

(1/8141)

"أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"(1) .

وقد لخص النبي الكريم هذا الجانب من الحقوق وما لها من مقابل عند الله

في الحديث الذي رواه معاذ بن جبل قال : "كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال :

يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : لا

__________

(1) رواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية.

(1/8142)

تبشرهم فيتكلوا"(1).

2- حقوق العباد : وهي تابعة ونتيجة تلقائية لحقوق الله. وتتمثل في التعامل بالقسط والعدل وعدم الظلم والإعتداء والغش. يقول تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوان وإن تلووا او تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}(2).

__________

(1) أخرجه البخاري ومسلم، وسنعود إليه.

(2) سورة النساء (الآية 134).

(1/8143)

وفي الحديث القدسي ينقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يرويه عن الله أنه قال : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا"(1). ومر صلوات الله وسلامه عليه بطعام وقد حسنه صاحبه فأدخل يده فيه فإذا هو طعام رديء فقال له : "بعد هذا على حدة وهذا على حدة، فمن غشنا فليس فليس منا"(2).

__________

(1) رواه مسلم وابن حنبل عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر جندب بن جنادة.

(2) أخرجه أحمد وغيره عن ابن عمر.

(1/8144)

وتتجلى حقوق العباد كذلك في حسن السلوك ومعاملتهم بالخلق الحميد. يقول سبحانه : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}(1). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أكمل المومنين إيمانا أحسنهم خلقا"(2).

وتشمل هذه الحقوق أيضا الحرص والمحافظة على ما جعله الله منفعة عامة

ومصلحة مشاعة بين الناس، كالماء والكلأوما يرمزان إليه، مما يدخل فيما يسمة اليوم

__________

(1) سورة آل عمران (الآية 159).

(2) رواه الترمذي عن أبي هريرة، وتتمته "وخياركم خياركم لنسائهم"

(1/8145)

بالمرافق العامة والموارد الحيوية وشتى المظاهر البيئية التي ينبغي صونها، ليفيد منها

الجميع في غير إضاعة لها أو إفساد. يقول الحق سبحانه : {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}(1).

ويدخل في هذا الباب كل ما يتعلق به الصالح العام، وجميع ما يترتب على خرقه وخلل في المجتمع، كالعناية باللقطاء والمعتوهين، ومنع ما يثير الفوضى والاضطراب، كإعلان السكر والفحش وما إليهما مما يصدم الضمير ويزعج سير الحياة.

__________

(1) سورة البقرة (الآية 203).

(1/8146)

وفي جانب مهم من هذه الحقوق يتصل بعلاقة الحاكم والمحكوم، يبرز الله عز و جل ما ينبغي أن تقوم عليه هذه العلاقة من تعاقد إذ يقول : {إن الله يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وإذ حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا}(1)، وهو قول كريم ينبه إلى ثلاثة أمور(2)

__________

(1) سورة النساء (الآيتان 57 و 58).

(2) انظر المسؤولية في الإسلام لصاحب هذا العرض، ص. 20-21، منشورات النادي الجراري، رقم 10، ط. الأولى 1417 - 1996.

(1/8147)

:

أ- تحديد العلاقة بين الراعي والرعية أي بين الحاكم والمحكوم.

ب- البدء بذكر ما يجب على الراعي من عدل وأداء للأمانة قبل الحديث عما يجب على الرعية من سمع وطاعة.

ج- دعوة المونين في حال وقوع الاختلاف بينهم في أمر ما أن يردوه إلى الله والرسول ليحتكموا إليهما، أي أن يرجعوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والرجوع إليه يتضمن الرجوع إلى الله عز وجل. أما بعد مماته عليه الصلاة والسلام فالاحتكام يكون إلى من يتحمل الأمانة العظمى من ولاة الأمور.

(1/8148)

ولعله لا حاجة إلى الحديث - في مثل هذا العرض الوجيز - عما يترتب على خرق حقوق العباد من جراء فصله الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالحدود والعقوبات.

3- حقوق النفس : وتتطلب المحافظة عليها - أي على النفس - وضبطها بالقيم السامية الرفيعة، والابتعاد بها عن مواطن الذل والهوان، يقول تعالى : {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين}(1). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يحب معالي الأمور وأشرفها ويكره سفاسفها"(2)

__________

(1) سورة آل عمران (الآية 139).

(2) أخرجه الطبراني في الكبير عن الحسين بن علي.

(1/8149)

.

وفي هذا الإطار تدخل جميع الحقوق التي تضاف للإنسان، والتي سنرى في أثناء العرض كيف ساقها الإسلام ونظمها في سلك محكم دقيق ومتميز كما تدخل مسؤولية الإنسان عن جسمه وعقله لحمايتها من التخريب والإفساد وكل ما ينتج عن تناول المحرمات وما يؤدي إلى الهلاك، يقول تعالى : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}(1)، ويقول : {ولا تقتلوا أنفسكم إن اله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا}(2). وهو نهي قائم على اعتبار النفس ذات حرمة لا يجوز

__________

(1) سورة البقرة (الآية 194)

(2) سورة النساء (الآيتان 29 و 30).

(1/8150)

انتهاكها، وكذا على اعتبارها ملكا لله؛ والفرد إنما هو مؤتمن عليها، ومن ثم عليه أن يصونها ويحفظها، فلا يغامر بإتلافها، كأن ينتحر مثلا ليضع حدا لحياته ما لم يتعلق الأمر بالاستشهاد.

وليس يخفي ما يكون للمنتحر من مصير أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار"(1) ، وقوله : "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا

__________

(1) أخرجه البخاري عن أبيه هريرة.

(1/8151)

مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأبها بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا"(1).

على أن صيانة النفس لا تكون فقط بالمحافظة على حياتها فحسب، ولكن تكون

كذلك بحفظ التوازن بين الجسم والروح، لأن من شان هذا التوازن أن يحميها

من الآفات الجسدية والعلل النفسية، ولا سيما هاته التس شاعت في المجتمعات المعاصرة، كالقلق والشك والضياع والحيرة واليأس، وربما الانقياد للتخدير والسرقة والجريمة. وهذا ما جعل الإسلام يدعو إلى العناية بالنفس حتى تتحقق لها السلامة

__________

(1) أخرجه البخاري كذلك عن أبي هريرة.

(1/8152)

والقوة عن طريق التغذية والتربية والتعليم والنظافة المادية والروحية، دون إهمال أي من هذين الجانبين - كما مر - طالما أن الإنسان خلق من مادة وروح. يقول تعالى : {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعول له ساجدين}(1).

ونظرا لأن هذه الحقوق عائدة بطبيعتها إلى الفطرة، فإنها تتجاوز العناية بالذات إلى من يرتبط بها، كعناية الواليدن بالأطفال، ورعاية حقوقهم، بدءا من حق الحياة الذي ينهى عز وجل عن مسه بسبب الفقر والحاجة. ويقول سبحانه : {ولا

__________

(1) سورة ص (الآيتان 70 و 71).

(1/8153)

تقتلوا أولادكم من إملاق}(1) ويقول : {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}(2).

وإضافة إلى كون هذا النهي نابعا من تحريم قتل النفس على العموم، فإنه ينم مع معنى آخر عميق، باعتبار الأطفال جزءا من الوالدين، ومن الأم بصفة خاصة، إذ في أحشائها تكونوا وبدأوا الحياة. وليست تخفى في هذا المجال وغيره عناية الإسلام بحقوق الزوجة والمرأة عامة، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ذلك.

__________

(1) سورة الأنعام (الآية 152).

(2) سورة الإسراء (الآية 31).

(1/8154)

هذا، ولا يمكن لحقوق النفس أن تأخذ مجراها الطبيعي إلا إذا أديت حقوق الله والعباد. ومدار هذا الأداء على التقوى والورع، يقول تعالى : {إن أكرمكم عند اله أتقاكم}(1). والله وحده هو العارف المتقي، وليس لأحد ان يزعم ذلك، يقول عز وجل : {فلا تزكوا انفسكم هو أعلم بمن اتقى}(2). ومن أهم مظاهر التقوى ترك مواطن الشهة والابتعاد عن الشك إلى ما يبعث في النفس الطمأنينة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دع ما يربيك إلى ما لا يربيك"(3)

__________

(1) سورة الحجرات (الآية 13).

(2) سورة النجم (الآية 31).

(3) رواه الترمذي وغيره عن الحسن بن علي بن أبي طالب.

(1/8155)

.

وتكميلا للحديث عن هذه الأنماط الثلاثة من الحقوق المتصلة بالله والعباد والنفس، تجدر الإشارة إلى المحاسبة التي أناطها الله بها جميعا وما يتبعها من جزاء، مما أبرزه تعالى حين جعل كلا منها شاهدا على الإنسان عبر ما يراه الله، ثم ما يراه الرسول والمومنون، وبعد ذلك ما تراه النفس. يقول تعالى : {وسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}(1)، ويقول : {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة

__________

(1) سورة التوبة (الآية 95).

(1/8156)

فينبئكم بما كنتم تعملون}(1)

فإذا كانت رؤية الله للعمل معروفة، فإنها بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم -. قائمة وثابتة، لأنه هو الذي بلغ الرسالة. أما المومنون فإنهم شهداء الله في الرض. وأما النفس فإن رؤيتها تتم بعد أن تنبأ بما كانت تعمل، وبعد أن تشهد عليها مختلف الحواس، وفق قوله عز وجل {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}(2).

__________

(1) سورة التوبة (الآية 106).

(2) سورة النور (الآية 24).

(1/8157)

ثانيا : إن حقوق الإنسان ثابتة بحكم إنعام الله عليه وتكريمه له، وليست ناتجة عن صراع أو مطالبة لنيلها، والفرق واضح بين الأمرين. يقول تعالى : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير خلقنا تفضيلا}(1).

1- وإن هذا التكريم ليتجلى في جملة مظاهر بدءا من الخلق على أحسن تقويم

إلى إسباغ الأفضال عليه بل خلق بقية الكائنات من أجله. يقول عز وجل : {لقد

خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}(2)، ويقول : {هو الذي خلق لكم ما في

__________

(1) سورة الإسراء (الآية 70).

(2) سورة التين (الآية 4).

(1/8158)

الأرض جميعا}(1)، ويقول : {وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله

لا تحصوها}(2)، ويقول : {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}(3).

2- وبالآضافة إلى هذه المظاهر التي تمس صورة الإنسان وخلقه وما أفاض الله عليه من نعم، فإنه عز وجل فضله بأن جعله عالما متحضرا قابلا لاكتساب المعارف وتحقيق التطور لنفسه وللحياة من حول.

__________

(1) سورة البقرة (الآية 28).

(2) سورة إبراهيم (الآية 36).

(3) سورة لقمان (الآية 19).

(1/8159)

وليس يخفى أنه بالعلم لخلافة الأرض وحمل الأمانة، ويقول تعالى : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}(1)

__________

(1) سورة البقرة (الآيتان 29 - 33).

(1/8160)

. هذا الوقت الذي صعب على أعظم المخلوقات حمل هذه الأمانة، فامتنعت عنها معتذرة بعجزها عن ذلك. يقول سبحانه : {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}(1). وقد استحق الإنسان بذلك وبعده ان تسجد له الملائكة تجلة واحتراما، يقول تعالى : {وغذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}(2).

__________

(1) سورة الأحزاب (الآية 72).

(2) سورة البقرة (الآية 33).

(1/8161)

3- وما كان للإنسان أن تبوأ هذه المكانة فضلا عن أن يتمتع بمختلف النعم التي كرمه الله بها وأكرمه، لولا نعمة الحرية التي هي في الإسلام قيمة كبرى وأساسية، لارتباطها بطبيعة الإنسان وفطرته وغريزته وفق قولة عمر السابقة، ولتأثيرها في تكوين شخصيته إذ بها تقوم الحياة ويتحقق الإنتاج وينهض المجتمع المتعارف والمتعاون.

وإن دعوة الإسلام للحرية لتبدأ بالتوحيد الذي حرر الإنسان من الشرك، أي

من عبادة غير الله. وهذا جعله يقاوم تقديس الأصنام والوثان ويحارب الخضوع للأهواء والنزوات ويمنع الإنسياق لطغيان المال ويدحض

(1/8162)

استعباد الإنسان للأنسان. وهي كلها ظواهر عرفها البشر وما زالوا يعرفونها في صيغ متعددة وأشكال متنوعة.

وقد أقضى التحرير من الشرك في الإسلام إلى عملية أخرى لتحرير الإنسان من كل سيطرة تستبد به أو نفوذ يتحكم فيه، باعتباره ينبغي ان يتمتع بالحرية في نطاق الإنضباط واحترام القوانين والتشريعات التي تهدف إلى تنظيم الحياة والمجتمع، إذ من حقه أن يكون في مأمن من كل عدوان او بغي أو تسلط أو ما إلى ذلك مما يخرق حريته أو يصيب حياته أو دينه او ماله أو أهله وجميع حرماته التي لا يمكن أن يراجع فيها إلا بالحق، أي

(1/8163)

بالقانون.

والإسلام بهذا قد سبق جميع الدساتير والوقانين والمواثيق التي تحدثت عن حقوق الإنسان وأبرزت حرياته الخاصة والعامة. وإنه لمن الصعب استعراض كل ما يكيزه في سياق هذا العرض المحدود، وتكفي الإشارة إلى بعض جوانب الحرية التي نادى بها الدين الحنيف والتي يظن أنها من الحقوق التي أقرتها التشريعات الحديثة.

منها حرية العمل، وتتجلى في قوله تعالى : {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}(1).

__________

(1) سورة الملك (الآية 15).

(1/8164)

ومنها حرية المسكن والمراسلة وما إليهما مما ينتهك بالتجسس واتباع ما خفي من أمور الناس الخاصة. يقول سبحانه : {ولا تحبسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا}(1)، ويقول : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}(2).

ومن هذه الحريات بل في طليعتها حرية التعبير. وهي تعد في الإسلام نعمى تأتي مباشرة بعد نعمة الوجود، وبها فضل الله الإنسان على غيره من الذين لا ينطقون ولا يبينون. يقول عز وجل : {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه

__________

(1) سورة الحجرات (الآية 12).

(2) سورة النور (الآية 27).

(1/8165)

البيان}(1).

وفي نطاق هذه الحرية دعا الإسلام إلى النظر في الكون لتأمله وتدبره والتفكير فيه. يقول تعالى : {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}(2). وهي آية تعني أن الإسلام دعا إلى النظر في كل ما خلق الله، ولم يمنع إلا شيئا واحدا لا يدركه التفكير فضلا عن البصر، وهو ذات العلي القدير.

ومن ثم أدان الله كل تحجير على التعبير وجميع أحاديات الفكر والرأي إذ يقول : {قال فرعون ما رأيكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}(3). وقد بلغ

__________

(1) سورة الرحمن (الآية 1).

(2) سورة يونس (الآية 101).

(3) سورة غافر (الآية 29).

(1/8166)

هذا التحجير عند الذين لا يعرفون الحرية ولا يومنون بها إلى حد القتل. يقول تعالى : {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله}(1).

ويكفي الإسلام حرصا على الحرية التعبيرية إقراره بحرية العقيدة(2) مع كل ما تقتضي من احترام ممارستها وعدم الإجبار على تعطيلها او تغييرها. يقول تعالى : {لا إكراه في الدين}(3). ويقول : {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس

__________

(1) سورة غافر (الآية 28).

(2) انظر صاحب هذا العرض، مفهوم التعايش في الإسلام، منشورات الإيسيسكو الرباط، 1417 هـ / 1996 م.

(3) سورة البقرة (الآية 255).

(1/8167)

حتى يكونوا مومنين}(1).

أ- هنا تثار مسألة المرتد وحكم الدين بقتله، وهو أمر لا مجال لإنكاره، وإن كان في حاجة إلى توضيح يزيل ما فيه من لبس. ومعروف أن المرتد هو الذي يعلن خروجه من الإسلام بعد أن يكون دخل فيه. وقد يتخذ بهذا الخروج شكلين : شكلا عاما بالطعن في الدين كله، وشكلا خاصا برفض أحد أركانه.

وعقوبة المرتد - ما لم يتب - منصوص عليها في القرآن الكريم ةمحددة بالسنة النبوية الشريفة. يقول تعالى معقبا على الارتداد والموت عليه : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت

__________

(1) سورة يونس (الآية 99).

(1/8168)

أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(1). ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من بدل دينه فاقتلوه"(2).

وليس السبب في هذه العقوبة راجعا إلى كون المرتد اعتنق دينا آخر أو كفر بالإسلام، بدليل معاملة المسلمين لغيرهم داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه من المنتمين لبقية المعتقدات، ولكنه راجع إلى ما يعنيه الارتداد في مفهوم الدين وسياق المجتمع من تآمر على المسلمين وخيانة لهم بكل ما في ذلك من كيد ومكر، وسعي إلى زرع

__________

(1) سورة البقرة (الآية 215).

(2) أخرجه البخاري وابن حنبل عن ابن عباس.

(1/8169)

الشك في صفوفهم وبث الفرقة بينهم وردهم عن دينهم وهدم بناء مجتمعهم.

ب- إن الإسلام حين أعطى الحرية ومنحها، فإنه في نفس الوقت حماها من كل عبث، إذ ربطها بحقوق تجعل الإنسان متمتعا بخصائص ذاتية يشعر من خلالها بالسيادة والكرامة، ولكن في نطاق الضوابط والقوانين العامة التي تنظم أمر هذه الحقوق وتحفظ لها رحمتها بوعي وحرص من جميع الأطراف، في غير محاولة لاستحلالها بالتحايل أو التأويل، مما نبه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال : "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من

(1/8170)

بعض فأقضى له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار"(1).

إن هذا الإنضباط بالتشريعات والقوانين هو الذي يجعل الحرية لا تنقلب إلى فوضى فتضر بصاحبها قبل أن تضر بغيره، وحتى تكون حرية الفرد عامل خير ونفع للآخرين. وبذلك - كما يقال - تنتهي حرية الفرد عندما تبدأ حرية الآخرين.

لقد أرد الله للإنسان بهذه الحرية أن يعيش حياة أساسها التكريم الذي يتيح له ليس فقط أن يتمتع بها هنيئة وسعيدة، ولكن أن يحيا ضمن مجتمع صغير أو كبير بناء على روابط وضوابط تضمن

__________

(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة.

(1/8171)

سير الحياة الخاصة والعامة على النحو الذي يمكنه - أي الإنسان - من حمل الرسالة وأداء الأمانة، كل في دائرة عمله واختصاصه وفي نطاق مسؤوليته.

وهنا قيمة كبرى تجعل الحرية في الإسلام مرتبطة بالمساواة، أي بالمساواة في

الحرية وفي جميع الحقوق، ولا أدل على هذه المساواة في الحقوق من قول أبي بكر

الصديق في أول خطبة له بعد أن ولى الخلافة : "ألا إن إقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه"(1). وكان عمر بن الخطاب قد كتب لأبي موسى

__________

(1) انظر جمهرة الخطب، ج 1، ص. 67، والمصادر المذكورة.

(1/8172)

الأشعري في رسالته المشهورة التي بعثها له متعلقة بشؤون القضاء : "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك"(1).

وهنا تجرد الإشارة إلى أن المسلمين - بحكم هذه المساواة - كانوا يأنفون من أن يعظموا أو يميزوا عن غيرهم حين يكونون معه في موقف التقاضي، على حد ما حدث لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان يتقاضى مع يهودي أمام عمر، إذ وقف ابن أبي طالب - هو وخصمه

__________

(1) انظها في كتاب أبي الحسن علي بن محمد الماوردي، الأحكام السلطانية، ص. 58، ط. الأولى، مصر 1327 هـ/ 1909م.

(1/8173)

اليهودي - أمام الخليفة، وأحس علي ببعض الضيق فخاطبه في ذلك عمر ظانا أنه كره أن يقف إلى جانب خصم يهودي، فأجاب علي معربا أن غضبه راجع إلى كون عمر خاطب اليهودي باسمه وخاطبه هو بكنيته (أبي الحسن)، وكان من مظاهر تعظيم الرجل وإكرامه أن يخاطب بكنيته وليس باسمه.

إن السبب في جعل الإسلام الحرية مقننة كامن في الحاجة إلى ضبطها حتى لا تنقلب إلى فوضى، والحاجة كذلك إلى نعيمها بعدل ومساواة - كما مر - وكامن كذلك في الأمانة التي يحملها الإنسان. ولا يمكن لهذا الحمل إلا ان يكون منضبطا لهذا الحمل إلا أن يكون منضبطا

(1/8174)

ومقننا، طالما أن الكون الذي يتحمل الإنسان هذه المانة في نطاقه محكوم ومسخر بقوانين دقيقة تحفظ له توازنه، يقول تعالى : {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}(1).

ج- قد يأتي معترض ويقول : إذ كان الإسلام أعطى هذه الحريات فلماذا يسمح

بالرق ؟.

والجواب أن هذا غير صحيح، لأن الإسلام لا يسمح بالرق، بل إنه لم يذكر أمره إلا مقرونا بالتحرير، في تشجيع على هذا التحرير وإغراء به وبفتح شتى المجالات له، وفي مقدمتها الكفارات. ويكفي

__________

(1) سورة الرحمن (الآيتان 4 و 5).

(1/8175)

للدلالة على أهمية تحرير الرقبة قوله عز وجل : {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة}(1). فقد جعل الإسلام منح الحرية للعبد أو الأسير سبيلا لتجاوز العقبة الكأداء التي استعير التعبير بها للدلالة على ما يشق عمله على النفس.

وهذا منحى سام لا يمكن إدراكه إلا إذا عرف أنه حين ظهر الإسلام كان الرق يشكل ظاهرة اجتماعية منتشرة، بل كان مظهرا اقتصاديا رائجا، فأغلق الإسلام جميع أبوابه ولم يبق منها إلا باب الأسر الذي يكون في الحرب، وفيه يقول تعالى : {فإذا لقيتم الذين كفروا

__________

(1) سورة البلد (الآيتان 12 و 13).

(1/8176)

فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك ولو يشاء الله لا ننصر منهم ولكن ليبلو بعضهم ببعض}(1)، وهما آيتان تتحدثان عن الأسرى وتثيران حالتين إحداهما مقدمة للأخرى :

الأولى : إطلاق سراح الأسرى منا بلا فداء أي بغير تعويض.

والثانية : إطلاق سراحهم بفداء.

واستمر الأمر في الدولة الإسلامية على هذا النحو، إلى أن انمحى الرق من الإسلام، في وقت مازال العالم المتقدم يمارسه بشتى الوسائل والأساليب فرديا وجماعيا، وما التمييز

__________

(1) سورة القتال (الآيتان 4 و 5).

(1/8177)

العنصري إلا أحد المظاهر الصارخة لذلك.

ثالثا : إن حقوق الإنسان مقترنة بالواجبات، إن لم نقل إنها تتحول إلى واجبات، مما يجعلها جميعا - أي الحقوق والواجبات - خاضعة لما يضمن المحافظة عليها في تنظيم للحياة يقوم على علاقات يقوم على علاقات متوازنة، بها تتحقق المصالح وتحمى من كل خرق او عبث، سواء أكانت تلك الحقوق سياسية او مدنية، خاصة ام عامة، مادية أم معنوية، موقتة أم دائمة.

ولتأكيد هذه الخصوصية نمثل بحقوق أربعة.

1- الحرية :

(1/8178)

لقد جعل الإسلام حرية شرطا لكل تكليف، بدونها لا يكون مطالبا بأدائه مهما تكن أوجه حرمانه منها، لا سيما في حال الإكراه.

هذا في الوقت الذي حمله مسؤولية التعبير وأدان سكوته عن الحقن يقول تعالى : {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعملون}(1).

وإن حرية التعبير هاته لتقود في المجتمع الإسلامي إلى مظرهين يبدوان متضادين ولكنهما في الحقيقة متكاملان :

أولهما : المشاركة في تسيير شؤون الأمة بالشورى، إذ يقول الحق سبحانه حاثا رسوله الكريم عليها : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو

__________

(1) سورة البقرة (الآية 41).

(1/8179)

كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إم الله يجب المتوكلين}(1).

وثانيهما : الإعلان عن المعارضة في الرأي بشأن هذا التسيير.

على أن اكثر ما يتجلى فيه الأعراب عن الرأي هو مجال التوجيه والانتقاد في حدود النصيحة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أساس الدين ومظهرا له في كماله حين قال : "إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة إن الدين النصيحة" قالوا : "لمن يا رسول الله ؟" قال : "لله ولكتابه ورسوله وأيمة

__________

(1) سورة آل عمران (الآية 159).

(1/8180)

المسلمين وعامتهم"(1).

وليست تخفى في هذا السياق أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ركز

عليها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، على نحو قوله عز وجل : {ولتكن

منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أولئك هم

المفلحون}(2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى منكم منكرا

__________

(1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما؛ والترمذي في جامعه؛ والنسائي في مجتباه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري، انظر شرحه وبعض متعلقاته في المسؤولية في الإسلام، من ص. 35.

(2) سورة آل عمران (الآية 104).

(1/8181)

فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(1).

في ضوء هذه التوجيهات قال رجل لعمر بن الخطاب (ض) : "اتق الله يا أمير المومنين" فاعترضه بعض من كان في المجلس وقال له : "كيف تقول لأمير المومنين : اتق

الله ؟" ورد عمر : "دعه فليقلها فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم".

وفي هذا المجال لا تستغرب الدعوة إلى أن يكون للفرد رأي خاص ومستقبل، وأن تكون له القدرة على إبدائه، ولقد

__________

(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري، كما رواه ابن ماجة والنسائي وأبو داود.

(1/8182)

نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون الإنسان مجرد تابع ومقلد وإمعة، حاثا على أن تكون له شخصيته وذاتيته وحريته في التفكير والتعبير، إذ قال : "لا تكونوا إمعة تقولون إن احسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا،ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(1).

2- العلم :

إن الحق في اكتساب العلم واجب، كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. في حديث : "طلب العلم فريضة علىكل مسلم"(2). وهو مطلب يسعى المسلم إليه ولو بشد

__________

(1) رواه الترمذي عن حذيفة.

(2) رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك.

(1/8183)

الرحلة وتحمل المشاق، على حد قوله - صلى الله عليه وسلم - : "اطلبوا العلم ولو بالصين"(1)، مع الحث على ذلك في كل مرحلة من مراحل العمر، إذ يقول صلوات الله وسلامه عليه : "من جاء أجله وهو يطلب علما ليحيى به الإسلام لم تفضله النبيون إلا بدرجة"(2)؛ في حين توعد - صلى الله عليه وسلم - الذين لا يتعلمون، إذ كرر مرتين : "ويل ثم يول لمن لا يعلم ولا يتعلم"(3)

__________

(1) أخرجه البهيقي والخطيب وابن عبد البر عن أنس.

(2) رواه ابن عبد البر عن عبد الله بن عباس.

(3) أخرجه ابن عبد البر في الجامع عن الفريابي عن الثوري. وأول الحديث : "ويل لمن يعلم ولم يعمل".

(1/8184)

.

والسبب في هذا الوجوب راجع إلى أمرين :

أولهما : أن العلم مرتبط بالإيمان، يقول تعالى : {يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(1)، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فأما طبقتي وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان"(2). ولا يتم هذا الإيمان عن طريق التقليد ولكن بواسطة النظر والتأمل، غذ يقول الحق سبحانه : {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}(3). ويقول : {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء

__________

(1) سورة المجادلة (الآية 14).

(2) من حديث رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك.

(3) سورة يونس (الآية 101).

(1/8185)

ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يومنون}(1). ويقول : {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلىالجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت}(2).

ثانيهما : أن الله لا يعبد بجهل، وأن الإسلام قائم على العلم، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"(3)، "لكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه"(4)، "خير دينك

__________

(1) سورة النحل (الآية 79).

(2) سورة الغاشية (الآيات 17-20).

(3) رواه مسلم عن ابن سيرين.

(4) رواه ابن عبد البر عن أبي هريرة في جامع بيان العلم وفضله.

(1/8186)

أيسره، وخير العبادة الفقه"(1).

ومن ثم فالإنسان يحاسب يوم القيامة على عمله، وفق ما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال : "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن عمله فيم فعل فيه، وعن ماله من أبن اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه"(2). وفي هذا السياق توعد - صلى الله عليه وسلم - الذين يكتمون العلم : "من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"(3)

__________

(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع عن أنس.

(2) أخرجه الترمذي عن أبي بزره نضلة بن عبيد الأسلمي.

(3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.

(1/8187)

.

وهي محاسبة تقترن بالثواب العظيم الذي خصه الله لطلبة العلم الصادقين الجادين في اكتسابه، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله له به طريقا إلى الجنة"(1)، يقول : "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"(2).

ولا عجب بعد هذا أن يكبر الإسلام شأن العلماء ويعظمهم، يقول عز وجل : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}(3)، ويقول : {شهد اله أنه لا

__________

(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.

(2) أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك.

(3) سورة الزمر، (الآية 5).

(1/8188)

إله إلا هو الملائكة أولوا العلم}(1)، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "العلماء ورثة الأنبياء"(2)، ويقول : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"(3)، ويقول : "يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"(4).

3- العمل :

إن العمل في الرؤية الإسلامية يتجاوز كونه حقا ليصبح واجبا بحكم دعوة الإسلام إلى السعي والكسب، يقول تعالى : {هو الذي جعل

__________

(1) سورة آل عمران، (الآية 18).

(2) من حديث أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء.

(3) رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي.

(4) أخرجه ابن ماجة عن عثمان بن عفان.

(1/8189)

لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}(1) أي سهلها لكم ويسرها وطوعها لتسيروا فيها وتبحثوا عن الرزق، لأن العمل في هذه الرؤية عبادة، وهو يدخل في نطاق أمانة الاستخلاف التي حملها الإنسان، وفي نطاق المحافظة على مقومات الحياة التي بها يستمر الكائن ويقوم المجتمع. فيه تتحقق العدالة، وبه يكون الصلاح. وبه توجد السعادة، وبه في النهاية يحارب الظلم والفساد ويكون الجزاء، أي أنه - العمل - هو الغاية من الوجود. يقول عز وجل : {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن

__________

(1) سورة الملك، (الآية 15).

(1/8190)

عملا}(1). ويقول : {تبارك الذي بيده وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}(2).

إن العمل مقرون في الإسلام إلى القول لإدراك درجة الإيمان الصحيح الذي يقضي إلى اليقين، يقول سبحانه : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}(3) .

والسبب أن الإيمان ليس بالتمني ولا بتزيين القول كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الإيمان بالتمني

__________

(1) سورة الكهف، (الآية 7).

(2) أول سورة الملك.

(3) سورة الصف، (الآيتان 2 و 3).

(1/8191)

ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقة العمل"(1)، ويقول تعالى : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مومن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}(2).

وتبدو هنا ركيزتان أساسيتان في الإسلام هما : الإيمان والعمل الصالح، وقد قرنهما القرآن الكريم في آيات كثيرة لعلها تتجاوز الخمسين.

__________

(1) رواه الترمذي عن أنس.

(2) سورة النساء، (الآيتان 122 و 123).

(1/8192)

ومن ثم حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العمل ودعا إلى عدم الاتكال على حسب أو نسب، كما في قوله لأم سلمة هند زوجته : "اعملي ولا تتكلي"(1)، وقوله : "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"(2).

وإن هذا الموقف الإسلامي من العمل هو الذي جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبرز قيمة الكسب باليد وينوه بإتقان العمل، ويدين التواكل والتسول، مما لا حاجة إلى الإطالة به. على أن سياق وجوب العمل في مداولة الواسع يقتضي المحاسبة عليه، يقول

__________

(1) رواه عبد الله بن عدي في كتاب الكامل عن أم سلمة.

(2) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

(1/8193)

تعالى : {يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}(1)، ويقول : {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}(2).

ويكفي التذكير بأن الإنسان لا ينجو من خسران الدنيا والآخرة إلا بالعمل المقترن بالإيمان، غذ يقول عز وجل : {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(3).

4- الأمن :

__________

(1) سورة آل عمران،(الآية 30).

(2) سورة فصلت، (الآية 45).

(3) سورة العصر.

(1/8194)

إذا كان الإنسان يسعة إلى ان يعيش في أمن، سواء باعتباره فردا أم باعتباره منضما إلى جماعة، فلأن الأمن هو قوام الحياة.

والأمن حالة نفسية تتجلى في الرضا والاطمئنان والهدوء والسكون والثبات والثقة والراحة، نتيجة وقوع خير أو شيء جميل، أو نتيجة توقع حدوث ذلك. وعكسه الخوف الذي يترتب عن معايشة الشر أو توقعه، بدءا من القلق والاضطراب إلى الخشية والحذر فالهلع والذعر.

وهو يتجلى في مظاهر متعددة أبرزها الأمن النفسي والغذائي، وكان مطلب الأنبياء منذ إبراهيم عليه السلام : {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا

(1/8195)

وارزق أهله من الثمرات}(1).

وقد جعل الإسلام هذا الأمن أساسا بل شرطا لعبادته إذ يقول تعالى : {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}(2).

ولا غرابة في هذا الربط، طلما أن الإسلام دين أمن، وما يوفر الأمن وينتج عنه من رحمة وألفة ونصر. يقول تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(3). ويقول : {واذكروا نعمة الله عليكم غذ كنتم أعداؤ فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}(4)

__________

(1) سورة البقرة، (الآية 125).

(2) سورة قريش، (الآيات 3 - 4 - 5).

(3) سورة الأنبياء، (الآية 106).

(4) سورة آل عمران، (الآية 103).

(1/8196)

. ويقول : {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}(1).

لهذا كله، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كثيرا ما يسأل الأمن إلى جانب الإيمان، على حد قوله يوم أحد ضمن دعاء : "اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف"(2)، وقوله حين يرى الهلال : "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والسلام" وفي رواية : "الأمن والإيمان"(3).

__________

(1) سورة الأنفال، (الآية 26).

(2) روان ابن حنبل، عن ابن رفاعة.

(3) أخرجه الترمذي عن طلحة بن عبيد الله.

(1/8197)

ويشمل الأمن من هذا البعد الإسلامي أمن الدنيا والآخرة، يقول تعالى : {إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل، غخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم عنها بمخرجين}(1) ويقول : {إن المتقين في مقام أمين}(2).

هذه بعض الخصوصيات التي تميز حقوق الإنسان في الإسلام وتحدد إطارها وتوضح فلسفتها، انطلاقا من منظور شمولي ومتكامل ومتفتح.

وقد حاول البحث إجمال عرضها وتحليلها بغض النظر عن أمرين :

__________

(1) سورة الحجر، (الآيات 45-48).

(2) سورة الدخان، (الآية 48).

(1/8198)

الأول : ما تجتازه هذه الحقوق في كثير من البلاد النامية - ومنها الإسلامية - من ظروف قاسية تفضي بها إلى الخرق والانتهاك، مما يقتضي التوعية بها وبالمبادئ والقيم المؤسسة لها، وكذا نشر ثقافة جديدة في هذا الاتجاه تكون قادرة ليس فقط على حماية الحقوق من العبث والضياع، ولكن على التحسيس بضرورة إقرارها في التعامل موازاة مع الواجبات، بما يحقق الصالح العام في النهاية.

الثاني : ما قد يكون من توافق او تباين بين المنظور الإسلامي لهذه الحقوق

(1/8199)

والمنظور الغربي لها، سواء من حيث صيغتها المعلنة، أو من حيث الدعائم التي أقيمت

عليها؛ مما لا ينبغي أن يثير أي تناقض بين ما هو خصوصي وما هو (عالمي)، وأضع

عالمي بن قوسين، من غير أن ننسى البعد الشمولي للإسلام في هذا الموضوع وسواه،

ومن غير أن ننسى كذلك المنطق الفطري الذي انبعث منه في نطاق ما وهب الله

للإنسان من طبيعة سوية وعقل سليم. وهو ما جعل الإسلام ويجعله قادرا على

احتواء كل الخصوصيات وامتصاص جميع الاختلافات. ولعله كان في ظن الغرب - منذ المراحل الأولى للنهضة - أنه باعتماده الطبيعة أساسا لحقوق

(1/8200)

الإنسان يستطيع أن يمتلك الآخرين ويخضعهم، باعتبار الطبيعة معيارا سلوكيا متأصلا في النفس البشرية، ونظاما محكما قائما على الفطرة. وهذا هو التوجه الذي أكدته حركة التنوير في أوربا - ولا سيما انجلترا وفرنسا - عبر الاهتمام بالدرس الاجتماعي والنظر إلى الإنسان ضمن منظومة الطبيعة، مع التدرج بفهم وجوده وحقوقه من الفردية إلى الجماعية، بما تتطلبه هذه الجماعية من انسلاك في عقد منظم تحكمه قواعد وقوانين في نطاقها يتمتع الفرد بحقوقه.

(1/8201)

وبعيدا عن هذا التوجه وربما تحفزا منه، لا يخفى وجود واقع يرمي إلى عالمية تعتمد النفوذ العسكري والاقتصادي للغرب، بل تتجاوز هذا النفوذ إلى الرغبة في هيمنة ثقافته، بما فيها من مفاهيم ومنطلقات، ومن بينها متعلقات حقوق الإنسان.

إن في طليعة الحقوق التي يجب على الغرب أن يعترف بها حقا أساسيا هو الحق في الاختلاف معه، أعني حق الشعوب الأخرى، ولا سيما المستضعفة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا - أي المتخلفة عن ركب آلته المتقدمة - في أن تكون لها عقيدتها ولغتها وثقافتها ومختلف مقومات هويتها الذاتية والكيانية.

(1/8202)

يأتي بعد ذلك حقها في التقدم الذي بلغه العصر في شتى المجالات، والذي يضع الغرب عراقيل حتى لا تدرك هذه الشعوب شأوا مناسبا منه، وحتى تبقى رهينة تبعية مقيتة تتحكم في صيرورتها، وتجردها من أدنى الحقوق وأبسطها، معاشا وتعليما وعلاجا وأمنا. وهي حقوق أولية وأساسية بدونها لا مدلول لوجود شعب أو دولة، فضلا عن أن يقرن هذا الوجود بالسيادة.

ولو أن المسليمن انطلقوا من ذاتهم ومن مفاهيم ثقافتهم ودينهم وما فيه من منظور للحقوق، لسهل عليهم هضم هذه الحقوق والتفاعل معها والعمل بها واحترامها، حتى في صيغتها الغربية. وهو

(1/8203)

ما يعسر تحقيقه والوصول إليه عند مجرد النقل والاقتباس من الغير، لا سيما وأن هذا الغير يقدم إسوة سيئة ويعطي صورة مشوهة، إذ يحترم حقوقه هو، ويستهين بحقوق الآخرين ويخرقها.

وإن من أوليات هذه الانطلاقة أن يقفوا على ما يتميز به المنظور الإسلامي لحقوق الإنسان، وما يرتبط بها من مبادئ وقيم، ليدركوا الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في المنظومة الحالية، وينبهوا غيرهم إلى ضرورة هذه الإعادة حتى تتناسق هذه الحقوق وتتكامل وتستحق الوصف بالعالمية.

(1/8204)

وإن للمسلمين في ذلك دورا يقتضي ما جاء به الدين الحنيف في هذا المجال، والسعي بهذا التطبيق إلى ريادة تكون خير رد على اهتمام لهم بخرق تلك الحقوق، وتكون أفضل وسيلة للإقتناع بها وفق منظور الإسلام.

(1/8205)

تنظيم النحو العربي

محمد الأوراغي

كلية الآداب الرباط

تقديم :

... 1- نفترض أن دراسة أي ظاهرة، كانت لغوية أو غير لغوية تمر بطورين اثنين.أولهما متميز باتخاذ الاستقرار منهجا، وتحليل الظاهرة المعنية إلى عناصرها غاية. بينما ثاني الطورين يتميز بالسعي إلىتجريد الخصائص العامة الملحوظ أثرها في الظاهرة موضوع الدراسة ونحوها المتوقع.

و إذا ثبت أن كان الغالب على أعمال نحاة قدماء الوقوف عند الطور الأول من دراستهم للغة العربية فإن المنتظر من نحاة العربية الجدد أن يتوجهوا بأنظارهم نحو الخصائص الجامعة بين ما سبق

(1/8206)

تناوله متفرقا. وغاية هذا الدرس أن يكشف عن الوجه العملي لهذه الإمكانية.

-2. نسلم أن نحو اللغات البشرية يتفرع، بناء على مبدء التركيب المتدرج، إلى 1) نحو الجملة؛ يهتم بالعلاقات القائمة بين عناصر تتراكب لتكوين وحدة لغوية تسمى"الجملة". 2) نحو الخطاب؛ وهو االذي يتولى في مستوى على من التركيب، دراسة العلاقات التي تنتظم بها الجمل فتكون وحدة لغوية أكبر نسميها هنا "الخطاب". بحيث ينحل الخطاب مباشرة إلى، جمل، والجملة تنحل بدورها إلى مركبات تنحل إلىعناصر تقبل التجزئة إلى أن يتوقف التحليل عند عناصر نووية. إذا

(1/8207)

وقع التسليم بهذا التدرج صار بالإمكان التقيد في المرحلة الأولى بقضايا لغوية تنتمي إلى نحو الجملة، على أن يكون تناولها في مستوى من المعالجة واحدا. وذلك بمقتضى المثبت في الفقرة الأولى.

... 3- يهتدي كل ناظر في النحو العربي الذي بين أيدينا إلى ظاهرة استقراره، مع ابن مالك وشروح ألفيته، على أبواب ثابتة لا تتغير. ثبوت النحو العربي على أبوابه المألوفة قد يعكسه أيضا سرد المفردات التي يكون مقررات مادة النحو في مدارسنا وجامعاتنا.

(1/8208)

... بعد أبواب المقدمة؛ حيث يتوجه الاهتمام إلى أقسام الكلم وإلى تفريعات كل قسم وضوابط كل فرع، تأتي المرفوعات وقد اقترن ذكر، بعض النواسخ بالمبتدأ وخبره، والفعل المبني للمفعول بالفاعل. فالمنصوبات بعدها المجرورات والتوابع. وقد ينجر الحديث إلى تناول ظواهر صرفية كصيغ التفضيل وأخرى صوتية كالترخيم. ولا يستعبد أن يتعذر حصر القضايا المتناولة مع المنصوبات في كل كتاب من كتب النحو العربي. وتكفي المقارنة بين بعضما للوقوف على صحة المثبت هنا.

(1/8209)

... 4 -كل ما سرد في الفقرة الثالثة من أبواب النحو وغيرها مما لم يذكر وهو كثير يمكن تجميعه في باب عام لتناوله تناولا واحدا. بمعنى يمكن أن نتحدث عنها في مستوى أعلى من التعميم بعدد قليل من الرواسم، بحيث تستغرق كل راسمة ؟ أبوابا تصلح أن تنتمي إلى تلك الراسمة.

... هب أنك ترغب في تكوين تصور عن المقصود براسمة الجملة. عندئد لا يخلو الامر من أن تردد مع ابن جني والزمخشري وابن هشام كون الجملة مرادفة للقول أو الكلام؛ وهي "عبارة عن الفعل وفاعله كقام زيد،والمبتدأ وخبره كزيد قائم، وماكان بمنزلة أحدهما نحو ضرب

(1/8210)

اللص، وأقائم الزيدان وكان زيد قائما وظننته قائما"(1) . أو أن تتخلى عن وصف الجملة؛ بالمصادق كما عرفها ابن هشام بالامثلة في عبارته السابقة وعند اختيار الاحتمال الثاني كان له الدور الاتي في تجميع أبواب نحو الجملة.

1.الجملة؛ مكوناتها

... تشترك جمل اللغات البشرية في تكونها من «إسناد» مع «الصدور» و «الفضلات» أو بدونها. بمعنى للجملة في كل اللغات نواة لا بد منها تتمثل في علاقة الإسناد (سند). وقد تسبقها صدور (صد) وتلحقها

__________

(1) ابن هشام، مغني اللبيب، ص. 419. انظر أيضا خصائص ابن جني. ومفصل الزمخشري.

(1/8211)

فضلات(فض). يمكن صوغ ذلك دفعة واحدة بالعبارة (1) التالية.

(1) ج ( ( صد (سند) ( فص.

... وإذا كان فصل الصرف عن النحو محكما، وكذلك باقي فصوص اللغة العربية، تعين ألا يخرج شيء من أبواب النحو عن إحدى الرواسم الثلاثة التي تكون الجملة. إذ لو جئنا بجملة من أية لغة لوجدناها قابلة لأن تنحل إلى المكونات المذكورة بقطع النظر عن موقع كل منها تبعا لاختيار كل لغة.وفي مستوى أدون من التحليل تجد مكون الإسناد يتألف، تبعا لسيبويه(1)

__________

(1) انظر "باب الإسناد" من "كتاب سيبويه "، و"باب المجاز العقلي" من لأسرار البلاغة للجرجاني.

(1/8212)

، من مسند إليه (م) ومسند (م) وعلاقة تركيبية (ع) لها صور متغايرة في مختلف اللغات. ما ذكرناه هنا يمكن صوغه من جديد في العبارة (2)التالية.

(2) سند ( م ع م، أو، م ع م.

... وبدمج محتوى العبارتين (1و2) السابقتين نحصل على مكونات للجملة في أي لغة، كما تعبر عنها الشجرة (3) الممثل لها بالجملة (كان عبده منشرحا البارحة). ... ...

ج

(صد (فض

سند

م ع م

كان عبده (2ض) منشرحا البارحة

... وإذا عكسنا اتجاه مكونات الجملة لمسايرة لغة تكتب من اليسارنحو اليمين، كالهوسا ونحوها الفرنسية، صار بالإمكان تشجير جملة من

(1/8213)

إحدى اللغتين كما في مثل(4).

... (4)

ج

(صد (فض

سند

م ع م

Puorauoi Abdouh était triste hier matin

... بعد أن بينا إمكان التعبير برواسم عامة عن مكونات الجملة الأساس يهمنا الآن أن نكشف عن كيفية انضواء الأبواب التي تشكل نحو الجملة إلى المكون الذي يصلح لها ولنبدأ بأول باب في المقدمة تناول كلم العربية.

1.1 الكلم الأصول وفروعها.

... قبل الشروع في تناول مجمل لمسألة الكلم، أو غيرها، ينبغي التقيد حاليا بمبدأين؛

1) مبدأ السبر في التصنيف باعتباره الضامن لعدم الخلط بين مستويات الاقسام.

(1/8214)

2) مبدأ الإناطة الذي يقضي بتعيين الخاصية التي تعلق موضوع أي باب نحوي بأحد مكونات الجملة المشخصة بالمثال(3) أعلاه.

... عملا بمبدأ السبر المذكور يكون الكلم جمعا لثلاث مقولات أصول:

1) فعل تام؛ يتميز بكونه حدثا (ح) مقترنا بزمان محصل (ز)، ويعبر عنه كالتالي (+ح+ز) من أمثلته جمع، وقفز، وسقط.

2) اسم محض متميز بخصائصه (( ح (ز). مثاله جبل، يوم.

3) أداة : لهذه المقولة خصائصها الفارقة المتمثلة في (-ح-م-ز) من بين ما تضم الأداة نذكر (هل، إلا، لن، في).

(1/8215)

... وعملا بمبدأ الإناطة تستقل الأداة بالدخول الى الجملة عن طريق (صد) لاغير، أو أن نقترن بغيرها مما يدخل إليها من مسلك آخر. ويستقل الفعل التام بطريق (م) فلا يسمح لمقولة من مستواه أن تشاركه هذه الطريق. أما الاسم المحض فهو مخير بين طريقي (م) و(فض)، ومجبر على ولوج الجملة من أحدهما. وكل مخالفة، بأن تأتي الجملة مقولة من غير طريقها، فإنها تسبب في نشوء جملة فاسدة.

... وبالعودة إلى مبدأ السبر يمكن، في مستوى أدون، الحصول على مقولات فروع؛ بوصفها تتركب من أبعاد خصائص المقولات الأصول. كأن نأخذ (+ح) من الفعل

(1/8216)

التام، و(-ز) من الاسم لمحض لنحصل على (+ح-ز ). وهي الخاصية المميزة لمقولة الاسم القلب الفرعية التي تضم لمصادر وكل الأسماء المشتقة. ونركب للفعل الناقص الخاصية (-ح+ز) المميزة له، بأن نأخذ

(-ح) من الأداة و(+ز) من الفعل التام. وإذا أخذنا من الأداة (-م-ز) ومن الاسم المحض (+م) نكون قد كونا خاصية جديدة (+م-ز) نميز بها الاسم الناقص، مثل، (هذا، والذي، وهو).

... وبالعودة أيضا إلى مبدأ الإناطة نجد الفعل الناقص (-ح+ز) يجمع بين سلوك الأداة إذ لا يدخل إلىالجملة إلاعن طريق (صد)، وبين سلوك الفعل إذ يتصرف تصرفه.

(1/8217)

كما يجمع الاسم القلب (+ح-ز) بين سلوك الفعل التام وسلوك الاسم المحض. فيدخل إلى الجملة من جميع الطرق خلا (صد). وكذلك حال الاسم الناقص؛ إذ يجمع بين سلوك الاسم المحض، بوصفه يدخل إلى الجملة من طريقيه (م) و(فض)، وبين سلوك الأ داة بوصفه لا يتمكن من معناه ولا يثبت عليه، فصار لفظه مبنيا كالأداة. وهو الشبه الذي لاحظه نحاة متأخرون وسموه شبها افتقاريا (1)

... مما تقدم تحصل لدينا من الكلم الأقسام التالية :

__________

(1) انظر ما قدمته شروح "الألفية" من علل بناء الأسم.

(1/8218)

... -(1) كلم أصول؛ تتميز باستقلال كل ضرب بخصائصه الفارقة له عن غيره من نفس المستوى. وهي ثلاثة أضرب.

... (1) *اسم محض يتكون من خصائص ( (م (ز[ ويتفرع إلى ]+م-ز[ مثل جبل، وشجرة، وفرس ونحو ذلك، وإلى ]-م+ز[ مثل يوم، وثانية، وقرن، وهلم جرا.

... * (2) فعل تام؛ وهو المتكون من عنصر الحدث والزمان. كما تقدم التعبير عنهما في ]+ح+ز[. والفعل باعتبار عنصر الزمان ]+ز[ ثلاث أضرب : فعل مستقبل فحاضر فماض. وهو باعتبار عنصر الحدث ]+ح[ إما فعل قاصر؛ وهو الفعل الذي يراكب اسما إعرابه الرفع ووظيفته النحوية المفعولية.

(1/8219)

من أمثلته (سقطت التفاحة )، و(هلك القوم)، و( حمض اللبن) و( جملت البنت) و(سعد الفائز) و ( فرح الأب ). وإما فعل لازم؛ وهوالفعل الذي يعلمه الاسم المرفوع الذي يراكبه بنفسه، بحيث يكون الفاعل حاملا لأثر فعله. من هذا القبيل (أقلعت الطائرة)و

( هرب السنور) . وإما فعل متعد؛ وهو كل فعل يعلمه مراكبه بغيره. مثل (جمع الراعي قطيعة)، و( أهدى خالد الكتاب لأخيه)(1) . وعند حدف حرف الإضافة من المفعول الثاني

__________

(1) للتوسع في تصنيف الفعل القاصر والازم والمتعدي انظر محمد الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم.

(1/8220)

(لأخيه) تحول هذا الأخير إلى موقع المفعول الأول، فتكون صنف الفعل المتخطى ، كما في مثل (أعطى زيد عمرا كتابا). وأصل هذه الجملة ( أعطى زيد كتابا لعمرو).

... (3) *الأداة ؛ لهذا الضرب الخصائص المقولية [-ز-ح-م] التي خولت لهاالدخول إلى الجملة عن طريق (صد) ما لم ترافق ما تقترن به . كما سيتضح بعد قليل . والأداة ، باعتبارما تراكب، صنفان؛ أداة اقترانية، وهي المختصة التي تلازم إحدى المقولتين السابقتين. والاقتران هنا تجاوز أو تجانس كما سيتضح. وأداة افتراقية ؛ وهي التي لا تختص بملازمة أي من الصنفين السابقين،

(1/8221)

وعدم الاختصاص سمة العاطل، فلا تكون الأداة الافتراقية عاملة. من هذا الصنف نذكر على سبيل التمثيل ( هل ، إلا، و). والاداة الاقترانية ضربان : أداة اقترانية دامجة وهي المعتبرة عند النجاة جزءا مما اقترنت به فلا تعمل فيه . من هذا القبيل ذكروا ( قد، سوف ، ال ) ونحوها. وليس لصنف الدامج من الأدوات سوى مرافقة ما اقترنت به فتدخل معه إلى الجملة من طريقه.. أما الضرب الاخر من الأدوات الاقترانية فهو الأداة الخارجة. وهذه تتميز بالعمل فيما تقترن به. وقد تقدم أن الاقتران إما أن يقوم على التجاور؛ من هذا القبيل

(1/8222)

حروف الإضافة التي تعمل الجر فيما اقترنت به من الأسماء. وكذلك الحروف العاملة في الفعل المضارع، وإما أن يقوم الإقتران على التجانس . فتكون الأداة مقترنة بما يجانسها عاملة فيه وإن لم يجاورها. من هذا القبيل (ليس) ونحوها من الأفعال الناقصة التي سيأتي ذكرها ضمن أقسام الكلم الفروع .

... (1.1) كلم فروع؛ تتميز بكون خصائصها الفارقة مركبة من بعض خصائص الكلم الأصول. وهي ثلاثة أضرب كما تقدم :

... (1) فعل ناقص [+ز-ح] يدخل إلى الجملة عن طريق (صد) كالأداة الاقترانية الخارجة التي تعمل فيها يجانسها. من هذا القبيل

(1/8223)

(كان) في قوله تعالى {كان الناس أمة واحدة }. حيث لا تعمل (كان) إلا في الخبر(1). لأن مدلولها زمان يقترن بالحدث أو المحمول الذي هوخبر المبتدأ وسوف نعود إلى (كان) ونحوها في موضوع الإعراب .

... (2). اسم ناقص [+م-ز] يتميز بالدخول إلى الجملة من طريقي الإسم المحض، وبالافتقار إلى مضمر يعينه على تحديد معناه. إذ كل ضمير يدل على معنى مدلول عليه باسم محض آخر، وكذلك الموصول والإشارة .وهو كالاسم المحض

__________

(1) للتوسع في الموضوع انظر محمد الأوراغي، "إعراب الناسخ الحرفي"، ضمن العدد التاسع من مجلة كلية الآداب الرباط

(1/8224)

قابل لأثر العامل ولا يعمل. إلاأن المحض قابل معرب وضعا وموضعا، إذ تتعاقب على حرفه الإعرابي علامات الإعراب الثلاثة : الضم والفتح والكسر، مالم يمنع الصرف الأخيرة . بينما الاسم الناقص يكون مبينا وضعا كالأداة لكنه معرب موضعا كالاسم المحض .

... (3). الاسم القلب [+ح-ز]، هذا الصنف يتميزبخاصية التقلب التي تتمثل أولا في دخوله إلى الجملة من طريقي الفعل والاسم المحض. وثانيا في كونه عاملا كالفعل وقابلا كالاسم. وخاصية التقلب هذه تتوفر في المصادر والأسماء المشتقة . إذ جميعها تكون قابلة وعاملة عمل أفعالها .

(1/8225)

... نجمل بعض التفريعات المقدمة كالتالي.

... (5) ... ... ... ... ... ... 1.اسم محض. (1.1)

... ... ... 1.أصول ... ... ... ... 2. فعل تام. (2.1)

... ... ... ... ... ... ... 3. أداة. (3.1)

... كلم

... ... ... ... ... ... ... 1. اسم ناقص. (1.2)

... ... ... 2.فروع ... ... ... 2. اسم قلب. (2.2)

... ... ... ... ... ... ... 3. فعل ناقص. (3.2)

... ويمكن الاستمرار في الكشف عن الخصائص الفارقة للمقولات المسرودة في المبيان (5) انطلاقا من مكون الجملة النووي الذي هو الإسناد (سند). وهكذا يمكن أن نلاحظ أن أي

(1/8226)

مقولة من الكلم الأصول لا تراكب مثلها. فلا يجوز شيء من التراكيب الاتية

... (6)(1.1 ع 1.1)* = الباخرة هلال*-السراب غصن*.

... فساد الإسناد (1.1ع1.1) تنبه إليه النحاة قديما إذ قالوا اسم الجثة يخبر عنه ولا يخبر به. وإذ وقع فإن الامر لا يخلو؛ إما أن يجوزه علم البيان في مثل ((خالد بحر) علما)، و((بكر أسد) شجاعة)، وأما أن يجوزه تركيب التقييد(1) المحقق بعلاقة الانتماء ( - )

__________

(1) تركيب التقليد استعمله المناطقة العرب والنجاة بعدهم فيما يطلق عليه حاليا الجملة التحليلية ترجمة للمصطلح الأجنلب phrase analytique

(1/8227)

كما في مثل (المرجان حيوان)، و(الحاسوب الة )، وبغير أحد هذين المسوغين؛ علم البيان وتركيب التقييد، يظل تركيب الإسناد (1.1ع 1.1) فاسدا

... (7) (2.1 ع2.1)*= وقف يهرب* - سمع هلك* - يفوز يعمل*.

... وفي فساد التركيب (2.1ع 2.1) ذكر قدماء النحاة ؛ أن الفعل يخبر به ولا يخبر عنه. وقالوا أيضا لا يدخل الفعل على مثله. وإذا توالى فعلان، كما هوحال أفعال الشروع والمقاربة في مثل (كاد يسقط الولد) و(همت تخرج ليلى)، فإن علاقة الإسناد (ع) لا تقوم بين الفعلين المتواليين، وإنما تقوم بين المسند إليه (مَ) وكلا الفعلين

(1/8228)

على النحو التالي (كاد ع الولد ع يسقط)، و(كادت ع ليلى ع تخرج). يدل على ذلك علامة المطابقة بين المتساندين، إذ هي الشاهد الحسي على (ع) المجردة(1) . وعندما يكون أحد الفعلين المتوالين ناقصا كما في مثل (كان يلعب الطفل)، فإن علاقة الإسناد (ع) تقوم بين المسند إليه (م) و الفعل التام على النحو التالي (كان(يلعب ع الطفل)).

__________

(1) إذا توالى فعلان بعسر الشرط المذكور أعلاه انقلب الأول حرفا. قال ابن هشام "قل في قلم يقوم زيد لما استعملت استعمال ما النافية لم تحتج لفاعل"، المغني، ص. 756.

(1/8229)

... وإذا اتضح أن الاداة (3.1) لا تدخل أصلا إلى الجملة من مكونها النووي (سند) وكذلك الافعال الناقصة(3.2) لعلة سبق ذكرها، فإن هاتين المقولتين لا تراكبان مثليهما ولا غيرهما بواسطة (ع). وعليه بقي النظر في الاسمين الناقص (1.2) والقلب(2.2)

... (8) (2.1ع 2.1)*= حيث هو*-الذي هذا*-من كيف*.

... الاسم الناقص كالاسم المحض لا يراكب مثله. لأنهما لا يدخلان الى الجملة من طريق المسند (م). وإذا راكب اسم ناقص مثله، كما في الاستفهام خاصة من نحو (منذ متى)، و

(1/8230)

(أين هو)، و(مَن هذا) و(كيف أنت)، فإن في الجملة حذفا يشهد عليه ظهوره في قوله تعالى{أنّى لك هذا} حيث يكون حرف الجر (ل) متعلقا بفعل أو مشتق منه. وعليه فإن أصل الجمل السابقة على التوالي يكون كما يلي (كان منذ متى)، و(أين يوجد) و(من يكون هذا)، و(كيف حالك).

... وإذا كان الاسم الناقص كالاسم المحض يراكبان بواسطة (ع) الفعل التام فإن كلاهما يراكب الاخر بمسوغ الحذف في الاستفمهام؛ كما في مثل (أين الضيف) و(من الرجل)، و(كيف الجو)، و(أيان يوم الدين)، أو بأحد مسوغي ماركبة الاسم المحض لمثله. كما في مثل (هو بحر)،

(1/8231)

و(هذارجل).

... (9) (2.2ع 2.2) = الصبر محمود- القادم عدل- العرّاف ضال-

... من صحة الامثلة يظهر أن الاسم القلب يتميز عن باقي المقولات الاصول والفروع بأمكان مراكبته لمثله بواسطة (ع). ولا يشذ منه سوى المصدر الذي لا يراكب مثله إلا بمسوغ؛ كتركيب التقييد في مثل (السلب ظلم)، أو بمسوغ بياني في نحو (التكليف تشريف).

... يتبين من الامثلة السابقة أن الاسم القلب مخير في الدخول إلى الجملة من المسند إليه (م) أو من المسند (م) إذا راكب مثله. لكنه مراكبته لغيره يجبره عل إحدى الطريقين. فإذا راكب فعلا تاما أجبره

(1/8232)

هذا الأخير على طريق المسند إليه (م) ويكون مجبرا على سلوك طريق المسند(م)إن راكبه الاسمان المحض أو الناقص.

... وإذا اتضح التصنيف العلاقي لأقسام الكلم المرصود من مكونات الجملة الثلاث أمكن الآن المرور إلى باب آخر في المقدمة، من جملة ما يتناول فيه مسألة المعرب والمبنى.

2.1. عوامل الإعراب ونواسخه.

... من بين ما ينبغي الاهتمام به في هذا البحث أيضا أن نبين، بالنسبة إلى كل المسائل المتناولة فيه، كيف يكون إجراء مبدأ السبر للمحافظة على تقريع متجانس، وإجراء مبدأ الإناطة لإرجاع أي خاصية تميز الموصوق إلى أحد

(1/8233)

مكونات الجملة الأساس؛ (( صد (سند) ( فض).

... يظهر من العنوان المقترح؛ (عوامل الإعراب ونواسخه)، أن هذا المبحث يرادف بمسائله العاملية بوصفها جهازا مفهوميا يتألف من العامل والأثر والقابل. ولننظر بأيجاز في كل واحد على حدة.

1.2.1. العامل .

... العامل هنا عبارة عن شرط ضروري لإسناد إعراب معين إلى قابل. وقد انقسم نحاة اللغة العربية حول العامل من الإعراب. فرأى بعضهم أن العامل يجلب أكثر من إعراب واحد، كالفعل الذي يجلب إعراب الرفع للفاعل وإعراب النصب للمفعول، ورأى غيرهم أن العامل يجلب إعرابا واحدا لاغير

(1/8234)

كأن يجلب الفعل الرفع للفاعل، والمركب من الفعل والفاعل عامل يجلب النصب للمفعول.وسوف نأخذ بالرأي الثاني. لأنه لايجوز أن يعلق بنفس الشرط أثرا ن متغايران. وعليه نتبنى أصلا إعرابيا يفيد أن العامل يجلب نوعا واحدا من الإعراب للقابل أو القوابل الواقعة في حيزه.

... وإذا سايرنا الزمخشري(1) الذي اعتبر علاقة الإسناد (ع) عاملا يجلب إعراب الرفع للمتساندين إذا كانا قابلين أو لأحدهما إذا كان الآخر غير قابل صار بالأمكان اعتبار علاقة الإفضال ( -

__________

(1) انظر باب المبتدأ والخبر من كتاب الزمخشري، المفصل في علم العربية.

(1/8235)

) القائمة بين (سند) و((فض) عاملا يجلب إعراب النصب للقوابل الفضلات. وبذلك نكون قد حصلنا على عامل ( - ) للنصب من جنس (ع) العامل للرفع .وعملا بميدأ الإناطة يتعين إظهار عامل النصب ضمن مكونات الجملة المعبر عنها من جديد بالصيغة (10) الموالية.

... (10) ج( ((صد (م ع م) - ( فض).

... ومما تقدم يظهر أن الإعراب نوعان لا غير. 1) رفع؛ وهو الإعراب الذي تعمله علاقة الإسناد (ع) وعلامته الضمة (ي) أو ما ينوب عنها كالواو في الأسماء الخمسة وجمع المذكر السالم، والألف في المثنى، وثبوت النون في الأفعال الخمسة. و2) نصب

(1/8236)

؛ وهو الإعراب الذي تعمله علاقة الإفضال ( - )، وتكون علامته الفتحة (ي) أو ماينوب عنها كالألف في الأسماء الخمسة والياء في المثنى وجمع المذكر السالم وحذف النون في الأفعال الخمسة.

... وفي مستوى ثان من تفريع العوامل نحصل على جنس مغاير للعامل العلاقة.

إنها العوامل المفردات التي تنتمي إلى الصدور أو إلى الاقتران الخارج من الأدوات كما سبق تحديدها. ولهذه خصائص مميزة تفصلها عن العامل العلاقة كما سيتضح.

2.2.1. نواسخ الرفع والنصب.

(1/8237)

... سبق أن أثبتنا في موضع آخر(1) أن الناسخ عنصر لا يدخل تركيب الإسناد، وإنما يلحق الجملة فينسخ إعراب أحد مكونيها، وكنا حينئذ نتحدث عن نواسخ الرفع العاملة مباشرة في أحد المتساندين إذ يبقى الآخر محتفظا بإعرابه الأصلي. وبإضافتنا في هذا الموضع لنواسخ النصب تأتى تناول الصنفين من خصائصها الجامعة.

... النواسخ، مقوليا تنتمي إلى الأداة؛ مثل (ءن ) و(إلى) ونحوهما. أو إلى ما دخلت الأداة في تركيبه؛ مثل (كان) ونحوها (ليس) أو ما جرى مجراهما. وهي عامليا تجلب للقابل علامة تطمس به

__________

(1) انظر إعراب الناسخ الحرفي .

(1/8238)

إعرابه السابق، وتركيب تشكل مع معمولها المنسوخ إعرابه الأصلي مركبا واحدا يقع في مجال العامل العلاقة. وهي باعتبار الإعراب الذي تطمسه بعملها نوعان.

1) ناسخ الرفع :

... نواسخ الرفع الذي تعمله علاقة الإسناد (ع). وهذه النواسخ، باعتبار المنسوخ إعرابه، صنفان؛ أحدهما ينسخ إعراب المبتدأ فقط. أما الخبر فيظل محتفظا بإعرابه الأصلي. من هذا لصنف الناسخ الحرفي (ءن) الذي يكون مع معموله مركبا واقعا في مجال عامل الرفع (ع) الذي يظهر أثره على المعطوف (رسوله) في الآية (11) الموالية :

(1/8239)

(11) (إن الله بريء من المشركين ورسوله).

... والآخر ماينسخ إعراب الخبر. أما المبتدأ فمحتفظ بإعرابه الذي كان له قبل دخول النساخ. ومن هذا الصنف الناسخ الفعلي أو الفعل الناقص (كان) ونظائره في مثل قوله تعالى : {كان الناس أمة واحدة }. وبالعطف على محل المركب من الناسخ معموله تصير الجملة (12) الموالية جائزة(1).

(12) ليت الجو بات حارا وممطر.

__________

(1) انظر سيبويه حيث يتناول القطع، الكتاب، ج. 1،ص. 24، وج. 2، ص. 224.

(1/8240)

وبصحة العطف على المحل، كما في مثل العبارتين (11، 12) ونحوهما الكثير، يكون ناسخ الرفع ومعموله واقعين في مجال عامل هو (ع)، إذ تحول إلى جزء من مركب يستلم إعراب العامل الأصلي، يعني هذا أن الناسخ يعمل عملا داخليا لأنه يتسلط على قابل يراقبه عامل آخر. وهذه خاصية الناسخ بصفة عامة تلاحظ أيضا في نواسخ النصب في المبحث الموالي.

2) ناسخ النصب.

... مثل الأدوات (إلى، عن، في) يسميها سيبويه(1)حروف الإضافة. مستندا في هذه التسمية إلى وظيفتها التركيبية التي هي إضافة معاني الأفعال

__________

(1) سيبويه ، الكتاب، ج. 1،ص. 209.

(1/8241)

قبلها إلى الأسماء بعدها فعلقتها بها. وتسمى في النحو المتأخر، باعتبار الأثر الذي تحدثه في الاسم الذي يراكبها، بحروف الجر. لأنها، كما يقول ابن يعيش " تجر ما بعدها من الأسماء أي تخفضها. وهي متساوية في إيصال الأفعال إلى ما بعدها وعمل الخفض وإن اختلفت معانيها " (1) .

... وعملا بأصل النصب على نزع الخافض المستثمر في مقتضب المبرد على أوسع نطاق تعين أن يكون لحوق حرف الجر ناسخا لإعراب النصب الذي تعمله علاقة الإفضال التركيبية( - ) إذ بعمله للجر في الاسم يكون قد طمس

__________

(1) ابن يعيش شرح المفصل، ج. 8، ص. 7.

(1/8242)

الفتحة المعربة عن إعراب النصب. وعليه فإن حرف الإضافة (إلى)ونحوه في مثل الجملة (دخل الهارب إلى المسجد) يكون عاملا عملا داخليا. أي أن حروف الجر، كما سبق، يتسلط عملها على اسم معمول بغير الحرف فيطمس أثر العامل ( - ) القديم ولكنه لايلغيه. إذ يستلمه من جديد المركب من حرف الإضافة والاسم المجرور، كما يتضح من المقارنة بين جمل المجموعة (13) التالية.

(13) (أ) دخلت القوارض مخبزة.

(ب) دخلت القوارض إلى مخبزة.

(ج) دخلت القوارض إلى مخبزة ودكانا.

(1/8243)

... يستفاد من الجملة (13 أ) أن المركب الفعلي (دخلت القوارض) تنتظمه علاقة الإفضال ( - ) التركيبة بالسم الفضلة (مخبزة) الذي تلقى إعراب النصب والفتحة المعربة عن ذلك الإعراب وبما أن حروف الإضافة تستمد من " مبدأ الجوار" القدرة على أن تطمس بعملها للجر إعرابا سابقا، وهو النصب، من غير أن تقوى على إلغائه لوقوعها بدورها في مجال عامل سابق وجب أن يتولد عن إقتران (إلى) بالاسم (مخبزة) في الجملة(13 ب) عمل داخلي؛ يتمثل في نسخ الفتحة التي هي علامة لحالة النصب المسندة عندئذ إلى المركب الحرفي (إلى مخبزة) لوقوعه

(1/8244)

في مجال عامل سابق ( - ). ويشهد على استلام المركب الحرفي لحالة النصب ظهور الفتحة علامة هذه الحالة على المعطوف (دكانا) في الجملة (13 ج).

... كون المركب الحرفي يستلم حالة النصب ذكره أكثر من نحوي وعبر عنه ابن يعيش بقوله : "قد تنصب ما عطفته على الجار والمجرور نحو قولك : مررت بزيد وعمرا، وإن شئت (وعمروا) بالخفض على اللفظ والنصب على الموضع... فهذا يؤذن بأن الجار والمجرور في موضع نصب ولذلك قال سيبويه : إنك قلت : مررت بزيد فكأنك قلت مررت زيدا. يريد أنه لو كان مما يجوز أن يستعمل بغيرحرف جر لكان منصوبا.

(1/8245)

وجملة الأمر أن حرف الجر منزل جزء من الاسم من حيث كان وما بعده في موضع نصب"(1) . وقد ينسخ حرف الإضافة بعمله للجر إعراب الرفع ويطمس الضمة المعربة عنه، كما تكشف الجملة(2) التالية :

(14) كفى بالكتاب مؤنسا.

... لكن حرف الباء ونحوه ليس له في مثل الجملة (14) سوى عمل الجر، أما وظيفة الإضافة التي يطلع بها كل جار فملغاة إن اقترن الحرف باسم إعرابه الرفع ووظيفته النحوية الفاعلية. ولذلك وصف النحاة

__________

(1) ابن يعسش ، شرح المفصل،ج. 8، ص. 10.

(2) للتوسع في مواضع زيادة حروف الجر انظر ابن هشام، مغني البيب، ص. 112.

(1/8246)

بالزيادة كل حرف جر داخل على الفاعل. لأن الأصل في وضع حروف الإضافة أن تساعد أفعالا ضعيفة لا تقوى بمفردها على تجاوز المرفوع. وقد تحدث ابن يعيش في الموضع المشار إليه في الطرة (13) بإسهاب عن الأفعال الضعيفة التي لا تتجاوز المرفوع إلا باسترناد العون من حروف الجر.

... ومما أوردناه حول وظيفة حرف الإضافة عمله الداخلي نستخلص فرضيات من أهمها :

... أولا : من عوامل الإعراب ما يكون داخليا، كأن يجلب لمعموله علامة ينسخ بها إعرابه السابق، فيشكل معه مركبا يتلقى الإعراب المطموس علامته. وكل عامل يطمس بعمله

(1/8247)

إعراباسابقا، فهو ناسخ لإعراب أصلي.

... ثانيا : نواسخ الإعراب الأصلي قسمان. أحدهما يضم نواسخ تجلب فتحه لمعمولاتها فتطمس بها إعراب الرفع الذي كان لها. والآخر يضم نواسخ تجلب الكسرة لمعمولاتها فتطمس بها إعراب النصب الذي كان لها.

... نخلص مما أوردناه أن المؤثر الذي يجلب الإعراب للقابل صنفان، وذلك باعتبار طبيعته. الصنف الأول ذو طبيعة علاقية، وهذا يتفرع إلى ضربين ؛ عامل الرفع المتمثل في علاقة الإسناد (ع) وعامل النصب الذي هو علاقة الإفضال (3) أما الصنف الثاني فذو طبيعة المفردات المنتمي إلى مقولة الأداة

(1/8248)

أو ما تركب من بعض عناصرها، وله عمل نسخ إعراب سابق، وهذا الصنف ضربان أيضا. إما ناسخ للرفع كالنواسخ الحرفية والفعلية، وإما ناسخ للنصب كحروف الجر. يلخص كل ذلك دفعة واحدة كما في العبارة(15) الموالية.

رفع (ع)

... ... ... ... عامل

... ... ... ... ... ... ... نصب (3)

... جالب الإعراب

... ... ... ... ... ... ... 1رفع (إن، كان...)

... ... ... ... ناسخ ... ... ...

... ... ... ... ... ... ... نصب (على، إلى...)

(1/8249)

... ويكشف محتوى العبارة (15) أعلاه عن الكيفية التي يضمن بها مبدأ السير الانسجام في تصنيف جالب الإعراب، وعن كيف يعلق مبدأ الإناطة أي صنف من العوامل والنواسخ بمكونات الجملة الأساس المعبر عنها من جديد في العبارة (10) السابقة والمعادة هنا للتذكير بها.

... (10) ج ( (( صد(م ع م) - ( فض).

3.1. قابل الآثار وجالب الأحوال .

... بإعادة النظر في المبحث (2.1) المخصص لعوامل الإعراب ونواسخه سيتبين أن مبدأ الإناطة لم يعلق عاملا أو ناسخا بأي من مكونات الجملة التالية (م،م،فض) وإنما ربطهما بالمكونات الأخرى التي

(1/8250)

هي (صد، ع، - ). يعني هذا أن مبدأ الإناطة يلزمه أن يعلق قابل الآثار ببعض (م، م،فض) وجالب الأحوال ببعضه الآخر.

... جاء في خصائص ابن جني أنه " بسبب الأفعال تدخل الأسماء في المعانيوالأحوال "(1). وذكر السكاكي في مفتاح العلوم، ولعله أول من استخدم مصطلح القابل، ان هذا الأخير يضم ما توفر على خاصية تهيئه لاستلام أحوال تعرض له. يترتب عن هاتين الفكرتين؛ أولا انتماء قابل الآثار وجالب الأحوال إلى المقلولتين الآتيتين :

__________

(1) ابن جني، الخصائص، ج. 2، ص. 33

(1/8251)

... 1) الاسم بفروعه الثلاثة المحض والناقص والقلب. 2) الفعل التام بفروعه الثلاثة أيضا القاصر واللازم والمتعدي كما سيتضح. وثانيا دخول قابل الآثار وجالب الأحوال إلى الجملة من أحد مكوناتها (م، م، فض) لاغير. لأن باقي المكونات (صد، ع، - ) طرق للعامل أو الناسخ . وثالثا إمكان تصنيف قابل الأثار وجالب الأحوال إلى مايلي من الأصناف.

... 1) قابل للأحوال غير جالب غير جالب لها. هذا الصنف يضم ما يدخل إلى الجملة من أحد مكونيها (م، فض) لاغير. ولايدخل من ذينكم الطريقين سوى (أ) الاسم المحض، وهو المعرب وضعا وموضعا،

(1/8252)

لأنه يتوفر على حرف إعرابي يسمح بظهور علامة الإعراب أو تقديرها عليها لإذا امتنع ظهورها أو تعذر. (ب) الاسم الناقص، وهو المبني وضعا المعرب موضعا بمعنى لايتوفر على حرف إعرابي فيسند إلى موضعه.

... 2) جالب للأحوال غير قابل لها. يضم هذا الصنف ما يدخل إلى الجملة من مكونها (م) لاغير. وبما أنه لايقبل العوارض لم يكن محتاجا إلى حرف إعرابي فكان مبيا وضعا وموضعها. يشمل هذا الصنف الفعل الماضي، وفعل الأمر، وأسماء الأفعال.

(1/8253)

... 3) قابل للأحوال وجالب لها. بحكم قبول هذا الصنف للعوارض وجب أن يكون معربا وضعا وموضعا، لكنه باعتبار نوع العوارض التي تلحقه فهو ضربان : (أ) فعل مضارع ؛ وهذا العنصر تعتريه معان شبيهة بالأحوال العارضة للاسم المحض ونحوه الناقص والقلب يقول السيوطي؛، " ولما كان الفقل المضارع قد تعتوره معان مختلفة كالاسم دخل فيه الإعراب ليزيل اللبس عند اعتوارها"(1). أما المعاني التي تعتور المضارع فقد حصرها نحاة في تعاقب الأزمنة الثلاثة عليه. فتحلق رويه ضمة دلالة على

__________

(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ج. 1، ص. 337.

(1/8254)

الحضور أو الاسقبل مع التسويف. ويلحقه سكون بالأداة (لم)دلالة على المضي، وفتحة بالأداة (لن) للدلالة على الاستقبال. وذكر ابن يعيش معاني أخرى إذ قال : " إذا قلت : ستكلم زيدا أ و يقضي حاجتك، فتنصب (يقضي) على معنى (إلا أن يقضي فقد جعلت قضاء حاجتك سببا لكلامه. وإذا عطفت فإنما تخبر بإنه سيقع أحد الامرين من غير أن يدخله هذا المعنى"(1). وهذا الضرب من القابل والجالب الذي هو الفعل المضارع يدخل إلى الجملة عن طريق المسند (م) لاغير.

__________

(1) لبن يعيش شرح المفصل، ج. 7، ص. 22. انظر أيضا ابن هشام، مغني اللبيب، ص. 624.

(1/8255)

وبجانبه نجد (ب) الاسم القلب الذي يضم المصدر، والأسماء المشتقة كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة، وصيغ المبالغ، والتفضيل. ويمكن أن يستشهد بإعراب النحاة لمثل الجملة (16) الآتية على كون اسم القلب قابلا للأثر وجالبا للأحوال.

(16) أقائم الطالبان.

... إذ يتلقى الاسمان ( قائم)، و (الزيدان) إعراب الرفع من عامله الذي هو علاقة الإسناد (ع) في حين يجلب (قائم) لمراكبة (الطالبان) حالة الفاعلية. وبذلك يكون (أقائم) قابلا للأثر جالبا للأحوال وكذلك مثله. ومن الجملة (16) ونحوها (رجع الشاتم أخاه)، و(يقلق بكرا

(1/8256)

إزعاج خالد السائق ) يتبين أن الاسم القلب يدخل الجملة من أحد مكوناتها (م، م، فض).

نخلص مما تقدم أن الأفعال تعتبر هنا شرطا لإسناد الأحوال من فاعلية أو مفعولية إلى الأسماء، وكذلك حال ما يعمل عملها في جلب تلك الأحوال من المصدر واسم الفاعل ونحوهما. كما سبق أن اعتبرنا في المبحث (1.2.1) أن إعراب الرفع تعمله العلاقة (ع)، وأن إعراب النصب تعمله علاقة( - ) . وجاء في المبحث (2.2.1) أن ناسخ لرفع تعمله أدوات صدور، وناسخ النصب تعمله حروف إضافة. وبقي من مباحث المقدمة أن ننظر في الأفعال بوصفها تجلب الأحوال

(1/8257)

لغيرها.

4.1. الأفعال وعمل الأحوال.

... سبق أن بينا في توافق تام مع نحاة العربية المجمعين (1) ، أن الفعل التام خاصة يتألف من عنصري الحدث والزمان المصوغين في العبارة (17) الموالية.

... (17) ف ( { +ح+ز } .

__________

(1) ربط النحاة تكون ماهية الفعل باجتماع عنصري الحدث والزمان. وهذا القيد صاغة ابن يعيش وهو يقارن بين الفعلين التام والناقص في قوله "لو قدرنا انتفاء الحدث أو الزمان لبطلت حقيقة الفعل... ولما كانت "كان" تدل على مامضى م الزمان فقط... بم تكن أفعالا إلا من جهة اللفظ ةالتصرف" شرح المفصل، ج، 7، ص. 89.

(1/8258)

... يلزم عن أئتلاف الفعل التام من دينكم العنصري أن تكون بنيته اللفظية أو القولية مؤلفة أيضا من "مادة" تقترن بعنصر الحدث و "صيغة" تقترن بعنصر الزمان. أما المادة فهي عبارة عن الأحرف الأصول، كما يستعملها ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، وهي الدالة دلالة لفظية عند ابن جني (1) . بينما الصيغة تعبر عن الهيئة أو القالب الذي سكبت فيه تلك المتقطعة، فتكون دلالة صناعية.

__________

(1) في مسألة دلالات الفعل ابن جني، الخصائص، ج. 3، ص. 98.

(1/8259)

... يهمنا من عزل بعض العنصرين المكونين للفعل عن بعض إظهار إمكان تفريع الفعل باعتبار { +ح } أو { +ز } ، ومن جهة ثانية، إثبات أن هذين العنصرين أساس أي تفريع. لأنه بالعدول عن أحدهما إلى ما يقترن به من المادة الصوتية أو الصيغة الصرفية لاضامن لعدم الخلط بين مستويات الأقسام، كما حدث في النحو المتأخر.

... في الباب الأول من الكتاب اتخذ سيبويه الزمان أساسا لتصنيف الفعل، حتى جعل في القسم الواحد أكثر من صيغة؛ (يفعل وافعل) من قسم ما لم يقع وهو المستقبل، وجعل الصيغة الواحدة في أكثر من قسم؛ (يفعل) لما هو

(1/8260)

واقع لم ينقطع وهو الحاضر؛ وقد سبق إدراجها في قسم ما لم يقع. ولكنه كان شدسد الحرص على إبراز الخصائص الفارقة، والسمات المميزة لأن (يفعل وافعل)، وإن كانا من نفس القسم ، إلا أن الأول للإخبار والآخر للأمر. كما أن انتماء (يفعل) إلى القسمين (الحاضروالمستقبل) سببه سمة مميزة؛ وهي اقتران صيغة (يفعل) بزمان غير محصل. فصار مسرحا لايتقيد بأحد الأزمنة إلا بما ينضم إليه.

... غير النحاة بع سيبويه منطلق التفريع، فاتخذوا صيغة الفعل أساسا لتقسيمه إلى (أ) ماض؛ من هذه التسمية يظهر أن المعتبر هو عنصر الزمان المقترن

(1/8261)

بالصيغة (فعل).

(ب) مضارع؛ لم يلتفت في تسمية هذا القسم لغير صيغة الفعل، بدليل إطلاق المضارع على ما يسبقه من الأحرف؛ (أ، ن، ي، ت)، التي تلتصق به. (ج) الأمر؛ تعاريف المختلفة تأتلف في أتخاذ (الطلب)، بوصفه فعلا لغويا أو أحد أقسام الكلام الثلاثة(1) ، أساسا في تسمية هذا القسم وليس يخفي ما في هذا التفريع من خلط في

__________

(1) أصح التقسيمات ما جعل الكلام خبلرا؛ وهو ما لفظه متأخرا عن معناه المحقق أو المتوقع، وطلبا؛ وهو ما كان معناه متأخرا عن لفظه، وإنشاء؛ وهو ما كان لفظه مصاحبا لتحقق معناه في العقود خاصة.

(1/8262)

المستويات المتيثل في انتماء كل قسم إلى مفهوم لا يتلائم الآخر ولا يوافقه لأنه ليس من جنسه.

... يعضد تفريع سيبويه للفعل المؤسس على عنصر+ { ز } إجماع النحاة في اتخاذ عنصر الحدث { +ح } اساسا لإتحاد قسمي اللازم والمتعدي. وعليه لا يجوز أن يلتفت، عند أي تفريع للفعل، سوى إلى أحد هذين العنصرين { +ح } أو { +ز } . وبما أن الأحوال التي يسببها الفعل للأسماء ويجلبها له لا تتعلق بغير الحدث منه لا مندوحة من اتخاذ هذا العنصر { +ح } اساسا في تفريع آخر للفعل ينظر إلى أضرب الأحوال التي يجلبها لغيره وعدد كل ضرب.

(1/8263)

مقولة الفعل، كما سبق تفريعها في موضع آخر(1) ، تتناول الأصناف الثلاثة الآتية :

... 1) الفعل القاصر يختزل إلى (فق)؛ يضم هذا الصنف كل فعل يراكب بعلاقة الإستاد اسما إعرابه الرفع، ويجلب له حالة المفعولية. ولهذا الصنف أكثر من خاصية فارقة نعيد بعضها هنا. منها أنه لايسمح ألبته باشتقاق المبني للمجهول، لأنه أصلا مبني للمقعول، وبالتالي لا يؤخذ منه اسم المفعول كما ذكره المبرد أيضا في مقتضبه إذ قال "وأنت لا تقول مرض ولا

__________

(1) انظر محمد الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، الباب الأول من القسم الثاني.

(1/8264)

ممروض". ولا يئخذ منه (انفعل) للمطاوعة، ولا اسم الفاعل أو ما ينفرع عنه، لأن يرخص باشتقاق الصفة المشبهة لا غير. ومصدره المتميز ببنائه لا يضاف قطعا إلى الفاعل، وإنما يضاف إلى المفعول لا غير. كما في مثل (سقوط الفاكهة) و(رسوب المتهاون)، و(هلك الظالم). وأفعال هذا الضرب تتميز معجميا بخاصية كونها من الأفعال التي قال عنها الجرجاني إن الإنسان لا يقوى على فعلها وعملها (1) . وتتميز صرفيا بانفراد بعضها بصيغة (فعل) ويكثر في بعضها الآخر (فعل) وقد يأتي القليل

__________

(1) انظر علد القهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص. 413.

(1/8265)

من أفعال القاصر على هيئة (فعل)، كما يتضح من مجموعة الجمل (18) التالية :

... (18) (أ) حمض البن.

... (ب) مرض الولد .

... (ج) هلك المريض.

... الأسماء؛ (البن، والولد، والمريض) في الجمل (18) تلقت إعراب الرفع من عامله (ع) الذي هو علاقة الإسناد، وحالة المفعولية عما يراكبها من الأفعال؛ (حمض، ومرض، وهلك)، المنتمية إلى صنف الفعل القاصر. قديما قال نحاة العربية في وصف مثل الأسماء الواردة في الجمل (18) المذكورة : إنه فاعل في اللفظ والصناعة مفعول في المعنى.

(1/8266)

... 2) الفعل اللازم (فل)؛ يضم هذا الصنف كل فعل متميز معجميا بقدرة المسند إليه على عمل ذلك الفعل بنفسه. إذن، كل فعل يعمله الاسم الذي يراكبه بنفسه فهو فعل لازم. من خصائص مصدره أنه لا يضاف قطعا إلى المفعول، كما تكشف الأمثلة (رجوع المغترب)، و(قفز العداء)، و(قدوم الحاج).

... صنف الفعل اللازم يتميز اشتقاقيا بكونه لا يسمح بتفريع مجموعة من الأفعال مطلقا أو بشرط. من ذلك أنه لا يسمح بتفريع (فُعل) إلا وهو مركب إلى حرف الإضافة المختزل في (ح إ) كما تكتشف عنه أمثلة الجمل الفعلية في المجموعة(19) الآتية. وكذلك

(1/8267)

شأن اسم المفعول المأخوذ من المبني له، بحيث يصير حرف الإضافة (حإ) المركب إلى اسم المفعول جزءا منه فيتحمل عنه أمارة المطابقة. أما هو فيظل محتفظا بصيغة (1) مجردة من كل أمارة. وهو ما توضحه أمثلة الجمل الاسمية في المجموعة (20).

__________

(1) كون حرف الإضافة يتحمل أمارة المطابقة ذكره صرفيون منهم البيجوري لإذ قال : "وإن تصغ إسم مفعول من لازم كفعل مر... ألزمه صيغة ذكر في سائر الأحوال ... تقول ممرور به إذا وصفت مفردا مذكرا وممرور بها إذا وصفت مفردة مؤنثة. ممرور بهم إذا وصفت جمع الذكور...". الشرح الترصيفي، ص. 38.

(1/8268)

... (19) (أ) عِيم في البركة.

... (ب) نُزل على القمر.

... (ج) صُعد إلى الجبل.

... (د) تُعلق بالثدي.

... (20) (أ) الفضاء مسبوح فيه.

... (ب) الضيوف مسلم عليهم.

... (ج) النجمان منظور إليهما.

(د) الشاعرة محتفى بها.

... وإذا كان الفعل اللازم يسمح باشتقاق (فعل ح إ ) والمفرع عنه (مفعول ح إ) بشرط ألصاق حرف الإضافة (ح إ) به أو ضمة إليه فإنه لايسمح مطلقا بتفريع (انفعل) وإن كان فعلا علاجيا. لأن (انفعل) يطابق (فَعل) من صنف اللازم. يقول المبرد : « ويكون للفاعل بالزوائد فعلا على الحقيقة نحو قولك انطلق عبد

(1/8269)

الله "(1) ولايسمح أيضا بتفريع (فاعَل) ولا (تفاعَل) المأخوذين منه لمعنى المغالبة والمشاركة في الفعل.

... أما الخاصية التركيبية المميزة لصنف الفعل اللازم فنستخلصها من خاصيته المعجمية المشار إليها في بداية تناوله؛ وهي انتقاؤه لاسم واحد يجمع بين إيجاد الفعل وتحمل أثره. فهو الموجد للفعل والمحل الذي يتحيز به؛ فلم يحتج لأن يتجاوزه إلى غيره للحول به. يعني هذا أن الفعل اللازم يراكبه، بعلاقة الإسناد (ع) العاملة الرفع، اسم (أو

__________

(1) المبرد، المقتضب، ج. 1، ص. 124، انظر أيضا سيبويه، الكتاب، ج. 2، ص. 242.

(1/8270)

موضوع) واحد، وقد جلب لمراكبه حالة الفاعلية. كما يتبين من الجمل (21) الموالية .

... (21) (أ) ثار البركان.

... (ب) أزهرت الأشجار.

... (ج) طار الخفاش.

... (د) هرب الجبان.

... يظهر من هذه المجموعة أن كل جملة فيها تتكون من 1) قابل متمثل في الأسماء الداخلة إلى الجملة عن طريق المسند إليه (م)، و2) عاملين؛ يتمثل أحدهما في علاقة الأسناد (ع) الجالبة لإعراب الرفع الظاهر علامته على القابل، والأخر في الفعل اللازم الداخل إلى الجملة عن طريق المسند (م)، والجالب لحالة الفاعلية للاسم الذي يراكبه.

(1/8271)

... 3) الفعل المتعدي (فع)؛ أهم خاصية تميز صنف المتعدي لدى النحاة ما عبر عنه ابن يعيش بقوله : "المتعدي ما يفتقر وجوده إلى محل غير الفاعل ... فكل ما أنبأ لفظه عن حلوله في حيز غير الفاعل فهو متعد"(1) . محتوى هذه العبارة منسجم مع مبدأ عقلي لايتخلف أبدا عبر عنه ابن برهان العكبري بقوله : "الفاعل يخرج المصدر من العدم إلى الوجود، والمفعول به حافظ لوجوده. فلا يستقيم تجدد المصدرإذا فرضنا انتقاء أحدهما"(2) . قصد

__________

(1) ابن يعسش، شرح المفصل، ج. 7، ص. 62.

(2) ابن برهان العكبري، شرح اللمع لابن جني ج. 1، ص. 46.

(1/8272)

العبكري من وراء استعماله لمصطلح المصدرأن تتناول عبارته كل فعل أيا كان صنفه. إذ يلزم كل فعل أن ينتقي موضعين (أو اسمين) هما (س1، س2). أحدهما، وليكن (س1)، يخرج عنصر الحدث من العدم إلى الوجود، يكتب هكذا (س1 ( ح) ويقرأ الموضوع(س1) هو السبب (() في وجود عنصر الحدث(ح)، والآخر؛ وهو باقي أي (س2)، يحفظ وجود الحدث، يكتب هكذا (ح - س2) ويقرأ الموضوع (س2) هو الحافظ ( - ) لعنصر الحدث (ح). وما ذكرناه متفرقا يمكن إعادته مؤلفا في العبارة (22) الموالية(1)

__________

(1) للتوسع في الموضوع انظر كتابنا، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، الباب الأول من القسم الثاني.

(1/8273)

.

... (22) س1 ( ح - س2.

... وبما أن كل فعل في أية لغة يلزم أن ينتقي موضوعين، ولا تحصل الاستجابة إلا مع الفعل المتعدي، تعين اعتبار هذا الصنف أعدل الأفعال وأكثرها توازنا. وهذه خاصية تميز المتعدي. لأن الفعل القاصر ينقصه الموضوع (س1) الذي يتسبب في إيجاد العنصر (ح)، فبقي موقعه فارغا كما توضحه العبارة (23أ). ولأن صنف الفعل اللازم يفتقر إلى الموضوع (س2) ليحفظ وجود العنصر (ح) منه فلم يجد بدا من التحيز في موضوعه (س1) الذي أوجده. كما تكشف العبارة (23 ب). في المقابل ينتقي المتعدي ويستجاب له، كما هو مبين

(1/8274)

بالعبارة (23 ج) فيما يلي :

... (23) (أ) ( ( ح - س2.

... (ب) س1 ( ح - س1.

... (ج) س1 ( ح - س2.

... أما عاميا فإن الفعل المتعدي (فع) يجلب حالة الفاعلية (فا) لموضوعه الداخل إلى الجملة عن طريق المسند إليه (م)، فيتألف منهما مركب (فع س1) يجلب حالة المفعولية (مف) لموضوعه (س2) الداخل عن طريق الفضلة (فض) إلى الجملة وهو ما توضحه العبارة (24) الموالية.

... (24) ((فع ( س1 فا) - س2 مف).

... وللفعل المتعدي خصائص صرفية تخص القياسي من صيغة وصيغ ما يشاكله من الاسم القلب أجملها سيبويه في قوله : "باب بناء الأفعال

(1/8275)

التي هي أعمال تعداك إلى غيرك وتوقعها به ومصادرها. فالأفعال تكون من هذا على ثلاثة أبنية، على فَعل يفعِل، وفعل يفعُل وفعِل يفعَل، ويكون المصدر فَعلا، والاسم فاعلا"(1) . وفي مصدره القياسي قال ابن يعيش "فَعل هو الأصل وعليه القياس" (2) . وقد بينا في موضع آخر(3) ما عرض لمصادر المتعدي المبنية على غير صيغة (فَعْل)، فلتؤخذ من هناك.

__________

(1) سيبويه، الكتاب، ج. 2، ص. 214.

(2) ابن يعيش شرح المفصل ج. 6، ص. 44.

(3) اكتساب اللغة، ص. 155.

(1/8276)

... ويتميز الفعل المتعدي بخصائص اشتقاقية. منها كونه يسمع مطلقا باشتقاق (فُعِل) كما يسمح بتفريع (انفعل) الذي يكون للمطاوعة، بشرط أن يكون (فَعَل) منه مدركا بالقوى الحسية، وهو الفعل العلاجي في اصطلاح النحويين. كما يسمح بتفريع (فاعل) شريط أن يصح الفعل منهما. ومن (فاعل) بذلك الشرط يجوز تفريع (تفاعل). وكل هذه الأبنية لايسمح القاصر بتفريعها ولا اللازم إلا بتقييد بعضها كما تقدم.

... 4) الفعل المتخطي. يتميز هذا الصنف معجميا بكونه فعلا مشحونا دلاليا كما هو الحال في الإشراب أو التضمين(1)

__________

(1) الإشراب ذكره ابن هشام في القاعدة الثالثة إذ قال : " قد يشربون لفظا معنى لفظ آخر فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضنينا، وفائدته أن تأدي كلمة مؤدى كلمتين"، المغني، ص. 762. انظر أيضا باب التضنينفي كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي.

(1/8277)

.إذ يلزم عن وقوعه نشوء فعل آخر يسند ضمنيا إلى أحد موضوعات الفعل المشرَب. ولتوضيح علاقة اللزوم بين الفعلين المشرب والضمني يمكن التمثيل لها بالفعل (أعطى) الذي يتطلب تحققه الوجود الضمني للفعل (أخذ) إذ يلزم عن وجود معط وجود آخذ يكون المستفيد من تحقق فعل (الإعطاء). بحيث يكون فعل (الأخذ) مسندا ضمنيا إلى المفعول الأول لفعل (أعطى) في مثل الجملة (24) الآتية :

... (24) أعطى خالد بكرا كتابا.

... ولذلك اعتبر نحاة العربية المفعول الأول، في مثل الجملة (24)، فاعلا في المعنى للفعل (أخذ) الضمني. وبسبب تجاوز

(1/8278)

الفعل (أعطى) ونحوه (منع) للمفعول أيضا جاز أن يطلق عليه اسم الفعل المتخطي. ولا يجوز أن يعد من هذا الصنف أفعال القلوب أو الذهن مثل (علم، وحسب، وظن). لأن هذه من قبيل الأفعال المتعدية لكنها تتعدى إلى جملة، ولذلك لا يجوز الاقتصار على أحد منصوبي الفعل القلبي، بخلافه الفعل المتخطي الذي يجوز أن يقتصر على المفعول الذي لا يكون فاعلا للفعل الضمي (أخذ). كما يظهر في الجملة (25) الموالية .

... (25) أعطى خالد كتابا.

(1/8279)

... ويجوز ذكر المفعول الآخذ في آخر الجملة وهو مقترن بحرف الإضافة (ل) الدال على التمليك مما يكون مع الفعل (أهدى) و(منح) المرادفين للفعل (أعطى) في مثل الجملتين (26).

... (26) (أ) أهدى بكر سيارة أبيه لصديقه.

... (ب) منح خالد دينارا لبكر.

... ولا يستبعد، في جميع الأفعال المتخطية وعددها قليل، التوسع الذي حصل في مثل (دخل) اللازم فعدي إلى الظرف بغير حرف الإضافة في مثل (دخل) اللازم فعدي إلى الظرف بغير حرف الإضافة في مثل (دخلت الدار). والأصل (دخلت إلى الدار). ومثله أيضا (مر، وصعد). في (تمرون الديار)

(1/8280)

و(تصعدون الجبال). ويحصل التوسع في الفعل المتخطي عن طريق نقل المفعول الآخذ إلى موقع بين الفاعل والمفعول بعد نصبه بنزع الخافض منه. وهو ما توضحه المجموعة (27) بعد إجراء مبدأ التوسع على جملتي المجموعة (26) السابقة.

... (27) (أ) أهدى بكر صديقه سيارة أبيه.

... (ب) منح بكر خالدا دينارا.

... وللفعل المتخطي خاصية المحافظة على "مبدأ التناظر" الذي يضمن الانتظام لأصناف الفعل التام. مبدأ التناظر هذا يمكن توضيحه بالعبارة (28) التالية :

... (28) 3+2+1+0-1-2-3.

(1/8281)

... وإذا كان الفعل المتعدي يمثل أعدل الأصناف وأكثرها توازنا تعين أن نحتل الوسط في مبدأ التناظر المصوغ في العبارة (28) أعلاه. ليقع القاصر واللازم عن يساره إذ ينقصها موضوع كما توصح العبارة (23) السابقة، ويقع المتخطي عن يمينه. لأن هذا الصنف يزيد بنفس العدد (+1) الذي ينقص في الطرف المقابل (-1).

خلاصة

... بينا في جميع مراحل هذا البحث إمكان تنظيم النحو. ويحصل ذلك عن طريق إجراء سلسلة من المبادئ. في المقدمة يأتي مبدأ التعميم الذي يضمن استعمال القليل من المصطلحات الواصفكل منها لعدد غير قليل من أبواب

(1/8282)

النحو. وعدم إغفال مبدأ السبر في التصنيف الذي يحافظ على تجانس الأصناف بالمحافظة على وحدة مستوياتها. ولضمان الانسجام الضروري في المعرفة العلمية يلزم ملاحظة مبدأ الإناطة في جميع أبواب النحو موضوع البحث والتحليل، فتعلق مصطلحات الوصف في كل باب بمصطلحات الانطلاق المحددة بمبدأ التعميم.

... وإذا صحت هذه المنهجية كما طبقت في أبواب مقدمة النحو المتناولة في هذا البحث من المتوقع أن تصح نتائجها عند إجرائها في دراسة باقي الأبواب المكونة لنحو الجملة. ويكفي الشروع في مبحث المرفوعات لتجد إعرابها مفسرا بعلاقة

(1/8283)

الإسناد (ع). ولنرى أيضا أن ما يكون للمرفوعات من الأحوال العارضة لها لايجلبها سوى ما يراكب المرفوع بإحدى العلاقتين؛ (( - )

من أصناف الأفعال القاصر واللازم والمتعدي والمتخطي.

... ... ... ... ... ... ... ... ... والله الموفق.

مصادر البحث

ابن برهان العكبري،- "شرح اللمع"، القاهرة 1986.

ابن جني، -"الخصائص"، القاهرة دار الكتب 1371هـ

... - "سر صناعة الإعراب"، القاهرة، الباب الحلبي 1374ه.

ابن سينا،- "البرهان من كتاب الشفا"، القاهرة، دار النهضة العربية 1966.

(1/8284)

... - "الإشارات والتنبيهات"، القاهرة دارالمعارف 1971.

ابن الناظم،- "شرح ألفية ابن مالك"، بيروت، بدون تاريخ.

ابن هشام،- "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، دمشق، دار الفكر 1384هـ

ابن يعسش،- "شرح المفصل"، بيروت، عالم الكتب، بدون تاريخ.

الأوراغي،- "اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم"، الرباط، دار الكلام 1990.

... - "إعراب الناسخ الحرفي" ضمن مجلة كلية الآداب الرباط عدد 19.

البيجوري،- "فتح الخبير اللطيف شرح على متن الترصيف في علم التصريف" القاهرة البابي الحلبي 1359هـ

(1/8285)

التفتازاني،- "شرح مختصر التصريف العربي "، القاهرة البابي الحلبي 1383ه.

الجرجاني،- "أسرار البلاغة"، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى 1351ه.

الزركشي،- "البرهان في علوم القرآن" القاهرة البابي الحلبي 1391ه.

الزمخرشي،- "المفصل في علم العربية"، القاهرة، مطبعة حجازي، بدون تاريخ.

السيوطي،- "الأشباه والنظائر في النحو"، بيروت، دار الكتب العلمية 1405ه.

... -"المزهر في علوم اللغة وأنواعها"، بدون تاريخ.

المبرد،- "المقتضب"، القاهرة، لجنة إحياء الترات الإسلامي، 1399ه.

(1/8286)

تونس في كتابات بعض الرحال المغاربة

... ... ... ... ... ... الدكتور عبد الكريم كريم

... ... ... ... ... ... كلية الآداب -الرباط

زار القطر التونسي الشقيق في العصور الحديثة عدد من الرحالة المغاربة ودونوا معلومات هامة عن الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وغيرها،ومن هؤلاء :

-علي التامكروتي : التفحة المسكية في السفارة التركية ،عام997 ((((( ((

-أحمد الصغير الدرعي: الرحلة الكبرى، عام 119ه (

-أحمد بن عبد السلام الناصري :رحلة الفاسي ،1121ه

-عمر بن الحسن الحجوي، زار تونس عام 1342ه

(1/8287)

1-طبيعة البلاد التونسية :

"سافرنا إلى بنزرت وفيها حقل ينفذ منه البحر إلى بحيرة هناك واسعة يدخل منها ماء البحر عند المد آخر النهار إلى البحيرة ويخرج منها عند أول النهار ويسمونه الوادي اكتنفته الديار والبنيان على عدوتيه فتدخل فيه السفن وتكون كأنها في داخل البلد بين الديار ويأمن أهلها عليها ...

ثم سافرنا من تونس وجزنا على رأس ادار ثم ارسينا بميناء سوسة وأقمنا مها يومين ...وعلى مقربة من صفاقس جزيرة فيها رياضهم وأشجارهم وثمارهم وخيلهم يقطعون إليها بالصنادل والصنادل هي المراكب الصغار التي تسع من

(1/8288)

العشرة إلى العشري في بحر قصير وقريب من الأرض لاتجري فيه السفن الكبار وذلك من الأسباب التي منع الله بها بلادهم وبلاد جزيرتهم من النصارى ... ثم توجهنا إلى قابس ...وساحل قابس مرسى للسفن من كل مكان ...وقابس دمشق المغرب فبغابتها أشجار وجنات وكروم وزيتون كثير وبها نخيل ملتف ورطب" (التامكروتي ص 45) .

أما الرحالة الآخرون فقد اجتازوا المنطقة الوسطى من تونس مرورا بتوزر والسبخة الكبيرة إلى مدينة قابس :

"ما رأيت ببلاد الجزيرة أكثر من توزر مياهها غزيرة وجناتها كثيرة ينساب فيها واد كبير" (الدرعي، ص 52).

(1/8289)

"السبخة الكبيرة الهائلة التي لم يسمع مثلها في الأرض في الطول والعرض والتي توجد بها آبار كثيرة الماء إلا أنها لا تصلح إلا لضرورة شرب الدواب للملوحة مائه ومرارته" (الدرعي، ص100).

"وماء حامة قابس حار جدا كأنها على النار ولا يستطيع الإنسان الجلوس فيه إلا تكلفا وكرها"(الدرعي، ص119).

2-الأوضاع الاقتصادية :

من الجوانب التي أثارت اهتمام الرحالة المغاربة عناية أهالي توزر بصفة خاصة الزراعة وطرق توزيع المياه للرعي والسقي :"بعد اجتماع المياه بوضع يسمى وادي الجمال تنقسم على ستة جداول ويتشعب من تلك الجداول

(1/8290)

سواقي لاتحصى كثرة تجري في قنوات مبنية من الصخر على قسمة عادلة لايزيد بعضها على بعض شيئا كل ساقية سعة شبرين ويلزم كل من يسقي منها أربعة أقراص مثقال في العام ،ويلزم من يسقي نهارا أربعة أسداس المثقال في العام ويعمد الذي يكون له دور السقي إلى قادوس، والقادوس هي عبارة عن آنية تسع اللتر وبها ثقب صغير بترك أو يعلق والماء ينبع فيه وخلال الربع ساعة يكون اللتر من الماء قد نفذ ثم يملأ من جديد ،ويعتمد الذي يكون له دور السقي إلى سقي حائطه أو بستانه من تلك الجداول ... وقد علموا أن سقي اليوم الكامل هو قدما"

(1/8291)

(الناصري، ص 101).

وعن الإنتاج الفلاحي ذكر (الراعي، ص 119):

"ما رأيت كبلاد الجريد نخلا بها من الثمار مالا يحصى عدده إلا الله يرد عليها من الأعراب الآلاف المتالفة ويملأ كل واحد إبله بما شاء من الثمار وبهذه البلاد يرخص غالبا سعر السمن واللحم وأما التمر فيها فرخيص جدا يكون كبلاد درعة" .

أما التجارة الداخلية فتعد توزر من أهم مراكزها "وبموضع في توزر يعرف بباب المنشر ينشر التجار هناك من الثياب الملونة والأمتعة الموشية ما يعمله على كبره فيتخيل لناظره أنه روض تفتحت أزهاره " (الدرعي، ص 104).

(1/8292)

أ- عامل الأمن "من الألطاف الخفية أن جميع إيالة تونس في غاية ما يكون من الأمان من شر الغارات كما هي عادة الأعراب ولايقدر أحد أن يمد يده جهارا على جهة بالتعدي خوفا من الفعل الواصل إليهم من الولادة" (الدرعي، ص 54).

ب- نظام الجباية : "نزلنا توزر ضحى يوم الأربعاء رابع شعبان عام 1121ه فوافينا بها أمير تونس رمضان باي جاء لقبض الخراج الموظف على البلاد وأخبرني بعضهم أنهم يعطون ستة نواصر على كل نخلة وأربعة على كل زيتونة وأخبرني آخر أن خراج الجريد من نفطة إلى قابس خمسمائة ألف ريال بكل عام وخراج دربة وحدها

(1/8293)

ستون ألفا" (الدرعي، ص120) .

غير أن اضطراب الأمن والتعسف في الجباية كثيرا ما تسبب في مضاعفات خطيرة :

"ذكر الدرعي أن جميع إيالة تونس في غاية ما يكون من الأمن ... لعل ذلك اتفق في زمنه أما اليوم فقد عز الأمان وشنت الغارات في كل مكان " (الناصري، ص 111).

وزاد من اضطراب الأوضاع تعسف بعض الجباة:

"نزلنا توزر... فوافينا بها رمضان باي جاء لقبض الخراج كما سنتهم قطعها الله من سنة ... لقد أضرجور بعض العمال بهذه البلاد وشاع حتى كاد الخراب يستولي عليها الضعف أهاليها بالجبايات" (الدرعي، ص 123).

(1/8294)

وخراج جربة وحدها ستون ألفا ومؤونة مائتي صاحب من القمح والأرز والسمن والزيت واللحم"(الدرعي، ص 54).

3- الناحية الأجتماعية:

أكد الرحالة المغاربة اتساع العمران وتعدد مراكز التجمع البشري في السواحل التونسية وفي المناطق الداخلية من البلاد وأبرزوا الكثير من الصفات المتميزة للشعب التونسي وبصفة خاصة حسن الاستقبال وكرم الضيافة :

"تونس مدينة عظيمة آهلة دار علم وعمل" التامكروتي، ص 34).

"والقيروان مدينة طيبة لم أر بلدة أحسن منها ولا من أهلها بعد الحرمين الشريفين ذات بناء متقن و

(1/8295)

أسواق...وهي من المدن التي لاينبغي أن تهمل زيارتها ،ومن جملة مزاياها أنه لا يدخلها يهودي ولا غيره من الكفار ولا يخلو أهلها من مكارم الأخلاق" الفاسي، ص 70).

أما مدينة توزر " فكثير من أهلها يسكنون الغابة في مبان ضخمة حسنة بخلاف المباني داخل المدينة وليس بتوزر أحسن من هذا المنظر" (الدرعي، ص104).

"دخلنا السبخة الكبيرة الهائلة ونزلنا غرب زاوية الرمل وقبل هذه مررنا على أولاد الحاج فوجدناهم تعرضوا للحجاج بخيامهم وسط الطريق وفرحوا بهم غاية الفرح وصبوا عليهم أودية من الأطعمة واللبن تفصلا منهم وإحسانا ...

(1/8296)

وهؤلاء الناس لهم محبة تامة في الركب النبوي يطعمونه كل ما مر بهم ولهم في ذلك أحباس فقد أدخلونا دارهم في جماعة وافدة من الركب فأطعمونا قصعة كسكس ولحم ما رأيت في عمري أعظم منها وكأنها معدة لذلك وأردفوها بفواكه من عنب وغيره" (الدرعي، ص. 154 ).

4-الحياة الفكرية :

حرص الرحالة المغاربة على زيارة المساجد والزوايا التي توجد في المدن والمناطق التونسية التي مروا بها وسعوا إلى الالتقاء بالعلماء والفقهاء وطلبة العلم والتباحث معهم في المجالات العلمية المختلفة كما دونوا الكثير من المعلومات المتعلقة بالأماكن

(1/8297)

التي زاروها :

"تونس مدينة عظيمة آهلة دار علم وعمل فيها مساجد عامرة بذكر الله... زرنا جامع الزيتونة وما أدراك ما الجامع ،جامع عظيم البركة يعلوه نور ومهابة وانشرح من أثر من سلك من العلماء والصالحين ينبسط فيه القلب وينشرح فيه الخاطر ولا يحب داخله أن يخرج منه . مرفوع كله من أساطين وأعمدة من رخام ملون عديم النظير بديع الصنعة مبني كله بحجر منحوت له صحن فسيح بديع الحسن بهيج المنظر وفيه إمام خطيب هو محمد الأندلسي فقيه عليه سمة أهل الخير ووقار أهل العلم يتعاطى دراسة فنون كثيرة من تفسير وفقه ونحو وبيان

(1/8298)

وغير ذلك" (التامكروتي، ص 54).

وفي سوسة (جامع مليح فسيح) وفي المنستير "رباط منعزل لأهل العلم كهيئة المدرسة مثمن البناء فيه بيوت للطلبة" (التامكروتي، ص 57).

أما مسجد القيروان الكبير فهو في غاية الإتقان وعليه أثر الرحمة والبركة وله ثمان بلاطات في غاية الكير والضخامة وسواريها كلها من رخام وصحنها مفروش بالرخام الأبيض وله صومعة أدراجها مفروشة بالرخام يصعد إليها بمائة درجة وعشرين درجة، وبوسط بلاطها الأول عند المحراب والمنبر موضع مقطوع عن المسجد وضعت في بعض الآلات الحربية من بقية آثار الصحابة رضي الله

(1/8299)

عنهم أجمعين" (الفاسي ، ص 77).

"وتوزر الجديدة اليوم مدينة كبيرة عامرة كل العمارة تحتوي على مساجد كثيرة تقام في الأربع منها الجمعة " (الناصري، ص 105).

"من الذين اجتمعت بهم في توزر من طلبة العلم الفقيه أبوعبد الله محمد بن أحمد بن منصور له دراية بالفقه والنحو أو قفني على ما لديه من الكتب وطلب مني أن أجزيه بما لدي بعد أن أوقفني على مالديه من الكتب وطلب مني أن أجيره بما لدي بعد أن أوقفني على إجازات لبعض من مر به من علماء أهل فاس فأجبته ،وممن اجتمعت به في توزر قاضي البلد محمد بن عيد وكانت لي معه معرفة

(1/8300)

أيام غربتي بفاس يجمعني وإياه درس شيخنا أبي عبد الله محمد ابن عبد الحي القاسي" (الدرعي، ص 105).

" ونقطة قريبة من توزر وهي عامرة بها جامع ومساجد وحمامات وجميع أهلها شيعة وتسمى الكوفة الصغرى" (الدرعي، ص 104).

من الصفات المتميزة للشعب التونسي :أصالة التدين وحبهم للجهاد والتصدي لكل غزو خارجي، ومن شواهد الإثبات على ذلك القلاع والحصون والرباطات الممتدة على طول السواحل الشمالية والشرقية التي أفسدت على الغزاة النورمانديين والإسبان وغيرهم كل محاولة للغزو وبسط النفوذ.

* * * *

(1/8301)

في التاريخ الحديث زار العلامة عمر بن الحسن الحجوي تونس عام 1923 ومما جاء في مذكراته عن هذه الرحلة وخاصة في الجانب الثقافي :

"لما وصلت إلى تونس ... وجدت بها ما ملأ قلبي سرورا من النظام بسبب المدرسين الذين كانوا تخرجوا من مدرسة خصوصية أهلتهم لتربية الشبان ... وهي مع كثرتها ضاقت على أولادهم لأنهم عرفوا حلاوة

العلم "(ص 16).

ويضيف "من جملة ما يسر به كل مسلم تنظيم الزيتونة وماأدراك ما الزيتونة قد جمعت هذه الكلية ما يزيد عن ألفي طالب وما يقرب من ثمانين مدرسا كلهم علماء جامعون بين العلوم الدينية

(1/8302)

والإطلاع على الأحوال الوقتية ومحصلون على عدة علوم الأسلاف" (ص 18 ).

"وأما الفنون التي تدرس فهي معينة على حسب المراتب وكذلك العلوم العصرية كعلم الحساب والجبر والجغرافية والهيأة والفلك والتاريخ وغير ذلك، ومن جملة الأمور التي أعانت الزيتونة على الوصول إلى هذه النتيجة هو إعطاء المدرسين المرتبات التي كفتهم مؤونة التخمين عن دقيق العليا حالة الدرس واللحم حالة المطالعة " (ص 18).

ويضيف "ومما زادني طربا وابتهجت به جوارحي احترام سادتنا العلماء عند جميع الأهالي على اختلاف طبقاتهم " (ص 20).

(1/8303)

ومن الملاحظات التي سجلها الحجوي : "ومما زاد في علو رتبه التونسيين انتشار الجرائد بين طبقات الأمة ... ومما أخذ بلبي اعتناء متخرجي المدارس... بدروس الكليات في أوربا ... للتحصيل على الشهادات العليا كشهادة الطب والهندسة وغيرها" ويختم مذكراته "لما أفاق السادات التونسيون من غفلتهم القديمة لم يكتفوا بالمبادرة إلى تربية الأولاد بل صاروا يطلبون الدواء حتى لمن اشتعل رأسه شيبا ولذلك نظموا دروسا ليلية للتعليم " (ص 28).

المصادر :

(1/8304)

- علي تامكروتي : النفحة المسكية في السفارة التركية ، مخطوط بدار الوثائق التابعة للخزانة العامة بالرباط، ك 2829 .

-أحمد بن ناصر الدرعي : الرحلة الكبرى، مخطوط بدار الوثائق بالرباط، د 1291.

-محمد بن عبد السلام الناصري : الرحلة الكبرى ،مخطوط بدار الوثائق بالرباط ، د 2651

-أحمد بن عبد القادر الفاسي : رحلة الفاسي مخطوط بدار الوثائق بالرباط، ج 88 .

عمر بن الحسن الحجوي الفاسي : مسامرة أخلاقية ، فاس ،مطبعة أندري ،1923.

(1/8305)

ثلاثة قرون بين الشام والمغرب عبر الأندلس

... ... ... ... ... الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله

... ... ... ... أكاديمية المملكة المغربية ـ الرباط

... كان للشام دور كبير في تعريب المغرب الكبير منذ أوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أي منذ أزيد من ثلاثة آلاف سنة حيث دخل الكنعانيون العرب إلى القسم الشمالي ـ الغربي من القارة الإفريقية وأسسوا عام 1101 قبل الميلاد مدنLeptis Magus (لبدة الحالية في ليبيا) وعتيقة (Utique) في تونس وليكسو (في المغرب الأقصى)، عقبها عام 814 ق. م. تأسيس حاضرة قرطاج (Carthage).

(1/8306)

... وقد فسح الوجود القرطجي (الكنعاني العربي) المجال بعد ذلك لانتشار اللغة البونية (Langue punique) في آفاق شاسعة من الشمال الإفريقي ضمن مصطلحية شاملة مع العامية الدارجة في المنطقة. ويتجلى ذلك بصورة واضحة على الرخامة(1) التي كشفها الدكتور البرازيلي السيد ألأديزلو نيتو وضمنها الجزء الأول من كتابه "الأنطروبولوجية"، وهي تحمل تاريخ 125 ق. م. (أي بعد أن استولى الرومان على قرطاجنة بنحو العشرين سنة) حيث توجد عشرات الألفاظ والتراكيب مفرغة في

__________

(1) راجع "تقويم المنصور" للأستاذ توفيق المدني (عام 1343 هـ).

(1/8307)

قالب عربي مع تحريف لا يخفى حتى على غير الاختصاصيين في فقه اللغة وعلم الاشتقاق.

... ففي الفقرة الأولى جملة حررت بالبونية هي: ”هنا احنا بنى كنعان فرنم حقرة حمل“ يمكن أن نقلبها إلى عامية الشمال الإفريقي، وخاصة التونسية فنقول: ”هنا احنا بنى كنعان من فرانم حملنا الحقرة“. ومعناها بالفصحى: ”هنا نحن بني كنعان من فرانم تحملنا الاحتقار“. ففي هذه الفقرة وحدها سبع كلمات لا يوجد فيها أي دخيل، وإنما هو انحراف بسيط عن الفصحى بسبب الاستعمال العامي المتداول. على أن البونية بدأت تتسرب إلى المغرب الأقصى مواكبة

(1/8308)

دخول القرطاجنيين الرسمي حوالي 480 ق. م. وأكد القديس أغسطين (St. Augustin) أنها ظلت متغلغلة في أنحاء البادية المغربية إلى نهاية عهد الوندال، أي إلى عهد الفتح الإسلامي؛ في حين اندرست لغة الرومان باندراس معالم الحضارة اللاتينية التي تطورت في نطاق محدود لم يتجاوز مثلثاً تمتد حدوده من طنجة إلى وليلي إلى شالة، عاشت جاليته الرومانية في قفص مقفل بعيدة عن المحيط البربري الذي كان يلفها. وقد اعترف بهذه الظاهرة مؤرخون طالما دعوا إلى "غربية" البربر(1)

__________

(1) مثل كَوتيي (Gautier) مؤلف "العصور الغامضة في تاريخ المغرب".

(1/8309)

، ولكنهم اندهشوا أما هذا التجاوب العميق الذي مهد المغاور والأوعار البربرية أمام الفتح الإسلامي بانتشار "لغة قريبة من العربية". فكلمة (1)”قرطاج“ نفسها معناها قرية حداش، أي القرية الحديثة. صحفت إلى ”قرئاش“ بتعطيش الجين كما نطق بها الرومان. وكذلك حنبعل (Hannibal) أصله حنى بعل، أي نعمة الله وكان اسم أبيه هو هاملكار (Hamilcar)، أي حامي القرية الذي حارب الرومان في صقلية.

__________

(1) كوتيي، إفريقيا الشمالية، ص. 148.

(1/8310)

... ومنذ الفتح الإسلامي كان الخليفة الأموي في دمشق هو الذي حشد الجند بقيادة موسى بن نصير وخليفته طارق بن زياد لغزو الأندلس. وقد عبر المضيق عام 93 هـ/ 712 م في جيش قوامه عشرة آلاف رجل معظمهم عرب فيهم القيسيون واليمنيون الذين نقلوا إلى الأندلس منذ الفترة الأولى المجاذبات والنزاعات القبلية الشرقية.

... وقد انضاف إليهم اثنا عشر ألف سوري وردوا من الشام بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك بعد غزوة الأشراف (123 هـ/ 740 م) التي تزعمها فيهم خالد بن حميد الزناتي البربري ضد الجيوش العربية.

(1/8311)

... وقبل ذلك بربع قرن، أوفد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية والمغرب قيسياً والكاتب خزرجياً.

... وهنالك انبرى المد الشامي بطريق غير مباشر في المغرب حيث تركزت لأول مرة في تاريخ العدوتين مجموعات كبيرة تمثل مختلف طبقات المجتمع الأندلسي.

... ويبلغ عدد الأسر الأندلسية التي هاجرت إلى فاس عام 202 هـ/ 818 م بعد وقعة الربض أربعة آلاف حسب عبد الملك الوراق وثمانية آلاف (روض القرطاس، ص. 25) ودوزي (تاريخ مسلمي الأندلس، ج 1، عام 1932، ص. 301) أو ثمانمائة فقط (هنري طيراس، تاريخ المغرب، ج 1، ص.

(1/8312)

108). وقد تحدث المقري في "نفح الطيب" (ج 1، ص. 318) عن الوقعة التي أدت إلى طرد الأندلسيين؛ فذكر أن الحكم بن عبد الرحمن الداخل انهمك في لذاته، فخلعه العلماء بقرطبة، فأجلاهم عن الأندلس ولحقوا بفاس والإسكندرية. ومن هذه إلى جزيرة اقريطش حيث ظلوا مدة طويلة شوكة في حلق الأسطول البيزنطي معززة بأسطولي مصر والشام.

... فإذا حاولنا التنظير بين عناصر الحضارة الأموية من نشأتها في الشام إلى امتدادها بالأندلس، لاحظنا وحدة مقومات العمران والبناء الزخرفة والنقش والثقافة والاجتماع والتراتيب الإدارية والسياسية

(1/8313)

والقضائية في هياكلها ومصطلحاتها. إلا أن الأندلس لم تتصل بهذه المعطيات مجموعة قبل وصول عبد الرحمن الداخل عام 137 هـ، حيث قضى خمس سنوات بالمغرب الشمالي. ولم تكد الدولة الأموية الجديدة تستقر حتى وضع الأدارسة بفاس أسساً عمرانية كانت وفرة مياهها وبساتينها وفنادقها وقيساريتها ومساجدها مظهراً خافتاً لعاصمة دمشق.

... وقد كان لدخول أمير أموي شامي إلى المغرب ضلع قوي في بلورة الوحدة الفكرية بين شقي العروبة. ذلك بأن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام فر مع مولاه بدر إلى مصر ثم القيروان للالتجاء إلى قبيلة نفزة

(1/8314)

وأخواله في سبتة، ثم انطلق بعد خمس سنوات نحو الأندلس حيث استغل الشقاق القائم على الطريقة الشرقية بين القيسية واليمنية؛ كما استغل الموالي الأمويين الخمسمائة الذين كانوا يرابطون بين جند دمشق والبيرة وقنسرين وجيان بالأندلس.

... وقد ظلت الأندلس تابعة معنوياً لدمشق ثم بغداد إلى عام 316 هـ/ 929 م، حيث تلقب عبد الرحمن الثالث الأموي بأمير المؤمنين بصفته خليفة(1). فكان ملكه بقرطبة امتداداً لملك الأمويين بدمشق. وقد كان لهذه الظاهرة أثر رجعي حيث لاحظ المسعودي(2)

__________

(1) ابن الأبار، الحلة السيراء، ص. 33.

(2) مروج الذهب، الطبعة الفرنسية، باريز، 1961، م 1، ص. 362.

(1/8315)

عام 327 هـ أن أمويي الأندلس كانوا يلقبون أنفسهم ببني الخلائف. ولم يجرؤ المرابطون والموحدون بعد ذلك على التسمي بأكثر من أمراء المسلمين. وقد عرف البلاط الأموي في قرطبة لأول مرة في عهد عبد الرحمن الثالث أبهة خاصة بمناسبة استقبال السفراء(1)، فرشت الأرض خلالها بالحصر الأنيقة من باب قرطبة إلى مدينة الزهراء مسافة فرسخ (وهو أربعة أميال تقريباً) مع سياج من الجند على جانبي

__________

(1) وصفها محيي الدين بن عربي في "محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار"، طبعة القاهرة، 1305 هـ، م 2، ص. 195.

(1/8316)

الطريق. وكان الخليفة جالساً في آخر المطاف بين أفراد الشعب في ثياب خشنة وأمامه المصحف والسيف. وهكذا انتقلت بعض هذه العادات التشريفية عن طريق الشام من البلاط الساساني إلى بلاط مراكش في عهد المرابطين والموحدين، وتوافر الحشم والخدم في البلاط مع ظهور الصقالبة في مدينة الزهراء أواخر عهد الناصر حيث يصل أفراد الحريم السلطاني (3750) مع الإماء إلى 6300 امرأة.

... أما الألقاب السلطاني، فإن عبد الرحمن الثالث هو الأموي الأول الذي تلقب بها بالأندلس. فدعي الناصر لدين الله(1)

__________

(1) ابن عذاري، البيان المعرب، ج 2، ص. 162.

(1/8317)

، ثم تلقب بعده الحكم الثاني بالمستنصر وهشام الثاني بالمؤيد. والدمشق قصر بقرطبة (النفح، ج 1، ص. 324) فيه قال ابن عمار:

كل قصر بعد الدمشق يذم فيه طاب الجنى وفاح المشم

... وقد استبدل بعضهم البديع بالدمشق لمدح قصر البديع بمراكش. (المراكشي، الإعلام، طبعة 1974، ج 1، ص 69).

... وقد أجاز الناصر بالإسبانية صدر بيت ارتجله شاعر هجاء من بطانته(1)، ولم يعرف هذا في المغرب إلا فيما يخص عبد الملك المعتصم الذي انتصر على البرتغاليين في معركة وادي المخازن.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 243، 376 ؛ النفح، ج 2، ص. 417.

(1/8318)

... وشملت التأثيرات الشامية شتى مجالات الحضارة والفكر. فقد دخلت في بناء جامع القرويين عام 245 هـ عناصر من فنون دمشق. وأضاف الناصر الأموي عام 345 هـ، أي بعد مرور قرن كامل على بناء الجامع، اثني عشر بلاطاً جديداً؛ وحول المنارة إلى مكانها الحالي مغشياً بابها بصفائح النحاس الأصفر مع قبة صغيرة محلاة بتفافيح مموهة بالذهب (زهرة الآس، ص 37). وبذلك انبثقت النواة الأولى للفن الأندلسي المغربي البارز في مسجد قرطبة الأموي ومدينتي الزهراء والزاهرة. ولعل عهد الناصر الأموي الذي ازدهرت فيه الفلاحة والصناعة

(1/8319)

والتجارة والفنون والعلوم(1) بالأندلس كان عهد تحول وانقلاب في تاريخ الحضارة المغربية.

... وقد ظل النظام السوري نفسه أسيسة الدائريات العسكريات طوال الحكم الأموي، وظلت العناصر الجوهرية في الجيش متشخصة في الحاميات

المنبثقة من دمشق (في ألبيرة) والأردن (في مالقة) وفلسطين (في سيدونة) وحماة (في إشبيلية) وقنسرين (في جيان).

... وكان لملوك بني أمية الشاميين أبهة خاصة يوم البروز، أي خروج الجيش للعرض أمام الخليفة في فحص السرادق حيث يصل في موكب فخم يمتد من قصره

__________

(1) ابن حوقل، طبعة كوج (Goeje)، ج 2، ص. 27.

(1/8320)

بقرطبة أو مدينة الزهراء لاستعراض الكتائب والأشراف شخصياً طوال أيام عديدة على أدق التنظيمات. وفي يوم الجمعة التي تسبق انطلاق الحملة تقام حفلة عقد الألوية في جامع قرطبة وتسلم الرايات لقواد الكتائب لتعلق على الرماح، وتعاد إلى مستودعها في الجامع بعد العودة المظفرة من الجهاد. وهكذا ظل المغرب إلى عهد الحسن الأول في بداية القرن الهجري الماضي مجالاً لكثير من الظواهر الحضارية بعد ذبولها أو تقلصها في الشرق العربي.

(1/8321)

... فقد أقيمت الحصون والأبراج والمراصد والمباني العمرانية والمجمعات الاقتصادية، ونظمت الخطط والحرف والمهن، وشكلت بنيات الاستثمار الزراعي والصناعي على غرار نجد له إلى اليوم مجالي بارزة ربما امتاز بها المغرب في مسار التطور الحضاري العربي والإسلامي.

... وكان للطابع الشامي ضلعه في بلورة هذه الصورة.

... ففي الحقل العسكري بلغ السوريون أسمى مرتبة حيث انفردوا في العهد الأموي بالدور الطلائعي في الديوان.

... فالرتبة أو المرصد: مراكز عسكرية تشرف على الممرات التي تؤدى فيها رسوم الأبواب، أي المكوس؛ وتوجد

(1/8322)

بجانبها منازل، أي فنادق شبيهة بخانات المشرق، وهي النزالة بالمغرب.

... وأول برج بني بالأندلس في عهد الخليفة الحكم الثاني عام 357 هـ/ 968 م(1) هو حصن ما زالت أنقاضه تشرف إلى اليوم على قرية Baٌos de la Encina شمالي إقليم جيان في الطريق التي تصل قرطبة بقطاع فحص البلوط (Castilla del Vacar)، أي عقبة البقر.

... وكانت القصبة تبنى بالأندلس على غرار الهندسة المغربية على شفا شاهق من الجهة الوعرة حتى يصعب تسلقها على المغيرين. وكانت محاطة بسور من حجر أو نطاق، أي عارضة من

__________

(1) ابن عذاري، البيان، م 2، ص. 257.

(1/8323)

خشب (Langrine)، يُحْدِق بحرم الحصن المشرف على الساحة التي تتفتح فيها الربض حيث تقطن الحامية مع عدد قليل من تجار المواد الضرورية(1).

... وعرفت العدوتان المجانيق والطرادات لإطلاق القذائف. وكان النقابون عبارة عن هيئة متخصصة في نقب الأسوار تحت إشراف عرفاء، وكانوا يستعملون أيضاً الكبش في الحروب. وقد احتفظت اللغة الإسبانية إلى اليوم بكلمات القصبة والدرب (أي ممر دورية الحراسة في القلعة) والسور والبرج البراني، إلخ.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 190، 214.

(1/8324)

... وبلغت قطع الأسطول الأندلسي في عهد عبد الرحمن الناصر مائتين ومثلها في إفريقية على رأسها قائد الأساطيل. وكان على كل سفينة قائد يسهر على السلاح والمجاهدين ومعدات الحرب، بينما يسير الرايس دفة المركب بالشراع أو المجاذيف؛ كما يشرف على عمليات الإرساء في المرفإِ. وظلت ألمرية أعظم دار للصناعة بالأندلس منذ عهد الناصر. وقد تعددت هذه الدور بالاسم نفسه في حواضر مغربية وأخرى أندلسية كالجزيرة الخضراء وشلب ومالقة وطرطوشة.

(1/8325)

... وقد ظهرت في البلاط الأموي بالأندلس منذ القرن الرابع الهجري خطط تردد معظمها بالاسم والاختصاص نفسهما بالمغرب مثل أصحاب المطبخ والمواريث والخيل والبريد (الرقاص) والصاغة والشرطة والصناعة والبيازرة مع مصطلحات أخرى كالطراز والخلع وخزانة السلاح والقهرمان ، وخاصة الخليفة، والبيعة لولي العهد وباب السدة وأم الولد وحجابة الولد والحرائر.

... وظهرت في المغرب على نسق قرطبة الأموية خطط أخرى في المجتمع الأندلسي مثل الحاجب وقاضي الجماعة والمشاورة والعمَّال والوزراء ونواب الخليفة وكاتب الزمام وصاحب الرسائل

(1/8326)

وكاتب التنفيذ والتوقيعات (أي تنجيز التوقيعات) والأوقاف وبيت المال والصدقة والأعشار والخراجات والجوالي والجبايات والضمانات والرسوم على بيوع الأسواق والقطوع والمغارم والقبالات والمكس والمشرف والأمين والنازلة (النزالة في المغرب) ودار السكة والمستخلص (المستفاد بالمغرب) وخاصيات بيت المال (خاصة بالسلطان) والضياع وغلاتها.

... أما في خصوص المصالح القضائية ودوائر الشرطة، فقد احتفظ المغرب بالأسماء الأموية نفسها إبان المرابطين والموحدين والمرينيين واستمر ذلك إلى اليوم. من ذلك قاضي الجماعة وقاضي الجند

(1/8327)

وصاحب السوق (وهو قاض) وقاضي القضاة وفقهاء الشورى (أو أصحاب الرأي) والمسدد (قاضي السداد وهو حديث بالمغرب) وصاحب الصلاة وقاضي العسكر. وللقاضي الاختصاصات نفسها حول الوصايا والأحباس والطلاق والتحجير والخصام والمواريث والوكالات وتوقيع الشهادات والوثائق والعدول وديوان العدول (أي سجلهم) ومقصورة القاضي (تكون بأحد الجوامع، وخاصة الجامع الكبير في الحواضر الكبرى).

... ومن الخطط المنقولة إلى المغرب عبر العصور خطط أبي المواريث وصاحب العرض (المكلف بالجيش) وصاحب الشرطة وصاحب المدينة أو متقلد المدينة وخليفته

(1/8328)

(الحاكم في تونس والقائد في المغرب أو الباشا في عهد السعديين اقتباساً من الأتراك) والمحتسب (شبه صاحب السوق) وصاحب الرد أو المظالم(1) (صاحب الشكايات بالمغرب). وقد تقلد أواخر العهد العلوي منصب وزارة الشكايات.

... وقد كان للزهراء والزاهرة في عهد عبد الرحمن الرابع المستنصر بالله (414 هـ/ 1023 م) حسب ابن حيان(2) مكلفون بخدمة المدينتين وآخرون للتعقب والمحاسبة والإشراف على الحشم ومواريث الخاصة

__________

(1) كان صاحب الرد بالأندلس يختص أحياناً في الشرعيات وصاحب المظالم في المدنيات.

(2) البيان، م 3، ص. 135.

(1/8329)

والمباني وخزانة القبض والنفقة وخزانة الطب والحكمة والإنزال والنزائل(1).

... وقد عرف المغرب والأندلس الحرف نفسها حيث اتحدت أسماؤها مثل: العجان والرفاد (الذي يدخل الخبز في الفرن أو يحمله إلى المنازل كما في المغرب) والخباز والجزار والشواء والفلاء والسفاج والقطان والقصار والطراز والحشاء (لتحشية المضارب) والقلاس (صانع القلنسوات) والصباغ والقراق (الإسكافي) والخياط والرقاء والصيدلاني والعطار والصباغ

__________

(1) هذه الخطط والتراتيب كلها بارزة في الحضارة المغربية. راجع كتابنا "الإمارة والأمراء بالمغرب"، مخطوط.

(1/8330)

(بائع الجواهر) والرقاق (بائع الرق) والكغاد (بائع الورق) والحلفاوي (بائع أو صانع نسج الحلفاء) والوزان والصيرفي والقاص والبناء والفخار والزجاج والصفار والحداد والنجار والدلال.

... وبرزت السمات نفسها في هندسة الفنادق وبنائها (1)ثم البازارات والقيساريات.

... وقد ذكر ليفي بروفنصال أن الأندلسيين نقلوا معهم إلى المغرب فن البستنة وتجربتهم في الحياة الحضرية التقليدية(2)

__________

(1) الفندق: عبارة عن الخان يستقبل المسافرين والتجار والأجانب.

(2) فاس قبل الحماية (ص. 47) بقلم لوطورنو ((Le Tourneau الذي لاحظ (ص. 205) أن العرب نقلوا إلى فاس مظاهر نبلهم، بينما نقل الأندلسيون رقتهم.

(1/8331)

.

... ونقل المقري عن ابن غالب (النفح، ج 2، ص. 764) أن أهل الأندلس تفرقوا في المغرب الأقصى مع إفريقية. فمال أهل البادية إلى ما اعتادوه، فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء، وعلموا أهل البادية أشياء جديدة.

... ومعلوم أن الأندلسيين قد أثروا من ناحية أخرى في إخوانهم المغاربة حيث كانوا يحتكرون ببلادهم (حسب سرفانطيس مؤلف "دون كيشوط") تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها. وهم لا يشترون العقارات حفاظاً على حرية رواج أموالهم.

(1/8332)

... ولم يكن السوريون العسكريون مستأنسين بالحياة الفلاحية. لذلك نزحوا عن البادية واستوطنوا المدن والحواضر، في حين أن الجاليات البربرية تجمعت خارج السهول وحواضر الأندلس الكبرى(1). ولذلك كانت اللغة العربية سائدة بفضل التأثير السوري في السهول خاصة فيما يتعلق بالأسماء الجغرافية. ويلاحظ ذلك شرقي الأندلس في إقليم Levante حيث لم يسبق للبربر أن استوطنوا قبل الموحدين في

__________

(1) راجع الإصطخري المتوفى عام 322 هـ/ 934 م في كتابه "مسالك الممالك"، (م 1، ص. 44 ). وهؤلاء البرابرة من نفزة ومكناسة وهوارة ومديونة.

(1/8333)

القرن السادس الهجري. ومن جملة هذه الأسماء العربية بنو حيون في بلنسية، وبنو قاسم وبنو غانم قرب شاطبة.

... وكانت طواحين الهواء أو الماء موفورة على ضفاف الوادي الكبير بين قرطبة وإشبيلية ومثلها بالمغرب عدا نوع انفردت به الأندلس، وهو الطواحين المحمولة على الأطواف تنقل حسب مجرى المياه في إقليم مرسية.

... وقد عرفت العدوتان نظام الساقية الذي تشرف عليه محكمة المياه بحيث يجري توزيعها تحت المراقبة المباشرة لوكالة المياه(1).

__________

(1) ابن عذاري، البيان، م 3، ص. 158، نقلاً عن: ابن بسام، الذخيرة.

(1/8334)

... ولم يكن مستغل الأرض يمنح لمالكها أكثر من أربعة أخماس المحصول. لذلك سمي في المغرب بالخماس مع أسماء أخرى أندلسية مثل العامر والشريك والمناصف. إلا أن نوع الزراعة التي تواكبت فيها التجهيزات والعادات هو زراعة الزيتون في منطقة واسعة جنوباً وشمالاً، سماها الإدريسي بإقليم الزيتون استعملت في العدوتين مصطلحاتها الموحدة التي اقتبست منها الإسبانية كلمات الزيتون والزيت والزبوج (الزيتون البري أو الوحشي) (acebule).

(1/8335)

... وقد عنيت العدوتان بزراعة الأرز وقصب السكر مع إقامة الأجهزة نفسها للري تحمل أسماء واحدة حتى في الإسبانية مثل البركة (الحوض) والسد والجب (الصهريج) والناعورة والسانية والقادوس (القناة) والطنور (أنبوب العين أو السبيل) والقبة (مجمع أنابيب السقي). (راجع: A. Conzalez Palencia, El Islam y Occidente, p. 27).

... وقد تزاوجت زراعة قصب السكر في البلدين مع أشجار الموز بجنوب المغرب وأسفل الوادي الكبير بالأندلس (إشبيلية ومالقة وألمرية) كما توافرت في المناطق نفسها زراعة الزعفران والقطن والكتان وشجر التوت

(1/8336)

لتغذية دود القز حيث اختصت بالأندلس ثلاثة آلاف قرية بصناعة الحرير وصل تأثيرها إلى ناحية فازاز بالأطلس.

... وقد حفلت الرياض في العدوتين بأزهار ـ ظلت موضوع قصائد (النوريات) ـ منذ القرن الرابع الهجري وتوازت فيها الأسماء بين العربية والإسبانية مثل الحبق والسوسان والخزامى والياسمين والخيرى (المنثور) والرتم (retamc) والدفلى (الحبن) والريحان والزهر (زهر البرتغال).

... ونظام المهرجان الفارسي الذي يرمز إلى الاعتدال الخريفي قد عرف في كل من الأندلس والمغرب باسم العنصر التي تقع يوم 24 يونيه من كل سنة. هذا،

(1/8337)

بينما انفردت الأندلس بالاحتفاء بعيد النيروز لدى اعتدال الربيع وهي تتسم بطابع فلاحي صرف.

... أما الحسبة، فنظامها واحد في شقي البحر المتوسط، المغرب والأندلس . ومسارد مصنفات الحسبة عبارة عن مدونة اقتصادية واجتماعية تغطي جانباً كبيراً من مجالات اختصاص المؤسسات الاقتصادية المعاصرة.

... فقد تواكبت منذ العهد الموحدي بين العدوتين صناعة الورق في شاطبة وسبتة وفاس حيث تجمعت في مصانع الورق في العاصمة الإدريسية وحدها في القرن السابع الهجري أربعمائة رحى.

(1/8338)

... وكانت العدوتان تهتمان بالإحصاءات العمرانية والتجارية حيث أحصى ابن أبي عامر عن قرطبة وأرباضها 213.077 دار شعبية و 60.300 دار لرجال المخزن أو البلاط و 80.455 دكانٍ دون المصاري (العليات) والحمامات والحانات. كما أحصى الناصر والمنتصر الموحديان في فاس اثني عشر معملاً لتذويب الحديد والنحاس وأحد عشر مصنعاً للزجاج بالإضافة إلى 3094 دار للنسيج و 47 مصنعاً

للصابون و86 مدبغة و116 مصبغة و1170 مخبزة و180 معملٍ للخزف و 12 مصنعاً للحدائد والنحاسيات و 135 فرنٍ للجير، إلخ(1).

__________

(1) روض القرطاس، ص. 81.

(1/8339)

... وهذه الفسيفساء، من المجالي الحضارية المتواكبة، قد ازدادت رونقاً وجاذبية في أصالتها العربية بفضل تنوع النماذج واختلاف بعضها في الجهات المختلفة في العدوتين. فقد استعمل الأندلسيون مثلاً في المناطق الحضرية والسهلية القلنسوة العربية، في حين غلبت العمامة البربرية في الجبال(1).

... كما كانت المباراة الشعرية تنظم بأسواق فاس آخر أيام المرينيين حسبما شهد بذلك رحالة أجنبي زار المغرب في ذلك العهد. وكان هذا النوع من المباراة شيئاً مألوفاً معتاداً

__________

(1) نفح الطيب، ج 1، ص. 137، نقلاً عن ابن سعيد المغربي.

(1/8340)

في الأندلس. وقد أشرنا في كتابنا "موسوعة الأعلام الحضارية والبشرية في المغرب الأقصى" إلى العديد من كتب الأدب والعلوم الإسلامية الأصيلة التي دخلت من المشرق إلى المغرب عن طريق الأندلس.

... فقد اصطبغت معظم كبريات المدن المغربية بالميسم الشرقي حتى شبه المؤرخون فاساً بدمشق والرباط بالإسكندرية ومراكش ببغداد. ومدينة حمص، أحد أرباض فاس الجديد، هي عبارة عن قصبة أسست للرماة الغز الواردين من مدينة حمص السورية.

(1/8341)

... وظل التبادل المباشر بين الشام والمغرب موصولاً من القرن الهجري الأول إلى القرن الحادي العاشر الهجري.

... ففي الوقت الذي كان الأسطول المرابطي في القرن الخامس الهجري يمخر عباب مياه الشام دفاعاً عن حوزة فلسطين (كما يؤكد ذلك ألفونس السابع ملك قشتالة، كانت مآت الأسر المغربية قد انتقلت إلى جوار بيت المقدس لمقاومة الصليبية المعززة بوقف أبي مدين الغوث. وقد تزايدت هذه الأعداد عبر العصور إلى أن وصلت هذا القرن إلى خمسة آلاف عائلة هاجرت إلى الشام أرض الله وبيت المقدس.

(1/8342)

... ولما توحدت مصر والشام والقدس تحت راية الأيوبيين عام 583 هـ، انقض عليها المسيحيون من كل جهة؛ وتتابعت أساطيلهم لاعتراض الأسطول الأيوبي الرابض بالإسكندرية. واستصرخ صلاح الدين بالمنصور الموحدي طالباً إعانته بالأسطول المغربي الذي كان آنذاك أول أسطول في البحر المتوسط ـ بمنازلة عكا وصور وطرابلس ودمشق. وأوفد إلى مراكش أبا الحرث عبد الرحمن ابن منقذ الشامي، فأمدَّه السلطان بمائة وثمانين قطعة من الأسطول المغربي.

(1/8343)

... وكان ليوسف بن عبد المومن ولع بجمع الكتب. فأسس مكتبة(1) ضاهت مكتبة الخليفة الأموي الحكم الثاني التي احتوت على ستمائة ألف مجلد. وقد لاحظ المؤرخ جيبون أن الإفرنج نهبوا مكتبة طرابلس الشام أثناء الحروب الصليبية، وكان فيها ثلاثة ملايين مجلد.

... وقد تواردت على المغرب في مختلف العصور أفواج من علماء الشام مثل محمد بن عبد الوهاب الدمشقي الحنبلي تلميذ ابن الجوزي (المتوفى عام 657 هـ) (2)

__________

(1) المراكشي، المعجب، ص. 145؛ كوستاف لوبون، حضارة العرب، ص. 468.

(2) عباس بن إبراهيم المراكشي، الإعلام، ج 3، ص. 148؛ سلوة الأنفاس، ج 3، ص. 267.

(1/8344)

، ومحمد بن عامر الحمصي الذي تنقل بين حلب والشام وفاس حيث توفي عام 570 هـ، وأحمد الحلبي الذي استوطن فاسا وهو صاحب "الدر النفيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس".

... كما هاجر إلى الشام فلول من علماء المغرب أمثال ابن رشيد الذي أخذ بدمشق عن الحراني وابن عساكر (توفي بفاس عام 721 هـ)، ومحمد بن قاسم التميمي الفاسي (المتوفى عام 604 هـ)، وجمال الدين محمد بن أبي بكر البغدادي وأصله من القصر الكبير بالمغرب (توفي عام 663 هـ)، ومحمد بن المنذر المراكشي نزيل حلب (ت 628 هـ)، ومحمد بن الخضار السبتي الذي تتلمذ على

(1/8345)

ابن الصلاح بدمشق عام 634 هـ(1)، وعلي بن ميمون الحسني الفاسي الذي توفي بالشام(2)، وعلي الحراني الذي ولد بمراكش وتوفي بالشام عام 637 هـ، ومحمد بن علي المراكشي السلوي الذي درس بحماه ودمشق وتوفي بمراكش عام 671 هـ (3)، وتاج الدين محمد بن إبراهيم المراكشي الذي ولي تدريس "المسرورية" بدمشق (ت 752 هـ)، وسالم بن إبراهيم الصنهاجي الدمشقي شيخ المدرسة الشرابيشية المولود عام

__________

(1) درة الحجال، ص. 282.

(2) ابن عساكر، دوحة الناشر، ص. 25؛ السوداني، نيل الابتهاج، ص. 187.

(3) عباس المراكشي، الإعلام، ج 3، ص. 248.

(1/8346)

777 هـ، وقاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المريني، وشمس الدين السلاوي دفين الصالحية(1)، وأحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن رضوان الدمشقي وقيل بن أحمد بن محمد بن عمر السلاوي الذي توفي بدمشق عام (813 هـ/ 1410 م)، وهو آخر من بقي من طلبة الشافعية. وإبراهيم بن محمد بن علي التادلي برهان الدين الدمشقي المتوفى عام 803 هـ/ 1451 م قاضي المالكية بدمشق وقاضي حلب، أصله من تادلة المغرب. (شذرات الذهب، ج 7، ص 22).

__________

(1) عبد القادر النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص. 23 و 109.

(1/8347)

... وقد أتحفنا أحمد بن محمد بكتاب قيم هو "عرف النشق في أخبار دمشق" (المقري، نفح الطيب). وقد ذكر محمد بن عبد الرحمن الفاسي في "فهرستـ"ـه أنه دفن بدمشق ("نشر المثاني"). ويقول غيره أنه دفين مصر.

... وقد ذكر ابن جبير في "رحلتـ"ـه لدى زيارته عام 581 هـ لدمشق (نشرة حسين نصار، القاهرة، 1955) حب أهل دمشق للمغاربة. فكانت للطلبة زاوية في الجامع الأموي يتعلمون فيها وتجرى عليهم الأموال (ص. 274)، وأنه شاهد رجلاً من بقية المرابطين أميناً للربوة، وهي ضاحية جميلة من ضواحي دمشق له مكانة عند السلطان يؤوي أهل

(1/8348)

المغرب ويسبب لهم وجوه المعايش (ص. 266). وأحسن الدماشقة الظن بالمغاربة ”لأنه علا لهم بهذا البلد صيت في الأمانة وطار لهم فيها ذكر“. وذكر أن نور الدين عين للمغاربة الغرباء زاوية المالكية بالجامع، ووقف عليها أوقافاً. وكان هذا الوقف يغل في العام 500 دينار (ص. 274). ويلح ابن جبير في هذا الإكرام الذي هو ضد ما اعتدنا في المغرب (ص. 275). وكان المشارقة ينسبون المغاربة للبخل والحمق، حتى أن الذهبي عندما ترجم لابن مالك النحوي قال فيه: ”خالف المغاربة في حسن الخلق والسخاء والمذهب“ (شذرات الذهب، ج 5، ص. 339)،

(1/8349)

وكان ابن مالك شافعياً. وذكر عنهم ابن سعيد: ”وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال“. فلذلك قد ينسبون للبخل (المقري، ج 1، ص. 208).

... ووصف ابن بطوطة حسن ظن الدماشقة بالمغاربة، فقال:

... ”وأهل دمشق يحسنون الظن بالمغاربة ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد... وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لابد أن يأتي له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية ”أو حراسة بستان أو أمانة

(1/8350)

طاحون أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح. ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة، وجد الإعانة التامة على ذلك..“.

... ... ... ... ... ... (الرحلة، ص. 63).

... وقد كتب ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري وصفاً مقتضباً لما شاهده في دمشق حيث توافرت الملاجئ والهيآت الخيرية. فكانت هنالك أوقاف لتجهيز الفتيات المعوزات إلى أزواجهن وأخرى لفكاك الأسرى وإسعاف أبناء السبيل وأوقاف لرصف الطرق لأن أزقة دمشق كان لكل منها آنذاك رصيفان في جنبيها يمر عليهما الراجلون ويمر الركبان بين ذلك. وكان بدمشق أيضاً وقف

(1/8351)

الأواني المكسرة. وقد عرف المغرب كل تلك الأنواع من الأوقاف، بالإضافة إلى وقف آخر خاص بإطعام الطيور.

... كما أشار ابن بطوطة إلى نماذج من الصناعات الرقيقة في بعلبك كالملاعق والصحاف التي يتداخل بعضها في جوف بعض في عشاريات تغشى في خروز من جلد وقاية لها.

... ذكر المحبي في "خلاصة الأثر" (ج 1، طبعة مصر، 1284 هـ، ص. 302)، في ترجمة المقري الذي زار دمشق عام 1037 وأملى "صحيح البخاري" بجامعها الأموي تحت قبة النسر بعد الصبح قال: ”ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين على دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال

(1/8352)

الناس“.

... ولعل ما لاحظه المقري وقبله ابن خلدون من فروق بين المشرق والمغرب في الاتجاهات الفكرية والمناهج العقلية قد ظل على ما كان عليه؛ إذ بينما كان الشرق مطبوعاً بالعمق في ملكة العلوم النظرية طفق المغرب يوغل في البحث اللفظي مع تحقيق مناط ما احتوت عليه بواطن الأبواب وتصحيح الروايات وبيان وجوه الاحتمالات والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب واختلاف المقالات مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار. وبينما غلب على تآليف المشارقة الإيجاز (عدا البعض كالغزالي والفخر الرازي) مع انحصار في الموضوع

(1/8353)

سواء في التصنيف أو في التدريس، نجد المغاربة من القيروان إلى القرويين يوغلون في الاستطراد. إلا أن الأمر لم يبلغ الحد الذي زعمه ابن خلدون في المائة الثامنة من انقطاع ملكة التعليم على طريق النظار.

... إذ ذلك يناقض ما ذكره علي بن ميمون الحسني الذي عاش فترة طويلة في دمشق حيث قال في خصوص فاس:

... ما رأيت مثلها ومثل علمائها في حفظ ظاهر الشرع العزيز بالقول والفعل، وغزارة الحفظ لنصوص إمامهم الإمام مالك، وحفظ سائر العلوم الظاهرة من الفقه والحديث والتفسير، وحفظ نصوص كل علم مثل النحو والفرائض والحساب…

(1/8354)

والمنطق والطب وسائر العلوم العقلية… ما رأيت مثل علمائها في سائر مدن المغرب… ولا إقليم الشام(1).

... ومهما يكن، فإن احتكاك الشاميين والمغاربة طوال أزيد من ألف عام بالأندلس بالإضافة إلى التبادل الحضاري القديم جعل لهجتي الشام والمغرب من أفصح اللهجات العربية. وقد تحدث الأستاذ كرد علي عن "عجائب اللهجات"(2) فقال: ”لعل الدخيل كان نادراً في أرض الأندلس لأن الأمويين توخوا الوحدة في كل شيء“ إلى أن قال: ”وكانت اللهجة

__________

(1) سلوة الأنفاس، ج 1، ص. 74.

(2) مجلة مجمع اللغة العربية، ج 7، عام 1953، ص. 128

(1/8355)

الأندلسية من أجمل اللهجات نقلها أهلها بعد الجلاء إلى البلاد التي نزلوها: مراكش والجزائر وتونس ومصر والشام“. ولعلها كانت لقربها من الفصحى أشبه بلهجات اليمن والحجاز والأندلس استعملت ألفاظاً فصيحة ما استعملها العراق ومصر والشام. وقد لاحظ "لوري برونو" (Brunot) في تحليله لكتاب حول اللهجة العامية في طرابلس الشام(1) أن اللهجة الطرابلسية الشامية أقرب إلى الفصحى من المغربية، لأنها تترك باب القياس مفتوحاً على مصراعيه ولها نزوع إلى التسهيل والتبسيط وحذف ما ليس له فائدة محققة في

__________

(1) صدر بباريس عام 1954.

(1/8356)

التعبير عن الفكر والعاطفة. وهي نظرية لها ما يؤيدها، وإن كان في العامية المغربية ـ كما أبرزنا ذلك في كتابنا" نحو تفصيح العامية"(1) ـ ما يشهد لهذه أيضاً بهذه الأصالة. وقد استعرضنا في بحث بعنوان "مظاهر الوحدة والاختلاف في عاميتي المغرب والشام" مثل سقوط الهمزة في الأفعال "ضرب" بدل "أضرب" و"راس" بدل "رأس" و"وضو" بدل "وضوء"، وإضافة ياء في مثل "دواة" (دوايا) وإسقاط تاء التأنيث في "مكتبه" بدل "مكتبة"، وقلب الواو المتطرفة إلى ضمة بعد حرف ساكن،

__________

(1) طبعة مكتب تنسيق التعريب، مطبعة فضالة، المحمدية، 1972.

(1/8357)

وتحويل الواو الساكنة بعد فتحة إلى حرف مثل "تُوفيق" (بضم التاء) بدل "تَوفيق"، وكذلك قلب الياء المتطرفة في اللفظ إلى كسرة بعد حرف ساكن مثل "مشى" تلفظ "مْشَ"، مع تسكين الحرف الأول. أضف إلى ذلك عملية قلب الحركات أو إلغائها، إلخ.

... وقد انتقلت إلى المغرب من الشام مصطلحات رومية قليلة كالبستان والقسطاس والبطاقة والأسطرلاب والقنطار والقرمود والترياق والقنطرة والقيطون.

... وختاماً، كان لمهاجري الشام والأندلس والمغرب إلى أمريكا الجنوبية أثر مشترك يتجلى في الشبه الوثيق بين الطرفين في ميدان الهندسة

(1/8358)

المعمارية ووحدة أساليب البناء في الكنائس والأديرة والمنازل والحمامات، بالإضافة إلى تأثر المصطلح اللغوي الأمريكي بالمفردات العربية خاصة في المياه والسقي والري وأسماء الأزهار والنباتات العطرية، بل وحتى موضة النساء في الحلي والمصوغات.

... وهكذا يتجلى من هذه العجالة تواكب الحضارتين الشامية والمغربية منذ آلاف السنين حيث تطعمت عبر العصور بسمات جديدة بلورت وحدتها.

... ... ... ... ...

(1/8359)

جامع الزيتونة أهمّ معالم مدينة تونس الأثرية والتاريخية

... ... ... ... ... الدكتور محمد الباجي بن مامي

... ... ... ... ... المعهد الوطني للتراث ـ تونس

... ”وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأتقنها وأكثرها إشراقاً“ (العبدري الحيحي (688 هـ/ 1289 م))

... ارتبط تاريخ جامع الزيتونة بمدينة تونس ارتباطاً عضوياً، وهو ثاني جوامع المغرب الإسلامي. فبعد مدينة القيران وجامعها الذي أسسه عقبة بن نافع سنة 50 للهجرة، أتى دور مدينة تونس سنة 79 هـ/ 698 م.

(1/8360)

... فبسقوط قرطاجة العظيمة، ومسح القائد حسّان بن النعمان لرسومها، ظهرت للوجود بالقرب منها مدينة جديدة كتب لها أن تخلف جارتها نهائياً، وأن تصبح عاصمة للبلاد التونسية. وكان اختيار حسّان ابن النعمان لموقعها ناتجاً عن عوامل استراتيجية مرتبطة بالحضور البيزنطي في مياه البحر الأبيض المتوسط، خاصّة وأن أطماعهم في منطقة دحروا عنها منذ عهد قريب ما زالت متأججة.

... وبالرغم من أن المصادر التي سبقت الفترة الإسلامية تذكر أن تونس كانت قرية بربرية ليس لها أهمية تذكر لوجود قرطاج بقرب منها، فإن الحفريات أثبتت عكس

(1/8361)

ذلك.

... ومع الفتح الإسلامي، تغيرت المعطيات، وأصبح من الضروري أن يكون خط المواجهة من الداخل، خاصة وأن البحرية لم تكن تضاهي آنذاك الأسطول البيزنطي.

... هكذا إذن أسّس حسان بن النعمان تونس بين سنتي 79 هـ/ 698 م و84 هـ/ 704 م، فاختطّ هذا القائد الفاتح المدينة الجديدة، بطريقة ذكية. إذ جعل فيها إضافة إلى الصناعة، مسجداً ذكره البكري، إلا أنه لا يفيدنا إن كان هو الجامع الأعظم الحالي. ويؤكد ابن الشباط والرقيق القيرواني أن عبيد الله بن الحبحاب هو المؤسس للجامع سنة 114 هـ/ 732 م. أما ابن عذاري، فيذهب إلى

(1/8362)

أن تاريخ التأسيس يعود إلى سنة 116 هـ/ 734 م. لكن هل يمكن الاعتقاد أن المسلمين بقوا طوال ثلاثين سنة من غير جامع يؤمّونه ويصلون فيه؟ وهكذا من الممكن تصور أن عبيد الله بن الحبحاب قام بتوسيع الجامع وإضافة بعض الزيادات فيه، لكن من الراجح أن حسان بن النعمان لم يبن جامعاً؛ بل استعمل معلماً قديماً وجعل منه مسجده.

... إذ أن بعض العناصر المعمارية تجعلنا نفترض أن جامع الزيتونة ببعض مكوناته الحالية يرجع إلى الفترات التي سبقت دخول المسلمين الفاتحين، وهذا اعتماداً على بعض النقاط، خاصة منها:

(1/8363)

... 1) أولاً وبالذات نلاحظ أن لأقسام من الجدران السميكة التي تحيط بالجامع من الخارج نمطاً يختلف تماماً عما عهدناه في العمارة الإسلامية بصفة عامة لا في مدينة تونس فقط، بل في البلاد التونسية وما جاورها. فتتكون هذه الأقسام من حجارة ضخمة استعملت في المعالم الراجعة للفترة الرومانية ثم البيزنطية، لكن يمكن الافتراض أن حساناً أو ابن الحبحاب أعاد استعمال حجارة كانت موجودة في بعض المعالم الرومانية أو البيزنطية؟ وهذا النمط من العمارة نفسه نلاحظه في جامع القصر: فقبل أن يستغل آل خراسان هذا المعلم ليصبح

(1/8364)

جامعاً، أمكن التأكد من أنه كان معلماً دفاعياً يرجع حسب ما توصلنا إليه إلى الفترة البيزنطية، إذ رمم المعهد القومي للآثار والفنون هذا الجامع في بداية الثمانينيّات ولا حظنا آنذاك ضخامة سمك جدار القبلة الذي يبلغ 2,20 م. لذلك أجري سبر أول أمام المحراب، مما أثبت أنه محفور مباشرة في جدار القبلة، مما دفع لمواصلة فتح أسبار أخرى (عددها سبعة) في كامل أنحاء المعلم. ووضحت هذه الأسبار عن طريق اللّقى الأثرية وكذلك عن طريق وجود جدران ما زالت قائمة الذات وبعض الأسس والأرضيات، إلخ. أن المعلم يرجع إلى الفترات

(1/8365)

السابقة لدخول المسلمين الفاتحين، وتيقّنا من أن الخراسانيين استغنوا عن السقف الأصلي للمعلم، وعن عقوده التي عثرنا على أقسام منها تحت سطح الأرض. وبعد إعادة بناء السقف، بقيت الجدران على حالها بمكوناتها وبسمكها الذي كانت عليه خلال الفترة البيزنطية، وهي مشابهة في نمطها وفي ضخامتها لبعض الأقسام التي ذكرناها بعد بالجامع الأعظم. وهكذا تكاد تستقل الجدران الخارجية عن بقية عناصر المعلم، وهي تبدو للناظر كأنها ”أسوار قلعة“.

(1/8366)

... 2) يبعث تصميم بيت الصلاة نفسه على الاستغراب. فالبلاطات تأخذ اتجاهاً منحرفاً بالنسبة إلى الجدارين الشرقي والغربي اللذين يحددان هذه البلاطات. فلو بني بيت الصلاة خلال الفترة المتراوحة بين 248 هـ/ 863 م و250 هـ/ 864 م، لاختير تصميم مخالف يجعل من البلاطات والمسكبات تأخذ اتجاهاً موازياً للجدارين الخارجيين، وهو ما يجعلنا نرجح أن هذه الجدران كانت موجودة قبل اتخاذ المعلم جامعاً لمدينة تونس، وأن المسكبات والبلاطات أضيفت خلال الأعمال الأغلبية بالجامع، وهي المنسوبة للمستعين بالله العباسي والراجعة لسنة

(1/8367)

250 هـ/ 864 م والتي أخذ خلالها الجامع شكله ومساحته الحاليين.

... وهكذا تبدو العناصر الداخلية الموجودة بقاعة الصلاة كأنها محشورة حشراً داخل الجدران الخارجية؛ كما أن انحراف اتجاه القبلة يعتبر انحرافاً هاماً بالنسبة إلى بقية الجوامع الأخرى، وربما يمكن تفسيره بوجود جدار القبلة قبل تأسيس الجامع؟ ومن الأكيد أن الأغالبة عند إعادتهم بناء الجامع لم يحاولوا تغيير اتجاه القبلة بالرغم من علمهم بانحرافه الهام عن الاتجاه الصحيح، إذ أن إدخالهم أي تغيير كان من الممكن أن ينتج عنه تحويرات هامة في طبيعة البناء.

(1/8368)

... إضافة إلى هذا، فقد وصلتنا العديد من الروايات والأساطير حول تأسيس الجامع وإقامته في هذا المكان، من بينها خاصة تلك الرواية التي وردت في "المؤنس" لابن أبي دينار والتي تخص الراهب ترشيش الذي كان مقيماً في المكان الذي أقيمت عليه الزيتونة، وهو الذي دلّ المسلمين الفاتحين ليقيموا عليه جامعهم بعد أن حماه قبل وصولهم من أيّ تدنيس، هذا إضافة إلى اكتشافات المعهد الوطني للتراث بإشراف الأستاذ حامد العجابي التي تعود إلى سنة 1972، والتي حصلت في القسم الشرقي للجامع، حيث عثر على مقبرة مسيحية ترجع إلى القرن

(1/8369)

الرابع الميلادي. كما يؤكد عالم الآثار الفرنسي كوكلر (P. Gauckler ) أنه شاهد بقايا كنيسة رومانية توجد تحت مكان المئذنة الحالية. وقد توصل إلى ذلك عندما حصل تهديم صومعة الجامع الراجعة للفترة المرادية. وقد تم ذلك خلال سنة 1312 هـ/ 1894 م، وهي ربما أدلة على ارتباط هذا الجامع بأحد البناءات القديمة التي نرجح أنها كانت مبنى دفاعيّاً، إذ أن الجامع مرتفع وكان مطلاًّ على البحر من قسمه الشرقي، فيؤكد أبو عبيد الله البكري في مؤلفه "المسالك والممالك" أن الجالس داخل الجامع كان بإمكانه مشاهدة السفن بالبحر. لهذا

(1/8370)

كان الجدار الشرقي للجامع أهم النقاط التي يمكن عن طريقها مراقبة حركات أساطيل الأعداء، ويمكن الافتراض أن حسانا بن النعمان نفسه هو الذي بنى برجي المراقبة الموجودين حالياً بكل من الزاويتين: الشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية. كما يذكّر قسم من الجدار الشرقي بجدران الحصون والأربطة بصفة عامة؛ فحجارته السميكة تؤكد هذا الدور الدفاعي، وربما يمكن تفسير استغناء الجامع عن المئذنة حتى نهاية العهد الحفصي بوجود هذين البرجين اللذين كان يتم الأذان انطلاقاً منهما. وهكذا، فإنه يمكن اعتبار الزيتونة معلماً محصّناً

(1/8371)

ومدعماً ببرجي المراقبة، مما يدل على أن الجامع كان يحمي المدينة من هجمات الأعداء، ويضم المصلين والمدافعين على حد سواء.

... لذلك من الراجح أن حسانا بن النعمان لم يبن جامعاً، بل استعمل معلماً قديماً، وجعل منه مسجده، مثلما حصل في بعض الجوامع الأخرى كجامع دمشق وجامع قرطبة. وهكذا من الممكن أنه استغل معلماً دفاعياً أو كنيسة، ولم يشيد جامعاً، وأن بن الحبحاب وسّع بيت الصلاة؟

... يكوّن إذن تأسيس جامع الزيتونة نقطة استفهام أساسية لمعرفة تاريخ إنشاء المدينة وتاريخها، ويبقى الرد ـ مثلما أكده الدكتور محمد

(1/8372)

العزيز بن عاشور في كتابه: "جامع الزيتونة. المعلم ورجاله" ـ مرتبطاً باكتشافات أثرية جديدة يمكن أن توضح ما غمض من هذه الناحية. وقد أكدت أهمية هذا المعلم، لأنه بقي على مر التاريخ العنصر الأساسي المؤثر في بقية جوامع المدينة.

... وعلى الرغم من هذه الافتراضات، فإننا نجهل كل الجهل ما قام به حسان بن النعمان أو ما بناه عبيد الله بن الحبحاب، إذ لم تصلنا أية معلومات أو أي أثر عنها.

... من أول المؤرخين الذين اهتموا بهذا المعلم: الدكتور أحمد فكري في كتابه "مسجد الزيتونة الجامع في تونس" (القاهرة، دار المعارف

(1/8373)

بمصر، سنة 1953). وقد أكد في بحثه أهمية الجامع وأنه من أثرى المعالم العربية الإسلامية على الإطلاق، فهو يعد من بين الأربعة الجوامع الأكثر قدماً في العالم الإسلامي، أي جامع القيروان وجامع دمشق وجامع قرطبة. أما المعالم الإسلامية التي سبقتها زمنياً، فإما اندثرت (كجامع سامراء المشهور بصومتعه ”الملوية“ وجامع أبي دلف) أو أعيد بناؤها: ونذكر على سبيل المثال جامع عمرو بالفسطاط وجامع الكوفة وجامع المدينة.

... كما درس هذا الجامع لوسيان قولفان في كتابه حول العمارة الدينية الإسلامية. هذا، إضافة إلى أعمال

(1/8374)

الأستاذ سليمان مصطفى زبيس وجورج مارسيه وألكسندر ليزين…

... أما آخر الأعمال حول الزيتونة، فهي للأستاذ محمد العزيز بن عاشور والأستاذ عبد العزيز الدولاتلي.

... وهكذا، فإن الجامع يعد من المعالم التي تم الاهتمام بها اهتماماً خاصاً.

... وبالطبع، فقد حظي الجامع على مر التاريخ باحترام وإجلال سكان مدينة تونس وأهل البلاد بصفة عامة، مما دفع بكل الحكام والسلاطين إلى الاعتناء بالزيتونة أكثر من اهتمامهم بأي معلم آخر.

(1/8375)

... ومن الواضح أن القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي مثل فترة ازدهار وانتعاش اقتصادي وتطور عمراني لمدينة تونس. ولعل هذه الأسباب هي التي دفعت بأبي إبراهيم أحمد أمير الدولة الأغلبية إلى إعادة بناء الجامع. ويفيدنا النويري أنه بدأ الأشغال سنة 248 هـ/ 863 م، لكن أدركته المنية قبل الانتهاء منها سنة 249 هـ/ 864 م. فواصل هذه الأعمال أخوه زيادة الله الثاني الذي مات هو أيضاً قبل نهاية البناء سنة 250 هـ/ 864 م، وهو ربما السبب الذي دفع إلى نسبة هذه الأعمال إلى الخليفة المستعين بالله العباسي.

(1/8376)

... وهكذا اتخذ الجامع انطلاقاً من تلك الأشغال شكله ومساحته الحاليين واحتوت الزيتونة خلال تلك الفترة ستة أبواب فقط. ومن الملاحظ أنه تم بناء الجامع آنذاك بالحجارة الضخمة، بينما يرى بعض المؤرخين أن هذه الحجارة تعود إلى الفترة التي سبقت دخول المسلمين الفاتحين، وهي ربما مثلت قسماً من المعلم القديم الذي أشرنا إليه من قبل.

... وقد احتفظ الجامع بالعديد من عناصره المعمارية والزخرفية الأولى الراجعة إلى تاريخ تأسيسه، لكن لم يمنع هذا من وجود بعض أعمال الترميم والإضافات في مختلف الفترات.

(1/8377)

... ونلاحظ أن المؤسس لم يحتج إلى صنع الأعمدة (السواري) وتيجانها التي ترتكز عليها سقوف بيت الصلاة. فقد كانت المواقع الرومانية والبيزنطية تزخر بها. لهذا تم جلبها خاصة من قرطاج، وأعيد استعمالها في الجامع. وهكذا يُمثل بيت الصلاة متحفاً ثرياً جداً لتيجان الأعمدة التي يبلغ عددها ثمانين ومئة تاج. وأهم هذه التيجان المستعملة في الجامع الأعظم هي من النمط الكورنتي المعروف باستعماله لورقة الاقنثة؛ هذا، إضافة إلى النمط البيزنطي وكذلك المزدوج (الكورنتي والأيوني في آن واحد). وقد احتوت هذه القطع على أشكال

(1/8378)

حيوانية تمثل نسوراً، لكن تم محو بعض أقسامها خاصة الرؤوس والأجنحة لتنافيها مع مبادئ المذاهب السنية المحرمة لتجسيم الكائنات الحية. ومع هذه التيجان، نجد بالجامع عدداً من التيجان الإسلامية وهي تلك التي تظهر في قبتي الجامع، الأولى وهي قبة المحراب الراجعة إلى العهد الأغلبي، والثانية قبة البهو ذات النمط الزيري والمتأثرة بالفن العباسي، وكذلك التيجان ذات النمط الأندلسي بواجهة المحراب وأخرى من العهد الخراساني والحفصي ويوجد كل منهما في زاوية المحراب. كما تم الاهتمام بتوزيع الأعمدة، بصفة متناظرة، مما أضفى

(1/8379)

على بيت الصلاة الكثير من الأناقة والجمال.

... ويعتبر الجامع من أثرى المعالم الإسلامية من حيث احتواؤه على العديد من النقائش التي تمدنا بمعلومات ضافية حول مختلف أقسام المعلم.

... أول هذه النقائش تلك التي تبرز على الإفريز المحيط بقاعدة قبة المحراب والتي تمدنا بتاريخ بناء الجامع، وهي ذات خط كوفي، ونصها:

... بسم الله الرحمن الرحيم. مما أمر بعمله الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين العباسي طلب ثواب الله وابتغاء مرضاته على يدي نصير مولاه سنة خمسين ومائتين. {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط

(1/8380)

شهداء الله}. صنعه فتح الله.

... أقيمت هذه القبة على نمط قبة محراب جامع القيروان، إذ تعد هذه الأنموذج المحتذى، لكن تمثل قبة جامع الزيتونة تطوراً للعناصر الجديدة التي ظهرت أول الأمر بجامع عقبة، وهي المتمثلة في الضلوع البارزة والمقرنصات، كما نلاحظ فيها تفوقاً في البناء وتقدماً في الزخرفة، وعرفت هنا أول مرة فكرة استقلال الضلوع البارزة عن الخوذة المفصّصة، وهي تعتبر المؤثّرة في نوعية القباب ذات الضلوع المتقاطعة التي عرفناها لأول مرة بجامع قرطبة الأموي.

(1/8381)

... ونلاحظ أن طاقية القبة تستند إلى اثنين وثلاثين عموداً، كما تتخلل الأعمدة طاقات مفتوحة ومغلقة متعاقبة في المحيط الدائري لرقبة القبة. ولقاعدتها شكل مربع، تقوم على أركانه مقرنصات أربعة معقودة، تتخذ كل منها شكل قوقعة. وتنقسم القبة من الداخل إلى ثلاثة طوابق، هي صورة مطابقة للأصل لما يوجد في الخارج.

... أما قبة البهو والمجنّبات، فترجع إلى الفترة الفاطمية وهي التي أكد الدكتور أحمد فكري أنها متأثرة في زخارفها الداخلية بتأثيرات عباسية. وتمدنا نقيشة ذات خط كوفي ثبتت على إفريز بقاعدة القبة بمعلومات حول

(1/8382)

المؤسس وتاريخ البناء، ونصها:

... بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين. مما أذن الله برفعه فيسر عمله/ وأعان عليه بتوفيق على يد (فراغ) مبتغياً فيه رضى الله الكريم/ محتسباً ثوابه فتم بعون الله وتأييده في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة في بيوت آذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح فيه بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة.

... إلا أننا نلاحظ محو اسم صاحب القبة. ومن الواضح أن ذلك كان رد فعل أتباع المالكية ـ المذهب السائد آنذاك

(1/8383)

بالبلاد ـ على الشيعة الذين حكموا البلاد مدة زمنية تواصلت من أواخر القرن الثالث الهجري إلى أواسط القرن الرابع. وبعد تحولهم إلى مصر، حاول المالكية فسخ كل ما يمكن أن يذكر بحضورهم، خاصة بعد أن خرج المعز بن باديس الصنهاجي عن طاعة الدولة الفاطمية. ومن المعلوم أن أبا المنصور العزيز بالله الفاطمي تولى الحكم ابتداء من سنة 365 هـ/ 975 م إلى 386 هـ/ 996 م، وهو ما يدفعنا إلى نسبة قبة البهو إلى هذا الخليفة الفاطمي، ومن الراجح أن منصور بن بلكين بن زيري أمير صنهاجة آنذاك (373 هـ/ 983 م/ 386 هـ/ 996 م) هو الذي

(1/8384)

قام بأعمال البناء بأمر من العزيز بالله.

... كما نعثر على نقيشة تؤرخ الأعمال نفسها وتوجد على وسادتين يعلو كلاًّ منهما تاج عمود تستند إليه القبة من ناحية باب البهو.

... نص النقيشة الأولى:

... بسم الله الرحمن الرحيم/ صنعه أحمد البرجيني وأبو الثنا/ أبو عبد الله ابن القفاص وبشر بن البرجيني/ وصلى الله على محمد خاتم النبيين.

... أما نص النقيشة الثانية، فهو:

... بسم الله الرحمن الرحيم/ كان ابتداء العمل في المجنبات/ والداموس والقبة/ في شهر ربيع الأول من سنة ثمانين وثلاثمائة وتم/ جميع ذلك في جمادى

(1/8385)

الأول من سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.

وتعتبر قبة البهو أجمل القباب بالبلاد التونسية: لتناسق تخطيطها، ودقة تفاصيلها المعمارية، وتناسق نسبها وثراء زخارفها؛ وهي تتميز بظهور عنصر زخرفي جديد يتمثل في تناوب اللونين الأبيض والأحمر خاصة في العقود التي طغت على قسم من الجدران نفسها، وهي ربما من التأثيرات المصرية التي وردت على إفريقية عند انتقال الفواطم إلى القاهرة المعزّية.

... وتواصل الاهتمام بالجامع أيام دويلة بني خراسان التي حكمت مدينة تونس مدة قرن كامل (451 هـ/ 1059 م إلى 555 هـ/ 1160 م)، فأضافوا ستة

(1/8386)

أبواب جديدة للجامع وهم الذين بنوا مقصورة الإمام التي تروي الأسطورة: ”أن امرأة يهودية أسلمت، وكان مسكنها ملاصقاً المحراب، فحبّسته على الجامع، مما سمح بإضافة المقصورة“. وترجع كتابة هذه المقصورة إلى فترة أبي محمد عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، كما تثبت نقيشة ذات خط كوفي متميز أن المقصورة الشرقية أضيفت في بداية الفترة الخراسانية وأمر ببنائها القاضي عبد الرحمن بن محمد بن الولي الصالح سيدي محرز وذلك سنة 457 هـ/ 1064 م، وأضيفت أيضاً البوابة الغربية للجامع في آخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر

(1/8387)

الميلادي.

... أما الأبواب الخشبية المطلة من بيت الصلاة على الصحن، فقد أمر بصنعها السلطان أبو يحيى زكرياء المشهور باللحياني، وذلك سنة 716 هـ/ 1316 م، وهي التي تؤرخها النقيشة ذات الخط الكوفي المتأخر التي تعلو باب البهو المواجه للمحراب. ونصها:

... بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما. هذا مما أمر به الخليفة الإمام أمير المؤمنين أبو يحيى زكرياء ابن الأمراء الراشدين في شهر رمضان المعظم عام ستة عشر وسبعمائة.

(1/8388)

... ويبدو أن أول مئذنة تم بناؤها بالجامع كانت خلال الفترة الحفصية. فيذكر الزركشي في كتابه "تاريخ الدولتين" أن السلطان (أبا فارس عبد العزيز) ”أمر بعمل بيت المكتب بمجنبة الهلال جوفي جامع الزيتونة تحت الصومعة“، وتم بناء بيت الكتب سنة 822 هـ/ 1419 م. لهذا يمكن التأكد من أن الصومعة ترجع إلى فترة سبقت هذا التاريخ. ثم أمر محمد باي المرادي ببناء مئذنة أخرى سنة 1063 هـ/ 1655 م (وهو المشهور بحمودة باشا). وقد أرّخ الشريف الإدريسي هذه المنارة بقصيدة ما زلنا نعثر على نقيشتها بالجامع، لكن تداعت هذه المئذنة

(1/8389)

للسقوط فعوضت بالمئذنة الحالية خلال سنة 1312 هـ/ 1894 م، وهي متأثرة في نمطها بالمآذن الموحدية التي ما زالت بعض أمثلة منها قائمة الذات، خاصة منها ”الكتبية“ بمراكش وصومعة ”جامع حسان“ بالرباط، وكذلك ”الخيرالدا“ بإشبيلية. وأول من أدخل هذا النمط للبلاد التونسية هو أبو زكرياء الأول في جامع الحفصيين بالقصبة، وذلك خلال سنة 631 هـ/ 1233 م. وهنا من واجبنا التساؤل عن سبب عدم وجود مئذنة بالجامع خلال الفترات الإسلامية الأولى وحتى خلال العهد الحفصي الأول، وبالرغم من أنه ليس لدينا أي إجابة مقنعة، فإنه من

(1/8390)

الراجح أن وجود برجي المراقبة جعل الذين شيدوا الجامع يستغنون عن إقامة الصومعة التي تعتبر من العناصر القارة بكل جوامع الخطبة، ومن الممكن أن الآذان كان يتم انطلاقاً من فوق أحد هذين البرجين؟

... بالطبع، لم يكن دور الجامع مقتصراً على الأمور الدينية فقط، بل لعب أيضاً دوراً عملياً أساسياً. فقد كان أيضاً جامعة علمية طبقت شهرتها الآفاق.

... وقد ساد الاعتقاد عند الخاصة والعامة أن جامع الزيتونة كان مقر علم وتدريس منذ أول تأسيسه، إذ يقول حسن حسني عبد الوهاب ”إن جامع الزيتونة هو أسبق المعاهد التعليمية

(1/8391)

للعروبة مولداً وأقدمها في التاريخ عهداً، وذلك منذ سنة 120 هـ/ 737 م. وذهب مذهبه العديد من المؤرخين: فيرى محمد العنابي في تحقيقه لـ "فهرست الرصّاع" بأن علياً بن زياد وابن أشرس درّسا بجامع الزيتونة في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلاديّ وربما اعتمد في هذا على نص لأبي العرب، حيث يذكر أنه ”كان بتونس علي بن زياد وابن أشرس وابن أبي كريمة“، لكن دون التأكيد أنهم درسوا بالجامع، ولا يوجد مصدر آخر يبين بوضوح أن ابن زياد قد جلس مدرساً بالزيتونة بل كل ما نعرفه أنه كان يدرّس بمنزله، ولعله قام أيضاً بمهمة

(1/8392)

الإفتاء بالجامع؟ والراجح أن بعض المؤلفين اعتبروا أنه درّس بجامع الزيتونة، نظراً لمستواه العلمي الهام.

... نحن لا نعلم إذن بالضبط تاريخ بداية التعليم في هذا الجامع، ولا نعلم أيضاً متى أصبح فيه التعليم منظّماً. وأول نص يشير إلى التدريس بجامع الزيتونة يعود إلى سنة 603 هـ/ 1206 م. وخلاصة القول فيما يخص الدراسة بجامع الزيتونة أن هذا المعلم يرجح أن يكون قد لعب دوراً تعليمياً منذ تأسيسه، كما كان الشأن بالنسبة للمساجد الجامعة بالمدن الأخرى في المغرب العربي وفي المشرق الإسلامي، فقد جرت العدة من الأيام

(1/8393)

الأولى في الإسلام أن يتخذ من أهم جوامع المدينة مركزاً للتعليم.

... ومما يبعث على هذا الاحتمال تواجد علماء أجلاء بمدينة تونس، بداية من القرن الثاني للهجرة/ الثامن الميلادي، فيذكر أبو العرب تسعة من بينهم أهم أهل العلم والفضل والفقهاء بها، غير أن إشارات المصادر تعوزنا بالنسبة للقرون الخمسة الأولى من تاريخه. ومهما يكن من أمر، فلم تكن لجامع الزيتونة الأهمية التي أصبح عليها مع بداية العهد الحفصي. فانطلاقاً من الربع الثاني للقرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلاديّ، ازدهر التعليم بالجامع وأصبح له شأن

(1/8394)

عظيم وعرف بصفته معهداً علميّاً طبقت شهرته الآفاق وجاءه الطلبة كذلك من الناحية الغربية للبلاد ـ المغرب الأقصى والجزائر حالياً وحتى السودان. ولهذا أصبح جامع الزيتونة من أهم الجامعات العلمية بالمغرب الإسلامي.

... إلا أن الجامع عرف في القرن العاشر الهجريّ/ السادس عشر الميلاديّ، تقهقراً وانكماشاً في نشاطه العلمي نتيجة ضعف ثم سقوط الدولة الحفصية ودخول الإسبان إلى تونس، ثم أتى العثمانيون فأهملوا الجامع خلال الفترة الأولى لحكمهم. وكان ذلك ربما نتيجة لاعتماده المذهب المالكي، وهو ما يخالف المذهب الرسمي

(1/8395)

للحكام الجدد الحنفيين.

... لكن هذه الحالة لم تدم طويلاً، إذ استعاد الجامع مكانته الأولى في تونس بداية من النصف الثاني للقرن الحادي عشر الهجريّ/ السابع عشر الميلاديّ، نظراً للأهمية التي يتمتع بها المذهب المالكي، وما يتمتع به الجامع من مكانة لدى مختلف الطبقات وخاصة منها العلماء. وفي أواسط القرن الثالث عشر الهجريّ/ التاسع عشر الميلاديّ، فقدت المدارس نهائياً دورها في ميدان التعليم، ما عدا دراسة الحديث. واستقل الجامع الأعظم بكل مواد الدراسة، وتواصل التعليم فيه حتى بداية النصف الثاني للقرن العشرين.

(1/8396)

... ويبدو أنه كان للتعليم بالجامع الأعظم انطلاقاً من الفترة الحفصية حرية شبه مطلقة. فالطالب ليس مرغماً على الحضور أو الانصراف في موعد معين، وهو غير مقيد بالحضور لأستاذ دون آخر؛ فهو يحضر للشيخ الذي يعتبره أفضل من غيره، فيستطيع أن يلازمه أو أن ينتقل إلى حلقة شيخ آخر (ومن الأمثلة ملازمة البرزلي لشيخه ابن عرفة مدة أربعين سنة).

... ونتج عن هذا تكاثر عدد الطلبة في الجامع الأعظم. فعددهم فيه غير محدود، إذ كان الجامع مفتوحاً للجميع، بينما كان عدد الطلبة في المدارس محدوداً لا يمكن أن يتجاوز رقماً معيناً.

(1/8397)

ففي أكثر الأحيان يحدد منشئ المدرسة عدد الطلاب الذين يسمح بهم بالإقامة فيها، وهو يكون في أكثر الأحيان موافقاً لعدد غرفها.

... وهنا سنحاول تعرّف محتوى برامج التعليم. وأول ما يتبادر إلى الذهن هو التساؤل هل حصل تطور في محتوى هذه البرامج؟ وهل وقع تغيير في موادها عبر العصور؟

... في الحقيقة، يبدو من العسير أن نتتبَّع تطور مواد التدريس في الجامع الأعظم لقلة المصادر (التي يبرز من بينها خاصة "السنن الأبين" لابن رشيد الفهري، وكذلك "فهرست" الرصّاع، هذا إضافة لـ "مقدمة" ابن خلدون ورحلة ابن خلدون شرقاً

(1/8398)

وغرباً، وبعض الرحلات الأخرى للعبدري والقلصادي والبلوي…)، وإنما أهم ما يمكن معرفته هو برامج التعليم عامة لا تفصيلاً. لا يمكن بالطبع سرد كل المصنفات التي درست، لأنها تتفاوت في الأهمية. فمنها ما درّس باستمرار أو على الأقل خلال فترة زمنية طويلة نوعاً ما، ومنها ما لم يدرّس إلا عرضاً، حسب ما يمكن استنتاجه في المصادر.

... والملاحظ أن جل الشيوخ الذين درّسوا في الجامع الأعظم درّسوا مصنفاتهم، إلا أنها في غالب الأحيان لا تدرّس بعدهم إلا في بعض الحالات الشاذّة خاصة منها "مصنّف" ابن عرفة.

(1/8399)

... ومما نستنتجه أن جل مواد التدريس شملت المدارس والجامع الأعظم على حد سواء. فالطالب الذي يحصل على مشيخة مدرسة، بعد دراسته بالزيتونة كثيراً ما يهتم بإعادة تدريس ما قرأه من قبل. فالعديد من شيوخ المدارس كانوا يقومون بالخطة نفسها في الزيتونة أو بغيرها من الجوامع. ولهذا لا نجد ذكراً لمكان تدريس أحد المصنفات في بعض الأحيان، وإنما نستنتج أنه حصل تدريسه وشرحه بالجامع الأعظم وبغالب المدارس.

... وبالطبع، لم تكن كل المصنفات على الأهمية نفسها. فمنها التي تواصل تدريسها من غير انقطاع إلى عصرنا هذا، ومنها

(1/8400)

التي حصل فتور في تدريسها، أو انقطاع تام عن الالتجاء إليها أو النظر فيها. ويبدو أن السبب في ذلك وجود كتب لا يمكن الاستغناء عنها لأهميتها القصوى، وبقيت متداولة من غير انقطاع، وأخرى كان لها حظوة وقتيّة فقط ما فتئت أن تعدتها الأحداث، أو ظهور مؤلفات جديدة أخذت مكانها. ففي بعض الأحيان، مثلاً، يذهب طالب إلى المشرق، وعند رجوعه يدرس بدوره ما قرأه. إلا أنه في الكثير من الأحيان لا يتواصل بعده تدريس هذا المصنف. وهنا نشعر أنه كان هناك نوع من ”الموضة“. فمحتوى التعليم أيضاً يؤثر فيه مرور الزمن ويتجدد من وقت

(1/8401)

إلى آخر.

... ومن أهم ما نستطيع أن نلفت النظر إليه، أنه بداية من الفترة الحفصية، اتسمت الدراسة بالاعتناء بالشروح والحواشي والتلاخيص والمختصرات، بينما حصل إهمال جزئي للمراجع الأصلية، وهو ما يمكن استنتاجه من مجموع مصنفات المدرسة خلال هذه الفترة. وقد انتقد ابن خلدون هذه الطريقة المتّبعة في التدريس، قال:

... ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء والعلوم، يولعون بها، ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ، وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة في

(1/8402)

ذلك الفن. وصار ذلك مخلاًّ بالبلاغة وعسراً على الفهم، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطوّلة في الفنون للتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه، وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق… وهو فساد التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل.

ويوافق النص المعلومات التي أتت بها المصادر الأخرى.

... وفي أوائل العهد الحفصي، نلاحظ أن علوم القرآن من القراءات والتفاسير. وكذلك علوم الحديث كانت أهم ما يحصل درسه بالزيتونة، إذ اعتمد المذهب الموحدي على هذين العلمين في الدراسة؛ لكن

(1/8403)

عند رجوع المالكية إلى سيطرتها المطلقة، أي أواخر القرن السابع الهجريّ/ الثالث عشر الميلاديّ، أعطيت أهمية لمادة الفقه، فروعاً وأصولاً. وإلى جانب المحدثين والفقهاء، وجد أصحاب علم الكلام، كما اهتم الأساتذة بعلمي النحو والصرف. هذا، إضافة لعلم الفرائض والأدب والتاريخ والبلاغة والجدل والمنطق، وبعض العلوم الأخرى.

... ونتيجة لاستقطاب الجامع لعدد هام من الطلبة والشيوخ، ونظراً لأنه كان قبلة الجميع، أسست فيه العديد من المكتبات. فبأمر من السلطان أبي فارس عبد العزيز بنيت المقصورة الغربية قرب الصومعة، وذلك في

(1/8404)

بداية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي (822 هـ/ 1419 م)، وفي مقصورة محمد حفيد الولي الصالح سيدي محرز نفسها أمر أبو عمرو عثمان بإنشاء مكتبة سنة 854 هـ/ 1450 م، وهو السلطان نفسه الذي بنى ميضأة السلطان التابعة للجامع، ونص النقيشة التي تعلو النافذة المثناة هي: ”مما أمر به الخليفة الإمام أبو عمرو عثمان أيده الله ونصره في عام أربع وخمسين وثمان مائة في رجب“.

... وبنيت مكتبة العبدلية المنسوبة للأمير أبي عبد الله محمد في الناحية الشرقية للجامع، وتولى هذا السلطان الحكم من 899 هـ/ 1492 م إلى 932

(1/8405)

هـ/ 1525 م. إلا أن هذه المقصورة انقرضت منذ مدة قصيرة. وتعود خزائن المكتبة إلى سنة 1256 هـ/ 1840 م، التي حبّسها على الجامع أحمد باشا باي الحسيني. ووردت الختمة العظيمة التي ما زال يقرأ فيها القرآن، من الأندلس، وذلك سنة 868 هـ/ 1463 م. وقد تم ترميمها على يدي محمد باي بن حمودة باشا صاحب جامع سيدي محرز، وذلك حسب النقيشة المحلية للصندوق سنة 1084 هـ/ 1673 هـ.

... أما أحلك الفترات التي مرت بها مدينة تونس والجامع الأعظم، فقد كانت خلال الحرب الإسبانية ـ التركية؛ إذ دخل الإسبان إلى تونس سنة 941 هـ/ 1535

(1/8406)

م، وكذلك في سنة 980 هـ/ 1573 م، فنهبت خزائن الكتب ومزقت المخطوطات وحرقت، وداستها الخيل بأرجلها وأزال الجند الإسباني الخشب المكون للسقوف، للتدفئة؛ كما اقتلع هؤلاء الأعمدة المرمرية وتيجانها، وبقيت هذه الفترة في الذاكرة الشعبية كأسوإ ما حدث للجامع الأعظم، ولم ترجع الأمور إلى نصابها إلا بعد هزيمة الإسبان النهائية سنة 981 هـ/ 1574 م، فأعيدت للجامع حرمته ورمم من جديد وساهم في هذه الأعمال الشيخ صالح أبو الغيث القشاش الذي أعاد بناء السقوف سنة 1031 هـ/ 1621 هـ. وتبدو هذه الأعمال بالنسبة إلى الفترة

(1/8407)

العثمانية الأولى واضحة في بعض أقسام الجامع، خاصة بالمنبر، الذي تم ترميمه سنة 991 هـ/ 1581 م، وذلك حسب النقيشة التي تعلوه والتي تمدنا بهذا التاريخ، كما نعثر على نقيشة بمقصورة حفيد سيدي محرز نفسها التي ترجع لسنة 1005 هـ/ 1596 م، والتي تؤرخ لإنشاء الشباك المطل على داخل بيت الصلاة على يدي القائد التركي: حسين باشا.

... كما تعود النقوش الجصّية التي تحيط بالمحراب وتحلي كذلك الحدائر الموجودة فوق التيجان إلى فترة الإمام تاج العارفين البكري، وذلك سنة 1047 هـ/ 1637 م. وهو ما تفيدنا به النقيشة المطلية

(1/8408)

باللون الأخضر والمثبتة على إفريز محيط بعقود قاعدة قبّة المحراب من الداخل والخارج والتي تمدنا باسم هذه الشخصية الهامة في تاريخ الجامع. هذا، إضافة إلى أعمال الترميم التي أرختها النقيشة التي تعلو الباب الرئيس للقسم الشرقي للجامع. ونص هذه النقيشة:

... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطاهرين الطيبين وأصحابه أنجم المهتدين. مما أذن الله سبحانه وتعالى برفعه فسر عمله وأعان عليه بتوفيقه وهديه فتم بحوله وتأييده إنشاء هذه المجنبة الشرقية والزيادة

(1/8409)

المقبولة المستحسنة المرضية المحدثة بصحن الجنائز من أولها إلى آخرها وسقفها وكذلك الدّرج الطالع الكبير الملاصق للساقية والدرج الطالع الملاصق للمقصورة المولوية العثمانية وتبليط الصحن المذكور، كل ذلك بأمر الشيخ الإمام الهمام شيخ مشائخ الإسلام عمدة العلماء الأعلام وحيد دهره وفريد عصره العالم الرباني أبي عبد الله محمد تاج العارفين العثماني ونظره السديد أيّد الله ذكره وخلا ستره وكذلك أمر ـ حفظه الله تعالى ـ بإحياء السقاية المذكورة وتجديدها وتسديدها بعد إندراسها وهي التي أنشأها المرحوم برحمة الله تعالى

(1/8410)

أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز عام ثمانية وأربعين وستمائة (؟) ثم أحياها بعد ذلك المرحوم برحمة الله تعالى أمير المؤمنين أبو عمرو عثمان سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وردها لأصلها السابق سينتفع منها الفقراء والمساكين بالشرب والاستسقاء وقفاً مؤبداً جارياً كما كان حالها سابقاً. قال الله العظيم على لسان نبيه الكريم {فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم}. كل ذلك ابتغاء ثواب الله سبحانه وتعالى للمتصرفين من عباده المخلصين في جمادى الأول عام سبعة وأربعين وألف عرف الله

(1/8411)

بركته المنفق والمتسبب والساعي في شيء منه، صنعه محمد الأندلسي بن غالب.

... ومما ثبت لنا خلال أعمال سنة 1989، أن المحراب الأول للجامع يوجد خلف المحراب الحالي الذي أضيف حسب ما يبدو خلال فترة أعمال ”النّقشة حديدة“ نفسها. كما أنه من الممكن أنها ترجع إلى الفترة الخراسانية. أما اللوحة الرخامية المتصدرة لجوف المحراب، فهي ترجع للقرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وذلك عند تفاقم أمر المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وهذه اللوحة الرخامية التي كتب عليها: ”بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله محمد رسول

(1/8412)

الله والقرآن كلام الله“ تثبت موقف أهل السنة والجماعة من أزليّة القرآن.

... ومن أبرز عناصر الجامع: منبره الذي يعد ثاني أقدم المنابر في العالم الإسلامي، وهو يرجع إلى عام 250 هـ/ 864 م. وبالرغم من أنه يشبه في أغلب تفاصيله منبر جامع القيروان المؤرخ بسنة 248 هـ/ 863 م، فإنه أصغر منه حجماً، ولم يتبق من حشواته سوى ست وأربعين (23 من كل ناحية)، وهي تبرز باختلاف زخارف كل واحدة عن الأخرى والتي تتمثل في أشكال هندسية محفورة ذات مربعات ودوائر ومعيّنات، كما تحتوي على زخارف نباتية على شكل أزهار ذات أربعة فصوص

(1/8413)

وتوريقات تحيط بها، ويمثل مجموعها زخرف رشيق ومتناسق. كما لهذه الزخارف تشابه مع الزخارف الجصيّة الموجودة على لوحات مثبتة في أعلى البلاطة الرئيسة وكذلك بأعلى الرّواق الجنوبي الشرقي لبيت الصلاة.

... ويبدو تصميم الجامع متأثراً بجامع القيروان. فتخطيط هذا الجامع كان أنموذجاً محتذى لبيوت الصلاة في الكثير من المساجد سواء كان ذلك في إفريقية أو المغرب وكذلك الجزائر والأندلس. فهو شبه مربع، وتتجه العقود الحدوية الشكل في اتجاهين: فهي متعامدة مع جدار القبلة من جهة، وموازية له من جهة أخرى. وأعرض المسكبات السبع

(1/8414)

هي الممتدّة بمحاذاة جدار القبلة، كما أن بلاطة المحراب هي أعرض من بقية الأربع عشرة بلاطة التي يبلغ طول كل منها 26 متراً. وهي تكون مع أعراض المسكبات: التخطيط المتعارف عليه بشكل T اللاتينية، وهو التصميم الأكثر انتشارا بالبلاد التونسية والمتأتية أبعاده من أبعاد قبة المحراب نفسها.

... ويحتوي صحن الجامع الفسيح على مزولة شمسية تعود إلى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.

... كما اشتهر الجامع بمنشآته المائية التي توفر الماء الصالح للشراب لسكان مدينة تونس بصفة عامة، وخاصة منها المواجل المبنية تحت

(1/8415)

سطح الجامع في قسمه الشرقي، والتي درسها الدكتور عبد العزيز الدولاتلي في مؤلفه "الزيتونة. عشرة قرون من الفن المعماري التونسي"؛ كما نعلم أن السلطان المستنصر الحفصي حوّل قسماً من الماء الوارد عن طريق حنايا هادريان إلى القصبة، ومنها يتم إيصال كمية من الماء إلى الجامع الأعظم التي تزود بعض الأسبلة والسقايات المنتشرة بالجدران الخارجية للجامع. وقد بقي أثر سبيلين، الأول عن يسار المدخل الرئيس المواجه لسوق الفكّة، والثاني بالجدار الغربي، وهو مواجه مباشرة لمدخل المدرسة المرادية.

(1/8416)

... هكذا اعتبر أغلب المؤرخين للفن والعمارة الإسلاميين، الزيتونة، نتيجة لثرائها واحتفاظها بالعديد من عناصرها، من أقدم المعالم الإسلامية القائمة الذات، ومن أثراها فنّاً ومعماراً.

المصادر والمراجع

المصادر العربية

ابن أبي دينار، المونس في أخبار إفريقيا وتونس، تحقيق وتعليق محمد شمام، تونس، 1967.

ابن أبي الضياف، أحمد، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تونس، 1963 ـ 1966.

ابن خلدون، عبد الرحمن، كتاب العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، بيروت، 1992.

(1/8417)

ابن الشماع، أحمد، الأدلّة البينة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية، تحقيق عثمان الكعّاك، تونس، 1936.

ابن فضل الله العمري، مقتطف من كتاب مسالك الأمصار في ممالك الأنصار: إفريقية والمغرب والأندلس، نشر ح. ح. عبد الوهاب، مطبعة النهضة، تونس، دون تاريخ.

ابن قنفذ، الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي، تونس، 1968.

البكري، أبو عبيد الله، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب (جزء مستخرج من كتاب المسالك والممالك)، تونس، 1992.

(1/8418)

خوجة، حسين، ذيل بشائر الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق وتقديم الطاهر المعموري، تونس، 1975.

الرصّاع، أبو عبد الله محمد، فهرست الرصّاع، تحقيق وتعليق محمد العنّابي، تونس، 1967.

الزركشي، محمد، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق وتقديم الحسين اليعقوبي، تونس، 1998.

السراج، أبو عبد الله محمد، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، تونس، 1970 ـ 1978.

المراجع العربية

ابن الخوجة، محمد، تاريخ معالم التوحيد في القديم وفي الجديد، تحقيق وتقديم الجيلاني بن الحاج يحيى وحمّادي

(1/8419)

الساحلي، بيروت، 1986.

ابن عاشور، محمد العزيز، جامع الزيتونة. المعلم ورجاله، دار سراس للنشر، تونس، 1991.

ابن محمود، المختار، ”جامع الزيتونة من أقدم الكليات العلمية في العالم وأكثرها إنتاجاً“، المجلة الزيتونية، ج 2، نوفمبر 1937.

الحشايشي، محمد بن عثمان، تاريخ جامع الزيتونة، تقديم الجيلاني بن الحاج يحيى، تونس، 1974.

الدولاتلي، عبد العزيز، الزيتونة عشرة قرون من الفن المعماري التونسي، تونس، 1966.

ـ ـ ، مدينة تونس في العهد الحفصي، تونس، 1981.

زبيس، سليمان مصطفى، بيوت آذن الله أن ترفع، تونس، 1963.

(1/8420)

ـ ـ ، ديوان النقائش التونسية، تونس، 1955.

ـ ـ ، تحقيقات عن جامع الزيتونة في مدينة تونس العتيقة، تونس، 1981.

سلامة، الطيب، ”نظام التعليم الزيتوني“، ملتقى ذكرى ثلاثة عشر قرناً على تأسيس الزيتونة، تونس، 1979.

عبد الوهاب، ح. ح.، ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية، تونس، 1965 ـ 1966.

العجابي، حامد، ”اكتشافات جديدة بجامع الزيتونة“، مجلة إفريقية، عدد 7 و8.

فكري، أحمد، آثار تونس الإسلامية ومصادر الفن الإسلامي، تونس، 1949.

ـ ـ ، مسجد الزيتونة الجامع في تونس، القاهرة، 1953.

(1/8421)

المعموري، الطاهر، جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين الحفصي والتركي، تونس، 1980.

النيفر، الشاذلي، ”الزيتونة في ماضيها وحاضرها“، ملتقى ذكرى ثلاثة عشر قرناً على تأسيس الزيتونة، 1979.

المراجع الفرنسية

Brunchvig, R., La Berberie orientale sous les Hafsides, des origines à la fin du XVe , Paris, 1940-1947 .

Ferchiou, N., “ Rinceaux antiques remployés dans la Grande Mosquée de Tunis; parenté de leur style avec certains monuments de Carthage”, dans Antiquités Africaines, T. 17, 1981.

(1/8422)

Golvin, L., Essai sur l’architecture religieuse musulmane, Paris, 1970.

- - , “ Notes sur les coupoles de la grande Mosquée Az-Zaytuna

de Tunis ”, dans Revue de l’Occident Musulman et de la Méditerranée, 1966.

- - , La Mosquée.,Ses origines, sa morphologie, ses diverses fonctions, Alger, 1960.

Lezine, A., Architecture de l’Ifriquiya, recherches sur les monuments Aghlabides, Paris, 1966.

Marçais, G., L’architecture Musulmane d’Occident, Paris, 1952.

(1/8423)

Solignac, H., “ Travaux hydrauliques Hafsides à Tunis ”, extrait du 2ème Congrès de la Fédération des sociétés d’A. N.,Tlemcen, T. II, 1936.

(1/8424)

جامعة القرويين والمستقبل (نظرات في مستقبل الجامعة الإسلامية في عالم الغد)

الدكتور سعيد بنسعيد العلوي

كلية الآداب - الرباط

من الطبيعي، لا بل من الضروري، أن تعقد اليوم ندوة موضوعها "جامعة القرويين في أفق القرن الحادي والعشرين". من الضروري لأسباب تتعلق بجامعة القرويين ومستقبلها، اليوم والقرن العشرون على مشارف نهايته واليوم والبشرية منشغلة بآفاق المستقبل القريب الذي يعني الدخول في قرن جديد. ذلك أن جملة من المستلزمات والمقتضيات تجابه البشرية، فيما هي تطل على القرن الحادي والعشرين، أو لنقل إنها

(1/8425)

جملة من التحديات التي نرى إجمالها في أربع كبرى :

أ- اهتمام دول الشمال خاصة (إذ الشأن في غيرها ضعيف جدا، قليل الأثر والجدوى). بالانتظام في كيانات ومجموعات كبرى (مجموعة السبعة الكبار أو الدول الأكثر غنى من غيرها، مجموعة أوروبا العظمى، الولايات المتحدة المريكية وهي تبحث عن حلفاء أقوياء من دول جوارها، مجموعة دول جنوب شرق آسيا، سعى الصين الكبرى للخروج إلى عالم السوق والمنافسة في صيغة جديدة قوية وقادرة على المنافسة ...) فالسمة الكبرى للعصر الجديد هي سمة الكيانات والتجمعات العظمى القائمة على أسس

(1/8426)

اقتصاد السوق ومنطق القدرة على المنافسة التجارية والتفوق التكنولوجي.

ب- اتجاه إلى إحداث انقلاب تام، أو تحول كيفي شامل، في وظيفة المدرسة والجامعة والتكوين الفعال والمأمول من كل منهما (موجهاته الكبرى أو الأساس : الثورة الإعلامية، والعولمة والمنافسة الاقتصادية، والاقتراب من نموذج ثقافي شمولي).

ج- تحول في إدراك وظيفة المجتمع والمسؤوليات الموكول إليه القيام بها في الصورة الجديدة للوجود الإنساني، تحول منطقي وتغير طبيعي بل وضروري، نتيجة للتغير الحاصل في تصور الدولة (معنى ووظيفة) : وإنه من الجلي بذاته

(1/8427)

أن كل ما تتجه الدولة "المسهل" إلى التخلي عنه من وظائف وأدوار يصبح من المسؤوليات المباشرة (والعسيرة، بطبيعة الأمر) للمجتمع المدني. إنه تحول كيفي شامل، لا بل إنه انقلاب كامل في تمثل طبيعة العلاقة التي تقوم بين الدولة وبين المجتمع.

د- تغير في تصور معنى الدولة ووظيفتها المأمولة. وقد يجوز لنا إجمال ذلك المعنى وتلك الوظيفة في قولنا : إنها الدولة التي تفوم بعمل التسهيل (L'Etat facilitateur). هو عمل يتجاوز، من وجوه شتى، ما كانت اليبيرالية تحمله من شعار الدولة التي تقوم بدور الحارس الليلي (L'Etat

(1/8428)

Veilleur de nuit)، تلك التي تجعل غاية وجودها حراسة المؤسسات القانونية والاقتصادية والاجتماعية (فهي النقيض المطلق للدولة الشيوعية، بل وللدولة الاشتراكية أيضا). أما الدولة التسهيل (أو الدولة "المسهل" - مع كسر الهاء والتشديد عليها) فهي تذهب إلى أبعد مدى في التخلي عن الكثير من الوظائف "التقليدية" للدولة حتى تكون أكثر توافقا واستجابة لمنطق اقتصاد السوق والقدرة على التنافس العالمي.

هذه التحديات الأربع مترابطة فيما بينها فهي أشبه ما تكون بالشكل الهندسي الواحد أو السلسلة الواحدة المتداخلة الأطراف. في

(1/8429)

هذه السلسلة يكون لمسألة التعليم وقضية البحث العلمي ودور الجامعة مكانة خطيرة الشأن (الغاية من التكوين، كيف التكوين، آفاق التكوين، صلة الجامعة بالهوية الوطنية من جانب أول وبمقتضيات العولمة والاقتراب من النموذج الثقافي الشمولي والمهيمن من جانب ثان ...) وبإزاء كل هذه القضايا والمشكلات يعترضنا السؤال المتعلق بالمغرب : ما الشأن بالنسبة للمغرب ؟.

نترك جانبا القضايا الثلاث (الكيانات العظمى ووجوب الانتظام فيها، التغير في معنى الدولة ووظيفتها، التحول في إدراك وظيفة المجتمع)، رغم الترابط الموجود بينها

(1/8430)

وبالرغم من الصلة التي تشهدها إلى موضوعنا، ونتساءل عن الشأن بالنسبة للجامعة المغربية ومستقبل جامعة القرويين تحديدا. فأما لماذا خصصنا جامعة القرويين بالسؤال فإن ذلك لا يرجع إلى صلة الجامعة بموضوع ندوتنا فحسب بل يعود إلى الصلة الفعلية - كما يقول المناطقة - بين الجامعة العتيدة وبين والمكونات الأساس للهوية المغربية وثوابتها (الإسلام، الملكية، النسيج الاجتماعي المتماسك). وإسهامنا المتواضع في أعمال هذه الندوة المباركة نريده نظرات وأفكارا طليقة في مستقبل جامعة القرويين ومن خلاله في مستقبل الجامعة

(1/8431)

الإسلامية أو التعليم الجامعي العالي في العالم في العالم الإسلامي.

القرويين في تاريخنا السياسي والاجتماعي وفي حياتنا الروحية والثقافية :

في التاريخ المغربي، السياسي والاجتماعي والثقافي، لعبت جامعة القرويين ادوارا كبيرة حاسمة فكانت من دعامات هذه المكونات الثلاث ومما أكسبها مضامينها وأبعادها.

أ- ظلت القرويين، قرونا عديدة متصلة، المصدر الوحيد (مع استثناءات قليلة، بالنسبة لبعض المناطق في جنوب البلاد) الذي يعد المغرب بما كان في حاجة إليه من كتاب، عدول، ومحتسبين، وقضاة، وعاملين في السلك المخزني بصفة

(1/8432)

عامة. الحق أيضا أنها كانت المصدر الوحيد لتكوين "الأطر" الصغرى والمتوسطة بالنسبة للطلبة الوافدين إليها من الجزائر كما يذكر ذلك بول مارتي (Paul Marty) في دراسته الجيدة عن "جامعة القرويين"(1).

ب- مثلما كانت الجامعة العتيقة مركزا "لتكوين الأطر" الإدارية والقانونية للبلاد، كانت مصدرا لإمدادها بما تحتاجه الحياة الدينية والروحية من العلماء والمفتين كما كانت دائرة علمية

__________

(1) Paul Marty, « L’Université de Quaraouiyne », in Le Maroc de demain, Publication du Comité de l’Afrique Française, 1925, Paris.

(1/8433)

مفتوحة في وجه عموم طلاب المعرفة وعشاق الأدب ومحبي الثقافة العربية الإسلامية الرفيعة. ومن بين الكتابات والشهادات العديدة المتوافرة في هذا المضووع نقف عند محمد ابن الحسن الحجوي في فهرسته "مختصر العروة الوثقى" فنقرأ له :

"لا ريب أن انتشار العرفان في الأمة، حتى ينال حظه منها التاجر والصانع وغيرهما، عنوان ذكاء الأمة ورقي فكرها وحسن مجتمعها. ومن المعلوم أن عوام فاس أحسن فكرا

وأجود تصورا وأتم ذكاء من بعض علماء بقية المغرب لوجود نبراس عظيم يستضيئون به

(1/8434)

وهو معهد القرويين الذي طما بحر معارفه فتدفق على منتدياتها ودورها

وبساتينها - فقلما تجد مجتمعا لا يوجد فيه عالم يجتمعون عليه ويقتبسون من معلوماته"(1).

وملاحظات الحجوي هذه تجده تأكيدا لها في دراسات علماء اجتماع اشتهروا بحسن معرفتهم للمجتمع المغربي، ونذكر من بينهم جاك بيرك (Jacques Berque) في الكثير من مؤلفاته (وقد نشير من بينها إلى مجموع دراساته المنشورة تحت عنوان "المغارب بين الحربين الكبيرتين". ونذكر من بينهم أيضا باحثا إتنوغرافيا شغل منصب مدير ثانوية

__________

(1) محمد الحجوي، مختصر العروة الوثقى، ص. 19.

(1/8435)

مولاي إدريس في فاس، ثم شغل منصب مدير التعليم وكان أحد كبار منظري السياسة الاستعمارية الفرنسية في ميدان التعليم في المغرب وهو بول مارتي في دراسته التي تقدمت الإشارة إليها سابقا.

ح- أما في المجال السياسي فقد كانت لجامعة القرويين وظيفة تقليدية ودور خطير فاعل. فأولا كانت القرويين مكانا "رمزيا" لإمضاء بيعة الملوك والسلاطيين، إذ بخروج البيعة ممهورة بتوقيعات علماء القرويين يكتسب السلطان المبايع لها هيبة جليلة الوقع في النفوس ويستشعر تأييدا يوازي في تأثيره وقوته تأثير جهات أخرى عديدة مجتمعة. وثانيا

(1/8436)

كانت القرويين هي المجال الطبيعي الذي يكون فيه البت في الخطير في العديد من الأمور والقضايا التي تتعلق بالمعاهدات والعقود التي تمضيها الدولة مع دول وأجناس شتى، في شؤون تتصل بالتجارة والمبادلات الاقتصادية مع تلك الدول. ولو شئنا الاقتصار على بعض الأمثلة التي ترجع إلى التاريخ المعاصر، منذ منتصف القرن الماضي خاصة، فنحن نشير إلى استشارة الملك سيدي محمد بن عبد الرحمن لعلماء القرويين واستفتائهم من أجل معرفة رأي الشرع عندهم فيما إذا كان من الممكن قبول الصلح - بناء على شروط معروفة - الذي عرضه الإسبان من

(1/8437)

اجل الخروج من مدينة تطوان وإخلاء سبيلها سنة 1860 بعدما امتد احتلالهم لها لفترة قاربت السنة كاملة(1). كما نشير إلى استيفتاء الحسن الأول للعلماء فيما عرف بمسألة "الوسق" أو إمداد دول أوروبا بالمنتوجات الفلاحية والحيوانات في ثمانينات القرن الماضي(2)

__________

(1) انظر : نص "الاستشفاء وأجوبة العلماء المختلفة" في : محمد داود، تاريخ تطوان.

ومن أجل معرفة أفضل لكيفية الاستشارة (استشارة العلماء، والوجهاء، والأشراف، ونقباء الحرف، والتجار ...). انظر : محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث.

(2) للمزيد من الاطلاع، توضيحا لمعنى"الوسق" (=التصدير) والجدل الذي قام بين العلماء المغاربة، انظر : عبد الرحمن ابن يزيد، إتحاف أعلام الناس، مطبعة الأمنية، 1929، الرباط (الجزء الثاني).

- أبو العباس أحمد الناصري، الاستقصا في أخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، 1954، الدار البيضاء (الجزء التاسع).

(1/8438)

.

2- دور القرويين في العمل الوطني التحرري :

لم يعد الحديث عن عمل القرويين في مكافحة الاستعمار الفرنسي في حاجة إلى مزيد تأكيد، فمسألة "الظهير البربري" ودور علماء القرويين المتنورين في مقاومته قضية مشهورة معلومة اليوم. يكفي المرء أن يرجع في ذلك إلى كتابات رجال الحركة الوطنية ومذكراتهم (نذكر منها، على سبيل المثال، المرحوم إبراهيم الكتاني في كتابه : "مذكرات سجين مكافح" - حيث افاض في الحديق عن حوادث 1937 خاصة؛ والأستاذ أبا بكر القادري في كتابه "مذكراتي في الحركة الوطنية" - الجزء الأول) فضلا عن

(1/8439)

كتابات الزعيمين علال الفاسي "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" ومحمد بن الحسن الوزاني "عقيدة جهاد". عدا ما عرض له عدد من الذين أرخو للحركة الوطنية المغربية، سواء في بعض الرسائل الجامعية أو في بعض المؤلفات أو المساهمات في لقاءات علمية. غير أننا نريد، في هذا اللقاء، أن نعرض لذلك الدور كما تكشف عنه بعض النصوص التنظيمية أو التشريعية التي تتعلق بالكيفية التي كانت الإدارة الاستعمارية ترى تدبير شؤون جامعة القرويين بواسطتها.

(1/8440)

عقب أحداث 16 ماي 1930 - أو التي أعقبت هذا التاريخ بالأحرى، تاريخ صدور ما عرف ب "الظهير البربري"، أصدرت السلطات الاستعمارية الفرنسية عددا من النصوص "التنظيمية" في الفترة الممتدة بين سنة 1930، 1934، من بين تلك النصوص التي تحمل "هما أمنيا" صريحا فلا تخفي قلقها من اتصال القرويين والمنتسبين إليها بالعمل الوطني المقاوم للاستعمار نقف عند النص الصادر في سنة 1933 المتعلق، جملة وتفصيلا بتأديب المدرسين والموظفين من جهة أولى، و"تأديب" الطلبة من جهة ثانية. فنحن نقرأ من الجهة الأولى :

(1/8441)

"كل مدرس أو موظف بمسجد القرويين أو بمعهد من المعاهد العلمية المغربية

يشتغل داخل مسجد من المساجد أو زاوية من الزوايا أو خارجا عنها بإلقاء دروس أو

خطب أو تحرير مقالات أو توزيع أوراق أو منشورات من شأنها أن تهيج أفكار الطلبة

أو تلهيهم عن التعليم أو تشوش الفكر العام أو تمس بحرمة المساجد وبوقار العلم يعرض على مجلس تأديبي يمكنه أن يصدر عليه إحدى العقوبات الآتية : 1- الإنذار. 2 - تثقيف مرتبة لمدة لا تتجاوز نصف شهر. 3- تثقيفه عن وظيفة مع إسقاط مرتبه لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. 4- تنقيص مرتبه. 5- إصقاطه

(1/8442)

من مرتبته إلى أسفل منها. 6- عزله"(1).

وفي الجهة الثانية، المتعلق بالحياة الطلابية داخل الجامعة العتيقة، وبحق الطلبة في العمل السياسي خارجها نقرأ في الفصل الثاني من القانون التنظيمي المتقدم ذكره :

"كل طالب مقيد بزمام طلبة القرويين أو غيره من المعاهد المغربية يصدر منه ما ذكر في الفصل الأول من المخالفات، سواء كان ذلك داخل مسجد القرويين أو غيره من المساجد أو الزوايا أو خارجا عنها أو ينخرط في

__________

(1) انظر مجموع النصوص المشار إليها في :

عبد الرحمن ابن زيدان، الدرر الفاخرة (المطبعة الاقتصادية، 1937، الرباط)

(1/8443)

حزب من الأحزاب السياسية يعرض على امجلس التأديبي ويمكن معاقبته بإحدى العقوبات الآتية : أولا، الإنذار - ثانيا، منعه من الدخول في أي امتحان من الامتحانات عاما كاملا - ثالثا، إخراجه من القرويين أو غيره من المعاهد العلمية المغربية لمدة لا تتجاوز سنتين - رابعا، إسقاطه إسقاطا نهائيا من زمام الطلبة".

لاشك أن جامعة القرويين، شأنها في ذلك كل جامعات الدنيا ومعاهد التكوين في العهود السابقة، قد عرفت نظما وتنظيمات يكون بواسطتها البت في المنازعات بين الطلبة، وخاصة متى كانوا قاطنين بالجماعة أو قرويبين منها

(1/8444)

ومتى كانت أعدادهم مرتفعة كما يكون بواسطتها تقرير وسائل الزجر المختلفة. كما أن من الضروري لتلك الجامعات أن تقنن كيفيات النظر في الأحوال التي يكون فيها من المدرسين أو من المراقبين الإدرايين شطط في حق طالب أو مجموعة من الطلاب ... ومن المعروف أن أعرافا جامعية معلومة وآدابا في السلوك والتعامل كان يتم الرجوع إليها في تلك الأحوال. غير أن الأمر بالنسبة لجامعة القرويين في المرحلة التي نتحدث عنها قد اتصف بخاصية مزدوجة وقع فيها تداخل شديد بين الإصلاح البيداغوجي وبين القهر الاستعماري. وبقدر ما كانت النصوص

(1/8445)

التي نتحدث عنها شديدة الانتباه إلى كيفية

سير الدروس ونظام الدراسة المراقبة البيداغوجية (وهذه إصلاحات لم تكن موضع اعتراض عليها من قبل الأساتذة "المجديدن" أو القابلين لرفض إسار التقليد وقصورات عهود الانحطاط والتأخر)، بقدر ما كانت وسائل القهر الاستعماري تعمل عملها وقد بلغ الوضوح في تلك النصوص، كما أتينا بها عارية دون تعليق عليها، حد اعتبار كل خروج عن إلقاء الدروس "التقنية" عملا يدخل في باب تهييج أفكار الطلبة، وتشويش الفكر العام، والمساس بحرمة المساجد. وبنية القرويين، في المرحلة موضوع حديثنا مثلما

(1/8446)

كانت في الفترة السابقة، تجعل الدرس مفتوحا في وجه المستمعين الذين يقصدون السماع من مختلف أرجاء مدينة فاس، بل ومن خارجها. وبعض الساعات من أول الليل خاصة، كانت تجعل من القرويين أشبه شيء بالنوادي العلمية والملتقيات الأدبية ومجالس الوعظ والتهيئة كما تفيد ذلك شهادة محمد الحجوي في إحدى الفقرات المتقدمة من القسم الأول من عرضنا هذا. وفي القرويين ظهر علماء أساتذة ووعاظ كان لهم تأثيرهم القوي المباشر في إذكاء الروح الوطنية وإعلان الدعوة إلى معارضة "الظهير البربري" وتكوين ثلة من الشباب الذين سيصحبون، لاحقا،

(1/8447)

من زعماء الحركة الوطنية والرجال العاملين فيها. ففي التقاليد الثقافية المغربية لم يعرف هناك وجود حدود وفواصل بين القرويين، وما تحمله من رموز دينية وثقافية، وبين الحياة الاجتماعية والسياسية بل إن ماكان بين الجامعة العتيقة وبين تلك الحياة تكامل وتعاضد. وإذن فإن العمل الاستعماري كان شديد الاهتمام بوجوب قطع أواصر تلك الصلة وأسباب ذلك الاتصال ولذلك كان الانشغال بمسألة "إصلاح القرويين" في مقدمة انشغالات رجال الإدارة الاستعمارية والمخططين الدهاة لها. وغني عن القول إن الاستعمار الفرنسي للمغرب قد تم

(1/8448)

التمهيد له بوفرة كثيرة من الدراسات الميدانية التي تتعلق بنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومؤسسة جامعة القرويين في مقدمتها. ونحن أن بول مارتي (Paul Marty) الذي أشرنا أعلاه إلى دراسته عن جامعة القرويين والصادرة سنوات خمس قبل إعلان "الظهير البربري" تعرض لنقاش مستفيض وجدل حاد قام (واتصل، سنوات كثيرة ترقى إلى الفترة السابقة على إعلان الحماية على المغرب سنة 1912) بين مفكري الإدارة الاستعمارية الفرنسية حول ما إذا كان الأنسب، للسياسة الفرنسية والاستعمارية في المغرب أن يتم القضاء على جامعة

(1/8449)

القرويين أو تكون مساعدتها على "الموت الذاتي"، أو العمل، بالأحرى، على إدخال إصلاحات يتم التخطيط لها بدقة وتكون مراقبتها بكيفية دائمة وصارمة(1).

لكل هذه الأسباب يجد الدارس أن صراعا قويا، خفيا حينا وصريحا مكشوفا أحايين أخرى عديدة، قام واتصل بين السلطات الاستعمارية من جهة أولى وبين الملك المرحوم محمد الخامس في تنسيق وتضافر تأمين مع رجالها. والمهتمون بتاريخ المغرب المعاصر وبتاريخ الحركة الوطنية خاصة يعلمون أن محمد الخامس قد قطع زيارة رسمية

__________

(1) Paul Marty, L’Université de Quaraouiyne, ..., pp. 66-81.

(1/8450)

كان يقوم بها لمدينة فاس وأنه ارتحل عنها، فجأة ليعود إلى عاصمة المملكة يوم 10 ماي 1934 احتجاجا على تحايل الإدارة الاستعمارية ومنع جلالته من الصلاة، صلاة الجمعة، في جامعة القرويين احتجاجا بالخوف على أمن جلالة الملك وسلامته من شغب المشاغبين كما ادعت ذلك تلك الإدارة. والمهتمون يعلمون كذلك أن محمد الخامس كان يكثر من زيارة جامعة القرويين ومن الاتصال بطلبتها والاجتماع بأساتذتها تعاطفا مع العمل الوطني. من تلك الزيارات ما يتحدث عنها أبو بكر القادري في الجزء الثاني من كتابه "مذكراتي في الحركة الوطنية"

(1/8451)

حيث تستوقفنا الفقرة التالية : "... حيث طاف أرجاء القرويين وأنصت إلى علمائها في حلقات دروسهم المختلفة. فاستمع إلى درس الفقيه العالم السيد محمد العلمي في "علم التوقيت" والتنجيم (=الفلك) وإلى درس العلامة سيدي الجواد الصقلي في "مختصر خليل"، وإلى درس العلامة السيد العباس بناني في "علم الأصول". وكان جلالته - كما تحدثت عن ذلك صحيفة "المغرب" اليومية - يهتم كل الاهتمام بما يلقيه الأستاذ ويتابع طريقة إلقاء الدروس ويستفسر عن المواد المدروسة إلى غير ذلك من الملاحظات التي كان يتابعها بكامل الاهتمام. ولقد

(1/8452)

استدعى جلالته، رحمه الله، العلماء للحضور في الدار العالية ليراجع ويتباحث معهم حول النظام العلمي الجاري به العمل وضرورة مراجعته وإصلاح ما يجب إصلاحه فيه"(1).

ومن مظاهر ذلك الصراع الخفي بين محمد الخامس، رحمه الله، وبين الإدارة الفرنسية تعيينه على رأس إدارة القرويين رجلا من شباب الحركة الوطنية المغربية هو محمد الفاسي. فالمرحوم، فضلا عن انتسابه إلى التنظيم الوطني كان من الجيل الأول

__________

(1) أبو بكر القادري، مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية، مطبعة النجاح الجديدة، 1997، الدارالبيضاء، الجزء الثاني، ص. 62.

(1/8453)

من خريج جامعة الصوربون المغاربة ومن النشيطين في العمل الطلابي في جمعية طلبة شمال إفريقيا. ثم إنه، فضلا عن ذلك أيضا، كان مديرا للمدرسة المولوية الفتية التي أنشأها محمد الخامس بجوار قصره في الرباط وألحق بها ولي العهد الأمير مولاي الحسن (= جلالة الملك الحسن الثاني) وهذا يعني أنه كان مقربا منه أشد القرب، إذ كان الفاسي من أساتذة ولي العهد ورفاقه وكان محمد الخامس يكثر الذهاب إلى المدرسة المولوية وحضور العديد من الدروس فيها مطمئنا على جودة التعليم الذي يتلقاه من كان يريده رجلا للمرحلة الصعبة التي

(1/8454)

تنتظره. وإذن فقد كانت القرويين، في سياسة محمد الخامس رحمه الله، ترتبط بسياسة الإصلاح العميقة التي كان ينشدها، مثلما كانت تنتمي إلى دائرة المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي في مستوى التعليم والتكوين، وتؤكد طابع الهوية الوطنية المغربية.

3- جامعة القرويين في عهد الاستقلال :

جابهت المغرب غداة الاستقلال، شأنه الدول التي رزحت تحت نير الاستعمار، مشكلة إمداد البلاد بما يلزم من الأطر الضرورية لبناء الاستقلال وتأمينه في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والإدارية والتعليمية والاجتماعية. كانت الحاجة إلى

(1/8455)

المهندسيين والأطباء والقضاة ورجال الإدارة، في مختلف أسلاكها، ورجال التعليم، في مختلف مستويات التعليم وفي ميادينه المتعددة، إضافة إلى الإمكانيات البشرية الصغرى ... كانت الحاجة كبيرة وملحة. لذلك جعلت الحكومات المتعاقبة على الحكم في المغرب في السنوات الأولى بعد استرجاع الاستقلال من المغربة وتكوين الأطر، مع الدعوة إلى توحيد التعليم (فلا يبقى متشتتا ومتعددا ومختلفا في

برامجه وتوجيهه كان الأمر يتعلق بتعدد في الدولة الواحدة) وتعريب التعليم ... جعلت من هذه شعارلها. فكانت فكرة الجامعة المغربية وميلادها

(1/8456)

وتطورها ابتداء من السنة الموالية على

استعادة الاستقلال، أي في سنة 1957. وإذن فقد شهدت البلاد ظهورا لعدد من

المعاهد المتوسطة الصغرى والمتوسطة، ولكليات الآداب والحقوق والعلوم والطب، ثم

لمجموعة من المدارس العليا المتخصصة في تكوين الأساتذة والمهندسين (في مختلف

المجالات) والإداريين، فأخرى فعداد تقنيين ومساعدين ... وإذا كان هذا الأمر محمودا إيجابيا من اجل صيانة استقلال الدولة الحديثة العهد بالاستقلال وضروريا من أجل رفع التحدي الآخر الذي طرحه وجوب خوض معركة التنمية ومحاربة التخلف، وإذا كانت له آثاره

(1/8457)

الملموسة في إتاحة الفرص المواتية لدينامية التطور والتغيير الاجتماعي فإن انعكاساته على جامعة القرويين لم تكن كذلك، بل إن الأنسب هو الحديث عن انعكاسات سلبية على الجامعة العتيقة وعلى الأدوار التقليدية الثلاث التي رأينا، أعلاه، انها كانت لها.

فأولا، لم تعد القرويين المجال الوحيد - أو يكاد - لإمداد البلاد بما تكون في حاجة إليه من العاملين في سلك المخزن (= الدولة المغربية، في التنمية التقليدية لها - قبل الاستقلال) وإنما أصبح كل "مراكز التكوين" المتخصصة تراحمها في ذلك، بل إن مجالات عمل القرويين أخذ

(1/8458)

يضيق ويتقلص في اضطراد مع تنامي المعاهد والمدارس العليا والكليات ليصبح القضاة الشرعيون (= أي المتخصصون في قضايا الشرع الإسلامي، أو العلماء المسلمون وقد أوكل إليهم أمر القضاء) بل والعدول أيضا من خريجي هذه المعاهد "العصرية" المشار إليها. وفي كلمة واحدة فإن جامعة القرويين فقدت الكثير في الوظيفة الأولى التي كانت لها - حسب ما رأيناه في الفقرات المتقدمة -.

وثانيا، لم تعد القرويين المصدر الوحيد كذلك لتكوين العلماء القادرين على الاقتاء في الأمور الشرعية، بل إن "دار الحديث الحسنية" أخذت، بدورها، بنصيب من

(1/8459)

المسؤولية في هذا المجال الكبير ولربما كانت قدرة هذه المؤسسة الأخيرة على متابعة بعض مناحي التطور في تدريس المواد الشرعية وفي مناهجها خاصة، في مقابل عجز عن تلك المجازاة من قبل القرويين احيانا كثيرة، ربما كان لهذا الأمر تأثيره السلبي على القرويين من حيث التقليل من شأن السلطة الوحيدة المطلقة التي كانت تتمتع بها. صحيح أن هنالك كليات الشريعة، وكلية أصول الدين، وكلية اللغة العربية - وهذه المعاهد جميعها تابعة للقرويين وفروع لها ولكن "المركز" - أي الجامعة في مقرها التقليدي في مدينة فاس قد أصابه ما لم

(1/8460)

يعرض لجامعة الأزهر، على سبيل المثال، من قدرة على الحفاظ على "سلطة المركز" وأثره الحاسم في الحياة الدينية والروحية للبلاد.

وثالثا، فإن ما تحدثنا عنه من الوظيفة التقليدية لجامعة القرويين، في المجال

السياسي للبلاد، من حيث البث في الخطير من القضايا بواسطة استفتاء العلماء، فإن

التجديد الشامل في بنية الدولة، الناتج عن استعادة الاستقلال واسترجاع الحرية، والسعي الحثيث المتصل الذي أخذ به المغفور له، محمد الخامس، ومضى في أثره مع تطوير كبير له، ابنه الملك الحسن الثاني حفظه ونصره وقد أفرغ تلك الوظيفة

(1/8461)

"التقليدية" من معناها. ذلك أن إعلان الدستور والأخذ بنظام الملكية الدستورية من جهة أولى، وما كان عنه من جعل الاستيفتاء أو الاستشارة السياسية، استفتاء شعبيا مباشرا من جهة ثانية، ... كلاهما قد جعل الوظيفة التقليدية (أو الرمزية) التي تحملتها القرويين في العصور المتقدمة وظيفة خالية من المعنى وغير ذات موضوع.

جماع القول إذن إن جامعة القرويين، في ضوء ماذكرنا وبالمقارنة مع ما تحدثنا عنه من الوظائف التقليدية الثلاث التي عددنا، بين أمرين اثنين لا ثالث لهما : إما التقرير بأنها قد استوفت ما كان موكولا إليها

(1/8462)

من مهام ووظائف حاسمة، خطيرة ومباشرة في حياة الدولة والمجتمع في المغرب، قرونا عديدة ومتصلة والقول بأن استرجاع الاستقلال، ومقتضيات بناء الدولة الحديثة في المغرب، وميلاد الجامعة العصرية وما كان من غنى وتنوع وفعالية في تكوين الأطر وإعدادها في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، والتعليمية، والثقافية، والدينية، والاجتماعية ... إن هذه الأمور كلها قد نزعت من القرويين كل الوظائف التقليدية الثلاث مجتمعة وأن وجودها، وبالتالي، لم تعد له تلك الأهمية العظيمة التي كانت له عبر التاريخ الطويل والمجيد للجامعة

(1/8463)

العتيقة. وإما القول، على العكس من ذلك، بأن على المؤسسة العريقة أن تنضو عنها أثوابها القديمة كلها وأن تنهض في حلة جديدة، مناسبة لماضيها وتاريخها، وملائمة لما تقتضيه سنة التطور وتتطلبه روح العصر. وبالتالي فإن على جامعة القرويين أن تبعث بعثا جديدا يكون به التجديد في مهامها ووظائفها وفي ما تروم بلوغه من أهداف.

4- جامعة القرويين والمستقبل :

عندما يرتبط التاريخ الثقافي والحياة الروحية لأمة من الأمم بمؤسسة علمية عتيقة، على النحو الذي يجد فيه الدارس والملاحظ الارتباط والالتحام بين المغرب وبين جامعة

(1/8464)

القرويين فإنه يكون من العبث الحكم على المؤسسة العلمية، في أحوال العسر ومراحل الأزمات ووسط الأعاصير بأن الفناء يتهددها أو إن الزمن قد فعل فعله فيها فهي آيلة إلى الزوال. وإذا صح القول عن أمة من الأمم العريقة إن ما تتلقاه من صدمات وما تعترضها من سقطات وتعثرات إنما هو بمثابة المهماز الذي ينبهها وشبه الأهوال التي توقظ فيها نوازع الدفاع عن النفس وإظهار الهوية في ثوب جديد ... إذا صح هذا القول، وهو قول لا شك صحيح بشهادة التاريخ البشري ذاته، فإنه يكون صادقا في حق مؤسسة علمية لها من المعنى والدلالة

(1/8465)

بالنسبة للهوية الذاتية وللعماد الثقافي في تاريخ الأمة التي تنتسب إليها ما لجامعة القرويين من الدلالة والمعنى بالنسبة للهوية المغربية - ولا أحسب أن هذا القول في حاجة إلى مزيد تأكيل وفضل بيان.

صفوة القول إن جامعة القرويين في حاجة إلى إعادة نظر شاملة وإلى مراجعة كاملة في نظمها وبرامجها حتى يكون في وسعها أن تسترجع الصورة المشرقة التي هي جديرة بها وحتى تظل، في بنية الحضارة المغربية وفي مكونات العماد الثقافي العربي الإسلامي في المغرب، منارة شامخة لامعة وقلعة صامدة تحمل الإشعاع وتلقيه على من حولها

(1/8466)

أضواء بهية أساسها الدعوة إلى الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات والأديان. وبعبارة أخرى فإن الجامعة الإسلامية مطالبة، بل مضطرة، إلى أن تلعب دورا ليس يكون لغيرها من الكليات والمعاهد والمدارس العليا في الجامعات المغربية العصرية. ذلك هو دور الوصل والاتصال الروحي بين الأديان والثقافات، وهو دور العمل الجهدي الشاق في تصحيح ما أصابه المسخ والتشويه من صورة الإسلام عند "الغير" وعند أهل ملة الإسلام أيضا.

(1/8467)

قد يجوز إجمال القول في التنبيه إلى وجوب التفكير في إعداد أطر عليا، ومتوسطة، تملك القرويين وحدها إعدادها ... أطر يكون إعدادها، من جهتي التكوين والتدريب، باللغات الأجنبية الحية. وهكذا يكون المتخرج من الجامعة العتيقة، في صورتها المستقبلية المأمولة، متمكنا تمكنا كاملا من إحدى اللغات الأجنبية فهو خريج قسم من أقسامها (الإنجليزية، الإسبانية، الإيطالية، الفرنسية، ...) وهو قادر، بدوره على التدريس في تلك اللغة وعلى التحدث والمناظرة، بل والكتابة بها، فضلا عن اللغة العربية الأم.

(1/8468)

إنها، ولا ريب، جرأة في النظر عظيمة، بل دعوة إلى إحداث نقلة كيفية عنيفة ... ولكننا، والإيمان بجامعة القرويين ونظرنا الذي به المعول عليها في إسهام حضاري راق في عصر الاتصال وزمان العولمة واختراق الحدود التجارية والثقافية، نرى أن جرأة القول ومراجعة عاداتنا في النظر والتفكير سبيلان ناجعان من أجل العمل على إعادة الشباب واسترجاع القوة، في صورة جديدة، لجامعة عريقة يرتبط بها معنى الهوية الحضارية المغربية ويقترن بها إشعاع الحضارة الإسلامية في اجمل ألوانها وأبهى حللها وأشكالها.

(1/8469)

جذور الهيمنة على الثقافة العربية الإسلامية

... ... ... ... ... ... ...

الأستاذ سمير أحمد الشريف

الجامعة الأردنية-عمان

ليس وليد اللحظة ما يصيبنا من تراجع وانكسار وانهيار قيمي، وإنما يمتد إلى الماضي القريب، أيام لم نفهم كيف نواجه الآخر ونعد العدة لتهيئة أنفسنا ونضع الآليات التي تمكننا من الوقوف أمامه دونما ذوبان فيه أو تنكر لذاتنا.

منذ عام 1096م بدأ الانهيار عندما بدأ مدّ الحروب الصليبية بالانتشار على أثر ظهور الدولة الإِسلامية واتساعها المضطرد حتى حدود الهند والأندلس وإفريقيا، مؤسسا دولة ذات

(1/8470)

حضارة إنسانية عالمية كبرى بمعطيات عسكرية وفكرية وعددية، لم يستطع الغرب الانتظار أمامها حتى لا تضيع بلدانه وشعوبه التي لم تصلها الفتوحات الإِسلامية بعد، فاتجه (الغرب) إلى الناس يجمعهم لخوض معركة حضارية كبرى مع الإسلام الذي »يمتد بالسيف« ! ويحمله »قساوة قلوب لا يعرفون الرحمة« -حسب ادعائهم-.

حمل لواء تشويه صورة الفتوحات الإسلامية رجال الدين في بلاد الغرب وهم مصدقون فيما قالوا وافتروا. سارت جيوش السكسون والنورمانديين وغيرهم من الأشتات الذين سفحوا دماء إخوانهم في الدين دون رحمة! دون تحقيق هدف مادي

(1/8471)

يذكر، لكن إرادة الله غالبة وحكمته بالغة. فما أن انتهت سنة 1291م حتى اكتشف المقاتلون كذب ما ادعاه رهبانهم، ذلك أن اختلاطهم بالمسلمين أفرادا ومجتمعات أنار بصائرهم بوعي جديد وشك فيما يقال لهم عن قسوة المسلمين وتخلفهم. واحتاج الطرفان إلى هدنة زمنية يعيدون حساباتهم ليمر قرن ونصف القرن حتى سقوط القسطنطينية سنة 1453م بيد المسلمين بقيادة محمد الفاتح -هذا الزلزال الأكبر الذي أسبب خوف الغرب وحقده وغضبه وتحديه السافر لهذا القادم الجديد.

(1/8472)

1453 كانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة أخرى في علاقة الغرب بنا إسلاما وفكرا ودولة وأمة بعد أن اكتشف برجال دينه وقادته من أهل السياسة أن السلاح قد ثبت فشله في مواجهة الإسلام.

الوعي... المعرفة... العلم، مفاتيح اضطر الغرب إلى استخدامها للتصدي لهذا الجبار الذي انتصر بسرعة قياسية.

بدأ السؤال لدى الغرب: لماذا وكيف كان زحف الإسلام على ديارنا سريعا وسقوط أراضينا وتقبل الأعداد الغفيرة من مواطنينا لهذا الدين لدرجة أصبح معها أهل البلاد الأصليون من أشد المدافعين عن الإسلام ومن جند الإِسلام المخلصين!

(1/8473)

الأمر الذي قوض سلطات المنتفعين بالسيطرة على رقاب المساكين وجعلهم يلحون في معرفة أسباب ذلك في الوقت الذي يزداد وعي الغرب أفرادا ورؤساء بالإِسلام حضارة ودينا وأخلاقا ومعاملات، سواء من خلال الذين غزوا ديار الإسلام وأقاموا فيها ممالك وشاهدوا محاسن الإسلام عن قرب أم من خلال المحاربين الذين عادوا إلى ديارهم في نهاية كل حملة، يحدثون أهليهم بما شاهدوا.

من ركام هذا القلق الذي أصاب الغرب، ومن حلكة الظلمة التي فيها يحيا خرج رواده أمثال روجرز بيكون في إنجلترا وتوما الإِكويني في إيطاليا ومارتن لوثر في

(1/8474)

ألمانيا. درس هؤلاء أعلام النهضة والثقافة العربية الإسلامية كابن رشد وابن سينا وغيرهم، فعملوا على إيجاد لغة أوروبية واحدة تجمع شتات لهجاتهم الكثيرة التي تحول دون نشر التعليم على نطاق واسع.

دخول محمد الفاتح عاصمة الغرب الدينية كان الخطوة التي اضطرت معها أوروبا لإِعادة حساباتها والتعلم من أخطائها ومراجعة أهدافها ووسائلها. من هنا يمكننا اعتبار عام 1453 بدء النهضة الأوروبية الحديثة وبداية تراجع المد الثقافي الإِسلامي الذي استنام أصحابه لأحلام النصر وركنوا إلى الدعة والكسل وحب الدنيا حتى ركبهم

(1/8475)

الغرور.

راية محمد الفاتح إشارة من جهة أوروبا لبناء نهضتها علما وفكرا وإعادة بناء تعوض وتتجاوز ما عاشت فيه خلال عصورها المظلمة، متجهة بذلك إلى دار الإسلام، تنهل مما فيها من علوم. وكان طريقهم لذلك لغتنا العربية التي كانت لغة العالم ولغة الحضارة والمخطوطات والكتب والقوانين العلمية، ذلك من أجل ألا يكون بينهم وبين مناهل العلم العربي الإسلامي فلكا وطبا وكيمياء وغيرها أي وسيط وليكونوا على اِطلاع مباشر عليه واحتكاك لصيق به.

(1/8476)

لتحقيق ذلك أوفد عشرات الأفراد في جنبات مدننا لشراء الكتب والتلقي من العلماء ومعاشرة العامة، يدونون ما يشاهدون، ساعدهم في ذلك سماحة الإسلام وأهله وغفلة المسلمين عن تتبع خطوات الغربيين بسبب عقدة النصر فكان أولئك طلائع الاستشراق/ المصباح الذي أضاء طريق أوروبا لفهم سر تخلفها ونجاحنا وانتصاراتنا حتى تمكنوا من وضع الخطط وإعداد العدد لانطلاقة جديدة وبسلاح غير السلاح حتى تمكنوا من استعمار بلادنا بجيوشهم بعد أن دخلها مستشرقوهم فنهبوا الثروات وشتتوا العقول بالتبشير الذي اصطبغ بالعلم أحيانا والعلاج الصحي

(1/8477)

آونة والمساعدات الإنسانية في أوقات كثيرة.

أهل الاستشراق الذين ساحوا في جنبات بلادنا، لم يكن من هم لهم غير أن يدرسوا القرآن والحديث والتفسير والجغرافيا والتاريخ ليعيدوا كتابة كل ذلك بطريقة جديدة ينخدع بها أهل الغرب أنفسهم ممن بدأوا يرون في الإسلام شيئا جديدا مخالفا لما عرفوه بوساطة أعلامهم وأقوال رجال الدين منهم.

أولئك المستشرقون عكفوا لياليَ وأياما حتى يكتسبوا صيغة الموضوعية والتجرد والعلمية وبالتالي يكون إقناع أبناء جلدتهم بسلبية الإسلام والتاريخ العربي بعد أن يعلموا فيهما الخراب والتشويه، ولا

(1/8478)

يغرنك ما يقال عن أكاديميتهم وحيادهم. فمن كان يتصف بذلك ونظر إلى الإسلام بعين العالم، فعليه أن يترك ما هو عليه وينضم لركب الخالدين باعتناق هذا الدين كما فعل جارودي.

كان إجماع المستشرقين جميعا على أن يضعوا أمام الشعوب الغربية صورة مشوهة للإسلام وعلى أن أهل هذا الدين مجرد أعراب جهلة لا يجدون قوت يومهم، ما فتحوا الأمصار إلا بالسيف ودافع الجوع. أما حضارتهم، فخليط مشوه من حضارة روما وأثينا. أليس ذلك ما نجده في دراساتهم التي يدَّعون أنها موضوعية؟

(1/8479)

أهل الاستشراق لا ولن يستطيعوا خلال عشرة أعوام تعلم لغتنا وفهمنا والفهم بها. المؤسف أن أمثال هؤلاء عكفوا على تشويه صورتنا أمام الآخر فكوفئوا ليس بطباعة كتبهم المليئة بالسموم، ولكن عُينوا أعضاء في مجامعنا اللغوية وأصبحوا أساتذة يشرفون على أطروحات طلبتنا، يوجهونهم ويلقون عليهم محاضراتهم. أليس أهل الاستشراق وتلاميذهم من طلبتنا من جعلوا كتاب »الأغاني« مرجعا لفكرنا وآدابنا؟ أو ليس على أيديهم خرجت »دائرة المعارف الإسلامية« وغيرها من الموسوعات التي ما زالت طباعتها الجديدة تكرر نفس الإساءات وتبث في

(1/8480)

أذهان تلاميذنا حرية توحيد الأديان وضرورتها؟ أليست ثمار الاستشراق هي التي أوحت للمطبلين باعتبار الحملة الفرنسية على معقل الإسلام نعمة ويؤرخ بها تباشير نهضتها الحقيقية؟

طلائع الاستشراق هم الذين عبّدوا الطريق للاستعمار حتى بدأت الاختلافات تظهر بينهم طمعا في قضم دولة، ورغبةً في مد نفوذ أخرى. وكانت الهند آنذاك بؤرة الصراع، فأوجدت بريطانيا ذراعها لتمتد إلى الإسلام هناك عبر ما يسمى بشركة الهند الشرقية. وقد أدركت فرنسا اللعبة البريطانية ونيتها بالاستئثار بخيرات بلاد المسلمين فأقامت لها شركة مشابهة

(1/8481)

ظاهرها الاقتصاد وباطنها تخريب الدولة الإسلامية المشغولة بضعفها وتصديها لموجات التفتت الداخلي من أطرافها عن قصد من أجل أن تكون بعيدة عن ردع الدولة الأم وحتى يفسح المجال أمام المستعمرين ليشرِّقوا ويغرِّبوا ولتكتب الغلبَة أخيرا لبريطانيا التي استأثرت بخيرات الهند، ليبدأ امتداد أذرع الأخطبوط البريطاني في محاولة لإسكات أصوات نهضة إسلامية جديدة بدأت بالظهور في جزيرة العرب على يد محمد بن عبد الوهاب. وحتى تعوض فرنسا خسارتها في الهند، التفت إلى دول شمال إفريقيا، لتجد لها موطئ قدم ورأس حربة للتسلل إلى

(1/8482)

القلب الإسلامي، تتمركز فيه وتحول دون امتداد النور الإسلامي وإشعاعات نهضته إلى الأمصار الأخرى. وهكذا تحرك نابليون الذي حمل طموح القادة العظام فاخترق أوروبا مستهديا بإرشادات وتقارير المستشرقين يداعبه حلم القائد الذي سيكتب على يديه مأثرة إطفاء الشعلة الفكرية والحضارية التي أضاءها الإسلام الذي أقض مضجع نابليون والأوروبيين جميعا ومعوض لبعض ما لحق فرنسا من هزيمة أمام بريطانيا في الهند.

هكذا اجتاح نابليون الإسكندرية عام 1798م ثم القاهرة متقربا من المشايخ الذين أدركوا حيله فرفضوا مطالبه وما لبث أن دخل

(1/8483)

الأزهر بخيله فربطها في قبلة المسجد وكسر القناديل وحطم خزائن الطلبة وطرح المصاحف أرضا حتى عروا كل من صادفوه من ثيابه(1).

بعد أن عاث نابليون سبعة أشهر في قاهرة المعز ذعرا وتحطيما توجه إلى سوريا ثم حاصر عكا التي ردته خاسئا مضطرا إلى رفع الحصار الظالم عنها ليعود إلى القاهرة التي كانت أوضاعها الداخلية تغلي. فلم يجد أمامه إلى الهرب تاركا قائده كليبر يواجه مصيره بعد انفجار الثورة المصرية سنة 1800م. ولمدة شهر كامل جعلت كليبر يستخدم مدفعيته لإسكات الناس بتهديم

__________

(1) تأريخ الجبرتي، ج 3، أحداث 1798، ص. 26.

(1/8484)

بيوتهم ومساجدهم. وما أن هدأت أنفاسه وظن أنه انتصر على الشعب المسلم وأسكته إلى الأبد حتى لقي مصرعه على يد سليمان الحلبي في 14 حزيران سنة 1800م. وهكذا أيقن الأوروبيون عقم التحدي والمواجهة فاتخذوا لهم أساليب جديدة تناسب المرحلة فبدأ مينو خليفة كليبر يتقرب للمسلمين بإشهار إسلامه والزواج من عائلة البواب...

خرجت جيوش فرنسا من مصر حاملة جواهر المخطوطات ونفائس الكتب، يعكفون عليها لوضع خطط جديدة للهيمنة على بلاد المسلمين، وها هو القائد الفرنسي يصدر أمره بقتل خمسة من المسلمين يوميا يطاف برؤوسهم في

(1/8485)

الشوارع مخوفا الناس، ناشرا بينهم الذعر! من هم أولئك الخمسة وكيف تم اختيارهم ولماذا؟

صاحب الرأي في الاختيار كان صاحب نابليون فانتور الذي قضى أربعين عاما متجولا في بلاد المسلمين من قبل أن ينضم للحملة الفرنسية فعرف وأعوانُه علماءَ المسلمين ومناهضي حملته، فقرر أن يتخلص منهم يوميا وحسب برنامج أعد سلفا!

فانتور هذا هو الذي كتب إلى كليبر يوصيه أن يخدِّر روح التعصب وأن يحاول إسكاتها واستئصالها من خلال كسب ثقة كبار المشايخ في القاهرة وبذلك وحده يجمع كليبر حوله أفكار مصر بأجمعها، فلا شيء أقل خطرا من

(1/8486)

المشايخ وكعادة الشعوب دائما فقد رفض الشعب الاستماع لنصائح بعض العلماء الذين طالبوا بالركون للفرنسيين وأشعلوا تحت أقدامهم نيران الثورة والغضب(1). وأعاد نابليون حساباته بعد فشل سياسة استمالة رجال الدين، وها هو يشدد على كليبر في خطاب أرسله له في أن يجتهد بجمع خمسمائة شخص من المماليك ليسفَّروا إلى فرنسا في السفن التي ستظهر أمام شط الإسكندرية. فإذا لم يجد هذا العدد من المماليك، يكمل العدد من العرب والمشايخ ليحجزوا سنة أو أكثر في فرنسا يشاهدون عظمة الأمة الفرنسية

__________

(1) فتح مصر، أحمد حافظ عوض، ص. 409.

(1/8487)

ويعتادون لغتها ثم يعودون إلى مصر ويكون لفرنسا منهم حزب، وسأرسل لك فرقة فنية تمثيلية، لأنها ضرورية للجيش والبدء في تغيير تقاليد البلاد(1).

تمر أيام ليهيئ الفرنسيون مصر بمستشرقيهم وعيونهم دراسة للمجتمع لتعاود فرنسا سنة 1776م وبتحريض من تقرير دبلوماسي ألماني عمل في السلك الدبلوماسي الفرنسي، لنعرف أن الغرب هدفه واحد في النظر إلى حضارتنا، ينحصر هذا الهدف في التأكيد على أهمية اختراق مصر لأن فرنسا إن فعلت ذلك ضمنت بسط سيطرتها على دار الإسلام فتكسب بذلك عطف المسيحية وتنال إعجابها فتكون

__________

(1) المصدر نفسه.

(1/8488)

فرنسا بذلك موضع احترام كل أوروبا(1).

وجاءت سنة 1776م ليقدم لنا موفد الحكومة الفرنسية البارون دي توت تقريره إلى حكومة فرنسا يطالبها باحتلال مصر لأن تركيا في سبيلها إلى الانحلال، فأرسلته فرنسا في رحلة سنة 1777م ليدرس سواحل مصر ومواقعها ليرسل تقريرا موضحا أهمية احتلال مصر وسهولة ذلك وما ستكسبه فرنسا من حصولها على مركز مرموق في العالم أجمع.

في هذه الأثناء يقدم قنصل فرنسا في الإسكندرية تقريرا يتضمن وجهة نظره قرب انهيار تركيا، مشيرا إلى أهمية

__________

(1) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر، ص. 115.

(1/8489)

اجتياح مصر ثم تحريض القنصل العام لفرنسا بعد قيام الثورة الفرنسية. وهذه التحريضات جميعا هيأت المناخ لإنقاذ الحملة الفرنسية التي رسم الاستشراق خطوطها لمجابهة الصحوة الإسلامية سواء كانت علمية أو فكرية أو لغوية أو دينية.

أرأيت عمق الهوة بين تخطيط الغربيين لاحتلالنا وبين ما يقوله الآخرون من أن الثورة الفرنسية كانت خيراً كلها وما جاءت إلا لبث الوعي فينا! كم تحتاج الأمة لشطب ما في عقول بعض تلاميذها من صور مغلوطة؟ هل محض صدفة أن يختلف الفرنسيون والإنجليز على مصالح خاصة وينطلق كل منهما لحصاد اليقظة

(1/8490)

الإسلامية في شمال إفريقيا والجزيرة العربية؟ هل محض صدفة أن يختار قادة نابليون كل يوم خمسة يعلقونهم على المشانق ويأسرون خمسمائة مملوكي ليتعلموا عادات الفرنسيين ويكونوا عيونا لفرنسا على أهلهم بعد أن يعودوا إلى مصر! وإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا وعلى رأسها رفاعة الطهطاوي؟!...

وذهبت فرنسا وجاء محمد علي الذي وضعته الأقلام في مكانه أكبر مما يستحق وكان أميا تاجرا ذكيا ذا طموح ميكيافيلي، قادر على ركوب الموجات، وما زال يصانع المشايخ والمماليك حتى وضعوا فيه ثقتهم ورضوا به وليا، لكن عيون الاستعمار

(1/8491)

وذراع الاستشراق لم تكن بعيدة عنه، فما زالوا به حتى أوغروا صدره على المشايخ وأوقعوا بينه وبين عمر مكرم، صاحب اليد الطولى على محمد علي وبذلك كسب الاستعمار إيجاد شرخ بين ما يمكن أن يهدده لو اجتمعت الأطراف على رأي واحد.

بدأ محمد علي يستفرد بالمعارضين ويهيئ التربة بالتعاون مع الاستشراق لفصل الأزهر عن قيادة المجتمع لهدم منارات الصحوة الإسلامية على يد قائد أمي. ويكفي أن يكون الوسيلة التي أطفأ بها شعلة من شعل الصحوة في الجزيرة العرب/ دعوة محمد بن عبد الوهاب/ عندما لم تدرك تركيا حقيقة ما يريده الغربيون

(1/8492)

الذين خوفوها من المارد الذي صوروه مهددا لكيانها فتم له النصر سنة 1819م بعد أن خسرت الأمة جيشا مسلما من مصر ويقظة إسلامية كانت ستغير خارطة العالم العربي لو ظلت دعوة ابن الوهاب بعيدة عن السياسة.

بهذا نجح الاستعمار وكسب رهان فصم عرى الصحوة في مصر والجزيرة العربية اللتين سيكون لاتفاقهما معنى كبير في حسابات الغرب.

أما حكاية الاهتمام بالعلم والبعثات العلمية والتي أعطاها بعض الكتبة حيزا كبيراً، فأغلب الظن أنهم لم يقرأوا ما بين السطور ويصلوا إلى الأهداف الغربية وراء ذلك مما لم يكن لصالح الإسلام أو

(1/8493)

المسلمين. ذلك أن الغرب أراد لمحمد علي أن يكون جيشا قويا ولكن للوقوف في وجه تركيا/ عنوان المسلمين/ وأملهم والشوكة في حلق أوروبا ليصبح محمد علي شوكة في حلق الخلافة الإسلامية ووسيلة الضغط عليها بجيشه القوي المدرب.

لو كان هدف الغرب غير ذلك ولو أدرك محمد علي أبعاد المؤامرة لوظف العلم والبعثات في بناء المصانع وفتح الجامعات ولم يجعلها فقط مربوطة بالجيش. فهل التقدم العلمي يرتبط بالجيش فقط والدولة تحتاج للعلم في كل مرفق!

(1/8494)

ها هو جومار بعد أن تحقق ما أرادته فرنسا يطالب محمد علي بالسماح بإيفاد بعثات إلى فرنسا وبأعداد كبيرة حتى تدربهم وتضع عقولهم ما تريد ليكونوا حزبا لها في مصر بعد عودتهم ويمتدوا في أقطار العالم العربي. ورفاعة الطهطاوي كان واحدا ممن انبهروا بفرنسا وتدربوا على يد المستشرق دي ساسي وما أن عاد إلى مصر حتى طالب بضرورة إنشاء المسارح واختلاط البنين والبنات في التعليم واستخدام العامية في الكتابة.

رفاعة الطهطاوي الذي قال في كتابه »أنوار الجليل في أخبار مصر وتوفيق بن إسماعيل« فضل اللغة العربية ووجوب إحيائها

(1/8495)

مشيرا إلى العامية بقوله إن اللغة المتداولة في بلدة من البلاد المسماة باللغة الدارجة التي يقع فيها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع لأن تكون لها قواعد تضبطها وأصول على حسب الإمكانات تربطها ليتعارفها أهل الإِقليم حيت نفعها بالنسبة إليه عميم وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية...

وهو يعرض في كتابه »تلخيص الإبريز« ولأول مرة الوطنية البعيدة عن الفكر الإسلامي ويربطها بالأرض قائلا: »وهي تكون بين أهل الوطن على السوية، لانتفاعهم جميعا بميزة النخوة

(1/8496)

الوطنية«، ثم يشيد بالفراعنة ذاكرا فضلهم في الهمة والعمل والعلم واتساع العمران بقوله: »فمنه يعلم أنه كان بمصر إذ ذاك أحكام عادلة وقوانين مرتبة وحدود مشروعة خالية من الأغراض والنفسانيات وهي نتيجة التمدن العام حيث يستشهد بإنجازات الملك رمسيس متناسيا ربما عن عمد أية أمثلة يمكن الاستشهاد بها من التاريخ الإسلامي معتبرا هذا الرمسيس فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ويمضي في الدعوة إلى الحرية محتذيا النموذج الفرنسي الذي ترجم دستوره وإن أدرك أن الحرية الفكرية تجيز لمعتنقيها أن يخضع الدين للنقاش وما

(1/8497)

يستوجبه ذلك من إعادة النظر بعلاقة الحاكم بالمحكوم حسب إيحاءات الثورة الفرنسية وإن شدد على إيجاد تشريعات تلبي حاجة العصر وعلى رأسها الحد من تعدد الزوجات! هذه الثورة التي حج إليها الطهطاوي رفضت قبول العمال المصريين في مصانعها وأظن السبب حرص الفرنسيين الزائد على المساواة والعدل والحرية!! وذلك عندما تقدم مينو باقتراح مصنع للجوخ في القاهرة، لكن اللجنة المشرفة عارضت قبول العمالة المصرية بحجة الضرر الذي يلحق بالبضاعة الفرنسية إذا عرف المصريون أسرارها، ثم تقدم ثورة الحرية والعدل والمساواة دليلا آخر

(1/8498)

بتعذيبها سليمان الحلبي بأبشع وسائل التمثيل حيث حرقوا يده اليمنى وخوزق في الصحراء حتى أكله الطير!

كيف يمكن أن نقتنع بنوايا محمد علي الذي أوفد الطهطاوي إلى فرنسا فقال ما قال. ومحمد علي يُعتبر في نظر المُؤرخين المُنصفين ممهدا لقبول الاستعمار بأساليبه التغريبية ا لتي قام بها بمباركة من تلك الفئة القليلة الذين اعتبروه باني النهضة الحديثة.

هذه الروح التغريبية والتخريبية لم يتقبلها الذوق العام ولم تنطل أساليبها على الواعين من أمة ذلك الزمان. فلم يقبلوا بالاستعمار الغربي بالرغم من المهدئات التي حاول

(1/8499)

محمد علي أن يمدهم بها فسجل الشعب المسلم صفحة من تاريخ المقاومة تليق بالمستعمرين وكان على رأسهم الأزهر وشيوخه مفندين بذلك رأي من قال إن الثورة الفرنسية هي التي صدَّرت الحرية للشعوب من خلال إطلاقها حرية الرأي.

شيوخ الأزهر أدركوا خطورة الخطوات التي يتبعها محمد علي الذي ضرب، باسم التحديث، النهضة الحقيقية لرفعة الأمة بإيجاد المدارس العصرية التي تعد ضربة موجعة ضد الأزهر والأمة والنهوض الفكري. أدرك الأزهريون ذلك فتصدوا للطغاة من قبل أن تصلهم حرية الرأي والعدالة المصدرة من فرنسا. هذا الوعي من جانب

(1/8500)

المشايخ في الأزهر حدث لأنهم أدركوا أن وراء خطوات محمد علي ما وراءها من اقتسام الإِمبراطورية العثمانية وفصل مصر عن تركيا.

أما رفاعة الطهطاوي، فقد أوحى له الفرنسيون بإنشاء مدرسة الألسن التي كانت مركزا لبث الحضارة الغربية بين طلبتنا باسم العلم والثقافة عندما استقدمت مصر أساتذة من فرنسا لتدريس المواد في تلك المدرسة التي شوهت حضارة الإسلام وبذلك حقق الفصل بين الأزهر من جهة وعلوم العصر من جهة ثانية وأحدث انقساما بين النخبة التي يرى أطرافها نقائض لبعضهما...

(1/8501)

دالت دولة محمد علي وجاء الإِنجليز وتسلم الراية بعد جومار الفرنسي دنلوب الإنجليزي الذي أصبح سكرتيرا للمعارف واللورد كرومر وأعضاء فريقه الذين تكالبوا على فسخ حلقات الثقافة العربية الإسلامية بهدوء حلقة حلقة.

ولم ينته صراعنا بعد وإن ظن بعض الغافلين أن تلك صفحة طويت. صراعنا الذي لا يريد البعض الاعتراف به، صراع حضاري مع الآخر الذي لا يرضى إلا أن ينهب ثرواتنا ويلغي هويتنا ويجعلنا تابعين بلا حول ولا قوة.

(1/8502)

ها هو هنتجتون أستاذ العلوم السياسية ومدير مؤسسة جون واين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد يضمن محاضرته »صراع الحضارات...« ما يحاول تلاميذ المدرسة الاستشراقية إقناعنا بنسيانه، مؤكدا أن الغرب يرى في الديمقراطية نعمة لا يحق للمسلمين استثمارها. فذلك يمكِّن سيطرة الأصولية المتطرفة. والسلام الدولي يجب أن ينحصر في الغرب، لأن وصوله للمسلمين يوقف تدفق السلاح والاِتجار به، وهو يؤكد على الإِسراع في عمليات تحديد النسل لدى المسلمين لإِحداث التوازن الديمغرافي في الغرب، مشيرا إلى ضرورة دعم وتأييد الجماعات

(1/8503)

الموالية للمصالح الغربية داخل المجتمع الإِسلامي.

أستاذ العلوم السياسية في أشهر جامعة أمريكية يستقرئ الماضي والحاضر ويتنبأ بالمستقبل لصالح الأمن الأمريكي، معلنا أن العالم منذور لصراع حضاري ولا إمكانية البتة لامتزاج الحضارات أو تخطي حدودها وأن الحرب القادمة حرب أوروبية ضد الإسلام.

(1/8504)

جوامع مدينة تونس في العهد العثماني

دراسة تاريخية وفنية ومعمارية

... ... ... ... ... الدكتور محمد الباجي بن مامي

... ... ... ... ... تونس

... مرّت مدينة تونس بعدّة فترات. فامتازت كل فترة منها بقدوم ممثلين لحضارات مختلفة. وهكذا تنوعت مصادر التأثيرات في الناحية الفنية والمعمارية بتنوع منابعها، واتسم كل عصر بطابعه الذي يميزه عن العصور السابقة. إلا أنه لم يوجد أي انقطاع في سلسلة الحلقات التي تربط بين مختلف هذه الحقبات التاريخية(1)

__________

(1) انظر: H. H. Abdelwahab, « Coup d’oeil général sur les apports ethniques

étrangers en Tunisie », in Rev. Tun. XXIV, 1917, pp. 305-316 et 371-379.

(1/8505)

.

... اختلف مجيء الأتراك العثمانيين اختلافاً تاماً عن الهجرات الأخرى خاصة منها الهجرة الأندلسية، إذ أن قدومهم كان متصلاً بحضور عسكري وسياسي قِوامه الجند. وقد حاول الحكام الجدد بثّ المذهب الحنفي عن طريق العلم، فبدأوا بتأسيس الجوامع والمدارس لهذا الغرض، وأحيوا ما هرم منها، وحبّست على المذهب المتّبعين له(1).

__________

(1) وهو ما حصل للمدرسة الشماعية والمدرسة العنقية، كما تم ترميم جامع القصبة وجامع القصر وذلك في أواخر القرن 9 هـ/ 16 م وحبّس كل منهما على المذهب الحنفي.

(1/8506)

... كما كان لتأثيرهم الفني والمعماري أهمية لا تقل عن تأثيرهم الثقافي والمذهبي، مما أعطى صبغة جديدة لفن البلاد ومعمارها. وهكذا أدّى الوجود العثماني إلى ظهور خصائص واتجاهات فنية جديدة(1). ومن الأكيد أن الحديث عن كل التأثيرات التركية التي عرفتها مدينة تونس، سيحملنا للحديث على أربعة قرون متواصلة من الحضور العثماني ببلادنا. لذلك سنهتم في هذا البحث بالعمارة الدينية المتمثلة في الجوامع، والتي تعتبر أحد العناصر الهامة لهذا

__________

(1) انظر: L. Golvin, Essai sur l’architecture religieuse musulmane, p. 59.

(1/8507)

الحضور والتي تعطينا فكرة واضحة عن التأثيرات التركية بمدينة تونس.

... بالطبع، احتاج الدايات الأوائل الذين حكموا البلاد إلى إيجاد جوامع خطبة تتسع للجنود العثمانيين الذين استقروا في تونس بداية من سنة 1574 م. وتفيدنا المصادر بأن عددهم كان آنذاك حوالي أربعة ألاف(1). لهذا الغرض رمّم الجامع الموحدي بالقصبة سنة 992 هـ/ 1584 م. كما رمّم جامع بني خرسان المعروف بجامع القصر سنة 1008 هـ/ 1599 م(2)

__________

(1) أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تونس، 1963، ج 2، ص. 26.

(2) الباجي بن مامي، »جامع يوسف داي أوّل المعالم العثمانية بالبلاد التونسية«، مجلة إفريقية، تونس، 1998، عدد 16، ص. 107.

(1/8508)

. وأدخل العثمانيون بعض العناصر الجديدة على هذين المعلمين؛ من ذلك كسوهم محراب جامع القصبة بالرخام، وإضافتهم المنبر المبني. وحبّس الجامعان على المذهب الحنفي، مما سمح لهؤلاء الجنود بأداء مناسكهم في جوامع خاصة بهم.

... بلغ عدد الجوامع المؤسسة بمدينة تونس خلال الفترة العثمانية خمسة، أسس حاكم البلاد يوسف داي أولها، وهو الجامع المشهور باسمه والذي كان يعرف أيضاً بجامع البشامقية (1)

__________

(1) البشامقية: هم صنعة البشمق، وهو الحذاء الذي يلبسه الفقهاء ورجال الدين، كما لبست النسوة هذا النوع من الأحذية، وحرّف مصطلح البشمق من الكلمة التركية »البشماق« التي ورد مفهومها في كتاب محمد بن الخوجة: معالم التوحيد، ص. 177.

(1/8509)

، وتمّ بناؤه سنة 1021 هـ/ 1612 م.

... أما ثاني الجوامع، فهو الذي أسسه الباي حمودة باشا المرادي سنة 1066 هـ/ 1655 م. وثالث الجوامع زمنياً هو جامع محمد باي المرادي المعروف بجامع سيدي محرز الذي بدأ هذا الباي في بنائه سنة 1104 هـ/ 1692 م، لكنه توفي قبل إتمامه فأكمله أخوه رمضان باي سنة 1110 هـ/ 1699 م، قبل بناء المئذنة.

... كما بنى حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية الجامع الرابع سنة 1139 هـ/ 1727 م.

... وآخر هذه الجوامع هو جامع الوزير يوسف صاحب الطابع الذي انتهى من بنائه سنة 1230 هـ/ 1814 م.

...

(1/8510)

جامع يوسف داي

... أسس إذن يوسف داي أوّل الجوامع العثمانية بالبلاد التونسية، وهو الذي تولى الحكم انطلاقاً من سنة 1019 هـ/ 1610 م (1). طالت مدة هذا الداي في الحكم، إذ بلغت حوالي ثمان وعشرين سنة، استطاع أن يوجه عنايته خلالها إلى إعطاء نفس جديد للحياة الاقتصادية والعلمية بعد فترة الركود والتراجع التي شهدتها البلاد خلال القرن 10 هـ/ 16 م. وقد تمكن من ذلك بفضل عدة عوامل، من بينها خاصة قدوم نخبة من كبار التجار وأصحاب الحرف الأندلسيين الذين

__________

(1) حسين خوجة، ذيل بشائر الإيمان بفتوحات آل عثمان، ص. 92.

(1/8511)

توافدوا على تونس في عدد كبير قبل توليه الحكم بثلاث سنين (1). وقد حرص على إيوائهم وتسهيل إدماجهم في الحياة الاقتصادية للبلاد.

__________

(1) انظر: H. H. Abdelwahab, « Coup d’œil général sur les apports ethniques étrangers en Tunisien », dans Etudes sur les Moriscos Andalous en Tunisie, p. 16; et J. D. Latham, Contribution à l’étude de l’emigration andalouse et sa place dans l’histoire de la Tunisie, p. 21.

(1/8512)

... هذا، ولم يكن إنجاز الجامع نتيجة لتلك الظروف الاقتصادية السانحة، إذ تم بناؤه بعد سنة فقط من تولّي هذا الداي الحكم بتونس، بل يغلب على الظن أنه كان نتيجة لضغوط سياسية واجتماعية. ذلك بأنه قد مر على وجود العثمانيين المتبعين للمذهب الحنفي بتونس أكثر من ثلث قرن لم يحصل خلالها تشييد ولو جامع واحد، بل اقتصر الولاة ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ على تحويل جامعين مالكيين إلى المذهب الحنفي. ولاشك في أن الحاجة كانت في أوائل عهد يوسف داي ملّحة إلى حدّ أن الداي المذكور أسرع على أثر توليه الحكم للأمر ببناء هذا

(1/8513)

الجامع. فلم تدم الأشغال أكثر من أحد عشر شهراً (من شوال 1020 هـ/ ديسمبر 1611 م ـ جانفي 1612 م إلى رمضان 1021 هـ/ 1612 م) مثلما تدل على ذلك النقيشة ذات الخط النسخي الموجودة بالجامع(1).

__________

(1) يعتبر الجامع الأعظم بتونس أثرى المعالم الدينية من حيث وجود نقائش تمدنا بتاريخ المعلم على مرّ العصور، لكننا نلاحظ أن النقائش الموجودة في الجوامع الراجعة للفترة العثمانية ليست بالعديدة ولا يمكن أن تعرّفنا بالأطوار التي مرت بها كل من هذه الجوامع.

(1/8514)

... هذا، ولا يخفى أنه كان للجند دور أساسي في إدارة البلاد، وحتى في تسمية الحكام عليها. ولربما قد ازداد عددهم بصفة جعلت من المتأكد إضافة جامع جديد لم يفتأ أن أصبح جامع الخطبة الحادية عشر في مدينة تونس(1)، فيكون

__________

(1) يستفاد من وقفية المؤسس أن الجامع كان في البداية مسجداً للخمس، ثم حوله مؤسسه جامعاً للخطبة في سنة 1041 هـ/ 1631 م ورتب به إماماً وراوياً لـ"صحيح البخاري"، ورتّب فيه خمسة مؤذنين من أبناء الأتراك واثني عشر من أهل البلاد. وهذا حسب وثيقة حبس الجامع الموجودة بأرشيف الدولة. (كارتون "د").

(1/8515)

الداي يوسف قد جلب بهذا العمل عطف وتأييد هؤلاء القوم الذين كانوا دوماً مصدر شغب وفتنة.

... وقام ببناء هذا المعلم المهندس ابن غالب الأندلسي الأصل(1). لكن بغضّ الطرف عن هذا الجامع، شيّد يوسف داي مدرسة(2)

__________

(1) لهذا المهندس أهمية بالغة في حركة البناء والتعمير خلال النصف الأول من القرن 11 هـ/ 17 م، ولدينا نقيشة بالجامع الأعظم (جامع الزيتونة) تدل على قيامه بأعمال بهذا الجامع؛ كما أنه أشرف على بناء المدرسة الموجودة بمقام السيد الصاحب بالقيروان.

(2) أدمجت هذه المدرسة خلال عهد الصادق باي في المستشفى الصادقي، وذلك في سنة 1291 هـ/ 1874 م، لكن ما زال هذا القسم على التصميم نفسه الذي كان عليه من قبل.

(1/8516)

مجاورة له وميضأة فوقها مقهى(1)، وكذلك كتاباً. وأضاف إليها سوق البشامقية الملاصقة للجامع، وسوق الترك وسوق البركة. وهكذا كوّنت في جملتها كتلة متكاملة، تذكرنا بـ»الكولوليا« التركية.

__________

(1) يجب أن يربط إنشاء المقاهي في ذلك العصر بالمسائل التابعة للعبادات، وبطرق التصوف والذكر التي كانت منتشرة بكثرة في القرن 11 هـ/ 17 م. حول هذا الموضوع يمكن الرجول إلى مقال:

« Kahwa », in Encyclopédie de l’Islam, T. IV, pp. 469-475.

(1/8517)

... ولما توفي يوسف داي سنة 1047 هـ/ 1637 م، دفنه ابنه أبو العباس أحمد في التربة التي أقامها في مدخل الجامع بسوق البشامقية.

... يقع الجامع اليوسفي في مدخل المدينة العتيقة من ناحية القصبة بنهج سيدي علي بن زياد، ومما يجلب الانتباه أن المؤسس اختار موقع جامعه على مقربة من الجامع الأعظم. ويمكن تفسير هذه العملية بأن الجند الذين بني من أجلهم هذا الجامع كانوا يقطنون بقرب من هذا الموقع. فإضافة إلى وجود العديد منهم بقلعة القصبة، فإن البعض الآخر كان يقطن في المكان الذي تحتله حالياً المدرسة المرادية(1)

__________

(1) وهي كانت تدعى أيضاً مدرسة التوبة. ويفسر ذلك ابن أبي دينار بأنها كانت »مسكناً للجند قبل بنائها، ويقع فيها الفجور، فغيّر (الباي) رسمها وجعلت لتلاوة كتاب الله والعلم«. (ابن أبي دينار، المونس، ص. 248).

(1/8518)

. كما أنه من الممكن أن وجود جامع محبّس على المذهب الحنفي بقرب الجامع الأعظم ساهم في جلب عدد من كبار القوم الذين كانوا يقطنون في هذا الحي للاستماع لدروس الشيوخ المتفقهين على مذهب الإمام أبي حنيفة، وبالتالي يعتبر هذا تقوية لصفوف المتبعين لهذا المذهب في بلاد ما زال سكّانها متشبّثين بالمذهب المالكي.

... مما يجلب الانتباه أن أول جامع أسس بالبلاد على يد العثمانيين هو جامع يوسف داي، الذي تأثر في بعض مكوناته وفي قسم من تصميمه بالمساجد العثمانية. وهكذا يبدو الصحن الذي يحيط ببيت الصلاة من الجهات الثلاث ـ

(1/8519)

الشرقية والشمالية والغربية ـ من المميزات النادرة التي قلما نجدها في الجوامع التونسية، وهي في الحقيقة ظاهرة اختصت بها بعض الجوامع التركية ـ خاصة منها جامع بيالي باشا (Piali Pacha) الذي أسس بإسطنبول سنة 992 هـ/ 1585 م، وجامع ياني فاليدي (Yani Validé). أما بتونس، فنجد الشكل نفسه، وهو المشابه لحرب U اللاتينية في ثلاثة جوامع أخرى فقط(1)

__________

(1) وهي جوامع: حمودة باشا المرادي، ومحمد باي المرادي، المؤسس كل منهما خلال النصف الثاني للقرن 11 هـ/ 17 م. وكذلك جامع صاحب الطابع المؤسس خلال الربع الأول للقرن 13 هـ/ 19 م.

(1/8520)

، وهو ما لا نجده في الجوامع التي سبقت زمنياً تأسيس الجامع اليوسفي(1). ويتمثل هنا أهم الصحون الثلاثة في الصحن الشمالي، بينما يتسم الصحن الشرقي بمساحته المحدودة جداً، لكنه يمتاز باحتوائه على محراب يستعمله

__________

(1) اعتقد ج. مارسيه أن شكل هذا الصحن قد استعمل قبل ذلك في جامع المهدية الفاطمي: إلا أن عملية الاسبار التي قام بها ليزين عند إعادة بناء الجامع، أثبتت أن الجامع الفاطمي كان على نمط الجوامع الإفريقية الأخرى ذات الصحن المستطيل الشكل، والذي يتقدم بيت الصلاة في ناحيتها الشمالية، وتحيط به الأروقة.

(1/8521)

المصلون خلال فصل الصيف(1).

... لكن ما يجلب الانتباه هو أنه بالرغم من بناء هذا الجامع في بداية القرن 11 هـ/ 17 م، فقد صممت بيت الصلاة حسب النماذج المستعملة من قبل في البلاد. فأغلب عناصرها تمثل بعض التأثيرات والتقاليد المعمارية المحلية. وهكذا حصل اختلاف أساسي بين ما يوجد بالصحن ونمط الصومعة والتربة من جهة، وبين العديد من عناصر بيت الصلاة من جهة أخرى، التي تم تسقيفها عن طريق أقبية متقاطعة(2)

__________

(1) وهو القاسم المشترك بين الجوامع الخمسة موضوع بحثنا هذا.

(2) هي طريقة مألوفة في سقوف معالم مدينة تونس الدينية منها أو المدنية.

(1/8522)

. وربطت الجدارات ببعضها عن طريق عوارض خشبية. وتختلف بيت الصلاة هذه اختلافاً تاماً عما نجده بجامع محمد باي المرادي (المعروف بجامع سيدي محرز) المسقوف عن طريق القباب المعتمدة على أربع دعامات، بينما اعتمد سقف الجامع اليوسفي على غابة الأعمدة التي تعودنا وجودها بأغلب جوامع البلاد.

... لبيت الصلاة هذا شكل مستطيل: فعرضها أقل من عمقها، إذ يساوي عرضها 6/7 من عمقها. ونحن نعلم أن شكل بيت الصلاة بصفة عامة يكون العرض فيها أكثر من العمق(1)

__________

(1) مثلما هو شأن جامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة والجامع الأعظم بسوسة وغيرها.

(1/8523)

. وبما أننا نعثر في بيت الصلاة هذه على الكثير من المعطيات التي نجدها في الجوامع الأفريقية الأخرى، فقد كنا ننتظر أن يمثل عرض بيت الصلاة أكثر من هذه النسبة بالمقارنة مع العمق. إلا أن الأبعاد تكاد تكون متوازية (أي شكل مربع) مثلما هو حال جامع سيدي محرز(1).

__________

(1) من المؤكد أن المهندس اضطر اضطراراً إلى اختيار هذا التصميم، لضيق قطعة الأرض التي تصرّف فيها لبناء المعلم. لكن من الملاحظ أن الجوامع الأخرى الراجعة إلى الفترة العثمانية، لها التصميم نفسه، خاصة جامع حمودة باشا المرادي.

(1/8524)

... تتكون بيت الصلاة من تسع بلاطات ـ أهمّها البلاطة الوسطى المواجهة للمحراب ـ وسبع مسكبات، أكثرها عرضاً المسكبة الموازية لجدار القبلة. وهكذا تكون بمعيّة البلاطة الوسطى التصميم المعروف حسب شكل T اللاتينية. ويتكون السقف ـ كما لاحظنا ـ من أقبية متقاطعة تتسم بالجمال. وهكذا تضفي على بيت الصلاة شيئاً من الأناقة أنقذها من الرتابة التي كان من الممكن أن تتردّى فيها. ذلك، إضافة إلى القبة ذات عقود الزوايا التي تعلو المحراب(1)

__________

(1) يفسر هذا الفقر المعماري بالفترة الزمنية الوجيزة جداً والتي أنجز خلالها الجامع. فهي لم تسمح بإثرائه بعناصر أخرى. هذا، إضافة إلى أن الإيالة التونسية لم تسترجع قواها بعد من جرّاء المصائب التي لحقتها خلال الحرب التركية التي انتهت بانتصار الأتراك سنة 981 هـ/ 1574 م.

(1/8525)

. بينما لا يجلب الانتباه في واجهة المحراب، إلا المحراب نفسه والزخرفة الجصية التي تعلوه. وكسي القسم الأسفل لجوف المحراب الذي يتوسط هذه الواجهة باللوحات الرخامية، وزخرفت الطاقية بنقوش جصية ذات تأثير أندلسي، كما يتكون العقد الحدوي الذي يحيط بالقسم الأعلى للمحراب من فقرات رخامية متناوبة، بيضاء وسوداء، ويحيط به إفريز مقعّر. ويستند هذا القسم على عضادتين يحدّ كلاًّ منهما من الداخل عمود رخامي يعلوه تاج من الطراز الحفصي. ونمط هذا المحراب جديد بالنسبة إلى جوامع البلاد، فلم يكس جوف المحراب بالرخام، ولم

(1/8526)

ينتشر هذا النمط إلا مع دخول الأتراك العثمانيين. أما قبة المحراب، فهي مرتكزة على أربعة عقود، مشكّلة بذلك قاعدة مربعة للقبة التي تتكون من ثلاثة أقسام. ويتم الانتقال من القاعدة المربعة إلى الطابق الأوسط المثمّن الشكل عن طريق أربعة عقود زوايا يحتل كل منها إحدى زواياها الأربع(1). ويحد

__________

(1) إلا أنه وجدت قباب يتم فيها الانتقال من المربع الأسفل إلى القبة عن طريق عنصر المثلثات الكروية، كما حصل ذلك في جامع محمد باي، وتربة البايات، وزاوية سيدي إبراهيم الرياحي. هذا، إضافة إلى قبة قصر دار حسين وغيرها.

(1/8527)

المحراب شرقاً باب مقصورة الأمام، وغرباَ المنبر، وهو منبر قار بني بالحجارة وكسي بلوحات المرمر المتعدّدة الألوان(1)، وهو يذكرنا بمنابر جامع القصبة وجامع حمودة باشا وجامع محمد باي المرادي والجامع الجديد وجامع صاحب الطابع. أما أجمل العناصر التي تحتوي عليها بيت الصلاة، فهي الختمة القرآنية التي أثريت في واجهاتها الأربع بنقوش جميلة وبنقيشة تثبت تحبيسها على الجامع سنة خمس وأربعين وألف للهجرة (1045 هـ/ 1635 م).

__________

(1) هذا، على عكس المنابر التي عرفتها أفريقية في السابق وكانت منابر خشبية متحولة.

(1/8528)

... من بين العناصر المعمارية التي تلفت الانتباه المئذنة، وهي أولى الصومعات المثمنة الشكل التي تم بناؤها بالبلاد، إذ أن جميع الصومعات التي سبقتها زمنياً كانت في أغلبها ذات نمط موحدي، ولها قاعدة مربعة الشكل؛ كما أن لجامع حمودة باشا المرادي والجامع الجديد وجامع صاحب الطابع مآذن لها هي أيضاً النمط نفسه.

... اختلف المؤرخون في مصدر هذا النمط من المآذن. فأغلبهم يرون أنها من تأثير تركي، أو ينعتونها بـ»ـالنمط الحنفي«. ويرى البعض الآخر أنها من تأثير أندلسي. ويستدل الأستاذ ميكال دي إيبلزا (Mickel de

(1/8529)

Epalza) على ذلك بوجود صومعة بألمرية تتشابه نوعاً ما مع هذا النوع من الصومعات التونسية. لكن المؤكد أن المآذن المثمنة الشكل وجدت بتركيا وبمصر وببعض المناطق التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية. وبالرغم من أن المآذن الموجودة بتركيا أكثر رشاقة وطولاً من التي نجدها بمدينة تونس، فمن الواضح أن هذه متأثرة بطريقة غير مباشرة بتلك، وهي ربما تأثرت بصفة مباشرة بالصومعات المثمنة الشكل الموجودة ببعض مناطق سوريا ولبنان، خاصة منها بحلب. لكن نلاحظ أن الفنان التونسي قد أضفى عليها شيئاً من شخصيته وتقاليده، مما أعطاها

(1/8530)

بعداً مميزاً.

... من بين العناصر الأخرى الهامة: التربة. فانطلاقاً من هذه الفترة العثمانية، أصبح كل مؤسس لجامع خطبة بمدينة تونس يضيف تربة إلى الجامع، وهو ما حصل فعلاً بجامع حمودة باشا، وكذلك بالجامع الجديد وبجامع صاحب الطابع. وقد حاول محمد باي المرادي إضافة تربة إلى جامعه؛ إلا أنه توفي قبل إنجازها، فدفن في تربة أبيه حمودة باشا. ومفهوم إضافة التربة إلى الجامع مشرقي بحت ولم يعرف لدينا خلال العهد الحفصي إلا في بعض المدارس (كمدرسة ابن تافراقين ومدرسة القائد نبيل أبو قطاية).

(1/8531)

... وقد لاحظنا بعد أن المهندس الذي أشرف على بناء هذا المعلم أندلسي الأصل. إلا أنه بالرغم من ذلك، فإن التأثيرات التي سيطرت على نمط هذا المبنى فيها امتزاج بين الفن والهندسة المعمارية المحلية والعثمانية. لهذا نستغرب من عدم محاولة هذا المهندس استعمال الأنماط الهندسية التي تعودها بالأندلس.

... وهكذا احتوى هذا الجامع بالرغم من بساطته على عناصر جديدة أدخلها معهم العثمانيون، كالصحن الذي يمثل شكل U اللاتينية، والمئذنة المثمنة الشكل، والمنبر القار والمكسو بالمرمر، وكذلك التربة المضافة للجامع، هذا إضافة

(1/8532)

إلى المحراب الخارجي الواقع في الصحن الشرقي، وهو قاسم مشترك بين الخمسة الجوامع المؤسسة خلال فترة الأتراك العثمانيين. وهذه المعطيات تعدّ من الأهمية بمكان، إذ تعرفنا عمارة الدايات الأوائل بتونس، والتطور الحاصل مع قدوم الحكام الجدد للبلاد.

جامع حمودة باشا

... أما ثاني الجوامع المؤسسة خلال هذه الفترة، فعمارته تشابه في أغلب النقاط الجامع الأول. ويوجد هذا الجامع وسط الأسواق المحيطة بالجامع الأعظم. ومن أهم أسباب اختيار موقعه هذا هو قربه من جامع الزيتونة؛ إذ لا يفصل بينهما إلا بضعة أمتار، وهو ناتج عن

(1/8533)

إرادة الحكام الجدد المتبّعين للمذهب الحنفي نشر مذهبهم بين العامة. وكانوا يعتبرون أن الحل الوحيد لنشر الحنفية هو إنشاء جوامع ومدارس تحبّس على مذهبهم. وبما أن الزيتونة مثلت على مر التاريخ معقل العلماء والشيوخ المالكية، فإن إنشاء جامع قريب منهم يحبّس على المذهب الحنفي كان يشكل في نظرهم أهم الطرق لدعم وجودهم المذهبي وبالتالي السياسي.

... من أهم ما يمكن إذن ملاحظته هو تأثر مهندس هذا الجامع بنمط جامع يوسف داي، وهو ما تصفه المراجع بالنمط التركي. كما تجلب الانتباه بعض الاختلافات الجزئية بين مئذنة جامع

(1/8534)

حمودة باشا وتلك التي ذكرناها في جامع يوسف داي: فمنارة جامع حمودة باشا أكثر رشاقة وطولاً من الأخرى.

... وبالرغم من احتواء هذا الجامع على بعض العناصر الجديدة التي لا حظناها بعد في جامع يوسف داي، ومن بينها خاصة الصحون الثلاثة المحيطة ببيت الصلاة، والمحراب المكسو جوفه بلوحات المرمر وكذلك بروز العناصر النباتية في تزويق قاعدة أطر الأبواب؛ كما أن للمنبر أيضاً طابع المنابر الراجعة للفترة التركية، وكذلك التربة المشابهة لتربة يوسف داي ـ بالرغم من وجود هذه العناصر الجديدة، فإن الطابع العام يدل على بقاء

(1/8535)

التاثيرات المحلية قائمة الذات. فأطر الأبواب والنوافذ التي تفتح على بيت الصلاة تذكرنا بما يوجد في أغلب معالم مدينة تونس، خاصة منها الفقرات الرخامية المشعّة والمتناوبة البيضاء والسوداء، وطبيعة البناء نفسه، وكذلك السقوف المتمثلة في أقبية متقاطعة، كل هذا دليل على أن التأثير التركي تمثل في بعض الأجزاء فقط، بينما بقي التأثير المحلّي (خاصة طابع بيت الصلاة نفسه) موجوداً في النمط العام للجامع وفي شكله وكذلك في زخارفه.

جامع محمد باي المرادي

(1/8536)

... ثالث الجوامع، ولعله أهمها على الإطلاق. وبالرغم من إطلاق العامة على هذا الجامع اسم »جامع سيدي محرز«، فهو لا ينتمي بأيّ صلة إلى هذا الولي. فقد أسسه محمد باي المرادي في نهاية القرن 17 م، وأطلق عليه اسم »جامع سيدي محرز« لوقوعه أمام زاوية الولي (1). وأهمية هذا الجامع متأتية من أنه انفرد بالنمط المتأثر بالجوامع التركية، وهو ما لا نجده إلا في عدد قليل جداً من الجوامع بالبلاد العربية. وبالرغم من هذا، فإن

__________

(1) حسين خوجة، ذيل بشائر الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق الطاهر المعموري، تونس، 1976، ص. 95.

(1/8537)

جامع محمد باي، في شكله العام وفي نواحيه الفنية، يختلف في العديد من النقاط عن الجوامع التركية عكس جامع محمد علي بقلعة صلاح الدين المعتبر الجامع الوحيد في البلاد العربية الذي يشكل نسخة مطابقة للأصل لجوامع إسطنبول، كجامع السليمانية وبايازيت وغيرها، المتأثرة مباشرة بآيا صوفية، والتي أبدع في تصميمها المعماري سنان. أما جامع محمد باي، فيبدو أنه تأثر في أغلب نواحيه المعمارية وفي هيكله الخارجي بجامع ياني فاليدي (Yeni Validé).

(1/8538)

... امتاز هذا الجامع عن غيره إذن ببعض الخاصيات، أهمها اعتماد السقف المتكون من قباب متفاوتة الحجم، على أربع دعامات ضخمة. لذلك لا نجد في بيت الصلاة الأعمدة التي اعتدنا وجودها في كل المساجد التونسية، فلا تحتوي بيت الصلاة هذه على البلاطات والمسكبات المعهودة.

... تبدو بيت الصلاة من الخارج على شكل هيكل مكعب تتدرج في فضائه المساحات الكروية الشكل، فتبدو القبة الوسطى مرفوعة على رقبته تتخللها ثماني نوافذ وتعلوها طاقية ذات شكل نصف كروي، في حين أن القبيبات الأقل ارتفاعاً لا تتخللها إلا أربع نوافذ، وتنتهي

(1/8539)

كلها برمانة من ثلاثة عناصر كروية يعلوها هلال.

... أول ما يجلب نظر الداخل إلى بيت الصلاة الفاتحة على الأروقة الخارجية بتسعة أبواب، الدعامات الأربع الضخمة الحاملة للسقف والمتشابهة تقريباً(1). وتحتل الدعامات مكاناً ممتازاً في وسط القاعة الفسيحة الأرجاء، وتجمع بينهما عقود أربعة في شكل

__________

(1) إلا أنه إذا أمعنا النظر جيداً في هندسة هذه الدعامات، وفي كيفية تغطيتها بالألواح المرمرية، فإننا نلاحظ بعض الفوارق الجزئية التي تبين نوعاً من الارتجال في إثبات هذه الحلية الرخامية، وما احتوت عليه من لوحات خزفية.

(1/8540)

نصف دائرة تكون القاعدة المربعة التي تحمل القبة الوسطى الرئيسة. ويتم الانتقال من المربع إلى القسم الأوسط بواسطة عنصر المثلثات الكروية. أما بقية المساحة المسقوفة، فتحتوي على أربعة أنصاف قباب، تساند القبة الرئيسة من جهاتها الأربع، في حين أن قبيبات أربع أخرى تحتل زوايا القاعة. وتستند كل من أنصاف القباب والقبيبات إلى عقود معترضة تنطلق من الدعامات الوسطى لترتكز على العضادات المتكئة على الجدران.

... تتقدم بيت الصلاة أروقة تتمادى في الزاويتين الشرقية والغربية مكونة سلسلة متواصلة من البائكات المرفوعة عن

(1/8541)

طريق أعمدة مرمرية تعلوها تيجان من الطراز التركي المتأثر بالنوع الكورنتي الجديد (1)

__________

(1) يحتوي هذا التاج في كل من زواياه الأربع على ورقة أقنثة ذات ثلاث شحمات، وتنتهي كل شخمة بشكل حلزوني بارز، ويتوسط كل ورقتين حزّ يتوسطه بدوره (في غالب الأحيان) هلال.

... وأول من وصف هذا النمط بالطراز التركي، هو المستشرق الفرنسي جورج مارسيه، لأنه أدخل إلى البلاد في أوائل الفتح العثماني، لكن مأتاه غير معروف، وقد صنعت الكثير من هذه التيجان بالبلاد الإيطالية، وبدأ انتشارها انطلاقاً من القرن 11 هـ/ 17 م.

(G. Marçais, Manuel d’art Musulman, T. II, p. 904).

(1/8542)

. ويتألف الرواق الجنوبي الغربي المساند لجدار القبلة من ثلاثة عقود، في حين أن الرواق الجنوبي الشرقي يتكون من أربعة عقود (1). أما الواجهة الشمالية، فتعتبر أهم الواجهات الثلاث، إذ تشتمل على رواق متكون من بائكة ذات سبعة عقود. والملاحظ أن المناطق العليا لكل الأروقة قد كسيت بغشاء من حجارة الهوارية الصفراء اللون، بينما اختصت الزوايا بكسوة من

__________

(1) تواصل استعمال نمط العقود نفسه الذي تعودته البلاد التونسية منذ قرون عدة، ولم يغيّر القدوم العثماني في نمط هذه العقود. وهكذا بقيت مدينة تونس وفية للعقد الحدوي.

(1/8543)

حجارة الكذال الوردي اللون، والذي يعتبر الرخام المحلي، والمجلوب من منطقتين قريبتين من المدينة العتيقة، أولاها بضاحية حمام الأنف والثانية بالوطن القبلي وبالتحديد قريباً من القرية الأندلسية: سليمان.

... أما المئذنة، فقد جرت العادة في مثل هذه الجوامع على أن تتحلى بمئذنة شديدة الارتفاع ومثمنة الأضلاع. غير أن هذا الجامع لم يساعده الحظ على استكمال الصومعة؛ إذ أن المنارة الحالية الموجودة في الركن الجنوبي الشرقي والمشرفة على سوق سيدي محرز لم تشيد خصيصاً للجامع الجديد، بل هي من توابع المسجد الصغير القديم

(1/8544)

المعروف بمسجد الفلاري(1). وهي صومعة مربعة الشكل صغيرة القاعدة لا تتناسق من حيث حجمها وشكلها مع نمط الجامع وفخامة الهيكل. والسبب في فقدان صومعة تتماشى والنمط المعماري الخاص بالجامع هو موت محمد باي قبل إتمام المئذنة. ثم تبعه أخوه رمضان باي الذي مات قبل اكتمال البناء، وقد امتنع الخلف من إتمام الصومعة تشاؤماً بمصير السلف.

__________

(1) المؤسس سنة 1039 هـ/ 1629 م حسب محمد بن الخوجة (معالم التوحيد، ص. 114). غير أننا نرجح أنه يرجع إلى الفترة الحفصية.

(1/8545)

... بالطبع، أثرى أقسام بيت الصلاة هي واجهة جدار القبلة، التي تتألف من قسمات أفقية وقسمات عمودية. أما القسمات الأفقية، فهي ثلاث: منطقة سفلى تحتوي على إطارات رخامية وألواح القشاني، ثم منطقة مغشاة بزخارف الجص المحفور والتي تدعى لدينا بـ »النقشة الحديدة«. وأخيراً ينتهي الجدار بقسم خال من الزخارف، وفوق ذلك نجد القباب وأنصاف القباب(1) تعلو بيت الصلاة والتي كانت خالية من كل زخارف على عكس ما هي عليه الآن.

__________

(1) تمّت أعمال النقوش الجصية خلال سنة 1980، عند ترميم المعلم.

(1/8546)

... تتشكل الزخارف السفلية من عدة مجموعات عمودية يتوسطها المحراب المكسو تماماً بالمرمر المتعدد الألوان، والذي تحيط به من الجانبين نوافذ تعلوها كسوة من القشاني (أو مربعات الخزف) (1) المجلوب من مدينة أزنيك(2)

__________

(1) يدعى القشاني بالبلاد التونسية:» زليز«. والمصطلح في الأصل هو »الزلّيج«، إلا أن الجيم حرفت إلى الزاي لثقل نطقها.

(2) لا نجد هذا النمط من القشاني إلا في معلم آخر فقط، وهو الجامع الجديد الذي كسيت جدران بيت الصلاة فيه بعدد من أنماط مربعات الخزف التركية والمتشابهة مع ما يوجد في جامع محمد باي.

(1/8547)

والمتميز بنصاعة ألوانه وأناقة الأشكال الزخرفية المستوحاة في أغلبها من العناصر النباتية الطبيعية، وهو الطراز الطاغي من حيث الاستعمال(1). وفي أطراف الجدار يتمادى النظام نفسه مع استعمال زخارف خزفية من الطراز الأندلسي المتمثلة في أطباق الفسيفساء التي تتخذ أشكالاً هندسية والتي تسيطر عليها الأطباق النجمية البسيطة التركيب.

__________

(1) تدخل في زخارف هذا القشاني العناصر النبانية كالزهور والأوراق القريبة جداً إلى الطبيعة، ويدخل في ألوانها اللون الأحمر المشهورة به مدينة أزنيك وكذلك الأزرق والأخضر.

(1/8548)

... والجدير بالذكر أن مجموع الدعامات والعضادات قد رتبت فيها ألواح من المرمر والقشاني والنقشة حديدة حسب نظام مشابه للذي لاحظناه بخصوص جدار القبلة مع تداخل بعض العناصر المميزة. أما بقية جدران القاعة، فتتمادى في زخرفتها المواد نفسها ونسب الترتيب الأفقي، مع نظام خاص عمودي في المنطقة السفلى.

... من بين أهم عناصر بيت الصلاة المنبر المبني بالحجارة والمزوق بالمرمر مثلما هو حال بعض الجوامع الأخرى(1)

__________

(1) ذكرنا بعدُ منبر جامع يوسف داي وكذلك منبر جامع حمودة باشا، هذا إضافة إلى المنبر المضاف بجامع القصبة...

(1/8549)

. أما تيجان الأعمدة، فجلها من النوع المسمى بـ»ـالتركي« (22 تاجاً على 25) وثلاثة من الطراز الحفصي. كما نلاحظ نوعاً ثالثاً يعرف بالأندلسي(1)، وهو المستعمل في عمودي المحراب والمنبر.

... وفيما يتعلق بالنقش على الجص، فقد استعمل في هذا المعلم طراز أول، وهو من تأثير أندلسي يتسم باستعمال العناصر الهندسية المتمثلة

__________

(1) يتميز هذا التاج بزخارف الخطوط المنعرجة، ونجده في بعض المعالم الراجعة إلى الفترة الحفصية، كزاوية سيدي قاسم الجليزي وميضة السلطان، كما استعمل في بداية القرن 11 هـ/ 17 م بدار عثمان داي...

(1/8550)

خاصة في أطباق النجوم. أما الطراز الثاني، فهو من تأثير تركي، ويتمثل في ألواح يطغى عليها الشكل المنفرد (خاصة المزهريات والنجوم وكوز الصنوبر...).

الجامع الجديد

... أما رابع الجوامع، فهو الذي أمر ببنائه حسين بن علي تركي مؤسس الدولة الحسينية الذي تولى مقاليد الحكم سنة 1117 هـ/ 1705 م(1)

__________

(1) تذكر المصادر أن أصله من جزيرة كريت (حسين خوجة، ذيل بشائر أهل الإيمان، مصدر سابق، ص. 115؛ محمد سعادة، قرّة العين، مخطوط ورقة 5. ب، بينما يرى عزيز سامح (في كتابه الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية) أن ذلك غير صحيح (صص. 232 ـ 233).

(1/8551)

. أسّس هذا الباي ثلاث مدارس خلال الفترة الأولى لحكمه، وآخر مدرسة أنجزها الباي حسين تمّ بناؤها سنة 1139 هـ/ 1727 م، قبل سنة فقط من اندلاع الحرب الأهلية التي انقسمت فيها البلاد بين حسينية وباشية(1).

__________

(1) حول حياة هذا الباي وتأسيسه لعدد هام من المعالم وترميمه لعدد آخر، راجع: حسين خوجة، المصدر السابق، صص. 115 ـ 153؛ السراج، الحلل السندسية في الأخبار التونسية، ج 3، صص. 55 ـ 76؛ محمد سعادة، قرّة العين، المصدر السابق، ورقة 92 أ وب؛ ابن الضياف، إتحاف...، مصدر سابق، ج 2، ص. 100 وما بعدها.

(1/8552)

... الجامع الجديد هو أول جامع شيّد في الفترة الحسينية(1). وباستثناء هذا الجامع لا نملك مثالاً آخر لجامع استعمل صحنه مدرسة، لأنه في صورة بناء جامع ومدرسة في المكان نفسه: كجامع ومدرسة التوفيق ثم الجامع اليوسفي والمدرسة، وكذلك جامع ومدرسة صاحب الطابع. فإن كلاًّ من المعلمين يكون مستقلاً بذاته، وربما نتج هذا الاختيار عن ضيق المكان الذي تمّ استغلاله. وهو على كل حال تطور لمفهوم المدرسة ولتخطيطها، فالمسجد الذي تحويه كل مدرسة كان يمثل المكان الذي

__________

(1) ابن الخوجة، معالم التوحيد، مصدر سابق، صص. 132 ـ 133.

(1/8553)

استغله الطلبة والشيخ للتدريس والصلاة، وهنا من الممكن جداً إن اضطر هؤلاء لاستعمال بيت الصلاة الجامع.

... تعلمنا المصادر أن الأشغال انطلقت سنة 1136 هـ/ 1723 م، وأن الباي حسين أزال ثلاث خمارات كانت توجد قرب مسجد المسدوري وبنى عوضها دوراً للسكنى. أما بقية المساحة، فقد أنجز عليها الجامع والمدرسة وتربة أعدّها لنفسه(1) وكتّاباً. وأول صلاة أقيمت بالجامع كانت ظهر يوم الأحد 14 شعبان 1139 هـ/ 16 أفريل 1727 م(2)

__________

(1) لاحظنا بعده أن التربة أضيفت في جلّ الحالات إلى الجامع خلال الفترة العثمانية بمدينة تونس.

(2) محمد سعادة، المصدر السابق، ورقة 44 أ؛ حسين خوجة، المصدر السابق، ص. 161؛ الصغير بن يوسف، المشرع الملكي، المصدر السابق، ص. 15.

(1/8554)

. ويفيدنا الصغير بن يوسف أن الباي حسين أنفق أموالاً طائلة في بناء الجامع والمدرسة، وأنه جلب أعمدة الرخام من إيطاليا، بينما أتى بالزليج من إسطنبول.

... مما يبرهن على أهمية هذا المكان إحاطة العديد من المعالم الدينية والمدنية بهذه المجموعة التي توجد المدرسة في شمالها. ويبدو أن العثمانيين اهتموا بهذا الحي اهتماماً خاصاً منذ بداية القرن 11 هـ/ 17 م، فقد بنى به الداي عثمان قصره الراجع إلى حوالي سنة 1605 م.

(1/8555)

... أول ما يجذب الانتباه بالجامع الصومعة المثمنة التي تطل على الصحن الشرقي للجامع وعلى سوق الصبّاغين من الخارج. وتشدّ بيت الصلاة اهتمام المصلين نتيجة لثرائها الفني والزخرفي والمعماري. وأول ما يلفت الانتباه هو التصميم المتّسم بالطابع المحلي الذي تعودناه في بيوت الصلاة المنشأة خلال الفترة الحفصية، والتي استعملت أيضاً في الجوامع العثمانية بمدينة تونس كجامع يوسف داي وجامع حمودة باشا المرادي، والمختلف عن تصميم جامع محمد باي، وهو التخطيط المتمثل في قاعة مستطيلة الشكل، عرضها أكثر من طولها: فلها في هذا

(1/8556)

الجامع من الطول 17.20 م ولها من العرض 19.20 م. لهذا، فإن مساحة بيت الصلاة بالجامع الجديد متواضعة نسبياً.

... قسّمت بيت الصلاة بالجامع الجديد إلى خمسة أروقة لها الأبعاد نفسها، وهو ما نلاحظه أيضاً بخصوص المسكبات الأربع الموازية لجدار القبلة. وهي تختلف في هذه الناحية عن تصميم الجامع الأعظم وغيره من الجوامع التي تتميز ببلاطة المحراب الأعرض من بقية البلاطات؛ وقس على ذلك المسكبة الممتدة بطول جدار القبلة، والتي تمثل أعرض المسكبات، مما سمح بتكوين التخطيط المتعارف عليه بشكل T اللاتينية، وهو التصميم

(1/8557)

الأكثر انتشاراً بالبلاد التونسية.

... يختلف سقف هذا الجامع عن أغلب الجوامع الأخرى بما فيها الجوامع المؤسسة خلال القرن 11 هـ/ 17 م. فهو متكون في كل من طرفيه الأيمن والأيسر من أقبية طولية، وتتوسطها بالرواق المواجه للمحراب أشكال مقبّبة. وهي طريقة سيحصل اعتمادها فيما بعد في جامع صاحب الطابع الذي أثريت فيه هذه الأقبية الطولية بالنقوش الجصية. حملت هذه الأقبية الطولية بالجامع الجديد عن طريق عقود متقاطعة تستند بدورها إلى جدارات تتكون كل منها من حجارة متناوبة بيضاء وسوداء، وهي محمولة على أعمدة من الرخام

(1/8558)

الأبيض المستورد من كرارة، وهي المادة نفسها المستعملة في تيجانها ذات النمط الخليط الذي نلاحظ وجوده في صحن الجامع، وهو يحتوي على تأثيرين متداخلين: كورنتي من حيث عنصر الأوراق، وايوني من حيث الشكل الحلزوني. وقد استمده الرومان من هذين الطرازين، بينما للأربعة الأعمدة الحاملة لقبة المحراب تيجان من النمط المعروف بـ»ـالتركيّ« والذي نجده في الجوامع التي يطلق عليها »الجوامع الحنفية« لتأسيسها في الفترة العثمانية وتحبيسها على هذا المذهب. وبعكس أغلب الجوامع الأخرى، ونتيجة لضيق المساحة، تمت إضافة طابق علوي في

(1/8559)

جزء من أقسام الجامع، إذ خلا وسط بيت الصلاة من هذا القسم المضاف، وهو مصنوع من الخشب، ذلك ما يسمح بمضاعفة طاقة استيعاب الجامع. ولم تحصل هذه الإضافة إلا خلال القرن الفارط. فمن الواضح أن عدد سكان الحي ازداد بصفة جعلت الجامع يضيق بالمصلين، وهو ما دفع إلى إضافة السدّة وهي نفسها المستعملة من قبل الخوجات لتلاوة القرآن.

... يتسم إذن تصميم بيت الصلاة هذه بتواصل الأنماط الموجودة بالبلاد منذ عصور الإسلام الأولى. غير أن الإطار العام مختلف عن أغلب هذه الجوامع، خاصة فيما يتعلق باستعمال مربعات الخزف الكاسية

(1/8560)

للنصف الأسفل لجدار المعلم؛ وهو ما نلاحظه أيضاً في جامع صاحب الطابع. وبالرغم من تشابه هذه المربعات مع تلك التي لا حظناها بعد في جامع سيدي محرز، فإنها تختلف عنها في أشكالها، وهي تتسم في الجامع الجديد بوجود العديد من أنماط المربعات الخزفية، وهي التي اشتهرت بها جوامع مدينة إسطنبول كجامع الأحمدية وجامع السليمانية وبايزيت، إلخ.

... وإن كان النصف الأسفل للجدران مكسواً بمربعات الخزف، فإن النصف الأعلى مكسو بالنقوش الجصية، وهي أيضاً متأثرة بالنمط التركي.

(1/8561)

... وبالرغم من ثراء جميع جدران الجامع بشتى أنواع المربعات الخزفية والنقوش الجصية، فإن واجهة جدار القبلة تلفت الانتباه بصفة خاصة. فأول العناصر هو المنبر القار المبني بالحجارة، وهو يتشابه في نمطه مع الخمسة المنابر الأخرى الموجودة بالجوامع الحنفية.

... أما المحراب، فلا يختلف في نمطه عن بقية المحاريب الموجودة انطلاقاً من القرن 11 هـ/ 17 م، والتي تواصل العمل بها إلى اليوم. فالنصف الأسفل لهذا المحراب مكسو بسبع لوحات رخامية، متناوبة سوداء وبيضاء. ويعلو كل لوحة شكل معقود على هيأة محراب. كما خرّمت طاقية

(1/8562)

المحراب بالنقوش الجصية

المتمثلة في أشكال هندسية متداخلة، تتوسط كلاًّ منها أشكال عديدة متأثرة في جملتها بالفن التركي.

... آخر العناصر الهامة ببيت الصلاة هو قبة المحراب المحمولة على أربعة أعمدة ذات تاج عمود »تركي«، وهي التي لا تختلف في شكلها أو في مضمونها عن أغلب القباب التي لاحظناها في بيوت الصلاة بالمساجد ومساجد المدارس وبعض الأضرحة(1)

__________

(1) تتكون القبة من ثلاثة أجزاء: أولها مربع الشكل وأثريت أقسامه بنقوش جصية دقيقة الصنع تشبه في شكلها خلايا النحل، ويتم الانتقال إلى الطاقية عن طريق قسم ثان متكون من عقود زوايا تذكر بشكل المحارات. ونجد في الرقبة عميدات ثمانية (فقدت منها خمسة سيتم وضع أخرى مشابهة لها) بينما كسي أعلى قسم من القبة (الطاقية) بنقوش جصّية متمثلة في نجمة مثمّنة وسطى، وينطلق من كل واحد من أجزائها فرع، وهي تحصر فيما بينها مثلثات ثريّة.

(1/8563)

.

... لكن مقارنة مع ختمة جامع الزيتونة أو جامع يوسف داي، فإن الختمة القرآنية الموجودة بهذا الجامع تعدّ بسيطة في شكلها ومكوناتها.

جامع صاحب الطابع

... آخر جامع هو جامع صاحب الطابع الذي يعد آخر المنشآت الدينية العظمى التي أسّست خلال الفترة العثمانية بمدينة تونس. فهو سابع الجوامع الحنفية وآخرها زمناً. وإن كانت الجوامع الأخرى التي ذكرناها بعد قد أسست من قبل دايات وبايات، فمؤسس هذا الجامع، الوزير يوسف صاحب الطابع لا ينقص عن هؤلاء في الأهمية؛ إذ أدّى دوراً هاماً جداً في حياة البلاد كاد يضاهي به دور

(1/8564)

البايات أنفسهم(1). فقد بلغ أعلى المناصب وأصبح الساعد الأيمن لحمودة باشا، باي الإيالة التونسية، حتى وصل به الأمر إلى أن أوكلت إليه كل الأمور. وكان هذا الوزير يعد أثرى شخص في الدولة، وتأتّت ثروته خاصة من التجارة مع البلاد الأوروبية، وكذلك من استعمال سفنه العديدة في القرصنة؛ كما أدّى هذا الوزير دور البنوك، إذ كان يقرض الكثير من وجهاء المملكة مع فائدة طائلة. كل هذا سمح له بأن يكوّن ثروة طائلة وازت جباية الدولة آنذاك(2)

__________

(1) أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان...، مصدر سابق، ج 7، صص. 89 ـ 100.

(2) أحمد بن أبي الضياف، المصدر نفسه، ج 7، ص. 98.

(1/8565)

.

... كان الابتداء في بناء الجامع يوم الأحد أول محرم 1223 هـ/ 1808 م، وأقيمت أول صلاة في الجامع يوم الجمعة 12 ربيع الأول 1229 هـ/ 4 مارس 1814 م. وهي تعتبر من أحسن الفترات الحسينية ـ وبنى صاحب الطابع مع الجامع مدرسته المشهورة باسمه. ويوجد الجامع بقرب من منزل المؤسس، كما بنى عدة منجزات أخرى في الحيّ نفسه(1). وتوجد شمالي الجامع والمدرسة الزاوية البكرية، وغربيها زاوية سيدي شيحة، وجنوبيها زاوية وسبيل

__________

(1) خصوصاً منها الحمّام، الذي يعتبر متأثراً مباشرة بالنمط التركي والذي تم ترتيبه في سنة 1928 م.

(1/8566)

سيدي عبد السلام(1). وهو دليل على أهمية الموقع.

... باشر بناء الجامع وملحقاته(2) المهندس الحاج ساسي بن فريجة(3). ومن المؤكد أن بعض الأسرى الأوروبيين ساهموا في البناء. فيفيدنا محمد بن الخوجة »بوجود أسارى كثيرين بدهاليز أبراج غار الملح ومعامل ترسخاته حلق الوادي وسجون تونس« (4)

__________

(1) كما نجد قصر مصطفى خزندار على مقربة من مسكن يوسف صاحب الطابع. هذا، إضافة إلى عدد من المعالم الهامة الأخرى.

(2) خاصة المدرسة الطابعية والكتاب.

(3) وهو المدفون بقبّة سيدي مصطفى الجزيري داخل الباب الجوفي للجامع.

(4) محمد بن الخوجة، معالم التوحيد، مصدر سابق، ص. 140.

(1/8567)

. لهذا أذن الباي حمودة باشا بجعل سبعة وعشرين أسيراً من أصيلي مدينة نابولي الواقعة جنوبي إيطاليا(1) في تصرف وزيره لاستخدامهم في البناء. أما النقش على الجصّ والزخرفة وغيرها من الأعمال الفنية، فقد قام بها تونسيون(2).

... تذكر بعض المصادر أنه أتى بالرخام المستعمل في أطر الأبواب والنوافذ وفي صنع الأعمدة وتيجانها وفي تبليط الأرضية من

__________

(1) وهي ربما من الأسباب التي جعلت نمط الجامع متأثراً في بعض أجزائه بالفن والعمارة الإيطالية، خاصة منها أطر الأبواب والنوافذ.

(2) ابن الخوجة، المصدر السابق، ص. 140.

(1/8568)

جنوب إيطاليا (حسب محمد بن الخوجة) (1). أما ابن أبي الضياف، فيذكر أن أبا محمد حسين المورالي: »وكان من رؤساء شقوف يوسف (صاحب الطابع)، أنه خصه بنقل الرخام لجامعه من القرنة« (2). إلا أنه من الواضح أن الرخام وارد من كرّارة. فقد كانت الإيالة التونسية قد اشترت مقاطع رخام بها، واعتمدت عليها في جل ما بني انطلاقاً من القرن 12 هـ/ 18 م والقرن 13 هـ/ 19 م. وقد جازى الوزير هذا القبطان بأن ملّكه السفينة بجميع مدافعها وما يوجد عليها من آلات.

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) ابن أبي الضياف، المصدر السابق، ج 7، ص. 97.

(1/8569)

ويبدو أن حسونة المورالي نفسه هو الذي تبرع برخام قبر يوسف صاحب الطابع. كما احتفظ هذا الأخير بكمية هامة من الرخام والآجر ومربعات الخزف وآلات الردم في مخازنه: »ما يبني جامعاً آخر«(1)، إلا أنها سرقت كلها بعد موته.

... لكن حسنات صاحب الطابع لم تمنعه من أن يموت مقتولاً. فبعد موت حمودة باشا، اغتنم الفرصة أعداء الوزير وعلى رأسهم الوزير أبو عبد الله محمد زروق، ففتكوا به، وذلك قبل أن يتمّ صومعة جامعه سنة 1230 هـ/ 1814 م، ولم يقدم أحد بعد المؤسس على إتمامها، ولم تكمل

__________

(1) راجع ابن أبي الضياف، المصدر نفسه.

(1/8570)

نهائياً إلا منذ حوالي ربع قرن. ودفن المؤسس بتربته في الجامع الذي تعلوه قبّة بديعة الصنع تذكرنا في نمطها بقبّة التربة الباشية، خاصة في شكلها وفي حجمها وفي طريقة إثرائها بالنقشة حديدة.

... يتم الصعود إلى الجامع عن طريق مدرج أول رئيس يفتح على ساحة الحلفاوين، وعن طريق مدرج خلفي يذكرنا في نمطه بالمدرج الخلفي لجامع حمودة باشا. هذا، إضافة إلى مدرج ثالث قريباً من مدخل زاوية سيدي شيحة، يشبه في نمطه مداخل زاوية سيدي عبد القادر وزاوية سيدي قاسم الجليزي وكذلك دار لصرم... (1)

__________

(1) وهي كلها معالم مرتبة موجودة داخل مدينة تونس العتيقة.

(1/8571)

.

... لا يختلف الجامع في تصميمه وفي عناصره المعمارية عن بقية الجوامع المؤسسة خلال الفترة التي تلت انتصاب الأتراك العثمانيين بالبلاد. فللصحن شكل U اللاتينية، وهو يحيط ببيت الصلاة من ثلاث جهات: الأقسام الشرقية والشمالية والغربية، كما تظل بيت الصلاة هذه ثلاثة أروقة أهمها على الإطلاق ذلك الذي يوجد في الناحية الشمالية للصحن؛ وهو متكون من بائكة ذات تسعة عقود لها شكل حدوي، وهي محمولة عن طريق أعمدة مجزّعة. أما التيجان، فهي من النمط التركي الذي انتشر آنذاك. غير أن الصدفة المحلية للقسم الأسفل للتاج تعتبر

(1/8572)

من العناصر الجديدة بالنسبة إلى تيجان الأعمدة بصفة عامة، كما تعلوها زئبقة طويلة تنتهي في الأعلى بهلال. وإن كان الهلال من العناصر التي نعثر عليها في الكثير من تيجان تلك الفترة، فإن الزئبقة تعتبر من العناصر المضافة والمتميِّزة على تيجان هذا الجامع. كما أن زرقة الأقنثة التي تنحدر انطلاقاً من الشكل الحلزوني الموجود في كل من الزوايا الأربع للتاج، لها شكل قلّما نعثر عليه في تيجان الأعمدة الأخرى.

... نلاحظ في قصر دار حسين أن يوسف صاحب الطابع هو الذي أضاف فيه القسم الثاني للطابق العلوي بما فيها الصدفات

(1/8573)

البحرية التي تعلو النوافذ المحيطة بهذا الصحن، ونجد في الجامع النمط نفسه الذي يميِّز هذه الصدفات التي تعلو هي أيضاً النوافذ والأبواب المنفتحة على بيت الصلاة والمظلِّلَة للأروقة. لكن تلك التي توجد بالجامع تعتبر أثرى وأجمل من الموجودة بدار حسين؛ فقد زخرفت من الداخل بأشكال تضفي عليها جمالاً فتاناً.

... كما أن المئذنة هي من النمط نفسه الذي منه المنارات الأخرى التي نلاحظها في جوامع يوسف داي وحمودة باشا والجامع الجديد، لكن يمكن اعتبار مئذنة صاحب الطابع أكثر رشاقة وأناقة وارتفاعاً من الأخريات. وفي

(1/8574)

المكان نفسه الذي أشرنا إليه في جامع محمد باي المرادي وجامع حمودة باشا والجامع الجديد، نجد أيضاً محراباً خارجياً بجامع صاحب الطابع، أي في الصحن الشرقي، وهو يشبه في نمطه وفي زخارفه المحاريب الراجعة إلى النصف الثاني للقرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي وبداية القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. فإن كان القسم الأسفل مكسوّاً بلوحات من الخزف ذات التأثير المغربي، فقد حلّيت الطاقية بنقوش جصيّة مقسّمة إلى خمسة أجزاء متأثرة بالنمط الأندلسي والتركي على حد سواء.

(1/8575)

... أما بيت الصلاة نفسها فهي تتكون من سبع مسكبات لها كلها الأبعاد نفسها. وهي منفصلة بعضها عن بعض عن طريق أروقة يبلغ عددها تسعة، لها هي أيضاً الأبعاد نفسها. ويمتاز جامع صاحب الطابع بسقفه المتكون من أقبية طولية يبلغ عددها سبعة، لها اتجاه شرق ـ غرب ويحدّها يمنة ويسرة قبوان طوليان آخران لكل منهما اتجاه شمال ـ جنوب، وهي كلها مزخرفة بنقوش جصّية بديعة. إلا أننا نلاحظ اختلافاً في أنماط الزخارف بين القبو والآخر، وتمثل في مجملها تأثيرات تركية؛ وهي تتكون من مزهريات وغصون وأوراق وزهور، ثم نجد في البعض

(1/8576)

الآخر أطباق نجوم صغيرة تتوسط مربعات متكونة من أشكال هندسية، إلخ. مما يضفي على هذه السقوف الكثير من الجمال والبهجة، وهي تذكرنا في شكلها وفي نمط نقوشها بقبو طولي موجود بإحدى قاعات تربة البايات، فهي ترجع هي أيضاً إلى بداية القرن الماضي. وإضافة إلى القباب السبع، توجد أربع منها بزوايا بيت الصلاة، وتتشابه كل اثنتين في زخارفها. إذ توجد بالناحية الجنوبية (شرق المحراب وغربه) قبّتان لهما الشكل نفسه. فقاعدة كل قبّة مربعة الشكل، ولها في زواياها الأربع عقد زاوية محلّى هو أيضاً بنقوش جصّية. ويتم الانتقال إلى

(1/8577)

الطاقية عن طريق رقبة مستديرة الشكل. أما القسم الأخير لكل من هذين القبتين، فقد حلّي في وسطه عن طريق نجمة تنطلق نحو أطباق نجمية ذات تأثير تركي، وإن كان للقبّتين الأخريين الموجودتين بالزاوية الشمالية الشرقية والشمالية الغربية شكل القبتين الأوليين نفسه، فتختلف زخارف طاقيتهما عن القبّتين الأخريين. فلهذه نجمة مثمّنة تتفرع عنها ثمانية ضلوع، تتوسط كلاًّ منها مزهرية. كما توجد قبّة خامسة تواجه قبّة المحراب من الناحية الشمالية، وهي تعلو الباب الأوسط الذي يفتح على بيت الصلاة من ناحيتها الشمالية. وبالطبع،

(1/8578)

فإن وجود أربع قباب بزوايا بيت الصلاة، إضافة إلى قبّة المحراب وقبتين أخريين، يشكل نمطاً فريداً من نوعه بمدينة تونس.

... أما الأعمدة المجزّعة والتيجان التي تعلوها، فلها الشكل نفسه الذي لاحظناه بخصوص الأعمدة الحاملة للأروقة الخارجية. كما أن العقود لها شكل عقود بائكات الصحن نفسه، وهي تشابه في نمطها الأعمدة الموجودة بدار البارون درلنجي وكذلك أعمدة دار باش حامبة...

... يظهر ثراء الجامع بارزاً للعيان في الواجهات الداخلية لبيت الصلاة التي كسيت بلوحات الرخام المستورد من كرارة والتي تعلوها مربعات الخزف،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...