Translate

الأربعاء، 22 مارس 2023

ج19 مجلة التاريخ العربي

    ج19 مجلة التاريخ العربي

    المحكمة« وغرست فيه »الأشجار المشمومات والمأكولات« وأجريت فيه »مياه كثيرة تدور على جميع البيوت زيادة على أربع برك في وسطه إحداها رخام أبيض« وما له من »الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم« وتزويده بالأدوية والصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال مع ثياب الليل والنهار للمرضى ومجانية العلاج ورعاية المنصور الموحدي الشخصية له بزيارة أسبوعية لتفقد حال المرضى. وقد أشاد مؤرخ فرنسي معاصر بهذا المستشفى الذي بذ في نظره مستشفيات باريس في عنفوان القرن العشرين(1)

    __________

    (1) ... الموحدون (Les Almohades) للسيد Millet، طبعة 1927.

    (1/15414) 

    ... وقد رأينا كيف بلغ المصطلح العلمي أوجه في هذه الفترة التي آوى خلالها العرش المغربي في ظلال مراكش الحمراء أقطاب الفكر الأندلسي الذين مهدوا بكشوفهم العلمية في شتى الميادين عهد النهضة والانبعاث بأروبا حيث ظلوا أساتذتها المرموقين طوال قرون.

    ... أما المرينيون الذين كانت لهم أرقى المقومات الملكية بالمغرب وأغناها وأحقها بتبني التراث الموحدي في إفريقية والأندلس، فإن مغربهم الزاهر كان منطلق الإشعاع في مجموع الشمال الإفريقي(1)

    __________

    (1) ... مارسي (Marçais) في كتابه L’art l’Islam، ص. 134. وقد ظهرت في هذا العصر نتيجة للتأثير الغرناطي الموسيقى الأندلسية بمصطلحاتها وبعض التعابير القانونية مثل لفظة "الظهير" بمعنى المرسوم الملكي (صبح الأعشى، ج 15، ص. 299).

    ... وقد أسهم العلماء والأدباء في الصناعة والتجارة، مما أكسب الكثير من المصطلحات طابعاً فصيحاً؛ ومنهم محمد الغساني الذي كان تاجراً بقيسارية آسفي يدير حانوته بعد الفراغ من تدريس الموطإ والسير والنحو والآداب واللغة، وهو من رجال القرن السابع (توفي عام 663 هـ (الذيل والتكملة)، ومنهم كذلك العلامة محمد بن عبد الله معن الذي كان يتمعش (كلمة مغربية معناها يتعيش) بعمل دود القز بفاس (نشر المثاني في ترجمة علماء القرنين الحادي عشر والثاني، ج 1، ص. 197).

    (1/15415)

    حيث تبلورت مدينتهم الحضرية في أروع ما عرفه المغرب الكبير من حواضر ومساجد ومعاهد وقبب وفنادق ومدارس وملاجئ وحمامات وقناطر وحصون، وخاصة في عهد أبي الحسن المريني (1331 ـ 1351) الذي يعتبره الغربيون أقوى عاهل في القرن الرابع عشر. وقد كان لتزاوجهم الحضاري مع غرناطة النصرية وارثة الأندلس ذيول عززت التراث المشترك الذي ما لبث أن انتقل بكامله مع رجال المهاجر إلى المغرب ليشكل الحضارة المغربية الأندلسية الموحدة. وقد ظهرت في الحقل الاجتماعي لأول مرة مدارس هي عبارة عن أحياء جامعية مجانية للطلبة في مختلف

    (1/15416)

    المدن كفاس وتلمسان والجزائر(1)، علاوة على قصور فخمة تجلت فيها مهارة المهندسين والفنانين في تصميم معماري محكم. ويمكن أن نقدر من خلال وصف(2) لأحد هذه القصور مدى تطور المصطلح الفني والأنواع الجديدة من أرباب الصناعات كالبنائين والنجارين والجباسين والزليجيين والرخامين والقنويين والدهانين والحدادين والصفارين

    __________

    (1) ... ابن مرزوق، نخب من المسند الصحيح الحسن في مآثر أبي الحسن.

    (2) ... المصدر نفسه، حيث أشار ابن مرزوق إلى وضع تصميم معماري لهذا القصر وصفه بأنه رسم في كاغد لتقدير الساحة (أي المساحة).

    (1/15417)

    والجدارات المنقوشة بالجبس والزليج والأرز المحكم النجارة والصناعات المشتركة (كالتوريق والتسطير) مع فروش الرخام والزليج وطيافير (فسقيات) المرمر والقبب والخوخ (أي الأبواب) والخزائن بنحاسها المموه بالذهب والحديد المقصدر. غير أن هذه المظاهر الحضارية لم تتجاوز المدن، لأن البادية (أي الأرياف والسواد) ظلت نسبيّاً في معزل عن تياراتها بسيطة في سكنها ومطعمها وسلوكها قد حفظت تراثاً لغوياً أصيلاً ما زالت الحواضر تطعمه تدريجياً استجابة لمقتضيات العصر. وقد لاحظنا أن قبائل عاشت في أرباض عواصم كرباط الفتح مثل

    (1/15418)

    زعير ظلت عالقة إلى عهد حديث بتراثها اللغوي الجاهلي الخالي من أي شائبة، الأمر الذي أسفر عن نوع من الخلل بين المصطلح الكلاسيكي القديم ومولدات العصر الحديث.

    ... وقد توافرت هذه المجالي الحضارية ولوازمها اللغوية العربية التركية في العصر السعدي عندما اقتبس المغرب بعض الأنظمة العسكرية العثمانية، كما دخلت إلى المغرب أفواج المهاجرين الأندلسيين بلغت في مدن كتطوان أربعين ألفاً فيهم الأديب والعالم والفنان والعامل المختص والتاجر والفلاح. وإذا كانت هذه المظاهر تنعكس على العادات الاجتماعية والمآثر العمرانية،

    (1/15419)

    فإننا نلاحظ بخصوص الأزياء مثلاً أن سكان حواضر أندلسية مثل فاس وتطوان والرباط أصبحوا يضعون على رؤوسهم قلانس حمراء قد لفت عليها عمامة تتوسطها شوشة زرقاء (أي نواسة) بعد النفي العام أوائل القرن السادس عشر الميلادي، لأن الشوشة الزرقاء لم تكن معروفة بالأندلس قبل عصور التحقيق الصليبي (Inquisitions) حيث أجبر الإسبان العرب الممسحين على التميز بشارة زرقاء(1)

    __________

    (1) ... في عام 1019 هـ هاجرت ألوف الأندلسيين إلى فاس وألوف إلى تلمسان وجمهورهم من تونس، فتسلط عليهم الأعراب ونهبوا أموالهم في تلمسان وفاس، وسلم أكثرهم في تونس وتطوان وسلا وفسحة الجزائر ووصل جماعة إلى قسطنطينية العظمى ومصر والشام (نشر المثاني، عن النفح، ص. 101).

    (1/15420)

    .

    ... ولباس البياض في مناسبات وفصول خاصة هو أيضاً عادة أندلسية، حيث كان هؤلاء يخلعون الثياب الملونة ويلبسون البياض ابتداء من يوم المهرجان (أي العنصرة كما تسمى في العدوتين)، أي 24 يونيه. وذلك إلى أول أكتوبر خلال ثلاثة أشهر متوالية ("النفح"، ج 2، ص. 752).

    ... أما في الحقل العمراني، فإن قصر البديع الذي استغرق بناؤه زهاء العشرين سنة (986 هـ ـ 1002 هـ) يبرز لنا مدى التطور الحاصل في الفكر الحضاري ولغته. فقد ظهرت معه فنون طريفة ومصطلحات فريدة كالرخام المجزع والزليج الملون والقباب الخمسينية(1)

    __________

    (1) ... أي التي فيها خمسون ذراعاً بالعمل، أي بالنقش. وكانت الجدران تحلى أحياناً بأنواع التطريز ومنه النوع الفاسي الذي هو سوري الأصل. وفي سلا نماذج من أصل فارسي أو شامي. ويلاحظ في تطريز الرباط تأثير الأنسجة الأوربية، وكذلك في أزمور التي يرجع تاريخ نماذجها الإسبانية الإيطالية إلى القرن العاشر الهجري (مجلة هسبريس، 21، عام 1935).

    ... ويوجد بفاس تطريز علجي الأصل أدخلته إلى المغرب النساء التركيات أو الجركسيات اللواتي تسرى بهن أهل فاس، أما التطريز التطواني، فهو من أصل بلقاني.

    (1/15421)

    كتبت في أبهائها الأشعار بمرمر أسود في أبيض تذكرنا بروائع الأندلس. فمن شعر أبي فارس عبد العزيز الفشتالي يصف فن هذه الروائع:

    فإنها والتبر سال خلالها

    وكان أرض قراره ديباجة

    وكأن موج البركتين أمامه

    صفت بضفتها تماثل فضة

    وشي وفضة تربها كافور

    قد زان حسن طرازها تشجير

    حركات سُحْب صافحته دَبور

    ملك النفوس بحسنها تصوير

    وقد كتب بجدران المصرية(1) المطلة على الرياض:

    __________

    (1) ... المصرية، أي الغرفة الواقعة في طبقة عليا (العلية بالفصحى). ولعل لوجود طبقات في الأبنية منذ القديم بمصر أثراً في هذه التسمية.

    (1/15422)

    باكر لدي من السرور كؤوسا

    وأرض النديم أهلة وشموسا

    ... وكان هذا الإطار العمراني الرائق مسرحاً لحفلات شعبية بمناسبة حفلات كذكرى المولد النبوي يجري خلالها إعذار أبناء الفقراء ويتبارى الشماعون في تطريز شموع "يحملها صحافون ـ كما يقول الفشتالي في "مناهل الصفا" ـ محترفون بحمل خدور العراش عند الزفاف"، وهي على رؤوسهم كالعذارى تتبعها الأطبال والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوي على منصات بالديوان الشريف حيث يقعد السلطان على أريكته وعليه حلة البياض شعار الدولة وأمامه شموع من بيض كالدمى وحمر جليت في

    (1/15423)

    ملابس أرجوان وخضر سندسيَّة في حسك ومباخر ترنم خلالها نوبات منشدي المولديات وأشعار الصوفية وتتلى قصائد شعراء الدولة بغزلها ونسيبها ومديحها للرسول عليه السلام وللسلطان وولي عهده في تراتيب يتقدمها قاضي الجماعة ثم الإمام المفتي ثم الوزير، ثم الكتاب المخزنيون. ويختم الحفل بنشر "خزان الأطعمة والموائد، وتوزيع الأعطيات" وكأن هذه القصور الباذخة في فرشها الحريرية ونمارقها المصطفة وأستارها وكللها وحجالها المخوصة بالذهب وحائطياتها ورصفانها وأعلاجها بأقبيتهم المخوصة ومناطقهم المرصعة وحزمهم المذهبة ـ صور حية

    (1/15424)

    لفخفخة استمرت معالمها في القرن العشرين في بلاط الملوك العلويين وقصور الأثرياء حيث استعيض عن القصاع المالقية والبلنسية المذهبة وعن الأواني التركية والهندية والطسوت والأباريق والصحاف ومباخر العنبر والعود الشرقية بأوعية لا تقل روعة قد جلبت من مختلف أنحاء الدنيا شرقاً وغرباً لتضفي هالة من الجمال والسناء على محافل نشرت فيها كالماضي أغصان الريحان الغض وماء الزهر والورد. كما استبدلت بنوبات المنشدين نوبات الموسيقى الأندلسية الرائعة التي تسحر الألباب بنغماتها المشجية وتلاحينها الأخاذة وألوانها الخمسة

    (1/15425)

    والخمسين وتوشيحاتها التي تردد في حنان وخشوع على ألسنة الخاصة والعامة لتسهم في تحريك نبرات القلوب وتوعية الروح وتأجيج الشعور وتوفير الثراء اللغوية في الدارجة والفصحى على السواء. فكم من تعابير تخللت الألحان كانت أرسخ في البواطن وأملك للوعي وكم من أغنيات ساحرة رددها الرضيع في حبوه وربة الخدر في حجلتها كان أثرها أوقع في النفس ولفظها أعلق باللسان من كل قصيد يلقن في الكتاب أو درس لغوي يلقى في حلقات العلم.

    (1/15426)

    ... وإذا كان عهد السعديين قد نضدت معالمه بالزخارف المعمارية والروائع الاجتماعية، فإن عهد العلويين الذي أقيمت فيه القصور والبساتين نفسها مثل دار الهناء والدار البيضاء والصالحة والزاهرة وجنان رضوان وأجدال بالبذخ نفسه قد اتجه إلى دعم الكيان بالقصبات والقلاع. ومن أروع ما يبدهك في قصر من هذه القصور كقصر الرياض بمكناس عاصمة المولى إسماعيل جمعه بين فخفخة البلاطات الملكية وضخامة التحصينات بأبراجها ومدافعها إزاء البرك الفياضة للتمرين والانبساط معاً في فلكها وزوارقها. وكانت أهراء القصر تضم اثني عشر ألفاً

    (1/15427)

    من خيل الجهاد وعشرات المستودعات زاخرة بمؤن تكفل للبلاد اكتفاء ذاتياً وميزاناً تجارياً متوازياً. وقد بدأنا بالرغم عن أصالة اللغة العربية بالمغرب نسمع في معماريات العلويين وعمرانياتهم مصطلحات جديدة فيها الكثير من الدخيل كالقنانيط (أي الهياكل) المقبوة في الأهراء والإصطبلات المسقفة بالبرشلة (وهي نوع من الروافد والعوراض (pignon) وسواني الماء الدائرة (أي النواعير المائية) والقراميد، علاوة على المولدات العسكرية والدبلوماسية واتخاذ الأشبار (أي حفر الخنادق الحربية) وصنع البارود الكور والبنب (أي القنابل

    (1/15428)

    والقذائف) ونصب المهاريس والكراريص (أي المدافع المجرورة والضوبلي) لتحرير الثغور المحتلة وبعث الباشدورات إلى طواغية (جمع طاغية) الإصبنيول أو البرتغال أو النجليز »لإحكام الصلح« ومفاداة الأسرى البلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري دعماً للطبجية (أي المدفعية) والبحرية المغربية بغلائطها (سفنها الحربية) وفراكطها (أي حراقاتها) ومراكبها القرصانية. ودخلت إلى المعجم المغربي بجانب ذلك عشرات المفردات مثل الكشينة(1)

    __________

    (1) ... راجع: علي بن محمد التامجروتي، النفحة المسكية في السفارة التركية.

    (1/15429)

    والباصبورط (الجواز) والطنبور والكرنتينة (المحجر الصحي) والمحلة (أي المعسكر) وصاكة الأعشار (أي رسومها) وصقالة (أي برج) والتوافل (الرماح) وتفرقع البونب (أي انفجار القنابل) (1)

    __________

    (1) ... ظهرت هذه الكلمة منذ السعديين. وقد استعمل الناصري (في تاريخ المغرب) هذه المصطلحات التي بدأ يستعملها آنذاك سلفه من المؤرخين. وقد استعرض الناصري (ص. 224) النظام العسكري عند الأتراك، فلاحظ أن أهم ما يمتازون به هو العزوف عن العادات الأجنبية والمصطلحات العجمية، حيث »عمت المصيبة في عسكر المسلمين بالتخلق بخلق العجم. وإذا كان أصل العمل مأخوذاً عن العجم، فليجتهد المعلم الحاذق في تعريبه«. (راجع الاستقصا، الجزء الرابع).

    (1/15430)

    والبستيون وأنواع النقود كالبندقي في أربعين أوقية من الذهب والضبلون (doublon) في اثنين وثلاثين من الريال (الريال (real) فيه عشرون أوقية) والبسيطة (خمس أواق) والموزونة (ربع الدرهم الرباعي، أي نصف القرش) والسنجق(1) وبقسماط (بسكويت). وكل تلك مظاهر

    __________

    (1) ... الاستقصا، ج 4، ص. 233 يصف الوضع بالمغرب عام 1290 هـ. وقد شارك الصانع المغربي في معرض باريس عام 1285 هـ (أي في عهد نابليون الثالث) بنماذج من إنتاجه كالسروج المذهبة والمناطق المزخرفة والقطائف المنمقة والزليج الفاسي والمعلمين الذين يباشرون ترصيفه.

    (1/15431)

    للعجمة التي بدأ المجتمع المغربي يتسم بها حيث »اتخذ ذوو اليسار ـ كما يقول الناصري ـ المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفيسة وتأنقوا في البنيان بالزليج والرخام والنقش البديع، ولا سيما بفاس ورباط الفتح. ولاحت على الناس سمة الحضارة الأعجمية« التي تعززت مع ذلك بمقتبسات غربية صالحة مثل فابريكة (أي مصنع) السكر وفابريكة تزديج البارود بمراكش وبرج الفنار (لتوجيه السفن في البحر) بأشقار قرب طنجة وبابور البر (القطار الحديدي) والتلغراف إلى غير ذلك. وهكذا بدأت تتجلى في الأفق المغربي على عتبة القرن

    (1/15432)

    العشرين مصطلحات استعملها المغرب في قالبها الإفرنجي دون تعديل. وقد تحدثنا في كتابنا "تطور الفكر واللغة..." (ص. 161) عن ظهور هذا الدخيل خلال الحماية وبعد الاستقلال. فأوضحنا كيف تمت وحدة نسبية بين جناحي العروبة عندما ظهرت الصحافة المغربية واشرأبت الأعناق إلى ما يرد من الشرق العربي، وخاصة من الشام ومصر حيث انبثقت حضارة طريفة ضمت إلى جوهر الإسلام ومعطياته جوانب من الفكر الغربي الحديث.

    (1/15433)

    وصايا وتوقيعات أندلسية من خلال مخطوط "رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير" تأليف: أبو القاسم محمد بن أبي العلاء بن سماك العاملي

    تقديم: الدكتورة نجاة المريني

    ... ... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

    المؤلف: هو الكاتب أبو القاسم بن أبي العلاء بن محمد بن محمد بن سماك العاملي المالقي، من أسرة اشتهر أبناؤها بتبحرهم في العلم والأدب والشعر، وباشتغالهم بالسياسة والقضاء ...

    ترجم للمؤلف ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة، فقال: "من كتاب الدولة، فاضل نجيب، ولدواعي المجادة والإجادة مجيب، ونوارة

    (1/15434)

    مرعى خصيب، وفائز من سهام الإدراك بنصيب، خصاله بارعة، ونصاله شارعة، وشمائله إلى نداء الفضائل مسارعة، على حداثة يندر معها الكمال، وتستظرف الأعمال، فإن انفسح مداه، بلغت السماك يداه"(1) .

    وينبه الدكتور محمود علي مكي إلى أن "السطور القليلة التي كتبها ابن الخطيب عن ابن سماك هي كل ما نتوفر عليه من معلومات وحيدة حول مؤلفنا وحياته، ويستفاد منها أنه كان يعمل بديوان الإنشاء الذي كان يعمل فيه أبو العلاء، وأنه كان وفيا لشيخه ابن الخطيب، فلم يتنكر

    __________

    (1) تحقيق إحسان عباس، ط. 1963، رقم الترجمةة 100، صص. 299-301.

    (1/15435)

    له، ولمن يسع في إذايته كما فعل غيره كالبناهي وابن زمرك"(1) .

    ويحتمل من خلال الترجمة التي أوردها ابن الخطيب لأبي القاسم ابن سماك في الكتيبة الكامنة أنه ولد سنة وفاة أبيه أبي العلاء سنة 750 هـ أو قبلها بقليل سنة 748هـ، وفي هذه النقطة يقول الدكتور مكي: "وأهم ما نستفيده من الترجمة أن ابن سماك كان من كتاب ديوان الإنشاء، إلا أنه كان صغير السن، حديث عهد بتولي منصب الكتابة، يدل على ذلك الأسلوب

    __________

    (1) ابن سماك العاملي، "الزهرات المنثورة"، تقديم وتحقيق محمود علي مكي، مجلة المعهد المصري، المجلد 20، ص. 20.

    (1/15436)

    الأبوي الذي يتحدث به المؤلف عما توسم فيه من مخايل النجابة، وعما يتنبأ به إذا امتد به حبل العمر، فإشارته إلى الحداثة، وتعبيره عنها بأنه "نوارة مرعى خصيب" تدل دلالة واضحة على أن أبا القاسم كان آنذاك في ريعان الشباب، ونحن نتصور أن ابن سماك كان آنذاك في سن تتراوح بين العشرين والثلاثين، مما نرجح معه أن يكون مولده في نحو منتصف القرن نحوا من عشر سنوات، وأن عمره كان حينما كتب ابن الخطيب ترجمته في الكتبية، ما بين الخامسة والعشرين والثلاثين"(1)

    __________

    (1) "الزهرات المنثورة ..."، مجلة المعهد المصري، المجلد 20، ص. 18.

    (1/15437)

    .

    أما سنة وفاته، فلا نعرف عنها شيئا بالتدقيق، إلا أننا نستطيع أن نستخلص من مقدمة كتابه رونق التحبير الذي أهداه إلى الخليفة المستعين بالله المتوفي سنة 810هـ، ومن مدخه للسلطان يوسف الثالث المتوفى سنة 820هـ، أن وفاته كانت بعد تولية السلطان يوسف الثالث الحكم بين (812هـ) و(820هـ).

    وقد عاصر ابن سماك جماعة من الملوك النصريين، واحتك بثلاثة منهم وأهداهم مؤلفات وصلت إلينا وهم:

    - محمد الخامس الغني بالله المتوفى سنة 793هـ، وأهداه ابن سماك مؤلفيه: "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية"(1)

    __________

    (1) تحقيق عبد القادر زمامة وسهيل زكار، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1979.

    (1/15438)

    ، و"الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة"(1) .

    - محمد الخامس الغني بالله المتوفى سنة (810هـ): أهداه المؤلف كتابه رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير(2) .

    - السلطان يوسف الثالث المتوفى سنة (820هـ): وامتدحه المؤلف بقصيدتين ابن فركون في ديوان مظهر النور(3) والقصيدة الثالثة في

    __________

    (1) تحقيق وتقديم الدكتور محمود علي مكي، ونشره تباعا في مجلة المعهد المصري، العدد 20، 21.

    (2) هو موضوع هذا العرض، وما يزال مخطوطا.

    (3) ابن فركون، مظهر النور الباصر، إعداد محمد بن شريفة 1991، تحقيق محمد بن شريفة، صص. 27، 94.

    (1/15439)

    الكتيبة الكامنة(1) .

    ويشير الدكتور محمد بن شريفة في تقديمه لديوان ابن فركون مظهر النور(2) ، أن الشاعر ابن سماك "هو الوحيد الذي شفع التهنئة بالتعزية في قوله:

    فقل جذلا به أهلا وسهلا ... ... ولا تأسف على إلفٍ

    يستنتج من هذا، أن ابن سماك، وإن كانت سنة وفاته غير معروفة بالضبط، فقد عاش فترة حياته في عهد السلطان يوسف الثالث، وكانت وفاته كما سبقت الإشارة إلى ذلك بين سنتي 812هـ، 820هـ، أو بعدها بقليل.

    كتاب "رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير":

    __________

    (1) ص. 300.

    (2) ص. 9.

    (1/15440)

    ... من المؤلفات التي اهتمت بالسياسة والسياسيين في العصر النصري، ألفه أبو القاسم محمد بن أبي العلاء بن سماك العاملي للسلطان النصري محمد المستعين (ت 810هـ)، وهو ما يزال مخطوطا، اطلعت على ثلاث نسخ منه، الأولى خاصة، والثانية محفوظة بقسم الوثائق والمخطوطات بالرباط تحت رقم 1182د، والثالثة محفوظة أيضا بقسم الوثائق والمخطوطات ضمن مجموع تحت رقم 1121ك، وهي غير مفهرسة.

    وكما يذكر المؤلف في مقدمة كتابه فقد: "رفع فيه الموضوعات والمصنفات في الفنون المختلفات، وجمع العبد الآن في هذا الموضوع من السياسات

    (1/15441)

    المستحسنة ما استفاده ببابهم الكريم منذ ثلاث وثلاثين سنة، اتصل إلي معرفة ذلك بالحنكة والتجريب، والممارسة والتدريب، فلخص معانيه، وقرب أبوابه أحسن التقريب، ليخف النظر فيه على من تأمله، ويلقي قوانينه مستوفاة بلغت عدتها إلى الأربعين، ورفعه العبد إلي خزانة مولانا الخليفة المستعين، وكل ما فيه إنما هو بعض ما عند مولانا أيده الله من العلوم والمعارف".

    يتناول من خلال أبوابه الأربعين أحوال الملوك وهيئاتهم وأخلاقهم وصفاتهم، وأحوال الوزراء والكتاب والسفراء والقواد والعساكر والجنود، وسياسة الحروب وتدبيرها،

    (1/15442)

    وفي المنادمة والندماء، وفي مسايرة الملوك في مختلف أحوالهم وظروفهم، وغير ذلك.

    والكتاب مليء بالأخبار والمرويات، والنصائح والعظات، والوصايا والأحكام في حسن السياسة والتدبير، وبعد النظر والتفكير، مستفيدا من التاريخ، "وأيام الناس وسير الملوك وأخبار المتقدمين من الأمم الماضية، والأجيال الخالية والسياسات المأثورة"(1) .

    وأعتقد أن هذا المؤلف يندرج في إطار مؤلفه "الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة"، الذي وصفه الدكتور محمود علي مكي بقوله: "إنه مجموعة من الأخبار والطرائف

    __________

    (1) الورقة 10 من المخطوط.

    (1/15443)

    والمواعظ مما قصد به المؤلف إلى تقديم مادة لتثقيف المتأدبين من الأمراء وأبناء السلاطين، مادة يودعها المؤلف خلاصة لقراءاته في كتب الأدب التي تضم أطرافا من كل فن، ويبدو الهدف التربوي التهذيبي بشكل خاص في الزهرات الأولى التي تدور حول السلطان وسياسة الرعية وواجبات الحاكم والمحكومين"(1) .

    ويرى الدكتور مكي أن هذا النوع من التأليف "يستهدف ما يمكن تسميته بالتربية السياسية، من ذلك "اللؤلؤة في السلطان" من العقد الفريد لابن عبد ربه القرطبي (ت 328هـ)، و"سراج الملوك"

    __________

    (1) مجلة المعهد المصري، المجلد 20، ص. 26.

    (1/15444)

    لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي (ت 520هـ)، ورسالة ابن الخطيب في "السياسة" التي كتبها في صورة مقامه(1) . وكتاب "عين الأدب والسياسة، وزين الحسب والرئاسة" لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل الغرناطي(2) (ت؟)"(3) .

    ولعل ابن سماك في مؤلفه "رونق التحبير" قد استفاد من المؤلفات المختلفة التي تناولت السياسة وأهوالها، وطبائع الملك وأخبار الملوك، وخبر بنفسه باعتباره ملحقا بديوان

    __________

    (1) انظرها في نفح الطيب، ج 6، صص. 431 - 445.

    (2) كان معاصرا لابن سماك، ولا تعرف سنة وفاته.

    (3) مجلة المعهد المصري، المجلد 20، ص. 26.

    (1/15445)

    الإنشاء، أحوال الأمراء والملوك في الرخاء والشدة، فعمد إلى تأليف كتاب يتضمن خلاصة تجاربه وقراءاته في الكتب المختلفة التي تناولت السلطان والرعية وواجبات الحاكم والمحكومين، مستفيدا مما كتبه ابن عبد ربه عن عمل الكتاب: "فكتاب الملوك عيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتهم الناطقة، والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة جليلة تحتاج إلى آلات كثيرة"(1) .

    وإذا كان ابن سماك قد استغرق في تأليف كتابه وجمع مادته أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، هي مدة خدمته - على ما يبدو -

    __________

    (1) العقد الفريد، ج 4، ص. 179.

    (1/15446)

    في ديوان الإنشاء، فإن حذره، وهو يخاطب الأمير أثناء التقديم واضح في قوله: "وكل ما فيه، إنما هو بعض مما عند مولانا أيده الله من العلوم والمعارف، ومما جبله الله عليه من طباع الخلائف، ومما لديه من الإطلاع على أخبار من تقدم في الزمن السالف، فهو - أعلى الله مقامه وأدام للأمة المحمدية أيامه - الملك الذي استولى على صفة الكمال واختص بحلَى الحسن والجمال، والله تعالى يزيده من فضله وإحسانه، ويخلد رفيع سلطانه، ويديم أيامه التي هي أيام العز والهدنة والأمان والعافية، ويبقيه في ظل النعمة الشاملة والعصمة

    (1/15447)

    الكافية بفضله وكرمه"(1) .

    ويظهر أن الدكتور محمد بن شريفة أول من استفاد من مخطوط "رونق التحبير"، وأشار إليه في العرض الذي قدمه في ندوة "المخطوط العربي وعلم المخطوطات"(2) ، عندما تحدث عن خط الجزم، وهو الخط الكوفي، كما تحدث بن شريفة عن هذا المخطوط في بحث نشر له مؤخرا عنوانه: "ظاهرة التأليف في السياسة في العصر المريني: البواعث والمعطيات"(3)

    __________

    (1) مقدمة المخطوط.

    (2) انعقدت الندوة بكلية الآداب بالرباط في فبراير 1992. ونشرت أعمالها ضمن منشورات الكليةالمذكورة سنة 1994، ص. 75.

    (3) مجلة كلية آداب بني ملال، عدد 1، 1994، ص. 25.

    (1/15448)

    ، باعتبار هذا الكتاب من الكتب السياسية المؤلفة في العصر المريني.

    وأخيرا، فقد علمت، أن الدكتور علي سامي النشار كان قد أعد هذا المخطوط للنشر بعد تحقيقه، لكن المنية عاجلته قبل تحقيق ذلك ...

    وأتناول في هذا الموضوع تقديما وتحليلا بابين من أبواب كتاب "رونق التحبير" هما: باب الوصايا، وباب التوقيعات.

    باب الوصايا:

    تناول ابن سماك في البابين الأخيرين من مؤلفه رونق التحبير الوصايا والتوقيعات، باعتبارهما موضوعين هامين يصدران عن الحاكم، ويرسمان معالم سياسته للأمير والوالي، وكل من ارتبط بسبب بالحكم والحاكم

    (1/15449)

    والمحكوم، فلم يبخل ابن سماك بتدوين هذه الوصايا والتوقيعات وتقديمها كمختارات لقراءته، ومقتطفات من محفوظاته للتوجيه والإرشاد والنصح والعظة، سواء صدرت هذه المختارات والمقتطفات عن كتاب وأدباء، أو ملوك وأمراء، أو حكام وعلماء، وغيرهم ممن اقتضى الموضوع تقديم تجاربهم السياسية، وتوجيهاتهم السلطانية في فترات عديدة شملت عهود الفرس واليونان، وعصور صدر الإسلام والخلفاء الراشدين وعصور بني أمية في الشرق والأندلس، وكذا عصر بني العباس إلى زمان المؤلف.

    (1/15450)

    وللوصايا - كما يشير الأستاذ علي الغزيوي - "أهمية بالغة، باعتبارها وثائق حية يقدم فيها السابق للاحق خلاصة تجاربه، ويرسم له السبل السليمة التي يسلكها"(1) ، فإن ابن سماك كان يقصد إلى التوجيه والنصح.

    تنتظم الوصايا في الباب التاسع والثلاثين من مؤلفه، ويبلغ عددها اثنتي عشرة وصية موزعة كالآتي:

    1 - وصية أردشير لابنه وأهل مملكته، ص. 74.

    2 - وصية أبرويز إلى رعيته، ص. 75.

    3 - وصية سابور إلى ابنه، ص. 75.

    __________

    (1) أجدب السياسة والحرب في الأندلس، ص. 434.

    (1/15451)

    4 - وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى يزيد بن أبي سفيان، ص.75.

    5 - وصية سالم لعمر بن عبد العزيز، ص. 75.

    6 - وصية عبد الملك بن مروان لبنيه، ص. 76.

    7 - وصية هشام بن عبد الملك لبنيه ص. 76.

    8 - وصية عمر بن هبيرة لمسلم بن سعيد لما تولى أمر خراسان، ص. 76.

    9 - وصية رجل لأبي جعفر المنصور، ص. 76.

    10 - وصية الحكم بن هشام لابنه عبد الرحمان لما فوض إليه الأمر، ص.76.

    11 - وصية المنصور بن أبي عامر لابنه المظفر عبد الملك، ص. 77.

    12 - وصية الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور ابن الخليفة أبي يعقوب

    (1/15452)

    ... يوسف ابن الخليفة عبد المومن بن علي لبنيه الموحدين، ص. 77.

    لقد قدم ابن سماك مجموعة من الوصايا من عهود مختلفة، وسيخص الأندلسيين بثلاث وصايا، اثنتان لحاكمين أندلسيين هما الحكم بن هشام، والمنصور بن أبي عامر، والثالثة لحاكم موحدي هو أبو يوسف يعقوب المنصور.

    الوصية الأولى:

    وهي وصية الحكم بن هشام لابنه عبد الرحمان لما فوض إليه الأمر، وقد أوردها ابن سماك كذلك في الزهرة الثالثة والتسعين من كتابه "الزهرات المنثورة" الذي حققه وقدم له - كما سبقت الإشارة - الدكتور محمود علي مكي، باعتبار الوصية "وثيقة على

    (1/15453)

    أعظم جانب من القيمة والخطر، إذ هي أشبه بدستور للحكم وضعه الأمير الحكم لابنه عبد الرحمان"(1) . ويشير المحقق إلى أن "المؤرخ الوحيد الذي أشار إلى وجود هذه الوصية، هو الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، وقد نقل الأستاذ عنان هذه الوصية عن مخطوطة "المقتبس" لابن حبان، القطعة الخاصة بإمارتي الحكم وعبد الرحمان، وهي قطعة كانت لدى المستشرق ليفي بروفنسال، ولم يعرف عنها شيء بعد وفاته، ويخشى أن تكون هذه القطعة الثمينة قد ضاعت إلى غير

    __________

    (1) مجلة المعهد المصري، المجلد 21، ص. 66.

    (1/15454)

    رجعة"(1) .

    وقد أثبت هذه الوصية ، الأستاذ لغزيوي في الفصل الخاص بالوصايا من كتابه "أدب السياسة والحرب في الأندلس"(2) ، نقلا عن الأستاذ عنان في كتابه دولة الإسلام في الأندلس.

    تشتمل الوصية موضوعات مختلفة في السياسة وطرائق الحكم، صدرت عن أمير مارس السياسة بحذق وذكاء وحسن تدبير، ولخص تجربته السياسية في عبارات قليلة تحمل معاني كثيرة، وفي أسلوب برع في تنميقه وتبسيطه في نفس الوقت بلغة راقية مشرقة.

    __________

    (1) ط 4، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة 1969، ص. 248.

    (22) مجلة العهد المصري، المجلد 21، هـ 2، ص. 66.

    (2) ص. 435.

    (1/15455)

    تكاد تكون الوصية قانونا يجب الالتزام له، والعمل بمقتضاه كي لا تضيع السلطة من يد الأمير، ويستبد بها غيره، ويتمثل هذا القانون في: " أولى الأمور بك أن ينهى إليك حفظ أهلك، ومراعاة عشيرتك، ثم الذين يلونهم، ومواليك هم أولياؤك حقا، وأنصارك صدقا، وعاشروك في حلوك ومرك، فيهم أنزل ثقتك، وإياهم واس من نعمتك، ولا تدعن مجازاة المحسن بإحسانه، ومعاقبة المسيء بإساءته، فإنك عند التزامك بهذين، ووضعك لهما في مواضعهما يرغب فيك ويرهب منك، وملاك ذلك كله أن تتقي الله ما استطعت، وتعدل في أحكامك، وتتخير من حكامك"(1)

    __________

    (1) أدب السياسة والحرب في الأندلس، ص. 438.

    (1/15456)

    .

    ولعل أهم بنود هذا القانون: التقوى والعدل، وحسن اختيار الحكام أي الولاة والعمال...

    الوصية الثانية:

    وهي للمنصور بن أبي عامر، يوصي ابنه المظفر عبد الملك لما اشتد به مرضه الذي مات منه، وقد أثبتها الأستاذ لغزيوي أيضا في مؤلفه(1) ، بعد أن نقلها عن ابن بسام في ذخيرته(2) .

    إلا أن ابن سماك اختصر هذه الوصية، ولم يورد الجزء الثاني منها، حيث يعرض لعلاقة عبد الملك بالخليفة الأموي هشام بن الحكم وكذا لأنصار الأمويين، محذرا منهم حينا، داعيا إلى الحزم في معاملتهم

    __________

    (2) تحقيق إحسان عباس، م4، ق1، صص. 76-78.

    (1/15457)

    حينا آخر، موصيا غلمان الأمير في الأخير بالعمل إلى جانبه والتقيد بأوامره ونواهيه، فهو يقول لهم: "تنبهوا لأمركم، واحفظوا نعمة الله عليكم في طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم، ... فليس يرأسكم بعدي أشفق من ولدي، وملاك أمركم أن تنسوا الأحقاد، وأن تكون جماعتكم كرجل واحد، فإنه لا يفل فيكم"(1) .

    تكاد تكون هذه الوصية كسابقتها زبدة تجارب عاشها المنصور ابن أبي عامر، استحكم فيها العقل والروية، فتحدث عن الأمن والاستقرار، وعن الظروف الاقتصادية والعسكرية، وعن الأحوال المعيشية للرعية

    __________

    (1) الورقة 77 من المخطوط

    (1/15458)

    والعشيرة، فاختلال أي جانب من هذه الجوانب قد يؤدي إلى ضعف الحكم وانهيار دولته، ويوصيه أخيرا، ويشدد في الوصاية بأهله ومواليه قائلا: "لا تضيع أمر جميعهم، والحظهم بعيني، فإنك أبوهم بعدي".

    ولا يخفى أن هذه الوصية صدرت عن داهية في السياسة والحكم، فبعد أن وطد لابنه أمر الدولة، وأرسى قواعدها يوصيه بالحفاظ عليها، باتباع التوجيهات، وانتهاج السبل الأقرب إلى الاستئثار بالسلطة والحفاظ عليها في الفكر والسلوك، وأهمها النهي عن الإسراف في الإنفاق والقصد في الأمور، يقول: "فلا تطلق يدك في الإنفاق، ولا تغض لطمة

    (1/15459)

    الولاية، فيختل أمرك سريعا، وكل سرف راجع إلى الاختلال لا محالة، فاقتصد في أمر جهدك، واستثبت فيما يرفعه أهل السعاية إليك، والرعية قد استقضت لك تقويمها، وأعظم مناها أن تأمن الباردة"(1) .

    الوصية الثالثة:

    وصدرت عن الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي يوصي بنيه وأهل دولته بالعدوة وأبنائها وثغورها، ويدعوهم إلى جهاد الأعداء، والتمسك بشرائع الدين والعمل بمناهجه.

    لقد شغلت الأندلس المغاربة، وأرقتهم في حياتهم، وفي لحظات احتضارهم، فما آلت إليه من ضعف بعد قوة، ومن هزيمة بعد نصر، أكبر

    __________

    (1) الورقة 77 من المخطوط

    (1/15460)

    هم ينغص استقرارهم وتفكيرهم، فهو يقول: « ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا شيء أعظم من همها »(1) .

    لقد استأثرت العدوة بفكر الموحدين، فدافعوا عنها، وانتصروا لها، مؤملين استرجاع ما استلبه النصارى من ديارهم، ويشهد الخليفة أبو يوسف يعقوب، الله على ما بذله من جهود ف ي سبيل ذلك، فهو يقول: "ولو مد الله لنا في الحياة لم نتوان في جهاد كفارها حتى نعيدها دار إيمان "، فهي الآن - أي الأندلس - وديعة في أيدي المغاربة، عليهم الحفاظ عليها، بحمايتها من هجمات الكفار بتشييد الأسوار وحماية الثغور

    __________

    (1) الورقة 77 من المخطوط.

    (1/15461)

    وتربية الأجناد. تنص الوصية إذن على خطة دقيقة للعمل، ما على الموحدين إلا تطبيقها بروية وتفكير وحسن نظر...

    والأكثر إثارة للاهتمام، أن يصف الخليفة الموحدي العدوة، باليتيمة، ومسلميها بالأيتام، فبعد التوصية بتقوى الله، يقول: "أوصيكم بالأيتام واليتيمة"، ويسأله الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص: " وما الأيتام؟ وما اليتيمة؟، فيقول الخليفة: الأيتام أهل جزيرة الأندلس، والأندلس هي اليتيمة"(1) .

    __________

    (1) الورقة 78 من المخطوط.

    (1/15462)

    تتميز هذه الوصية، بالإضافة إلى بلاغتها وجمال أسلوبها، بالروح الإسلامية في وضوحها وتوجهها إلى تحرير المسلم وأرضه، أينما كان، وكيفما كان، فنجد الخليفة الموحدي يصرف اهتمامه إلى أرض اغتصبت، وإلى شعب استضعف أمره، ولا يشير إلى المغرب والمغاربة، تأكيدا لأواصر وعلائق تربط العدوتين ببعضهما منذ أن أصبحت الأندلس خاضعة لسلطة المغرب في فترات سابقة، وأصبحت مسؤولية رعايتها في أعناق المغاربة وحكامهم...

    باب التوقيعات:

    (1/15463)

    وهو الباب الأربعون في توقيعات الملوك وهو آخر أبواب كتاب "رونق التحبير"، ويتضمن اثنين وثلاثين توقيعا لملوك وأمراء وحكام وخلفاء، من الفرس والعرب والخلفاء الراشدين وملوك بني أمية وبني العباس، وأمراء بني أمية بالأندلس، ولم يهتم المؤلف في تدوين التوقيعات أو روايتها بترتيبها، عدا توقيعات الأندلسيين، فهي آخرها، وقد بلغ عددها اثني عشر توقيعا، ختمها بامتداح الملوك النصريين، والإشادة بتوقيعاتهم، فهو يقول: "وأما موالينا الملوك، أولى النسبة الكريمة النصرية، الذين شرف الله أقدارهم في البرية، فمناقبهم كثيرة،

    (1/15464)

    وتوقيعاتهم شهيرة، ومقاماتهم سامية وخطيرة"(1) .

    ويعتذر ابن سماك عن اقتصاره على إ]راد بعض التوقيعات، على الرغم من وفرتها، إلا أن الغاية من الكتاب الاختصار، ليس غير، فإن فعل غيره، خرج عن المقصود: "إن تتبع القول فيما هو منها موجود، فيخرج من الاختصار عن الغرض المقصود"(2) .

    و"التوقيع" كما يعرفه الأستاذ ناجي معروف: "ما كان يكتبه الخليفة أو الملك أو الأمير أو السلطان أو الوزير تعليقا على كتاب أو رقعة أو ملتمس بتوقيعه بجملة أو عدة

    __________

    (1) الورقة 48 ظ من المخطوط رقم 1182 د.

    (2) الورقة 48 ظ من المخطوط رقم 1182 د.

    (1/15465)

    جمل قصيرة هي جواب الكتاب أو الرقعة يذيلونها باسمهم على صورة توقيع أي إمضاء"(1) . أما بن فضل الله العمري (700هـ - 749هـ)، فيرى أن "التوقيع هي لعامة أرباب الوظائف، جليها وحقيرها، كبيرها وصغيرها... وعنوانها توقيع شريف لفلان بكذا... وقد تستفتح ب (الحمد لله) أو (أما بعد) أو (من حسنت طرائقه، وحمدت خلائقه)، أو ما هذا معناه... إلى غير ذلك..."(2) .

    __________

    (1) التوقيعات التدريسية، صص. 5-6.

    (2) التعريف بالمصطلح الشريف، ت محمد حسين شمس الدين، بيروت ط1، 1988، صص. 120، 123 .

    (1/15466)

    وتبدو أهمية التوقيع الصادر عن الخليفة أو الملك، باعتباره رأيا جازما في قضية أو موضوع استفتي فيه، أو في شكوى رفعت إليه أو ظُلامة وضعت بين يديه خاصة في المسائل السياسية أو القضائية بالحسم في الموضوع دون نقاش، من ذلك ما جاء في التوقيع الثالث: "وقع الخليفة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في كتاب كتب إليه بعض عماله، يسأله تولية عمل رفيع لم يكن من شاكلته: من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به"(1) ، فالجواب مختصر مفيد، أصدر من خلاله - الخليفة - رأيا في

    __________

    (1) الورقة 79،80 من المخطوط

    (1/15467)

    الطلب، بل حكما قاطعا لا رجعة فيه.

    ومن أبلغ ما كتب في التوقيع باختصار شديد، ما وقع به الخليفة عبد الرحمان الناصر، وهو التوقيع الرابع: "كتابا عثر عليه بقرطبة، دسه إلى حضرته أمير أفريقية معدُّ بن إسماعيل الشيعي العبيدي، إذ كانت بينهما منافرة وعداوة، أفحش فيه السب، وأكثر من البهتان، فلما رفع إليه وقع عليه: يا هذا، عرفْتنَا فسببْتنا، وجهلناك نحن، فأمسكنا عنك"(1) ، لم يزده على هذا كلمة، ويضيف ابن سماك قائلا: "فكان ذلك أبلغ ما كتب في معناه، وفيه إشارة إلى أنه مدع في نسبه، وأنه

    __________

    (1) الورقة 80 من المخطوط

    (1/15468)

    مجهول غير معروف، ومن لا يعرف لا تعرف مناقبه ولا مثالبه"(1) .

    فابن سماك لا يكتفي بإيراد التوقيع، وإنما يذيله بتعليق ضاف يشرح فيه معنى التوقيع بوضوح تام، كما جاء في التذليل السابق.

    ولعل الخليفة في توقيعه تأثر بالشاعر البطليوسي في قوله:

    عرفت مكانتي فسببت عرضي ... ... ولو أني عرفتكم سببت

    ولكن لم أجد لكم سموا ... ... إلى أَكْرُومةٍ فلذا سكت(2)

    __________

    (1) الورقة 80 من المخطوط

    (2) الديوان، تحقيق إحسان عباس. البيتان من البحر، ص.

    (1/15469)

    وجاء في التوقيع الأندلسي الأول: "كتب عن الخليفة عبد الرحمن الداخل أحد كتابه إلى بعض عماله كتابا يستقصره عما فرط فيه من عمله، فأكثر في الكتاب وأطال، فلما لاحظه الخليفة عبد الرحمان أمر بتمزيقه، ثم وقع بخطه: "أما بعد، فإن يكن التقصير لك مقدما، فقد ينبغي الاكتفاء أن يكون لك مؤخرا، والسلام"(1) . وهكذا، فإشارة أبلغ من عبارة، تخمل حكما لا رجعة فيه...

    ويرى الأستاذ لغزيوي: "أن التوقيعات تمثل جانبا من جوانب بلاغة الحكام في مجال النثر، وهي تذييل يكتب أسفل الرسائل الواردة إلى ديوان

    __________

    (1) الورقة 79 من المخطوط

    (1/15470)

    الدولة أو على ظهرها، وتعتبر ردا من الحاكم وتعقيبا يمليه على كاتبه أو يخطه بيده، ومن ثم، فهو من إنشاء الحاكم نفسه... وتتميز التوقيعات غالبا بالإيجاز الشديد الموفى المقصود"(1) .

    والتوقيع بالإضافة إلى ذلك يعتبر موقفا رسميا من مسؤول في الدولة كما سبق، وقد يكون موقفا من ثائر، فيقدم لنا التوقيع صورة عن شخصية الحاكم في فورة الغضب، ورباطة جأشه في اتخاذ القرار وحسن التصرف.

    __________

    (1) أدب السياسة والحرب في الأندلس، ص. 462

    (1/15471)

    من ذلك التوقيع الثاني في رونق التحبير، يقول لبن سماك: "ثار على الخليفة عبد الرحمن بن معاوية ثائر ببعض بلاد الأندلس، فغزاه فظفر به، فبينما هم منصرف به، وقد حمل الثائر على بغل مكبولا: نظر إليه الخليفة عبد الرحمن وتحته فرس له، فقال: يا بغل، ماذا تحمل من الشقاق والنفاق؟ قال الثائر: يا فرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة؟ فقال له الخليفة: والله لا ذقت موتا على يدي أبدا، وسرحه"(1) ... مثل هذا التوقيع سياسي بالدرجة الأولى، أبدى فيه الأمير حنكة سياسية كبيرة، وقدرة متميزة على اتخاذ

    __________

    (1) الورقة 79 من المخطوط

    (1/15472)

    القرار الحاسم في وقت قصير...

    ومن التوقيعات الطريفة ما رواه ابن سماك: "التوقيع السابع: وقع ذو الرئاستين عبد العزيز بن الناصر عبد الرحمن بن المنصور بن محمد بن أ[ي عامر في كتاب ورد عليه من قبل الأمير مجاهد العامري دانية ومولى جده، قال فيه:

    سبت نزار عبيدها فعذرتها شيم العبيد مسبة الأحرار"(1)

    لقد اكتفى صاحب التوقيع ببت شعري يلخص رأيه وجوابه عن كتاب ورد في سب وشتم، إذ من شيم الأحرار السكوت عن هؤلاء، تمثلا بقول الشاعر:

    إذا نطق السفيه فلا تجبه فأبلغ من إجابته السكوت(2)

    __________

    (1) الورقة 80 من المخطوط

    (2) الفرزدق

    (1/15473)

    وبمقارنة هذه التوقيعات بما ورد في كتابه الزهرات المنثورة نجد ابن سماك ينقل ستة توقيعات أندلسية من الزهرات، وكأنه اختارها ليضمنها إلى مختاراته في رونق التحبير، ذلك أن تأليف الزهرات كان أسبق في الزمن "إذ ألفه لأمير المسلمين الغني بالله، المنصور بعون الله أبي عبد الله"، كما جاء في مقدمة الكتاب، في حين أن رونق التحبير، أهدي إلى حفيد الغني بالله السلطان محمد المستعين، والتوقيعات الواردة في كلا الكتابين هي:

    - التوقيع الثاني: ورد في الزهرة الثالثة والأربعين(1) .

    __________

    (1) مجلة المعهد المصري، المجلد 21، ص. 11.

    (1/15474)

    - التوقيع الرابع: ورد في الزهرة الخامسة والتسعين(1) .

    - التوقيع الخامس: ورد في الزهرة الخامسة والتسعين(2) .

    - التوقيع السادس: ورد في الزهرة الخامسة والتسعين(3) .

    - التوقيع السابع: ورد في الزهرة الخامسة والتسعين(4) .

    - التوقيع الثامن: ورد في الزهرة الخامسة والتسعين(5) .

    __________

    (1) المصدر نفسه، المجلد 21، ص. 69.

    (2) المصدر نفسه، المجلد 21، ص. 71.

    (3) المصدر نفسه، المجلد 21، ص. 64.

    (4) المصدر نفسه، المجلد 21، ص. 70.

    (5) المصدر نفسه، المجلد 21، ص. 67،68.

    (1/15475)

    - إن أهم ما يمكن استنتاجه من بابي الوصايا والتوقيعات في كتاب "رونق التحبير" الذي ما يزال مخطوطا:

    أولا: التوصل إلى نصوص توقيعات جديدة لم ترد في كتابي ابن سماك السابقين: الزهرات المنثورة والحلل الموشية، وهي خمسة:

    - توقيع الخليفة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام.

    - توقيع أبي عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف.

    - توقيع أبي الجيوش نصر بن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر.

    - توقيع أبي عبد الله محمد بن مولانا أمير أمير المسلمين الغالب بالله ابن عبد الله محمد بن نصر.

    (1/15476)

    - توقيع أبي عبد الله الغني بالله بن يوسف بن يوسف.

    ثانيا: التأكد من نسبة كتاب "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية" إلى ابن سماك لا إلى غيره: أسلوبه، مروياته التي تفرد بها، خاصة وصية الخليفة الموحدي "بالأيتام واليتيمة"(1) .

    ثالثا: الإطلاع على صورة من الكتابة السياسية عند ابن سماك، أحد كتاب ديوان الإنشاء في عهد السلطانين الغني بالله والمستعين بالله، وفيها يبدي المؤلف آراءه منتقدا ومنبها وناصحا من خلال نقول وأخبار ومرويات تداولتها العامة

    __________

    (1) الحلل الموشية، ص. 160؛ مخطوط رونق التحبير، الورقة 78.

    (1/15477)

    والخاصة، ووفق ابن سماك في توظيفها للاستفادة منها في سياسة الدولة على المستويين الشعبي والرسمي.

    رابعا: إفادتنا بصفة تقريبية بتاريخ وفاة ابن سماك بين 812هـ و820هـ، ذلك، أن الكتاب أهدي إلى الخليفة المستعين بالله حفيد الغني بالله، وكان المعروف قبل الإطلاع على كتاب "رونق التحبير" كما نبه إلى ذلك أستاذنا محمود علي مكي في مقدمة تحقيق الزهرات المنثورة أن تاريخ وفاة ابن سماك غامض، يقول: "أما سنة وفاته، فلم يتبين لنا شيء حولها"(1) ، إضافة إلى أن ديوان مظهر النور

    __________

    (1) مجلة المعهد المصري، المجلد 21، ص. 22.

    (1/15478)

    الباصر لابن فركون، الذي حققه أستاذنا محمد بن شريفة، يفيد أن ابن سماك مدح الملك يوسف الثالث شقيق المستعين بالله بقصيدتين اثنتين، دالية ولامية(1) .

    وأخيرا، فإن كتاب "رونق التحبير" من المؤلفات المتميزة في التراث الأندلسي السياسي، يحلل ويناقش الأوضاع السياسية والظروف الاجتماعية، هادفا إلى النصح والتوجيه، مستفيدا من سياسات سابقة في المشرق والمغرب والأندلس، دون أن يخل بما يقتضيه المقام من الآداب في مخاطبة ذوي الشأن والسلطان...

    المصادر والمراجع

    __________

    (1) صص. 27، 94.

    (1/15479)

    - مخطوط رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير، لابن سماك 1182د - 1121ك، خ ع الخزانة العامة، قسم الوثائق والمخطوطات، الرباط، والمخطوط المعتمد هو 1121ك.

    - "الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة"، لابن سماك تقديم وتحقيق محمود علي مكي، مجلة المعهد المصري، المجلدان، 20، 21.

    - أدب السياسة والحرب في الأندلس، علي لغزيوي، مكتبة المعارف، الرباط، 1987.

    - التوقيعات التدريسية، تأليف، ناجي معروف، 1963، بغداد.

    (1/15480)

    - الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، لابن سماك العاملي، تحقيق عبد القادر زمامة، وسهيل زكار، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء 1979.

    - المخطوط العربي وعلم المخطوطات، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1994.

    - مجلة كلية الآداب بني ملال، عدد 1، 1994.

    - المصادر العربية لتاريخ المغرب، محمد المنوني، ج 1.

    - مجالس الانبساط بشرح تراجم علماء وصلحاء الرباط لمحمد بن علي دينية، ط 1986.

    - مظهر النور الباصر، لابن فركون، إعداد محمد ابن شريفة، 1991.

    (1/15481)

    وضعية الإسلام والمسلمين في ألبانيا

    ... ... ... ... ... ... الدكتور عبد الكريم الأبيض

    ... ... ... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

    ينتسب تاريخ ألبانيا إلى تاريخ الدول البلقانية بحكم التوسع التركي وانتشار الإسلام في هذه البقاع من جنوب شرق أوربا.

    وقد برزت هذه البلاد على الساحة الدولية بعدما كانت غائبة عن الضمير العالمي وترجع هذه الظاهرة إلى النهج الذي اتبعه الحزب الشيوعي في ألبانيا بعد استقراره في الحكم وأخذه في تناول مصير هذه البلاد بواسطة الطرق التي عاشتها دول أوربا الشرقية التي دخلت هي

    (1/15482)

    الأخرى في فلك النظام الشيوعي.

    لقد عزل أنور خوجة ألبانيا عن العالم ولم يكن أحد يعرف عنها ما عرف عن البلدان المجاورة إلا من خلال علاقاتها الخارجية إما عن طريق بلغراد التي دخلت معها في علاقات وطيدة سنة 1948 أو مع موسكو بعد الانقطاع عن بلغراد إلى سنة 1961 أو مع الصين بعد ذلك.

    لقد حدثت تغييرات هائلة في ألبانيا بعد ذهاب النظام الشيوعي الذي أدخلها في وسط بحر م الحكومات الشمولية التي كانت تمثل التبعية التامة للحزب الشيوعي ورئيسه أنور خوجة، ذلك أن فترات متلاحقة من الانغلاق الشيوعي أدى بالضرورة إلى عجز

    (1/15483)

    الشعب الألباني التام عن مسايرة التطور العالمي.

    وقبل أن نبدأ أحوال المسلمين ومصير الإسلام في البلاد أقدم في عجالة نظرة تاريخية توخيت منها أن تكون إطارا يجسد العلاقة الوطيدة بين التطور التاريخي والتطور الديني في البلاد.

    وهذا البحث يحتوي على بابين رئيسين :

    الباب الأول يقوم بوظيفة رصد التطور للأحداث التاريخية منذ استقلال البلاد سنة 1912 بالإضافة إلى فترة الحكم الشيوعي.

    أما الباب الثاني فيتعلق بدراسة أحوال المسلمين والطوائف الدينية وتطورها وتكوين مؤسساتها والتعرض إلى حقوقها وواجباتها وعلاقتها مع

    (1/15484)

    نظام الحكم سواء كان ذلك في عهد الملك " زوغو"أو في عهد الاحتلال الإيطالي ( 1939 ) أو في فترة الاحتلال الألماني سنة 1943. لكن الأهم من هذا هو كيف حصل الانقلاب الذي قام به الشيوعيون ضد الإسلام ومؤسساته التي كانت قائمة الذات راسخة البنيان.

    وسوف أقف بسبب ضيق المجال بالنسبة للباب الثاني عندما أختم دراسة وضعية الإسلام والمسلمين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، على أن أعود في مقال خاص ينصب بالدراسة على وضعية الإسلام إبان العهد الشيوعي.

    الباب الأول : نظرة تاريخية، 1912 - 1978

    (1/15485)

    كانت ألبانيا مقاطعة رومانية ثم صارت تابعة لبزنطة ثم تخللتها فترات تاريخية تحت الأمبراطورية البلغارية مرة، وتحت إمبراطورية الصربية مرة أخرى. وقد حكمتها سلالة محلية من سنة 1366 إلى 1421. ورغم مقاومتها بقيادة أسنكربك فقد خضع الألبانيون للسيطرة العثمانية. وفي سنة 1912 حصلت البلاد على استقلالها الداخلي ثم صارت إمارة فجمهورية سنة 1925 ثم مملكة سنة 1928 ثم خضعت للسيطرة الإيطالية سنة 1939 ثم إلى الاحتلال الألماني سنة 1943، وبعد الحرب الكونية الثانية صارت جمهورية شعبية في الثاني من شهر يناير من سنة

    (1/15486)

    1946.

    لقد أدى ضعف الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر وسريان مفعول النضال من أجل التحرير الوطني لدى الصرب (1) واليونان في القرن التاسع عشر بالإضافة إلى الأطماع التوسعية التي أتت بعد ذلك من إيطاليا واليونان وصربيا وروسيا وخاصة أطماع المملكة الثنائية النامسا والمجر التي كانت تسيطر على جزء مهم من منطقة البلقان (2)، أقول أدت هذه

    __________

    (1) كان هدف الحكومة القومية تكوين وحدة تعتمد على توحيد الأملاك العثمانية الخاضعة للنمسا في دولة واحدة تحت حكومة مركزية قوية.

    (2) كرواتيا وسلوفانيا والساحل الدلماسي.

    (1/15487)

    المجموعة من العوامل إلى بداية يقظة القومية الألبانية التي برزت بوضوح أثناء انعقاد مؤتمر برلين 1878 (1)، حيث تم تكوين الرابطة الألبانية للدفاع عن حقوق الوطن الألباني وكانت معروفة تحت اسم La ligne des Prizen . حينئذ وبداية من التاريخ المذكور أعلاه برزت البنية الإيديولوجية للقومية الألبانية التي كانت

    __________

    (1) عقد هذا المؤتمر تحت رئاسة بسمارك سنة 1878، وقد دشن تحولا كبيرا وجذريا في العلاقات الأوربية، خاصة منها العلاقات الثنائية بين الإمبراطورية الألمانية، راجع كتاب : Emil Ludwuig ,Bismarck, Paris 1984.

    (1/15488)

    قوية بحكم مزجها بدون تمييز بالديانات الثلاث التي كانت موجودة في البلاد، فقد كانت نسبة المسلمين تفوق 70% وهم منتشرون عبر البلاد كلها ونسبة الأرتودوكس 20% يقطنون الجنوب.أما الكاتوليك فقد كانت حصتهم لا تتجاوز 10% ويستقرون في شمال البلاد. والحديث عن هذه النقطة له أهمية قصوى، فعندما انتشر الإسلام في شبه جزيرة البلقان بعد معركة "قوسوفو" سنة 1389 كانت الكنائس القوية سواء في صربيا أو اليونان أو بلغاريا تشكل الدرع القوي والواقي أمام التيار الجديد، ولذلك يمكن أن نلاحظ أن سياسة الأتراك تجاه هذه البلدان

    (1/15489)

    كانت تعتمد على إرسال هجرة تركية مكثفة تكون مهمتها نشر الإسلام في هذه المناطق، الأمر الذي نجده منعدما تماما في ألبانيا وفي البوسنة والهرسك بسبب غياب تلك المؤسسة الدينية القوية أي الكنيسة. ومن هذا المنطلق نرى أن السياسة التركية كانت تريد نشر الإسلام من واقع محلي فوضعت بدل الهجرة التركية سياسة تقوم على تشجيع السكان على الدخول للإسلام. حينئذ نشأت مؤسسة الدفشرمة أو ما أطلق عليه اسم Adjini Oglan . وهذه المؤسسة كان لها دور مباشر في خلق الأجيال الأولى من المسلمين. إن عدم وجود مؤسسة دينية قوية في

    (1/15490)

    ألبانيا وتنامي التبعية في الانتماء لدى الألبانيين للكنيسة اليونانية أو الصربية أو البلغارية، كاد أن يؤدي في آخر الأمر إلى بداية الذوبان الحتمي للشعب الألباني، وتبعا لذلك يعتبر بعض الباحثين أن معركة "قوصوفو" كانت بمثابة وضع حد لهذا الذوبان، إذ توقفت سيرورة الانتماء الإثني واللغوي وقام الإسلام بوضع الحد الفاصل لإحضار الشعب الألباني.

    كانت الحروب البلقانية (1) سواء

    __________

    (1) في شأن التنافس الحاصل بين الدولتين المذكورتين أحيل الباحث على كتاب : Raymond Poincaré, Les Balcans en feu, Paris 1912, P .64-65-66.

    (1/15491)

    الحرب الأولى أو الحرب الثانية بداية لانهيار الإمبراطورية العثمانية في شبه جزيرة البلقان. وبعد هذه الحروب اتجهت أطماع دول البلقان إلى اقتسام ألبانيا، حيث حاصر الجبل الأسود مدينة Shkoder كما احتل الصرب مدينة Durres الساحلية، وكان جواب الألبانيين على ذلك هو ما تم في الاجتماع المشهور الذي ضم أعيان البلاد بمدينة Vlora، فحمسوا الأمر بإعلان استقلال البلاد سنة 1912 وتشكيل حكومة مؤقتى تحت رئاسة "إسماعيل كمال" وتحت ضغط كل من إيطاليا والنمسا اللتين كانتا تميلان إلى إزاحة الصرب من البحر الأدرياتيكي، اعترفت

    (1/15492)

    الدول العظمى بالاستقلال الذاتي لألبانيا يوم 20 دجنبر 1912 وكان الإعلان عن ذلك قد تم في مؤتمر لندن الذي اجتمع لدراسة الأوضاع السياسية والعسكرية بصفة عامة في بلاد البلقان. وبعد انعقاد المؤتمر الثاني في يوم 30 ماي سنة 1913 في لندن قرر المجتمعون ما يلي : 1) تكوين حكومة لتسيير شؤون البلاد، 2) تسند إلى لجنة دولية مهمة لمراقبة لرسم الحدود وتعيينها،3) إعلان ألبانيا إمارة مستقلة تحت وصاية الدول العظمى،وقد قبل عرش الإمارة الألماني William de Wed الذي وصل إلى مدينة Durres في اليوم السابع من شهر مارس سنة

    (1/15493)

    1914.

    لكن روح المقاومة هبت من جديد، فتم خلع الأمير الجديد عن عرش الإمارة، حيث غادرها في بداية الحرب العالمية الأولى. وخلال الحرب عرفت البلاد فترات مظلمة من تاريخها وكانت الفوضى تعم أرجاء البلاد والتطاحن على الحكم كان الهدف الأسمى للفئات المتناحرة، التي كانت تتنافس فيما بينها على إرضاء دولة من الدول المجاورة الطامعة. ففي سنة واحدة

    ( 1914 ) عرفت البلاد ست حكومات، كما عرفت خلال الحرب سلسلة متعاقبة من الاحتلالات التي أتت من الدول المجاورة لها وغير المجاورة. نخص بالذكر منها صربيا والنمسا وإيطاليا

    (1/15494)

    وفرنسا واليونان وبلغاريا. وقد وضع برنامج تقسيم ألبانيا في الاتفاق السري الذي تم في لندن يوم 26 أبريل سنة 1915، لكن هذا المشروع تم إبعاده يوم 3 يونيو سنة 1917 عندما أعلن الجنرال Ferrero استقلال البلاد. وقد تم تعيين إدارة دولية بعد الهدنة، وظلت تمارس مسؤوليتها إلى سنة 1920.

    وفي مؤتمر السلم تحايلت إيطاليا وتمكنت من أخذ الوصاية على ألبانيا في يوم 20 غشت سنة 1918، وفي سنة 1920 عرفت البلاد فترة استقرار تام بعد وصول "زوغو" إلى الحكم (1)

    __________

    (1) أجبرت إيطاليا على الجلاء، لكنها ظلت محتفظة بجزيرة Sozan، وانضمت ألبانيا إلى عصبة الأمم في شهر دجنبر سنة 1920.

    (1/15495)

    .

    وقد أكد مؤتمر السفراء الذي عقد في لندن في شهر نونبر 1921 استقلال ألبانيا داخل الحدود التي تم تعيينها سنة 1913، لكنه كلف إيطاليا بالسهر على المحافظة على وحدة التراب الألباني (1) . وبسبب الوضعية الاقتصادية السيئة، اندلعت بين الحين والآخر فتن وقلاقل من طرف الفلاحين الذين كانوا يطالبون بإجراء بعض الإصلاحات الزراعية، كما طالبوا بتنحية الحكومة العاجزة والتي كانت تحت سيطرة أحمد زوغو. ونتيجة لذلك اضطر الملك إلى مغادرة البلاد مع رئيس حكومته وعضوين مسلمين في مجلس

    __________

    (1) لت تعترف حكومة ألبانيا بهذا القرار.

    (1/15496)

    الوصاية. وتمت السلطة للأسقف الأرتودوكسي Fan Noli ، زعيم حزب الأحرار وكان ضمن الوفد الألباني في عصبة الأمم، كما كان يتمتع بشعبية كبيرة داخل البلاد. لكن سلطته لم تعمر أكثر من ستة أشهر بسبب عجزه عن تطبيق الإصلاحات المرجوة والمستعجلة. وقد رجع أحمد زوغو إلى البلاد على رأس حملة عسكرية احتلت بواسطتها تيرانا، وغادر Fan Noli البلاد إلى المنفى (1)

    __________

    (1) تكون هذا الفيلق في يوغوسلافيا من طرف المهاجرين الألبان، كانت هذه المجموعة البشرية قد دفعها العثمانيون إلى الاستقرار في الجنوب الشرقي من أوربا، حيث ظلت فئة منها مستقرة في يوغوسلافيا وبلغاريا واليونان. أما الفئة التي كانت مستقرة في رومانيا فقد غادرت البلاد حوالي سنة 1878.

    (1/15497)

    . وتعتبر الفترة الواقعة بين سنة 1925 إلى قيام الحرب الكونية الثانية وفي غضونها من أهم فترات التاريخ الألباني. ففي يوم 22 يناير سنة 1925 ألغت الجمعية الوطنية نظام الحكم المعتمد على الوصاية، وأعلنت النظام الجمهوري للبلاد، وقد تم انتخاب زوغو بعد أيام من ذلك القرار رئيسا للجمهورية، وكان دستور البلاد يستوحي خطوطه العامة من دستور الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان زوغو قد عاد إلى الحكم بمساعدة يوغوسلافيا فإنه لم يلبث أن تخلى واتجه إلى إيطاليا (1)

    __________

    (1) كان ذلك سببا في سلسلة من المشاكل السياسية بين يوغوسلافيا وإيطاليا. المهم هو أن يوغوسلافيا قد أضافت إلى مشاكلها مع النمسا والمجر قبل الحرب الأولى وخلالها مشاكل أخرى مع إيطاليا بسبب الأطماع الإيطالية في ألبانيا وكذلك في منطقة أسترا.

    (1/15498)

    ، وقد انقلب نظام الحكم في البلد من نظام جمهوري إلى نظام ملكي، وكان ذلك في شهر غشت سنة 1928 بعد تعديل الدستور، حيث أصبح زوغو ملكا على البلاد. وبذلك وضعت إيطاليا يدها على ألبانيا عن طريق القروض كالقرض الذي بلغ مائة مليون ليرة (1)

    __________

    (1) للإطلاع على ظروف بداية الحملة العسكرية الإيطالية إلى ألبانيا التي انتهت بالاحتلال التام، يمكن الرجوع إلى مؤلف Ciano الذي كان وزيرا للخارجية 1939-1943 وهو يقع في جزئين، إذ يضم جملة من المعلومات القيمة حول هذا الموضوع، بالنظر للصلة المباشرة التي كانت تجمع المؤلف بموسوليني بصفته كان صهرا للزعيم الفاشستي.

    (1/15499)

    تؤدى على عشر سنوات. وفي سنة 1934 رفض الملك تجديد عقد القرض مع إيطاليا، بل إنه أمر بتأميم بعض المؤسسات الإيطالية وخاصة مؤسسات التعليم. وساعد على مد النفوذ المالي اليوغوسلافي، فقامت إيطاليا بإجراء استعراض بحري في المياه الإقليمية، الأمر الذي أدى إلى استسلام التام من طرف زوغو وخضوعه للشروط الإيطالية ولهذا لم تنضم ألبانيا إلى الاتفاق البلقاني الذي اقترحته فرنسا كما أنها لم تنضم إلى الدول الأوربية لمعاقبة إيطاليا بسبب عدوانها على الحبشة. في سنة 1938 وقبل الغزو بسنة واحدة بلغت مقادير الأموال

    (1/15500)

    الإيطالية المستثمرة في ألبانيا( 280.000.000 فرنك فرنسي)، كما كون الإيطاليون شركة كبيرة لتطوير ألبانيا بهدف تحويلها إلى مستعمرة اقتصادية وعسكرية كما تقرر إرسال هجرة إيطالية تقدر بحوالي 300.000 إيطالي، وكل هذا كان تحضيرا للاحتلال التام الذي حدث في شهر أبريل سنة 1939 (1) . وقد اعتمد الإيطاليون برنامج الاحتلال المذكور عقب الاجتماع الذي حضره وزير الخارجية Ciano الذي اتفق مع موسوليني على النقط الآتية

    __________

    (1) راجع Ciano مؤلف كتاب : 1939-1943 : Journal Politique,Généve, 1946 ، الجزء الأول، صص.42،62،65،70،81.

    (1/15501)

    :

    ... 1) تعبئة الجيش البري والتنسيق بينه وبين البحرية والطيران.

    ... 2) خلال ذلك يكون الملحق العسكري الإيطالي في تيرانا وهو السيد Jacomani يواصل ضغطه على الملك.

    ... 3) عندما يقاوم هذا الأخير يتم إرسال البواخر الحربية الإيطالية إلى المياه الإقليمية لألبانيا، ثم يرسل الإنذار النهائي إلى الملك للاستسلام، ثم يقع تحريض المقاومة الداخلية عندما يرفض الملك، ثم تبدأ عملية الإنزال، وبعد الاحتلال ينشأ نظام حكم ملكي جديد، ويقدم عرش البلاد إلى ملك إيطاليا.

    (1/15502)

    كانت موافق الدول الأوربية مختلفة : فيوغوسلافيا كانت تعارض الاحتلال نظرا لمصالحها في منطقة KOSOVO . أما المجر فقد كانت مع الاحتلال، بل إنها قامت بإرسال ست فرق عسكرية إلى حدود يوغوسلافيا لتهديدها. أما إنجلترا فقط ظهر موقفها من خلال التصريح الذي أدلى به تشمبرلن في مجلس العموم (1) حيث أشار إلى عدم وجود مصالح بريطانية خاصة في ألبانيا.

    لقد قامت إيطاليا يوم 12 أبريل 1939 باحتلال البلاد فلجأت العائلة الملكية إلى لندن. ويمكن اعتبار الواقعة بين 1939 و 1944 فترة احتلال تام باستثناء

    __________

    (1) أنظر أعلاه، صص.70،81.

    (1/15503)

    سنة واحدة أي سنة 1943 التي تم فيها غزو ألمانيا للبلاد.

    وهكذا صارت ألبانيا جزءا لا تيجزأ من إيطالية، فانقلبت الجمعية الوطنية الألبانية إلى جمعية دستورية، وتقلد الوزارة Cheokiy Bey Verlaci . وبواسطة اتفاقية مالية وجمركية أدمجت البلاد في المنظومة الاقتصادية الإيطالية، وفي 22 أبريل 1939 سمي السفير الإيطالي في تيرانا Francisico Jacomini de savoie نائب الملك.

    وفي 30 ماي 1939 تكون الحزب الشيوعي الفاشستي الألباني على غرار ما في إيطاليا. كما تم وضع كل من الجيش والدرك تحت إمرة القيادة الإيطالية (1)

    __________

    (1) حسب الدستور الجديد الذي صدر في 3 يونيو 1939 يعرف ألبانيا على أنها دولة دستورية وراثية بيت Savoie وأضيف شعار الفاشستية إلى العلم الألباني كما اعترف الدستور الجديد بحرية الديانة وضمانها، وظلت اللغة الألبانية رسمية لكن السلط الفعلية ظلت في يد جهاز الاحتلال.

    (1/15504)

    . وقد عارض الشيوعيون الغزو في غضون الحرب الكونية الثانية وقاوموه في السر والعلانية، لكن زعماء الأحزاب السياسية الآخرين الذين كانت تستهويهم تصريحات المسؤولين الإيطاليين بإنشاء ألبانيا العظمى بعد ضم بعض المناطق التي تحت يوغوسلافيا (1) واليونان قد وضعوا أنفسهم عن طواعية رهن إشارة المحتلين . وإذا كان الاحتلال الإيطالي غير كامل ومكلفا، فإن موسوليني قرر الاحتلال التام بإرسال 130.000 جنديا ثم دخل إلى اليونان ثم انقلبت الآية ببروز المقاومة المسلحة التي

    __________

    (1) منطقة كسوفو التي لم ينقطع عنها الحديث إلى الآن.

    (1/15505)

    انتشرت بسرعة في يوغوسلافيا واليونان وألبانيا، ولذلك نرى بجاية الانتكاس الكبير الذي أصاب الجيش الإيطالي (1) وكان ذلك سنة 1941.

    لقد أصابت الجيش الإيطالي سلسلة من الهزائم والانتكاسات، الأمر الذي دفع بهتلر إلى اجتياح منطقة البلقان برمتها، فأعلن الحرب على اليونان ويوغوسلافيا، وعندما استسلمت إيطاليا سنة 1943 قام

    __________

    (1) مؤلف Ciano زاخر بالمعلومات التي حول هذا الموضوع، وقد تتبع المؤلف سير هذه الأحداث وتقلباتها عن طريق رصدها في كل يوم، وهي مدققة جدا بحكم القرابة التي كانت تجمع المؤلف بالزعيم الفاشستي.

    (1/15506)

    الألمان باحتلال ألبانيا، وأعقب ذلك تنفيذ بعض الإجراءات كإلغاء كل القوانين التي صدرت سنة 1939 ، وأعلن حياد ألبانية وتكوين مجلس الوصاية الذي أوكلت إليه السلطات التنفيذية. أما التشريعية فظلت في يد المجلس الدستوري. وفي غضون ذلك تصاعد تيار المقاومة المحلية ضد الاحتلال، إذ لعب المقاومون دورا كبيرا في تحرير البلاد بمساعدة أنصار يوغوسلافيا (1)

    __________

    (1) راجع الكتاب الذي أصدره زمرة من الصحافيين واليوغسلاف الصادر في بلغراد في شهر يوليوز سنة 1981 تحت اسم :

    Enver Hodzina Albanja, Beograg, Juli 1981, Novinkya Agencija Tanjug.

    (1/15507)

    .

    لكن وابتداءا من هذا التاريخ اختلط تاريخ ألبانيا بتاريخ الحزب الشيوعي الألباني، وقد تحرر التراب الألباني في شهر نونبر سنة 1944.

    وعندما نتطرق إلى الفترة الممتدة بين 1945 و 1978 ستكون الدراسة حولها منصبة على العهد الشيوعي. حيث تتم معالجة نظام الحكم الجديد الذي عم بدون استثناء الجزء الشرقي من القارة الأوربية. فقد وقعت ألبانيا في هذه الفترة تحت القبضة الشيوعية. وهذا النظام كان يمثله الحزب الشيوعي الذي صار يحمل اسم حزب العمل الألباني. ولقد مر نظام الحكم في البلاد وفي إطار علاقاته مع الخارج بمراحل

    (1/15508)

    ثلاث :

    1) 1945 - 1948 ، هذه الفترة كانت العلاقة فيها مع يوغوسلافيا وطيدة جدا بسبب الدعم العسكري والميداني الذي قدمه المارشال تيتو لأنور خوجا أثناء حرب التحرير. ثم صارت هذه العلاقة سيئة عقب وقوع النزاع المشهور بين تيتو وستالين سنة 1948.

    2) 1961 - 1961 ، علاقة حسنة مع الاتحاد السوفياتي .

    3) 1961 - 1978 ، علاقات وطيدة مع الصين.

    للإشارة، فإن موضوع الفترة 1945 - 1978 لا يدخل في مجال بحثنا إلا من خلال علاقة النظام الجديد علاقة النظام الجديد بالدين الإسلامي والمسلمين وبكل الطوائف الدينية كانت مسيحية

    (1/15509)

    أو مسلمة.

    وقبل أن أدخل في دراسة الباب الثاني المتعلق بوضعية الإسلام والمسلمين في ألبانيا، أشير إلى ما يلي :

    1- لقد قسمت هذا الباب لضيق المقام إلى فصلين، الفصل الأول عالجت فيه فترة وضعية الإسلام والمسلمين من سنة 1912 إلى بداية الحرب الكونية الثانية، أي قبل مجيء الشيوعيون وعلى رأسهم أنور خوجة إلى الحكم، ولقد أخرت الفصل الثاني الذي تعرض لدراسة وضعية الإسلام والمسلمين في العهد الشيوعي إلى فرصة أخرى ومقال جديد في المستقبل إن شاء الله.

    2- مرت العلاقات الخارجية لألبانيا بثلاث مراحل :

    (1/15510)

    1945-1948 ، كانت فيها العلاقات وطيدة مع يوغوسلافيا.

    1948-1961، كانت فيها العلاقات وطيدة مع الاتحاد السوفياتي.

    1961-1978 ، كانت فيها العلاقات وطيدة مع الصين.

    والغاية من الإشارة إلى ذلك القيام بتفسير وتوضيح علاقة أنور خوجة بالدين، فمن خلال صداقته مع تيتو لم يقم أنور خوجة بفرض الحل النهائي على الدين إسلاميا أم مسيحيا عندما كان صديقا لتيتو. إذ أن هذه الفترة عرفت سياسة جس النبض، وإصدار قوانين تتعلق بالدين ومؤسساته دون التعرض إلى سياسة تطهيرية كاملة. فهل كان ذلك يرجع إلى الخوف من حدوث استياء عام وفتن

    (1/15511)

    وثورات داخلية ؟ فالوضع الشيوعي كان في بداية الطريق ولم يكن لأنور خوجة حاميا من الخارج.ذلك إلى سوء التفاهم الذي حدث بين تيتو وستالين سنة 1948 والذي أدى في النهاية إلى القطعية النهائية مع الاتحاد السوفياتي (1) . كما يرجع كذلك إلى أن الإتجاه الجديد لأنور خوجة في علاقته مع ستالين كان سببا في بداية الحملة الكبيرة ضد الدين في ألبانيا،

    __________

    (1) راجع كتاب : Conversation acev Staline, Milovan Djilas, ، وخاصة المقدمة منه التي تحتوي على أكثر من ثلاثين صفحة، وكذلك مؤلفه : Une Société Imparfaite, Paris 1969 . .

    (1/15512)

    فقد كان ستالين قدوة في هذا المضمار لأنور خوجة، إذ كان هذا الأخير يستوحي سياسته الجديدة هذه من سياسة ستالين الدينية الهادقة عبر سلسلة القوانين والتشريعات التي سنت ثم طبقت إلى إزاحة الدين ومؤسساته عن الطريق التي رسمها الحكم الشيوعي.

    بعد معركة KOSOVO التي اندحر فيها الجيش الصربي سنة 1389 بدأت السيطرة العثمانية تشق الطريق عبر بلاد البلقان، ويرجع استقرار الأتراك إلى عدة عوامل اقتصادية واجتماعية وبشرية. ويرجح بعض المؤرخين الدور الذي لعبه الألبانيون في تسهيل عملية التوسع التركي، حيث هاجر مئات الآلاف

    (1/15513)

    منهم إلى سهل KISOVO الذي كان مركزا حيويا لدولة الصرب في القرون الوسطى. وموجة الهجرة هذه كانت قد تمت بعد نزوح 100.000 صربي إلى المجر سنة 1690 (1) .

    معالجة الفترة الواقعة بين 1912 و 1939 تحتاج إلى وضعها ضمن فترات تاريخية معينة، وذلك حتى يتجنب المرء مشكلة الاختلاط والتكرار.

    هذه الفترات هي كالتالي :

    1912-1920 ،

    1921-1924،

    1925-1939.

    فترة 1912-1920 :

    __________

    (1) راجع كتاب : KIOSOVO, Pasr ans Present, Berlgrad ، ص .29.

    (1/15514)

    كان غياب السلطة العثمانية الذي أدى إلى ولادة الدولة المستقلة في ألبانيا وفي دول أخرى مجاورة سببا إضافيا مباشرا لدفع الطائفة المسلمة في البلاد إلى تنظيم صفوفها، فتكونت البنية الدينية وترسخ العقيدة لدى السكان الذين كانوا يطمعون في نزع الاعتراف بالدين من طرف السلطة (1) ، وقد تم هذا

    __________

    (1) سنة 1913 صدر القانون الذي نص على فصل الحقوق المدنية عن الشريعة وقطع الهيأة الإسلامية علاقتها مع شيخ الإسلام في إستنبول. راجع : محمد م الأناؤوط، دراسات في التاريخ الحضاري للإسلام في البلقان،كانون الثاني، 1996 ، ص.147.

    (1/15515)

    العمل، الأمر الذي كان متعذرا حصوله في البلدان المجاورة لها. وشرح ذلك هو أن المسلمين في غير ألبانيا كانوا أقلية كما هو الشأن في يوغوسلافيا باستثناء البوسنة والهرسك، كما كانوا كذلك أقلية في بلغاريا واليونان ورومانيا (1) . أما في البلاد

    __________

    (1) كانت سياسة الأتراك الدينية تعتمد على أسلوبين مختلفين : تشجيع هجرة تركية كبيرة لنشر الإسلام في البلقان في صربيا واليونان وبلغاريا، بينما فضلت خلق وجود إسلام محلي في كل من ألبانيا والبوسنة، وذلك بواسطة تشجيع السكان المحليين على اعتناق الإسلام. أنظر أعلاه، صص.78،79.

    (1/15516)

    التي نحن بصدد دراسة الإسلام فيها فقد كان المسلمون يشكلون أغلبية واسعة. كما يلاحظ بوضوح التلاحم والانسجام اللذين كانا موجودين داخل الطائفة السنية بعد نزوح الأتراك عن البلاد.

    ولم يكن بتاتا المشكل القومي والوطني مطروحا لأن المسلمين في ألبانيا كانوا كلهم ألبانيين، ونضيف ظاهرة أخرى مهمة، وهي أن الطائفة المسلمة كانت تتكون من مجموعتين متوازيتين، الطائفة السنية والطائفة البكداشية. وكانت كل طائفة توجه من طرف ممثلها الخاص بها.

    (1/15517)

    وعندما نتعرض لدراسة الطائفة السنية وتنظيمها الإدراي يمكن الاعتقاد بأنها كانت توجه من طرف المفتي الأكبر الذي كان مقره في تيرانا. لكن تدخل الدولة كان حاسما، إذ هي التي كانت تسيطر على المؤسسة الدينية وتحسم في قضية المراتب والدرجات الدينية، بل هي التي كانت تمول هذه الطائفة وتقوم بدفع رواتب المفتي والقضاة. لكن ذلك ليس معناه الاعتراف بالدين كدين للدولة. كانت السلطة الألبانية تتبع النهج القديم في معاملتها لرجال الدين، وكانت مكانة القضاة والمفتين أكبر منها لدى الرهبان والكهنة، وكان من اختصاص القاضي

    (1/15518)

    البث في قضايا الزواج والطلاق والإرث والبت في حقوق الأطفال. وكانت مهمة المفتي تنحصر في وظيفة مستشار القاضي، لكنه مع ذلك كانت له صلاحية الإرشاد في أمور الدين وقضايا المذهب والعقيدة. أما الطائفة البكداشية (1) يمكن القول بأن تنظيمها الإداري لم يكن يختلف عن تنظيم الطائفة السنية، وكان مقرها في Kakkandelem وهي موجودة الآن في منطقة Tetovo في مكدونيا التي كانت

    __________

    (1) لأخذ فكرة واضحة عن هذه الفترة 1912-1920 ، راجع ما يلي : La Revue du Monde Musulman.26 Mars 1914, PP.253-254, 28 Septembre 1914, PP.319-323.

    (1/15519)

    تشكل جمهورية داخل النظام الفيدرالي اليوغوسلافي قبل الحرب والانفصال. وقد انفصلت هذه الطائفة عن طائفة البكداشيين في استنبول. ونختم هذه الفترة بالتعرض لبعض الإشارات المتعلقة بالتثقيف الديني والصحافة الإسلامية. إن مركز التثقيف الديني والتعليم كان موجودا في المدرسة المشهورة في مدينة Berat، حيث كانت مدة التعليم فيها تستغرق ثمان سنوات، وكانت تضم سنة 1920 حوالي 120 تلميذا، وذلك قبل الحروب البلقانية. ثم صارت مدرسة المعلمين، وكانت الدراسة فيها تلقن باللغة الألبانية. أما ما تعلق بالمنشورات الدينية

    (1/15520)

    والصحافة الإسلامية فإننا نشير إلى بعض الكتب البسيطة التي كانت تعالج القضايا المتعلقة بأركان الإسلام كالصلاة والوضوء والنية والأعياد الدينية والزكاة والصيام والحج، عدد المساجد والتكيات وعدد رجال الدين والموظفين ووضعيتهم، حالة مؤسسات الوقف لدى السنيين والبكداشيين. وقد وقعت محاولات متعددة لتسييس الإسلام من طرف الأتراك بعد ذهاب الخلافة، وكانت جميعة الاتحاد والترقي تحاول استدراج الطائفة الإسلامية إليه لتكون قوة توازن في ألبانيا ومقرا للنفوذ العثماني. وإذا كان الباب العالي لم يعترف بانفصال ألبانيا عن

    (1/15521)

    الإمبراطورية، فإنه مع ذلك حاول تأسيس توازن سياسي وعسكري ضد تزايد القوتين الصربية واليونانية. وفي هذا الاتجاه أوحت إستنبول بفكرة تنصيب أمير تركي على رأس الدولة الألبانية، واقترحت تنصيب وزير الحربية عزة باشا وهو من أصل ألباني للإطاحة بالأمير Wed الذي نصبه الأوربيون على البلاد سنة 1913. وخلال هذه الفترة لوحظت حركة غريبة من طرف الكنيسة الكاثوليكية التي حاولت عن طريق المال تنصير المسلمين وكتلكة الأرتدوكس، حيث ثم رصد طائلة تقدر ب 100.000 دولار في البداية، و 50.000 دولار عند كل سنة.

    (1/15522)

    فترة 1921-1924 ، وفيها سنتعرض بالدراسة لوضعية الطائفتين السنية والبكداشية في ألبانيا من خلال بنيتها وتنظيمها الإداري، فقد عرفت هذه الفترة بداية الانقطاع والانفصال عن الباب العالي، كما تميزت هذه الفترة بعقد الطائفة السنية في تيرانا لمؤتمرها المعروف في شهر أبريل سنة 1923، حيث نجد القرارات المهمة الصادرة عنه تتعلق بانفصال الطائفة السنية عن إستنبول، إعلان الاستقلال التام، إلغاء تعدد الزوجات، إلغاء وضع الحجاب. إلى غير ذلك من القرارات الأخرى، وقد أثار ذلك موجة من الاحتجاجات وردود الفعل العربية

    (1/15523)

    والأجنبية (1) . وصرح رئيس مجلس الشريعة لجريدة الأهرام المفتي محمد وهبي ونشر التصريح في نفس الجريدة يوم 20 يونيو ، وكان تصريحه يوضح بعض القضايا المتعلقة بمزاولة وممارسة الشعائر الدينية حيث أدلى ببعض التوضيحات. ونحن نتعرض لذلك بتلخيص شديد لا يخرج عن نطاق الإشارة. كانت التوضيحات تتعلق بتنظيم الطائفة، وإعادة تنظيم و إصلاح مؤسسات الوقف، والأخذ بالعناية والرعاية للمؤسسات الدينية، انتخاب المفتي الأكبر وتعيين المقر في

    __________

    (1) تصدت تلك عدة صحف عربية وخاصة ما ورد في صحيفة الأهرام في يوم 11 أبريل سنة 1923.

    (1/15524)

    العاصمة، التفرع الوظيفي بواسطة مجموعة المفتين الجهويين الذين يهتمون بالمسائل المالية والإدارية والتفتيش، تأسيس المجلس الأعلى للشريعة ( Haut Conseil du Charia) يشرف عليه المفتي الأكبر، ويتكون هذا المجلس من ستة أعضاء : دكتورين في القانون الشرعي، ومن موظفين مدنيين.

    أما فرقة البكداشيين فقد حاولت قطع العلاقة مع البكداشيين في تركيا، وقد تم لها ذلك في المؤتمر الذي عقدوه سنة 1922، هذه الفترة تميزت بظهور ثلاث مجلات تعني بالدراسات الإسلامية (1)

    __________

    (1) تصدت لذلك عدة صحف عربية وخاصة ما ورد في صحيفة الأهرام في يوم 11 أبريل سنة 1923.

    (1/15525)

    .

    الفترة 1925-1939 : تعد هذه الفترة من أهم الفترات التاريخية في البلاد باعتبار الظروف السياسية الطارئة التي كان لها تأثير قوي على الدين في البلاد. في هذه الفترة كان المسلمون يشكلون 71% من السكان، حيث بلغ عدد سكان الاورتودكس 88.987 نسمة مكونين بذلك نسبة 10% من مجموع السكان. وفي هذه الفترة تم إدخال بعض التعديلات والتغييرات التي كانت بمثابة حملة تصحيحية للنظام الهيكلي للطائفتين الإسلاميتين. فقد أعلنت الطائفة السنية عقب المؤتمر الثاني الذي عقد في تيرانا في شهر غشت سنة 1924 القانون الأساسي الذي يضم

    (1/15526)

    خمسة محاور يضم خمسة محاور أساسية" 1- الملاحظات الأولية حول الدين في البلاد.

    2- تنظيم الطائفة الإسلامية. 3- الإصلاح القضائي. 4- القانون المدني. 5- تطبيق الإصلاح وخاتمة عامة(1) . لكن يبقى هذا الإصلاح الشامل والتنظيم المقنن خاضعا للدستور الرسمي للبلاد.

    إن مجال التطبيق الوارد شأنه في النقطة الخامسة التي وردت في الدستور هو عبارة عن مجموعة من المواد والبنود الأساسية التي تغطي بشكل دقيق ومركز عالم النشاط الديني العام،

    __________

    (1) يستحسن الرجوع إلى . Revue Du Monde Islamique , Tome 9 ,1935 , pp . 399 - 410

    (1/15527)

    ويقدم خريطة شاملة يبرز فيها التركيز على المجالات التنظيمية والبنيوية، ويدقق في المسؤوليات وفي بدايات ونهايات التدرج فيها، وإذا كانت فترة ما قبل فترة 1925 - 1939 تعطي الانطباع بعدم وجود تنظيم مركز للطائفتين لأسباب سياسية يطول الحديث عنها كالحروب البلقانية التي عصفت بالمنطقة كلها خلال سنتين وغيرت وجه الخريطة السياسية للدول الموجودة هناك، فإننا نرى في الفترة اللاحقة ما بين 1925 - 1939 وجها مغايرا يظهر في ما تم من الانفصال التام عن الباب العالي والانكباب على تنظيم أمور المسلمين من زاوية الاستقلال،

    (1/15528)

    لكن يبقى هذا الإصلاح الشامل والتقنين التنظيم يخضعان لروح الدستور الرسمي الصادر عن سنة 1928 وبالأخص للتوجيهات الواردة في المادة الخامسة منه والتي ورد شرحها سابقا.

    إن النص التشريعي الذي أرسل إلى الطائفتين الإسلاميتين معا يلزمهما بتطبيق ما جاء في المادة الخامسة من بنود، وسوف أشير إلى ذلك باختصار شديد:

    1- إن الطائفة المسلمة تشمل المسلمين جميعهم بغض النظر عن كونهم سنيين أو بكداشيين.

    2- تتمتع هذه الطائفة بالشخصية القانونية.

    (1/15529)

    3- تدار الطائفة من طرف مجلس عام أعلى ومن رئيس ومن مجلس دائم ومن مديرية عامة ومفتيين رئيسيين ومفتيين فرعيين ومجالس إقليمية. 4- رئيس الطائفة هو المفتي الأعظم مقره في تيرانا عاصمة ألبانيا، وينتخب من طرف المجلس الأعلى شرط أن تتم المصادقة عليه من طرف

    الملك، يعين المفتون الأربعة بنفس الطريقة من طرف المجلس الأعلى ويكون مقر أعمالهم في المدن الأربع الكبرى التالية: Scutari و Koritza وTirana و أخيرا مدينة .Argyro-Kastro

    (1/15530)

    لكن الذي يثير الانتباه هو ما ورد في المادة رقم 30 من الدستور التي توضح بجلاء بداية هيمنة سلطة الحكم على العالم الديني في ألبانيا، ويتضح ذلك من خلال ما يلي:

    1- تنفذ القرارات والأوامر الصادرة عن الرئيس وعن المجلس الأعلى بدون تمييز أو اعتراض.

    2- تشجيع العلاقة الأخوية بين المسلمين.

    3- المساهمة في تقوية الأخوة الوطنية بين الألبانيين بغض النظر عن معتقداتهم. 4- توسيع نطاق النشر والإعلام.

    تخضع القواعد الضابطة لميزانية الطائفة المسلمة لقوانين الدولة المالية، كما نجد بنودا خاصة بتسيير موارد الوقف

    (1/15531)

    والضرائب المحصلة من طرف المسلمين وأخرى تتعلق بالمساعدات المالية الممكنة التي تقدمها الدولة للطائفة، وفي الأخير نشير إلى تحريم الدولة على الطائفة المسلمة طلب المساعدات المالية من الخارج، إلا أن يكون ذلك بإذن خاص من السلطات. وقد ظلت الأوقاف تحت ملكية الطائفة، لكنها تدار من طرف مديرية عامة التي ورد ذكرها في المادة الخامسة من الدستور.

    وقبل أن أختم هذا المقال أسوق في عجالة دراسة مختصرة تتعلق بالتنظيم الخاص بالطائفة البكداشية في فترة 1925 - 1939. فلقد تم انعقاد المؤتمر الثالث للطائفة سنة 1929 في

    (1/15532)

    مدينة Korcé وتلا ذلك نشر القوانين المتعلقة بالشريعة والميزانية، وقد تم الانفصال الكلي عن الطائفة السنية وكانت الطائفتان معا تشكلان في السابق كتلة إسلامية واحدة. فصار للطائفة البكداشية الزعيم الروحي الأعظم ومقره في تيرانا، وهو يقابل لقب المفتي Grand Dede . ثم يأتي التسلسل في الوظائف والمسؤوليات، فنجد هيأة تتكون من خمسة زعماء يخضعون للزعيم الروحي الأعظم يوزعون في خمس مدن أساسية، ثم تأتي طبقة رؤساء التكيات ثم طبقة الدراويش وطبقة المحبين،

    (1/15533)

    والمحب هو الذي التحق بالطائفة وبدأ التعلم والاستئناس بتعاليمها، ثم تأتي طبقة العاشقين الذين يحملون بالانتساب وهم كثير، لكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة الإذن والتعلم والاستئناس بالشعائر البكداشية.

    الذي يظل في ملكية الخيال، هو كيف يمكن تطبيق المبدأ العلماني على طوائف دينية مختلفة وعلى مجتمع يسير في حياته على نهج الشريعة الدينية إسلاما ومسيحية. إذ ليس من السهل أن ينقلب مجتمع ديني إلى مجتمع علماني. كما أنه من المستحيل أن تنهار مؤسسات تقليدية وتمحى أسس لها عمقها في جسم المجتمع بواسطة سياسة همها الوحيد

    (1/15534)

    هو التغيير السريع. ونحن في حل عن تقديم البرهنة لإسناد قولنا، فالذي يحصل الآن في تركيا وألبانيا غني عن البيان. إن إلغاء نظام الشريعة في تركيا إبان عهد أتاتورك وفي روسيا أثناء العهد الشيوعي، ثم في ألبانيا من خلال دستور 1928 في عهد الملك زوغو كان عبارة عن محاولة لا تخرج عن نطاق النزوة والهوى، ذلك لأن الإصلاح لا يمكن أن يأتي بواسطة قفزات ثورية، أو عن طريق الرعشة السياسية. إنه أولا مبدأ، وهو في الأخير هدف، وبينما طريق شائك، والتأني والتبصر سبيلان إلى ربط المبدأ بالأهداف لتكون النتيجة قد بلغت نهاية

    (1/15535)

    المبتغى.

    المراجع

    - A. Mausset, L’Albanie devant l’Europe, Paris 1927.

    - J. Godart, L’Albanie en 1921, Paris P.U.F 1921.

    - G. Louis Jaroj, Au jeune Royaume d’Albanie, Paris Hachet 1914.

    - Pière Renouvin, Histoire des Relations Internationales, Paris 1958.

    الجزء السادس والسابع والثامن

    - Comte Galeazzo Ciano, Journal politique 1939-1943 Tome 1, Oreste Zeluck, Paris 1943.

    - Comt Galeazzo Ciano, Journale politique 1939-1943, Tome 2, Oreste Zeluck, Paris 1943.

    (1/15536)

    - Milenko Babic, Moncilo Blagojevi, Stevan Cordas, Miodrag, Dukic, Borislav, Lalic, Aliksandar Markovic, Ljubinka Milovanovic, Dragomir, Pavlovic, Velisar Savic, Slavko Stalic, Mihailo Saranovic, Radivoje Vukcevic, Enver Hodjina, Albanija, Beograd juli 1981.

    jovan Markovic i Pero Maraca, Nas oslobodikacki Rat i Norodna Revolucija, 1941- 1945, Prosveta Beograd 1958.

    - Antanasije Urosevic, Ethnic Processes in Kosovo during the Turkish Rule, Kosovo, Past and Present, Review of International

    (1/15537)

    Affairs, Belgrade.

    - Alexander Popovic, L’Islame Balkanique, Berlin 1986.

    - Milovan Djilas, Conversation avec Staline, Gallimard 1971.

    - La Revue du Monde Musulmane.

    (1/15538)

    وضعية الإِسلام والمسلمين في بلغاريا والرومللي الشرقية

    الدكتور عبد الكريم الأبيض

    كلية الآداب – الرباط

    تختلف هذه الدراسة بالنسبة لما سبق ذكره في الأعداد السابقة من مجلة »التاريخ العربي« (العدد الثاني والثالث والخامس)*. إذ عندما كنا بصدد دراسة أحوال المسلمين وأوضاع الإِسلام في منطقتي البوسنة والهرسك وبلاد ألبانيا، لم تواجهنا تلك الصعوبات التي اعترضتنا ونحن نعالج موضوع الإِسلام والمسلمين في منطقة أخرى من بلاد البلقان لاختلاف الظروف التاريخية والجغرافية.

    (1/15539)

    في البحوث السابقة كنا أمام طائفة مسلمة واحدة، واضحة المعالم سهلة التناول وتنتمي لعرق واحد، وتتمتع بالتنظيم المحكم عن طريق القوانين الأساسية، وكانت لها مؤتمراتها وندواتها واجتماعاتها المتوالية، وعلماؤها البارزون في علوم الدين والتخصص في جوانبه، كما كانت علاقاتها واضحة مع السلطة الحاكمة محلية كانت أو مع الباب العالي بالرغم ممّا ساد هذه العلاقة من عمليات القمع والتصفية إبان العهد الشيوعي في ألبانيا، أو من مواقف الحاكمين العسكريين عندما دخل الجيش النمساوي إلى البوسنة والهرسك بناءً على ما تم البت

    (1/15540)

    فيه في مؤتمر برلين سنة 1878.

    إن الأمر يختلف تماماً في بلغاريا والرومللي الشرقية، وتنمو الصعوبة كلما حاولنا ضبط هذه الطائفة المسلمة إما عن طريق الإِحصاء، أو عن طريق رصد تطورها ونموها وتقلصها ومعرفة موقفها من السلطة المحلية أو من الباب العالي.

    لا تكمن الصعوبة في الدراسة بحد ذاتها نظراً لما تزخر به البلاد من منشآت دينية ومؤسسات إسلامية بقدر ما توجد هذه الصعوبة في الأرض وفي النطاق المحيط بها، وأقصد بذلك

    (1/15541)

    النطاق السياسي العام الذي عم البلاد بلاد البلقان برمتها، أو النطاق الخاص داخل إطار العلاقات السياسية التي كانت تربط مصير بلغاريا والرومللي الشرقية بالدول المجاورة البلقانية، أو التي كانت تربطها مع الباب العالي. وحتى لا أطيل في الحديث بالرغم من الضرورة التي تمليه، سأكتفي لتوضيح ذلك بسرد سببين اثنين.

    1- إن المرء يجد نفسه أمام فسيفساء دينية تضم أربع مجموعات عرقية مسلمة تنتسب كل واحدة منها إلى مناطق مترامية الأطراف، لكنها استقرت في منطقة البلغار لعوامل متعددة، هذه المجموعات هي مجموعة اليوماك

    (1/15542)

    (البلغار المسلمون) ثم مجموعة الترك، فالتتر ثم النَّوَر أو ما يسمى بالجيتان -الأمر الذي يستحيل مع ضبط عملية الإِحصاء، لأن الهجرة كانت واردة في كل وقت وحين إما بتصدع العلاقات المحلية أو الخارجية، أو بمفعول الحروب الطاحنة. إن هجرة المسلمين إلى تركيا أو العودة إلى مكان الأصل تؤدي لا محالة إلى عدم توفر وسائل الدقة والمراقبة لدى الباحث.

    2- إن النزاعات السياسية والحروب التي تعرضت لها منطقة البلقان أدت كذلك إلى استحالة ضبط الأرض التي هي مجال لبحثنا بواسطة الحدود، لأن المنطقة كانت تتعرض إلى التقلص

    (1/15543)

    الترابي بعد هزيمة عسكرية ما، أو إلى التوسع الترابي بعد نجاح عملية عسكرية ما. وسنرى من خلال هذا البحث أن الحربين البلقانيتين الأولى والثانية اللتين عرفتهما المنطقة في بداية القرن العشرين كانت فيها حدود دولها تتغير كما يتغير الطقس. فإذا أضفنا إلى ذلك صراع الإِمبراطوريات الأربع(1) وتعارض أهدافها وتضارب مصالحها وأطماعها السياسية والاِقتصادية والعسكرية، نكون بالفعل أمام وضعية ليست فقط سياسية بل

    __________

    (1) الإمبراطورية العثمانية، المملكة الثنائية النمسا والمجر، الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية البريطانية.

    (1/15544)

    دينية بالدرجة الأولى.

    سوف أقسم هذا البحث(1) إلى قسمين: كل قسم يعالج فترة تاريخية تختلف عن الفترة الأخرى.

    1- فترة 1878-1945 منذ انعقاد مؤتمر برلين إلى نهاية الحرب الكونية الثانية.

    2- فترة 1945-1980: دراسة أحول الإِسلام والمسلمين في ظل العهد الشيوعي.

    وسوف نبدأ بدراسة الفترة الأولى على أن يتم تقديم الفترة الثانية في عدد لاحق من المجلة إن شاء الله.

    __________

    (1) راجع مؤلّفي:

    1) Raymond Poincaré, Les Balkans en Feu, Paris, 1912, p. 57;

    2) L’Europe sous les armes, Paris, 1913, pp. 194-210-266.

    (1/15545)

    لقد وصل الإسلام إلى بلاد البلغار عقب الزحف التركي، وكان ذلك في نهاية القرن الرابع عشر. ولقد رأينا في البحوث السابقة التي وردت في العدد الثاني والثالث والخامس من مجلة »التاريخ العربي« والمتعلقة بوضعية الإسلام والمسلمين في البوسنة والهرسك، أسلوبين مختلفين. كان الأسلوب الأول يتمثل في دفع هجرة بشرية تركية إلى بلاد لا توجد فيها كنائس قوية وعتيقة تتمتع بسيادة على السكان، وهذا ما حصل بالفعل في منطقتي البوسنة والهرسك وذلك في بلاد ألبانيا التي كانت على وشك ذوبان شعبها في شعب صربيا صاحبة التقاليد

    (1/15546)

    الأرتدكسية التي كانت تمثلها كنيسة بلغراد ذات الصلة القوية بالكنيسة في موسكو. وقد توقفت مسيرة الذوبان بعد دخول الإسلام إلى ألبانيا. أما الأسلوب الثاني، فقد اتبع سياسة الدفشرمة.

    دخول الإسلام إلى بلاد البلغار لم يتم عن طريق التجار كما حصل في بلاد أخرى من بلاد البلقان، بل إن دور البعثات الدينية كان مفعوله ضئيلا. إن الأمر يتعلق في انتشار الإسلام في هذه البقعة من أرض البلقان بالهجرة التركية المسلمة التي كان نصيبها في ذلك قوياً وحاسماً. لقد استقرت هذه الطاقة البشرية في المناطق التي كانت أراضيها تتمتع

    (1/15547)

    بالخصوبة والعطاء الغذائي. وكانت هذه الهجرة تضم بجانب الأتراك التتر الذين قدموا من الأناضول ومن مناطق أخرى بالإضافة إلى هجرة الشركس. كل ذلك أدى إلى عملية استيطانية كثيفة لعب فيها القرب من مركز الإمبراطورية العثمانية دوراً حاسماً.

    وبالرغم من انتشار الإِسلام(1) بالسرعة التي أشرنا إليها، فقد قامت جمهرة الأورتدكس تطالب الحكومة التركية بتأسيس كنيسة

    __________

    (1) سقطت صوفيا حوالي سنة 1382، وشومان سنة 1388-1389 قيدان سنة 1396 السنة التي تشير إلى زوال الدولة البلغارية المستقلة وإلحاقها بالإمبراطورية العثمانية.

    (1/15548)

    بلغارية وكان ذلك سنة 1870، سنة بداية الغليان الشعبي الذي أدى إلى الاِنفجار وقيام عصيان مسلح عززه تقدم القوات الروسية خلال الحرب التركية الروسية المشهورة سنة 1877-1878 فانقلب ذلك العصيان المسلح إلى ثورة عامة أدت في الأخير إلى بعث الدولة البلغارية من جديد نتيجة للقرارات الصادرة عن مؤتمر برلين سنة 1878، فصارت بلغاريا تحمل اسم الإمارة التابعة للسلطان العثماني رمزياً كما(1)

    __________

    (1) الحديث يطول عن هذا المؤتمر الذي عقد في برلين سنة 1878 تحت زعامة بسمارك، عندما انتصر الروس على الأتراك عقدت معاهدة سان ستيفانو التي منحت الروس امتيازات مهمة في منطقة البلقان. هذه الاِمتيازات وضعت مراكز مهمة لنفوذهم الذي سيقودهم لا محالة إلى البحر الأبيض المتوسط. وإذا كانت بريطانيا تسعى إلى المحافظة على مصالحها في هذا البحر، فإنها قامت تطالب بعقد مؤتمر أوربي ينظر في بنود المعاهدة المذكورة التي نصت -فيما نصت عليه- على تكوين بلغاريا العظمى بضم الرومللي الشرقية وتكون تحت المظلة الروسية. ولا يخفى الوازع السياسي لدى الروس الذين كانوا يسعون من وراء مساعدتهم لإخوانهم الصقالبة في الجنوب عقب بروز المبدإ القومي الوحدوي، بالرغم من علاقة الدين واللغة والعرق التي كانت تربط صقالبة الشمال بصقالبة الجنوب.

    (1/15549)

    منحت الرومللي الشرقية الاستقلال الذاتي.

    لقد لعب مؤتمر برلين(1) دوراً حاسماً في تغيير الخريطة السياسية في أوربا كما أدخلت بسببه تعديلات هامة على صعيد العلاقات الأوربية، بل إنه كان تمهيداً للتقارب الروسي الفرنسي الذي نتجت عنه معاهدة 1890 فكانت بمثابة حلف دفاعي هجومي ضد الإمبراطورية الألمانية وبه دخلت الدولتان المذكورتان جنباً إلى جنب الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.

    __________

    (1) وافق بسمارك لفرنسا على السيطرة على تونس ليثير بذلك حنق بريطانيا.

    (1/15550)

    لم تكن الطائفة الإسلامية في بلغاريا والرومللي الشرقية نظراً للتشتت العرقي تتمتع بالقوة والاِنسجام كما كان عليه الحال في ألبانيا، لانعدام التنظيم أولا، وغياب القوانين الأساسية التي كانت وظيفتها ضبط العلاقة وتراصها بين أفراد الطائفة الإِسلامية وبين مجموعاتها، وضبطها ثانياً أمام مواقف السلطة الحاكمة. إذ من المعلوم أن هذه الطائفة كانت تضم أربع مجموعات عرقية

    كما سبقت الإشارة إلى ذلك: مجموعة اليوماك وهم البلغاريون الذين دخلوا الإسلام بعد دخول الأتراك إلى البلاد، ثم مجموعة الترك التي استقرت في البلاد

    (1/15551)

    بعد الهجرة إليها، ثم التتر الذين شجعتهم الحكومة التركية على الهجرة إلى بلغاريا والاِستقرار فيها بعد حرب القرم وأضافت إليهم كذلك مجموعة الشركس، أما المجموعة الرابعة فهي مجموعة النَّور أو ما يسمى بالجيتان.

    لم يكن إذن بين هذه المجموعات أي ترابط أو وجود صلة توحد بينهم بالرغم من رابطة الدين، باستثناء ما تم رصده من علاقة بين الأتراك والتتر. ولذلك فإن دراسة هذه الطائفة ذات المجموعات العرقية الأربع، والتعرض إلى نشأتها وتطورها عبر الزمان والمكان تفرض على الباحث أن يعالجها ضمن فترات تاريخية محددة ليتمكن

    (1/15552)

    من الاِطلاع على علاقة هذه الطائفة فيما بينها، وعلاقتها مع(1)

    __________

    (1) فترة ولادة الإمارة البلغارية بعد مؤتمر برلين إلى إتمام وحدتها مع الرومللي الشرقية سنة 1885.

    فترة 1885-1914، وهي الفترة التي شددت الحكومة البلغارية قبضتها على الطائفة المسلمة.

    فترة 1914-1918، وهي من أحلك صفحات التاريخ البلغاري وأشدها اضطراباً بسبب الحروب البلقانية والحرب الكونية الأولى وموجات الهجرة التي اتخذت طريقة المد والجزر.

    فترة1919-1941.

    فترة 1941-1945 حيث دخلت بلغاريا بجانب دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) وتمكنت من احتلال أجزاء كبيرة من أراضي البلدان البلقانية المجاورة.

    (1/15553)

    الدولة البلغارية ومع الكنيسة الأورتدكسية ومع الباب العالي مع الأخذ بعين الاِعتبار الشعور القومي والوطني لدى الشعب البلغاري. ولذلك فإن تطور هذه الطائفة رهين بعلاقتها مع العناصر الأربعة المذكورة أعلاه. ويمكن الاِعتقاد أنه في أواسط القرن التاسع عشر كان ثلث السكان في بلغاريا مسلماً، ليتراجع بصفة واضحة عقب هجرة التتر والشركس واليوماك والأتراك إلى الديار التركية بعد مؤتمر برلين 1878. أما الذين ظلوا(1) في البلاد وكان عددهم 900,000 نسمة، فقد حاولوا تنظيم أنفسهم وصفوفهم أمام

    __________

    (1) اليوماك البلغار المسلمون.

    (1/15554)

    السلطة الرسمية أو العسكرية(1) أو أمام أصحاب الإقطاع بالرغم من قساوة العيش. والنتيجة التي يمكن أن نخرج بها

    في هذه الفترة 1878-1885 هي استمرار الهجرة إلى تركيا، والوضعية الاِقتصادية العسيرة لعدم توفر موارد العيش وشروط الحياة الطبيعية، ثم الثورة التي قام بها المسلمون اليوماك الذين كانوا رعاة في جبال منطقة »رُودُبْس« والتي استمرت مدة طويلة من الزمان إلى أن تم القضاء عليها سنة 1903.

    __________

    (1) الأتراك 600,000 نسمة، اليوماك 100,000 نسمة، التتر 19,000 نسمة النَّور أو الجيتان 150,000 نسمة.

    (1/15555)

    أما الفترة الثانية 1885-1914، فقد اتسمت بتكوين الأحلاف البلقانية وقيام الحربين البلقانيتين الأولى والثانية سنة 1912-1913.

    عندما وصل فردناند إلى الحكم في بلغاريا بصفته ملكا عليها، حاول أن يقود سفينة الدولة بحكمة وتبصر، لكن الظروف الأوربية ووضعية بلاده في دوامة التاريخ البلقاني والاِنقسامات الداخلية من جهة، والخارجية من جهة أخرى حيث أخذ البلغار الذين ظلوا تحت الهيمنة التركية في مقدونيا يطالبون بالاِستقلال والوحدة، كل ذلك كان سبباً في التخبط السياسي الذي أدى بالبلاد إلى تلك الخسائر السياسية

    (1/15556)

    والعسكرية والإِقليمية.

    قطع فردناند سنة 1908 كل صلاته مع الباب العالي لينصب نفسه قيصراً على بلغاريا(1) في مدينة Tarnovo في يوم السادس من أكتوبر من السنة المذكورة أعلاه، ثم عقد صربيا ورومانيا الحلف المشهور وهو الاِتفاق البلقاني ليعلن عن طريق هذا الحلف الحرب على تركيا سنة 1912 وهي الحرب البلقانية الأولى فتم له النصر، لكن الأمر قد تغير سنة 1913 حيث انقلب حلفاء الأمس أعداء بسبب أطماع فردناند الترابية، فانهزم أمام صربيا ورومانيا في الحرب البلقانية

    __________

    (1) وقعت هجرة كبيرة بعد هذا الاِنقطاع إلى تركيا.

    (1/15557)

    الثانية وانتزع منه كل ما تم احتلاله ثم عقدت معاهدة بخارست سنة 1913 التي احتفظت للملك البلغاري فقد بمنفذ على بحر إيجة(1).

    وتفصيل ذلك أنه تم في يوم 30 مارس سنة 1912 عقد حلف ثنائي بين صربيا وبلغاريا كان الهدف منه الدفاع المشترك والمحافظة على

    __________

    (1) راجع Raymond Poincaré في المؤلفين المذكورين أعلاه؛ وكذلك مؤلف Pierre Renauvin؛ وهو جزء من سلسلة الأجزاء التي تحمل عنوان Histoires des Relations Internationales الجزء المعنى به هو الجزء 7، ويحمل عنوان: Les Crises du XXe siècle 1914-1929, Paris, 1957, p. 195.

    (1/15558)

    المصالح المتبادلة في حالة تغيير الوضع الراهن في منطقة البلقان، أو إذا ما حصل اعتداء عليهما أو على إحداهما من طرف قوة ثالثة، وكان هذا الحلف يحتوي على بند سري ينص على ضرورة استشارة روسيا.

    وفي يوم 14 أبريل سنة 1912 تم الدخول في محادثات بين اليونان وبلغاريا حيث قدمت اليونان مشروع حلف لم يلبث الطرفان أن وقعا عليه في يوم 16 من شهر ماي من نفس السنة، وهو حلف يشرع العمل به في حالة اعتداء قادم من تركيا. وقد نصت المعاهدة على تعلُّق الدولتين بالسلام داخل منطقة البلقان، وعلى المساواة بين الأجناس والأديان،

    (1/15559)

    وعلى حقوق المسيحيين داخل تركيا، بل إن الدولتين قد حرصتا على عدم الاِعتداء أو التحريض عليه ضد الإِمبراطورية العثمانية(1).

    ثم اندلعت الحرب البلقانية الثانية سنة 1913 بسبب الأطماع التوسعية لدى فردناند وكانت بداية هذه الحرب بين صربيا وبلغاريا في ليلة 24 يونيو من نفس السنة المذكورة عندما هاجم 600 رجل من الجيش البلغاري المراكز المتقدمة للجيش الصربي في منطقة Kratovo، وكان البلغار يرمون من وراء ذلك أخذ المساعدات

    __________

    (1) دخلت هذه الدول جميعُها الحلف المذكور في حرب ضد تركيا لتدشن أول حرب في الحروب البلقانية.

    (1/15560)

    من النمسا(1). فعندما أخذ الوزير الأول الصربي (Pasic) Pachitch الموافقة من البرلمان في بلغراد لقبول تحكيم القيصر الروسي كانت قوات الجنرال البلغاري Ratko Dimitrief تهاجم على حين غرة القوات الصربية على مدى جبهة طويلة لتتبعها معارك طاحنة.

    __________

    (1) كان العداء متأصلا ومتأججاً بين النمسا وصربيا باعتبار بلغراد كانت مهد القومية السلافية الجنوبية وكانت بلغراد تحمي وترعى الجمعيات السرية التي كانت تهدف إلى انتزاع الممتلكات النمساوية في شبه جزيرة البلقان وكذلك الممتلكات العثمانية ليتم بناء صرح الدولة اليوغسلافية.

    (1/15561)

    وكان هذا الاِعتداء يرمي إلى تحقيق هدف وطني في رأي المسؤولين البلغار، أي إلحاق مقدونيا ببلغاريا. وعندما بدأت أعراض الاِنهزام تتضح لدى الملك فردناند حيث أخذ يحس بضغط(1) النازلة انتهى الأمر به ليتوجه إلى ملك

    __________

    (1) كانت هناك قوة سكانية تتمتع بالأغلبية، عقب الحرب الكونية الثانية، قسمت مقدونيا إلى ثلاث مناطق يونانية بلغارية يوغسلافية. والمنطقة التي كانت تابعة ليوغسلافيا كانت تكون الجمهورية السادسة عقب تأسيس الحكم الفدرالي اليوغسلافي في عهد تيتو، وهي الآن جمهورية مستقلة بعد ذهاب يوغسلافيا الفدرالية.

    (1/15562)

    رومانيا للتوسط كما أرسل وفداً إلى الرئيس الفرنسي Poincaré لنفس الغاية. وكان ذلك في اليوم الثاني من شهر

    غشت سنة 1913، وبالفعل تم تحقيق السلام في مؤتمر بخارست في يوم 10 غشت سنة 1913 فتم ا لتوقيع على الاِتفاق بين رومانيا واليونان وصربيا والجبل الأسود من جهة وبين بلغاريا من جهة أخرى(1)

    __________

    (1) كانت بلغاريا المنصرمة ترى في قيام الحرب الكونية الأولى فرصة لاسترجاع طرف من التراب المقدوني الذي كان خاضعاً لصربيا ويتمتع البلغاريون فيه بالأغلبية السكنية (انظر مؤلف: Pierre Renauvin, Les Crises du XXe siècle, 1914-1929, p.185).

    (1/15563)

    .

    لقد أشرت في البداية وبصدد موضوع الخلاف الحاصل في منطقة البلقان أنه يرجع إلى المرامي التوسعية والبحث على منافذ بحرية، وهذا الصراع الذي اشتد شأنه واستفحل داؤه هو الذي جر الدول الأوربية إلى المصيدة البلقانية(1)

    __________

    (1) كان الكل ينتظر الشرارة الأولى لتندلع الحرب الكونية الأولى ولتهتز أسلاك الأحلاف الثلاثة: 1) الحلف الروسي الفرنسي 1890 والحلف البريطاني الفرنسي 1904 والمعروف بالاِتفاق الودي الذي عقد على حساب المغرب وكانت له أبعاد أوربية ثم حلف دولتي الوسط بين ألمانيا والمملكة الثنائية النمسا والمجر التي تم سنة 1908 بعد ضم البوسنة والهرسك إلى الأملاك النمساوية.

    (1/15564)

    .

    إذن نرى مما تقدم ومن خلال هذه النظرة التاريخية التي لا تخلو من إسهاب متعمد، لكنها لا تفتقر إلى الفائدة العلمية التي يمكن من وضع الطائفة الإسلامية في الإِطار التاريخي المتسلسل عبر الفترات الخمس التي ورد ذكرها في الهامش رقم (6).

    إن الفترة التي تبدأ بسنة 1885 بعد دمج الرومللي الشرقية ببلغاريا إلى قيام الحرب العالمية الأولى، كانت فترة سادها الاِضطراب السياسي ورافقتها المواجهات العسكرية وتضارب الأطماع بين دول البلقان، أو بينها وبين الإمبراطورية العثمانية. وهذا ما دفع تيار الهجرة الذي لعب الدور

    (1/15565)

    الأول في تغيير الخريطة السكنية المسلمة، بعد تزايد هجرة المسلمين، والاِستمرار في مغادرة أرض الاِضطراب للبحث عن منطقة الاِستقرار. وبذلك سيكون من العسير أن يقوم الباحث بعملية الضبط والدقة عندما يسعى إلى الإتيان بإحصاء تام للسكان المسلمين ولمنشآتهم ومؤسساتهم ورصد حركتهم ومناطق استقرارهم. وبذلك، فإن هذه المجموعات السكانية المسلمة سواء كانت عرقية أو دينية والتي يتم إحصاؤها وتقديمها للقارئ تكون دراستها لا تخرج عن نطاق التقديرات وتكون النسبة فيها واردة.

    (1/15566)

    واختصارا للقول، فإن تيار الهجرة استمر في التدفق، وكان لذلك تأثير على الطائفة المسلمة. كان عدد المسلمين حسب إحصاء سنة 1910 حوالي 601,999 نسمة، وهو رقم يكون 13,88 % من مجموع سكان بلغاريا، يحتل الأتراك مع التتر المقام الأول بـ 484,144 نسمة، اليوماك 21,146 نسمة، ومئات الآلاف من النَّور أو الجيتان، كانت أغلبية المسلمين تستقر في الريف بنسبة 84,8 % وهي تضم الترك والتتر واليوماك. أما الجيتان المستقرون في الأرياف، فكانت نسبتهم 76,60 %.

    (1/15567)

    كانت الوضعية المادية رديئة سواء كان الأمر يتعلق بالفلاحين والمزارعين المستقرين في الأرياف أو يتعلق بسكان المدن. وبالرغم من أن حكومة بلغاريا قد تعهدت بناءً على معاهدة القسطنطينية الموقعة سنة 1913-1914 على حماية المسلمين القاطنين في بلادها، فإن ذلك لم يمنع تعرض اليوماك بصفتهم بلغاراً لمحاولات التمسيح إما عن طريق السلطة المحلية أو بواسطة البعثات الكاثوليكية والأورتدكسية بالرغم من تعهد حكومة بلغاريا(1)

    __________

    (1) استمرت ثورة المسلمين في منطقة Rhodopes التي اندلعت سنة 1878 إلى سنة 1903، لم يكن المسلمون خاضعين للخدمة العسكرية بل تم إعفاء الأتراك من المشاركة في الحروب البلقانية، وكان المسلمون يدفعون ضريبة خاصة مقابل إعفائهم من التجنيد. وقد ورد تفصيل ذلك في القوانين التي صدرت في الجريدة الرسمية البلغارية في صوفيا يوم السابع من شهر شتنبر 1902 و24 يناير 1904.

    (1/15568)

    .

    سوف نقدم نظرة(1) مختصرة ومركزة تتعلق بأوضاع المسلمين في بلغاريا والرومللي الشرقية مع التحفظ الذي يلازمنا أثناء تقديم هذه الخلاصة الشمولية بسبب الهجرة التي اتخذت سبيل الكر والفر. ولقد ارتأيت أن تكون هذه الخلاصة شاملة لموضوع هذه الطائفة من حيث الاِنتماء

    __________

    (1) تعترف الحكومة البلغارية للطوائف المسلمة المقيمة في بلغاريا بحق انتخاب المفتين، وقد طالبت الحكومة التركية بالمحافظة على ذلك الحق التقليدي المتمثل في تعيين هؤلاء المفتين من طرف شيخ الإسلام المقيم في تركيا، لم يحصل ذلك حتى على حق الموافقة.

    (1/15569)

    العرقيّ والديني أو ما تم رصده وإحصاؤه من منشآت ومؤسسات دينية كالمساجد ومراكز العبادة، وأعداد المفتين ومناطق استقرارهم ووظائفهم ورواتبهم وعلاقتهم بالحكومة المحلية أو بالباب العالي. ثم بعد ذلك نتعرض للتعليم ومؤسساته والمعلمين ومواردهم ورواتبهم وطبقاتهم، مع التركيز على إحصاء مراكز التعليم من مدارس إعدادية وابتدائية، والتلاميذ

    والتلميذات. لابد من الإشارة إلى أنني لم أحصل سواء في هذا البحث أو ما قدمته في البحوث السابقة على كلمة واحدة تتعلق بالتعليم الجامعي. وهذه الجملة من المعلومات الغزيرة سوف

    (1/15570)

    تسوقها وتقدمها الأرقام والإِحصائيات الآتية(1).

    __________

    (1)

    الجيتان

    التتر

    الأتراك

    المدن

    7513

    2652

    130944

    Chaumla

    10,971

    132

    37,064

    Bourgas

    9000

    11329

    107840

    Varna

    5685

    20

    4444

    Vidin

    9081

    100

    2039

    Vratza

    1615

    ؟

    599

    Kustendil

    11146

    31

    24886

    Philoppopoli

    7277

    510

    12,261

    Plévna

    8403

    3919

    153730

    Raustchauk

    5838

    10

    874

    Sofia

    7823

    2

    31379

    Eskizaghra

    7513

    173

    25180

    Tirnovo

    Revue du Monde Musulman

    سنوات 1905-1906-1907

    (1/15571)

    يوجد في إمارة بلغاريا والرومللي الشرقية 652,047 (سنة 1908) نسمة موزعون حسب جنسياتهم:

    - الأتراك 531,240 نسمة.

    - اليوماك 20,647 نسمة، ولعل هذا النقص يرجع إلى عملية التمسيح.

    - التتر 18,884 بسبب النزوح.

    - الألبان المسلمون 1600 نسمة.

    - العرب المسلمون 67 مسلمون.

    - الفرس 60 نسمة.

    وعندما نحاول ضبط منطقة استقرار هؤلاء، فإنني أحيل الباحث على ما ورد في الهامش رقم (18) الذي يلقي الضوء على مناطق استيطان هؤلاء المسلمين. ومن خلال الجدول الوارد في الهامش المذكور أعلاه، يتبين أن الأتراك في المدن السالفة الذكر

    (1/15572)

    (هامش 18) يصل عددهم إلى 531,240 نسمة. أما التتر، فكان عددهم قد بلغ 18,549 نسمة.

    كل المسلمين سنِّيُّون باستثناء الفرس الذين هم شيعيون. وقد لوحظ في هذه الفترة، وبناءً على ما رأيته من خلال مقارنة بعض المصادر، أن الزيادة المتعلقة بالسكان المسلمين قد توقفت بل كانت هناك إمكانية التناقص. ويرجع ذلك إلى هجرة العائلات المسلمة(1) إلى تركيا نتيجة للتسهيلات التي قدمتها

    __________

    (1) للهجرة دور كبير في تزايد أو تناقص السكان المسلمين. ولقد أشرت إلى ذلك أعلاه. ولهذا السبب كانت الأرقام الواردة أعلاه تتعرض للتغيير باستمرار.

    (1/15573)

    لها الحكومة التركية عن طريق ملكية الأراضي والديار.

    أما ما ورد من معلومات في شأن المفتين ووظائفهم ومسؤولياتهم ورواتبهم وكذلك طريقة انتخابهم وعلاقتهم مع السلطة المحلِّية أو مع الباب العالي، فإننا نشير باختصار إلى نذلك حيث نلاحظ أن عدد المفتين البالغ عددهم اثني عشر مفتياً كانوا موزعين على 12 منطقة رئيسية في بلغاريا ومنطقة الرومللي الشرقية(1)

    __________

    (1) نصت معاهدة سان ستيفانو بعد اندحار الجيش التركي أمام الروس على تكوين بلغاريا العظمى بضم الرومللي الشرقية وتكون تحت الهيمنة الروسية. لكن مؤتمر برلين حذف هذا البند فأصاب بضربة قاسية تدفق النفوذ الروسي الذي توقف، الأمر الذي أدى إلى التقارب الفرنسي الروسي، ثم إدماج الرومللي الشرقية في بلغاريا سنة 1885.

    (1/15574)

    إذ كانوا يقيمون في المدن الرئيسية مدينة Vidin وVratza، وPlevna وTirnova وChaumla وVarna وRaustchauk وSofia في بلغاريا. أما في الرومللي الشرقية، فكانت إقامة المفتين في المدن الآتية Philippopoli

    وEst-Zaghra وBourgas.

    وبجانب المفتين الرئيسيين يوجد 25 مُفتٍ أقل رتبة من حيث المسؤولية الإِدارية. وكان موضع استقرارهم في المدن الغاصة بالسكان المسلمين وكذلك في المناطق والمقاطعات التي كانت تتمتع بحكم ذاتي. كانت طريقة انتخاب هؤلاء المفتين تتم من طرف الطوائف الإسلامية وعن طريق ممثليهم المختصين بالرغم من

    (1/15575)

    اختلاف العرق والجنس، وكانت تسميتهم أو ترشيحهم يتمان من طرف الحكومة البلغارية أولا ثم تقع التزكية من قبل شيخ الإسلام المقيم في إستانبول،

    وهو الذي كان مسجد السلطان سليم الذي هُدم بفعل النار التي أتت عليه إثناء انتفاضة البلغاري

    ضد اليونان. في منطقة Karnobal مسجدان، مسجد Kara Djam’i يوجد في حالة سيئة ومسجد Ak Djam’i في حالة خراب، وفي منطقة Aitos يوجد مسجد السلطان سليم ومسجد آخر Tchalli Machalli في حالة خراب. في منطقة Yambaly 14 مسجداً وأبرزها الجامع الكبير. وفي منطقة Pravodi 5 مساجد منها مسجد واحد

    (1/15576)

    صار مخزنا للحبوب وهو المسجد المسمى تشومان. وفي منطقة Slivno يوجد 400 بيت مسلم تحتوي على مسجد، بالإضافة إلى تسعة مساجد تم هدمها وتخريبها في عهد المفتي حسني أفندي.

    من خلال ما تقدم، نلاحظ أن عدد المساجد التي تم إحصاؤها سواء في بلغاريا أو في الرومللي الشرقية يصل إلى 157 مسجداً.

    بقي أن نختم هذه الفترة بإلقاء نظرة على التعليم ومؤسساته. كان التعليم في المدارس الإسلامية نسخة تامة لما كان عليه الحال في تركيا، كانت توجد 15 مدرسة إعدادية Rauchdié في بلغاريا و6 مدارس في الرومللي الشرقية، وكل مدرسة تحتوي

    (1/15577)

    على(1) ثلاثة أو أربعة أقسام.

    تدار هذه المدارس من طرف مجالس خاصة تنتخب بواسطة ممثلي الطائفة الإِسلامية المختصين، وتقع مصاريف الصيانة على عاتق مداخيل مؤسسة الوقف وكذلك على المعونات المقدمة من طرف

    __________

    (1) راجع مقال M.A. Feugère الوارد في Revue du Monde Musulman, T.6, p. 271، حيث يشير إلى أن البلغار تمكنوا من إنشاء مؤسساتهم التعليمية عن طريق بحان خاصة كان لها دورها الكبير في إيقاظ الروح الوطنية، ويعترف صاحب المقال بأنه بالرغم من هذه الجهود في نطاق التعليم، فإن مراكز التعليم الإسلامي كانت تتمتع بالأغلبية.

    (1/15578)

    إمارة بلغاريا. ويلاحظ من جهة أخرى أن الحكومة العثمانية كانت تقوم بصرف مرتبات بعض المعلمين الذين كانت تسميهم بنفسها، كانت لغة التعليم اللغة التركية ثم الفرنسية ثم اللغة البلغارية.

    كانت توجد مدارس بثلاثة أقسام مخصصة للبنات في مدن Philippopoli وRaustchauk كما يوجد في كل مدينة يقطنها المسلمون ما بين مدرسة واحدة وأربع مدارس ابتدائية (Mektébi Ibtidaïje) لكن منطقة الريف كانت تنعدم فيها المدارس المشابهة لما تقدم إلى القليل القليل، وأغلبها كان خاضعا للنظام القديم بخلاف المدارس التي كانت توجد في المناطق

    (1/15579)

    الحضرية وهي تخضع للنظام التعليمي الجديد (Ousaul-jdjédid).

    خلاصة القول كانت بلغاريا ومنطقة الرومللي الشرقية تضم 1293 مدرسة ابتدائية مسلمة يتلقى التعليم فيها 64,422 تلميذاً وتلميذة كانت مصاريف التسيير والصيانة تصل إلى 283,083 فرنك حصة الدولة البلغارية تنحصر في 23,829 فرنك. وكان الباقي يدفع من طرف الطائفة المسلمة ومن مؤسسة الوقف.

    نستمر في الحديث لنتمم بالدراسة وضعية الإِسلام والمسلمين من خلال الفترات المتبقية لنبدأ بفترة 1919-1941 ولتكون الخاتمة لهذا البحث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على أن

    (1/15580)

    نعود في بحث لاحق وفي عدد آخر من المجلة لنتعرض بالدراسة لأحوال الإسلام وأوضاع المسلمين في ظل العهد الشيوعي.

    لقد دخلت بلغاريا إلى الحرب الكونية الأولى بجانب دول المحور ألمانيا والنمسا. وكان السبب في اندلاع الحرب أزمة سراييفو عندما تم اغتيال فردناند على يد غافريلو برانسيب (Gavrilo Prinsip) سنة 1914. وكانت بلغاريا تهدف من وراء دخولها مع دول المحور استرجاع ما فقدته من الأراضي التي كانت قد استولت عليها خلال الحرب البلقانية الأولى سنة 1912 وفقدتها بعد الحرب البلقانية الثانية سنة 1913(1)

    __________

    (1) كانت بلغاريا المنهزمة سنة 1913 ترى في قيام الحرب الأولى سبيلا لاسترجاع من صربيا ما فقدته من التراب المقدوني وفيه أغلبية سكانية بلغارية.

    (1/15581)

    .

    وهكذا دخل فردناند الحرب فبدأ بالهجوم على صربيا في شهر أكتوبر سنة 1915، لكن جيش سالونيك الذي كان قد عانى من ضربات الجيش البلغاري أثناء الحرب، تمكن في سنة 1918 من سحق الجيش البلغاري عندما كانت قوات المحور تلفظ أنفاسها الأخير بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب بجانب الحلفاء(1).

    __________

    (1) يطول الحديث عن أسباب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية وتدخل هذه الأسباب ضمن المخطط البريطاني المتعلق بحرب الكماشة في الشرق العربي وحصار الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي.

    (1/15582)

    وقد تسببت الهزيمة التي لحقت بالجيش البلغاري في الاِستياء الشعبي الذي كاد أن ينقلب إلى ثورة عامة، الأمر الذي دفع بالملك فردناند إلى التخلي عن الحكم لابنه يتمتع بحق المصادقة لمنحهم قرار التسمية وهو »المنشور«. وقد يقع تجاوز هذه المصادقة من طرف شيخ الإسلام حيث يتم انتخاب هؤلاء المفتين مباشرة من طرف الطوائف الإسلامية مع مراعاة الترشيح والتسمية اللتين ظلتا في يد الحكومة البلغارية. إن تجاوز هذه المصادقة بين الحين والآخر من طرف شيخ الإسلام في إستانبول يرجع بالتأكيد إلى بداية أفول نجم الدولة العثمانية

    (1/15583)

    وإلى القطيعة التي تمت بين بلغاريا والباب العالي عقب القرار الذي اتخذه فردناند ملك البلغار سنة 1908، حيث سمى نفسه قيصراً بعد هذه القطيعة.

    اختصاصات هؤلاء المفتين متعددة كإدارة المساجد وصيانتها، والإشراف على الأوقاف وعلى تسيير المدارس المسلمة. وكانت في يدهم سلطات النائب (القاضي الشرعي).

    كانت موارد رزقهم تأتي عن طريق رواتب معينة وقارة وفي كل شهر تتراوح ما بين 300 و800 فرنكٍ فرنسيٍّ. وهذه المرتبات خاصة بالمفتين الرئيسيين و60 فرنكا للمفتين الذين هم أقل درجة من السابقين.

    (1/15584)

    كان مفتي صوفيا يتقاضى 300 فرنك ومفتي Philippopoli في الرومللي الشرقية 125 فرنك لكنه كان يعوض من طرف الحكومة التركية بما قيمته 14 جنيهاً أي بـ322 فرنك في كل شهر.

    هناك جانب من هذا البحث يجب أن يحظى بالاِهتمام. ويتعلق الأمر بالمؤسسات الإِسلامية والمراكز التعليمية.

    تزخر البلاد بعدد لا حصر له من المساجد منها ما هو موجود ومنها ما خرب وهدم. وعلى سبيل المثال، كانت صوفيا عاصمة بلغاريا تحتوي على 27 مسجداً لا يزال قائماً منها مسجد واحد فقط إذ تحول ثلاثة منها إلى كنائس وصار مسجد واحد متحفاً، أما الباقي،

    (1/15585)

    فقد مسته يد الهدم والخراب.

    في منطقة Chaumla 26 مسجداً أبرزها المسجد الكبير Moradié ومسجد سيدي محمود ومسجد المصلى، إلخ. وفي منطقة Bourgas في الرومللي الشرقية مسجدان اثنان، وفي Varna 14 مسجداً، وفي Raustchauk 12 مسجداً، وفي Vidin 12 مسجداً أبرزها جامع مصطفى باشا، وفي منطقة Anchialos يوجد Boris. وكان ذلك في شهر أكتوبر من سنة 1918، وبناءً على معاهدة Neiully المعروفة سنة 1919 فقدت بلغاريا أغلب الأراضي التي احتلتها خلال الحرب بما في ذلك المنفذ البحري على بحر إيجة الذي كانت قد أخذته بناءً على معاهدة

    (1/15586)

    بخارست المذكورة سنة 1913، ولينحصر جيشها في عدد ضئيل لا يتجاوز 33,000 جندي مع منعها من امتلاك سلاح جوي.

    في ضوء ما تقدم، نلاحظ أن الهزيمة العسكرية التي لحقت ببلغاريا والأزمة السياسية التي أعقبتها كان لهما أثر كبير على أوضاع المسلمين، حيث لعبت الهجرة كما كان من قبل دوراً أساسياً في زعزعة الاِستقرار الإسلامي.

    كان عدد المسلمين ما بين 800,000 ومليون نسمة والقسم الأكبر من هذه الطائفة الإسلامية بمجموعاتها الأربع يعاني من الفقر والجهل وبصفة خاصة مجموعة اليوماك ومزارعين كانوا أو رعاة أو منتجي التبغ. كانت

    (1/15587)

    هذه الطائفة المسلمة معرضة للاِستغلال والعمل الشاق وكانت تحت ثقل الضرائب والاِبتزاز والعذاب. وقد لعبت الإِقطاعية العسكرية والمدنية دوراً كبيراً في ذلك دون إغفال دور السلطة الحاكمة ، التي كانت ترغم المسلمين على تغيير أسمائهم. وهكذا بدأ هؤلاء المساكين يبحثون بوسائل مختلفة لمغادرة الأرض والهجرة إلى تركيا عن طريق اليونان، ولم تكن حالة الترك والتتر والجيتان بأحسن حال من اليوماك(1)

    __________

    (1) وقعت الهجرات المكثفة لهؤلاء المسلمين سنة 1927 وسنة 1933 وسنة 1935، لكنهم كانوا يرجعون إلى مكان الأصل باعتبار أن الأوضاع الاِقتصادية في تركيا لم تكن بأحسن حال منها في بلغاريا، كانت فئة من هؤلاء تساند الحزب الشيوعي.

    (1/15588)

    .

    فترة 1941-1945:

    قبل أن يقوم هتلر بتنفيذ عملية بارباروسا بالهجوم على الاتحاد السوفياتي قام بادئ ذي بدءٍ باحتلال بلغاريا ليضمن حيادها حتى يقطع الطريق أمام تدفق الجيش الروسي عبر دول البلقان، بعد أن فرض عليها توقيع معاهدة فيينا وكان ذلك في أول مارس من سنة 1941. مقابل ذلك، سمح للجيش البلغاري باحتلال أجزاء ترابية هامة في مقدونيا، هذه الأجزاء التي

    كانت تابعة لليونان وصربيا بل إنه سمح لبلغاريا بإدماج هذه المناطق وإلحاقها بتراب الدولة البلغارية.

    (1/15589)

    من خلال هذا الواقع الجديد الذي يشير مغزاه إلى ما قلناه في مقدمة هذا البحث أن تزايد السكان المسلمين في دولة بلغاريا والرومللي الشرقية كان يقع تحت تأثير الحروب فيتقلص عدد السكان المسلمين بتقلص الأرض بعد هزيمة عسكرية ما أو يتزايد عدده باتساع الأرض عقب نجاح عملية عسكرية. وبناءً على ذلك، فإننا نلاحظ من خلال السنوات الأربع التي بدأت بالحرب الكونية الثانية وانتهت بهزيمة الألمان كانت الزيادة في السكينة المسلمة لا تحتاج إلى دليل.

    (1/15590)

    لم تتغير وضعية اليوماك في هذه الفترة، بل ظلت الحالة المعيشية كما كانت عليه، بؤس اقتصادي وعسر اجتماعي، وضع صحي سيئ، تمييز عنصري، ضغط ديني، لكن شروط الحياة للفئات المتبقية سواء كانوا أتراكا أو تتراً أو جيتاناً لم تكن بأحسن من حالة اليوماك البلغاريين المسلمين.

    المراجع

    (1) Revue du Monde Musulman, T.6, 1907.

    (2) Revue du Monde Musulman, T.5, 1908.

    (3) Bernard Lory, La Romelie Orientale (1878-1885). Mémoire de maîtrise, Université de Paris IV, Septembre 1979.

    (1/15591)

    (4) Le sort de l’héritage ottoman en Bulgarie (l’exemple des villes bulgares 1878-1900), Thèse du 3e cycle, Paris, INALCO, 1982.

    (5) A. Girard, Les Minorités nationales ethniques et religieuses en Bulgarie, Paris, 1932.

    (6) Cf. Lamauche, La Bulgarie, Paris, Rieder, 1923.

    (7) Smail Aga Tchemalovitch, Les musulmans en Bulgarie, dans l’Europe de l’Est et du Sud-Est, Paris III, pp.5-6, 1933.

    (8) Le traité de Constantinople et la situation des écoles musulmans (Revue du monde musulman), T.26, p.

    (1/15592)

    1914.

    (9) Les problèmes religieux en Europe Orientale 1945-1970, la Documentation française, Notes et Etudes Documentaires, n°3790-3791, 17 Mai 1971.

    (10) NIN, de Belgrade, n° 1128, V/86 du 1 avril 1974.

    (11) Tchilault, Bulgarie (Grand Larousse encyclopédique), T.11, 1960.

    (12) B.N. Simir, Contributions à l’histoire des populations turque en Bulgarie (1876-1880), TKA 1966.

    (13) Raymond Poincaré, Les Balkans en feu, 1912, Paris, 1926; l’Europe dans les armes, Paris 1913.

    (1/15593)

    (14) Pierre Renauvin, J.R.J.T 7, Les Crises du XXe siècle, 1914-1929, Paris, 1957.

    (15) Jacques Ancel, Manuel Historique de la Question d’Orient

    (1792-1926), Paris, 1927.

    (1/15594)

    ولو انهم...جاؤوك -قصيدة شعر -

    الأستاذ الدكتور عبد العزيز محي الدين خوجة

    سفير المملكة العربية السعودية الشقيقة بالمملكة المغربية

    لو أنهم جاؤك

    ما شدوا رحالهم إلى جهة الضياع

    لو أنهم...

    ما تاه ربان لهم

    أو ضل في يم شراع.

    طير أبابيل على الكف المضمخ بالضحايا

    في صلاة لم تصلك لأن فيها ما يعد من الخطايا

    في خواء الروح حين تدكها خيل المنايا

    أنقاض مجزرة على جثث السبايا

    في صدى صوت المؤذن

    ضاع في أحجار مقبرة مدمرة

    ... على قلبي شظايا

    طير أبابيل على أفيال أبرهة تجوب مآذن الأقصى

    لمن في الأرض تعرج روحي الثكلى؟

    (1/15595)

    ومن سيردها جذلى إلي؟

    وإخوتي

    ذئب يشق قميصي المذبوح

    ثم يطوف أرض الله

    ... ... كي يبكي علي؟

    لو أنهم جاؤوك

    مانصب الحداد على الجباه

    الله يا الله

    لو أذنوا قليلا من مداه

    الله ، يا الله

    لوترفوا تمزق نفسي الأولى رؤاه

    الله ، يا الله

    ضمخت قلبي من شذاه وفي سناه

    الله ، يا الله

    لو تدنو إذن مني يداه

    لتفجرت روحي من الصواة سهلا من مياه

    الله، يا الله

    كم داست على أيا منا فيل الغزاة الغاشمين،

    وتناهشت دمنا حراب الروم ما جنة

    على جسد رثينا في صدى رعشاته سيفا مكين

    وترى المغول على مشارف أفقنا المحزون

    (1/15596)

    تشرب في جماجمنا مدى أنخابها؛

    وتراهم من بين أيدينا، وفوق نعاسنا،

    وعلى ثياب نسائنا

    من كل صوب ينسلون...

    لو أنهم جاءوك لانبلغ الصباح ... فبهم وما عابثت بوجهتهم رياح

    ما غفرت غربان شطر صهيلهم ... بالشؤم أو غضت علىدمهم رماح

    ما ضج بين وجيبهم خوف تغمدهم ... ... وما ذلت على نفس جراح

    إني أتيتك سيدي، وبخاطري ... ... أوطاننا، ودماؤنا... هدرا - تباح

    ونساؤها ..ثكلى على أولادها ... ... وإناثها... يلهو بها سفاح

    حزن تماوج في النفوس وقد سرى ... ... وأنينها ... طفل يمزقه النواح

    فاشفع لنا يا سيدي، من ذنبنا

    (1/15597)

    إنا طرقنا الباب... يحدونا الفلاح

    فعظيم شأنك عند ربك سانق ..

    وعظيم رحمته يكللهاسماح

    ظلوا طريقهم، وما جاءوا،

    وما فطنوا

    ولو جاؤوك...

    ... لانبلج الصباح

    الله، يا الله

    هل جف الهواء

    ولم يعد يتنفس الشهداء

    ... ... حتى باليراع

    هل هانت النفس العلية مثلما سقط المتاع؟

    قد ضاقت الدنيا علينا مثل خاتمة الوداع

    أرواحنا انهدت على أقفاصنا

    ... ... تشرى هنا،

    ... ... ... وهنا تباع

    يا سيدي

    سقط القناع على المسارح

    ... عن وجوه لم تكن إلا قناع

    يا سيدي

    هل يحمنا فمنا

    وقد خرت قلاع

    ... لم تكن

    ... ... أبدا،

    ... ... ... قلاع

    (1/15598)

    لو أنهم جاؤوك

    ... ... ما شدوا رحالهم

    ... ... ... إلى جهة الضياع ...

    ها إنني قد جئت منكسرا

    وروحي لاتحد

    ... بغير روحك يا حبيبي

    قد جئت ...

    أحمل في يدي ضراعتي،

    ... وتوسلي بعظيم جاهك من ذنوبي

    وعلى جبيني غربتي

    فمتى يظلل ديمك القدسي صحراء الغريب؟

    إني أحبك

    مثلما، من قبل، ما أحببت،

    ... او من بعد،

    ... ... من خلق وطيب

    وأحبك ... امتثلت لحبك جند روحي

    ... كامتثال العشب للغيث السكيب

    يا سيدي !

    أنت البحيرة، والسراب قوافلي...

    وأنا العليل، وأنت -من أبد - طبيبي

    أنت الذرى فوق الذرى..

    يا سيدي!

    (1/15599)

    وأنا خطى مهدودة ... تاهت دروبي

    أنت النهي فوق النهى والمنتهى

    كم قد حباك الله علام الغيوب

    فلأجلك الأكوان ترى، لاتزال،

    ... كغيمة من قطر مبسمك الرطيب

    ولأجلك الأقمار تجري،

    والكواكب

    في مدى الفلك الرحيب

    ولأجلك الأسماء قد علمت لآدم كلها

    ... ... في سرها المكتوب

    فاقرأ علينا، باسم ربك نورها

    ... حتى تضيء بها دياجير القلوب

    نامت،

    وقلبك لم ينم عنها

    لتدرأ ما يرف من الخطوب

    قد جئت معترفا

    فهب لي نفحة

    أنجو بها، مولاي، في اليوم الرهيب...

    ما جفت الصحف الكريمة في يدي، لكنها الدنيا

    كغانية لعوب

    مولاي!

    (1/15600)

    هب لي منك منأى عن غوايتها،

    ... ومن وسواس رونقها الطروب

    أنت القريب إذا ابتعدت

    ... وما ابتعدت

    وأنت مني نبضة القلب القريب

    هذي الحشود أتتك، مثلي، راعشات بالدموع

    خذها إليك...

    فإنها في ذنبها تخشى الرجوع

    في ذكر مولدك العطور تسابقت مهج الجموع

    خذها إليك..

    وشدها، يا سيدي، من ربقة اليأس الخنوع

    جاؤوك...

    معتصمين بالحب المؤبد في الضلوع

    جاؤوك ...

    إذ ظلموا، وما خابوا إذا وقفوا ببابك في خضوع

    خذني إليك

    بجاه نورك،

    ... علها تشفي الضلوع

    خذني إليك

    ومدني بسلام روحك،

    ... سيدي،

    ... ... كي لا أضيع

    قد جئت

    (1/15601)

    بحرا من خطايا...

    قطرة من روض طيبك

    ... يا شفيع

    صلى عليك الله في ملكوته

    صلت عليك، لأجلك، الأكوان

    يا سيدي!

    وأمد قلبي للسلام، فمد كفك

    ... ... تنحني الأزمان

    وغرقت في دمعي، وفائض ذلتي،

    وتملكت من نفسي الأشجان

    يا سيدي !

    عادت بحيرة ساوة،

    وعلى المآذن زهزهت صلبان

    إيوان كسرى شيدوا أركانه،

    وتماجنت في غيها الأوثان

    دار الزمان، ولم تدر أيامنا

    والجاهلية كأسها نشوان

    في فيض نورك أحتمي من ظلمة الدنيا،

    وقد عميت بها الألوان...

    ها إنني قد جئت

    أحمل حيرتي،

    وعلى عيوني دمعها الهتان

    هب للمتيم من لدنك شفاعة

    (1/15602)

    حتى يجيبك بالرضا الرحمن

    في ذكر مولدك الكريم

    تعطرت أيامنا ... وتضوع الريحان

    وتلألأت صلواتنا، وتسامقت

    حتى تفيأ ظلها الثقلان

    من ذا يضل

    إذا أطل محمد بهلاله

    ... ولسانه قرآن

    ياقلب اثبت، واتئد

    أنوار أحمد لاتحد

    هي في المدى كل المدى

    أبعادها ريحان مجد

    فإذا طلبت شفاعة

    فاهنأ : بأنك لاترد

    وإذا أتيت مقيدا

    حاشاه أن تبقى بقيد

    بحر السماحة : بابها

    من ها هنا فانهل، وعد

    هذا النبي ...

    وهذه بركاته أبدا أبد

    مذ كان آدم طينة

    نور تجلى في الأمد

    فلواء حمد في يديه

    على الورى طيب وند

    والكوثر الأزلي يجري

    من أصابعه مدد...

    (1/15603)

    هذا الطريق إلى الهدى

    هذا المقام لمن حمد

    وتسامقت آلاؤه

    فلك يدار بلا عمد

    في كفه معتاح جنتنا

    إذا ترجى تمد

    تبقى شمائله على الثقلين

    ... فيضا لايعد

    الملتجي يوم القيامة في الشدائد والكمد

    وهو الملاذ إذا تعاظم وزرنا عند الصمد

    وإذا تعثر خطونا فوق الصراط، أو ارتعد

    يا رب صل على هدى الباري صلاة دون حد

    مولاي

    صل على الحبيب المصطفى

    ما شاء نورك في السماء،

    ... وما اصطفى

    حتى تطهر روحه أرواحنا

    حمدا به تثري النفوس الواجفه

    صل بما يليق بذاته

    وبذاتك العظمى

    ... صلاة وارفه

    حتى تشع قلوبنا بسلامه

    وسلامك الأقصى

    نجوما طائفه

    (1/15604)

    دامت لنا آلاؤه...

    دمنا بها ...

    دمنا لها

    ما شاء أمرك،

    واكتفى ...

    مولاي صل على النبي المصطفى.

    (1/15605)

    ياسين خليل والتراث العلمي العربي

    ... ... ... الدكتور سالم يفوت

    ... كلية الآداب والعلوم الإنسانية

    ... ... ... ... جامعة محمد الخامس ـ الرباط

    مقدمة

    ... غرضنا في هذه الورقة، أن نتناول بالدرس والتحليل موقف الأستاذ ياسين خليل من التراث العلمي العربي انطلاقاً من مؤلفه الوحيد، في هذا الصدد، "التراث العلمي العربي"(1)، ومن مجموع مقالاته في الموضوع نفسه والتي نشرت قبل صدور الكتاب الآنف الذكر، أي قبل سنة 1978.

    __________

    (1) ياسين خليل، التراث العلمي العربي، مطبعة جامعة بغداد، 1978، ج 1.

    (1/15606)

    ... والجدير بالإشارة، بهذا الخصوص، أن المرحوم الدكتور ياسين خليل نشر مقالين، عالج فيهما الموضوع نفسه، من مداخل مختلفة، هما: »المعرفة الإنسانية«(1)، و»المفهوم الحضاري للتراث العربي« (2).

    ... مما يجدر ذكره، أيضاً، أن كتاب "التراث العلمي العربي" لا يشكل إلا الجزء الأول، تناول فيه بالدرس مصادر التراث العلمي العربي:

    __________

    (1) ياسين خليل، »المعرفة الإنسانية«، مجلة آفاق عربية، العدد 3، تشرين الثاني، بغداد، 1975.

    (2) ياسين خليل، »المفهوم الحضاري للتراث العربي«، مجلة آفاق عربية، العدد 8، بغداد، نيسان، 1976.

    (1/15607)

    كالمصدر البابلي، والمصري، واليوناني، واليوناني المتأخر، ثم المصدر الذاتي للأمة العربية، والدراسات الإنسانية، والعلم الرياضي.

    ... وتكمن الغاية التي يسعى إليها الدكتور ياسين خليل »في الكشف عن التراث العلمي العربي وعن الإنجازات والإبداعات التي حقق بها الأسلاف تقدماً كبيراً في المعرفة العلمية، وكشف الإضافات العلمية التي أسهموا فيها، فكانت الأساس المتين للتقدم« (1).

    __________

    (1) خليل، التراث...، المصدر السابق، ص. 1.

    (1/15608)

    ... إضافة إلى ذلك، تأخذ الخطة المسلوكة في الكتاب »بالنظرة الكلية للتراث العلمي العربي« القائمة على أساس ترابط المعرفة العلمية في وحدة واحدة من دون التركيز على سير وتراجم العلماء العرب، بل بالتركيز على الإنجازات وطرق البحث وأساليب الدراسة في المعارف المختلفة.

    ... وكأني بالدكتور ياسين خليل يقف على أعتاب الوعي بأهمية التأريخ الإبستمولوجي للعلوم، لكنه بدلاً من أن يطرق بابه، يحجم متراجعاً. وعذره في ذلك غياب الدراسات المؤصلة لذلك التأريخ في مجال التراث العلمي العربي، وكذا التزامه فلسفياً بالآراء

    (1/15609)

    الوضعية المنطقية التي أعجب بها أيما إعجاب، وهي آراء تقلل من شأن التأريخ الإبستمولوجي للعلوم وللمعرفة العامية مفضلة تحليلها المنطقي.

    ... غير أن الدكتور ياسين خليل يسلك نوعاً من التأريخ يمكن نعته بالتأريخ الثقافي للعلم، وهو تأريخ لا يبتعد كلية عن هموم التأريخ الإبستمولوجي، بالرغم من أنه يعتمد قاموساً مغايراً.

    ... وهذا ما سوف يلزمنا، بداية، بإبراز مقدمات المرحوم ياسين خليل النظرية قبل الانتقال إلى نظرية للتراث العلمي العربي.

    أولاً: مقدمات البحث في التراث العلمي العربي

    (1/15610)

    ... نستطيع التماس هذه المقدمات في المقالين المشار إليهما آنفاً، وفي مقدمة كتاب "التراث العلمي العربي". إنها ليست مقدمات بالمعنى القوي للعبارة، بل هي أقرب ما تكون إلى التأملات العامة في الإنسان والحضارة والمعرفة، يتم التأكيد فيها على كون انتقال التجربة الإنسانية من الفردية إلى الحضارية صاحبها انتقال في موقف الفرد، إذ لم تعد الطبيعة هي القوة المؤثرة المقابلة لإرادة الإنسان، أخذت تضعف في تأثيرها عليه بفعل ما أنجزه من وسائل لاتقاء أخطارها، وبرزت قوة جديدة تتمثل في المجتمع بكل ما فيه من قوانين

    (1/15611)

    وسلطات ومؤسسات، لتمارس ما كانت الطبيعة تمارسه من سطوة وفرض(1).

    ... وعليه، فإن التجربة الحضارية أضحت، في اعتقاده، تبلور مفاهيم وقيماً ومبادئ جديدة، ولم تقتصر هذه التجربة على ما تحقق من سلوك جماعي يربط أفراد المجموعة الواحدة، بل تعدى ذلك إلى تغييرات كبيرة في الجانب المادي لحياة الإنسان؛ فإذا التجربة الحضارية يسودها قطبان: قطب مادي يتمثل في التغييرات التكنلوجية والاقتصادية الإنتاجية، وقطب معنوي يتمثل في فكر جماعي يربط مجموع الأفراد بسلوك واتجاه

    __________

    (1) ياسين خليل، »المعرفة...«، المصدر السابق، ص. 147.

    (1/15612)

    للمحافظة على القيم والمفاهيم السائدة(1).

    ... ويرى أن التجربة الإنسانية في مراحلها المختلفة تبين بوضوح اتجاه الإنسان وحركته في تعرُّف ما حوله وما يتحكم في مصيره وحياته. فللبعد الإلهي قوانين إلهية تكشف عنها الأديان، وللعقل قوانينه الخاصة تكشف عنها العلوم النظرية والعقلية البحتة، وللطبيعة قوانينها الخاصة تكشف عنها العلوم الطبيعية، وللمجتمع قوانينه الخاصة تكشف عنها العلوم الاجتماعية، وأن جميع محاولات الإنسان باتجاه افتراض سيطرة قوانين أحد الأبعاد على كل ما عداه ليست إلا

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 148.

    (1/15613)

    انطلاقات إنسانية محدودة بحدود التجربة الإنسانية وتطورها، ويبقى الإنسان في كل المحاولات محور التبدل والتغيير في الفهم والحركة واستجلاء الحقائق(1).

    ... يحدد المرحوم ياسين خليل بعض المفاهيم والمبادئ الملتبسة ذات الصلة الوثيقة بالبحث في التراث عامة والتراث العلمي بوجه الخصوص. وهو يميز، في هذا الصدد، بين ثلاثة مفاهيم أو مصطلحات متداخلة هي: الثقافة، والحضارة، والمدنية، منبهاً إلى أن البعض يجعلون من مصطلح الثقافة مرادفاً لمصطلح الحضارة، والتمييز بين الثقافة والمدنية فقط(2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 149.

    (2) ياسين خليل،» المفهوم الحضاري للتراث الغربي«، المصدر نفسه، ص. 84.

    (1/15614)

    .

    ... وهو يرى أن الثقافة »هي الحصيلة الفكرية من أدب وعلم وفن وفلسفة وغير ذلك تعبر عن إنجاز الإنسان في مراحل تطورية، يتداولها أو يتعلمها الأفراد بشتّى الوسائل المختلفة للاتصال، فتزداد بالتجارب الجديدة وتنحسر في فترات التدهور والانحطاط«(1).

    ... أما الحضارة، فيعتبرها ذلك:

    ... العطاء الكلي لإنجاز المجتمع المتمثل في الجانب المعنوي الذي يمثل القيم والأهداف والعادات والتقاليد إضافة إلى الحصيلة الفكرية من أدب وعلم وفن وفلسفة ودين وغير ذلك، وفي الجانب المادي الذي يمثل الأدوات

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 84.

    (1/15615)

    ووسائل العمل والأبنية والهياكل والمحافل والجسور والقنوات… ومن سمات الحضارة الاتصال بحضارات أخرى. ومقياس تقدم حضارة هو قدرتها على الإنجاز والابتكار والأصالة.

    ... ويعتقد المرحوم ياسين خليل أن الحضارة العربية تنتمي إلى صنف الحضارات المستمرة التي لم تنقطع، أصابها الجمود في بعض مراحل التاريخ، ثم استعادت نشاطها من جديد في الأخذ والعطاء(1).

    ... يرى أن المدنية:

    ... هي البناء العام لإنجاز المجتمع بعد اجتيازه سلسلة من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والسياسية، حيث

    __________

    (1) ... المعطيات نفسها.

    (1/15616)

    تتميز بتطور صناعي وتكنلوجي وعلاقات إنتاجية جديدة قائمة على أساس طبقي، وذات نظام سياسي يقوم على المركزية والسلطة وتوزيع العمل والمسؤولية والتخصص (1).

    ... ويستنتج من تلك التعريفات أن الثقافة تمثل الجانب الفكري، العلمي والإنساني، وأن درجة اختلافها وتنوعها مرتبطة بالتطور الحضاري وتقدم الحضارة، وأن الحضارة لا تقتصر على الجوانب الفكرية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى جميع الأوجه التي تعبر عن حيوية الإنسان في تحويل معتقداته وأفكاره ومواقفه من الكون والإنسان والمجتمع إلى ممارسات

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 84 ـ 85.

    (1/15617)

    عملية، يشترك فيها أفراد المجتمع فتخلق عندهم مواقف موحدة وشعوراً مشتركاً وتجاذباً روحياً.

    ... بناء على ما تقدم، يرى ياسين خليل ضرورة التمييز بين الثقافة العربية والحضارة العربية. فالثانية ـ في اعتقاده ـ أعم وأشمل، بينما تقتصر الأولى على الجانب الفكري، والعلمي، والإنساني. وهو يرد على بعض المستشرقين الذين شككوا في »عروبة« الثقافة العربية بالقول بأن »عربية« الثقافة أو الحضارة »ليست بالعرق (…) بل باللسان والفكر« (1)؛ وبأن الثقافة والحضارة العربية تمثل الإنجازات المختلفة التي

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 85.

    (1/15618)

    حققها الإنسان العربي قبل الإسلام وبعده، ولكنها تعززت بالفكر الإسلامي فأصابها الثراء… خصوصاً وأن اتساع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي أدى إلى احتضان شعوب غير عربية اللسان(1). وقد أضحت العربية لغة العصر في الآداب والعلوم والفنون، فكانت أكثر اللغات المعروفة آنذاك قدرة على التعبير عن الثقافة بشكل عام.

    ... لقد ساهمت عدة ثقافات وحضارات في تكوين الحضارة اليونانية، كما ساهمت عدة شعوب في إمدادها بالمعرفة والبناء. وبالرغم من ذلك، تعارف الجميع على تسمية هذه الحضارة الهجينة

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 86.

    (1/15619)

    بالحضارة اليونانية.

    ... التراث كلمة تطلق في العادة على الإرث الحضاري لأمة من الأمم، للدلالة على ما خلفته الأجيال السابقة في الميادين المختلفة الفكرية والثقافية والدينية والعلمية والعمرانية… و»التراث العربي« يطلق على جميع المخلفات التي طبعتها الأمة العربية بطابعها من حيث اللسان والفكر وما أنجزه هذا الفكر في الميادين المادية، فخلف شواهد وآثاراً حضارية قائمة حتى اليوم(1).

    ... يعتقد المرحوم ياسين خليل أن للتراث العربي خصائص مميزة هي بمثابة أبعاد رئيسة مرتبطة به:

    __________

    (1) المصدر نفسه.

    (1/15620)

    ... 1 ـ بعده الزمني التاريخي: فالثقافة العربية ليست وليدة فترة زمنية بعينها، بل هي ثقافة ذات زمن مستمر لم ينقطع بالرغم من وجود فواصل وتقطعات فيه.

    ... 2 ـ بعده الحضاري: فالثقافة العربية والحضارة العربية تمثلان »حيوية الأمة العربية في الابتكار والأصالة، في العطاء والتفاعل«…(1).

    ... 3 ـ البعد العقلي: يتميز التراث العربي الثقافي والحضاري بالعقلانية في الموقف والفهم استجابة للشروط التي أملتها العقيدة في ضرورة اكتشاف القوانين الكونية والطبيعية.

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 87.

    (1/15621)

    ... 4 ـ البعد الحيوي: يتميز التراث العربي بالحيوية والديمومة والقدرة على التفاعل والعطاء.

    ... 5 ـ البعد القومي: لقد انقطع التراث العربي والتطور الثقافي والعلمي للأمة »بعد فترة الانحطاط وسيادة قوميات أجنبية عليها«(1).

    ما المقصود بالتراث العلمي العربي؟

    ... يعين المرحوم ياسين خليل التراث العلمي العربي، بالمعنى الدقيق، بالاختصاصات التالية: العلوم الرياضية والطبيعية، والعلوم المعدنية الجيولوجية، والعلوم النباتية والحيوانية، والعلوم الهندسية والمعمارية، والعلوم الطبية

    __________

    (1) المعطيات نفسها.

    (1/15622)

    والصيدلية(1).

    ... كما ينفي أن يكون التراث العلمي الذي أنجزه العلماء العرب تراثاً علمياً إسلامياً، لأن للإسلام، بما هو دين، علوماً كالفقه والشريعة والحديث... وهي ذات صلة مباشرة بالعقيدة، خلافاً للعلوم آنفة الذكر. وهو أيضاً لا يرى ضرورة تسميته تراثاً علمياً عربياً إسلامياً، لأن الإسلام دين العرب ودين غيرهم من الأقوام غير العربية. »وإضافة الصفة "إسلامي" توحي أن للتراث العلمي العربي صلة وثيقة بالعقيدة«(2). يضاف

    __________

    (1) ياسين خليل، التراث العلمي العربي، مصدر سابق، صص. 13 ـ 14.

    (2) المصدر نفسه، ص. 15.

    (1/15623)

    إلى هذا أنها علوم دونت بالعربية إبان قيام الحضارة العربية بعد الإسلام.

    ... ويناقش بهذا الصدد المستشرقين الذين كثيراً ما يسلكون، في تناولهم للتراث العلمي العربي بالدرس، السبيل التجزيئي القاضي بالبحث لكل ابتكار أو إبداع عن أصوله في العلم اليوناني دون انتباه إلى أن هذا الأخير نفسه جماع وحصيلة حضارات سابقة ساهمت في تكوين الحضارة اليونانية، مثلما ساهمت في تكوين التراث العلمي العربي.

    ...

    ثانياً: مصادر التراث العلمي العربي

    (1/15624)

    ... يتصدى ياسين خليل لهدم التأريخ المركزي الأوروبي النزعة، والذي هو تاريخ مركز على الغرب وعلى ما يعتبره »معجزة يونانية«، رادّاً الاعتبار إلى المعارف والاكتشافات العلمية السابقة على الحضارة اليونانية وإلى حضورها في التراث العلمي العربي.

    ... وأول مصدر يتناوله بالدرس هو المصدر البابلي والمصري.

    ... بخصوص هذا المصدر، يثير الانتباه إلى ندرة الألواح البابلية وقلتها لكونها طينية، لم تقاوم الزمن، خلافاً لأوراق البردي المصرية التي لا تنال منها الرطوبة. ثم يشرع في سرد الحقائق والاكتشافات العلمية التي كان

    (1/15625)

    البابليون سباقين إليها. فقد اعتمدوا النظام الحسابي الستيني بدل النظام العشري، لمرونة الأول في حساب الكسور وقدرته على تجنب استعمال كثير منها كما كانوا على معرفة جيدة بالهندسة والجبر تدل على درجة عالية من التجريد الرياضي. كما أدركوا العلاقة بين الجبر والهندسة، وقاموا بتحويل هذه الأخيرة إلى جبر عن طريق استخدام الطرق الجبرية في الهندسة، فسبقوا بذلك ديكارت الذي جاء بعد ثلاثة آلاف سنة ليعيد الحياة لهذه الطريقة في العصر الحديث(1). كما بات من المؤكد أن النظرية الهندسية

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 24 ـ 25.

    (1/15626)

    المنسوبة إلى فيتاغورس (في المثلث القائم الزاوية، مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين) نظرية بابلية لوجود لوح طيني بابلي يتضمن البرهنة عليها.

    ... ويعترف ياسين خليل بأن العلم المصري لم يبلغ شأو العلم البابلي في شتى الميادين. فالجبر المصري لم يكن متطوراً في مستوى الجبر البابلي، ولكنه يعبر، مع ذلك، عن تطور في التفكير الرياضي المصري القديم تجلى في اهتمامه بحل المعادلات ذات المجاهيل. أما بخصوص الهندسة، فقد أشار ياسين خليل إلى توصل المصريين إلى معرفة مساحة المثلث والمستطيل وشبه المنحرف وعلاقة

    (1/15627)

    محيط الدائرة بقطرها، هذا فضلاً عن معارفهم الفلكية التي، وإن كانت لا ترقى إلى مستوى المعارف البابلية، فإنها كانت على درجة عالية من العمق والفهم والتجريد.

    ... أما المصدر الثاني، فهو المصدر اليوناني.

    ... انتقل العلم البابلي والمصري إلى اليونان عبر قنوات كثيرة مباشرة وغير مباشرة، وبخاصة عن طريق الاتصال التجاري، وزيارات الفلاسفة والعلماء اليونانيين لمصر وبابل أمثال طاليس وفيثاغورس وديمقريطس وأفلاطون وأودكسوس(1).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 31.

    (1/15628)

    ... أسهب ياسين خليل في عرض أعمال وأفكار أبرز الفلاسفة اليونانيين في شتى المجالات العلمية، أمثال أفلاطون وأرسطو... وأبقراط وجالينوس.

    ... والمصدر الثالث مرتبط بالمصدر الثاني، إنه المصدر الهلنستي. والمقصود به الثقافة، وقد انتشرت في الشرق بعد حملة الإسكندر الأكبر وانتقال المؤلفات اليونانية إلى لغات أخرى، وهجرة عدد كبير من علماء اليونان إلى الإسكندرية أو غيرها، فتحولت الإسكندرية إلى منارة علمية جديدة تضاهي أثينا في سالف عصرها. وحدث التلاقح بين علوم اليونان وعلوم بابل ومصر والروح الشرقية(1)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 41.

    (1/15629)

    .

    ... إن الشيء العلمي الذي يجب ذكره هو أن علوم المدرسة الإسكندرية تمت بصورة طبيعية، بحيث أوجدت من خلال تأثيرات حضارية وثقافية مختلفة طريقاً خاصاً بها متأثراً، ولاشك، بالثقافة اليونانية إضافة إلى الثقافة الشرقيّة. فمن المعروف أن اللغة اليونانية، وهي لغة العلم آنذاك، قد طبعت المعرفة العلمية بطابعها، وأن العلوم المصرية قد انتقلت، ولاشك، إلى مدرسة الإسكندرية فأصبحت جزء لا يتجزأ من الحركة العلمية والثقافية الجديدة... (1).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 42.

    (1/15630)

    ... فلا يمكن فهم العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية في الإسكندرية بمعزل عن تأثيرات علوم بابل ومصر. وبهذا الخصوص، يعتقد ياسين خليل أن معلومات أقليدس الهندسية مصرية ويونانية بلاشك، وما كان عليه إلا أن ينظمها بطريقة الاستدلال المنطقي(1). كما يصرح ياسين خليل بأن جبر أقليدس كان متخلفاً عن جبر البابليين سواء في ثراء هذا الأخير أو في طرقه في حل المسائل الجبرية.

    ... والشخصية العلمية الأخرى التي عرفها العلماء العرب هو أرخميدس الذي درس بالإسكندرية، وغطت أبحاثه مجالات عديدة، في

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 43.

    (1/15631)

    الهندسة والجبر والفلك والميكانيكا. ويذكره القفطي في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء"، منوهاً بمؤلفاته، كما يشيد به ابن النديم في "الفهرست".

    ... عرفوا أيضاً شخصية أبولونيوس الذي ترعرع في الإسكندرية ودرس فيها؛ وقد تمت ترجمة كتابه "المخروطات"، حسب ابن النديم، إلى العربية، أكثر من مرة واحدة.

    ... أما كتاب "المجسطي" لبطليموس، فقد كان عمدة العلماء العرب في علم الفلك. فقد تناولوه بالشرح والنقد والتلخيص.

    (1/15632)

    ... ويعتقد ياسين خليل أن الجبر الذي بلوره ديوفانطوس الإسكندري، يختلف جوهرياً عن التفكير الرياضي اليوناني. وأغلب الظن أنه امتداد طبيعي للجبر البابلي: فهو يحتوي على طريقة في الحل تعتمد على طرق جبرية حسابية أساسها استخدام المعلوم لتعرُّف أو لاكتشاف المجهول، وهي الطريقة الرياضية المتبعة عند البابليين كما تدل على ذلك الألواح الطينية المكتشفة(1).

    ... بعد ذلك، ينتقل ياسين خليل إلى الكلام عن»المصدر الذاتي للأمة العربية«، ويعني به »مجموعة الأوجه الحيوية« كالمعارف والعلوم التي

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 48.

    (1/15633)

    عرفها عرب الجزيرة العربية في شمالها وجنوبها، ثم ما جاءت به الدعوة الإسلامية من معارف متصلة بالإنسان والمجتمع وما نتج عنها من دراسات في اللغة والفقه والشريعة... والغنى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الناتج عن تلاقح مختلف الثقافات المكونة للحضارة الإسلامية والأجواء التي وفرتها هذه الحضارة ودعم الخلفاء والأمراء للعلماء وانفتاح الأمة العربية على الإنجازات العلمية لأمم أخرى(1).

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 50 ـ 51.

    (1/15634)

    ... كانت معارف العرب، في جملتها، عملية لارتباطها بحياتهم اليومية. وعندما احتكت بتراث الحضارات الأخرى، نزعت نحو الدقة، فالتحم العملي بالنظري في الحساب والجبر والفلك والعلوم الطبيعية. ثم ازداد الاهتمام بالمعرفة والعلم من أجل الحقيقة وإدراك ما تنطوي عليه العلوم من حقائق. كما ازداد اهتمام العلماء بالظواهر التجريبية، وأخذت النزعة التجريبية المختبرية تظهر بوضوح في العلم ابتغاء الكشف عن حقيقة الظواهر.

    ... ... ثم أعقب ذلك جمود وانهيار.

    (1/15635)

    ... لقد تميزت الأمة، في اعتقاد ياسين خليل، بانفتاح على العلوم الأجنبية. وهذا ما يفسر سرعة الانكباب على ترجمتها والإفادة منها وتطويرها بإضافات وابتكارات. وهنا يبرز الدور الكبير الذي لعبته بعض المراكز الثقافية بأعالي الشام، في الرها ونصيبين وحران...، والتي ترجمت فيها المؤلفات اليونانية إلى السريانية. لقد كانت هذه المراكز بمثابة جسور عبرت فوقها العلوم من حضارات مختلفة فامتزجت فيها رياضيات بابل وفلكها، وهندسة مصر وعلومها الطبية، وعلوم اليونان والهنود، لتصل إلى الحضارة العربية.

    (1/15636)

    ... في سياق حديث ياسين خليل عمّا يطلق عليه »الدراسات الإنسانية« يتحدث عن »الاتجاهات العلمية«، ثم عن »الدراسات اللغوية« و»الدراسات الفلسفية«. تحت العنوان الأول يتناول بالدراسة نماذج من تصانيف العلوم عند العرب كتصنيف الفارابي، وتصنيف أبي عبد الله الخوارزمي صاحب "مفاتيح العلوم". وضمن العنوان الثاني، حرص على تأكيد أن دراسة اللغة بصفتها موضوع بحث مع التوسل بمنهج علمي هما الأساس الذي كان وراء نشوء علم اللغة. أما بخصوص الدراسات الفلسفية والمنطقية، فقد أبرز ياسين خليل مظاهر نبوغ العرب في مجال الدراسات

    (1/15637)

    العقلية، وكذا الدراسات التاريخية التي قدم نموذجاً لها "مقدمة" ابن خلدون ومؤلفات ابن النديم والقفطي وابن أبي أصيبعة المخصصة لتاريخ العلماء والحكماء.

    ...

    ثالثاً: العلم الرياضي العربي

    ... يسعى ياسين خليل إلى إبراز مجموع الأساليب الرياضية التي اتبعها العلماء العرب في مؤلفاتهم الهندسية والحسابية والجبرية عند معالجتهم النظريات المختلفة. كما يسعى إلى تحليلها من حيث المفاهيم والقضايا والبرهان(1).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 146.

    (1/15638)

    ... ومما استرعى انتباهه ميل العلماء والفلاسفة العرب إلى تقسيم فروع العلم الرياضي إلى نظرية وعملية. ويخلص من ذلك إلى »أن العالم العربي قد أدرك بعمق الفرق بين النظري والعملي لفروع العلم الرياضي«(1).

    ... استرعى انتباهه أيضاً انبهار العلماء العرب بالأسلوب البرهاني الذي اعتمده أقليدس في كتاب "الأصول"، لما تمتاز به من يقين ودقة ومنطقية، وانتقادهم له. فعمر الخيام في كتابه "مصادرات أقليدس"، يقدم عدة مؤاخذات على أقليدس. كما حاول ابن الهيثم أن يجمع الأصول الهندسية والعددية من

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 148.

    (1/15639)

    كتاب أقليدس وأعمال أبولونيوس. وهي محاولة تثبت، في رأي ياسين خليل، نزوعه إلى توحيد النظريات الهندسية في نظام واحد يبدأ من أصول واحدة، ليتم في ضوء الأصول البرهنة على جميع القضايا المعروفة في هندسة أقليدس وهندسة أبولونيوس في "المخروطات"(1).

    ... أشاد كذلك بمجهودات الخوارزمي في الجبر باعتباره »أول من أقام حساباً منطقياً في الجبر، وأن البناء المنطقي للنظرية الجبرية يمثل هذا الحساب، وقد تم له هذا البناء بخطوات متتابعة« (2).

    ... تتمثل تلك الخطوات في:

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 151.

    (2) المصدر نفسه، ص. 154.

    (1/15640)

    ... - اختيار مفاهيم أولية جبرية وحسابية على أساس أنها أوليات يتم بناء الأشكال الجبرية للمعادلات بواسطتها.

    ... - اختيار أشكال رئيسة للمعادلات مع تثبيت القواعد التي يتم العمل بموجبها.

    ... - رد جميع الأشكال الجبرية للمعادلات بواسطة قواعد جبرية، وذلك بإرجاعها إلى الأشكال الرئيسة.

    ... يتطرق، أيضاً، للأطوار التي مر بها علم الحساب في الحضارة العربية كالتالي:

    ... - طور استخدام الأسماء للدلالة على الأعداد مثل: واحد، عشرة...

    (1/15641)

    ... - طور استخدام الحروف للدلالة على الأعداد، حيث رتبت الأبجدية العربية على هيئة متوالية عددية تبدأ بالألف والباء والجيم وهكذا...

    ... - طور استخدام الأرقام للدلالة على الأعداد، حيث تم تطوير الأرقام الهندية من حيث الشكل(1).

    ... لقد فرض تطور الحياة الحضارية للمجتمع العربي وتعقدها على الفقهاء والمشتغلين في مؤسسات الدولة ضرورة استخدام الحساب ومعرفة العمليات الضرورية فيه. وقبل ذلك استعمل الناس في معاملاتهم أنظمة حسابية قديمة منحدرة من الحضارة البابلية كالنظام الستيني. وقد

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 30.

    (1/15642)

    أكد هذا الأمر أبو الوفاء البوزجاني في كتاب "ما يحتاج إليه الكتاب والعمال وغيرهم من علم الحساب".

    ... يبرز ياسين خليل الفروق الموجودة بين هذا الكتاب الأخير وكتاب العالم الرياضي العربي غياث الدين الكاشي "مفتاح الحساب".

    ... ومن مظاهر خصوصية علم الجبر العربي أنه نشأ من ضرورات دينية فقهية لها صلة بالإرث والمعاملات، وأنه لم يكن استمراراً لجبر ديوفنطس، فلم يترجم كتاب "المدخل إلى صناعة الجبر" لهذا الأخير إلى العربية إلا بعد ظهور "كتاب الجبر والمقابلة" للخوارزمي(1). لكن

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 190 ـ 191.

    (1/15643)

    هذا لا يعني عدم تأثر غيره من الرياضيين العرب بجبر ديوفنطس أمثال الكرجي وعمر الخيام...

    ... غالباَ ما يطلق ياسين خليل أحكاماً من هذا النوع، ومن هذا الوزن، لكنه قلما يشفعها بدلائل وحجج. وهذه سمة غالبة على كل صفحات الكتاب.

    خاتمة

    ... يظل عمل الأستاذ ياسين خليل هذا ناقصاً. فهو لا يمثل سوى جزء أول لم يتمكن فيه من تغطية باقي الميادين العلمية التي اعتبرها اندرجت ضمن دائرة التراث العلمي العربي.

    ... غير أن ما تجدر الإشارة إليه، مع ذلك، هو أنه عمل ينطوي على رغبة قوية في تناول التراث العلمي العربي من منظور

    (1/15644)

    جديد ومغاير وقراءته قراءة مختلفة. ما محددات تلك القراءة؟ لا يمكنها أن تكون شيئاً آخر غير مكتسبات نظرية تاريخ العلوم المعاصرة. فالمفروض في كل تناول للتراث العلمي العربي يريد أن يكون جديداً، ألا يتنكر لما تقترحه النظريات الإبستمولوجية لتاريخ العلوم المعاصرة، حتى يتم تجاوز ركام القراءات التي قرئ بها التراث العلمي العربي. ... وعمل من هذا القبيل بدأ بالفعل إنجازه عدد من الباحثين العرب بمراكز البحث الأوربية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية... أمثال رشدي راشد، وأحمد جبار، وخليل جاويش... إلا أن

    (1/15645)

    الأستاذ ياسين خليل بالرغم من أنه أنهى دراسته العليا بألمانيا وبالرغم من اطلاعه الجيد على نصوص النزعة الوضعية الجديدة (فقد كتب أطروحته للدكتوراه في جامعة مونستير بألمانيا حول كارناب)، نلاحظ أنه أراد أن ينجز قراءة للتراث العلمي العربي يمكن أن تنعت بأنها قومية إسقاطية، تسقط هموم الحاضر على الماضي، تطلق الأحكام ولا تقيم عليها الدلائل، تغرق التأريخ للعلم العربي في دوامة الكلام عن الثقافة العربية والحضارة العربية، ومميزات العقلية الغربية والإنسان العربي، وكلها مفاهيم ميتافيزيقية لا شأن لها بتقنيات

    (1/15646)

    التأريخ للعلوم التي ينبغي التماسها في ما ينجز حالياً في مراكز البحث العلمي الغربية. فلا نكاد نعثر في الكتاب على رأي مصدر أو مرجع موثوق به في هذا المضمار، إذ اكتفى ياسين خليل بنصوص التراث العلمي العربي وظل حبيس جزئياتها وتفاصيلها دون أن يتمكن من السمو والارتقاء إلى مستوى التنظير التأريخي لها.

    ... إن مقدمات البحث في التراث العلمي العربي، لدى ياسين خليل، ليست مقدمات بالمعنى الحصري للكلمة، بل هي ـ كما سبق القول ـ أقرب ما تكون إلى التأمّلات العامة الفلسفية القومية في الحضارة، منها إلى المقدمات

    (1/15647)

    الإبستمولوجية المنهجية. إنها أقرب إلى آراء وتأملات فلاسفة الحضارة الألمان، أمثال أرنست كاسيرر، منها إلى آراء فلاسفة العلم المعاصرين.

    (1/15648)

    يحيى بن خلدون: حياته وكتابه

    ... ... الدكتور مزاحم علاوي الشاهري

    ... قسم التاريخ ـ كلية التربية ـ بغداد

    حياته

    ... بالرغم من أن يحيى بن محمد بن محمد بن الحسن بن خلدون المكنى بأبي زكريا قد تردد ذكره لدى عدد من المؤرخين المعاصرين له من أمثال ابن الخطيب(1) وابن الأحمر(2)

    __________

    (1) لسان الدين بن محمد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب، ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، تحقيق محمد عبد الله عنان، ط 1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1981، ج 2، ص. 134.

    (2) أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر، مستودع العلاقة ومستبدع العلامة، تحقيق محمد التركي ومحمد بن تاويت، المركز الجامعي للبحث العلمي، تطوان، 1964، ص. 65.

    (1/15649)

    وبعضهم ممن جاء بعده كالمقري(1) والتنسي(2)

    __________

    (1) شهاب الدين أحمد بن محمد التلمساني المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق محمد بن السقا وآخرون، اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي، الرباط، 1978، ج 1، صص. 246 ـ 247؛ نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1980، ج 6، صص. 389 ـ 396؛ ج 7، صص. 133 ـ 135.

    (2) محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي، نظم الدر والعقيان في بيان شرف بن زيان، تحقيق محمود بوعياد، ط 1، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، صص. 110 ـ 128. ومن الغريب أن أحمد بن القاضي قد تجاهل ذكره حتى في ترجمة أخيه، مع العلم أن مؤلفه يوجب الترجمة له. ينظر: جذوة الاقتباس في ذكر من حلّ من الأعلام مدينة فاس، دار المنصور للبطباعة، الرباط، 1974، ج 2، ص. 410؛ وللمزيد عنه، ينظر: إسماعيل باشا البغدادي، هدية العارفين وأسماء المؤلفين والمصنفين، ط 3، طهران، 1967، ج 2، ص. 527.

    (1/15650)

    ، فإننا لا نعلم إلا النزر اليسير عن حياته.

    ... فمن الراجح أنه ولد في تونس حيث استقر والده وجده من قبل، وعاش في ظل والده الذي أمضى حياته بعيداً عن السياسة منصرفاً لدراسة العلم وأعمال البر حتى وفاته سنة 750 هـ/ 1349 م (1).

    __________

    (1) ألفرد بل، »ابن خلدون«، دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة محمد ثابت الفندي وآخرون، م ، ص. 152؛ أحمد الإسكندري، »ابن خلدون«، مجلة المجتمع العلمي العربي، حزيران، دمشق، 1929، م 7، صص. 421 ـ 433؛ م 8، صص. 461 ـ 471.

    (1/15651)

    ... أما تاريخ ولادته، فإن الغموض الذي يحيط بحياته قد انسحب على سنة ولادته. غير أن الذين ذكروها، حصروها بين سنتين (733 و734 هـ/ 1332 و1333 م) (1).

    ... إن حياة يحيى بن خلدون تكاد تكون مجهولة، إذ لم يصلنا من أخبارها إلا القليل. ولولا ما ذكره عن نفسه، وما ورد على لسان أخيه، لأصبح من العسير علينا تتبع مسار حياته التي استغرقت زهاء نصف قرن. على

    __________

    (1) قارن بهذا الصدد دائرة المعارف، م 1، ص. 155؛ خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت، 1969، ج 9، ص. 211؛ عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين، دمشق، 1957، ج 13، ص. 282.

    (1/15652)

    أية حال، فإن الأجواء الثقافية والعلمية التي سادت تونس إبان العهد الحفصي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي(1) قد صقلته وأثرت ذاكرته بالعلوم المختلفة. وإن من المؤكد أن يحيى بن خلدون قد تتلمذ على هؤلاء الشيوخ الذين استقروا في إبان ضمها للدولة المرينية في عهد السلطان أبي الحسن المريني سنة 748 هـ/ 1347 م(2)

    __________

    (1) عبد الرحمن بن خلدون، العبر وديوان المبتدإ والخبر، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1959، ج 7، ص. 418.

    (2) دخل تونس تحت طاعة المرينيين في زمن السلطان علي بن عثمان المكنى بأبي الحسن (748 هـ/ 1347 م). للمزيد، ينظر: أحمد بن حسين بن قنفذ، الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1968، صص. 169 ـ 170؛ وأبو عبد الله محمد الزركشي، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية، تحقيق محمد ماضور، ط 2، تونس، 1966، صص. 81 ـ 82.

    (1/15653)

    .

    ... إذ كان من عادة السلطان المذكور اصطحاب علماء دولته البارزين في حله وترحاله. وقد بين عبد الرحمن بن خلدون في »رحلتـ «ـه أسماء العلماء الذين تتلمذ عليهم، وذكر منهم عبد الله بن يوسف بن رضوان (ت 783 هـ/ 1381 م) الذي اشتهر في العربية والأدب(1)، وأبا عبد الله محمد بن النجار (ت 750 هـ/ 1349 م) وهو من أهل تلمسان وكان إماماً في علم النجامة وأحكامها(2)

    __________

    (1) عبد الرحمن بن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، نشر دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1979، ص. 42؛ وسنرمز له بـ »الرحلة«.

    (2) الرحلة، مصدر سابق، ص. 48.

    (1/15654)

    ، والخطيب ابن مرزوق التلمساني (781 هـ/ 1379 م) (1)، ومحمد بن عبد الله بن عبد النور (ت 749 هـ/ 1348 م) وكان مشتهراً في علوم الفقه، والفقيه محمد بن الصباغ (مات غريقاً سنة 749 هـ/ 1348 م) (2) وقال عنه إنه »كان مبرزاً في المنقول والمعقول وعارفاً بالحديث ورجاله وإماماً في معرفة كتاب "الموطأ"

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 50 ـ 56. وقد ترجم له أبو عبد الله بن محمد بن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1908، صص. 184 ـ 190.

    (2) الرحلة، مصدر سابق، صص. 46 ـ 47.

    (1/15655)

    وإقرائه«(1)، ومحمد بن علي بن سليمان السطي (مات غريقاً سنة 749 هـ/ 1348 م)(2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 46؛ أحمد بن يحيى الونشريسي، وفيات الونشريسي من كتاب ألف سنة من الوفيات، تحقيق محمد حجي، الرباط، 1976، ص. 117؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، مصدر سابق، ج 1، ص. 301؛ عبد الرحمن بن زيدان، أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، المطبعة المغربية الأهلية، المغرب، 1929، ج 3، صص. 581 ـ 582.

    (2) الرحلة، مصدر سابق، صص. 32 ـ 33؛ محمد بن مرزوق التلمساني، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، تحقيق ماريا خيسوس بيغيرا، الجزائر، 1981، ص. 261؛ المقري، نفح الطيب، مصدر سابق، ج 5، صص. 240 ـ 241.

    (1/15656)

    قيل إنه كان في الفقه لا يجارى حفظاً وفهماً، وأبناء الإمام أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى الذين وصفهم ابن خلدون بقوله: »هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن اصطفاهم لصحبته من بين أهل المغرب«(1)، ومحمد بن إبراهيم الآبلي (المتوفى 756 هـ/ 1356 م) شيخ العلوم العقلية(2)، وأحمد الزواوي إمام المقرئين بالمغرب(3).

    __________

    (1) الرحلة، صص. 29 ـ 32؛ ابن مريم، البستان، صص. 123 ـ 126.

    (2) الرحلة، ص. 21.

    (3) المصدر نفسه، ص. 23.

    (1/15657)

    ... وتجدر الإشارة إلى أن يحيى بن خلدون ذكر بعضهم بصفة »شيخنا«، ومنهم أبو عبد الله الآبلي الذي ذكره بقوله: »فيما ذكره شيخنا أبو عبد الله الآبلي رحمه الله«(1)؛ أما ترجمته التي وردت في "البغية"، فقد وصفته بأنه »فاق أهل زمانه في العلوم العقلية« (2)

    __________

    (1) يحيى بن خلدون، بغية الرواة في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تحقيق ألفرد بل، مطبعة بيير مونطانا، الشرقية ، الجزائر، 1902، ج 1، ص. 9، وسنرمز له بـ"البغية" لاحقاً.

    (2) المصدر نفسه، ص. 57. وللمزيد عن الآبلي، ينظر: العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ج 3، ص. 375؛ ابن إبراهيم، الأعلام، ج 3، صص. 273 ـ 276.

    (1/15658)

    ، والفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني (ت 771 هـ/ 1369 م) (1) القائل بحقه »شيخنا أحد رجال الكمال علماً وديناً لا يغرب عن علمه فن عقلي إلا وقد أحاط به« (2).

    ... ويبدو أن الدافع الذي أدى به إلى الاقتصار على إيراد ذكر بعض العلماء دون الآخرين، يرجع إلى أن منهجه يقتضي الإحاطة بالعلماء الذين

    __________

    (1) لديه مؤلفات، منها: المفتاح في أصول الفقه؛ ابن مريم، البستان، ص. 166؛ مخلوف، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت، ص. 219.

    (2) البغية، المصدر السابق، ص. 57.

    (1/15659)

    عاشوا بتلمسان. وأما من كان سواهم من بلاد أخرى، فمن غير المعقول أن يأتي على ذكرهم.

    ... على أية حال، فقد تلقى دراسته على عدد آخر من العلماء. ففي مجال اللغة والأدب، درس على يد الشيخ منصور بن علي بن عبد الله الزواوي الذي نعته بـ »الحذق بالفتيا مع الخط الحسن والنظام الرائق والكتابة النبيلة« (1)

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ص. 74. وقد اشتهر بعلم الأصول. ينظر: المقري، أزهار الرياض، المصدر السابق، ج 2، ص. 9 و 15. وقد ترجم له لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله بن عنان، دار المعارف، القاهرة، 1976، ج 3، صص. 324 ـ 330.

    (1/15660)

    ، والفقيه محمد بن إبراهيم البلفيق الذي ترجم له في مولفه، مع إيراد قصيدة له مطلعها:

    هل من مجيب دعوة المستنجد

    أم من مجير للغريب المفرد(1)

    ... كما تظهر مكانته الأدبية الرفيعة من ثنايا الخطاب الذي وجهه ابن الخطيب إلى يحيى بن خلدون والذي يصف براعته بقوله: »... إن البيان يا آل خلدون سكن مثواكم

    __________

    (1) رفع القصيدة إلى الأمير أبي حمو موسى سنة 767 هـ/ 1365 م وهو يستصرحه لنصرة بلاد الأندلس بعد الاعتداءات التي شنتها قشتالة على المسلمين في غرناطة. (للمزيد، انظر: البغية، المصدر السابق، ج 2، صص. 167 ـ 170).

    (1/15661)

    دار الخلود، وقدح زنداً غير صلود، واستأثر في محابركم السيالة وقضيب رماحكم الميادة والميالة...«(1).

    يحيى بن خلدون في دائرة الصراعات السياسية

    __________

    (1) محمد عبد الله عنان، لسان الدين بن الخطيب. حياته وتراثه الفكري، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1968، ص. 148. يقول ابن الخطيب: »ومن ذلك ما خاطبت به الفقيه أبا زكريا ابن خلدون لما ولي الكتابة عن السلطان أبي حمو موسى بن زيان، واقترن بذلك نصر وضع غبطته به وقصدت بذلك تنفيذه«. (ريحانة الكتاب، ج 2، صص. 140 ـ 142).

    (1/15662)

    ... يظهر دور يحيى بن خلدون في الأحداث السياسية، منذ مجيء السلطان أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني (760 ـ 762 هـ/ 1358 ـ 1360 م) (1). إذ عمل عند الأخير كاتباً في ديوان الإنشاء المريني بعد أن انتقل إلى فاس مع أميره حاكم بجاية الحفصي أثناء حكم السلطان أبي عنان المريني(2) الذي تمكن من ضم بجاية إلى

    __________

    (1) للمزيد، ينظر: أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر، روضة النسرين في دولة بني مرين، المطبعة الملكية، الرباط، 1962، صص. 38 ـ 39.

    (2) البغية، المصدر السابق، ج 2، ص. 76؛ ألفريد بل، ابن خلدون، ج 1، ص. 156.

    (1/15663)

    دولته سنة 753 هـ/ 1352 م بطريقة سلمية(1).

    ... وبموت السلطان أبي عنان، عادت بجاية إلى طاعة الحفصيين، الأمر الذي دفع بحاكم المغرب الأوسط محمد بن أبي عنان إلى إطلاق يد الأمير أبي عبد الله الحفصي الحاكم السابق بن أبي بكر

    __________

    (1) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص. 366. أما الزركشي، فيقرر أن بجاية دخلت في طاعة أبي عنان سنة 755 هـ/ 1354 م. (تاريخ الدولتين، ص. 149). وللمزيد، ينظر: أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، الدار البيضاء، 1954 ـ 1959، ج 3، ص. 184.

    (1/15664)

    الحفصي. ولم يتمكن أبو عبد الله من استردادها إلا في رمضان سنة 765 هـ/ 1363 م(1). إذ ترد إشارة في خضم تلك الأحداث إلى قيام يحيى بن خلدون بمهمة عاجلة إلى الأمير أبي حمو حاكم تلمسان(2).

    __________

    (1) ابن خلدون، المصدر السابق، ج 8، ص. 418؛ البغية، المصدر السابق، ج 3، ص. 123.

    (2) تمكن الأمير أبو حمو موسى الزياني من استعادة حكمه في تلمسان، ثم عقد صلحاً بعد ذلك مع المرينيين؛ فيما ظل على خلافه القديم مع الحفصيين، حكام تونس، (للمزيد، ينظر: البغية، المصدر السابق، ج 2، ص. 124).

    (1/15665)

    ... وتشاء الأقدار أن تتغير الأحوال، وتنشب بين أفراد الأسرة الحفصية صراعات جديدة. إذ قام أبو العباس الحفصي صاحب قسنطينة سنة 767 هـ/ 1365 م بالسيطرة على بجاية وقتل صاحبها أبي عبد الله، وأخضع يحيى ابن خلدون تحت سيطرته بعد أن أغراه بالبقاء، فأكرمه أول الأمر هو وأخاه عبد الرحمن، ثم انقلب عليهما لوشاية وقعت على عبد الرحمن بن خلدون، ثم اعتقل يحيى وسجنه بمدينة بونة، فيما هرب أخوه(1).

    __________

    (1) العبر، المصدر السابق، ج 7، صص. 418 ـ 419.

    (1/15666)

    ... إلا أن اعتقاله لم يدم طويلاً. إذ تمكن من الهروب والتوجه إلى مدينة بسكرة، حيث استقر أخوه عبد الرحمن. وفي بسكرة وصل الأمير الزياني عمر بن محمد الذي حضر بمهمة إقناع قبائل رياح بالخضوع للأمير أبي حمو(1). ولما كان يحيى معروفاً بمكانته

    __________

    (1) أبو حمو موسى بن يوسف. بويع بتلمسان سنة 760 هـ/ 1358 م، وقتل سنة 791 هـ/ 1338 م وله 68 سنة. وقد ذكر له ترجمة طويلة ابن الأحمر الذي أبدى كعادته تحامله على حكام بني عبد الواد ووصفهم بنعوتات لا تتطابق وحقيقتهم. (ينظر: روضة النسرين، المصدر السابق، صص. 54 ـ 58).

    (1/15667)

    لديهم، فقد ألح عليه السفير عمر بالتوجه معه إلى شيوخهم لغرض إقناعهم. وفعلاً، وافق يحيى ونجح في مهمته مع شيوخ رياح وقصدوا تلمسان لتقديم البيعة سنة 769 هـ/ 1367 م. وهناك اصطفاه الأمير أبو حمو لمهمة الكتابة؛ إذ يقول: »...ثم اصطفاني لكتابة إنشاه... وأمرني باستقدام ولدي من بسكره محمولين بإحسانه محفوفين ببره وعنايته. فكان ذلك أول سعادة أوتيتها وأعظم عناية ربانية رأيتها« (1)

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 3، صص. 200 ـ 202؛ العبر، ج 7، صص. 419 ـ 421. وقد تقدم الحديث عن الخطاب الذي أرسله بن الخطيب بمناسبة توليته المنصب (ينظر: ريحانة الكتاب، ج 2، صص. 140 ـ 142).

    (1/15668)

    .

    ... ثم حدث أن تدهورت العلاقات السياسية من جديد بين المرينيين والزيانيين. إذ قام السلطان المريني أبو فارس عبد العزيز(1) سنة 767 ـ 774 هـ/ 1365 ـ 1372 م بشن حملة على الأمير أبي حمو الزياني، فأخضع تلمسان ودخلها سنة 772 هـ/ 1370 م. بينما هرب باتجاه الصحراء. أما كاتبه يحيى بن خلدون، فقد قبل أن يفارق أميره، ملتحقاً بخدمة السلطان المريني أبي فارس وولده السعيد بالله(2)

    __________

    (1) هو عبد العزيز بن أبي الحسن. كانت دولته ستة أعوام وأربعة أشهر. للمزيد، ينظر: ابن الأحمر، روضة النسرين، ص. 33.

    (2) يكنى أبا زيان. بويع في ربيع الآخر سنة 774 هـ/ 1372 م وخلع سنة 776 هـ/ 1374 م، فكانت دولته سنة وثمانية أشهر وبضعة أيام، (ينظر: ابن الأحمر، روضة النسرين، صص. 33 ـ 34).

    (1/15669)

    من بعده(1). وقد شعر بالخطإ الفادح الذي ارتكبه فيما بعد. وتبريراً لذلك الموقف، يقول: »ومن هنا فارقته ـ أي أبي حمو ـ لخيالات سوداوية اعتورتني ونزعات شيطانية تجاذبتني وسوء بخت تقاعس عن إدراك الفخر برحلي وشقاء مكتوب أهوى إلى درك الخسارة بي« (2). ...

    __________

    (1) العبر، ج 7، ص. 443؛ إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1978، ج 2، صص. 62 ـ 64. وتجدر الإشارة إلى أن ابن الأحمر قد تجاهل يحيى بصفته كاتباً لها.

    (2) البغية، ج 2، ص. 238.

    (1/15670)

    ... إلا أن مقامه في خدمة السلاطين المرينيين لم يدم طويلاً؛ إذ عاد الأمير أبو حمو إلى تلمسان، فيما جاء على حكم المرينيين المستنصر بالله أبو العباس أحمد بن أبي سالم (776 ـ 786 هـ/ 1374 ـ 1384 م)، فاستأذنه في العودة إلى تلمسان. ويبدو أن مغادرته لفاس كانت بعد مشاهدته لنكبة الوزير الغرناطي ابن الخطيب اللاجئ في فاس سنة 776 هـ/ 1374 م(1)

    __________

    (1) استقر ابن الخطيب في فاس بعد أن غادر غرناطة مضطراً. وكان قد اشترط ابن الأحمر على أبي سالم أن يساعده في حكم المغرب لقاء تسليمه ابن الخطيب. ولما تولى ولده أحمد بن أبي سالم الحكم، اتخذ سليمان بن دؤاد وزيراً له وهو المعروف بكراهيته لابن الخطيب الذي سبق أن على تعيين سليمان المذكور شيخاً للغزاة بالأندلس، الأمر الذي أودى بحياته بعد سنة 776 هـ/ 1374 م. للمزيد، ينظر: لسان الدين بن الخطيب، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، مقدمة المحقق محمد كمال شبانة، اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي، مطبعة غرناطة، المحمدية، د. ت، ج 11، ص. 39.

    (1/15671)

    .

    ... ومهما يكن من أمر، فقد عاد يحيى إلى تلمسان في غرة شهر ربيع الأول سنة 776 هـ/ 1374 م وهو يدرك ذنبه، ملتمساً العفو لنفسه. فاستجاب له الأمير أبو حمو وعفا عنه وأعاده إلى منصبه كما كان كاتباً لسره. إلا أن الأقدار سرعان ما أوقعته مرة أخرى في شرك الخلافات السياسية، لكن هذه المرة داخل تلمسان عاصمة الزيانيين. فقد اشتعلت بذور الخلافات والشقاق بين أبناء الأمير أبي حمو، وقامت منافسة شديدة بين ولديه أبي زيان(1)

    __________

    (1) تولى حكم تلمسان سنة 796 هـ/ 1394 م حتى سنة 801 هـ/ 1399 م. للمزيد، ينظر: التنسي، نظم الديار والعقيان، صص. 210 ـ 228.

    (1/15672)

    حاكم وهران وأبي تاشفين الذي(1) طمع بحكم وهران لنفسه. غير أن والده ماطله بطلبه، فظن أبو تاشفين أن الأمر قد دبر من قبل كاتبه يحيى ابن خلدون، فدبر له مكيدة ذهب ضحيتها، إذ قام الأمير أبو تاشفين بالإيعاز إلى صاحب الشرطة الزياني موسى بن يخلف وأمره بقتل يحيى. وفعلاً، قام موسى بن يخلف وأعوانه بالتربص بيحيى: إذ بينما كان يحيى خارجاً من قصر الأمير أبي

    __________

    (1) يلقب بأبي تاشفين الثاني. حكم دولة بني زيان في تلمسان سنة 791 هـ/ 1389 م حتى سنة 795 هـ/ 1383 م. للمزيد، ينظر: التنسي، المصدر السابق، صص. 184 ـ 203.

    (1/15673)

    حمو في ليلة من ليالي رمضان سنة 789 هـ/ 1378 م، هاجمه موسى وأعوانه وأردوه قتيلاً. وفي اليوم التالي، عرف الأمير أن مقتله قد دبر من ولده، فحاول إسدال الستار على جريمة قلته أو كما قال أخوه عبد الرحمن »أغفى وطوى عليها جوانحه« (1).

    ... وهكذا انتهت حياته نهاية مأساوية، وأسدل الستار على آخر فصل من حياة المؤرخ يحيى التي كانت ـ بالرغم من قصرها ـ مهمة، لما تركه من أثر تاريخي مهم وثق تلك الحقبة التاريخية المجهولة من حياة المغرب بوجه عام والجزائر بوجه خاص.

    __________

    (1) العبر، المصدر السابق، ج 7، ص. 140.

    (1/15674)

    كتابه: "بغية الرواد فبي ذكر الملوك من بني عبد الواد"(1)

    ... إن كتاب "بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد وما حازه أبو حمو من الشرف الشاهق الأطواد"، كتاب يقع في جزءين(2)

    __________

    (1) إن أول مخطوطة عثر عليها في الجزائر كانت سنة 1839 م اكتشفها المستشرق برجيس.

    Yahia Ibn Khaldoun, Histoire des Bani Abd el Wad, éd. Manuscrits Arabes, Traduite en Fransçais et annotée par Alfred Bel, Alger, Ed. Pierre Fontana, 1903, p. 10.

    (2) طبع أول مرة بمطبعة مونطانا في جزءين: الأول سنة 1903 ومعه ترجمة فرنسية بقلم ألفرد بل؛ والثاني سنة 1910. وللكتاب طبعة جديدة ظهر منها الجزء الأول بتحقيق وتقديم الدكتور عبد الحميد حاجيات، حيث صدر عن المكتبة الوطنية بالجزائر سنة 1980 في حجم متوسط يشتمل على 326 ص تقديماً ونصاً وفهارس مع تقديم بالفرنسية غير مترجم (ينظر: محمد المنوني، المصادر العربية لتاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1983، ج 1، صص. 101 ـ 102). وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب نسب أول الأمر إلى عبد الرحمن، ثم صحح ذلك المستشرق دوسلان. ينظر: المغربي، »بغية الرواد«، مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، 1929، م 9، ص. 313.

    (1/15675)

    لم يخصصه المؤلف لتاريخ الملوك من بني زيان فحسب، بل جاء حافلاً وثرياً، عالج جوانب كثيرة من تاريخ الدولة الزيانية. إذ أفصحت مقدمته عن دوافع تأليفه للأمير أبي حمو. يقول: »تخليداً ما لدولته الكريمة من فعال وبأس ونوال، وأحاديث صحاح للفخر... وما جمعته سيرته الكريمة من حرب وسلم... وتدوين ما اشتملت عليه أيامه من أخلاق وجدة وإيمان وردة وفرج من بعد شدة ليكون لذلك أسوة في الفخر اللباب وذكرى لأولي الألباب«(1).

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 1، ص. 5 ـ 6.

    (1/15676)

    ... أما أقسام الكتاب، فقد أشار المؤلف إلى أنه رتبه على ثلاثة أقسام، وهي كما يأتي:

    ... القسم الأول: »في تعريف بكنه قبيل عبد الواد وأوليته«، وفيه ثلاثة أبواب:

    ... - الباب الأول: في ذكر محل اعتماره من الأرض ويشتمل على ثلاثة فصول. الأول في اسم المكان ووصفه، والثاني في تعديد من أنجبه واستقر به من الصالحين والعلماء وغيرهم، والثالث في تملكه من لدن الفتح الإسلامي.

    ... - أما الباب الثاني، فقد جاء في »التعريف بجنس القبيل وفضله«، ويشتمل على فصلين: الأول في ذكر البربر، ومنتهى زناتة فيهم، والثاني في ذكر شعب

    (1/15677)

    بني عبد الواد وبطونهم.

    ... - وجاء الباب الثالث في »ذكر أوليتهم وترحيل أيامهم، ويشتمل على ثلاثة فصول: الأول في ابتداء أمرهم، والثاني في انتهاء الملك إليهم، والثالث في من ولي غير مستمد منهم«.

    ... أما القسم الثاني، فقد خصصه في ذكر الملك الأول من بني عبد الواد. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول في ذكر دولة يغمراسن بن زيان(1)

    __________

    (1) يغمراسن بن زيان هو مؤسس الدولة الزيانية، وحكم المغرب الأوسط بعد الموحدين. إذ انفصل عنهم واتخذ تلمسان عاصمة له للمدة من 333 إلى 381 هـ/ 1236 إلى 1282 م. للمزيد عنه، ينظر: ابن خلدون، العبر، المصدر السابق، ج 7، صص. 201 ـ 203؛ حركات، المغرب عبر التاريخ، المصدر السابق، ج 2، ص. 26؛ شارل أندري جوليان، تاريخ إفريقيا الشمالية، تعريب محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية، تونس، 1985، ج 2، صص. 202 ـ 204؛ مزاحم علاوي محمد ، »يغمراسن بن زيان ودوره في قيام الدولة الزيانية «، مجلة التربية والتعليم، كلية التربية، الموصل، 1988، العدد السادس، صص. 246 ـ 247.

    (1/15678)

    ودولة بني عثمان من بعده، والباب الثاني في إحياء الدولة بعد وفاتها، والباب الثالث في دولة أولاد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن.

    ... وجاء القسم الثالث وقد خصصه لما »حازه أمير المؤمنين مولانا أبو حمو من الشرف الشاهق الأطواد«. وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول في ذكر سجاياه الكريمة وسيرته الحميدة، والباب الثاني »في ذكر ما حوته دولته الكريمة من حلّ وترحال وإبرام« (1).

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 1، صص. 5 ـ 6.

    (1/15679)

    ... وإذا ما انتقلنا إلى موارد الكتاب، فنجد أن يحيى بن خلدون اعتمد الكثير من الأشكال. فعلى صعيد الكتب التاريخية، فالغالب عليه أنه يكتفي مرة بذكر الكتاب دون المؤلف، ومستخدماً عبارات مقتضبة كقوله: »قال صاحب الأحكام في حديث المغرب الأقصى«، و»صاحب الجغرافية« (1)، بينما نجده في مواضع أخرى يذكر المؤلف دون أن يسمي كتابه، فيشير إلى المسعودي والطبري والسهلي والصولي وابن قتيبة(2). وفي حالة ثالثة، يعتمد بعض الألقاب لمؤلفين دون التصريح باسمهم

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 8، 21.

    (2) ... المصدر نفسه، صص. 90 ـ 91.

    (1/15680)

    أو مؤلفاتهم، وخاصة وأن بعضها شائعة مثل »قال الأنباري المكناسي فيه« (1)...

    ... كما اعتمد على روايات شفاهية معاصرة أو سابقة له، كقوله: »حدثني الثقات«(2) أو »روى أبو الحسن عن أبيه«(3) و»قيل إنه« (4) أو »وأخبرني الشيخ أبو الحسن الميروقي من أعيان المدينة في شأن البلاد«(5).

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ص. 26.

    (2) ... المصدر نفسه، ص. 247.

    (3) ... المصدر نفسه، ص. 26.

    (4) ... المصدر نفسه، ص. 33.

    (5) ... المصدر نفسه، ص. 20.

    (1/15681)

    ... يضاف إلى ذلك أن مؤلَّف يحيى بن خلدون جاء حافلاً بالنصوص الشعرية لعدد من شعراء العرب عبر مختلف العصور منها أبيات المعري والسموأل ابن عاديا(1)، وقصائد لشعراء عاصروه من أمثال لسان الدين بن الخطيب(2) ومحمد بن أبي جمعة التلالسي وغيرهم(3)

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ج 2، ص. 192، صص. 261 ـ 263.

    (2) منها على سبيل المثال: إرسال ابن الخطيب قصيدتين إلى أبي حمو بعد أن اشتدت مخافته من بني مرين. (البغية، المصدر السابق، ج 1، صص. 287 ـ 293؛ ج 2، صص. 300 ـ 307).

    (3) ... المصدر السابق، ج 2، صص. 65 ـ 75، 44 ـ 49.

    (1/15682)

    .

    ... وعلاوة على ذلك، فإن تعامل يحيى بن خلدون مع الروايات التي يوظفها في مؤلفه تعتمد المقارنة مع نظيراتها. فهو في الموضع الذي يتحدث فيه عن نزوح البربر إلى المغرب، يحدد ما جاء على لسان الطبري فيقول: »وقال الطبري«، ثم يقول: »قال غيره« (1) دون أن يلتزم إحداها أو يسلم بها.

    ... أما أسلوب يحيى بن خلدون، فلابد أن نعرف أن الثقافة التي تيسرت له قد أعطته المكانة التي يستحقها. فهو كاتب اشتغل لدى سائر الأمراء الذين عاصروه، وثانياً فإن نثره وشعره يشهد بمكانته الأدبية. فهذا

    __________

    (1) المصدر السابق، ج 1، ص. 92.

    (1/15683)

    ابن الأحمر يقول في حقه: »وله معرفة بالتاريخ القديم منه والحديث، واقتدار على سبك الكلام الرائق، وحوك النظام الفائق...«(1). وعلى هذا الأساس بان علوه في صياغة عبارته. فهو يستخدم مرة أسلوباً منمقاً مسجوعاً وخاصة في ديباجة كل قسم أو فصل أو باب، وهو منهج اعتمده كتاب تلك العصور، وغرضه في ذلك إظهار مهارته في الصياغات اللفظية، وإن كان ذلك لا يخلو من زخرفة لفظية أو حشو زائد. ففي وصفه ليغمراسن بن زيان، يقول: »فارع الثنية وعاطف الحنية المستأثر دون الملوك بالخلال

    __________

    (1) مستودع العلاقة ومستبدع العلامة، ص. 65.

    (1/15684)

    السنية عظم والريع والريعان متيم حفلي الطعام والطعان، خليفة الله المرتضى وسيفه المنتضى ووعد أمينه الصادق المقتضى، منير الأحلاك وناظم الأسلاك وملك الشرفاء وشريف الأملاك« (1).

    ... ثم ينتقل بعد تلك المقدمات، مستخدماً أسلوباً يتسم بالبساطة وحسن اختيار الألفاظ والعناية بصياغتها. فهو يقول: »وسئل منه القوم ـ أي يغمراسن بن زيان ـ بالشرف وإثبات نسبه إليه، فقال: إن كان المراد شرف الدنيا، فهو ما نحن فيه؛ وإن كان القصد شرف الأخرى، فهو عند الله سبحانه«(2)

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 1، ص. 109.

    (2) المصدر نفسه، ص. 111.

    (1/15685)

    .

    ... ويجيء كتابه شاهداً على قدرته الأدبية إن كان في تنوع البحور التي يستخدمها كاستخدامه الطويل في قصيدة ليلة المولد سنة 771 هـ/ 1369 م(1) أو بحر المتدارك في ليلة أخرى من ليالي المولد(2). كما أظهر براعته في محاكاة الشعراء في قصائدهم. فهو يحاكي قصيدة لابن الخطيب، قد نظمها في احتفالات المولد لسنة 778 هـ/ 1376 م(3)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، صص. 230 ـ 234؛ وينظر أيضاً: ابن الخطيب، ريحانة الكتاب، ج 2، ص. 224.

    (2) ... المصدر نفسه، ص. 41.

    (3) ... ومطلع القصيدة:

    ... ... ما على الصب في الهوى من جناح أن يرى خلف عبرة وافتضاح

    ... للمزيد، ينظر: المقري، أزهار الرياض، ج 1، صص. 239 ـ 242. وتجدر الإشارة إلى أن تلك القصيدة لم ترد في "البغية".

    (1/15686)

    . وأخيراً، فإن شعره الذي كتبه على لسان الجارية في وصف المنجانه ـ الساعة ـ بتكليف من الأمير أبي حمو في ليلة المولد(1) تكفي لإظهار ما امتلكه من موهبة أدبية.

    ... أما قيمة أثره التاريخي، فتأتي من خلال تركيزه على بني عبد الواد في تلمسان منذ قيامهم حتى سنة 777 هـ/ 1375 م، أي قبل وفاته بثلاث سنوات. وقد جمع فيه من المعلومات والمنجزات والحقائق التي تؤشر حياة

    __________

    (1) وقد ذكر المقامات الشعرية في كل ساعة. للمزيد، ينظر: البغية، المصدر السابق، ج 2، صص. 218 ـ 222؛ أزهار الرياض، المصدر السابق، ج 1، صص. 246 ـ 247.

    (1/15687)

    تلك الدولة على المستوى الداخلي والخارجي.

    ... ففي ميدان الحياة العلمية والثقافية لتلمسان، ترجم للعلماء الذين عاشوا في تلمسان أو ولدوا بها. فبلغ عدد تراجم العلماء 108(1) ترجمة، مبيناً ذلك بقوله: »هذا ما أمكن الإلمام به من أسماء القوم سوى من أنجبته من الطلبة العراف والأمناء الثقات والصناع الحذاق في كل صنف« (2).

    ... ولم يكتف بذكر العلماء فحسب، بل إنه كان يتتبع نبوغ العلماء من الأسرة الواحدة، الأمر الذي أعطانا انطباعاً عن

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 1، صص. 23 ـ 75.

    (2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 75.

    (1/15688)

    البيوتات العلمية في تلمسان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر لنا ترجمة الشيخ محمد بن أبي بكر بن مرزوق (ت 681 هـ/ 1282 م) (1)، ثم أتبعه بولده أبي العباس أحمد (ت 741 هـ/ 1341 م) (2)، ثم ولده من بعده الفقيه محمد المكنى بأبي عبد الله المولود سنة 711 هـ/ 1311 م، والذي أشار في

    __________

    (1) ولد ومات في تلمسان (629 ـ 681 هـ/ 1231 ـ 1282 م). فقيه ومحدث وصوفي. للمزيد، ينظر: ابن مرزوق، المسند الصحيح، ص. 71.

    (2) توفي في مكة. وقد تولى مهمة سفير في الدولة المرينية. للمزيد، ينظر: التلمساني، المسند، صص. 18ـ 19، 322.

    (1/15689)

    ترجمته إلى اشتغاله في البلاط المريني(1). وهكذا يتكرر الأمر في أسر أخرى غير التي ذكرنا(2)، بل يعمد أحياناً إلى ذكر الشيخ وتلميذه من

    __________

    (1) يلقب بشمس الدين ويعرف بابن الخطيب. مات في القاهرة سنة 781 هـ/ 1376 م. (المسند الصحيح). للمزيد عنه، ينظر: الرحلة، المصدر السابق، صص. 50 ـ 56؛ ابن مريم، المصدر السابق، ص. 184؛ محمد بن شقرون، من مظاهر وحدة الثقافة بين دول المغرب العربي؛ الخطيب ابن مرزوق، مجلة المناهل، عدد 2، الرباط، 1975، صص. 128 ـ 140.

    (2) البغية، المصدر السابق، ج 1، صص. 48 ـ 50، 51 ـ 54.

    (1/15690)

    بعده(1).

    ... ومن المظاهر الثقافية والدينية التي أغناها وأبرز معالمها، احتفالات تلمسان في عهدهم بالمولد النبوي الشريف في كل سنة(2). والتقاليد المتبعة فيه، والقصائد المولدية التي ألقيت في احتفالات عدد من السنوات على عهد الأمير أبي حمو، ذاكراً أسماء شعرائها، مع نماذج من قصائد الأمير أبي حمو موسى الثاني(3)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 1، صص. 58 ـ 90.

    (2) وعن احتفالاتهم، ينظر: المقري، نفح الطيب، المصدر السابق، ج 4، ص. 19؛ أزهار الرياض، المصدر السابق، ج 1، ص. 242.

    (3) ينظر على سبيل المثال لا الحصر: البغية، المصدر السابق، ج 2، ص. 30، 36، صص. 41 ـ 49، 65 ـ 75.

    (1/15691)

    .

    ... وإذا انتقلنا إلى ميدان آخر متمثلاً بنظام الدولة، فإننا سنجد يحيى بن خلدون قد أحاط بمعلومات وافية عن الوظائف الإدارية في دولتهم وأسماء أصحابها عبر عهود الأمراء الزيانيين منذ عهد مؤسسها يغمراسن بن زيان حتى عهد الأمير أبي حمو(1).

    ... أما في ميدان النشاط السياسي والعسكري للدولة، فلقد تضمن كتابه أوجهاً متنوعة لطبيعة الحياة السياسية والعسكرية الزيانية الداخلية والخارجية. فهو يستعرض في كل عهد أمير علاقاته الحربية والخارجية مع

    __________

    (1) البغية، المصدر السابق، ج 1، صص. 111، 118، 127، 150؛ ج 2، ص. 38.

    (1/15692)

    أمراء الدول المجاورة(1)، كما أوضح طبيعة عهد أمير علاقاته الحربية والخارجية مع أمراء الدول المجاورة(2)، كما أوضح طبيعة علاقات الدول الزيانية مع القبائل المغربية المستوطنة في صحارى الجزائر وآثارها

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، صص. 236 ـ 238، 276. وعن أخبارهم مع الدولة المرينية، ينظر: علي بن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس، دار المنصور، الرباط، 1973، ص. 312.

    (2) ركز في الباب الثالث على ذلك بشكل تفصيلي من سنة 760 هـ/ 1358 م حتى 776 هـ/ 1374 م. للمزيد، ينظر: البغية، المصدر السابق، ج 2، صص. 17 ـ 299.

    (1/15693)

    على صعيد الحياة السياسية، كما حوى عدداً من الوثائق التي أرسلها أمراء غرناطة من إنشاء وزيرهم لسان الدين بن الخطيب سنة 767 هـ/ 1365 م، بالإضافة إلى الهدايا المتبادلة بين غرناطة وتلمسان(1).

    ... وتتضح موضوعيته في توثيق الحقائق التاريخية من خلال إبراز علاقة الزيانيين مع جيرانهم المرينيين حكام فاس، إذ أن الدولة المرينية تمكنت من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة. عليهم، بل وقدرة المرينيين في السيطرة على تلمسان وضمها لنفوذهم(2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، صص. 174 ـ 181، ص. 276.

    (2) المصدر نفسه، ج 1، صص. 116 ـ 121؛ ج 2، صص. 237 ـ 238.

    (1/15694)

    . وهنا لابد من أن ننوه بالفارق الكبير بينه وبين ابن الأحمر الذي أرخ للمرينيين وعاش في دولتهم. فانعكست أهواؤه في تقييم خصوم الدولة المرينية من خلال استخدامه عبارات نابية مجافية للحقيقة عن حكام تلمسان، وبوجه خاص مؤسس دولة بني عبد الواد الأمير يغمراسن بن زيان(1)

    __________

    (1) وفي معرض حديثه عن يغمراسن بن زيان، قال: »فأواهم يغمور الذي في قبره من خوف مرين مغمور«. (روضة النسرين، المصدر السابق، ص. 45). هذا، عكس الواقع. إذ يصفه عبد الرحمن بن خلدون بقوله: »كان يغمراسن من أشد هذا الحي بأساً، وأعظمهم في النفوس مهابةً وجلالةً وأعفرهم بمصالح الناس قبيلة، وأقواهم كاهلاً على حمل الملك واضطلاعاً بالتسيير والسياسة... «(العبر، المصدر السابق، ج 7، ص. 163).

    (1/15695)

    ... بقي أن نشير إلى أن مادته التاريخية كانت مثار اهتمام وعناية من لدن المؤرخين الذين جاءوا بعده. فالتنسي قد أكثر من الاعتماد عليه، وبوجه خاص في ذكر نسبهم وغزوات يغمراسن بن زيان محيلاً تلك الروايات إلى يحيى بن خلدون(1)، بينما في مواضع أخرى نقل منه نصوصاً بصورة حرفية دون أن يذكره، منها وصفه للمنجانة ـ الساعة ـ في تلمسان والخاصة باحتفالات المولد النبوي

    __________

    (1) أكثر التنسي من العودة إلى يحيى بن خلدون في الباب السابع الخاص بتاريخ بني زيان. (التنسي، نظم الدر والعقيان، المصدر السابق، صص. 110 ـ 128).

    (1/15696)

    الشريف(1). وزاد على ذلك بأن نقل النص نفسه مع تغييرات طفيفة لا تمس جوهر المعنى والشكل، ووضع النص في مؤلفه الآخر "راح الأرواح"(2)

    __________

    (1) قارن البغية، المصدر السابق، ج 2، ص. 40؛ التنسي، نظم الدر والعقيان، المصدر السابق، صص. 162 ـ 163.

    (2) المقري، أزهار الرياض، ج 1، ص. 243؛ نفح الطيب، ج 6، صص. 513 ـ 515. وتجدر الإشارة إلى أن التنسي، وهو مؤرخ معروف، ألف عدداً من الكتب منها "راح الأرواح فيما قاله أبو أحمد من الشعر وقيل فيه من الأمداح "، و"الجواب المطول في قضية يهود تهوده" و"الطراز في شرح ضبط الخراز". للمزيد، ينظر: التنسي، نظم الدر والعقيان، مقدمة المحقق، صص. 9 ـ 34.

    (1/15697)

    ... وأخيراً، فإن المعنيين بدراسة الدولة الزيانية يدركون أهمية يحيى بن خلدون مؤرخاً لها في القرنين السابع الهجري وحتى وفاته في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وإن معاصرته لكثير من الأحداث جعلته شاهداً على عصره أو قريباً منه، وبالتالي فإن الاختلاف في بعض الحقائق تدفع المؤرخين القدامى والمحدثين إلى الوثوق بما يقول المؤرخ يحيى عن تلك المدة بوصفه مؤرخها الأساسي الذي لا استغناء عن ما جاء في أثره التاريخي المهم(1)

    __________

    (1) قارن على سبيل المثال موضوع بيعة يغمراسن. إذ يحددها يحيى بن خلدون سنة 1235 م، ويؤيده في ذلك أخوه عبد الرحمن، بينما يقرر التنسي أن البيعة تمت سنة 637 هـ/ 1239 م. ويأتي ابن الأحمر ليقدم سنة 631 هـ/ 1233 م. (ينظر كلاًّ من البغية، ج 1، ص. 7؛ العبر، ج 7، ص. 162؛ نظم الدر والعقيان، ص. 111).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...