ج15مجلة التاريخ العربي

    ج15.مجلة التاريخ العربي

    وكيف انتقلوا منها إلى الأحلاف السياسية. وفي هذه المرحلة درست بشيء من التفصيل سيرة شخصيتين تاريخيتين: الأولى هي الشيخ رحمة بن مطر القاسمي مؤسس حلف القواسم منذ عام 1720، وعاصمته مدينة رأس الخيمة التي قامت على أنقاض مدينة جلفار القديمة؛ والشخصية الثانية هي الشيخ نهيان الفلاحي مؤسس أسرة آل نهيان حكام حلف بني ياس وإمارة أبو ظبي. وكانت عاصمته وقتذاك في واحة ليوا بالداخل. وكان تكوين هذه الأحلاف السياسية حدثاً تاريخياً عاماً في كل منطقة الخليج. وقد شارك أبناء الإمارات في ذلك إخوانهم من القبائل العربية

    (1/11167)

    الأخرى التي هاجرت في ذلك الوقت من نجد وداخل عمان إلى سواحل الخليج العربي. ووضعت هذه القبائل المهاجرة أسس الخريطة السياسية الحديثة للخليج اليوم. ظهرت إمارة آل صباح في الكويت وآل خليفة في البحرين ووضعت جذور حكم آل ثاني في قطر. وعاصر ذلك ظهور حلف القواسم وحلف بني ياس.

    ... وكانت هذه الظاهرة في تلك الفترة من تاريخ المنطقة تعبيراً عن نهضة عربية لاستعادة الخليج العربي لمكانته الدولية مرة أخرى في التجارة العالمية، هي مرحلة يقظة عربية بعد التحرر من الغزو البرتغالي الذي دام بين عام 1507 وعام 1680. وقد

    (1/11168)

    رافق ظهور هذه الإمارات الحديثة إنشاء عدد من المدن العربية الجديدة مثل مدينة الكويت والزبارة والمنامة والبدع (الدوحة) وراس الخيمة وأبو ظبي. وقاد هذه الهجرات زعماء قادرون على إنشاء الكيانات السياسية والعناية بشؤون الاقتصاد التي هي سمة زعامات الخليج العربي.

    ... ولم يدم طويلاً انتصار العرب على الغزوة البرتغالية. إذ أن البرتغال كانت رأس حربة أوربا الناهضة وقتذاك لتحطيم منبع ثراء الاقتصاد العربي في الخليج. وظهر البريطانيون في صورة شركة الهند الشرقية الإنجليزية، ولكن سرعان ما تحولت الشركة إلى

    (1/11169)

    إمبراطورية في الهند وامتد من هناك نفوذهم إلى الخليج.

    ... ووجد البريطانيون في إمبراطوريتهم الجديدة في الهند تعويضاً عن ممتلكاتهم التي خسروها في العالم الجديد بأمريكا بعد الثورة الأمريكية عام 1889. وازداد هنا اهتمام بريطانيا بالخليج العربي وأصبح يمثل في سياستهم الجديدة خط الدفاع الأول عن الهند.

    ... وفي الباب الثالث تحت عنوان »الإمارات فترة الأعاصير الإقليمية والدولية 1800 ـ 1855«، شرحت كيف لم يعش حلف القواسم وحلف بني ياس في السلام الذي عرفاه خلال القرن الثامن عشر ووفد النصف الأول من القرن التاسع

    (1/11170)

    عشر بالأعاصير الإقليمية والدولية بالنسبة لهما. في عام 1800 وصلت قوات الدولة السعودية الأولى إلى مشارف حدود الإمارات وجاءت حملاتهم إلى عمان مارة بالإمارات. واتخذت من واحة البريمي في عمان قاعدة لها. وفي عام 1798 وصل نابليون إلى مصر وبدأ يخطط لغزوته في الهند. وأسرعت الحكومة البريطانية في بومباي إلى عقد معاهدة مع السيد سلطان بن أحمد حاكم عمان واندفعت في تأمين مصالحها في منطقة الخليج. وسرعان ما حدث صدام بين حلف القواسم ذي القوة البحرية والذي اعتنق أفراده مذهب الإصلاح السلفي (الوهابي) وبين السفن

    (1/11171)

    البريطانية عند مدخل الخليج. وكانت الحملة البريطانية على موانئ القواسم وحصونهم وإحراق سفنهم في عام 1819. وقد كان لهذه الحملة نتائجها المباشرة في تحطيم حلف القواسم وتقسيمه إلى إمارات، فظهرت إمارة عجمان وإمارة أم القيوين. وعقدت بريطانيا مع الإمارات اتفاقية السلام الدائم عام 1820، واتفاقية أخرى للهدنة الدائمة عام 1853. وبعد عقد اتفاقية عام 1853، أطلق البريطانيون على الإمارات ـ حسب رؤيتهم ـ اسم الساحل المهادن.

    (1/11172)

    ... ولما كانت كتابة تاريخ الإمارات تعتمد بصورة رئيسة خلال القرن التاسع عشر على الوثائق البريطانية بسبب وجود تاريخ وعلاقات مشتركة مع بريطانيا خلال هذا القرن نتج عتها ولاشك ضخامة حجم الوثائق البريطانية حول الإمارات بالنسبة لغيرها من وثائق الدول الأخرى؛ كما أن هذه الوثائق كتبت في الشارقة على مقربة من الأحداث، حيث كان للبريطانيين وكالة سياسية بها منذ عام 1825 بعد الحملة البريطانية ضد رأس الخيمة عام 1819 تمدهم بالمعلومات وأخبار الساحل.

    (1/11173)

    ... لهذا نحن مضطرون إلى الاعتماد على هذا الحجم الهائل من الوثائق البريطانية في الكتابة عن تاريخ الإمارات. ولكننا نجد قلة معرفة البريطانيين للعرب عامة وقبائل الإمارات خاصة في هذه الفترة المبكرة لهم بين عام 1800 وعام 1900. وكان للبريطانيين خلال هذا القرن وكلاء لهم من أبناء الخليج. وجاء هذا التمثيل بعد حكم قاس ظالم للبريطانيين على القواسم؛ إذ أطلق موظفو حكومة بومباي البريطانية لقب القراصنة على القواسم، وسموا ساحل الإمارات ساحل القرصنة. وتخوف البريطانيون من تعيين ضابط بريطاني في هذه الوظيفة خوفاً

    (1/11174)

    من قتله على يد أبناء القبائل الذين كانوا يصفونهم دائماً بالشراسة. وكانت العلاقة بين عرب الإمارات والبريطانيين بعد هذه الحملة شعوراً من العداء المتبادل؛ وهذا أمر طبيعي. ونحن نفسر هذا الوصف البريطاني لأبناء الإمارات بأنهم قوم شرسون في صورته الحقيقية، إذ هو عشق أبناء الإمارات وقبائلها للحرية ورفض منهم أن يقيم بينهم أجنبي بالقوة. وهذا الوكيل الأجنبي الممثل لبريطانيا ليس ضيفاً، بل هو يمثل دولة معتدية هزمتهم في معركة حربية عام 1819.

    (1/11175)

    ... وليس هنالك أبلغ مما كتبه المستشرق البريطاني القس بادجر في مقدمة ترجمته لمخطوطة ابن رزيق عن عمان والساحل عام 1873، وذلك بعد أن فتحت له هذه المخطوطة نافذة ليرى ـ بصفته أول أوربي ـ هذه البلاد من الداخل، وليس فقط العلاقات الرسمية الخارجية بين بريطانيا والحكام. انتقد بادجر في مقدمة كتابه هذا التقصير لدى حكومة الهند في معرفة أحوال القبائل العربية في عمان والساحل، وقال إنه بعد قرن من العلاقات السياسية والتجارية بين حكومة الهند من ناحية وعمان والإمارات من ناحية أخرى، فإن معرفة المسؤولين البريطانيين

    (1/11176)

    عن داخل هذه المنطقة مثل معلوماته تماماً عن منطقة البحيرات الكبرى في وسط أفريقيا آنذاك.

    ... وسوف نجد ـ ونحن نقرأ الوثائق البريطانية في الجزء الثاني من هذا الكتاب في الفترة ما بين عام 1954 وعام 1971 ـ كيف تطورت لأول مرة معرفة البريطانيين عن عرب الإمارات، وذلك بعد أن حل الضابط السياسي البريطاني مكان الوكيل السياسي المحلي عام 1949. وبعد أن أصبح للبريطانيين معتمد في دبي عام 1954 وآخر في أبو ظبي منذ عام 1955. وهكذا رأى البريطانيون لأول مرة، بأعينهم هم، ما يجري في الداخل وفي الإمارات. وقد جاب في داخل

    (1/11177)

    الإمارات في تلك الفترة رجال البحث عن البترول. لهذا نجد كثيراً من هذه الأحكام المبكرة قد تغيرت. فكتب الرحالة البريطاني ولفرد تسيجر يصف البدو الذين عاش بينهم ولمس أخلاقهم عن قرب أنهم نبلاء العرب واختفى الوصف البريطاني القديم لهم أنهم قراصنة وشرسون، بل فضل الكثير من هؤلاء الموظفين البريطانيين الذين عملوا خلال الفترة من عام 1945 حتى عام 1971، سواء كانوا في السلك الدبلوماسي أو ضباطاً عسكريين في قوة ساحل عمان، البقاء في الإمارات بعد اعتزالهم الخدمة الرسمية، لما وجدوا من الحكام والأهالي من كرم وترحاب.

    (1/11178)

    ... ولابد لقارئ الوثائق البريطانية أن يكون حذراً في قبول الأحكام البريطانية عن أهالي الإمارات في الفترة ما بين عام 1800 وعام 1949 عند كلامهم عن الأحوال الداخلية؛ إذ اقتصر وصفهم للشؤون الداخلية على تتبع أخبار فردية: فلان من قبيلة ما اعتدى على فلان من قبيلة أخرى في المغاصات، وأدى هذا إلى قتال بين الإمارتين، أو فلانٌ لم يدفع ما عليه من دين في الغوص، أو جرى حادث ثأر ولجأ الجاني إلى إمارة أخرى. والواقع أن هذه الفوضى لم تكن لتحدث لو كان هنالك حكومة الحلف المركزية السابقة التي تمنع تكرار هذه الأحداث

    (1/11179)

    وتقيم العدل والنظام. ويعود السبب في ذلك إلى السياسة البريطانية التي وضعت كل همها في القضاء على سلطة القواسم وهيبة حكومتهم المركزية، ولم تنظر إلى ما وراء ذلك من تشجيع للفوضى الداخلية. لهذا أصبحت التقارير البريطانية خلال هذه الفترة أشبه بمحاضر الشرطة، ولكن أين إنشاء تجار اللؤلؤ للمدارس؟ وأين ما كان يدور في المجالس من شعر وأدب ومشاعر وطنية؟ لم ترد أي إشارة في التقارير البريطانية عن ذلك. ولولا جمعنا لهذه المعلومات من صدور الرجال المعاصرين لها، لما عرفنا شيئاً عن هؤلاء الرواد من التجار والمعلمين،

    (1/11180)

    ولما عرفنا حقيقة المشاعر الوطنية والقومية.

    ... وفي دراستنا مثلاً لحادث دبي عام 1910 حينما نزلت قوة بريطانية مدينة دبي دون إذن من الحاكم للتفتيش عن السلاح، نجد الماجور كوكس المقيم البريطاني يصف الشيخ سهيل بن بطي حاكم دبي (1906 ـ 1912) بأنه حاكم ضعيفَ. لماذا يصف الماجورُ كوكسْ هذا الوصفَ؟ ذلك لأن الشيخ سهيل كما ذكر في تقريره كان يستمع إلى رأي أفراد العائلة الحاكمة وزعماء العائلات والتجار في المدينة، ورفض طلب كوكس بقبول ضابط بريطاني يقيم في دبي معتمَداً سياسيّاً، وكذلك قبول فتح مركز للتلغراف

    (1/11181)

    والبريد بريطاني في المدينة. إن الحاكم القوي في نظر البريطانيين في ذلك الوقت هو من ينفذ رغباتهم ويتجاهل مصالح شعبه وآراءه. وفي الواقع، إن هذه المشورة تعطينا صورة رائعة عن الكيفية التي كان يدار بها الحكم في الساحل وعن الكيفية التي كانت بها العلاقات وثيقة بين الحاكم والمحكوم.

    ... وقد حرصت عند قراءتي لهذه الوثائق على الحصول على المادة الضرورية لموضوعات بناءة لكتابة التاريخ. لقد تتبعت في هذه الوثائق ما يتناول الأحوال الاقتصادية وتطورها، ودرست ما يفيدني منها مثل منع بريطانيا لعرب الإمارات من بناء

    (1/11182)

    السفن الكبيرة واستيراد الأخشاب من الهند بعد عام 1820 وكيف أدى هذا إلى عدم الاتصال المباشر بين الإمارات والهند وتدهور النشاط التجاري الواسع في الإمارات. ودرست منع بريطانيا الحكام من الاتصال بالدول الأجنبية منذ عام 1892 وحرمانهم من الاتجار مع الأجانب ومن إعطائهم أية امتيازات تجارية في الإمارات. كما بحثت نتائج العزلة التي فرضها البريطانيون على الإمارات وكيف حاول الحكام والأهالي مراراً كسر هذا الطوق.

    (1/11183)

    ... وقد أتاحت لي الكتابة مرة أخرى عن دولة الإمارات الفرصة كي ألقي الضوء على الشخصيات التي أدّت دوراً تاريخياً مهماً سواء كانت هذه شخصية حاكماً أو عالماً أو أديباً أو شاعراً أو تاجراً أثرى الحياة الاقتصادية أثناء القرن التاسع عشر. وهي فترة رئيسة في هذا الجزء الأول من الكتاب. واهتممت بالكتابة عن شخصية الشيخ سلطان بن صفر القاسمي (1803 ـ 1866) أمير حلف القواسم المفترى عليه، إذ حملت التقارير البريطانية كثيراً عليه وقدمته في صورة سيئة تختلف عن الحقيقة بسبب إصراره على تماسك حلف القواسم ومحاولته جمع

    (1/11184)

    شتات الإمارة ومقاومة السياسة البريطانية آنذاك التي عملت على هدم الكيان العربي في ساحل الإمارات في تلك الفترة المبكرة من تاريخ اليقظة العربية في الخليج. كما درست الدور التاريخي الذي أدّاه الشيخ شخبوط بن دياب (1790 ـ 1816) سواء في فترة حكمه أو بعد اعتزاله الحكم في إرساء قواعد إمارة أبو ظبي واتساع أراضيها. وكان، نتيجة لنقله عاصمة الإمارة من واحة ليوا في الداخل إلى مدينة أبو ظبي على الساحل، أن أطلق على إمارة بني ياس اسم إمارة أبو ظبي لأول مرة. وكانت إقامته في قلعة مريجب أواخر أيام حياته في منطقة

    (1/11185)

    العين سبباً في امتداد إمارة أبو ظبي إلى هذه المنطقة، وكذلك قدمت دراسة تفصيلية عن شخصية الشيخ مكتوم بن بطيء مؤسس إمارة دبي عام 1833.

    ... أما الباب الرابع، وهو »الإمارات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر«، فقد شرحت فيه كيف قامت في بداية هذه الفترة ثورة في الهند على الحكم البريطاني عام 1857، وأخمدتها بريطانيا بعد صعوبة وخسائر كثيرة في الأرواح. وقد ألغت الحكومة البريطانية شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وأصبحت الإمبراطورية الهندية تحت النفوذ المباشر للتاج البريطاني، وعين نائب للملك بها. وقد أدى

    (1/11186)

    اهتمام بريطانيا بالإمبراطورية في الهند بعد فتح قناة السويس عام 1869 وتأمين الطريق إليها، إلى احتلالها لجزيرة قبرص عام 1878 من الدولة العثمانية، واحتلت بعد ذلك مصر عام 1882، ثم فتحت السودان عام 1899. ونتيجة لذلك كلِّه، زاد النفوذ البريطاني في الخليج والإمارات. وخلال هذه الفترة بين عام 1853 وعام 1900، ظهرت شركات الملاحة التجارية الهندية البريطانية المنتظمة في الخليج بعد أن قضى البريطانيون على دور القواسم وعرب الخليج في الملاحة البعيدة، ولم يكن ممكناً لعرب الخليج منافسة بريطانيا بسفنهم التقليدية

    (1/11187)

    مع استخدام بريطانيا للبخار وإنشاء شركات حديثة للملاحة وإنشاء خطوط التلغراف في المنطقة. وهكذا احتكرت بريطانيا التجارة الدولية في الخليج، وعقدت في عام 1892 المعاهدة المانعة مع حكام الإمارات وأعطت لاحتكارها صفة شرعية بهذه الاتفاقية؛ كما عزلت الحكام عن الاتصال بالدول الأجنبية والعالم الخارجي.

    ... وازداد تفكك حلف القواسم بعد وفاة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي عام 1866؛ كما شغلت شخصية الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان أحداث الإمارات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بين عام 1855 وعام 1909. وقد جمع الشيخ

    (1/11188)

    زايد بن خليفة بقوة شخصيته وشجاعته بصفته فارساً محارباً بالبادية حوله أكثر حكام الساحل المتصالح وتحالف معهم. وكاد أن يحقق حلم الإمارات في الاتحاد، ولكن السياسة البريطانية والمقيم البريطاني كوكس أحبطا محاولة الشيخ زايد بن خليفة في تحقيق طموحه وحلم أبناء الإمارات. وتأخر تحقيق هذه الفكرة حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وقد جاءت حملة مدحت باشا والي بغداد العثماني عام 1871 بصفتها ردّاً لفعل النشاط البريطاني وازدياد نفوذ بريطانيا في الخليج. ولكن هذه الحملة لم تحقق مقاومة حقيقية للهيمنة البريطانية

    (1/11189)

    في الخليج. وفي نهاية هذا القرن شجّعت روسيا إيران على مد نفوذها على الساحل الإيراني في الخليج للحد من النفوذ البريطاني في هذه المنطقة. وقامت إيران باحتلال جزيرة صرى عام 1887 التابعة لإمارة القواسم؛ كما قضت آخر الأمر على هذه الإمارة العربية على الساحل الإيراني عام 1899. وبدأت إيران طموحاتها في احتلال جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التابعة لحكام القواسم في إمارة رأس الخيمة وإمارة الشارقة. ومن هنا بدأت قضية هذه الجزر السياسية بين إيران والإمارات.

    (1/11190)

    ... وإذا أردنا أن نلخص تاريخ الإمارات كما جاء في الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب، وذلك في إطاره العربي القومي وفي وضعه في السياسة الدولية، نقول إن نقمة أوروبا على هزيمتها في الحروب الصليبية في بيت المقدس وفشل محاولاتها في احتلال مصر بسبب قيامها بالدور الرائد أيام البطل صلاح الدين، هذه النقمة على العرب والمسلمين انتقلت غرباً. فاحتل النورماند صقلية، وتمكن البرتغاليون والإسبان من إخراج العرب من الأندلس. ولكن ظل الاقتصاد العربي المزدهر أحد أسباب قوة المسلمين الرئيسة، وتقدم البرتغاليون لضرب مركز

    (1/11191)

    هذا الاقتصاد العربي المزدهر، متمثلاً في مملكة هرمز وتجارة البحر الأحمر. ونجح البرتغاليون في تحويل التجارة الدولية عن منطقة الخليج إلى طريق جديد وهو خط الملاحة عبر جنوب إفريقيا. وبعد سقوط البرتغاليين في بداية القرن السابع عشر، ظن أبناء الخليج أن الفرصة قد جاءتهم لعودة مجدهم الاقتصادي التاريخي. وبدأت الهجرات، ونشأت إمارات حديثة. ولكن يقظة أوروبا كانت في تقدم مستمر، وتدفق عليهم المال من احتكار تجارة الشرق ومن غنى الأمريكتين. وجاء البريطانيون للهند والخليج وأحكموا قبضتهم على الاقتصاد العربي في

    (1/11192)

    الخليج. وبحرمان العرب من التجارة الدولية في الخليج، بدأت منطقة الشرق الأوسط تعاني رويداً رويداً من التدهور الاقتصادي. وتأثر البناء والتعليم والحياة عامة من هذا الحرمان بانقطاع شريان التجارة العالمية عبر الصحراء العربية إلى الموانئ العربية في الشام ومصر. وعرفت مصر الغنية مجاعات لم تشهدها في تاريخها الطويل كما يحكيها لنا المؤرخ الجبرتي. ولكن يشاء الله أن ينعم على منطقة الخليج بالبترول، وتحكي لنا آخر إحصاءات تجارة الترانزيت الجوي والبحري في دولة الإمارات، وإحصاءات نشاطها الصناعي أن دخل هذه التجارة

    (1/11193)

    والصناعة قد أصبح موازياً لدخل البترول. وانتشر هذا الخير الجديد في دولة الإمارات ودول الخليج بصور مختلفة إلى البلاد العربية، متمثلاً في مشروعات اقتصادية مشتركة ومجالات عمل لكثير من أبناء الدول العربية. وهكذا عاد الخليج مرة أخرى بعد مرور أربعة قرون مركزاً هاماً للطيران والاتصالات الدولية، ومقراً لتجارة ترانزيت دولي وازدهار اقتصادي. وينعكس كل ذلك في صورة ازدهار علمي وثقافي عريض يعيد للحضارة العربية والإسلامية دورها في الحياة الإنسانية. ذلك، في كلمات بسيطة، تاريخ الإمارات في إطارها العربي والدولي.

    (1/11194)

    ... وفي الختام، أسأل الله أن أكون قد وفقت في تقديم تاريخ أكاديمي للإمارات منذ ظهورها السياسي في القرن الثامن عشر في العصر الحديث حتى نهاية القرن التاسع عشر، وأسأل الله تعالى أن يلبي هذا العمل حاجة طالب الجامعة، وأن يشبع رغبة المثقفين عامة في معرفة تفصيلية لهذه الفترة من تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة.

    ... وآمل أن تشجع هذه الدراسة المؤرخين الشباب للبحث والنقد والكتابة في تاريخ وطن سجل أبناؤه في الماضي بداية يقظة عربية مع أبناء الخليج في العصر الحديث، كما سجل حكامه وشعبه اليوم بقيادة صاحب

    (1/11195)

    السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أروع الخطى في البناء والإنجاز والمواقف القومية في التاريخ العربي المعاصر.

    (1/11196)

    قراءة في أدب الأطفال سيرة وتاريخ

    ... ... ... ... الدكتور نادي ساري الديك

    ... ... ... جامعة القدس المفتوحة ـ رام الله ـ فلسطين

    أدب الأطفال من عصر البعثة المحمدية حتى عصر النهضة العربية

    ... كان للحياة في عصر ما قبل الإسلام صبغتها وقيمها. ومع بدء التنزيل القرآني، أخذ العرب ينشغلون به شيئاً فشيئاً حتى غدا همهم الأول والأساسيّ، الذي اتخذه عقيدة وجعله دستوره وأخذ يتعمق فيه من أجل الوصول إلى الهدف. وأما من عارضه، فقد جعله وسيلته من أجل الشك والطعن. إلا أن الطاعنين لم تخل آراؤهم من الإعجاب بالقرآن؛

    (1/11197)

    وقد وصفه أحدهم فقال: ”والله إن له حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر“(1).

    ... إن عناية المسلمين بالقرآن أدت إلى ازدهار العلوم وانتشار المعرفة، لأن فهم العرب والمسلمين للنص القرآني لم يكن قد سار في نسق واحد. لذا تعددت الدراسات القرآنية وانبثقت علوم متعددة عنها، أغنت الحياة الأدبية والعلمية معاً وأصبح بعضها مفاتيح لعلوم أخرى ظهرت فيما بعد.

    __________

    (1) هند حسين طه، النظرية النقدية عند العرب، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، العراق، 1981، ص, 57.

    (1/11198)

    ... ويعد القرآن دستوراً كاملاً متكاملاً، لأنه ناقش أمور الناس جميعاً الدينية والدنيوية. لذلك نجد فيه شتى أنواع المعرفة الإنسانية. ومن هذه الأنواع القصص القرآني، حيث جاء به عظة وعبرة للناس، لأنه يوازن بين الماضي والحاضر والخير والشر وغير ذلك كقوله تعالى {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}(1). وقد وردت القصص على لسان الحيوان والطير أيضاً كما قال تعالى: {حتى إذا أتوا على وادي النمل،

    __________

    (1) سورة يوسف، الآية 2 ـ 3.

    (1/11199)

    قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسَّم ضاحكاً من قولها، وقال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين، وتفقد الطير فقال: ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين، فمكث غير بعيد فقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإٍ يقين}(1).

    __________

    (1) سورة النمل، الآيات 18 ـ 22.

    (1/11200)

    ... إن هذا الإخبار عن طريق الفن القصصي لم يكن جديداً على العرب، وكان يشكل محوراً من محاور الحوار في المنتديات والأسواق الأدبية التي عرفوها في تلك الأيام. والشعر العربي الذي خلفوه لنا من تلك الحقبة لم يكن ليترك هذا الأمر وهو أخبار وقصص القدماء، حيث تجده مليئاً بالأخبار دون تخصيص في نوعية محدودة منها، وهذا ما عناه النابغة الذبياني في قوله:

    ...

    ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه

    إلا سليمان إذ قال الإله له

    وخيس الجن إني قد أذنت لهم

    فمن أطاعك، فانفعه بطاعته

    ولا أحاشي، من الأقوام من أحد

    (1/11201)

    قم في البرية فاحددها عن الفند

    يبنون تدمر بالصفاح والعمد

    كما أطاعك وَادْلُلْهُ على الرشد(1)

    ...

    ... هذه المعرفة بالأساطير وعلوم الأولين جعلت الناس متفاوتين من قربهم للدين والعقيدة. من أجل ذلك، نجد الوثنيين قد هاجموا محمداً بأسلوب يرونه قريباً من الأسلوب القرآني، حيث تتشابه الأسلحة، كي يقللوا إعجاب الناس وافتتانهم بالقرآن الكريم إن استطاعوا حتى استعانوا بالنضر بن الحارث الذي يعي أساطير الأولين وأخبارهم حيث كان

    __________

    (1) النابغة الذبياني، ديوان النابغة، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص. 33.

    (1/11202)

    النضر

    ... من شياطين قريش تعلم من الحيرة أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسقنديار. فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً فذكر فيه بالله، وحذر قومه مِمَّا أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة، خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلمُّوا إليّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه (1).

    ... إلا أن الإيمان أخذ يتجذر في نفوس الناس بعد محاربتهم للكفر والإلحاد إذ غدت ملامح الخرافات والوثنية تزول رويداً رويداً، عن

    __________

    (1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، القاهرة، 1955، ص. 300.

    (1/11203)

    طريق الصبر والجلد اللذين تمتع بهما أصحاب محمد عليه السلام. من هنا نرى أن الناس قد أصبحوا ميالين لسماع الأخبار عن البعثة ومريديها، حيث بدأت سمات النور تشخص في الوجود والنفوس. وقد أخذت أخبار الرسول الكريم تنتعش بسرعة مذهلة وبالذات بعد رحلة الإسراء والمعراج، لأن الناس قد سمعت أخباراً لم يعهدوها قبل الرسول محمد عليه السلام قط، لنرى أن أطفال المسلمين قد تاقوا شوقاً لسماع تلك الأخبار كي يزدادوا به إعجاباً وتقديراً ”ويندس فريق منهم بين الكبار في حلقات المسلمين ليروا بطلهم العظيم رأي العين ويسمعوا

    (1/11204)

    منه“(1).

    ... وبذلك أخذ القرآن يغرس في النفوس، وصار الأطفال يدافعون حسب طريقتهم ومقدرتهم عن العقيدة الجديدة التي أخذت بلبابهم وقلوبهم معاً. وتزداد محنة المسلمين في مكة، ثم تتم الهجرة ليظهر لنا أول نص أدبي متكامل يصلح للأطفال، يتذوقه الكبار ويجدونه قريباً فعلاً من النفوس والعقول، ألا وهو ذلك النشيد الذي استقبل به سيدنا محمد عليه السلام عند وصوله إلى يثرب مع صاحبه في الغار أبي بكر الصديق. وهذا النشيد بمثابة تعبير صادق عن شوق المجتمع

    __________

    (1) أحمد شلبي، تاريخ التربية الإسلامية، القاهرة، 1955، ص. 29.

    (1/11205)

    المدني آنذاك إلى الروحيّة الجديدة التي يرونها من خلال الهجرة الشريفة وتطلعاتهم نحو مستقبل أفضل. ولا غرابة في ملاقاة أهل يثرب رسول الله بالغناء وضرب الدفوف؛ وذلك تعبير صادق عن مشاعرهم أولا؛ كما أن طبيعة أهل يثرب أكثر ليناً واجتماعية من أهل مكة. وعلى وجه العموم، كان النشيد معبراً عن طبيعة العلاقة القادمة بين المهاجرين والأنصار، حيث لم يترك اليثربيون صورة حسنة وفاعلة من خلال بيئتهم إلا وألصقوها في هذا النشيد الصادق الناطق على الرغم من قصره.

    طلع البدر علينا

    وجب الشكر علينا

    أيها المبعوث فينا

    (1/11206)

    جئت شرفت المدينة

    من ثنيات الوداع

    ما دعا لله داع

    جئت بالأمر المطاع

    مرحباً يا خير داع

    ... هذا الاستقبال جعل الناس جميعاً يستبشرون خيراً بالحياة القادمة. لذا بدأ الرسول الكريم ينظم المجتمع وفق منهج إسلامي رفيع المستوى، حتى نجده قد جدد مهام الشعب بكل شرائحه. وجاء ذلك إما فعلاً أو تقريراً منه عليه السلام. وكان لين القلب مع الأولاد وباقي الناس: فقد شوهد يقبل الإمام الحسين سبطه من الزهراء، حتى تعجب الأقرع بن حابس التميمي قائلاً: ”"إن لي عشراً من الأولاد، فما قبلت واحداً منهم". فقال له النبي: "ما

    (1/11207)

    أصنع لك إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلبك؟"“(1).

    ... ويروى أن عمر بن الخطاب قد رأى الحسن والحسين وهما يستمتعان بمداعبة الرسول لهما ويركبان على ظهره، فقال عمر: ”نعم الفرس فرسكما“. فأردف الرسول الكريم: ”ونعم الفارسان هما“.

    ... هذا يرينا أن الحب متبادل بين الرسول عليه السلام ـ ومن حوله من الناس وبالذات الأطفال، لأنهم ريحانة الحياة وصورة المستقبل وهم ـ كما يروى ـ أحباب الله؛ وكذلك إظهار مدى التعلق بالطفولة وتقديم أسمى ما يكون، ألا وهو المطاوعة

    __________

    (1) ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج 1، ص. 196.

    (1/11208)

    والنزول إلى مستواهم والأخذ بيدهم. وذلك يدلّ على فلسفة لها أهميتها ومكانتها في التربية. روي عن الإمام علي كرم الله وجهه: ”لا تربوا أولادكم على ما تربيتم عليه، لأنهم ولدوا لزمان غير زمانكم“. وهذا فيه امتداد لفلسفة الإسلام التي جاء بها القرآن الكريم وأكدها الرسول المصطفى بأقواله وأفعاله. وكيف لا يصنع الرسول ذلك وقد تربى في حجور بني سعد، وأخذ من البادية محاسنها وفصاحتها، زيادة على ما وهبه الله به من صفات تفرد بها عن غيره من المخلوقات. فقد كانت مرضعته حليمة السعدية ترقصه بما روي عنها:

    (1/11209)

    ... ... ... يا رب إذا أعطيته فأبقه

    ... ... ... وأعله إلى العلا ورقه

    ... ... ... وادحض أباطيل العدا بحقه(1)

    ... وروي عن الشيماء، أخت الرسول في الرضاعة، أنها كانت ترقصه وتستبشر به خيراً:

    ... ... ... يا ربنا أبق لنا محمدا

    ... ... ... حتى أراه يافعاً وأمردا

    ... ... ... ثم أراه سيدا مسودا

    ... ... ... واكبت أعاديه معاً والحسدا

    ... ... ... وأعطه عزماً يدوم أبدا(2)

    __________

    (1) البلاذري، أنساب الأشراف، ج 1، دار المعارف، مصر، 1959، ص. 95.

    (2) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، طبع مصر، 1328 هـ، ص. 123.

    (1/11210)

    ... ولم يكن هذا حكراً على السعديين، وإنما قد فعله جده عبد المطلب معرباً عن فرحته بمولده الكريم:

    ... ... ... الحمد لله الذي أعطاني

    ... ... ... هذا الغلام الطيب الأردان

    ... ... ... قد ساد في المهد على الغلمان ...

    ... ... ... أعيذه بالبيت ذي الأركان

    ... ... ... حتى أراه بالغ البنيان

    ... ... ... أعيذه من شر ذي شنان

    ... ... ... من حاسد مضطرب العنان(1)

    __________

    (1) البلاذري، أنساب الأشراف، المصدر السابق، ج 1، ص. 81.

    (1/11211)

    ... إنا هنا نقرأ نصوصاً تنسب لأناس لهم علاقة بالنبي الكريم. وقد يشكك المرء في نسبتها، إلا أننا نقول ليس كثيراً أن نسمع ذلك من بيئة تعج بالشعر وبالقيم التربوية، بغضّ النظر عن شخصية الممدوح لأن ذلك إيضاح لصور الحياة وتفاعل الناس معها. ونردف أن ملامح النبوة قد ظهرت في آل عبد المطلب قبل مولد محمد وترسخت في محمد بعد ذلك. وهذا ما أكدته السمات الخاصة والعامة للرسول الكريم. أضف إلى ذلك أن هذه الأراجيز تدل على مدى الفاعلية بين الابن وأهله، وخاصة إذا صدر عن إنسان كعبد المطلب وحليمة السعدية.

    (1/11212)

    ... ولم يتوقف الأمر على الرسول عليه السلام وحده، بل استمرت العناية بالطفولة وقيمها لدى صحابته رضوان الله عليهم. فقد روي عن عبد الله بن عمر ملامة الناس له لمصاحبته ولده سالم. فأجابهم كي يريهم مكانة سالم في نفسه:

    يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم(1)

    ... بهذا نرى الصلة الفاعلة بين الابن وأبيه، إذ جعله في مكان خاص له أهميته وقيمته. ويروى أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وهو يلاعب بنية؛ فقال له:

    __________

    (1) الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، ج 1، طبع مصر، 1326، ص. 155.

    (1/11213)

    انبذها عنك، فوالله إنهن يلدن الأعداء، ويقربن البعداء، ويورثن الضغائن. فقال معاوية: لا تقل يا عمرو ذلك، فما ندب الموتى، ولا تفقّد المرضى، ولا أعان على الحزن مثلهن(1).

    ... إن رؤية الناس للأشياء مختلفة. هذا ما نقرأه في هذه النصوص، حيث تكون التربية وثقافة المرء فاعلاً حاسماً في خلق موقفه وبيان رأيه. وهكذا لم يكتف العرب بما روي عنهم تجاه الأولاد والبنات خاصة، بل نجدهم يمنون أنفسهم بأن يروا بناتهم وقد نضجن كي يتعززوا تجاه خاطبيهن:

    __________

    (1) محاضرات الأدباء، المصدر السابق، ج 1، ص. 156.

    (1/11214)

    ... ... ... يا ليتها قد لبست وصواصا

    ... ... ... وعلقت حاجبها تنماصا

    ... ... ... حتى يجيئوا عصبا حراصا

    ... ... ... ويرقصوا من حولنا أرقاصا

    ... ... ... فيجدوني عكراً حياصا(1)

    ... ولم يكتف المجتمع بما يسمع من أراجيز: إذ أخذ السمار يتحلقون حول أهل القصص والمهتمين بها. وازداد إقبال الناس على ذلك بعد الخلاف الذي حدث بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، حيث سخر معاوية قصاصين خاصين يدعون له في المساجد:

    __________

    (1) المفضل بن سلمة، الفاخر، طبع وزارة الثقافة، القاهرة، 1960، ص. 36.

    (1/11215)

    ... وأما معاوية، فقد عين قصاصين رسميين يؤمون المساجد بعد صلاتي الفجر والمغرب يقصون الحكايات التي تتفق ودعوة معاوية، ويرجون له ولحكمه، ويدعون لآله وأهل الشام. ونشر ذلك في جميع الأمصار التي تحت يده. وحين خلص الأمر له وللأمويين من بعده، اشتعلت العصبيات القبلية من جديد، وعادت القصص الجاهلية المتصلة بتلك العصبيات تروي فتبعث الخلافات بين المسلمين وتفض الأيام والمعارك والثارات القديمة بين القبائل، وتذكر العرب المسلمين بما قد نسوه منها في غمرة الإخلاص للدين(1)

    __________

    (1) د. علي الحديدي، في أدب الأطفال، ص. 227.

    (1/11216)

    .

    ... هذا الأمر يجعلنا نستنتج أن القصص لم يكن هدفه الوحيد تربوياً، بل أصبح نفعاً سياسياً دون النظر إلى العواقب والخيارات، مما أذكى نار الفتنة من جديد بين القبائل من أجل كسب الانتصارات والأمجاد الفردية والأسرية كما هو الحال مع معاوية وأسرته الأموية، علماً بأن معاوية كان من الذين يشغفون بالسمر والمسامرة وحب الاطلاع على أخبار الماضين. حتى تعرف الناس إلى عبيد بن شرية الجرهمي، الذي وضع كتب الأخبار والسمر في عهد معاوية. واستمر التطور القصصي مع الأيام ليبزغ القصص الدينيّ ردّاً ـ كما نظن ـ لفعل القصص

    (1/11217)

    الذي يثير النعرات الجاهلية زيادة على التطور والتقدم وحاجة المجتمع إلى ذلك. وقد لمع اسم وهب من منبه الفارسي الأصل في القصص الديني، لأنه من العارفين بأخبار الأساطير والديانات السابقة والشعوب المحيطة بالجزيرة العربية. لذلك أصبح القصص الديني يتخذ وسيلة إعلامية ناجعة من قبل الفرق الإسلامية لبيان رأيها من الأشياء كما هو الحال عند الخوارج، لأنهم عارضوا كفتي الميزان آنذاك (علي ومعاوية(، وأصبحوا يبثون أفكارهم وهمومهم عبر القصص الديني موضحين للناس الأسباب التي حدت بهم كي يقفوا من المعارك السياسية آنذاك

    (1/11218)

    موقفهم المعهود. إلا أن هذا النشاط المتتالي في نظم الحياة كافة لم يجعل المختصين يبرزون أدباً خاصاً بالأطفال وبالذات الرواة الذين دونوا الأدب العربي بعد روايته، مما جعل الناس يعيشون في حيرة من أمرهم تجاه هذا الموضوع الشائك والمهم في آن معاً. إذ لم يصلنا إلا تلك المقطعات التي دونها المختصون من أغاني الكبار للصغار وهم يرقصونهم بواسطتها. وكان للعرب نصيب موفور من هذه المقطوعات الشعرية اشتهرت في أخبارهم، وأثرت عنهم في مجالسهم ومنتدياتهم ومنازلهم، وكانوا يتخذون هذا الترقيص بالغناء وسيلة ترفيه وتسلية

    (1/11219)

    للطفل. وبجانب ذلك، كانوا يبتغون به غرس جميل الخصال وحميد الفعال في ذهنه قبل أن يشتد عوده ويكبر. وقد تمكنت منه الأخلاق ونقشت في مخيلته الصفات وانطبعت في قلبه القدوة(1). ومن خلال ذلك نستطيع الجزم بأن العرب كانوا على دراية هامة وفاعلة بأصول التربية وقواعدها وقيمها، وكذلك أهمية الأدب تجاه خلق قاعدة صلبة في القيم والثقافة التي يريدون توصيلها لأطفالهم. فهم لم يجعلوا النصوص تسير وفق منهج واحد أو رؤية واحدة، بل تعددت

    __________

    (1) أحمد عيسى، الغناء للأطفال عند العرب، المطبعة الأميرية، بولاق، 1936، ص. 3.

    (1/11220)

    أنماطها وأهدافها من أجل صفاء الروح وارتياح العواطف واطمئنانها، وإذكاء روح الخيال البناء كي يتم تزويدهم بالمعلومات والأفكار التي خطط لها وفق منهج وأسلوب مؤكدين، زيادة على المعلومات العلمية والتمسك بالروح الوطنية التي تجعلهم يفاخرون بالانتماء إلى أمة متجددة.

    ... وهذا ما نستشفه أيضاً من تصرف القبائل في ميلاد شاعر أو فارس، حيث كانت ”القبيلة إذا نبغ فيها شاعر، أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، لأنه من حماة أعراضهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد وشاعر ينبغ أو فرس

    (1/11221)

    تنتج“ (1).

    ... هذا التعلق بالطفولة جعل عواطف الشعراء تستجيب للحدث فيما يخص الأولاد. فالمصاب يكون كبيراً ـ لا فرق في ذلك بين كبير وصغير ـ إذا اختطف الموت أحد الصبية كما فعل جرير في رثاء ولده ”سوادة“:

    قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم

    لكن سوادة يجلو مقلتي لحم

    قد كنت أعرفه مني إذا علقت

    إلا تكن لك بالديرين باكية

    من للعرين إذا فارقت أشبالي

    باز يصرصر فوق المرقب العالي

    رُعن الجياد ومد الغاية الغالي

    __________

    (1) السيوطي، المزهر، ج 2، طبع الحلبي بمصر، ص. 473.

    (1/11222)

    فربَّ باكية بالرمل معوال(1)

    ... واستمر الأمر مع البيئة العربية، إذ يعبر كل إنسان عن العلاقة مع الأطفال بطريقة يراها مناسبة تصور نهجه وثقافته ومدى الفاعلية التي يخلقها نصه. لكن عملية بكاء الأبناء قد توجها ابن الروميّ برائعته التي تفور حزناً وألماً وصدقاً في التعبير واللفظ وكل شيء في نسج هذه المودة بينه وبين أبنائه الذين فقدهم في حياته: ”هبة الله ومحمد وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه، ماتوا جميعاً في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد

    __________

    (1) جرير، ديوان جرير، دار صادر، بيروت، ص. 345.

    (1/11223)

    أبناءه“(1).

    بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي

    توخى حمام الموت أوسط صبيتي

    على حين شمت الخير في لمحاته

    لقد قلَّ بين المهد واللحد لبثه

    ألح عليه النزف حتى أحاله

    وظل على الأيدي تساقط نفسه

    جوداً فقد أودى نظيركما عندي

    فلله كيف اختار واسطة العقد

    وآنست من أفعاله آية الرشد

    فلم ينسَ عهد المهد إذ ضم للحد

    إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد

    __________

    (1) عباس محمود العقاد، ابن الرومي. حياته من شعره، دار الكتاب العربي، بيروت، 1968، ص. 23.

    (1/11224)

    ويذوي كما يذوي القضيب من الرند(1)

    ... هذه الشفافية والصدق الذي نلمسه لا تجده في نصوص كثيرة، لأن هذا النص يجعلك تشعر بمصاب أليم ينقاد له الإنسان بعواطفه وفكره، والشاعر يضع الإبهام على الجرح ويقول هذا هو مكمن الألم، لذا يؤكد أن البكاء إحدى وسائل الشفاء والتقليل من تبعات الألم والحزن. إلا أنه لا يعيد الأمر إلى نصابه، وكذلك لا يستطيع أحد إدامة البكاء، لأن المسألة ليست بهذه السهولة: فهي ليست قراراً مادياً

    __________

    (1) محمد النويهي، ثقافة الناقد الأدبي، ط 2، مكتبة الخانجي، بيروت، 1969، ص, 345 وما بعدها.

    (1/11225)

    يتخذه الإنسان؛ فقد لا تستجيب حاسة الدمع لمطلب الإنسان. فيزداد نكده وهمه على الدوام. لذا تكون العين وسيلة شفاء، لا طريق خلاص من الألم.

    ... من هنا نقول إن مثل هذه العواطف والدموع لا تصدر إلا عن نفس ملتاعة. وهذا يرينا جلل المصاب في الابن، لأنه جزء متتال من الإنسان نفسه. إلا أن هذا الأمر لا يجعلنا نستعيض بهذه الأشعار عن أشعار خصصت للأطفال مهما كانت رقتها وجدواها. إن مشاعر ابن الرومي تمثل مشاعر أي إنسان صادق أصيب بإحدى فلذات كبده ونفسه. لذلك يتيقن لنا مدى أهمية النص الشعري لدى العربي حتى نسمع ونقرأ

    (1/11226)

    عن قادة هذه الأمة وهم يوصون مربي أولادهم كي يعلموهم الشعر: فهو ميزان القول وصناعة الأمة في بداية عهدها. والحاجة إلى التعبير الصادق جعلت العرب تقول شعراً كما فهم صاحب "العمدة"، لأن كلامهم كان منثوراً حتى احتاجوا إلى الغناء:

    ... فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقهم وطيب أعراقهم وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد وسمحائها الأجواد لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم. فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام. فلما تم لهم وزنه، سموه شعراً لأنهم شعروا به، أي فطنوا(1)

    __________

    (1) ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ج 1، بيروت، 1972، ص. 16.

    (1/11227)

    .

    وأخذ بهذه الوصية الإمام الغزالي رحمه الله وزاد عليها ”أما الإمام الغزالي، فيرسم الطريق واضحاً ويؤمن على قول من سبقه مضيفاً إلى ذلك أحاديث الأخبار وحكايات الأبرار“ (1). من هنا جاء كتابه "أيها الولد" معبراً عن موقفه في التربية وأثر الإسلام في موضوعاتها، إذ يعد كتابهُ معلماً واضحاً لرؤية فلسفية تحقق بعض السعادة للأطفال من خلال بيان حقوقهم وواجباتهم. ولحق به ابن خلدون صاحب الفلسفة والتفكير المنطقي.

    __________

    (1) محمد الشنطي، في أدب الأطفال، ص. 172.

    (1/11228)

    ... ولا يقف هذا الأمر عند هذا الحد، بل استمر بنقليات عدة. لكننا لا نجد نصوصاً أدبية بمفهومها الشمولي والمستقل معدة للأطفال إلا ما يتلمسه المرء في مسرح خيال الظل وأولياته عند الفاطميين كما سنورد ذلك في حينه. ونعتقد أن السبب الرئيس لعدم استقلالية نص أدبي كما هي النصوص في يومنا يعود لأسباب منها:

    ... 1 ـ أن الضياع الذي تعرض له تراثنا العربي بسبب الحرق والدمار والحروب وغير ذلك أدى إلى فقدان الشيء الكثير من أدبنا وفكرنا.

    (1/11229)

    ... 2 ـ أن من قام على رواية الأدب والثقافة العربية وتدوينها أظنهم أغفلوا مثل هذا الأمر (النصوص إن وجدت). وذلك مرتبط بالبنية المجتمعية للوطن والمواطن في البلاد العربية.

    ... 3 ـ أن طبيعة البنية الاجتماعية كانت تنظر إلى الطفولة بصفتها مرحلة انتقالية، أي هي بمثابة معبر وجسر ليس غير. لذا كانت القبائل العربية توفد أبناءها للصحراء من أجل صلابة الأجساد وفصاحة اللسان وملكة القول والبيان.

    ... 4 ـ أن ما سبق يؤكد عدم اهتمام العرب، ولا سيما في العصور اللاحقة للإسلام، بشيء اسمه أدب أطفال، وذلك نتيجة للصراع

    (1/11230)

    القائم والشدة التي يحتاجونها، بحيث نجدهم يسمون أولادهم بأسماء صعبة خشنة فيما يسمون جواريهم وخدمهم بأسماء رقيقة عذبة حتى قال أحدهم بعد أن سئل عن ذلك: ”خدمنا لنا، وأولادنا لعدونا“. بهذا كانوا يعتقدون أن الطفولة مرحلة مكملة للرشد أو معبر لها، وكأنهم لا يريدون هذه المرحلة. ففاقد الشيء لا يعطيه، بمعنى إذا كان الأطفال بعيدين عن أسرهم وبيئاتهم وكذلك يعدون جسدياً ونفسياً كي يكونوا أقوياء لملاقاة الأعداء فكراً وجسداً، فلم يكون النص الإرثي المحبب لديهم. وهذا ما ينطبق على جل الحضارات السابقة باستثناء

    (1/11231)

    الحضارات العربية في العراق ومصر التي عرفت قبل آلاف السنين.

    ...

    أدب الأطفال عند العرب في العصر الحديث

    ... لم يحدد قطعاً تاريخ بدء عصر النهضة في الوطن العربي. إلا أن بعض الباحثين يجعل ذلك متمثلاً في الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 م، في حين نرى من يعتقد بأن عصر النهضة يبدأ مع أول بعثة علمية أرسلها المصريون زمن محمد علي إلى أوروبا وكان ذلك عام 1824 م. ويبتعد آخرون عن هذين التاريخين ويضعون عام 1908 يوماً للنهضة العربية، وتمثل في إعلان الدستور العثماني الذي ساوى بين القوميات والديانات والثقافات،

    (1/11232)

    مما حدا بالشعوب الخاضعة لتركيا إلى تأييد هذا الدستور وإعلان ذلك صراحة دون مواربة. والذي نميل إليه أن بوادر النهضة لم تتمثل في تاريخ محدد من التواريخ المذكورة، بل نجدها قد ظهرت نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، غير غافلين عن أثر تلك الأحداث والسنين التي مرت وعصفت بالوطن العربي أرضاً وشعباً وتراثاً وثقافة. إلا أن الأساس ينبع من روحية الشعب الذي تتجسد فيه العملية التواصلية والشوق للحرية واللحاق بالركب الحضاري والإنساني.

    (1/11233)

    ... إن المتتبع للمسيرة الحياتية للوطن العربي يجدها قد عكست على الأدب أيضاً وبالذات أدب الأطفال، لأن ما دون من أراجيز وأغاني لترقيص الأطفال لم يكن ليعد أدباً معداً للأطفال. ومثل هذا ليس عيباً أو خذلاناً لتاريخ أمة يمتد لآلاف السنين، وإنما يعود لعوامل عدة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. إلا أن الخير وتوابعه كان يشكل محور الحكايات والقصص التي تسرد للطفل العربي المسلم، والتي تحمل في طياتها فلسفة التقوى والمحبة والاندفاع صوب عمل الخير.

    (1/11234)

    ... وبما أن النهضة الأوروبية أسبق إلى الوجود من النهضة العربية في العصر الحديث، فقد كان أدب الأطفال عند الكتاب الأوروبيين أسبق إلى الحياة من الكتاب العرب، لأن الأدب مطاوع للحياة ومتفاعل معها وليس مصوراً لها فقط. من هنا نقول إن العرب في مطلع القرن التاسع عشر قد بدأوا يفكرون ملياً وجدياً في خلق أدب له فلسفته الخاصة بمراحل الطفولة كلها من أجل بناء مجتمع يعتمد على نهضة فكرية علمية لا شكلية قشرية. بهذا نجد أن الفارق قرنان من الزمن بين ظهور الأدب العربي المعد للأطفال ونظيره الأوروبي. فالسبق دائماً

    (1/11235)

    لمن يتقدم في أوليات النهضة وتسخر الحياة ومعطياتها من أجل الحياة المتطورة. وهذا ليس غريباً حقاً، لأن أول كتاب نقدي منظم بمنهجية علمية مبوبة ظهر على يدي ابن سلام الجمحي في القرن التاسع للميلاد، في حين لم يكن الأوروبيون يعرفون معنى لكلمة النقد. وكانت أوروبا تتخبط في الحروب الداخلية وطغيان الإقطاع، إلا أن الحضارة العربية وصلت إلى أوروبا بطرق شتى، وبالذات عن طريق طلبة العلم الوافدين للأقاليم العربية آنذاك، مما جعلها قاعدة مثلى لانطلاقة الحضارة الأوروبية في إبان عصر النهضة الأوروبي الحديث. وليس مثل

    (1/11236)

    ذلك بجديد، لأن امتزاج الشعوب واختلاط الأجناس وتداخل الحضارات والثقافات يؤدي إلى نهضة مؤكدة في الأمة التي تريد ذلك. مع إرسال أول بعثة عربية مصرية إلى أوروبا في زمن محمد علي، أخذت الثقافة العربية تتلاقح مع الثقافات الأوروبية وبالذات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية فيما بعد. وبهذا، نقول إن أدب الأطفال بدأ يدخل قلوب العرب وعقولهم عن طريق طلبة البعثة العربية المصرية (إذ ظهر في البلاد العربية ـ زمن محمد علي باشا في مصر ـ مترجماً)، ونتيجة لاختلاط الأدباء والشعراء العرب بأدباء وشعراء الغرب. وكان أول من

    (1/11237)

    قدم كتاباً مترجماً عن اللغة الإنجليزية إلى الأطفال هو رفاعة الطهطاوي الذي كان مسؤولاً عن التعليم في ذلك الوقت. وكان الطهطاوي مربياً فاضلاً ومثقفاً ثقافة عربية إسلامية: فهو قد تخرج في الأزهر الشريف، ثم ألحقه محمد علي بالبعثة العلمية مرشداً روحياً لها. وكان أدب الأطفال قد وصل أوجه في فرنسا وتمثل في كتابات تشارلز بيرو. عندئذ بدأ الطهطاوي بترجمة هذه الآداب المعدة للأطفال. فترجم قصصاً تعد من حكايات الأطفال، وأدخل قراءة القصص منهاجاً في المدارس المصرية(1)

    __________

    (1) علي الحديدي، الأدب وبناء الإنسان، جامعة ليبيا، 1973، ص. 230.

    (1/11238)

    .

    ... ولم ينحصر دور الطهطاوي في الفترة التي كان فيها ملازماً للبعثة في فرنسا، بل تعداها إلى ما بعد عودته إلى وطنه مصر، وأصبح مسؤولاً عن التعليم. لقد أصبح يعي ما يفتقر إليه أطفال أمته وما يعانونه من جدب وفقر وحرمان في هذا الباب: لقد كان على علم بما يعانيه الأطفال العرب من جدب في الخيال، وفقر إلى التسلية الرفيعة، وقحط في الترفيه التراثي. استعان بكتب الأطفال الأجنبية وأمر بترجمتها ليقرأها التلاميذ المصريون. وكان رفاعة جاداً في أن يستعين في سياسته التعليمية بما يوضع أو يترجم من كتب حديثة. ومن ذلك

    (1/11239)

    ما كتبه لوكيل الحكومة المصرية المقيم في لندن سلحدار إبراهيم باشا بأن يرسل كتباً مطبوعة ومؤلفات للصغار والتلاميذ بحيث تميل أذهانهم إليها(1).

    ... إلا أن أدب الأطفال خفت ضوؤه، بل كاد أن يتلاشى بعد وفاة رفاعة الطهطاوي؛ إذ تدهور التعليم في مصر إلى حد كبير، مما جعل هذه الجذوة من الأدب تخفت وتكون من المنسيات تقريباً. فلم يهتم أولو الأمر بالعلم بوجه عام. فتضعضع أدب الأطفال، لأنه من الاهتمامات الحديثة العهد إلى حد ما. وبما أن أدب الأطفال صعب

    __________

    (1) علي الحديدي، في أدب الأطفال، المصدر السابق، ص. 243.

    (1/11240)

    المراس ويحتاج إلى متمرسين بأمور شتى من الحياة زيادة على الميل النفسي والروحي، فقد ابتعد عنه جل الأدباء. لكن العملية لم تنعدم تماماً؛ فقد ظهر الكاتب محمد عثمان جلال في حكاياته تحت عنوان "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ". وهذه الحكايات جاءت خليطاً من البناء المعرفي والثقافي والتاريخي: إذ نجد روحية الأدب الفرنسي و"حكايات" لافونتين إلى جانب مرويات "ألف ليلة وليلة" وغيرها مما جاءت به الذاكرة المصرية عبر الأفواه والقصص الشعبي المتداول. وكما يعتقد الدكتور محمد غنيمي هلال، فإن ”هذه الحكايات يمكن أن

    (1/11241)

    تكون موضوعاً لدراسة معمقة في الأدب المقارن“(1).

    ... وعلى الرغم من هذا التوجه الذي جاء به العلامة جلال، فإن المتتبع لا يجد قيمة حقة ـ من حيث الميول والمحاكاة للأطفال ـ في حكايات محمد عثمان جلال، وإنما هي عبارة عن أبيات منظومة حوت معلومات وأفكاراً وثقافات متعددة لم تخصص لمرحلة عمرية معينة؛ إلا أن مستواها العام أقرب إلى فكر وعقل الكبير منها إلى الطفل الصغير. لذلك نعتقد أنها أهملت ولم تحسب على أدب الأطفال، نظراً لركاكة أسلوبها وما تضمنته من

    __________

    (1) محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، صص. 176 ـ 177 وغيرها.

    (1/11242)

    أخطاء لا توصف قد تضر ببنية الطفل العلمية والأدبية أكثر مما قد تفيده، لأن الأطفال يتلقفون معلوماتهم دون تمحيص، ولا سيما في مراحلهم العمرية الأولى؛ وبذلك تكون السلبية فيها أكثر من الإيجابية.

    ... وتلا جلال الكاتب عبد الله فريح بما قدمه في كتابه "نظم الجمان من أمثال لقمان" والذي يضم خمسين أرجوزة تقريباً. والذي يقرأ العنوانين السابقين يجد الكاتب قد تمسك بالسجع على طريقة المتأخرين في اختيار العنوانات. وهذه الأراجيز عبارة عن معلومات أقرب إلى ذوق الكبار منها للصغار، وبهذا تكون حكايات جلال أقرب إلى

    (1/11243)

    الطفولة من أراجيز عبد الله فريح، وكان ذلك عام 1893، أي بعد صدور حكايات جلال.

    ... إلا أن أدب الطفولة عند العرب قد بدأ فعلاً على يدي الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي تثقف ثقافة عربية إسلامية قبل ذهابه لفرنسا لدراسة الحقوق، ومن ثم تثقف بالثقافة الأوروبية، والفرنسية منها على الخصوص. وهذا ما عناه طه حسين في كلامه عن شوقي: فحينما ”ذهب إلى فرنسا في آخر القرن الماضي إذا ذكر الشاعر، ذكر لمارتين و"بحيرتـ"ـه التي ترجمها إلى العربية أو ذكر لافونتين وأساطيره؛ وإذا ذكر الفلسفة، ذكر جون سيمون. ومن المحقق أن آثار

    (1/11244)

    لامارتين ولافونتين آيات من الأدب الفرنسي“(1).

    ... إن تطعيم شوقي لثقافته جعلت منه إنساناً متمرساً إلى حد كبير، وبالذات في الموضوعات التي تحتاج إلى ثقافات مزدوجة كما هو أدب الأطفال والمسرح. وهذا لا يعني أن شوقي لم يكن مجيداً في الفنون الأخرى، بل يعد شاعراً عربياً من الطراز الأول في العصر الحديث.

    ... من هنا نقول إن ثقافة شوقي العربية الإسلامية جعلت منه إنساناً ميّالاً إلى حب المعرفة والتجديد. وبذلك توجه صوب أدب الأطفال الذي يحتاجه

    __________

    (1) طه حسين، حافظ وشوقي، ط 4، مكتبة الخانجي، مصر، 1958، ص. 100.

    (1/11245)

    الوطن العربي إلى جانب احتياجاته في ضروب الحياة الأخرى من فكرية وعلمية وثقافية وغيرها. فبدأ ممارسة الكتابة للأطفال، إذ قال:

    ... وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب لافونتين الشهير. وفي هذه المجموعة القصصية التي صدرت عام 1898 شيء من ذلك. فكنت إذا فرغت من وضع أرجوزتين أو ثلاث، أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئاً منها، فيفهمونها لأول وهلة ويأنسون إليها ويضحكون من أكثرها، وأنا أستبشر لذلك. وأتمنى لو وفقني الله لأجعل للأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المستحدثة منظومات قريبة

    (1/11246)

    المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم(1).

    ... وقد اعتمد شوقي الحكمة وإيصال المعرفة بأسلوب غنائي جميل وبكلمات رقراقة فاعلة، مما يجعلنا نشعر بغنائيته الطافحة حتى في مثل هذه المواقف. إلا أن نتاج شوقي، ولا سيّما الحكايات البالغة أربعاً وخمسين حكاية لم تكن جميعها معدة للأطفال، وذلك لأسباب عدة منها رمزيتها والتعريض بها أو أسلوب الجنس فيها والتعقيد الذي نلمسه في ثنايا بعضها. وهذه الأمور وغيرها جعلت الدارسين لها يميزون ما يصلح

    __________

    (1) أحمد شوقي، الشوقيات، ”المقدمة“، دار الكاتب العربي.

    (1/11247)

    للأطفال وما لا يصلح، بمعنى أنه أعلى من مستوياتهم وثقافاتهم. والسبب يعود إلى من جمعها: إذ جمعت وطبعت في الجزء الرابع من "الشوقيات"(1).

    ... وشوقي بحدسه وبطبيعته الإنسانية وميله الأدبي عرف ما للأدب من قيمة لدى الأطفال، فكان نتاجه إليهم. وما استخدامه الحيوانات والحديث باسمها إلا دلالة واضحة وذكية منه على فهم نفسية الطفل، علماً بأن شوقي لم يكن المبتدئ في هذه النتاجات الأدبية على لسان الحيوان، وإنما وجدت من زمن الحضارات العتيقة (عربية وهندية

    __________

    (1) ... انظر الشوقيات، الجزء الرابع، صص. 94 ـ 158.

    (1/11248)

    وغيرها). وما كتاب "كلية ودمنة" سوى أحد الشواهد على ذلك. فالحيوانات، بصداقتها المتنوعة مع الأطفال، تشكل جسراً فاعلاً وناطقاً في نقل المعرفة، فهي تشكل الجوانب المتعددة من صورة الطبيعة وتقلباتها.

    ... من هنا جاءت دروس العظة والأخلاق الحميدة والتهذيب النفسي في أناشيد شوقي وحكاياته. فهو سبيل فاعل وبناء في تهذيب النفوس وإرشاد الضمائر والعقول صوب الخير الفاعل، فكان يأتي بالصورة ونقيضها كي يقرب المراد إلى الأطفال بصور مشوقة ويعرفهم الخير والشر وكلاهما يسيران جنباً إلى جنب في دهاليز الحياة ونظمها مع

    (1/11249)

    الإنسان. وبذلك نجد شوقي وقد أخذ ينظم حكاياته وفق الأمثال والحكم والقصص المتداولة والمعروفة لدى الناس في مجتمعنا العربي تقريباً. ومن منظوماته الشيقة والفاعلة قصيدة ”اليمامة والصياد“ التي حاول إيصال مقولة مشهورة بواسطتها، وهي ”مقتل المرء بين فكيه“ أو ”لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك“ و”من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه“.

    يمامة كانت بأعلى الشجرة

    فأقبل الصياد ذات يوم

    فلم يجد للطير فيه ظلاّ

    فبرزت من عشها الحمقاءُ

    آمنة في عشها مستترة

    وحام حول الروض أيّ حوم

    وهم بالرحيل حين ملاّ

    (1/11250)

    والحمق داء ما له دواء

    يا أيها الإنسان عما تبحث؟

    ونحوه سدد سهم الموت

    ووقعت في قبضة السكين

    ”ملكت نفسي لو ملكت منطقي“

    تقول جهلاً بالذي سيحدث

    فالتفت الصياد صوب الصوت

    فسقطت من عرشها المكين

    تقول قول عارف محقق:

    ... ففي هذه المقطوعة الجميلة يبدأ الشاعر بالإخبار حول مكانة اليمامة وعلاقتها بمحيطها، وكيف كانت مستقرة آمنة البال والخاطر بعلاقتها بالعش الذي صنعته بغريزة الحياة والأمل الآتي. إلا أن هذا الأمل قد تشوبه شوائب وتحول دونه عواقب جمة ووخيمة. وتمثل ذلك في بحث الصياد عن فريسة يكون من السهل

    (1/11251)

    اقتناصها، علماً بأن عملية البحث تلك لم تكن ميسورة أو سهلة في أي حال من الأحوال، حتى غدت من المستحيل، إذ أراد الصياد مغادرة المكان لعدم توافر ما يبتغيه؛ لكن تدخل المخلوق في ما لا يعنيه يجعله يهوي في مهالك الردى. وهذا ما تمثل مع الباحث والمبحوث عنه (الصياد واليمامة). وتأتي هنا العملية التكاملية في كيفية سقوط الضحية، وإن كانت هي السبب في ذاك السقوط المتمثل في عدم امتلاك المنطق أو أسس التفكير. وجاء ذلك عن طريق السؤال الذي هو وسيلة السقوط ونهاية حياة مبحوث عنها كي تنتهي وقمين بالطرف الآخر الحفاظ

    (1/11252)

    عليها. لذلك تعانقت الأضداد، فهوت إلى مكان لم تكن لتنزل فيه لولا تدخلها في لحظة اليأس من الطرف الآخر كي ينتظر الجاني ضد ضحية معدة أصلاً لتكون كذلك، علماً أنها قد تسببت في حصول ما لم تحمد عقباه، ألا وهو ”الوقوع في قبضة السكين“ الذي هو بمثابة نتيجة مؤكدة لتصرفها اللاإرادي أو الساذج. وكان الشاعر يريد القول: ”من فعل شيئاً بلا إرادة مع إنسان لا يستحق ذلك، كانت النتيجة عكسية“، ويرينا أيضاً مدى إصرار الصياد على الحصول على صيده الذي يبحث عنه لتتماثل الصورة وتكون اليمامة الضحية وتصرفها قد أوقعها في ذلك.

    (1/11253)

    ... والذي يتتبع نتاج شوقي المعد للأطفال يجد نفسه أمام تجربة ناجحة إلى حد كبير من خلال النصوص التي تتلاءم مع روحية الطفل وذهنيته وسلوكاته اليومية. إلا أن نتاج شوقي لم يخل من نقد أو تجريح إلى حد ما كما هي عادة محترفي صنعة الأدب والفن، بل كما هي عادة المرسل والمستقبل أبداً ما دام النقد فاعلاً أو نشطاً. كما تعرض شوقي للنقد الأدبي من قبل العقاد في نتاجه بشكل عام كذلك، علماً أن العقاد قد تحامل على شوقي كثيراً وكأنه يحمل فكراً مبيتاً ضد شوقي(1)

    __________

    (1) العقاد والمازني، الديوان، ط 3، مطبعة الشعب، القاهرة، ص. 77.

    (1/11254)

    . وعلى الرغم من موقف العقاد أو انتقاده لشوقي، فقد بقي شوقي يعي ما يقول في النهج والبناء الأدبي. وكذلك ما فعله النقاد مع نتاج شوقي المعد للأطفال لم يثنه عن عزيمته تجاه ما يصنع، وكان صريحاً يعي ما يصنع. لذلك قالوا إنه يمهد نفسه ويأخذ الأشياء من أقربها ولا يوجد عمق فلسفي في ما كتب ولا عمق وابتعد عن التوجهات العامة للأدب العربي(1).

    ... من حقنا القول هنا إن شوقي كتب بفلسفة واضحة للأطفال وتبنى فكراً له قيمه وثوابته المعقولة التي لا غبار

    __________

    (1) شوقي ضيف، شوقي شاعر العصر، القاهرة، 1963، صص. 87 ـ 88.

    (1/11255)

    عليها. وأما ما قيل عن استخدامه الموضوعات الخالية من الفكر والعمق الفلسفي، فنقول إن هذا الأمر فيه تجن كبير، أو ربما قيل من أجل بيان رأي ليس غير. فالنصوص التي بين أيدينا نحن الدارسين للأدب تؤكد صحة موقف شوقي التربوي والتعليمي من خلال نصوصه. وهذا ليس جديداً، حيث يحاكي أدب الأطفال البساطة والميول النفسي للطفل وإبراز مقدرته الذهنية والعقلية. زيادة على ذلك، نجد طبيعة الخلق الإبداعي في النص الأدبي العربي قد أخذت تقترب من روحية العصر وثقافاته وابتعدت عن التقليد المميت القاتل. فالفلسفة التي يريدها

    (1/11256)

    النقاد هي غير الفلسفة التي تبناها شوقي؛ لذلك جاءت قصصه خالية من الفلسفة المغرضة والتعقيد كما نص شوقي على ذلك(1) وكما نجد بعض الدارسين يعلل تلك المنهجية التي تبناها شوقي في كتاباته القصصية، حيث جعل روحية شوقي وعالمه الطفولي هما الدافعان للكتابة وليس قراءاته للقصص الغربي المنسوج على لسان الحيوان للأطفال كما هي "حكايات" لافونتين. ولم يكن لأشعار لافونتين من فضل سوى أنها بعثت في شوقي روحية الماضي واستحضار عالم الطفولة، كي يعبر عنها شعراً له قيمهُ وثقافته. من

    __________

    (1) الشوقيات،”المقدمة“، المصدر السابق.

    (1/11257)

    هنا جاء نظمه ليعبر عن ذاته. وهكذا وصلت إلينا "شوقيّاتـ"ـه ولم تكن تقليداً لأدب كما عرف في أوروبا وكما هي مواصفات أدب الطفولة، بل جاءت استجابة لروحيته وعفويته حتى أصبحت سحابة تظلِّلُ أطفال العرب في كل مكان(1).

    ... إن هذه الروحية التي تبناها شوقي ـ كما يعلل كمال النجدي ـ ليست صائبة إلى حد ما. وحسبنا في ذلك هذا التطور التتابعي الذي نلمسه في نتاجات شوقي الأدبية. وما حكاياته وقصصه إلا جزء من أدبه؛ ليس من السهل علينا الأخذ بهذا الرأي،

    __________

    (1) كمال نجدي، مجلة الهلال، العدد 11، السنة 76، أول أكتوبر 1968.

    (1/11258)

    لأن طفولة شوقي الشعرية لم تخلق مثل هذا النتاج. فأدب الأطفال يحتاج إلى مراس وفلسفة واقتناعات قبل كل شيء. وكذلك نجد النجدي يغالط شوقي نفسه، إذ اعترف بأهمية "حكايات" لافونتين من خلال مقدمته للـ"ـشوقياّت"، ونرى مدى تأثر لافونتين بكتاب "كليلة ودمنة" الذي ترجم أصلاً عن اللغة الهندية العتيقة ومن ثم إلى العربية بعد الفارسية. وهذا يؤكد لنا أهمية المصدر الأساسي وباللغة العربية. فمن الأجدر بشوقي أن يتأثر بالاثنين معاً، فيما أن لافونتين قد تأثر بـ"كليلة ودمنة" وشوقي تأثر به. فهذا يجعلنا نتأكد من تأثير

    (1/11259)

    "كليلة ودمنة" في أحمد شوقي. لذلك جاء النتاج قريباً إلى نفوس الدارسين لهذا النتاج الفاعل والباني معاً(1).

    ... وكما أكد غنيمي هلال، فإن "حكايات" لافونتين تعد ثروة لها قيمتها في بحث الأدب المقارن. ومثل هذا يمكن أن يكون محور الدراسات المقارنة بين الأداب، وإن كان لأدب الأطفال صلاته عبر النظم والأفكار والفلسفات، الوافدة منها والمقيمة في البلاد أصلاً.

    __________

    (1) عبد الرحمان بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، بيروت، 1965، ص. 20.

    (1/11260)

    ... ولم يكتف شوقي بحكاياته للأطفال، بل جعل نصيبه وافراً في الأناشيد. فقد ألف عشر مقطوعات بين أغنية وأنشودة. وقد برع شوقي في كتابة بعض الأغاني والأناشيد؛ إلا أن أناشيده لم تصل إلى المستوى المطلوب، وذلك للقيمة اللغوية العالية والأسلوب الرفيع الذي جاءت به تلك الأناشيد. فحصيلة الأطفال اللغوية قد لا تسعفهم في تفهم تلك الأناشيد زيادة على الصنعة الطاغية على بعضها والشعور الباهت وجذب العواطف كما أكد ذلك سعيد العريان في مقدمته للـ"ـشوقيات" في الجزء الرابع، مما حدا بالأطفال إلى العزوف عنها. وبذلك لم تصل

    (1/11261)

    للمستوى المطلوب كما هي الحكايات على لسان الحيوان.

    ... وقد جعل هذا الأمر شوقي يبحث عن نديم وصديق له ثقافته كي يسيرا معاً في هذا الدرب الشاق والطويل من أجل إسعاد طفولة وطن فقد الشيء الكثير: ”وكتب شوقي لصديقه خليل مطران، الشاعر والأديب، يناشده السير معاً في هذا النوع من الأدب ويأخذ من أسلوب الغرب ونهج العرب، ولكن مطران ترك هذا التنوع من الأدب لشوقي“(1).

    ... ويجعلنا مثل هذا نحس أن الكتابة للأطفال ليست سهلة وأن كاتبها لا يبحث ـ فيما أظن ـ عن شهرة

    __________

    (1) الطفولة في الشعر العربي الحديث، ص. 110.

    (1/11262)

    لصعوبتها. لذا لم يستجب مطران الأديب والفنان لدعوة شوقي. إلا أن ظهور محمد الهراوي جعل هذا الأدب يرتفع للأعلى: فقد كتب "سمير الأطفال للبنين" ثم "سمير الأطفال للبنات"، وكتب لهم أغاني وقصصاً منها "جحا والأطفال" و"بائع الفطير". وكانت جميع كتاباته النثرية والشعرية واضحة(1). وعلى الرغم من هذا الوضوح والتأثير كما نلمسه من وجهة نظر الباحثة، فإنه لم يسلم من النقد والتجريح. وهذا ليس غريباً. فكل جديد له مؤيدوه ومعارضوه في

    __________

    (1) هيفاء شرايحة، أدب الأطفال ومكتباتهم، ط 2، المطبعة الوطنية ومكتبتها، عمان، ص. 29.

    (1/11263)

    كل الأزمنة والأمكنة. والحقيقة تؤكد نجاح الكيلاني في إيصال عواطفه وأفكاره إلى الشريحة المطلوبة، حيث كان الولد الرابع عشر لأسرته. وهذا الأثر ظهر عندما استضاف أبوه عائلة يونانية من الجيران بعد أن توفي عائلها. وبقيت الأم وفتاتان بلا مأوى، ودخلت الأسرة الأسطورة الإغريقية في طفولة الكيلاني المبكرة (1). ولا ننسى دور الأم الفاعل في صقل شخصية الكيلاني: فقد رعته رعاية خاصة لكونه الصغير في إخوته مع كبر حجم

    __________

    (1) انظر سعيد لطفي، ”مشكلة كتاب الطفل وكيف يمكن مواجهتها“، مجلة النهضة، عدد 478، 1976، الكويت.

    (1/11264)

    الأسرة، إذ يجعل الأم تعطي وليدها الصغير رعاية أفضل وأكثر أو ربما يصبح الضدُّ سائداً، فيكون الإهمال نصيبه. إلا أن الكيلاني أخذ الجانب الأهم من الرعاية: فقد كانت تسدل عليه ما حفظته ذاكرتها من قصص وخيال وأحاديث روتها عبر الأيام، وكذلك ما للمعلم من أهمية فاعلة في بناء فكره وثراء معلوماته. لذلك تبلورت شخصيته على يد الشاعر الشيخ محمود الملاح وعبد الغني النابلسي(1). وبذلك كانت شخصيته قوية من الجوانب كافة: فقد أخذ الحنان والرعاية وبناء

    __________

    (1) هيفاء شرايحة، أدب الأطفال ومكتباتهم، المصدر السابق، ص. 29.

    (1/11265)

    الشخصية، مما جعله يوفق في بلورة هذه الأمور جميعها في مقطوعة شعرية تظهر موهبته وحدسه.

    لم أكن أنطق حرفا

    في سكوني ليس يخفى

    أقبلت أبسط كفّا

    لم أحوّل عنه طرفا

    للذي يظهر عطفاً

    أستطيع القول صرفا

    المعروف ألفا(1)

    حينما كنت وليدا

    إنما كان مرادي

    كنت إن أبصرت أمي

    وأبي قد جاء عندي

    وابتسامي كان عطفاً

    وأنا الآن صبي

    فأحيي بلسان صاحب

    __________

    (1) مجلة الأقلام، العدد الثالث، السنة الخامسة عشرة، دار الجاحظ، بغداد، 1979، ص. 47.

    (1/11266)

    ... هذا الإقرار الفاعل من الشاعر يجعلنا نستجمع قوانا ونهيء أنفسنا كي نقول الحقيقة، كما أكدها من خلال نصه الشعري. فعلى الرغم من بساطة التعبير وسلاسة الأسلوب، فإنها تشكل لوحة ناطقة بمجريات أحداث الحياة منذ الطفولة حتى الصبا. وهكذا بين العلاقة الودية بين الوالدين والطفل، وأكد تبادلية الحنان من الطرفين. فالطفل آلة لاقطة تعكس ما تراه وتحسه بوضوح. لذلك لا نجد التنميق والصنعة، وإنما البديهة والطبيعة هما الناطقتان هنا، من أجل صورة صادقة فاعلة. فالطفل عندما يستقرئ هذه الأبيات، يشعر بالانتماء لها، لأنها

    (1/11267)

    تمثله وتحثه على الفضيلة. فالإقرار بالمعروف فضيلة لا تنسى: ”فأحيي بلساني صاحب المعروف ألفا“. فالطفل عندما يحس بالمصداقية في الشيء، يتمسك به ويقتدي به دون صعوبة، لأن الصدق يدفع بالآخرين إلى أن يسلكوه، فتكون الحياة طيبة مريحة. فالهدف التربوي واضح جل الوضوح إلى جانب الأهداف الأخرى التي قد يستنبطها المرء من النص.

    ... ويجعلنا هذا الأمر نبحث في نتاجات الكيلاني، فنراها متعددة: إذ جلها تتوزع على القصص والحكايات والأناشيد والفكاهة والأساطير والأدب المترجم والأدب الديني وما يتلاءم مع ذوق الشبان(1)

    __________

    (1) أدب الأطفال ومكتباتهم، المصدر السابق، ص. 31.

    (1/11268)

    .

    ... وتؤكد لنا هذه الأعمال تطور أدب الأطفال شيئاً فشيئاً. فقد انطلق من خطوات بدائية، وامتدت قامته بعض الامتداد على يدي شوقي والكيلاني، ليرفدهما حامد القصبي بمؤلفاته وإن كانت جل مؤلفاته مترجمة من الإنجليزية. وأول كتاب للقصبي كان تحت عنوان "التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل". وعلى الرغم من مهنته، فقد كان صاحب ميول أدبية: فهو مهندس حيث قال عند طبعه الكتاب:

    ... لم أتردد أن أنشر بين الناس كتابي هذا عندما تبينت أن الحاجة ماسة إليه، وذلك لأني في مطالعاتي للكتب الإنجليزية عثرت على عدد كبير من

    (1/11269)

    القصص التهذيبية التي تتضمن الحكمة والموعظة الحسنة في أسلوب شائق وعبارات خلابة، يقصد بها إلى تربية للناشئين تربية خلقية قويمة. فعولت على ترجمتها، لأعطي فيها صورة واضحة لطالبات مدارسنا وطلابها الذين يفيدهم هذا النوع من التهذيب، خصوصاً أن كتب المطالعة العربية التي تتناولها الأيدي الآن خلو من كثير من أمثال هذه القصص. وقد توخيت في الترجمة الاحتفاظ بروح القصة، غير مقيد بالالتزامات الأخرى لتأخذ القصة صبغتها العربية الخالصة التي تلائم الذوق السليم(1)

    __________

    (1) حامد القصبي، التربية بالقصص لمطالعات المدرسة والمنزل، ”المقدمة “، مطبعة النيل، القاهرة، 1925.

    (1/11270)

    .

    ... إن نتاجات الأدباء المذكورين وغيرهم جعل لمصر السبق في أدب الأطفال وطباعة الكتب الخاصة بهم، الأمر الذي حدا بكثير من الناس إلى التوجه صوب هذا الأدب، مما جعلنا نرى الغث والسمين. إلاّ أن القصص والأساطير تأخذ حيزاً واضحاً: فهي تأتي في الدرجة الأولى، يليها الكتب الدينية؛ وهذه القصص لا تخلو من التوجه العلمي. هذا النتاج الأدبي جعل التسابق واضحاً بين دور النشر والمؤسسات في إخراج هذا الفن للوجود، وبالذات مصر ولبنان، ومن ثم العراق الذي أصدر نتاجاً قيّماً كمّاً ونوعاً.

    (1/11271)

    ... ففي لبنان صدر كثيرٌ من كتب الأطفال ودواوينهم، حيث امتازت بالطباعة الأنيقة. وظهر كتاب اهتموا بأدب الأطفال، وعلى رأسهم كارمن معلوف. وظهرت مجلات مصورة بعنوانات مختلفة: "بونازا" (1900)، "سوبرمان" (1964)، "الوطواط" (1966)، "طرزان" (1967)، "لولو الصغيرة" (1971)، "طارق" (1972)(1).

    ... وفي مرحلة الستينيّات، برزت حركة نشطة تعتني بمطبوعات الأطفال من خلال ”دار الفتى العربي“، هذه الدار التي كان لكثير من الكتاب الدور البارز في إدامتها

    __________

    (1) عبد الغني عبد الهادي، مجلة التربية، العدد 20، 1977، ص. 66.

    (1/11272)

    ونهضتها، منهم زكريا تامر الذي كتب حوالي مئة قصة للأطفال أثارت ضجة عالمية بفنها وتعابيرها عندما ترجمت إلى اللغات الأجنبية. وقد أصدر مجموعته التي بهرت بجمالها وعمقها وثراتها القراء الأجانب قبل العرب (1).

    ... ومن الكتاب العرب في سوريا الذين رفدوا المكتبة بنتاجاتهم الشعرية والنثرية عادل أبو شنب وسليم بركات، وسليمان العيسى الذي برز في هذا المضمار شعراً غنياً بمضامين متعددة. وقد أصدر العيسى عدة مجاميع أدبية تخص الأطفال منها: 1 ـ ديوان الأطفال، وهو ديوان يتألف من خمسة وثلاثين نشيداً

    __________

    (1) المرجع نفسه.

    (1/11273)

    وخمس مسرحيات. 2 ـ المستقبل (مسرحية غنائية). 3 ـ النهر (مسرحية غنائية). 4 ـ أناشيد الصغار ـ القطار الأخير. والذي جعل الكتاب في سوريا يتوجهون إلى كتابة أدب الأطفال أمور كثيرة، منها اللحاق بركب التوجه الصائب كما هو الحال في مصر، وكذلك الإقرار بالحرمان الذي يعيشه الطفل العربي. فكما يقول عادل أبو شنب:

    ... كان الأطفال في الماضي القريب يطفئون ظمأهم إلى المعرفة بقصص منقولة من الأدب العربي القديم ومحرفه، بحيث تلائم مداركهم، وبحكايات متوارثة تتناقل دون أن يكون لها أثر إيجابي ما إن لم تكن ذات أثر سلبي

    (1/11274)

    سيء، وبنصوص مدرسية صاغها أناس عديدو الخبرة، اضطرتهم المناهج التعليمية المتداولة وقتئذ أن يصولوا ويجولوا في ميدان ليس ميدانهم. وكان ازدهار القصص المروية والسير الشعبية ظاهرة تلفت النظر لركاكتها وشططها وغرقها في تجسيد السلبي، والحض على النزعة الفردية والروح الإشكالية (1).

    ... لذلك حاول الأدباء المهتمون بأدب الأطفال الابتعاد عن السلبيات والأخطاء التي وقع فيها السابقون لهم، لأن ثقافة الطفل تشكل فعالية إبداعية قائمة بذاتها. فهي ليست بالهامشية أو الجانبية كما

    __________

    (1) انظر مجلة فكر، تونس، حزيران، 1975.

    (1/11275)

    هي في العصور السابقة؛ وكذلك، فإن ثقافة الطفل تتطلب موهبة حقيقية شأن أي إبداع أصيل: فهي جنس جديد في الساحة العربية، وتدخل أيضاً في العملية التربوية وتكون جزءاً هاماً منها، تمد الأطفال بما ينمي معارفهم العلمية ومداركهم العقلية وإحساساتهم الجمالية وانتماءاتهم القومية. زد على ذلك اعتماد ثقافة الطفل على لغة خاصة في نقل الأفكار المختلفة عن اللغات المتداولة في التعبير الأدبي (1).

    __________

    (1) انظر: جلال الشريف، مجلة الموقف الأدبي، دمشق، عدد 95، آذار/ مارس، 1979.

    (1/11276)

    ... وسليمان العيسى الشاعر الإنسان قد حدد موقفه من شعر الأطفال حينما عرفه بإجابته على سؤال عصفورة تحاوره وهي تقف على نافذة بيته في دمشق وهو يكتب. فقال وهو يجيبها:

    ... ماذا تعني بالشعر الحقيقي؟ رفعت رأسي عن الورقة، وقلت لها: أعني الشعر السهل الصعب، القريب البعيد في وقت واحد... سهل، لأن الصغار يغنونه ويحفظونه في الحال؛ وصعب، لأن بعض معانيه وصوره تظل غامضة، بعيدة عن مداركهم بعض الشيء. وقد تعمدت هذه السهولة/ الصعوبة في شعر الأطفال وسميتها: المعادلة الشعرية الجميلة، معادلة أبذل جهداً كبيراً كي أحققها

    (1/11277)

    في كل نشيد، بل كل بيت أحياناً، على قدر ما أستطيع (1).

    ... هذا الموقف الذي اتخذه سليمان العيسى من شعر الأطفال يجعل الكتابة للأطفال مشروع تحد على مسار الساحة العربية برمتها، لأن الاستجابة لهذا التحدي تعدّ انتصاراً مؤكداً على الذات أولاً وإيجاد فن منسجم مع حياة الطفولة وهو الأساس. وذلك لا يعني أن الشاعر يجب عليه خلق موضوعات شعرية لم يسبقه إليها أحد، وإنما قد يتعامل الشاعر مع التراث ويعيد صياغته من جديد ـ كما

    __________

    (1) سليمان العيسى، ديوان غنوا يا أطفال، ج 1، دار العودة للصغار، بيروت، 1978، صص. 4 ـ 5.

    (1/11278)

    فعل العيسى مع قصة علي بابا والأربعين لصّاً، إذ تعامل معها بأسلوب نثري جميل تخلله أناشيد حلوة كما جاء على لسان علي بابا بعد معرفته لباب المغارة وسرها:

    ما زلنا نحلم يا فاس

    ببنفسجة زرقاء

    لم أعرف يوماً يا فأسي

    لم أعرف يوم صفاء

    هل تصدق بنت الغاب

    وترف على الحطّاب

    وتلون بيتي بالأحلام

    وألمح ظل نعيم

    يا فأس علي بابا غني

    غني فالحب كريم(1)

    ... نلاحظ مدى أهمية المضامين التي عالجها ويعالجها سليمان العيسى وغيره من الكتاب والشعراء، حيث يقع

    __________

    (1) سليمان العيسي، ديوان غنوا يا أطفال، المصدر السابق، ج 8، ص. 5.

    (1/11279)

    تطوير هذا النهج من الشعر المعد للأطفال على عاتق المجيدين والمبرّزين من الشعراء الذين يتابعون النتاجات الإنسانية أينما كانت كي يطوروا أنفسهم. فهي تأكيد على حيوية هذا الموضوع. لذا تعددت مضامينه الشعرية وأصبحت لصيقة بالأطفال كما في قوله:

    ... يا غيمة يا أم المطر ... الأرض اشتاقت فانهمري

    ... ويقول على لسان الأطفال بيان عروبة فلسطين والإيمان المطلق بذلك لدى الجيل الناشئ

    ودرب انتصاري

    هوى بفؤادي

    بأرضي السليبة

    فلسطين داري

    تظل بلادي

    وجوه غريبة

    (1/11280)

    وغيرها كنوز وفيرة في ثنايا أشعاره، مما يجعل الأطفال يتمسكون بعروبة بلادهم وامتداد هذه الثقافة الوطنية والقومية عبر الأجيال اللاحقة. فهو يقارن بين الموجودين على الأرض كي يؤكد أن التمايز موجود حتى في الملامح الخارجية للإنسان، زيادة على الملامح الأخرى.

    ... إن أدب الأطفال في سوريا حاول مبدعوه أن يوفقوا فيه بين فلسفة الإبداع والأهداف والغايات التربوية. وظهر ذلك في نتاجات الأدباء وتوجهاتهم الفكرية والعقائدية. لذلك تعاملوا مع الواقع حسب فهمهم له وتفاعلهم كذلك. وازداد اهتمام المبدعين بأدب الصغار بعد

    (1/11281)

    حرب حزيران عام 1967 م وكأنّا نحس الرد منهم على تلك الهزيمة المفجعة، وبالذات نجد الشاعر سليمان العيسى وقد توحد نفسياً ومعنوياً وروحياً مع الأطفال. ونظنه يصنع ذلك لأهمية الموضوع وحساسيته. زد على ذلك إيمانه المطلق بحقوق الأطفال ومدى الحرمان الواقعين فيه، إذ هم يشكلون أمل الانبعاث التكاملي في المستقبل. فقد عرف عنه صداقته للأطفال؛ إذ لم يعتل مكاناً لإنشاد الشعر إلا والأطفال يحيطون به كالزهور ورائحتهم الزكية تفوح أملاً وطمأنينة.

    (1/11282)

    ... وفي الأردن وفلسطين بدأت محاولات للتأليف والترجمة في أدب الأطفال. فكان ذلك عام 1928، حيث كتب إبراهيم البوارشي مجموعة أناشيد للأطفال؛ كما كتب الأستاذ روكس العزيزي كتاباً للأطفال بعنوان "الملك فيصل" عام 1935، ثم جاء الشاعر إسكندر البيتجالي، فأصدر كتابين: "المثل المنظوم" في عام 1942، و"الطفل المنشد" الذي احتوى على قصص شعرية وأناشيد وصفته كما في قوله:

    أفقت وقمت مرتاحا

    وعطر الروض قد فاحا(1)

    إذا ما ديكنا صاحا

    ونجم الصبح قد لاحا

    __________

    (1) هيفاء شرايحة، المرجع السابق، ص. 37.

    (1/11283)

    ... والملاحظ على نتاج الأدب المعد للأطفال في هذه الفترة أنه فردي، بمعنى يحمل جهداً فرديّاً خالصاً، إذ لم يكن هناك مؤسسات منظمة ترعىهذا الإنتاج وتهتم به. فقد جمع الأديب محمد إسعاف النشاشيبي مجموعة من أناشيد الأطفال طبعها في كتاب بعنوان "البستان" عام 1945، وكذلك إسحق موسى الحسيني وبعض صحبه أصدروا مجموعة قصص للأطفال منها "الكلب الوفي" و"ردان المدلل" وفيها الكثير من القيم الاجتماعية التي تؤثر في الأطفال وتربيتهم. زد على ذلك ما كتبه يوسف هيكل: "أجداد النبي"، وخالد عبد الهادي صاحب قصة "خالد وفاتنة"

    (1/11284)

    ومحمود يوسف زايد الذي أصدر بعد عام من ذلك كتاباً بعنوان "يوليسيز التائه".

    ... وفي عام 1957 يصدر عبد الرؤوف المصري قصتين "رغيف يتكلم" و"الأم الطموحة"، علماً بأن هذه الإصدارات خالية من الصور الملازمة للنص وكذلك إخراجها سيء إلى حد ما.

    ... ويأتي بعد ذلك عدد من المهتمين، ويتوالى صدور أدب الأطفال. فقد أصدر عيسى الناعوري قصته "نجمة الليالي السعيدة" وفايز علي الفول "الدنيا حكايات" و"من سواليف السلف" و"أساطير من بلادي"، وجاد حسن فريز بشعره الجميل كي يحرك وعي الطفولة وخيالاتها كما في قوله يصف شجرة

    (1/11285)

    الرمان:

    وفي أوراقها الخضر

    أو أغصانها الشقر

    لون الورد والفجر

    جمال بارع السحر

    تأمل في محاسنها

    وفي أزهارها الحمراء

    فمن ألوانها نعطيك

    تقول وأنت تشهدها

    ... وكذلك نرى أن يوسف العظم أصدر أناشيد وأغاريد للطفل المسلم، وتليه تغريد النجار كي تكتب قصة بعنوان "صفوان البهلوان"، ويأتي بعدهم نبيل صوالحة، فيكتب "رحلتي الملونة في الأردن". ثم إن الجمعية الملكية احتضنت هذا الأدب منذ عام 1977 لترى بعض النتاجات النور، منها "السير وأصوله" و"بلاستيك في حياتنا". والذي نلمسه أن هذه الإصدارات قد أخذت طابعاً علمياً

    (1/11286)

    خاصاً. أما المجموعة التي تلتها، فقد اتجهت صوب الطبيعة والبيئة والعلاقة مع الإنسان، فصدرت قصص تعالج ذلك: "حيوانات تعيش بيننا" و"طعامك والصحة والمرضى (1).

    ... هذا، في حين يرى بعض الباحثين أن أدب الأطفال في الأردن بدأ حقيقة مع صدور مجلة "سامر عامر" (1979)، وأهميتها تكمن في استقطابها لعدد من البارزين أمثال الشاعر أحمد حسن أبو عرقوب الذي كتب بعض الأناشيد والقصص، والشاعر محمد القيسي الذي عرف متميزاً في شعره، والشاعر إبراهيم نصر الله، ومحمود شقير ومفيد نحلة وجمال أبو حمدان

    __________

    (1) المرجع نفسه، ص. 39.

    (1/11287)

    وفخري قعوار. وهؤلاء من كتاب القصة المتميزين؛ ومحمود برهوم الذي أفردت له مهمات الترجمة من حكايات الشعوب وآدابها للأطفال. وكذلك كتب الشاعر محمود شلبي النشيد والقصيدة، وشحادة الناطور وجمال أبو حمدان الرواية والقصة القصيرة وكان مجال نشرها الصحف والمجلات العامة. ومنذ عام 1979 الذي خصص لسنة دولية للطفل، بدأت المجالات الثقافية الرسمية تفتح ذراعيها لآداب الأطفال كما هي: مجلة "أفكار" ومجلة "الشباب". وهذا ساعد على ظهور كوكبة متميزة من كتاب الأطفال تضم أسماءً معروفة، إذ جمعت بين الأجبال كلها ”مثل حسني

    (1/11288)

    فريز، وهو من جيل الرواد، والشاعر محمد الظاهر وإبراهيم العجلوني وعزمي خميس ويوسف الغزو ووفيقة ويوسف قنديل وأحمد المصلح“(1). وتنوعت النتاجات من حيث المضامين. وهكذا صرنا نقرأ السير التاريخية للقادة المعاصرين والملامح السياسية والأفكار التي يتبناها الكتاب، حيث بدأت ”روضة الفرخ الهدهد“ على عاتقها كتابة:

    __________

    (1) أحمد المصلح، أدب الأطفال في الأردن، منشوارت دائرة الثقافة والفنون، عمان، 1983، ص. 29 وما بعدها.

    (1/11289)

    ... سلسلة حكايات بطولة بدأتها بقصة "الشيخ عز الدين القسام في أحراج يعبد"، ثم كتاب "سر القنابل الموقوتة" و"قافلة الفداء" و"الزمن الحزين في دير ياسين" و"رحلة النضال حتى عام 1982"، وهي قصص تعبر عن شواهد حقيقية لثورة الشعب الفلسطيني؛ وقد أحيت في قصصها ذكرى أبطال هذا الشعب المناضل من أجل أرضه ووطنه. وإن ما يلفت النظر في هذه القصص جودة الإخراج، والرسومات المعبرة (1).

    __________

    (1) هيفاء شرايحة، المرجع السابق، ص. 40.

    (1/11290)

    ... كل ذلك لا ينفي وجود أدب للأطفال كتبه أدباء كبار لامعون من خلال نتاجاتهم. ففي فلسطين عرف الشاعر إبراهيم طوقان بالتزامه وثقافته الوطنية ووعيه السياسي الذي كتب نشيده المعروف ”موطني“، مخاطباً أبناء وطنه جميعهم، ولا سيّما الأطفال، حيث لم يزل هذا النشيد شائعاً في الأقطار العربية وينشد في معظمها. وقد تضمن هذا النشيد إحساس الشاعر بقضية وطنه التي كانت في الوقت نفسه قضية كل وطن عربي. ومن هنا جاء شيوعه وانتشاره في سائر الأقطال العربية (1)

    __________

    (1) أحمد أبو حاقة، الالتزام في الشعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979، ص. 267.

    (1/11291)

    .

    ... وكذلك لم يَحِد الشاعر عبد الكريم الكرمي عن جادة خلق العلاقة مع الطفولة، وذلك من خلال أناشيده الوطنية التي تعبر عن حبه لوطنه وقومه وأمته، تلك الأناشيد التي تحث مستقبليها على الكفاح، مما يشعر الآخرين بأهم العناصر الذاتية التي حدت به إلى المشاركة الوجدانية بينه وبين أطفال وطنه وأمته. ومثل هذه الأناشيد ترينا مدى صدق العاطفة وقوة الرابطة وانكشاف المعاناة الحقيقية. ومثل ذلك يأتي بأسلوب قوي وشيق إلى حد بعيد:

    هيا إلى الكفاح

    مواكب الصباح

    ترفرف البنود

    أنشودة الخلود

    ونحمل القبس

    بأننا الحرس

    (1/11292)

    على حبال النار

    يصيح يا للثار

    نحطم الأغلال

    وتشهد الأجيال(1)

    هيا بنا... هيا بنا

    تسير في ركابنا

    على طريق الشهدا

    نسمعها على

    نحن نضيء الأملا

    لقد حلفنا للعلا

    نحن رفعنا العلما

    يحرس آفاق السما

    إنا إذا جار الزمن

    نحمي حمى هذا الوطن

    ... إن هذه الدافعية لم تأت من فراغ، بل نجدها قد خرجت من قلب متمكن مؤمن بما يطالب به العقل. لذا نرى العقل والخيال قد توحدا في كثير من أناشيد الثورة والوطن والعروبة. فمثل هذه الاندفاعية في التوجه صوب

    __________

    (1) عبد الكريم الكرمي، ديوان أغاني الأطفال، دار العودة، بيروت، 1978، ص. 152.

    (1/11293)

    العمل الصائب تحقق الأمل في النفس وتجعلها مطواعة، حتى لنرى أن الثورة امتدت في بقاع الوطن كلها من الجبال إلى الصحراء والسهول والهضاب، إذ كلها تفاعلت مع الحدث. وهذا ما نلمسه في أشعار هارون هاشم رشيد، الذي يرفض الذل ويريد ذلك من طفله أيضاً، لأن الطفولة تعيش في ضميره، وهذا الخيال والتّخيل قد يصبح حقيقة إذا آمن الجميع بالحق واندفعوا صوب الوحدة والتضامن، من أجل حرية الوطن الأبهى.

    ... وبما أن لفلسطين خصوصيتها بعد النكبة والانكسار، فإننا نجد أدبها قد بعث أيضاً استجابة للحديث، حيث يكون الأدب أينما يقيم

    (1/11294)

    الناس ويتفاعلون مع الحياة. إلا أن الأرض الفلسطينية بقيت تظهر بعض ملامح الحياة من خلال أهلها الصامدين. لذلك ظهر بعض الأدباء المهتمين بالطفولة والأطفال لنرى عبد الرحمن عباد في مجموعاته "ذاكرة العصافير" و"ذاكرة الزيتون" و"ذاكرة النخيل" و"ذاكرة البرتقال"، وهي عبارة عن قصص تحكي الحياة بأصوات النباتات والطبيعة والإنسان الذي يعيشها. وكذلك الشاعر الباحث علي الخليلي الذي أصدر مجموعات شعرية عن الأطفال. زد على ذلك الدراسة التي كتبها عن أغاني الأطفال في فلسطين. وغيرهما من الكتاب لم يبخل بنتاجه على أطفال

    (1/11295)

    وطننا؛ كما ظهرت في القدس مجلة البراعم لمدة عامين، ثم مجلة "طارق" التي صدرت عام 1971، وهي مجلة قصصية شهرية أطول عمراً من غيرها، إذ لم يزل عطاؤها قائماً؛ وكتب مفيد نحلة "أطفال القدس القديمة" بعد أن ظهرت قصة "اليتيم" للوجود عام 1966 ونشرت في جريدة "القدس" في حينه؛ وجمال أبو حمدان الذي كتب "النهر".

    ... وأما الطفولة في العراق، فقد أخذت حيزاً مرموقاً إذا ما قيست الأمور بمثيلاتها. ونظن أن العراق كان من السباقين في نشر أدب الأطفال وتوزيعه على المؤسسات بأسعار رمزية جداً، إذ لا تساوي 10 % من قيمة رأس

    (1/11296)

    المال المدفوع. وكانوا يهدفون إلى خلق فلسفة تربوية موسعة هدفها الأساسيّ معرفة الطفل لوطنه وأهله وثقافته في الوطن العربي الكبير، زيادة على الدوافع العلمية والتربوية والتثقيفية والترفيهية والأمور الأخرى. فالاهتمام بالطفولة ظهرت مع الشاعرين الكبيرين الرصافي والزهاوي، وكلاهما له ثقافته الخاصة؛ إلا أنهما كتبا أناشيد وقصائد تحاكي الطفولة وحياتها وتدعو إلى إصلاحها وتطورها. وفيما بعد، ظهر جيل من الأدباء المهتمين بالأطفال، وكان ذلك بعد ثورة تموز 1968؛ إذ أصبح الاهتمام بالطفل واضحاً، بل هُيِّءَ له في إطار

    (1/11297)

    فلسفة خاصة تهدف إلى خلق جيل ناشىء حسب فلسفة وطنية قومية مؤكدة. لقد وضعت الحكومة خطة شاملة دخلت حيز التنفيذ في عام 1968 بإنشاء المكتبات الخاصة بالأطفال ودور الحضانة والرعاية الاجتماعية. وهذه تقدم خدماتها بالمجان، لأنها جزء من خطة التعليم في العراق. من هنا ظهرت النوادي الترفيهية ومدارس الفنون التي تعتني بالشباب ومواهبهم بعد أن يحتضنوا في مرحلة الطفولة، زد على ذلك المراكز الموسيقية والمؤسسات الترفيهية الأخرى التي تستقطب أصحاب العقول والخبرات العلمية.

    (1/11298)

    ... وقد أفرد المخططون بالعراق وقتاً مناسباً في الإذاعات العراقية المسموعة والمرئية كي يقدموا ما يتلاءم وروحية الطفل وفكره ونفسه. فظهرت البرامج والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، وكذلك المجلاّت والصحف الخاصة بالأطفال وأدبهم. فقد ظهرت جريدة خاصة باسم "مزمار" (1970) وقبلها مجلة بعنوان "مجلتي" (عام 1967). وهذا لا يجعلنا نهمل ما تصدره ”دار ثقافة الأطفال“ من مجلات وقصص تحكي ما يكون قريباً للأطفال بأسلوب مشوق وبطبعات عالية الجودة جاذبة لروحية الطفل، وكلها هادفة غير مسفة أو مغرض بعضها، بل تنبع من فكر

    (1/11299)

    منظم بناء، وتصل إلى متناول الأطفال جميعاً دون استثناء، لأن جل الكتاب في العراق من الكتاب المبدعين والمهتمين بأدب الأطفال. ثم إن ما يرونه مناسباً وفاعلاً من نتاجات الكتاب والشعراء العرب يطبع ويوزع كذلك. وهم لم يغفلوا الترجمات: فالأدب المترجم له وقعه وقيمته، وهم حريصون على اختيار النصوص الغنيّة بالثقافة والمعرفة، وكانوا يصدرونها عن ”دار ثقافة الأطفال“، وكانت تصرف مكافآت مجزية لمن يترجم كتاباً أو يضع نصاً إبداعياً يتفق والنهج العام لتربية الجيل. وكذلك ظهرت مجموعة من البحوث والدراسات طبعت في العراق

    (1/11300)

    أو ألفت من قبل باحثين عراقيين تعالج مشاكل أدب الأطفال وطموحاته وتوجهاته. والدارس لا يجد فرقاً من حيث الأهمية والمكانة لدى الناس بين النصوص وكاتبها. فكلما كان النص إبداعياً ثرياً بما يحتويه، كان أكثر قرباً والتصاقاً لدى الناس جميعاً. بمعنى أن النص الأدبي هو الذي يفرض وجوده على الناس قلباً وقالباً. وفي دول الخليج العربي الأخرى، نجد اهتماماً بالأطفال؛ إلاّ أنه متفاوت من مكان إلى آخر حسب الظروف والإمكانات المتاحة. وقبل ذلك الهدف والوسيلة في خلق مثل تلك الأمور التي تعالج مشاكل الأطفال وأدبهم

    (1/11301)

    وثقافتهم. ففي الكويت ظهرت مجلة "سعد"( عام 1969)، وهي تعنى بشؤون الأطفال وهمومهم وقصصهم وحكاياتهم. وفي البحرين ظهر بعض الأدباء ممن اهتموا بشؤون الطفل العربي واحتياجاته الأدبية، كما هو الحال عند عبد القادر عقيل وفوزية رشيد وحمدة خميس وغيرهم، لأنهم ينظرون إلى الكتابة للأطفال بصفتها ضرورة من ضرورات المجتمع وتطوره ومكانته بين المجتمعات الأخرى. وهذا ما أكده حمدة خميس في مقولة له عن أدب الأطفال: ”إنه لو تراجع كثير من الكتاب عن الكتابة للأطفال وأصبحت الفكرة مجرد حماس، فإن أدب الأطفال سيفرض نفسه عند

    (1/11302)

    أكثر الأمم“(1).

    ... ومثل هذا ليس جديداً على الأدباء في البحرين، لأنهم نهضوا مبكرين إذا ما قيس الأمر بمن حولهم، حيث كانت هناك نهضة أدبية تحكي قصة حياة ومجتمع. والشاعر البحريني قد سار مع الحياة بطواعيتها. والذي يتتبع نتاجات الشعراء في البحرين، يستشف ما نقوله ونرمي إليه. ونظن أنّ أدب الأطفال أصبح جزءاً من هذه النهضة الشعرية والأدبية والثقافية.

    __________

    (1) علي عبد الله خليفة، كتابات 76، دار الغد، البحرين، 1976، ص. 173.

    (1/11303)

    ... وأما في العربية السعودية، فقد حظي الأدب بنصيب وافر من الاهتمام، وبالذات في العقود الأربعة الأخيرة، مما جعل هذا الاهتمام الأدبي مادة علمية لنيل الشهادات العلمية العالية:

    ... الأمر الذي دفع بعض الباحثات إلى إعداد أطروحات جامعية عن أدب الأطفال مؤخراً، ومنهن الباحثة آمال عبد الفتاح الجزائري التي تقدمت برسالة لنيل درجة الماجستير في موضوع "قصص الأطفال في المملكة العربية السعودية منذ عام 1379 هـ إلى عام 1410 هـ". وقد رصدت الباحثة إنتاج القصص الموجهة للطفل في المملكة وتتبعت مراحله وبينت أنواعه

    (1/11304)

    واتجاهاته وأهدافه وكشفت عن ملامحه الفنية(1).

    ... ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجد كثيراً من المهتمين بالأطفال وأدبهم، منهم عزيز ضياء وإسحق يعقوب وعبده خال وعبد الرحمن المريخي وعلوي الصافي وخالد بن عبد الله. وهذا ما جعلنا نرى بعض المجلات تظهر إلى الوجود مثل مجلة "حسن" التي صدرت عن دار عكاظ، ومجلة "الجيل الجديد" وصدرت عن الرعاية العامة لشؤون الشباب، ومجلة "الشبل". زد على ذلك الصحف المحلية التي تفرد صفحات لأدب الأطفال يتناوب على كتابتها

    __________

    (1) محمد صالح الشنطي، في أدب الأطفال، المصدر السابق، ص. 191.

    (1/11305)

    وتحريرها كتاب مبدعون ومختصون في أدب الأطفال. ويجد المتتبع أن الحكايات والقصص والأناشيد والقصائد كلها كتبت بأقلام المهتمين في السعودية ونشرت بعناية وحرص كبيرين.

    ... وفي المغرب العربي لم يغفل الأدباء هناك عن الأطفال وأدبهم. فقد ظهر في ليبيا كاتبان اهتما بالأطفال وقصصهم هما يوسف الشريف ومحمود فهمي، إذ أصدرا قصصاً ليبية للأطفال، منها قصة "الراعي الشجاع"، وهي من القصص المحببة للأطفال. وهناك الكاتب محمد الزكرة الذي ساهم إسهاماً لا بأس به في الكتابة للأطفال في ليبيا.

    (1/11306)

    ... أما تونس، فقد ظهرت فيها بعض المجلات التي ترعى هذا التوجه منها "شهلوك وعرفان" بعد أن عرف بعض الأدباء طريقهم صوب هذا الأدب المفعم بالحيوية. وبذلك توجهوا صوب الكتابة للأطفال كما فعل محمد العروسي المطوي، رئيس تحرير مجلة "القصص" التونسية مع زميله محمد مختار جنات، اللّذين كتبا قصصاً منها: "الفروج الأشقر" و"الدب والدمية"؛ وكتب العروسي بمفرده كثيراً من القصص الناجحة، منها "أبو نصيحة". وهكذا فعل القاضي الجيلاني بن الحاج قصة للأطفال بعنوان "بوشنب"، والتي فازت بجائزة بلدية تونس؛ وكذلك له مؤلفهُ "شجرة

    (1/11307)

    الانتقام". ويلي هؤلاء وبعض الكتاب كاتبان هما عبد الرحيم الكتاني وعبد الحق الكتاني، إذ أصدرا عدة قصص ومؤلفات بعنوان ”القصص المدرسية“، منها "الفرحة الكبرى" و"الكيس العجيب". والذي لا ينسى أن الأدباء في تونس لم يغفلوا الأدب المترجم لأهميته الناجمة عن أسباب عدة؛ لذلك ترجم أحمد القديدي قصصاً كثيرة ومتنوعة من الآداب العالمية.

    ... وفي الجزائر أصدرت ”الشركة الوطنية للنشر والتوزيع“ كتب الأطفال باسم ”سلسلة الأدب“ كـ"ـسبّور" وغيرها. والذي ينظر في الأدب العربي المعد للأطفال في المغرب العربي الكبير يجد أنه

    (1/11308)

    تأخر بعض التأخُّر عن العراق ومصر والشام، وذلك لأسباب عدة متداخلة تتمثل في محاولة الاستعمار طمس الهوية الثقافية والوطنية والقومية للشعب العربي في المغرب الكبير، وبالذات في الجزائر، على أيدي الفرنسيين وليبيا من قبل الإيطاليين. وأما تونس والمغرب، فلا نعتقد أنهما يتوجهان لهذا الأمر. وهما يشكلان معبراً فاعلاً لنصرة الثورة في الجزائر، حيث يكون محاكاة الواقع أولى من غيره، لأن الأدب ينبع من نهضة الشعب وثورته على التخلف وإن كان الأدب فاعلاً في خلق الثورة ومساعداً على تفجيرها كي نصل إلى نتيجة حتمية أن

    (1/11309)

    الثورة والأدب يشكلان حلقات مسننة يحرك كل منهما الآخر للوصول إلى الهدف المنشود والمحقق.

    ... من هنا نرى أن جل الدول العربية قد قطعت شوطاً واسعاً صوب خلق فلسفة وطنية وقومية بوساطة أدب الأطفال، وإن لم تكن الدول متساوية في الرؤى والتوجهات وتحقيق الأهداف. وهذا لا يعني أن بعض الدول العربية لا علاقة لها بهذه الفلسفة التربوية والترفيهية، بل إن من لم يقطع مسافات يحاول أن يضع بعض اللبنات في أساسات النهضة الشمولية، وذلك على الرغم من التراجعات والانقضاضات على البنية الفكرية والثقافية في الوطن العربي. إلا

    (1/11310)

    أنا نتلمس الأمل يتصاعد للوصول إلى الحقيقة.

    (1/11311)

    قراءة في تراث السهيلي المطبوع

    الأستاذ بنيونس الزاكي

    كلية الآداب ـ وجدة

    أولاًـ "نتائج الفكر" لأبي القاسم السهيلي، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا

    ... حاز التُّراث الفكري ـ في العقود الأخيرة من هذا القرن ـ عناية خاصة من لدن الباحثين والمحققين الذين ولَّى طائفة منهم وجوههم شطر الغرب الإسلامي، ينفضون الغبار عن كنوزه، ويبرزون إسهام علمائه في إذكاء الثقافة الأدبية والإسلامية.

    ... وقد كان القرن السّادس الهجري من أخصب القرون علماً وثقافة في الأندلس، إذ برز فيه طائفة من حذاق العلم وجهابذة الفكر

    (1/11312)

    ممَّن طبقت شهرتهم الآفاق، حتى صار الواحد منهم تضرب إليه أكباد الإبل، وتحط بفنائه رحال الرجال.

    ... وقد كان الإمام السهيلي (508 هـ ـ 581 هـ) أحد أعلام هذه الفترة، وصاحب سهم وافر في نهضتها العلمية، وإسهامه الفكري مما لا يسَعُ أحداً من الدارسين جهلُه أو تجاهلُه.

    ... ولم يكن السهيلي ـ قبل العقدين الأخيرين من هذا القرن ـ يعرف بين جمهور العلماء والباحثين إلا بكتابه الفريد "الروض الأنف" الذي شرح فيه

    "سيرة" ابن هشام، فطلع على أهل العلم بمصنف لم يعرف شرح أَوْعَبُ ولا أكثرُ جمعاً منه(1)

    __________

    (1) من كلمة قالها الدكتور محمود الطناحي في تصديره لكتاب "البسيط في شرح الجمل" لابن أبي الربيع السبتي، ج 1، ص. 8.

    (1/11313)

    .

    ... ثم شاء الله ـ تعالى ـ أن يولي فئة من الباحثين وجوههم شطر إنتاج السهيلي الفكري، ويعمدوا إلى تحقيق ودراسة ما اهتدوا إليه مخطوطاً، ونشط آخرون في إعداد أبحاث انصبت على اهتمامات السهيلي وإنجازاته المتنوعة في أهم مجالات الثقافة الإسلامية المعروفة في عصره ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

    ... وإنصافاً للعلم وأهله، ينبغي الإشارة ابتداء إلى أن دارسي السهيلي مدينون إلى من كان له فضل سبق الوقوف على تراثه مخطوطاً، ومكابدة تحقيقه ودراسته، وأعني به الدكتور محمد إبراهيم البنا.

    (1/11314)

    ... فقد نشر له تباعاً: "الأمالي"، و"نتائج الفكر" وكتاب "الفرائض وشرح آيات الوصية"، وأفاد أنه يعد كتاب "التعريف والإعلام" للنشر(1)؛ كما أنجز دراسة علمية رصينة عن السهيلي ومذهبه النحوي(2).

    ... وكتاب "نتائج الفكر" هو أقدم تأليف للسهيلي فيما أفاد محققه، وقد عُني فيه بجوانب خمسة: الدلالة، والعلة، والعامل، ونظم القرآن، ونظم المصطلحات، والتعريفات.

    __________

    (1) مقدمة نتائج الفكر، ص. 5.

    (2) صدر عن دار البيان العربي بجدة عام 1985.

    (1/11315)

    ... وقد ظهر لكتاب "النتائج" ثلاث نشرات: الأولى عن جامعة قار يونس بليبيا عام 1978، والثانية عن دار الاعتصام بمصر سنة 1984، والثالثة في السنة نفسها عن دار الرياض للنشر والتوزيع.

    ...

    منهج تحقيق الكتاب

    ... أبان المحقق عن منهج تحقيقه للكتاب في مقدمته (ص. 24)، فنبه على أنه عُني بضبط النص، بالمقابلة بين نسختي الكتاب، وتخريج الأحاديث والأشعار والأمثال، إلخ.

    ... أقول: ولي على شواهد الكتاب الملاحظات الآتية:

    1 ـ الشّواهد القرآنية:

    (1/11316)

    ... عُني المحقق بتخريج كل الشواهد القرآنية، وفاته ضبط آيتين اثنتين الضبط الصحيح، الأولى في صفحة 46، وهي قوله تعالى: {سبح باسم ربك العظيم}. فاكتفى المحقق ببيان أنها من سورة الواقعة، الآية 74، ولم ينبه على أن صوابها {فَسبح} لا ”سبح“ كما جاء في المتن.

    ... الثانية: في صفحة 105، وسيق فيها قوله تعالى: {ذواتا أفنان} [الرحمان، الآية 48]، فضبط المحقق ”ذواتا“ بالتنوين، وصوابها ”ذواتاً“.

    2 ـ الشواهد الحديثية والآثار:

    (1/11317)

    ... حرص المحقق على تخريج الأحاديث وأقوال الصحابة. ومع ذلك، فقد أعياه بعضها، فسكت عنه دون أن يصرح بعدم وقوفه عليه، وتساهل في تخريج بعض الأحاديث بواسطة، من غير رجوع إلى مظانها.

    I ـ ما لم يهتد إلى تخريجه:

    ... 1 ـ الحديث: ”أعمق ليموت“ (النتائج، ص.140)، وأحال المحقق على "لسان العرب" و"جمهرة" ابن حزم.

    ... قلت: "اللسان" و"الجمهرة" غير معدودين في مصادر الحديث.

    ... والشاهد في "طبقات" ابن سعد، ج 2، ص.45، ومجمع الزوائد، ج 6، ص. 126، و"غريب الحديث" للخطابي، ج 1، ص ص. 136 ـ 137، و"الفائق" ج 3، ص. 412،

    (1/11318)

    و"الإصابة" ج 6، ص. 218 (نشرة البجاوي).

    ... 2 ـ حديث ”اسكتي يا لا شيء“ (النتائج، ص. 160).

    ... سكت عنه المحقق ولم يعلق عليه بشيء.

    ... قلت: أورده الغزالي في "الإحياء"، ج 3، ص. 204 (ط. دار الندوة) مرفوعاً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وساقه ثانية في ج 3، ص. 210 موقوفاً. قال أبو هريرة: ”الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالسن البالي تنادي ربها إلى يوم يفنيها: يا رب، يا رب لم تبغضني؟ فيقول لها: اسكتي يا لا شيء“. وينظر "إتحاف السادة المتقين" للزبيدي ج 9، ص. 548، 572.

    (1/11319)

    ... 3 ـ حديث ”دع ما حاك في نفسك، وإن أفتوك به وأفتوك“ (النتائج، ص. 261).

    ... قلت: وقف به السهيلي عند ابن مسعود، فتوهم المحقق أنه قول له، وأدرجه في الفهارس العامة ضمن أقوال الصحابة.

    ... والصحيح أنه حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصّه كما في "مسلم"، ج 4، ص. 1980، و"المسند"، ج 4، ص. 228، و"الترمذي"، ج 4، ص. 597: ”عن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال لوابصة: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: نعم، قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره، وقال: استفت نفسك، استفت قلبك، والإثم ما

    (1/11320)

    حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك“، والحديث أيضاً في "سنن" الدارمي، كتاب ”البيوع“، باب: ”دع ما يريبك إلى ما لا يريبك“، ج 2، ص. 246، وينظر "الفائق"، ج 1، ص. 302، والحديث مثل عند البكري. ينظر "فصل المقال"، ص. 309، ط. 3.

    ... 4 ـ حديث ”لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حَدّ مطلع“ (النتائج، ص. 268).

    ... علق عليه المحقق بقوله: ”انظر "الإتقان" للسيوطي“، دون الإشارة إلى أنه حديث.

    ... قلت: وهو في "صحيح" ابن حبان: ينظر "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان"، ج 1، ص. 146، و"مشكاة المصابيح"،

    (1/11321)

    ج1، ص. 80، و"شرح السنة" للبغوي، ج 1، ص. 263، و"مجمع الزوائد"، ج 7، ص. 152.

    ... 5 ـ حديث: ”نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي“ (النتائج، ص. 303).

    ... قلت: في "الفائق"، ج 1، ص. 305، حديث قريب من هذا ونصه: ”مررت على جبريل ليلة أسري بي كالحلس من خشية الله“.

    II ـ ما لم يَتَحَرَّ الدقة في تخريجه

    ... 1 ـ حديث: ”لا تتراءى نارهما“ (النتائج، ص. 142).

    قال المحقق: ”أخرجه النسائي، وروايته فيه: "ألا لا تراءى نارهما"“.

    (1/11322)

    ... قلت: الحديث كما جاء عند السهيلي في "شرح السنة" للبغوي، ج 10، ص. 244)، وهو بتمامه: ”"أنا بريء من كل مسلم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: لا تتراءى نارهما“.

    ... 2 ـ حديث ”إنها أهون على الله من الجيفة“ (النتائج، ص. 160).

    ... قال المحقق: ”أخرجه ابن ماجة في باب "مثل الدنيا"“. (ص. 333).

    ... قلت: تتبعت الأحاديث الواردة عند ابن ماجة في الباب الذي ذكر المحقق، فلم أجد في واحد منها ذكراً للفظ الجيفة، وأقرب الروايات فيه لما ذكر السهيلي روايتان:

    (1/11323)

    ... الأولى: ”أترون هذه هينة ـ يقصد شاة ميتة شائلة ـ على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها“.

    ... الثانية: ”أترون هذه هانت على أصحابها؟ قال : قيل يا رسول الله ! من هوانها ألقوها. أو كما قال، قال: ”فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها“. ("سنن" ابن ماجة، كتاب ”الزهد“،”باب مثل الدنيا“، ج 2، ص. 1377، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي).

    ... وبهذه الرواية ورد الحديث في كل ما تيسر لي الرجوع إليه من المصادر. ينظر "المستدرك على الصحيحين"، ج 4، ص. 306، و"الترمذي"، ج

    (1/11324)

    3، ص. 383، و"المسند"، ج 2، ص. 338؛ ج 4، ص. 229، و"مجمع الزوائد"، ج 1، ص. 253، و"الترغيب والترهيب"، ج 4، ص. 173، و"شرح السنة" للبغوي،

    ج 4، ص. 227، و"شعب الإيمان"، ج 7، ص. 325، و"مصنف" ابن أبي شيبة، ج 8، ص. 138.

    ... أقول: وقد جاء في "كشف الخفاء" للعجلوني، ص. 492: ”الدنيا جيفة، وطُلاَّبُها كِلاب“، وهو حديث آخر.

    ... 3 ـ حديث: ”أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجداً“ (النتائج، ص. 273).

    ... قال المحقق: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة. انظر "الفتح الكبير"، ج 1، ص. 219.

    (1/11325)

    ... قلت: في جميع هذه المصادر ورد الحديث بلفظ ”من ربه“ بدل ”إلى الله“ و”وهو ساجد“ عوض ”إذا كان ساجداً“.

    ... 4 ـ حديث: ”يمين الله على الأرض“ (النتائج، ص. 293).

    ... قال المحقق: أخرجه ابن عساكر والخطيب عن جرير، انظر "الفتح الكبير"، ج 2، ص. 79.

    ... قلت: الحديث في "كنز العمال"، ج 1، ص. 232، ونصه فيه: ”يمين الله ـ عز وجل ـ طباق السموات والأرض“.

    ... 5 ـ حديث: ”مسكين رجل لا زوج له ! مسكينة امرأة لا زوج لها“ ! (النتائج، ص. 407).

    (1/11326)

    ... قال المحقق: أخرجه البيهقي عن أبي نجيح مرسلاً، انظر "منتخب كنز العمال"، ج 6، ص. 390.

    ... قلت: الحديث في "شعب الإيمان"، ج 4، ص. 382، ونصه فيه: ”مسكين رجل ليست له امرأة، قيل: يا رسول الله وإن كان غنياً ذا مال؟ قال وإن كان غنياً من مال، قال: ومسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج. قيل يا رسول الله: وإن كانت غنية أو مكثرة من المال؟ قال: وإن كانت“.

    أقوال الصحابة:

    ... لم يُعْنَ المحقق بتخريج آثار الصحابة الآتية:

    ... 1 ـ قول عائشة رضي الله عنها: ”إذا حاضت المرأة حرم الْجُحْرَانُ“ (النتائج، ص. 54).

    (1/11327)

    ... أقول: هو في "الغريبين" للهروي، ج 1، ص. 101 (مخطوط خزانة القرويين)، وهو أيضاً في "غريب الحديث" لابن قتيبة، ج 2، ص. 454، و"النهاية"، ج 1، ص. 240، و"الفائق"، ج 1، ص. 191، و"الأساس" (جحر)، و"تهذيب اللغة"، ج 4، ص ص. 136 ـ 137، و"الإنصاف" للبطليوسي، ص. 167، و"اللسان" (جحر)، و"جنى الجنتين" للمحبّي، ص. 33، و"تاج العروس" (جحر)، ج 10، ص. 375، ط. الكويت.

    ... قلت: ودعوى السهيلي أن ”الجحران“ بالرفع هو قول طائفة من أهل العلم غير القتبي غيرُ مسلمة. فقد أفاد ابن الأثير أنه يروى بكسر النون، ويروى بضمِّها،

    (1/11328)

    كما نصَّ على ذلك أيضاً البطليوسي. فالظاهر أن السهيلي لم يستظهر أقوال من تَقَدَّمُوه.

    ... 2 ـ قول فاطمة رضي الله عنها: ”يا حَسَنَانُ، يا حُسَيْنَانُ“ (النتائج، ص. 54).

    ... استشهد السهيلي بهذا الأثر، ثم قال: ”هكذا روته الرواة برفع النون“.

    ... قال المحقق معلقاً عليه: ”انظر "الروض الأنف"، ج 2، ص. 279“.

    ... قلت: الذي في "الروض الأنف"، ج 4، ص. 140 (دار المعرفة، بيروت، ط. 2) أن الهروي ـ وحده ـ قال ذلك في "الغريبين".

    (1/11329)

    ... وفي "الغريبين"، ج 1، ص. 144، ورد ما نصه: ”روت الرواة ذلك بضم النون: يا حسنانُ، يا حسينَانُ، فكأنها جعلت الاسمين اسماً واحداً فأعطتهما حظ الاسم من الإعراب، كما قالوا: الْجَلَّمَانُ ـ بضم النون ـ للجلم، والقلمان للقلم وهو المقراض، والجحران للفرج، هكذا رواه سلمة عن الفراء بضم النون فيهما جميعاً“ ا. هـ.

    ... وقال: أورد الزمخشري هذا الأثر في "الفائق"، ج 2، ص. 387، (باب ”الظاء مع اللام “، دون تنصيص على حركة النون.

    (1/11330)

    ... 3 ـ قول ابن سلام لعثمان رضي الله عنهما: ”أنا خارجاً أنفع مني لك داخلاً“ (النتائج، ص. 404).

    ... ولم يعلق عليه المحقق بشيء.

    ... قلت: كذا ورد عند السهيلي شاهداً في باب الحال.

    ... ولم أعثر عليه بهذه الرواية بعد طول بحث وتفتيش. ووقفت عليه في "أسد الغابة"، ج 3، ص. 160 (بتحقيق د. البنا وآخرين) في ترجمة ابن سلام، ضمن خبر، بالرواية التالية: ”لما أريد قتْل عثمان رضي الله عنه، جاء عبد الله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرك. قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني، فإنّك خارج خير إلي منك

    (1/11331)

    داخل“.

    ... قلت: ولا شاهد فيه على هذه الرواية.

    ... 4 ـ قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ”تمرة خير من جرادة“ (النتائج، ص. 409).

    ... سكت عنه المحقق فلم يعلق عليه بشيء.

    ... قلت: أخرجه مالك في "الموطإ" كتاب ”الحج“، باب ”فدية من أصاب شيئاً من الجراد وهو محرم“، ج 1، ص. 416 (نشرة محمد فؤاد عبد الباقي)، وهو في "مصنف" عبد الرزاق، ج 4، ص. 410، و"المحلى"، ج 7، ص. 230 (ط. دار الآفاق الجديدة)، واستشهد به من النحاة ابن أبي الربيع السبتي في "البسيط في شرح الجمل"، ج 1، ص. 539، وابن هشام في "المغني"، ص. 612 (دار

    (1/11332)

    الفكر، ط. 5).

    أقوال العرب:

    ... لم يعن المحقق بتخريج مجموعة من أقوال العرب، ومما أمكنني الوقوف عليه:

    ... 1 ـ ”اذهب بذي تسلم“ (النتائج، ص. 95).

    ... هو في "الكتاب"، ج 3، ص. 118، 121، 158، و"الكامل" للمبرد، ج 3، ص. 1353 (نشرة الدالي)، ونصه فيه: ”افعل ذاك بذي تسلم“. وجاء في "نوادر أبي زيد"، ص. 553: ”ويقال: والله ما أحسنت بذي تسلم“، أي بسلامتك، وما أحسنت بذي تسلمان وبذي تسلمون، وللمرأة بذي تسلمين، وللنسوة بذي تسلمن، والمعنى في هذا كله: بسلامتكما للاثنين، وبسلامتكم للجماعة.

    (1/11333)

    ... 2 ـ ”كنا أهل ثمه ورمه“ (النتائج، ص. 124).

    ... قال المحقق: ”في "اللسان": "قال أبو عبيد: المحدثون هكذا يروونه بالضم، ووجهه عندي بالفتح، والثم: إصلاح الشيء وإحكامه، وهو والرم بمعنى الإصلاح"“.

    ... قلت: قول أبي عبيد هذا في "غريب الحديث" له، ج 4، ص. 403 ـ 404، وروايته فيه: ”كنا أهل ثُمِّهِ وَرُمِّهِ حتى استوى على عممه“. هكذا يحدثونه: ”أهل ثُمِّهِ وَرُمِّهِ ـ بالضم ـ، ووجهه عندي ثَمِّهِ وَرَمِّه، إلخ“. وينظر "النهاية" لابن الأثير، ج 1، ص. 223.

    ... وينظر: الفائق"، ج 1، ص. 175، و "الأساس" (ثمم).

    (1/11334)

    ... 3 ـ هو أحسن الفتيان وأجملهم“ (النتائج، ص. 172).

    ... قلت: هو في "الكتاب"، ج 1، ص. 80، ونصه فيه: ”هو أَحْسَنُ الفتيان وأجمله، وأكرم بنيه وأنبله“. وينظر "البسيط في شرح الجمل"، ج 2، ص. 783.

    ... 4 ـ ”اللهم اغفر لي أيها الرجل وارحمنا أيتها العصابة“ (النتائج، ص. 199).

    ... قلت: هكذا جاء عند السهيلي، والذي في "الكتاب"، ج 3، ص. 170، و"أصول" ابن السراج، ج 1، ص. 367، و"أمالي" ابن الشجري، ج 1، ص. 418: ”اللهم اغفر لي أيتها العصابة“.

    ... 5 ـ ”إنها لإبل أم شاء“ (النتائج، ص. 260).

    (1/11335)

    ... سكت عنه المحقق، وأدرجه في الفهارس العامة ضمن أقوال الصحابة.

    ... قلت: هذا شاهد من أقوال العرب سيَّار. ينظر "الكتاب"، ج 3، ص ص. 172 ـ 174، و"حروف المعاني" للزجاج، ص. 48، و"معاني الحروف" للرماني، ص. 173، و"أمالي" ابن الشجري، ج 3، ص. 108 (نشرة الطناحي)، و"أصول" ابن السراج، ج 2، ص. 213، و"الصحاح" (أمم)، ج 5، ص. 1867، و"الجنى الداني"، ص. 206، و"شرح المفصل" (التخمير)، ج 4، ص ص. 79 ـ 80، و"رصف المباني"، ص. 180 (ط 2)، و"شرح المفصل" لابن يعيش، ج 8، ص. 97.

    ... 6 ـ ”حسبك ينم الناس“ (النتائج، ص. 355).

    (1/11336)

    ... قلت: هو في "المسائل العسكرية" للفارسي، ص. 127.

    الشواهد الشعرية:

    ... 1 ـ قال الشاعر (النتائج، ص. 34):

    وَفِي الجَهْلِ قَبْلَ المَوْتِ مَوتٌ لأَهْلِهِ ... فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ

    وَإِنَّ امْرَءاً لَمْ يَحْيَ بالعِلْمِ مَيِّت ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نَشُورُ

    ... قال المحقق: البيتان في "الفِلاكة والمفلوكون" ولم ينسبا لأحد.

    ... قلت: أفاد محققا كتاب "تعليم المتعلم في طريق التعلم" لبرهان الدين الزرنوجي (هامش صفحة 46) أن البيتين نسبا في إحدى النسخ المخطوطة للحسن بن علي

    (1/11337)

    المرغياني، وورد البيتان عند الصفدي في "الوافي بالوفيات"، ج 21، ص. 453، وياقوت الحموي في "معجم الأدباء"، ج 5، ص. 1956 (نشرة إحسان عباس)، وأفادا أنهما وُجدا في كتاب "سر السرور" لمحمود النيسابوري منسوبَيْن إلى الماوردي. وأنشدهما الماوردي في "أدب الدنيا والدين"، ص. 51 (نشرة محمد فتحي أبوبكر)، وأفاد أنهما لبعض أهل العصر. والبيتان كذلك بلا عزو في "إضاءة الراموس" لابن الطيب الشركَي، ج 2، ص ص. 193 ـ 194 (منشورات وزارة الأوقاف المغربية).

    ... 2 ـ وأنشد السهيلي (النتائج، ص. 57).

    (1/11338)

    ... كَأَنَّ صَلا جَهيزَة حين تمشي حباب الماء يَتَّبِعُ الحَبَابَا

    ... قال المحقق: رواية "اللسان":

    ... ... ... * كأن صلا جهيزة حين قامَت *

    ... قلت: البيت كذلك في "التهذيب"، ج 4، ص. 10، والروض الأنف"، ج 2، ص. 248، و"التاج" (حبب)، ج 2، ص. 224، وهو في "المستقصى"، ج 1، ص. 78، و"اللسان" (جهز)، ج 15، ص. 92 (ط. الكويت)، وروايته في المواطن الثلاثة الأخيرة:

    ... كَأَنَّ صلاَ جهيزة حين قامت ... حَباَبُ الماءِ حالاً بَعْدَ حَالِ

    ... 3 ـ وقال الشاعر (النتائج، ص. 57).

    (1/11339)

    ... تركتُ الرمحَ يعملُ في صلاه ... كأنَّ سِنَانَه خرطومُ نَسْرِ

    ... قال المحقق: البيت في "الكامل" للمبرد، ج 1، ص. 67.

    ... قلت: البيت ليزيد بن سنان المري، وهو سابع أبيات "المفضلية"، ص. 13. ينظر "المفضليات"، ص. 70 (نشرة شاكر وهارون)، وهو بلا عزو في "جمهرة" ابن دريد، ج 2، ص. 897 (نشرة البعلبكي)، ويروى: "يبرق" بدل "يعمل".

    ... 4 ـ وجاء في الصفحة 98 قول الشاعر:

    ... رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فَصَيَّر آخره أوَّلا

    (1/11340)

    ... قال المحقق: ذكره صاحب "العقد الفريد"، ج 2، ص. 253 في أبيات أربعة، قال: ”ولبعضهم“، ولم يُسَمِّه...

    ... وقد ذكر ابن جني في مواضع من "الخصائص" أنَّ أبا علي حَدَّثه به غير دفعه. انظر: ج 1، ص. 209؛ ج 2، ص. 31، 170، وانظر "الأشباه والنظائر"، ج 1، ص. 277.

    ... قُلتُ: البيت لمحمود الوراق كما في "عيون الأخبار"، ج 3، ص. 53، 54، و"طبقات" ابن المعتز، ص. 367، (ط. 3). ونسب للإمام علي. وهو بلا عزو في "سر صناعة الإعراب"، ج 2، ص. 687 (نشرة هنداوي)، و"المحتسب"، ج 1، ص. 188، و"شرح المفصل"، ج 5، ص. 120،

    (1/11341)

    و"الغيث المسجم"، ص. 449، و"محاضرات" اليوسي، ج 1، ص. 213.

    ... وانظر "ديوان" محمد الوراق، ص. 228، 229، صنعة د. وليد قصاب، وفي هامشه إحالة على مصادر أخرى.

    ... 5 ـ وجاء في الصفحة 149 قول الشاعر:

    ... ... ... * حوراء عيناء من العين الحيرْ *

    ... قال المحقق: البيت في "شرح المفصل"، ج 4، ص. 114، وهو لمنظور بن مرثد الأسدي، وروايته:

    ... ... ... * عيناء حوراء من العين الحير *

    ... قلت: جاء في "إصلاح المنطق"، ص. 126، 127، ما نصه: قال الأصمعي: أنشدنا أبو مهدي:

    (1/11342)

    هل تعرف الدار بأعلى ذي القور ... قد درست غيرَ رمادٍ مكفور

    مكتئب اللون مَرُوح ممطور ... أزْمَانَ عيناء سرور السرور

    * عيناء حوراء من العين الحيرْ *

    ... وساقه ابن السكيت ثانية في الصفحة 37، فقال:

    أزمان عيناء سرور المسرور ... عيناء حوراء من العين الحير

    ... وينظر "الزاهر في معاني كلمات الناس" لابن الأنباري، ج 1، ص. 120 (نشرة الضامن)، ط. العراق؛ و"اللسان" (روح، قور، كفر).

    ... 6 ـ وجاء في الصفحة 188 قول الشاعر:

    * نَحُجُّ مَعاً، قالت: أَعَاماً وقابِلَه *

    ... قال المحقق: صدره:

    (1/11343)

    * فقلت: امكثي حتى يَسارِ لعلنا *

    ... والبيت من شواهد "الكتاب"، ج 2، ص. 39، ولا يعرف قائله.

    ... قلت: بل قائله معروف، وهو حميد بن ثور. ينظر "ديوانـ"ـه، ص. 117، وروايته فيه:

    فقلتُ امكثي حتى يسارِ لَوَ أنَّنَا ... نَحُجُّ فَقَالَتْ لِي أعَامٌ وقَابِلُ

    ... والظاهر أن المحقق لم يطلع على بحث الدكتور رمضان عبد التواب الموسوم: ”أسطورة الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه“ الذي نشره في "مجلة المجمع العلمي العراقي" (المجلد 34، ص ص. 205 ـ 245، ط. 1974) وأعاد نشره في كتابه "بحوث ومقالات في اللغة" (ص ص. 89 ـ

    (1/11344)

    140، وفي الصفحة 117 منه تخريج البيت من ديوان حُميد، ومصادر أخرى.

    ... 7 ـ وأنشد السهيلي (النتائج، ص. 209).

    وأبيض كالمخراق...

    ... قال المحقق: لم يقلع لي البيت.

    ... قلت: البيت بتمامه:

    وأبيضَ كالمِخْرَاقِ بَلَّيْتُ حَدَّه ... وهَبَّتُه في الساق والقَصَراتِ

    وهو لامرئ القيس. ينظر "ديوانـ"ـه، ص. 82 (نشرة أبي الفضل إبراهيم، ص 4).

    ... وصدره بلا عزو في "التهذيب" (خرق)، ج 7، ص. 42، و"اللسان" (خَرق)، ووهم صانع فهارسه فجعل صدر البيت عجزاً في فهرس الأشعار.

    ... 8 ـ وفي "النتائج"، ص. 209، ورد الشاهد:

    (1/11345)

    وأسمر خطي...

    ... فقال المحقق: قال ابن الأنباري في "شرح المفضليات"، ص. 734: "أنشدني أحمد والضبي للأسود بن يعفر:

    ... وأسمر خطي كأنَّ سنانه ... شهاب غضا شيعته فتلهبا

    ... والبيت في "الأصمعيات"، ص. 266 منسوباً إلى ربيعة بن مقروم الضبي، وفي "البحر المحيط"، ج 2، ص. 332: ”وقال حاتم:

    وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعاً على العشر“

    قلت: الشاهد بروايته الثانية في "اللسان" (رمى) وعزاه لمن سماه أوساً. فإن يكن قصده أوس بن حجر، فليس في ديوانه، وهو في اللسان ثانية (قسب) و(رمى) منسوباً لحاتم وهو

    (1/11346)

    في "ديوانـ"ـه، ص. 46، ولا عزو في "البيان والتبيين"، ج 3، ص. 25؛ ونسب في "سمط اللآلئ"، ج 2، ص. 686 لعتيبة ابن مرداس، وفي حاشيته إحالة على مصادر أخرى نبه عليها العلامة الميمني رحمه الله.

    ... 9 ـ وأنشد السهيلي قول الشاعر (النتائج، ص. 225).

    ... بالخير خيرات وإن شرافا ... ولا أريد الشر إلا أن تا

    ... وعزاه المحقق للقيم بن أوس.

    ... قلت: هو لنعيم بن أوس في "العمدة"، ج 1، ص. 527 (نشرة قرقزان)، و"اللسان" (معي)، ولحكيم بن معيَّة التميمي في "المحكم" لابن سيده، ج 2، ص. 193، و"اللسان" ثانية (معي)، ونسبه

    (1/11347)

    القرطبي في "تفسير"ه، ج 1، ص. 155 لمن سماه زهيراً. فإن يكن مراده زهير بن أبي سلمى، فليس في ديوانه.

    ... 10 ـ وجاء في الصفحة 236 قول الشاعر:

    كيف أصبحت؟ كيف أمسيت مما ... يثبت الود في فؤاد الكريم

    ... قال المحقق: انظر "أمالي" السهيلي، ص. 101، 102.

    ... قلت: الشاهد بلا عزو في "الخصائص"، ج 1، ص. 290، و "ديوان المعاني"، ج 2، ص. 570 عن المبرد النحوي قال: أنشدني المازني عن أبي زيد، وهو في "شرح" المرزوقي، ج 3، ص. 1401، و"رصف المباني، ص. 478، و"الدر المصون" للسمين الحلبي، ج 3، ص. 176، و"الأشموني"، ج 3، ص.

    (1/11348)

    116، و"المساعد"، ج 2، ص. 473، و"البحر المحيط"، ج 2، ص. 385، دار الفكر، ط 2، و"الهمع"، ج 2، ص. 140.

    ... وجاء في بعض هذه المصادر: "يزرع" مكان "يثبت".

    ... 11 ـ واستشهد السهيلي بالبيت الآتي منسوباً للأعشى (النتائج، ص. 270).

    ... وسخَّر من جِنِّ الملائِكِ سبعَةً ... قياماً لديه يَعْمَلُونَ بلا أجْرِ

    ... قال المحقق: البيت في "اللسان"، مادة "جنن"، وفيه "تسعة" بدل "سبعة".

    ... قلت: الشاهد في "تفسير" الطبري، ج 1، ص. 506 (ط. شاكر)، وفيه تنصيص على أنه للأعشى ـ أعشى قيس بني ثعلبة البكري ـ وهو يذكر سليمان

    (1/11349)

    بن داود وما أعطاه الله وورد ضمن أبيات كالآتي:

    ولوْ كانَ شيءٌ خالِداً أو معمِّراً ... لكانَ سليمانُ البريءُ من الدَّهْرِ

    بَراهُ إلاهي واصطفَاهُ عِبَاده ... وَمَلَّكه ما بين ثُريَّا إلى مِصْرِ

    وسَخَّر من جنِّ الملائِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لدَيْهِ يعمَلُونَ بلا أَجْرِ

    ... والشاهد في "الأضداد" لابن الأنباري، ص. 335 (نشرة أبي الفضل إبراهيم، ط. الكويت)، وهو للأعشى ـ بلا وصف ـ في "المحرر الوجيز"، ج 1، ص. 179 (ط. المغرب)، و"البحر المحيط"، ج 1، ص. 153، و"الخزانة"، ج 6، ص. 176 (ط. هارون)، وهو من

    (1/11350)

    شواهد الوزير اليمني في "الطراز"، ج 2، ص. 62 (ط. دار الكتب العلمية) وعزاه للأرحبي، وبلا عزو في "الدر المصون"، ج 1، ص. 173، و"تفسير" القرطبي، ج 1، ص. 195.

    ... 12 ـ وأنشد السهيلي قول الشاعر (النتائج، ص. 281):

    * كُلاّ بَلَوْتُ فَلا النَّعْمَاءُ تُبْطِرُنِي *

    ... قال المحقق: البيت في "الكامل" للمبرد، ج 1، ص. 164، غير منسوب، وعجزه:

    * ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائِها جَزعا *

    ... قلت: الشاهد لعبد العزيز بن زرارة الكلابي في "معاني" العسكري، ج 1، ص. 88، و"الوحشيات"، ص. 175، و"الحماسة البصرية"، ج 1، ص. 116،

    (1/11351)

    و"العقد الفريد"، ج 2، ص. 29؛ ج 3، ص. 378، و"التذكرة السعدية"، ص. 108، وهو له من قصيدة في "البيان والتبيُّن"، ج 4، ص. 54، ولخلف الأحمر في "سمط اللآلي"، ج 2، ص. 412، وله أيضاً من قصيدة في "أمالي" الزجاجي، ص. 64 (نشرة هارون)، وللقيط بن زرارة في "الفرج بعد الشدة" للماوردي، ج 3، ص. 100 (ضمن رسائله) و"الفرج بعد الشدة" للتنوخي، ج 5، ص. 5 (نشرة عبود الشالجي)، و"الأرج بعد الفرج" للسيوطي، ص. 54.

    ... 13 ـ وأنشد السهيلي للخثعمي (النتائج، ص. 281).

    (1/11352)

    بكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فلم يَشْفِ ما بنا على أن قُربَ الدار خيرٌ من البعد

    ... قال المحقق: هو عبد الله بن الدمينة...، والبيت في "ديوانـ"ـه، ص. 82.

    ... قلت: نسبه القالي في "ذيل الأمالي والنَّوادر"، ص. 104 ليزيد بن الطثرية، وعزاه أبو تمام في "وحشياتـ"ـه، ص. 175، لعبد العزيز بن زرارة. وقد فات العلامة راتب النفاخ ـ رحمه الله ـ ذلك فلم ينبه عليه في الهامش.

    ... 14 ـ وفي صفحة 293 ورد الشاهد:

    يَدَيْتُ على ابنِ حسْحاسِ بنِ عمرو ... بأسفل ذي الجَذاةِ يدَ الكريمِ

    (1/11353)

    ... وخرجه المحقق من "لسان العرب" (جذا) و(يدي).

    ... قلت: هو أيضاً في "أمالي" ابن الشجري، ج 2، ص. 230 (نشرة الطناحي)، وفي هامشه فضل تخريج فيلنظر.

    ... 15 ـ وجاء في الصفحة، 299 كلام للسهيلي عن الرِّزق ـ بفتح الراء ـ فقال: كما جاء في الشعر من نحو قوله في عمر بن عبد العزيز رحمه الله:

    ... واقْصِدْ إلى الخير ولا تَوقَّهْ ... وارزُق عِيَالَه رِزْقَهْ

    ... وعلق عليه المحقق بقوله: ”هو عويف القوافي، من قصيدته التي يرثي فيها عمر بن عبد العزيز.

    (1/11354)

    ... قلت: الظاهر أن المحقق انساق مع ما قال السهيلي، فتوهم أن البيت في رثاء عمر بن عبد العزيز، والصحيح أنه من قصيدة في رثاء سليمان بن عبد الملك، وإليك نص كلام المبرد: ”وقال عويف القوافي شعراً يرثي سليمان بن عبد الملك ويذكر عمر بن عبد العزيز... “، ("الكامل"، ج 2، ص. 840 [نشرة الدالي]).

    ... 16 ـ وأنشد السهيلي قول الشاعر (النتائج، ص. 364).

    ثلاثةُ أحباب فَحُبُّ عَلاَّقة وَحُبُّ تِملاَّق، وَحُبُّ هُوَ القتلُ

    (1/11355)

    ... قال المحقق في تخريجه: البيت في "مجالس ثعلب"، ج 1، ص. 23 منسوباً إلى أعرابي، وفي "شرح المفصل"، ج 6، ص. 48، ج 9، ص. 157.

    ... قلت: الشاهد بلا عزو في "ليس في كلام العرب"... لابن خالويه، ص. 139 (نشرة أحمد عبد الغفور عطار)، وعزاه المحقق إلى حنبل الطائي، وهو بلا عزو في "الدر المصون"، ج 2، ص. 210، و"نهاية الأرب"، ج 2، ص. 130، و"شرح المفصل" (التخمير)، ج 3، ص. 76 (نشرة عبد الرحمن العثيمين)، و"البحر المحيط"، ج 1، ص. 456، و"شرح الكافية الشافية" لابن مالك، ج 4، ص. 2239.

    (1/11356)

    ... 17 ـ وفي الصفحة، 385 جاء قول الشاعر:

    * والشهر مثل قلامة الظفر *

    ... وخرجه المحقق من "التاج" و"نهاية" ابن الأثير.

    ... قلت: الشطر أيضاً من شواهد الخطابي في "غريب الحديث"، ج 1، ص. 130. أورده ضمن بيت، فقال: قال الشاعر، أنشده الفقعسي:

    ... ابدأن من نجدٍ على ثقة والشهر مثل قلامة الظُّفْر

    ... وهو كذلك من شواهد القرطبي في "تفسير"هـ ج 2، ص. 293، ساقه ضمن بيتين، كالآتي:

    ... أخوان من نَجْدٍ على ثقةٍ ... والشَّهْر مثْلُ قُلامَةِ الظُّفْرِ

    ... حتى تكامل في استدارته ... في أربع زادت على عشر

    (1/11357)

    ... 18 ـ وأنشد السهيلي قول الراجز (النتائج، ص. 392).

    ... وكُلُّ شيء قد يحب ولده ... حتى الحُبارى فتطير عَنَده

    ... وخرجه المحقق من "اللسان" (عند).

    ... قلت: هو أيضاً في "التهذيب" (عند)، ج 2، ص. 222، و"المستقصى"، ج 2، ص. 227، و"جمهرة" ابن دريد، ج 2، ص. 666، وتَكَرَّر الشاهد ثانية في "اللسان" (حَبَر)، وورد في الموضعين الأخيرين مَثَلاً على هيئة النثر.

    نقول مختلفة:

    ... زخر كتاب "النتائج" بنقول كثيرة، اهتدى المحقق إلى تخريج أكثرها، وأعياه بعضها. وممّا فاته:

    (1/11358)

    ... 1 ـ قول السهيلي (النتائج، ص. 246): ”ومكان مضبوب ومسبوع“ من ”الضباب والسباع“.

    ... قال المحقق: ”لم أجد "مضبوباً ومسبوعاً" فيما أتيح لي من كتب اللغة“.

    ... قلت: ورد في "الاشتقاق" لابن دريد، ص. 427 ما نصه: ”و"السَّبيع" مثل المسبوع سواء، وهو الذي قد أكل السبع غَنَمه“.

    ... وفي "التاج" ”سبع“، ج 21، ص. 278 (ط. الكويت): "وسُبِعَت الوحشية فهي (مَسبوعة)".

    ... 2 ـ قال السهيلي: ”ومن هذا الباب ـ المتقدم بالطبع ـ تقدم (العزيز) على (الحكيم)، لأنه عزَّ، فلمَّا عزَّ حكم.. “. (النتائج، ص. 268).

    (1/11359)

    ... قلت: قوله: "لأنه عز فلما عز حكم" إشارة إلى خبر ساقه في شرح آيات الوصية: 42.

    ... وأورده أبو حيان في "البحر المحيط"، ج 3، ص. 484 (ط. دار الفكر، بيروت، ط 2)، ونصه فيه: ”روي أن بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة} إلى آخرها، وختمها بقوله: ”والله غفور رحيم“ فقال: ما هذا كلام فصيح، فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنّما هي: (والله عزيز حكيم) [المائدة، الآية 38]، فقال: بخ بخ، عزَّ فحكم فقطع“.

    ... 3 ـ وفي الصفحة 325 عقد السهيلي فصلا في صيغتي "افعلَّ" و"افعالّ"، وذكر أن الخطابي زعم أن معنى

    (1/11360)

    "احْمرَّ" مخالف لمعنى "احمارّ"، وذهب إلى أنّ "افعلّ" يقال فيما لم يخالطه لون آخر، و"افعالّ" يقال لما خالطه لون آخر...

    ... قلت: أغفل المحقق عزو قول الخطابي إلى مصدره، وهو في "غريب الحديث" له، ج 1، ص. 241، ونصه فيه: "فأما اللون الخالص كالحمرة والبياض ونحوهما، فالفعل منه "احمرَّ" و"ابيضَّ"...، هذا إذا أردت أنه قد تمكَّنَ واستقرَّ، فإذا أردت التغير والاستحالة قلت: "احمارَّ" و"اصفارّ".

    ... وبعد؛ فهذا ما يسر الله تعالى من متابعة شواهد "نتائج الفكر" فعسى أن يفيد محققه من ذلك ويعمل على إخراج الكتاب في

    (1/11361)

    طبعته الثالثة إخراجاً يشارف الكمال، وتلك رغبته التي عبر عنها في آخر مقدمة الطبعة الثانية.

    ثانياً ـ "التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام" لأبي القاسم السهيلي، تحقيق عبد الله محمد علي النقراط

    ... يعد كتاب "التعريف والإعلام" أحد المؤلفات التي نالت شهرة واسعة، وقد أفاد منه طلبة العلم عامة، والمشتغلون بالدراسات القرآنية خاصة، إفادة كبيرة.

    ... وموضوع هذا الكتاب هو التعريف بمبهمات القرآن أعلاماً كانت أو غير إعلام. وقد أبان السهيلي عن غرضه من هذا التأليف، فقال:

    (1/11362)

    ... ... فإني قصدت أن أذكر في هذا المختصر الوجيز ما تضمنه كتاب الله العزيز من ذِكْرِ من لم يُسَمَّ فيه باسمه من نبي أو ولي أو غيرهما من آدمي أو ملك أو جني أو بلد أو شجر أو كَوكب أو حيوان، له اسم علم قد عرف عند نَقَلَة الأخبار والعلماء الأخيار (1).

    منهج السهيلي في هذا الكتاب

    __________

    (1) التعريف والإعلام، تحقيق عبد الله محمد علي النقراط، منشورات كلية الدعوة ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامي، طرابلس ـ ليبيا، ط 1، 1411 هـ/ 1996 م، ص. 50.

    (1/11363)

    ... صرف السهيلي جهده في هذا التأليف إلى تتبع ما استبهم في القرآن من الأسماء، وسلك في ذلك مسلك المفسرين في تناول سور القرآن الكريم، بادئاً بسورة الحمد، ومنتهياً بسورة الفلق.

    ... وقد تَوَسَّلَ المؤلف إلى إعداد هذه الدراسة باعتماد ثلاثة مصادر:

    ... 1 ـ القرآن الكريم؛

    ... 2 ـ الحديث النبوي؛

    ... 3 ـ كتب التفسير والحديث والتاريخ والأخبار والأنساب.

    ... 1 ـ القرآن الكريم:

    ... أما المصدر الأول، فإن السهيلي اعتمده لأن القرآن ـ كما قال الزمخشري ـ(1)

    __________

    (1) ينظر "الكشاف"، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، ج 1، ص. 546.

    (1/11364)

    ”يفسر بعضه بعضاً“، وهو منهج أصحاب التفسير بالمأثور الذين انتهى بهم النظر في كتاب الله إلى أنه اشتمل على الإيجاز والإطناب، والإجمال، والتبيين، والإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص. ولذلك لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى من أن ينظر في القرآن أولاً، فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما جاء مسهباً على معرفة ما جاء موجزاً، وبما جاء مُبَيَّناً على فهم ما جاء مجملاً، ليحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وبهذا يكون قد فسر القرآن بالقرآن، وفهم مراد الله بما جاء

    (1/11365)

    عن الله. وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأنَّ صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه، وأعْرَف به من غيره(1).

    ... وقد جنح السهيلي إلى بيان ما استبهم من الأسماء في سورة "الحمد" فتمثل هذا اللون من التفسير واضحاً جلياً فيها.

    ... قال: قوله تعالى: {الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة، الآية 7]: هم الذين ذكرهم الله في سورة النساء حين قال: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء

    __________

    (1) محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة، ج 1، ص. 37.

    (1/11366)

    والصالحين} [النساء، الآية 68]، ثم أعقب ذلك بقوله: وانظر إلى قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} [النساء، الآية 66]، واجمع بينه وبين قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة، الآية 7]، تَجِدْهُ شرحاً له: لأن الصراط: الطريق، ومن شأن سالك الطريق الحاجة إلى الرفيق، ولذلك قال تعالى {وحسن أولئك رفيقا}(1).

    2 ـ الحديث النبوي:

    ... السنة هي المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، ومهمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي البيان، مصداقاً لقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر

    __________

    (1) التعريف والإعلام، ص ص. 53 ـ 54.

    (1/11367)

    لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل، الآية 44].

    ... وأوجه خدمة السنة للكتاب متعددة. فهي تبين مجمله، وتوضح مشكله، وتخصص عامه، وتقيد مطلقه، وتبين النسخ وتؤكد أحكاماً وردت في القرآن.

    ... وهذا الوجه الأخير هو الذي عناه السهيلي حين قال: ”وانظر إلى قوله عليه السلام: "خير الرفقاء أربعة"(1)، تجده ينظر إلى قوله سبحانه: {من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً}“.

    __________

    (1) أخرجه ابن ماجة في "سننـ"ـه، ”كتاب الجهاد“، باب ”السرايا“، ج 2، ص. 944 (نشرة محمد فؤاد عبد الباقي).

    (1/11368)

    3 ـ كتب التفسير والحديث والتاريخ والأخبار والأنساب:

    ... أ ـ كتب التفسير والحديث:

    ... غلب على السهيلي الاستعانة بهذه المصادر. وهو تارة يحيل عليها، ويذكر عناوينها، ويكتفي بالتنبيه على مؤلفيها استغناءً بها عن ذكر أسمائها تارة أخرى.

    ... وهذه أهم كتب التفسير والحديث التي اعتمدها في "التعريف والإعلام"(1).

    ... 1 ـ "أحكام القرآن" للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري.

    ... 2 ـ "تفسير" الطبري.

    ... 3 ـ "تفسير" عبد الرزاق.

    ... 4 ـ "تفسير" الكشي (عبد بن حميد).

    __________

    (1) التعريف والإعلام، ص. 54.

    (1/11369)

    ... 5 ـ "تفسير" الماوردي.

    ... 6 ـ "تفسير" النقاش.

    ... 7 ـ "سنن" الترمذي.

    ... 8 ـ "سنن" الدارقطني.

    ... 9 ـ "صحيح" البخاري.

    ... 10 ـ "مسند" البزار.

    ... 11 ـ "موطأ" الإمام مالك.

    ...

    ... ب ـ كتب التاريخ والأخبار والأنساب:

    ... أكثر السهيلي من اعتماد هذه المصادر، وهذه قائمة بعناوين أهمها:

    ... 1 ـ "تاريخ الطبري".

    ... 2 ـ "سيرة ابن إسحاق".

    ... 3 ـ "سيرة ابن هشام".

    ... 4 ـ "مروج الذهب" للمسعودي.

    ... 5 ـ "معجم ما استعجم" للبكري.

    ... 6 ـ "المؤتلف والمختلف" لابن ماكولا.

    ... 7 ـ "الهواتف" لابن أبي الدنيا.

    (1/11370)

    ... ومنهج السهيلي في "التعريف والإعلام" يكاد يكون منهجه نفسه في سائر كتبه. فهو يسوق الأقوال، ويعمل فكره الثاقب فيها، ويناقشها مناقشة علمية رصينة، فيرجع ما تعضده الأدلة والشواهد، ويلغي الضعيف منها والمرجوح.

    ... فعند كلامه على قوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب} [النمل، الآية 40]، قال: قيل: هو آصف بن أرخيا بن خالة سليمان، وكان عنده علم بالاسم الأعظم من أسماء الله تعالى، وقيل: هو سليمان نفسه.

    (1/11371)

    ... ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل، وذكر محمد بن الحسن المقري قولاً ثالثاً أنه صبة بن إذ، وهذا لا يصح البتة، لأن صبة هو ابن عاذ بن طابخة، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد، وقد تقدم أن معداً كان في زمان بختنصر، وذلك بعد عهد سليمان عليه السلام بزمن طويل. فإذا لم يكن معد في عهد سليمان، فكيف صبة بن إذ، وهو بعده بخمسة آباء، وهذا بَيِّن لمن تأمله. وقد قيل فيه قول رابع: إنه جبريل عليه السلام(1).

    __________

    (1) التعريف والإعلام، ص. 237.

    (1/11372)

    ... ومن أمثلة التحقيق العلمي الذي ساد كتاب "التعريف والإعلام" ما جاء على لسان السهيلي وهو بصدد الكلام على الآية الرابعة من سورة الأحزاب: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}؛ قال: كان جميل بن معمر الجمحي يدعى ذا القلبين، فنزلت الآية، وفيه يقول الشاعر:

    وكيف ثَوَائِي بالمدينة بعدما ... قضَى وطراً منها جميل بن معمر

    ... وروى الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ استأذن على عبد الرحمن بن عوف، فسمعه يتغنى بهذا البيت، فقال: ما هذا يا ابا محمد؟ فقال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في

    (1/11373)

    بيوتهم، وقلب المبرد في الكامل هذا الحديث(1). وجعل المستأذن عبد الرحمن بن عوف، والمتغني عمر بن الخطاب، والزبير أعلم من المبرد بهذا الشأن(2).

    ... لكن السهيلي ـ وهو المحقق المدقق ـ تساهل في كتابه هذا بعض التساهل، فلم يعتمد الأخبار الصحيحة وحدها، ولم يشترط التزامها في الكتاب. وقد نبه على ذلك في معرض كلامه على قوله تعالى: {لها سبعة أبواب} [الحجر، الآية 44]، فقال:

    __________

    (1) ينظر "الكامل"، ج 2، تحقيق محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1986، ص ص. 564 ـ 565.

    (2) التعريف والإعلام، ص ص. 253 ـ 254.

    (1/11374)

    ”وقع في كتب المواعظ والرقائق أسماء لهذه

    الأبواب على ترتيب لم يرد في أثر صحيح، وإن كنا لم نشترط في هذا الكتاب أن نقتصر على الصحيح دون غيره“ (1).

    ... وما تساهَلَ السهيلي في تضمينه كتابَه من أخبار قد لجأ إلى إيراد بعضه ثِقَةً براويه، كما وقع له عند كلامه على قوله تعالى: {أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} [النمل،الآية 82]، قال:

    ... اسم الدابة: "أقصى" فيها ذكر أبو بكر بن الحسن، وذكر أنها الثعبان الذي كان في بئر الكعبة قبل بنيان

    __________

    (1) التعريف والإعلام، تحقيق عبد الله محمد علي النقراط، ص ص. 253 ـ 254.

    (1/11375)

    قريش لها، وأن الطائر لما اختطفها ألقاها بالحجون(1)، فالتقمتها الأرض، فهي الدابة التي تخرج تكلم الناس، وتخرج عند الصفا، وهذا الذي قاله غريب، غير أن الرجل من أهل العلم، ولذلك ذكرنا قوله (2).

    كتاب "التعريف والإعلام" نسخه المخطوطة، طبعاته

    ... لكتاب "التعريف والإعلام" أكثر من نسخة مخطوطة تحتفظ بها خزائن مغربية ومشرقية، وبعضها في خزائن أوربا، ومنها:

    __________

    (1) الحجون: جبل أعلى مكة عند مدافن أهلها. (ينظر "معجم االبلدان" لياقوت الحموي، ج 2، ص. 161).

    (2) التعريف والإعلام، ص. 238.

    (1/11376)

    1 ـ نسختا الخزانة العامة بالرباط، ورقماهما: 1202 د، و 1963 د.

    2 ـ نسخة الخزانة الحسنية، بالرباط، ورقمها: 218/ 2.

    3 ـ نسخة في مكتبة العلامة محمد المنوني.

    4 ـ نسخة دار الكتب المصرية تحت رقم 29321 ب.

    5 ـ نسختا ميونيخ وبرلين، ذكرتهما نشرة عياش، ولم تنبه على أرقامهما.

    ... أما طبعات الكتاب، فهي:

    1 ـ نشرة مطبعة الأنوار سنة 1938.

    2 ـ نشرة دار الكتب العلمية بعناية عبد الأمير مهنا سنة 1987.

    3 ـ طبعة دار الفكر العربي ببيروت بعناية هيثم عياش سنة 1988.

    (1/11377)

    4 ـ طبعة كلية الدعوة الإسلامية ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامي بطرابلس ليبيا، بتحقيق عبد الله محمد علي النقراط سنة 1992.

    ... فأما الطبعة الأولى، فإن الباحثين الذين وقفوا عليها مجمعون على أنها تزخر بتصحيفات وتحريفات، بالرغم من ادعاء مصححها استفراغ الجهد في إخراجها سليمة من الأخطاء.

    ... والنشرة الثانية التي ظهرت بعناية عبد الأمير مهَنَّا اعتمدت نسخة خطية واحدة، قوبلت على نشرة مطبعة الأنوار. وصاحب هذه النشرة يذكر في مقدمة الكتاب أن الذي دعاه إلى إخراجها ثانية هو ما لاحظه في النشرة الأولى من كثرة

    (1/11378)

    الأخطاء، لكن عمله لم يسلم من بعضها؛ بل لقد أضاف إليها أخطاء جديدة.

    ... والنشرة الثالثة التي صدرت بعناية هيثم عياش، زعم مُقدِّمها (عزت العنان) أنها اعتمدت نسختي ميونيخ وبرلين، لكن (المحقق!!) لا يصف النسختين، ولا يحيل حتى على رقميهما. ولا يكاد قارئ هذه النشرة يفرغ من إلقاء نظرة على هذا (التحقيق!!) حتى يستيقن أن الرجل ليس من أهل هذا الفن.

    ... وأكتفي هنا بالإلماع إلى بعض المسائل المنهجية:

    ... 1 ـ كُتِبَ على غلاف الكتاب العنوان الآتي: "غوامض الأسماء المبهمة والأحاديث المسندة في القرآن".

    (1/11379)

    ... ولا أدري من أين جاء (المحقق!!) بهذا العنوان، إذ لم أقف على أحد ممن ترجم السهيلي وذكر تآليفه نبه على كتاب له بهذا العنوان. ومن العجيب أن السهيلي يذكر عنوان "التعريف والإعلام" في خطبة الكتاب، فتأكد بذلك أن ما أُثْبِتَ على الغلاف ليس إلا اختراعاً من المحقق أو الناشر أو هما معاً.

    ... 2 ـ سقط من النسختين اللتين اعتمدتهما هذه النشرة أكثر خطبة الكتاب، والمنهج المتعارف عليه في التحقيق يقتضي التنبيه على ذلك في الهامش، لكن هذا (المحقق!!) ينص على ما سقط في متن الكتاب. فأي منهج هذا في التحقيق ؟

    (1/11380)

    ... 3 ـ يزعم المحقق أو الناشر أو هما معاً أن هذه النشرة هي أول إصدار للكتاب، والصحيح ـ كما مر بك ـ أنها النشرة الثانية.

    ... هذه بعض نقائص نشرة هيثم عياش وهي ـ كسابقتها ـ مثقلة بالهوامش التي لا داعي إلى كثير منها، والظاهر أن الرجل لا علم له بصناعة التحقيق.

    ... ولما كانت النشرة الرابعة هي التي حققت وفق المنهج المتعارف عليه عند أهل هذا الفن، فقد وجدتني مدعواً إلى إيثارها ـ دون ما سواها من الطبعات التجارية السالفة ـ بمتابعة نقدية.

    (1/11381)

    ... وبما أن المحقق قد جعل الكتاب قسمين: الدراسة أولاً، والتحقيق ثانياً؛ فإن متابعتي ستمضي وفق هذه الخطة.

    ... 1 ـ الدراسة:

    ... عقد المحقق ترجمة للسهيلي موجزة، تناول فيها نسبته إلى سهيل، ومصادر ترجمته، وصفاته، ومكانته العلمية، وشيوخه، وآثاره. ولي على أكثر هذه المباحث ملاحظات أوجزها كالآتي:

    ... 1) في الصفحة 17: ذكر المحقق أن السهيلي عرف بثلاث كنى، أشهرها أبو القاسم، ثم أبو زيد؛ وأما الثالثة، فهي أبو الحسن.

    (1/11382)

    ... قلت: فات المحقق ـ كما فات معظم الذين ترجموا للسهيلي ـ كنية له رابعة، هي أبو علي، انفرد بها مصدر أندلسي هو "أدباء مالقة"، ص. 171 (مخطوط).

    ... 2) عَوَّلَ المحقق في ترجمته للسهيلي وذكر بعض أخباره على طائفة من المصادر، ذكرها في الصفحة 18 تحت عنوان: ”المصادر التي ترجمت للسهيلي“.

    ... ولي على هذه القائمة الملاحظات الآتية:

    ... أ ـ إن حصة الأسد في هذه القائمة حازتها المصادر الشرقية، والسهيلي أندلسي، وكان الأولى الرجوع إلى المصادر الأندلسية والمغربية لهذا الغرض.

    (1/11383)

    ... ب ـ إن أهم مصدر أندلسي عَوَّلَ عليه من عُنُوا بالترجمة للسهيلي ـ قديماً وحديثاً ـ هو "المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دحية تلميذ السهيلي؛ ومن الغريب أنه لا يوجد في قائمة مصادر المحقق.

    ج ـ إن السهيلي من علماء اللغة والنحو، وقد ترجمت له طائفة من مصادر هذين الفنين أهمهما:

    ... ( "إشارة التعيين" لابن عبد المجيد اليماني، تحقيق عبد المجيد دياب، ط. السعودية، ص. 182.

    ... ( "البلغة في تاريخ أئمة اللغة" للفيروزآبادي، تحقيق محمد المصري، ط. دمشق، ص. 123.

    (1/11384)

    ... ( "طبقات النحاة واللغويين" لابن قاضي شهبة (مخطوط بالخزانة الأسدية ـ دمشق)، ص. 538.

    ... وليست هذه الثلاثة مِنْ مصادر المحقق، وإنما اكتفى بمصدر متأخر هو "بغية الوعاة" للسيوطي.

    ... وتحت عنوان: ”صفاته ومكانته العلمية“، ذكر المحقق ما نصه: ”وصف المترجمون له ـ للسهيلي ـ بالفقيه الأديب، الحافظ، العالم الجليل القدر، المقرئ، المتصرف في فنون العلم وضروب المعارف“، ثم أحال في الهامش على "شجرة النور الزكية" لابن مخلوف التونسي.

    ... أقول: ها هنا ملاحظتان اثنتان:

    (1/11385)

    ... 1 ـ عبارة المحقق: ”وصف المترجمون له... “تقتضي الإحالة على مصادر، لا على مصدر واحد.

    ... 2 ـ "شجرة النور الزكية" مصدر متأخر، وكان الأولى الإحالة على مصادر متقدمة عليه زمناً.

    شيوخ السهيلي:

    ... عرج المحقق على أسماء اكثر شيوخ السهيلي، وذكر أنه أكثر عن ابن الطراوة في علوم اللسان، وناظره في "كتاب" سيبويه، كما أورد ابن عربي الحاتمي الصوفي ضمن هؤلاء الشيوخ.

    ... أقول: مناظرة السهيلي شيخه ابن الطراوة ذكرها ابن الأبار في "التكملة"، ج 3، ص. 32 (نشرة د. الهراس) والذهبي في "تذكرة الحفاظ"، ج 4، ص. 1349،

    (1/11386)

    وتناقلتها بعض المصادر المتأخرة دون تحقيق. والصحيح ـ كما حقق ذلك الدكتور محمد إبراهيم البنا ـ أنه لم تحدث مناظرة بين الشيخ وتلميذه، وإنما وقع في العبارة تصحيف، وصوابها: ”ونظر في "كتاب" سيبويه على أبي الحسين ابن الطراوة“. وكذلك وردت العبارة في "إشارة التعيين"، ص. 182، ويعضدها قول الفيروزآبادي في "البلغة"، ص. 122: ”سمع "كتاب" سيبويه وغيره على ابن الطراوة“.

    ... ( ابن عربي الحاتمي (560 هـ ـ 638 هـ) تلميذ السهيلي وليس شيخه، كما توهم المحقق، وقد حلاه بقول: ”شيخنا“ في موضعين من كتابه "محاضرات الأبرار"

    (1/11387)

    (ج 1، ص. 12، 401، ط. دار صادر). وذكر سماعه على السهيلي كذلك العباس بن إبراهيم في كتابيه "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام"، ج 8، ص. 66، و"إظهار الكمال في مناقب سبعة رجال"، ص. 336 (مخطوط الخزانة الحسنية)، والكتاني في "سلوة الأنفاس"، ج 2، ص. 220. والذي أوقع المحقق في هذا الوهم هو اعتماده ما جاء في "شجرة النور"، ص. 156، وقد شَذَّ ابن مخلوف بحكاية سماع السهيلي عن ابن عربي الحاتمي. ولعله اشْتَبَهَ عليه بالقاضي أبي بكر بن العربي المعافري.

    آثاره:

    (1/11388)

    ... تحت هذا العنوان ذكر المحقق ما اهتدى إليه من تآليف السهيلي المطبوعة والمخطوطة، ولي على ما ذكره الملاحظات الآتية:

    ... 1 ـ أنه ينسب للسهيلي ـ تسليماً بما تناقلته كتب التراجم ـ "شرح الجمل" للزجاجي.

    ... أقول: الذي أوقع المتأخرين في هذا الوهم هو ابن الأبار. فقد قال في "التكملة"، ج 3، ص. 33: ”وله شرح على الجمل أظنه لم يستوفه“. وقد حقق الدكتور البنا هذا الأمر وجلّى هذا الإشكال بأن أكَّدَ على أن ابن الأبار يعني بـ "شرح الجمل" كتاب "نتائج الفكر"، معتمداً على دليلين:

    (1/11389)

    ... أ) أن السهيلي لم يشر في كتبه ـ وهو الحريص على ذلك ـ إلى أن له كتاباً بهذا العنوان، كما أن تلميذه ابن دحية لا يذكر في مؤلفات شيخه هذا الكتاب.

    ... ب) أن "نتائج الفكر" مرتب على أبواب الجمل. فلعل ابن الأبار ظن من هذا أنه شرح للجمل. (”مقدمة“ النتائج، ص. 21).

    ... 2 ـ يذكر المحقق ضمن مؤلفات السهيلي قصة يوسف عليه السلام، وهي مخطوطة، ومنها نسختان بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 622 د، و 1427 د.

    ... أقول: هذا المخطوط قد نسبه للسهيلي خطأ الزركلي في "الأعلام"، ج 3، ص. 313، وتابعه المحقق دون تثبّت. وقد

    (1/11390)

    دَلَّلَتُ في رسالة لي جامعية على أن هذا المخطوط ليس من إنتاج السهيلي استناداً إلى أدلة، أهمها ما يلي:

    ... أ) أن المنهج المتبع في هذا المخطوط بعيد كل البعد عن منهج السهيلي الذي يقوم أساساً على استنطاق النصوص القرآنية عتماداً على علوم الآلة (اللغة ـ النحو ـ البلاغة...)، وليس في هذا المخطوط شيء من ذلك.

    ... ب) مما التزمه السهيلي في سائر تآليفه أنه يحيل على كتبه وآماليه ومسائله. ولو كان الكتاب له، ما غفل عن التنبيه عليه.

    (1/11391)

    ... ج) أن السهيلي كثير الالتفات إلى إعجاز القرآن، شديد العناية بالنظم والبيان، ولا أثر في هذا المخطوط لشيء من ذلك.

    ... وخلاصة القول إن هذا المخطوط يفتقر إلى روح السهيلي، ولا يسع من صَحِبَ هذا العالم وعاش مع مؤلفاته حيناً من الدهر إلا أن يسلم بأنه ليس من إنتاجه.

    ... 2 ـ أشار المحقق ـ في معرض حديثه عن تآليف السهيلي ـ إلى تأليف آخر له، هو "حلية النّبيل في معارضة ما في (كذا) السبيل".

    ... أقول: انفرد ابن الخطيب بالإشارة إلى هذا التأليف في "الإحاطة"، ج 3، ص. 379، وتصحفت فيه عبارة ”ملقى السبيل“ إلى

    (1/11392)

    ”ما في السبيل“، ولم يتفطن المحقق إلى هذا التصحيف.

    ... و"ملقى السبيل" رسالة لأبي العلاء المعري. وقد نبه الدكتور محمد بنشريفة في كتابه "أبو المطرف ابن عميرة: حياته وآثاره". (ص. 299) عليها وأفاد أنها في فن الكتابة في الزهديات والمواعظ التي كانت منتشرة انتشاراً كبيراً في الأندلس خلال القرنين السادس والسابع الهجريين.

    ...

    أهم ما تولاه من مناصب:

    ... وتحت هذا العنوان ذكر المحقق ـ نقلاً عن ابن الجزري في "غاية النهاية"، ج 1، ص. 371، والذهبي في "التذكرة"، ج 4، ص. 1349، أن السهيلي تولى قضاء الجماعة فحمدت

    (1/11393)

    سيرته.

    ... أقول: الذي أفاده ابن سعيد الأندلسي في "الغصون اليانعة"، ص. 31 (نشرة الأبياري، مصر، ط. 3). وابن الأبار في "التكملة"، ج 1، ص. 80، وابن عبد المجيد اليماني في "إشارة التعيين"، ص. 33، وابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة"، ج 1، ص ص. 220 ـ 221 (نشرة محمد بنشريفة، ط. بيروت) أن هذا المنصب كان مُسْنَداً ـ يومئذ ـ إلى صاحبه ابن مضاء القرطبي.

    ... وتحت عنوان ”رحلات السهيلي“، قال المحقق ما نصه: ”لم تسعفنا المصادر التي ترجمت للسهيلي عن رحلاته إن كانت له رحلات، إلا ما ذكره ابن الخطيب من أنه

    (1/11394)

    تلا بالحرمين على خال أبيه، إلخ“.

    ... أقول: إن كان مراد المحقق برحلاته خارج الأندلس، فصحيح؛ وإلاّ فقد صَحَّ أنه رحل إلى قرطبة وإشبيلية وغرناطة، قبل أن يعود إلى مالقة.

    ... وتحت عنوان: ”الكتاب المحقق“ تناول المحقق عنوانه ونسبته إلى السهيلي، وذكر أن المراجع التي ترجمت للسهيلي اتفقت على أنه ألَّفَ كتاب "التعريف والإعلام فيما (كذا) أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام"، ثم قال: ”وقد جاء في النسخ ج، د، و ط أنوار: من "الأسماء والأعلام" بواو العطف “. ويضيف المحقق قائلاً: ”وقال في"الروض الأنف": قد ذكرت في

    (1/11395)

    كتاب "التعريف والإعلام بما (كذا) أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام"“.

    ... قلت: ما دام السهيلي قد ذكر نص عنوان الكتاب كاملاً، فلا مجال لإيثار غيره عليه. ثم إن زعم المحقق اتفاق المراجع على نص العنوان الذي ارتضاه ليس بمسلم. فابن كثير (في "البداية والنهاية"، ج 12، ص. 318) والسيوطي (في "البغية"، ج 2، ص. 81) يذْكُران العنوان بحرف العطف.

    ... قال الدكتور البنا ("السهيلي ومذهبه النحوي"، ص. 174):

    ... ومن الطبيعي أن يترتب على هذا اختلاف كبير في منهج الكتاب. فإذا كان العنوان بدون عطف، فالكتاب لا يتناول

    (1/11396)

    إلا التعريف بما أبهم اسمُه من الأعلام، ولكن إذا وُجِدَ العاطف فهو يعرف أيضاً بما أبهم اسمه من غير الأعلام. وقد رجحت أن يكون العنوان كما أثبته ابن كثير والسيوطي بما ذكره السهيلي نفسه في كتابه. قال عند قوله تعالى: {كشجرة خبيثة} [إبراهيم، الآية 26]: "هي الحنطة، وقيل الكشوث، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض... وإنما ذكرنا اسم هذه الشجرة المذكورة في القرآن لأنها من الباب الذي شرطناه، إذ هي مما أبهم من الأسماء، وإن لم تكن أعلاماً، والله المستعان".

    ... ... ... ... ... (التعريف والإعلام، ص. 154).

    (1/11397)

    ... ثم عمد المحقق إلى وصف النسخ التي اعتمدها، فذكر منها أربعاً وأضاف إليها نسخة مطبعة الأنوار. وقد بَيَّنْتُ أن لكتاب "التعريف والإعلام" نسخاً أخرى مخطوطة، وطَبْعَتَيْن أخريين لم يقف عليها المحقق، ولا علم عنها شيئاً.

    ... وتحت عنوان: ”قيمته العلمية“ قال المحقق ما نصه: ”لقد ألَّفَ السهيلي هذا الكتاب في علم المبهمات وعليه استدراك لمحمد بن علي بن محمد البلنسي الغرناطي المتوفى سنة 636 هـ، وذيل عليه تلميذ من تلاميذه، وهو محمد ابن علي الخضر الغساني المعروف بابن عساكر (كذا) بكتابه المسمى "التكميل

    (1/11398)

    والإتمام"، وجمع بينهما شيخ الإسلام القاضي بدر الدين بن جماعة في كتاب سماه "التبيان في مبهمات القرآن"، ولخص السيوطي الموضوع في كتابه: "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن"“.

    ... أقول: لم يتقص المحقق ما خلّفه "التعريف والإعلام" من أثر في أوساط العلماء القدماء والمتأخرين، وما استتبع ذلك من عناية به، استدراكاً وجمعاً واختصاراً.

    ... ـ فقد ألف ابن عسكر(1) المالقي (584 ـ 636 هـ) كتاب: "التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام"، وقد حققه الباحث حسين عبد الهادي بجامعة

    __________

    (1) وليس ابن عساكر كما توهم المحقق.

    (1/11399)

    الإمام محمد بن سعود بالرياض عام 1404 هـ، ونال به درجة الدكتوراه، ذكر ذلك محقق الجزء الأول من "صلة الجمع" للبلنسي حنيف بن حسن القاسمي (ج 1، ط. دار الغرب الإسلامي، ط 1).

    ... وقد وهم محقق: "التعريف والإعلام" حيث ذكر أن ابن عسكر تلميذ السهيلي. وهذا توفي عام 581 هـ، وابن عسكر ولد عام 584 هـ، فكيف حصلت التلمذة؟!

    ... ـ وألف ابن فرتون، أحمد بن يوسف السلمي (ت 660 هـ) كتاب "الاستدراك والإتمام"، استدرك فيه عليه.

    (1/11400)

    ... ـ وصف أبو عبد الله الشامي (671 ـ 751 هـ) كتاباً في مبهمات القرآن نسبه إليه إسماعيل باشا في "هدية العارفين"، ج 2، ص. 143.

    ... ـ وجمع بدر الدين بن جماعة (639 ـ 733 هـ) بين كتابي "الإعلام والتكميل"، وسماهُ: "التبيان في مبهمات القرآن"، ولم يقف عليه أحد من الباحثين، واختصره في كتاب سماه: "غرر التبيان في من لم يسم في القرآن" حققه عبد الجواد خلف عبد الجواد، ونشرته دار قتيبة بدمشق عام 1990 م، وحققه أيضاً الطالب عبد الغفار البيني ونال به درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1400

    (1/11401)

    هـ، ذكر ذلك محقق "صلة الجمع" للبلنسي، ج 1، ص. 51.

    ... وقد التقى العبدري الحيحي الذي بدأ رحلته بالمغرب سنة 688 هـ بابن جماعة هذا واتهمه بالإغارة في كتابه المنوَّه به على "التعريف والإعلام" للسهيلي. (انظر "رحلة العبدَري"، ص. 231، نشرة محمد الفاسي، منشورات جامعة محمد الخامس ـ الرباط).

    ... ـ وألف أبو عبد الله بن علي الأوسي البلنسي (714 ـ 782 هـ) كتاب "صلة الجمع وعائذ التذييل لموصول كتابي الإعلام والتكميل"، وقد حقق قسمه الأول حنيف حسن القاسمي، وقسمه الثاني عبد الله عبد الكريم محمد، وصدر الكتاب عن

    (1/11402)

    دار الغرب الإسلامي ببيروت في طبعته الأولى عام 1411 هـ/ 1991 م.

    ... ـ وصنف السيوطي (849 ـ 911 هـ) كتاباً في مبهمات القرآن سماه "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن"، وقد طبع بتحقيق مصطفى ذيب البغا عام 1403 هـ، وطبع ثانية بتحقيق إياد خالف الطباع عام 1406 هـ.

    ... ـ واختصر الشيخ بحرق (869 ـ 930 هـ) كتاب "التعريف والإعلام" وسمى مختصره: "تلخيص التعريف والإعلام فيما أبهم من القرآن من الأسماء والأعلام" ذكره حنيف حسن القاسمي، وأفاد أنه لا يزال مخطوطاً، وهو صغير جداً في ثلاث عشرة ورقة، توجد نسخة منه بمركز

    (1/11403)

    البحث العلمي بجامعة أم القرى تحت رقم 953. مصورة عن مكتبة الأحقاف باليمن. (صلة الجمع، ج 1، ص ص. 52 ـ 53).

    ... ـ وألف الإذكاوي (1104 ـ 1184 هـ) كتاباً في مبهمات القرآن سماه "ترويح أولي الدماثة بمنتقى الكتب الثلاثة". وقد ضم فيه كتاب البلنسي إلى كتابي السهيلي وابن عسكر، وانْتَقَى من فوائد الكتب ما رآه مناسباً، ولم يضف إليها شيئاً، والكتاب ما زال مخطوطاً بدار الكتب المصرية برقم 819 تفسير، ومنه نسخة بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى تحت رقم 684 علوم القرآن، وهي بخط المؤلف. ينظر "صلة الجمع"، ج 1، ص.

    (1/11404)

    53.

    ... ـ "أسامي الذين نزل فيهم القرآن الحكيم" لمجهول، يوجد بإحدى خزائن المخطوطات بتركيا. ذكره محقق "صلة الجمع"، ج 1، ص. 53.

    ثانياً ـ النص المحقق:

    ... 1 ـ التزم المحقق أن يضيف إلى النسخة المصرية التي اعتمدها أصلاً ما لم يرد فيها من زيادات وردت في النسخ الأخرى المساعدة، لكنه لم يلزم ذلك.

    ... فعند نهاية كلام السهيلي على قوله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} [النساء، الآية 60]، قال المحقق في الهامش: 11 من الصفحة 32 ”في ط. أنوار: بعدما انتهى من تفسير هذه الآية أورد قول الله تعالى: {ما فعلوه

    (1/11405)

    إلاّ قليل منهم} [النساء، الآية 66] وقوله {إلا الذين يصلون} إلى {قوم بينكم وبينهم ميثاق} [النساء، الآية 90]، ثم قال: وذلك حسب الترتيب الصحيح للآيات... ا .هـ“.

    ... قلت: إذا كان الأمر كذلك، فإنّ حق هذا الكلام أن يكون في المتن، وينبه على زيادته في الهامش خضوعاً لما التزمه المحقق.

    ... ومثل ذلك وقع حين ورد كلام السهيلي على قوله تعالى: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} [النساء، الآية 90] فقد أدرجه بعد تفسير قوله تعالى: {لمن ألقى إليكم السلم} [النساء، الآية 93]، فلم يُرَاع الترتيب التصاعدي

    (1/11406)

    للآيات.

    ... 2 ـ في صفحة 104 ورد في "المتن" ما نصه: ”ولكهلان كان الملك قبل أخيه حمير ـ فيما ذكر المسعودي ـ ابن سبإٍ بن يشحب، إلخ“.

    ... قلت: تبدو هذه العبارة قَلِقَة، وصوابها ـ والله أعلم ـ: ”ولكهلان كان الملك قبل أخيه حمير بن سبإٍ بن يشحب... “فيما ذكر المسعودي.

    ... 3 ـ وفي صفحة 89 ورد نسبة قول للكَشّي، فقال المحقق في الهامش: ”عند رجوعي لكتب التراجم لم يتحدد عندي من هو الكشي لكثرتهم“.

    ... قلت هو عبد بن حميد (ت 249 هـ)، وقد أورد له السهيلي نقولاً في "شرح آيات الوصية"، ص. 56؛ و"الروض الأنف"، ج 2،

    (1/11407)

    ص. 197 وفيه حقق القول في الاسم فقال: ذكر الكشي، وهو عبد بن حميد. ا هـ. والكشي اسم أعجمي، إذا عرب كُتبَ بالسين المهملة، قبلها كاف مكسورة. وانظر تحقيقاً في هذا الاسم في "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم الأندلسي بقلم أحمد شاكر (ج 6، ص ص. 107 ـ 108، ط. دار الآفاق الجديدة، بيروت).

    ... 4 ـ وفي صفحة 160 عرض السهيلي ببيان ما أبهم من قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} [الحجر، الآية 16]. فناسب المقام إيراد الشاهد: ”خير منزلة في الأبد بين الزبانا والأسد“. فتوهم المحقق أنه بيت شعر، فكتبه كالآتي:

    (1/11408)

    ... خير منزلة في الأبد ... بين الزبانا والأسد

    ... ثم قال في الهامش: لم نهتد إلى قائله. ثم أورده في فهرس الأشعار، وأفاد أن قائله مجهول، وأن في وزنه اضطراباً.

    ... قلت: ليس الشاهد بيت شعر، وإنما هو مثل عربي، ساقه الميداني في "مجمع الأمثال"، ج 1، ص. 240؛ والزمخشري في "المستقصى"، ج 2، ص. 78. وروايته فيهما: ”خَيْرُ لَيْلَةٍ بالأَبدِ، لَيْلَةٌ بين الزُّبانى والأسدِ“.

    ... وفي الصفحتين 696 ـ 697 جاء في معرض تفسير السهيلي لقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} [الأحقاف، الآية 68] ما

    (1/11409)

    نصه: ”ويقال: كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قال: {أنزل من بعد موسى} [الأحقاف، الآية 69]. وقيل في أسمائهم: ”شاصر وماصر ومنشي وماشي والأحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد“.

    ... قال المحقق معلقاً على هذا الخبر: ”لم نعثر على ذلك من مؤلفاته التي بين أيدينا“.

    ... قلت: ساق السهيلي هذا الخبر ثانية في "الروض الأنف"، ج 1، ص. 36، وعزاه لابن دريد، وهو في "جمهرتـ"ـه (حقب)، ج 1، ص. 686 (نشرة البعلبكي)، وفيه أن أسماء هؤلاء النفر من الجن: حسا وبسا وشاصر وباصر والأحقب. وسيق الخبر في "تاج العروس" (حقب)، ج

    (1/11410)

    1، ص. 699 (ط. الكويت)، وفيه أن أسماءهم: خَسا، ومسا، وشاصة، وباصة، والأحقب.

    ... 5 ـ وأنشد السهيلي قول الشاعر (التعريف والإعلام، ص. 253):

    وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر

    ... قال المحقق معلقاً عليه بالهامش: قال المبرد في "الكامل"، ج 1، ص. 266: وهذا الشعر لجميل ابن عبد الله بن معمر العذري، إلخ.

    ... قلت: ما أعجب أمر هذا المحقق وما أعجله! فإن المبرد إنما قال ما قال معلقاً على بيتين سابقين لهذا البيت، وهما:

    وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيبُ أخو الحَبيبِ

    (1/11411)

    أحبك أن نزلت جبالَ حِسْمى ... وأن نَاسَبْتَ بَثْنَة من قريبِ

    ... انظر "الكامل"، ج 2، ص. 564. (تحقيق محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت).

    ... وأما البيت: ”وكيف ثوائي بالمدينة بعدما... “، فهو من غير نسبة عند المبرد، ولم يهتد محققه إلى قائله. وقد وقفت عليه في "الوافي بالوفيات"، ج 10، ص. 79، معزواً للصحابي بجير بن بجرة الطائي رضي الله عنه.

    ثالثاً ـ كتاب: "الفرائض وشرح آيات الوصية"، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا

    ... هذا ثالث تأليف للسهيلي يصدر مطبوعاً طبعة محققة بعد "الأمالي" و"نتائج الفكر".

    (1/11412)

    ... وقد عني السهيلي في كتابه هذا ـ كما يقول محققه ـ بشرح آيات الوصية، ـ وهي آيات النساء: 11، 12، 176 ـ عناية بالغة، فلم يقتصر على القدر المناسب، وهو استنباط الأحكام الفقهية، بل تناول إلى جانب ذلك الحديث عن حكمته تعالى فيما أوصى به، ذاكراً أن تقدير كل فريضة يقوم على العدل والرحمة، وقد استفرغ الوسع في بيان أسرار الإعجاز في هذه الآيات.

    ... وبعد أن انتهى من" شرح آيات الوصية"، تعرض لأحاديث المواريث في أحد فصول هذا القسم، وعقبه بفصل تناول فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ”ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي

    (1/11413)

    فلأولى رجل ذكر“ بَيَّنَ فيه كلام من تقدمه في تخريج قوله: ”فلأولى رجل ذكر“، وهو أن ”ذكر“ وصف لرجل، وقد رفض هذا التخريج لأنه يؤدي إلى الحشو، ومضى في معاناة نادرة غريبة يوجه بها هذا الحديث، وبهذا الفصل ينتهي القسم الأول.

    ... أما القسم الثاني، فيقوم على عدة أبواب:

    الباب الأول: في معرفة أصول الفرائض وأصحاب السهام.

    ... الباب الثاني: في كيفية العمل في هذه الفرائض التي لا عول فيها.

    الباب الثالث: باب العدل في الفرائض، وقد ألحق به فصلاً في ميراث الجد.

    (1/11414)

    ... الباب الرابع: في الأسباب المانعة من الميراث(1).

    1 ـ "كتاب الفرائض": مخطوطاته، منهج تحقيقه:

    ... أفاد الدكتور محمد إبراهيم البنا أن بداية معرفته بـ"كتاب الفرائض" كانت من عدة مراجع، آخرها "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان الذي نبه فيه على أن للسهيلي رسالة في علم الفرائض، وأنه توجد نسخة منها في المتحف البريطاني، ولم يشر إلى وجود نسخ أخرى لها.

    __________

    (1) مقدمة كتاب "الفرائض"، منشورات جامعة قار يونس، ط 1، 1400 هـ/ 1980 م، ص. 12.

    (1/11415)

    ... ولاشك في أن نشر نص عن أصل مخطوط واحد من المهمات الصعبة التي يخشاها المحقق، فيتهيب الإقدام على مثل هذا العمل، إذ النسخة الواحدة عرضة لسهو الناسخ وتصحيفه ويحتمل أن تزخر بخروم لا يجد المحقق سبيلاً إلى ترميمها.

    ... وقد أدرك الدكتور محمد إبراهيم البنا كل هذا، فعبر عنه أصدق تعبير وهو يَصِفُ منهج تحقيقه للكتاب؛ فقال: ”فإذا لم يَجُد الزمن بغير نسخة واحدة، فالأمر مختلف؛ ولكن هذا لا يمنع من الإقدام على تحقيق هذه النسخة وإخراجها، وعلى المحق أن يحدد مشكلات النص، وهذا ما فعلته في ثنايا التحقيق. على أن

    (1/11416)

    كثيراً من هذه المشكلات قد وُفقت في حله، وبعضها رجوت أن أكون قد قلت فيه شيئاً. وبقيت مع ذلك بقية لا تُخلّ بالمقصود من الكتاب وقد وصفتها كما وردت في الصورة.

    ... هذا، وقد حرصت على تخريج الأحاديث والآثار والآراء والأشعار، إلخ.

    ... أقول: وسأمضي في متابعتي لـ"كتاب الفرائض"، وفق الخطة التي ارتضاها المحقق في إخراج هذا الكتاب.

    ... وأشير ابتداء إلى أن البحث في جذاذات فهارس الخزانة العامة للمخطوطات بالرباط قد هداني إلى نسخة ثانية لـ"كتاب الفرائض" تحمل رقم 2256 د، تقع في 70 لوحة، وهي وإن كانت لا تحمل اسم

    (1/11417)

    ناسخ ولا تاريخ نسخ، وسقطت منها خاتمة المؤلف، فقد حددت بعض إشكالات النسخة الأولى، وصوبت من أختها بعض ما غام أوسها عنه ناسخها على حد تعبير المحقق في مقدمة التحقيق، وهذه أهمها:

    ... 1 ـ جاء في الصفحة 44: ”وقد تقدم اللفظ بين حالتي اللفظين وما يشاكله من مقامات الكلام، كل واحد من الاسمين“.

    ... وعلق عليه المحقق في الهامش بقوله: ”كذا ورد النص، وهو غير مستقيم“.

    ... أقول: صواب العبارة كما في مخطوطة الرباط: وقد تقدم الفرق بين حالتي اللفظين، إلخ.

    (1/11418)

    ... 2 ـ وفي صفحة 71 جاء ما نصه: ”وأفاد بقوله: "أولى رجل" ـ يريد القريب الأقرب ـ نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبيل الأم كالخال“.

    ... قال المحقق معلقاً ما تقدم: ”بعد هذه العبارة كلمة غير واضحة، وإن كان السياق مستقيماً بدونها“.

    ... قلت: الكلمة غير الواضحة كما في مخطوطة الرباط هي: ”أو نحوه“.

    ... 3 ـ وجاء في الصفحة 72 من المطبوع: ”كما لا تقول: "هو أفهمك"“.

    ... وعلق عليه المحقق في الهامش بقوله: ”في المصورة: "أقيمك" ولا يجوز ذلك لغة، ولعل الصواب ما أثبتناه“.

    (1/11419)

    ... قلت: في مخطوطة الرباط: ”لا تقول: "هو أفقهك" ولعلها أصوب“.

    ... 4 ـ في المطبوع: 73 جاء ما نصه: ”ولو لم يكن في هذا المختصر إلا هذه الفائدة، لكانت تَتَحَاوَى وَحَلُه“.

    ... وعلق عليه المحقق في الهامش بقوله: ”كذا في المصورة، ولم يتبين لنا المراد منه“.

    ... أقول: صواب العبارة كما في مخطوطة الرباط: ”لكانت تساوي رحلة“. وهي إحدى العبارات التي كان السهيلي يأتي بها تعبيراً عن اعتداده بنفسه، وإعجابه بما عنده. وقد رددها ثانية في "الروض الأُنُف"، ج 1، ص. 276 في معرض حديثه عن ”رمضان أو شهر رمضان“، فقال في

    (1/11420)

    خاتمته: ”كل هذا مبين في كتاب "نتائج الفكر"، فهناك أوردنا فيه فوائد تعجز عنها هِمَمُ أهل هذا العصر، أدناها تساوي رحلة عند من عرف قدرها“.

    ... ومن المشكلات التي اجتهد المحقق في حلها، ووافق اجتهاده فيها ما جاء في نسخة الرباط، ما يلي:

    ... 1 ـ جاء في المطبوع 32: ”بقرينة الغرض والمقصد، بخلاف التحبيس“.

    ... وعلق المحقق على اللفظين بقوله: ”في المصورة: "بقربة" و"التحسين". ولعل الصواب ما أثبتناه“.

    ... قلت: هو كذلك، وقد جاء رسم اللفظين في مخطوطة الرباط موافقاً لما رجحه.

    (1/11421)

    ... 2 ـ وجاء في المطبوع 56: ”ذكر عبد بن حميد الكَشّي“.

    ... وعلق المحقق عليه في الهامش بقوله: ”في المصورة: عبد الرحمن بن حميد، ولم أجده في الرجال. ولعل الصواب ما أثبتناه“.

    ... قلت: هو كذلك، وقد ورد في مخطوطة الرباط كما رجحه المحقق، وقد أورد له السّهيلي نُقولاً اعتمدها في مواطن من كتاباته. ينظر "التعريف والإعلام"، ص. 111 (نشرة النقراط، ليبيا)؛ و"الروض الأنف"، ج 2، ص. 197، وفيه حقق القول في الاسم، فقال: ”ذكر الكشّي، وهو عبد بن حميد، قال... “.

    ... هذه أهم التصويبات التي أسعفت بها النسخة الرباطية.

    (1/11422)

    2 ـ شواهد الكتاب:

    ... أشار المحقق في آخر كلامه على منهج تحقيق "كتاب الفرائض" إلى أنه حرص على تخريج الأحاديث والآثار والآراء والأشعار. ومع أنه أغفل التنصيص على تخريج الآيات القرآنية، فقد خَرَّجَهَا جميعاً إلا واحدة ندَّت عنه في الصفحة 61 وهي قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}، وهي من سورة النساء، الآية 82.

    تخريج الأحاديث النبوية

    ... خرج المحقق كل أحاديث الكتاب، ولي على بعض هذه التخريجات الملاحظات الآتية:

    (1/11423)

    ... أ ـ استشهد السهيلي في الصفحة 26 بالحديث: ”اتقوا الله في الضعيفين...“ فخرجه المحقق في الهامش بقوله: ”أخرجه ابن عساكر عن ابن عمر، ولفظه: "اتقوا الله في الضعيفين: المملوك والمرأة"“.

    ... قلت: هو بهذا اللفظ كذلك في "كنز العمال"، ج 9، ص. 71؛ وأما في ج 7، ص. 278، فقد أخرجه أنس بلفظ: ”اتقوا الله في الضعيفين، الأرملة والصبي واليتيم“.

    ... ب ـ ورد في الصفحتين 69 ـ 70، الحديث: ”أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً“. فقال السهيلي: أخرجه الدارقطني.

    (1/11424)

    ... وقال المحقق في تخريجه: ”الحديث في الجامع الصّغير عن أبي العلي...“.

    ... قلت: ما دام السهيلي قد عزا الحديث للدارقطني، فلا مفهوم لأن يخرج من غير مؤلفاته إلا بعد استفراغ الجهد من متابعته فيها، وهو ما لم يفعله المحقق.

    ... والحديث في "سننـ"ـه (ج 4، ص ص. 144 ـ 145)، ولفظه فيه: ”أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصاراً“... وهو أيضاً في "شعب الإيمان" للبيهقي، ج 2، ص. 160؛ و"كنز العمال"، ج 11، ص. 425؛ و"تمييز الطيب من الخبيث"، ص. 56؛ و"كشف الخفاء" للعجلوني، ج 1، ص. 308؛ و"المقاصد الحسنة" للسخاوي،

    (1/11425)

    ص. 218 (نشرة محمد عثمان الخشت) وفيه ورد الحديث باللفظ الذي ساقه السهيلي.

    ... ج ـ وفي الصفحة 116، ساق السهيلي الحديث: ”ابنا العاصي مؤمنان“، فقال المحقق في تخريجه: ”أخرجه الواقدي. انظر "طبقات" ابن سعد، ج 4، ص. 191“.

    ... قلت: الحديث في "المستدرك"، ج 3، ص. 240. وعلق عليه الحاكم بقوله: هو على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وساقه ثانية في ج 3، ص ص. 542 ـ 543؛ وهو في "المسند"، ج 2، ص. 327، 353، 354؛ و"كنز العمال"، ج 11، ص. 752.

    (1/11426)

    ... د ـ وجاء في صفحة 119 من المطبوع ما نصه: ”وكان نبينا ـ عليه السلام ـ إذا خرج من الخلاء يقول: "غفرانك"“.

    ... خرجه المحقق من "سنن أبي داود" و"تحفة الأحوذي"، ثم قال: ”وقال الحافظ أبو العلى صاحب "تحفة الأحوذي": قال القاضي الشوكاني في "نيل الأوطار": "هذا الحديث أخرجه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم وأبو حاتم". قال في "البدر المنير": ”ورواه الدارمي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان“.

    ... قلت: ها هنا أمور منهجية ومعرفية لابد من الوقوف عندها.

    (1/11427)

    ... أ ـ الإحالة على المصادر بواسطة ـ وهي متوافرة ـ ليس منهجاً محموداً عند العلماء، فـ "نيل الأوطار" و"المستدرك" و"سنن الدارمي" وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان جميعها مطبوعة، فكان الأولى متابعة الحديث فيها مباشرة، وتخريجه منها.

    ... ب ـ الذي نص على أن الحديث ”رواه الخمسة إلا النسائي“ هو ابن تيمية في "منتقى الأخبار"، ج 1، ص. 46، (دار الفكر، بيروت، ط 2). أما شارحه الشوكاني، فأول ما جاء في تعليقه على الحديث قوله: ”الحديث صححه الحاكم“ (نيل الأوطار، ج 1، ص. 73، دار القلم، بيروت، ط 1)؛ ولو أن المحقق كلف

    (1/11428)

    نفسه بعض الجهد فرجع إلى المتن وشرحه، لانتبه إلى هذا الخلط الذي أوقعه فيه صاحب "تحفة الأحوذي" وتقبله هو بقبول حسن.

    ... ج ـ نص ابن تيمية على أن الحديث رواه الخمسة إلا النسائي، واصطلاح ”الخمسة“ عنده خاص به، مخالف لما هو معتمد عند المحدثين.

    ... قال في مقدمة "المنتقى": ”والعَلاَمَةُ لما رواه البخاري ومسلم: أخرجاه، ولبقيتهم: رواه الخمسة، ولهم سبعتهم: رواه الجماعة، ولأحمد مع البخاري ومسلم: متفق عليه، وفيما سوى ذلك أسمي من رواه منهم“.

    ... وكان على المحقق أن يبسط القول في هذه المسألة إزالة لكل إشكال.

    (1/11429)

    ... د ـ قول ابن تيمية في تخريج الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي، ينصرف إلى "سننـ"ـه، وقد أخرجه في كتاب "عمل اليوم والليلة" وعزاه إليه الحافظ المزي كما في "تحفة الأشراف"، ج 12، ص. 339. ينظر كتاب "الهداية في تخريج أحاديث البداية" لمؤلفه العلامة أحمد بن الصديق الغماري، ج 1، ص ص. 131 ـ 132 (عالم الكتب، بيروت، ط. 1).

    تخريج الآراء (الأخبار)

    ... جاء في الصفحة 42 كلام للسهيلي عن وجوه القبليات، وساق ـ استشهاداً عليه ـ ما نصه: ”كما روي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: "والله حكيم عزيز" ـ والأعرابي لا يحفظ

    (1/11430)

    القرآن ـ فقال الأعرابي: ما أراها أنزلت كما تقول. فقال القارئ: {والله عزيز حكيم}، فقال الأعرابي: نعم، عز. فلمّا عز، حكم“.

    ... قلت: ورد الخبر أيضاً في "البحر المحيط"، ج 3، ص. 484 (ط. دار الفكر، بيروت، ط 2)، ونصه فيه: ”روي أن بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ: {والسارق والسارقة} إلى آخرها، وختمها بقوله: "والله غفور رحيم"، فقال: ما هذا كلام فصيح، فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي: {والله عزيز حكيم} [المائدة، الآية 38]، فقال: بخ، بخ، عز فحكم فقطع“.

    تخريج الأشعار

    (1/11431)

    ... الشواهد الشعرية في "كتاب الفرائض" قليلة، وهي على وجه التحديد ثمانية:

    ... وقد اهتدى المحقق إلى تخريج بعضها، ولم يوفق إلى نسبة بعضها الآخر.

    ... والأبيات التي لم يوفق إلى معرفة قائليها هي:

    ... 1 ـ قول الشاعر (ص. 58):

    ... والمرء يجمع في الحيا ... ة وفي الكلام ما يسيم

    ... قال المحقق: البيت في "مفردات الراغب" و"البحر المحيط" غير منسوب، إلخ.

    ... قلت: البيت ليزيد بن الحكم الثقفي، وهو أحد شواهد "حماسة" أبي تمام. ينظر "شرح" المرزوقي، ج 2، ص. 1195. (نشرة هارون، ط. دار الجيل، بيروت، ط 1)، وهو أيضاً في

    (1/11432)

    "المختار من شعر بشار"، ص. 256 (نشرة العلوي، ط 1).

    ... 2 ـ قول الشاعر (ص. 63):

    * يريد المرء أن يرتى مناه *

    ... وسكت عنه المحقق، فلم يعلق عليه بشيء.

    ... قلت: قائله هو الصحابي الجليل أبو الدرداء، وتمامه:

    * ويأبى الله إلا ما أرادا *

    ... وينظر الشاهد في "حلية الأولياء"، ج 1، ص. 225؛ و"الاستيعاب"، ج 4، ص. 1648.

    ... 3 ـ قول الشاعر (ص. 63):

    * وما المرء ما دامت حشاشة نفسه *

    ... قال المحقق: البيت في "اللسان"، مادة ”حشش“ (غير منسوب)، وفي "اللسان"، مادة ”ألو“ أنشده الفراء، إلخ. ...

    ... وعجزه:

    (1/11433)

    * بمدرك أطراف الخطوب ولا آل *

    ... قلت: الشاهد لامرئ القيس ("ديوانـ" ـه، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، ط 4، ص. 39)، وهو آخر أبيات قصيدته الطويلة الشهيرة التي مطلعها:

    ألاَ عِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي وهَلْ يَعِمَنْ من كَانَ في العُصُر الخَالِي

    ... وهو من شواهد السمين الحلبي في "الدر المصون"، ج 3، ص. 365 و ج 6، ص. 512 (نشرة د. الخراط، ط. دار القلم)؛ والميداني في "مجمع الأمثال"، ج 1، ص. 196؛ و ج 2، ص. 632. والبيت بلا عزو في "تهذيب اللغة"، ج 1، ص. 431؛ و"المحكم" لابن سيده، ج

    (1/11434)

    2، ص. 340.

    ... وأخيراً هناك أخطاء مطبعية في الكتاب يحسن التنبيه عليها لتصويبها.

    ... 1 ـ جاء في الصفحة 43 ما نصه: ”فكان لفظ الأبوين ها هنا أشكلُ (كذا بالرفع) بهذا المقام“.

    ... أقول: وصوابه ”أشكلَ“ (بفتح اللام)، لأنه خبر كان.

    ... 2 ـ وفي الصفحة 71 ورد ما نصه: ”ولو قلتَ: "كل يرث هذا الميت بعد ذوي السهام"، لوجب أن يقال لك: "يرثه أولى رجل ذكر"، إلخ“.

    ... قلت: صوابها: ولو قلت: مَنْ يرث...

    ... 3 ـ وفي نفس الصفحة: ”ولو قلت: من يعطي المالَ (كذا بالنصب)؟ لقيل لك: أَعْطِهِ أوْلَى رجل ذكراً“.

    (1/11435)

    ... قلت: صواب العبارة: : ”من يُعَطَى المالَ، إلخ“.

    ... وبعد؛ فهذه قراءة موجزة لـ"كتاب الفرائض وشرح آيات الوصية". وهو ـ على صغر حجمه ـ في حاجة إلى أن يفاض الكلام في محتواه. فإن فيه من المسائل اللغوية والبلاغية والفقهية والأصولية ما يحتاج إلى مزيد نظر، والكتاب في حاجة إلى تنقيح جديد وطبعة أخرى، ولا سيما وقد كشف الغيب عن نسخة ثانية من مخطوطاته.

    ... والله ـ تعالى ـ أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، بعيداً عن كل رياء أو سمعة.

    (1/11436)

    قراءة في علاقة بين أمية بالموالي : ولا تهم وعمالهم في إفرقية(1)

    الدكتور عز الدين عمر موسى

    كلية الآداب - جامعة الملك السعود

    إن علاقة الأمويين بالموالي من الموضوعات التي أصبحت فيها مسلمات عند الباحثين، مسلمات ذائعة الصين في الناس وفاشية بينهم، حتى أصبح وكان أمرها مفروغ منه فلا يقبل جدلا ولا يخضع لمحاكمة، فما أن تذكر هذه العلاقة حتى تتداعى إلى أذهان الناس، كل الناس :

    __________

    (1) يستعمل المصطلح هنا ليعني شمال إفرقيا من طرابلس شرقا إلى المحيط علاوة على الأندلس وهذا ما جرى عليه الاصطلاح في العصر الأموي.

    (1/11437)

    دارسين ومثقفين ومتعلمين وعامة، صور عداء بين أمية للموالي او اضطهادهم لهم أو إن شئت فقل النظرة إليهم باستعلاء واستخفاف بهم.

    ما أسباب هذا الانطباع العام ؟

    إن هذا التساؤل يجعل موضوع هذا البحث أقرب إلى موضوعات المنهج التاريخي منه إلى موضوعات الكتابة التاريخية في تخصص دقيق، ولا عجب في ذلك، فالمؤرخ يتأثر بوعي أو بغير وعي بقيم مجتمعه وبالثقافة الغالبة في عصره، ومن ثم فإن قضية المفاهيم والمصطلحات تغدو في الأساس الذي يكسو الحقائق بدثاره، ويكسبها لونا معينا وطابعا مميزا.

    (1/11438)

    إن المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بموضوع علاقة بيني أمية بالموالي قد تأثرت،

    منذ بداية الدراسات الحديثة، بعوامل متعددة، فشكلها ووجهتها نحو الانطباع العام

    المذكور آنفا. أشار برنارد لويس. غشارة صائبة إلى ان نظريات جوبينو، وغيره، العنصرية ضللت "المستشرقين في القرن التاسع عشر، ففسروا الصراع بين الأمويين والعباسيين، والانشقاق الدين كله في أوائل التاريخ الإسلامي على أنه صراع عنصري بين ساميي الجزيرة وآريي إيران. واعتبروا فوز العباسيين نصرا للفرس على العرب مكنهم من تأسيس غمبراطورية فارسية جديدة، متشحة

    (1/11439)

    بقناع فارسي - إسلامي، مكان الدولة العربية الدائلة"(1).

    وقد ظل المستشرقون في ذلك القرن أسيري هذه النظرة العنصرية حتى أولئك الذين نظروا في التاريخ الأموي نظرة دينية صليبية أو حاولوا دراسته دراسة علمية.فمن النوع الأول الأب هنري لامانس الذي أفرط في تمجيد الأمويين العرب لا المسلمين ؛ ومن النوع الثاني قان فلوتن (2)

    __________

    (1) برنارد لويس، العرب في التاريخ، تحقيق نبيه أمين فارسي ومحمود يوسف زايد، بيروت، دار العلم للملايين، 1954، ص. 114.

    (2) قان فلترن، السيادة العربية والشعبية والإسرائليات، تعريب حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم، القاهرة، 1934 م.

    (1/11440)

    ويوليوس فلهوزن (ت 1918) الذي حاول إنصاف بني أمية من تحامل المؤرخين المسلمين الأول عليهم فأبرز مكانتهم السياسية بمنهج فيه من العلمية الشيء الكثير ؛ ولكن المؤرخ هو نتائج بيئته، لا سيما أفكارها، فظل تأثير النظريات العنصرية عليه فهو يسمى دولة بني "أمية بالدولة العربية"، كما تجده ينظر الى التناقص الاجتماعي الأساسي فيها من خلال الصراع بين "أشراف عرب" وموال هم المسلمون من غير العرب، ويذهب الى تفسير مصطلح "المستضعفين" الذي كان محور برنامج حركة المختار الثقني بأنه قصد به المسلمون غير العرب، ويضيف "أعني

    (1/11441)

    الموالي" الذين يقول بأنهم كانوا يؤلفون أكثر من نصف سكان الكوفة وفي أيديهم الحرف اليدوية والمهن والتجارة، وغالبيتهم - من حيث الأصل واللغة - من الفرس "جاءوا أسرى إلى الكوفة واعتنقوا الإسلام هناك ثم أعتقهم ساداتهم وانتسبوا إلى القبائل العربية موالي فيها" (1).

    وهكذا فإن المحصلة الأساسية عنده محورت ذلك التناقض الاجتماعي في انقسام

    __________

    (1) أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام : الخوارج والشيعة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، القاهرة، 1956 م، ص. 151.

    (1/11442)

    عرقي ؛ عربي فارسي. هذا على الرغم من أنه يشير إشارات عابرة للانقسام

    الاجتماعي ؛ فالدولة الأموية عنده تمثل "الأشراف من العرب"(1) ونبه إلى وقوف أشراف الكوفة ضد المختار (2) ووضح أن

    جيش المختار فيه كثير من الموالى(3) وزاملهم العرب من بجيلة وخثعم(4)، وكانت قيادات الجيش عربية(5) ومع كل هذا لم تمكنه النظرية العنصرية من تبين الصراع في إطار اجتماعي بين شريحتين متمايزتين وفي كل أعرق مختلفة متعددة.

    __________

    (1) فهوزن، المرجع السابق، ص. 167.

    (2) نفسه، ص. 160.

    (3) نفسه، ص. 149.

    (4) نفسه، ص. 161.

    (5) نفسه، ص. 152.

    (1/11443)

    وعلى الرغم من انحسار النظريات العنصرية في القرن العشرين وغلبة التفسير الاجتماعي الاقتصادي في دراسة التاريخ وفهمه إلا أن مرتكزات تلك النظريات ظلت سائدة في القيم السياسية والمفاهيم الجوهرية للفكر الغربي الإمبريالي الصليبي الصهيوني. وظاهر هذا في نتائج أبحاث دراسية لتاريخ المسلمين. ولهذا جاءت نتائجهم لا تخلف كثيرا عما عند فلهوزن عن تاريخ الدولة الأموية. وبرنارد لويس خير من يصور الدراسات الاستشراقية الحديثة المنبثقة عن ذلك الفكر الغربي

    (1/11444)

    الحديث. فقد حاول فهم قضايا التوتر السياسي في التاريخ الإسلامي من منظور اجتماعي

    اقتصادي، فهو يقول إن التفريق بين الطائفة صاحبة السيادة وبين الموالي في أساسه اقتصادي

    واجتماعي أكثر مما كان قوميا (1). ويقول إنه كان بين الموالي "بعض الناطقي بالعربية،

    أو بعض من هم عرب بالتأكيد ولكنهم لسبب ما فقدوا أو فشلوا في الحصول على عضوية

    تامة في الطبقة العربية الحاكمة"(2). ومع كل هذا ظلت مفاهيمه ومصطلحاته عن تاريخ الدولة

    __________

    (1) لويس، المرجع السابق، ص. 99.

    (2) نفسه، ص. 97.

    (1/11445)

    الأموية تفيض عرقية. فهو يقول عن انتشار الإسلام بين غير العرب : إن "عدم تفريق العرب بين الإسلام والعروبة واضح في موقفهم تجاه المسلمين الجدد ... إلى حد أنه لم يكن يسمح لهؤلاء بدخول الدين إلا إذا أصبحوا موالى أو أنصارا لأحد القبائل العربية"(1) ومقدمته هذه يعوزها الدليل.

    ويقول بأن معوية جعل الحكم الإسلامي حكما دنيويا "يقوم على سيادة العنصر العربي"(2). ويوضح ذلك فيقول "فقد كان بناء الدولة العربية كله يقوم على الفرضية التالية : وهي أن أقلية عربية ستحكم

    __________

    (1) لويس، المرجع السابق، ص. 79.

    (2) نفسه، ص. 88-89.

    (1/11446)

    أكثرية غير مسلمة تدفع الضرائب"(1) وهكذا سادت هذه المفاهيم العرقية في تحليل التاريخ الأموي في الدراسات الاستشراقية على اختلاف مرتكزاتها الفكرية وغاياتها العلمية والسياسية.

    ولا تختلف في هذا الموضوع دراسات العرب المحدثين العامة منها دون المتخصصة في نتائجها عن نظرائهم من المستشرقين شيئا كثيرا، وذلك لأنهم كانوا تحت هيمنة الحضارة الغربية الغالبة وانبهارهم بها من جهة، وكانوا يحاولون التحرر منها والانعتاق من أسرها وإثبات الذات وتوكيدها من جهة أخرى، فأكدوا على قيم عرقية استعلائية في

    __________

    (1) نفسه، ص. 98.

    (1/11447)

    دراستهم لتاريخ أمتهم، فأثر ذلك على منظروهم للدولة الأموية فقامت دراساتهم على مرتكزاتهم لا تختلف عن دراسات المستشرقين إلا في غاياتها، وهذا القول تجده شاملا لتيار العروبة الثقافي العام أو التيار القومي ذي المضمون الاجتماعي الخاص. ولا يحتاج المرء في إثبات ذلك أن يلجأ إلى كتابات أهل الغلو من التيار القومي أو أولئك الذين لهم هوى ديني أو موقف سياسي إيديولوجي معاد للإسلام وأهله، فحسبك موقف دارسين، ممن لا يتهمان في نزاهتهما العلمية، من قضية الموالي، وهما أحمد أمين وعبد العزيز الدوري، فالإثنان يسلمان

    (1/11448)

    بالتمييز بالتمييز بين العرب والموالي، ولكنهما يوضحان أن دور الموالي لم يكن هامشيا ولكنه لا يتجاوز حدا معينا، فبينما يبرزه أحمد أمين في مجال الحركة العلمية في مؤلفه القيم "فجر الإسلام". أشرافا وبينهم دون ذلك، وأن "الوظائف كانت مفتوحة أمامهم إلا تلك التي تعني الولاية على الغير كالإماراة والقيادة والقضاء، وقد تولى بعضهم القضاء، ولكن ندر من تولى مناصب عسكرية أو إدارية هامة"(1).

    __________

    (1) مقدمة في التاريخ الاقتصادي، ص. 40 والخط من وضعي.

    (1/11449)

    ومما ساعد على هذا الإنطباع العام عن علاقة بين أمية بالموالي، بالإضافة إلى

    مفاهيم الدارسين وتصوراتهم، عدة عوامل أخرى، من أهمها أن بعض الروايات في

    المصادر تصور الأحداث الكبرى بما يؤكد النظرة العرقية. يقول الحاحظ "دولة العباس أعجمية خرسانية ودولة بني مروان أموية عربية"(1) وتجعل جل الروايات حركة المختار أو الدعوة العباسية وكأنهما حركتان للموالي ضد العرب، وإلى ذلك أشباه كثيرة ونظائر.

    __________

    (1) البيان والتبيين، ج 1، ص. 206.

    (1/11450)

    ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على بلورة هذا الإنطباع العام ورود مصطلح "موالي"(1) في الروايات بصورة متعددة مختلفة، فاستخدمه الدارسون بصورة مربكة. ترد كلمة موالى في اللغة على ستة معان، فهي بمعنى العصبة والناصر والولي ومولى المولاة - وهو الذي يسلم على يديك ويواليك، والحليف مطلقا ومولى العتاقة والمحب. واللفظ من ألفاظ الأضداد فيأتي بمعنى العبد والسيد أو المالك والمملوك. وتردد بمعنى الناصر في القرآن كثيرا وبمعنى السيد(2)

    __________

    (1) لااجع مادة "ولي" في لسان العرب وتاج العروس.

    (2) سورة النحل (الآية 76)؛ سورة الأنعام (الآية 62).

    (1/11451)

    والعصبة والورثة(1) والعبد(2). وورد اللفظ في الحديث على ثلاثة عشر معنى، ولهذا قالوا "فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه". وليس هناك فيما أعلم أية دراسة تاريخية حللت الروايات التي ترد فيها كلمة "الموالي" وردتها إلى ما تقتضيه السياق من تلك المعاني المتعددة، والأغلب أن الدراسات الحديثة أخذت كلمة الموالي في الروايات المتعلقة بتاريخ الدولة الأموية لتعني تلك الفئة التي أسلمت من غير العرب فتحالفت مع قبائل عربية ودخلت في ولائها، بينما واقع

    __________

    (1) سورة النساء (الآية 33).

    (2) سورة الأحزاب (الآية 5).

    (1/11452)

    الحال يدعو إلى القول بأن مثل هذه الفئة لا يمكن أن تكون إلا قليلة، وذلك استنادا لما يستنتج من موقف الفقهاء من الحديث الوارد في هذا الشأن. ففي بعض الأثر "من أسلم على يده رجل فهو مولاوه"، أي يرثه كما يرث من أعتقه. ولكن الحديث الذي عليه المعول في هذا الباب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل مشرك يسلم على يد رجل من المسلمين فقال :

    هو أولى الناس بمحياه ومماته، أي أحق به من غيره. قال ابن الأثير : ذهب قوم إلى العمل

    بهذا الحديث، واشترط آخرون أن يضيف إلى الإسلام على يده المعاقدة، وذهب أكثر

    (1/11453)

    الفقهاء إلى خلاف ذلك وجعلوا هذا الحديث بمعنى البر والصلة ورعي الذمام، ومنهم من ضعف الحديث(1).

    ومن العوامل المؤثرة أيضا السياسة الاقتصادية للمروانيين التي هدفت إلى معالجة الأزمة المالية التي واجهت دولتهم، فكانت الإجراءات وكأنها موجهة ضد الموالي، خاصة في العراق حيث كانت الأزمة حادة، فأبقى الحجاج الأراضي الخراجية خراجية، وجعل غير المسلم يدفع الجزية وإن أسلم، وأجبر أهل

    __________

    (1) راجع الشرح المسترسل عن هذا في مادة "ولي" في لسان العرب وانظر أبواب المولاة والعتاقة والمعاقدة في كتب الفقه فالأمر فيها مستفيض.

    (1/11454)

    الريف على الرجوع إلى قراهم لإعمارها(1).

    ولا ينبغي تجاهل تأثير الشعوبية التي ازدهرت أيام التدوين فأفرزت مفاهيم وتصورات لونت الروايات بألوانها، فأكد الشعوبيون على ما ينتقص العرب ويذمهم، وأبرز العرب ما يرفع قدرهم ويخفض خصومهم.

    من كل ما سبق قوله ينبغي التنبه إلى استعملات اللفظ في الروايات ودلالاتها، وهذا ما لا يظهر الاهتمام به في جل الدراسات الحديثة حيث نظروا إلى اللفظ بأنه يعني كل المسلمين من غير العرب، سواء دخلوا في ولاءات حقيقية مع قبائل

    __________

    (1) راجع هذه المسألة عند الدوري، المرجع السابق، ص. 30-33.

    (1/11455)

    عربية أم لم يدخلوا، فعمموا تعميما خاطئا، ومنطلقهم في ذلك ما كان سائدا في المصرين : البصرة والكوفة. وليس بالضرورة أن ينطبق حال المصرين هذين على بقية أجزاء الخلافة الأموية.

    وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض الدارسين المحدثين في دراساتهم الجزئية المتخصصة توصلوا إلى نتائج تخالف تلك التعميمات، من هؤلاء عبد العزيز الدوري وفاروق عمر وشعبان عن طبيعة الدعوة العباسية؛ فقد أثبتوا أن الحركة في جوهرها عربية بتنظيماتها وقياداتها، أما أتباعها فقد كانوا من عناصر التذمر التي تضم أعراقا متعددة خاصة العرب، ومن ثم فإن

    (1/11456)

    أسباب التذمر اجتماعية اقتصادية وليست عرقية.

    ومثل هذه النتائج تدعو إلى إعادة النظر في جوهر علاقة بني أمية بالموالي. ولعل النظر في ولاة بني أمية في المغرب مما يفيد كثيرا في هذا السبيل(1)، بل إن مثل هذا النظر ينسف حتى مقولة استثناء الموالي من مناصب القيادة العسكرية والإدارية الهامة، وهي آخر مرتكز للقول بأن

    __________

    (1) لقد تنبهت سعادة جودت في رسالتها للماجيستير المقدمة لقسم التاريخ في جامعة الملك سعود وعنوانها "دور القبائل القحطانية في الشام في العصر "الأموي" لهذه الظاهرة ولم يقف عندها ولهذا لم تفسرها.

    (1/11457)

    الأمويين ميزوا بين العرب والموالي على أساس عرقي، مثل هذه النتيجة تجعل النظر في المرتكزات السياسية والاقتصادية لسياسة بني أمية قضية مركزية في دراسة التاريخ الأموي كله.

    يتضح من جدول الولاة المرفق أنه منذ أن أتم حسان بن النعمان الغساني فتح إفريقية وإلى أن انتزى بها عبد الرحمن بن حبيب الفهري تعاور على ولاية إفريقية سبعة عشر واليا، ستة منهم من الموالي، وهم موسى بن نصير مولى لخم، وقيل بكر بن وائل، ومحمد بن يزيد مولى قريش، وإسماعيل ابن أبي المهاجر مولى بني مخزوم ويزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج وعبيد

    (1/11458)

    الله بن الحبحاب مولى بني سلول. ومدة ولايتهم أربع وعشرون سنة، هي نصف مدة الولاة أجمعين، وهي خمسون سنة. ويلاحظ أنهم تدرجوا في الأعمال الإدارية حتى وصلوا إلى مرتبة الولاية. ولى موسى غزو البحر لمعاوية ثم خراج البصرة لبني مروان. وكان يزيد صاحب شرطة الحجاج(1)، ويقول الرقيق عن ابن الحبحاب "كان أوله كاتبا ثم تناهت به الحال إلى أن ولى إفريقية"(2).

    ويدلك على أهمية هذه الولاية أن الملحق الأول عن الولاة يوضح بجلاء ولاة إفريقية

    __________

    (1) الرقيق، ص. 73؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 48.

    (2) الرقيق، ص. 71.

    (1/11459)

    كانوا من تعيين خلفاء بني أمية بنسبة 14 : 3؛ والاستثناء مع أبي المهاجر الذي عينه والي

    مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري، الذي اختاره أهل القيروان بعد مقتل ابن أبي مسلم حتى

    يأتي أمر الخليفة، والثالث عبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي انتزى بإفريقية وأقره الخليفة.

    ومن هنا يتضح أن ولاية إفريقية كانت ولاية مهمة لا سيما وأنها كانت تدر على متوليها مالا عظيما، فقد طالب سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير بثلاثمائة ألف دينار لما عزله(1). وطلب

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 57.

    (1/11460)

    من واليه محمد بن يزيد أن يأخذ من آل موسى بن نصير وكل من التبس بهم مثلها(1). وأغرم عبيدة السلمي عمال بشر سلفه مالا جليلا(2)، فلا عجب أن كان عمال الولاة مثلهم في المكانة.

    إن الجدول الثاني يوضح عدد العمال المستخلفين في القيروان أو رتبوا في أقاليم المغرب، وعددهم إثنان وعشرون، ثمانية منهم موالي، وبما يكون عددهم أكثر من ذلك، لأن المصادر أحيانا تثبت النسبة دون ذكر الولاء(3)

    __________

    (1) نفسه، ص. 59.

    (2) نفسه، ص. 69؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 50.

    (3) يصف الرقيق حنش بن بكر بانه مولى قيس، ص. 91؛ وفي موضع آخر، ص. 93 يشير إلى النسبة وحدها دون ذكر الولاء؛ وابن خلدون، ج 6، ص. 11 قيسا.

    (1/11461)

    .

    ومع أن هذا الجدول غير كامل، لأن المصادر لا تشير إلى جميع العمال مع كل وال، إلا أنه يعبر عن الانفتاح في تولية الموالي المراكز الإدارية الهامة، ونسبتهم أكثر من 36%.

    وتجدر الإشارة إلى أ، الوالي العربي قد يعين مولى عاملا (عبد الرحمن بن حبيب عين بكر بن حنش) وقد يكون جل عمال وآل مولى مولي مثله (موسى بن نصير) وقد يكون عمال وآل مولى عربا (محمد بن يزيد وإسماعيل بن أب المهاجر) أو عربا ومولي (ابن الحبحاب).

    وإذا نظر المرء في عناصر الجيوش الأموية في المغرب يجد أن أعداد غير العرب كانت

    (1/11462)

    أكثر من العرب، وذلك منذ أن دخلت قبائل البتر الإسلام، وأسهمت في تثبيت عملية الفتح

    وفتح بقية المغرب الإسلامي، حتى اتخذ الولاة حرسهم من البتر(1)، وبدأت غلبة العناصر

    غير العربية مع حسان بن النعمان؛ فقد كانت جيوشه عربية خالصة(2) حتى اتخذت الكاهنة

    سياسة الأرض المحروقة، فاستئمان الناس لحسان، ودخلوا جيشه، فجعل منهم إثنى عشر ألفا مع

    العرب مجاهدين وأسلموا على يديه(3). وهذا العدد كان مع

    __________

    (1) ابن عبد الحكم، ص. 214؛ الرقيق، ص. 64.

    (2) الرقيق، ص. 52، 26.

    (3) الرقيق، ص. 34؛ ابن الشباط، 116؛ وابن عذاري، ج 1، ص. 38.

    (1/11463)

    طارق في طنجة بعد فتح المغرب

    الأقصى؛ ويقول الرقيق القيرواني عنهم : "إنها العدة التي جعلها عليهم حسان. ويضيف أن موسى ترك مع طارق سبعة وعشرين رجلا من العرب ليفقوا جنده أولئك في الدين(1).

    __________

    (1) الرقيق، ص. 39-40. وفي المصادر اختلاف كبير في عدد العرب هذا (انظر : ابن عبد الحكم، ص. 204؛ ابن حلكان، ج 5، ص. 325؛ ابن الشباط، 117؛ و ابن عذاري، ج 1، ص. 24؛ العبر، ج 6، ص. 110؛ ابن الأثير، ج 4، ص. 54؛ النوري، ص. 40.

    (1/11464)

    ومما يحدث إرباكا عند الباحثين بشأن عناصر الجيش أن الروايات عن الثروات تسمي جيش الأمويين بالعرب وجيوش الخارجين عليهم بالبربر مع أن في هؤلاء قادة عربا في أولئك عربا وبربرا. وهذا الاضطراب المربك قد يكون سببه تأثير الرواة لا سيما وأن الروايات المغربية تأخرت المغربية في التدوين عن المشرقية بقرنين تقريبا.

    إن هذه النتائج قد تثير تساؤلا هاما، فربما يظن ظان بأن تعيين الموالي ولاة وعمالا في المغرب إنما يمثل خصوصية مغربية إرضاء لأهل إفريقية وكسبا لهم. وأغلب الظن أن الأمر لم يكن كذلك إنما يمثل سياسة بني

    (1/11465)

    أمية تجاه الموالي. وهناك ثلاثة شواهد على ذلك : أولا أن أولئك الموالي ليسوا من أهل إفريقية، ثانيا : الواضح أن تعيين الولاة كان بسبب خبراتهم السابقة وكفاءاتهم في تطبيق سياسة الخليفة الذي عينهم. لقد كانت سياسة عبد الملك تجمع بين الحاجة إلى الخبرة العسكرية والمالية فوجدهما في موسى بن نصير، وسياسة سليمان قائمة على الحق والعدل فأشار عليه رجاء بن حيوة بمحمد بن يزيد(1). وجوهر سياسة عمر بن عب العزيز الهداية لا الجباية، فالتمسها في إسماعيل بن أبي المهاجر "فأسلم

    __________

    (1) الرقيق، ص. 58؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 47.

    (1/11466)

    بقية البربر على يديه"(1). ومن المعلو مأن القضية المالية كانت مسألة مركزية في سياسة هشام وفي ضوئها يفهم تعيينه لابن الحبحاب.

    ثالثا كان خروج أهل المغرب على بني أمية في ظل ولاة من الموالي، فلو كان الأمر

    عرقيا لتم في أيام الولاة العرب. كما أن أسباب الخروج توضح خير توضيح أن علاقة بني

    أمية بالموالي لم تكن قائمة على العرق، وإن الثورات كانت أساسا لأسباب اقتصادية.

    فقد كان خروج أهل المغرب على بني أمية في مرتين : الأولى سنة 102 هـ

    __________

    (1) الرقيق، ص. 62؛ المالكي، ج1 ص. 116؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 48.

    (1/11467)

    لأسباب ضرفية محدودة. والثانية سنة 122 هـ لأسباب عامة شاملة للمغرب كله. فكانت الولى خروجا على يزيد بن أبي مسلم الذي وسم حرسه، فاعتبروا ذلك إذلالا، فوثبوا عليه وقتلوه، وهو مولى. أما الثانية، وهي الأهم، فإن الروايات القليلة المتوفرة ترد مبتدأها إلى السياسة المالية لعمر بن عبد الله المرادي وإلى ابن الحبحاب على طنجة "الذي تعدى في الصدقات والقسم (العشر) وأراد تخميس البربر، وزعم أنهم فيء المسلمين، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله، وإنما كانت الولاة يخمسون من لم يؤمن بهم"(1)

    __________

    (1) الرقيق، ص. 73؛ ابن الأثير، ج 5، ص. 19؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 51.

    (1/11468)

    فانتفض أهل المغرب الأقصى بقيادة مسيرة المذغري الخارجي ثم خالد بن حميد الزناتي(1). ويبدو أن إجراءات عمر المرادي جزء من سياسة ابن الحبحاب، لأن الثورة ما لبثت أن شملت المغرب كله، إفريقية وطرابلس سواء، بقيادة خارجية تحت إمرة عكاشة الصفري وعبد الواحد الهواري(2). وسياسة ابن الحجاج المالية، ولهذا كانت الثورات شاملة للدولة الأموية كلها نتيجة لما أفرزته تلك السياسة

    __________

    (1) ابن عبد الحكم، ص. 218؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 53؛ النويري، ص. 59؛ ابن الأثير، ج 5، ص. 192..

    (2) الرقيق، ص. 76، 77، 85؛ ابن عذاري، ج 1، ص. 59.

    (1/11469)

    من تذمر تمثل في المشرق في ثورات الخوارج المتعددة وحركة الحارث بن سريج الموجئ سنة 116(1)، وزيد ابن علي عام 122(2) ، وانقلاب يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد سنة 126(3) ...

    مصادر ومراجع البحث

    1- ابن الأبار، أبو عبد الله محمد البلنسي، "رحلة السيراء"، ج 2، تحقيق حسين مؤنس، ط 1، القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1963 م.

    __________

    (1) الطبري، ج 7، ص. 94-98.

    (2) نفسه، ج 7، ص. 181.

    (3) انظر خطبته عند الطبري، ج 7، ص. 268-269.

    (1/11470)

    2- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، "الكامل في التاريخ"، دار صادر - دار بيروت، 1965/1385 هـ.

    3- البلاذري، أحمد بن يحي، "أنساب الأشراف"، ج 3، ق 2، ج 5 مصورة مكتبة المثنى، بغداد.

    4- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، "البيان والتبيين"، ج 3، باعتناء السندوبي، القاهرة، 1932 م.

    5- الحميري، محمد بن عبد المنعم، "الروض المعطار في خبر الأقطار"، تحقيق إحسان عباس، بيروت، مكتبة لبنان، 1975 م.

    6- ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد، "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر"، بيروت، دار الكتاب

    (1/11471)

    اللبناني، 1981 م.

    7- ابن خلكان، أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم، "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1978 - 1972.

    8- خليفة بن خياط، "تاريخ خليفة بن خياط"، تحقيق أكرم ضياء العمري، الرياض، دار طيبة، 1405 هـ.

    9- الدباغ، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري، "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان"، ج 1، تحقيق إبراهيم شبوح؛ ج 2، تحقيق محمد الأحمد أبو النور ومحمد ماضور، مكتبة الخانجي بمصر والمكتبة العتيقة بتونس، 1972 م.

    (1/11472)

    الدوري، عبد العزيز، "مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي"، بيروت، دار الطليعة، 1969 م.

    10- الرقيق أبو اسحاق إبراهيم، "تاريخ إفريفية والمغرب"، تحقيق د. عبد الله الزيدان ود. عز الدين عمر موسى، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1990 م.

    11- الزبيدي، المرتضى، "تاج العروس من جواهر القاموس"، ج 10، القاهرة، المطبعة الخيرية، 1307 هـ.

    12- ابن الشباط، محمد الشقراطسي التوزري "صلة السمط"، شرح القصيدة الشقراطسية الجزء الثاني، (مخطوط من المكتبة البريطانية تحت رقم OR. 2186.

    (1/11473)

    13- الطبري، محمد بن جرير، "تاريخ الرسل والملوك"، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف بمصر، 1964 م.

    14- ابن عبد الحكم، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله، "فتوح مصر وأخبارها"، تحقيق تشارلز توري، نيوهيقن، مطبعة جامعة بيل، 1922 م.

    15- ابن عذاري، أحمد بن محمد، "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، ج 1-2، تحقيق ج. كولان وليقي بروفنسال، ليدن، مطبعة بريل، 1948 - 1951 م.

    16- أبو العرب، "طبقات علماء إفريقية وتونس"، تحقيق نعيم اليافي وعلي الشابي، تونس، 1968 م.

    (1/11474)

    17- قان فلوتن، "السيادة العربية والشعبية والإسرائليات"، تعريب حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم، القاهرة، 1943 م.

    18- فلهوزن، يوليس، "أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام، الخوارج والشيعة"، ترجمة عبد الرحمن بدوي، القاهرة، 1956 م.

    19- ابن القوطية، أبو بكر عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى، "تاريخ افتتاح الأندلس"، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1402/ 1982 م.

    20- الكندي، أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب المصري، "ولاة مصر"، تحقيق حسين نصار، بيروت، دار بيروت، 1959 م.

    (1/11475)

    21- لويس، برنارد، "العرب في التاريخ"، ترجمة نبيه أمين فارس ومحمود يوسف زائد، بيروت، دار العلم للملايين، 1954 م.

    22- المالكي، أبو بكر عبد الله محمد، "رياض النفوس"، تحقيق بشير البكوش، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1973/1403 هـ.

    23- مجهول المؤلف، "أخبار مجموعة الفتح الأندلس وذكر امرائها"، تحقيق إبراهيم الإبياري، بيروت دار الكتاب اللبناني، 1401/1981 م.

    24- المسعودي، علي بن الحسين، "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المطبعة التجارية الكبرى، ط 3، 1958 م.

    (1/11476)

    25- المقري، أبو العباس أحمد بن محمد التلمساني، "نفح الطيب من غصن الأنلدس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب"، تحقيق إحسان عباس، بيروت دار صادر، 1968 م.

    26- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكروم، "لسان العرب"، ج 10، بيروت، دار صادر، 1955 م.

    27- النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، "نهاية الأرب"، ج 24، تحقيق حسين نصار، وعبد العزيز الأهواني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1403/1983 م.

    (1/11477)

    قراءة موضوعية في جذور العلاقة التاريخية بين الإسلام واليهودية

    ... ... ... ... ... الدكتور محمد رفعت زنجير ...

    ... جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا

    كلية التربية والعلوم الأساسية ـ أبو ظبي

    مقدمة

    ... الصراع بين الحق والباطل والخير والشرّ قديم قدم الإنسان على سطح هذه الأرض. ومحاولة قراءة هذا الصراع وفهمه، ومعرفة مبررات تصاعده تارة وانكماشه تارة أخرى هي الهدف من الدراسات التاريخية، لكي يستمد الناس من أحداث الماضي ما يساعدهم على استشراف المستقبل وكيفية التعامل معه.

    (1/11478)

    ... والدين الذي أنزله الله على عباده واحد وهو الإسلام، بينما الشرائع مختلفة. وقد جدد الله هذه الشرائع بما يتلاءم وأحوال الناس ومستجدات الحياة. وكانت نبوة محمد خاتمة الشرائع، وقد صدقت بما قبلها من شرائع، ونسخت العمل بها، وصار لزاماً على الناس اتباعها إلى يوم القيامة. واليهود هم أمة من الناس الذين يجب عليهم الاتباع، وكان ينبغي أن يكونوا في طليعة المتبعين، لأن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوب نعته واسمه لديهم في التوراة، ولطالما انتظروه واستبشروا بمبعثه. بيد أنهم نكصوا على أعقابهم لما

    (1/11479)

    جاءهم بالحق، وكانوا في طليعة أعدائه، والمؤلبين على دعوته عليه السلام. وقد حصلت على أثر وصول الرسول إلى المدينة المنورة موادعة للتعايش السلمي بين الطرفين، لم يلبث اليهود أن ضربوا بها عرض الحائط، ثم حصلت مواجهات ساخنة بين المسلمين واليهود انتهت بإخراجهم من المدينة المنورة.

    ... وقد عاش اليهود بعد ذلك موزعين في الحواضر الإسلامية، واحتضنهم المسلمون، ولم يلقوا إلا الخير والسلامة، بينما كانت النصرانية في أوروبا وغيرها تلاحقهم بالأذى والعدوان، لأنهم متهمون بقتل السيد المسيح على حسب اعتقاد النصارى. وقد

    (1/11480)

    رفل اليهود بالأمن في بلاد المسلمين، وعاشوا معهم حتى في الأندلس، إلى أن أجلي العرب عنها، فأجلي اليهود أيضاً، وذهبوا إلى القسطنطينية ضيوفاً على الدولة العثمانية التي آوتهم وساعدتهم. وكانت النتيجة أن دقوا لها مسامير نعشها، وقابلوا الإحسان بالإساءة، بعد أن طلبوا من السلطان عبد الحميد الثاني أن يوافق على إعطائهم وطناً بفلسطين، فأبى بالرغم من الإغراءات الكثيرة التي منوه بها. وذهبت على إثر ذلك الدولة العثمانية أدراج الرياح، بتخطيط من اليهود وابنهم البار مصطفى كمال أتاتورك. وأقيمت الدولة العبرية بعد

    (1/11481)

    ذلك بمساعدة بريطانيا. وكان أن حصلت المواجهات الساخنة بين الطرفين بعد قيام دولة إسرائيل العدوانية على أرض فلسطين المباركة، أرض الأنبياء والشهداء، ولم تزل المواجهات حتى اليوم.

    ... وهذا البحث الذي نقدمه ليس سرداً للتاريخ وبحثاً عن تفاصيله ودقائقه، ولا بحثاً تقليدياً في أسلوبه ومنهجه، بل هو قراءة متأنية واعية للعقلية والنفسية اليهودية التي قادت الصراع ضد هذا الدين منذ أيامه الأولى في المدينة، واستمر حقدها عليه وتآمرها على أتباعه حتى الساعة. فنحن هنا نحاول أن نفهم سير هذا الصراع ودوافعه الحقيقية

    (1/11482)

    الكامنة في النفوس اليهودية، معتمدين على بعض الأمثلة التاريخية بما يفي الغرض؛ لأننا هنا لا نؤرخ للحوادث، وإنما نريد معرفة سير الحوادث التاريخية، وندعو اليهود إلى تصحيح موقفهم من الإسلام وأهله، وأن لا يزجوا باليهودية في معركة مع الإسلام، بل عليهم أن يعمدوا إلى نزع فتيل العدوان، والاستجابة لصوت العقل، ونداء الأديان بالدعوة للسلام ونبذ العدوان، وأن لا يقابلوا الإحسان بالإساءة. ومنطق التاريخ يستوجب منهم ذلك. ولهذا الغرض جاء هذا البحث ليكون إضاءة للباحث المسلم وغيره على حد سواء، فيكون للأول زاداً

    (1/11483)

    ونبراساً، ويكون للثاني مكاشفة موضوعية ليعرف حقيقة هذا الصراع الدائر اليوم على أرض فلسطين، والذي يعتبر حلقة ضمن سلسلة طويلة من التآمر اليهودي على دعوة الإسلام منذ فجر الدعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    المبحث الأول: البشارة بمحمد في التوراة وارتقاب اليهود له

    أولاً: تأكيد القرآن للبشارة التوراتية بمحمد عليه السلام

    ... تبدأ العلاقة بين الإسلام واليهودية منذ عهد موسى عليه السلام، حيث بشرت التوراة بنبوة محمد عليه السلام. وقد أكد القرآن الكريم أن محمداً عليه السلام مكتوب اسمه في التوراة

    (1/11484)

    والإنجيل. قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}(1).

    ... ودعا القرآن الكريم إلى الاسترشاد بأهل الكتاب للدلالة على صدق نبوة محمد عليه السلام: فهم أهل العلم الأول، ولديهم ما يثبت نبوة محمد عليه السلام في كتابهم. قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}(2). والمراد بالعلماء هنا العدول منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، ونحوهم(3)

    __________

    (1) سورة الأعراف، الآية 157.

    (2) سورة الشعراء، الآية 197.

    (3) الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير، ج 2، ص. 658.

    (1/11485)

    ، وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}(1)، فهي معرفة لا لبس فيها ولا غموض، حيث يروى أن عمر قال لعبد الله بن سلام: »أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه«(2). وقال تعالى: {قل أرايتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(3)

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 146.

    (2) الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 140.

    (3) سورة الأحقاف، الآية 10.

    (1/11486)

    . والشاهد هنا: هو عبد الله بن سلام، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة(1).

    ثانياً: نصوص من التوراة تثبت نبوة محمد عليه السلام

    ... لم تكن دعوة القرآن الصريحة إلى الاسترشاد بمعرفة أهل الكتاب حول نبوة محمد عليه السلام إلا نابعة من يقين مفاده أن نصوصاً صريحة بالتوراة تشهد بنبوة محمد وتبشر به. وقد روى هذه النصوص العلماء من المسلمين مثل عبد الله بن عمرو؛ فعن عطاء بن يسار، قال:

    __________

    (1) انظر: الصابوني، مصدر سابق، ج 3، ص. 318.

    (1/11487)

    ... لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: خبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف ببعض صفته في القرآن ({يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}(1)، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً (2)

    __________

    (1) سورة الأحزاب، الآية 45.

    (2) رواه البخاري والدّارمي. ( انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني، ج 3، صص. 1602 ـ 1603).

    (1/11488)

    .

    ... كما روى هذه النصوص عن التوراة بعض علماء أهل الكتاب، مثل: كعب الأحبار. فقد حكى عن "التوراة" قال:

    ... نجد مكتوباً: محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة للشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، يتآزرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في

    (1/11489)

    الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل(1).

    ... ولاشك في أن الإخبار ببعثة محمد عليه السلام من قبل أنبياء بني إسرائيل أمر يؤيده العقل، ويتفق مع أحكامه. يقول الشيخ رحمة الله الكيرواني:

    ... إن الأنبياء الإسرائيلية، مثل: أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام أخبروا عن الحوادث الآتية: كحادثة بختنصر، وقورش، وإسكندر وخلفائه، وحوادث أرض أدوم، ومصر، ونينوى، وبابل. ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد - صلى الله عليه

    __________

    (1) رواه البغوي والدّارمي (المصدر نفسه، ج 3، صص. 1606 ـ 1607).

    (1/11490)

    وسلم - ، الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول، ثم صار شجرة عظيمة تأوي طيور السماء في أغصانها، فكسر الجبابرة والأكاسرة، وبلغ دينه شرقاً وغرباً، وغلب الأديان، وامتد دهراً… وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث، وما كانت أقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما. فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة، وتركوا الإخبار عن هذه الحادثة العظيمة ؟!(1).

    ثالثاً: إدراك اليهود لبعثة محمد عليه السلام

    __________

    (1) إظهار الحق، ص. 502.

    (1/11491)

    ... كان عامة اليهود يدركون ذلك، وكثيراً ما قالوا للأوس والخزرج: »إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم« (1). وكان هذا سبباً في إسلام الكثير منهم فيما بعد.

    ... وكانت بعثة محمد معروفة لليهود خارج الجزيرة أيضاً. فـ"التوراة" واحدة. وكان ابن لهيبان يهودياً من أهل الشام، وهو من خيار اليهود وصلحائهم، هاجر إلى المدينة، ولعله كان قبل البعثة، يريد أن يلقى النبي عليه السلام لما يعلم من صفته. فلما أدركته الوفاة، قال:

    __________

    (1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص. 245.

    (1/11492)

    ... يا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث، فأتبعه. وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه(1).

    ... وكان من اليهود من يعرفون نبوة محمد. بيد أنهم توقفوا عن الالتحاق بدينه، حتى إذا كانت ساعة المواجهة مع المشركين، التحقوا بجيش محمد

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 246.

    (1/11493)

    عليه السلام، وقاتلوا معه، ومن هؤلاء مخيريق. قال ابن هشام:

    ... وكان من حديث مخيريق، وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه. فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت. قال: يا معشر يهود ! والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد، وعهد إلى من ورائه من قومه: إن قتلت هذا

    (1/11494)

    اليوم، فأموالي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس، قاتل حتى قتل (1).

    رابعاً: معرفة غير اليهود ببعثة محمد عليه السلام عن طريق اليهود أنفسهم

    ... وقد شهد بعض العرب تحسس اليهود لولادة النبي محمد. فهذا حسان بن ثابت يقول: »والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذا سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به« (2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، ص. 257.

    (2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 181.

    (1/11495)

    .

    ... كما شهد غير العرب بارتقاب اليهود لبعثة النبي محمد عليه السلام. فهذا سلمان الفارسي كان عبداً عند رجل من يهود؛ ولما هاجر الرسول عليه السلام، سمع رجلاً يقول لسيده: »قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي«. وحين أراد سلمان أن يستوثق من الرجل، سأله: ماذا قلت؟ فغضب سيده ولكمه لكمة شديدة، ثم قال: »مالك ولهذا؟ أقبل على عملك« (1).

    خامساً: قريش تستفتي يهوداً بشأن النبي عليه السلام

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 1، صص. 249 ـ 250.

    (1/11496)

    ... ولأن اليهود لديها علم بالكتاب الأول، فقد أرسلت قريش تسأل اليهود عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث أرسلت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود في المدينة، وقالوا لهما:

    ... سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار

    (1/11497)

    يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب؛ وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؛ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك، فاتبعوه فإنه نبي؛ وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم(1).

    وقد أوحى الله عز وجل إلى نبيه الإجابة عن هذه الأسئلة في »سورة الكهف«، ولكن الكافرين جحدوا وأصروا على عنادهم

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، ص. 39.

    (1/11498)

    واستكبارهم.

    سادساً: معرفة الرهبان أيضاً بقرب بعثة محمد عليه السلام

    ... لم تكن المعرفة ببعثة محمد عليه السلام قاصرة على اليهود، بل امتدت لتشمل رهبان النصارى. فقد كانوا على علم ببعثة محمد عليه السلام أيضاً. وقد كان رهبان النصارى على علم ببشارة عيسى عليه السلام لهم ببعثة محمد، لذلك كانوا يترقبون بعثة النبي عليه السلام. وحين خرج أبو طالب تاجراً في رحلة الصيف إلى الشام، ومعه ابن أخيه محمد وهو حدث صغير السن آنذاك، مَرَّ على بحيرى الراهب، وتم اللقاء بينهما بطلب من بحيرى؛ وسأل بحيرى محمداً عن أشياء

    (1/11499)

    كثيرة، فأجاب عنها، ورأى خاتم النبوة بين كتفي محمد، فأدرك أنه نبي آخر الزمان. وكان مما قاله عقب اللقاء، موجهاً حديثه لأبي طالب: »فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود. فوالله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شرّاً. فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده«(1).

    سابعاً: بعض أحبار اليهود تشهد بنبوة محمد عليه السلام

    ... اعترف بعض أحبار بني إسرائيل بنبوة محمد عليه السلام، مما يدل على صدق نبوة محمد عليه السلام، ويقيم الحجة على الجاحدين والمعاندين.

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 209.

    (1/11500)

    روى أنس، قال:

    ... سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف(1)، فأتى النبي فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: »أخبرني جبريل آنفاً. أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب؛ وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماءَ المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت«. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول

    __________

    (1) أي يجتني من الفواكه.

    (1/11501)

    الله. يا رسول الله ! إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن تسألهم يبهتونني. فجاءت اليهود، فقال: »أي رجل عبد الله فيكم؟ «. قالوا: »خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا«. قال: »أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ «. قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقالوا: »شرنا وابن شرنا«، فانتقصوه، قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله !(1).

    __________

    (1) رواه البخاري. (انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني، ج 3، صص. 1643 ـ 1644).

    (1/11502)

    ... وعن علي أن يهوديّاً يقال له فلان، حبر، كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دنانير، فتقاضى النبي، فقال له: »يا يهودي ما عندي ما أعطيك«. قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »إذاً أجلس معك«. فجلس معه، فصلى رسول الله الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه ويتوعدونه. ففطن رسول الله ما الذي يصنعون به. فقالوا: يا رسول الله ! يهودي يحبسك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »منعني ربي أن أظلم معاهداً وغيره«.

    (1/11503)

    فلما ترجل النهار، قال اليهودي:

    ... أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وشطر مالي في سبيل الله. أما والله ما فعلت بك الذي فعلت بك إلا لأنظر نعتك في "التوراة": »محمد بن عبد الله. مولده بمكة، ومهجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا متزي بالفحش، ولا قول الخنا«. أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك الله.

    وكان اليهودي كثير المال(1)

    __________

    (1) رواه الحاكم والبيهقي في "دلائل النبوة ". (انظر:التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 3، صص. 1621 ـ 1622).

    (1/11504)

    .

    ... وامتدح القرآن الراسخين في العلم من أهل الكتاب. قال تعالى: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً}(1). والراسخون في العلم هنا أربعة من علماء بني إسرائيل وهم: عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيه، وأسد بن سعيه، وأسد بن عبيد الذين دخلوا بالإسلام وصدقوا النبي عليه السلام(2).

    __________

    (1) سورة النساء، الآية 162.

    (2) اتظر: الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 464.

    (1/11505)

    ... وقد رحب الرسول بالمؤمنين به من أهل الكتاب. فهؤلاء لهم أجران: أجر الإيمان بنبيهم، وأجر الإيمان بمحمد عليه السلام(1).

    ثامناً: الفطرة تشهد أيضاً على صدق نبوة محمد عليه السلام

    ... شهد بعض أطفال اليهود بنبوة محمد عليه السلام، وما كانوا ليشهدوا شهادة الحق لولا أنهم قرأوا ذلك في "التوراة" أو سمعوا آباءهم يتحدثون به. فأسلموا لله، واتبعو النبي

    __________

    (1) ورد ذلك في حديث صحيح رواه أحمد والبيهقي والترمذي وغيرهم. (انظر: المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 3، ص. 333، الحديث 3548، دار المعرفة، بيروت).

    (1/11506)

    عليه السلام. روى أنس أن غلاماً يهوديّاً كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ "التوراة"، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »يا يهودي ! أنشدك بالله الذي أنزل "التوراة" على موسى، هل تجد في "التوراة" نعتي وصفتي ومخرجي؟ «. قال: لا! قال الفتى: »بلى يا رسول الله ! إنا نجد لك في "التوراة" نعتك وصفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله«. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: »أقيموا هذا من عند رأسه، ولو

    (1/11507)

    أخاكم« (1).

    ... وعن أنس أيضاً، قال: كان غلام يهودي يخدم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: »أسلم«. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: »أطع أبا القاسم«!. فأسلم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: »الحمد لله الذي أنقذه من النار« (2).

    __________

    (1) رواه البيهقي في دلائل النبوة. (انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 3، صص. 1614 ـ 1615).

    (2) رواه البخاري. (انظر: المصدر نفسه، ج 1، ص. 495).

    (1/11508)

    ... وفي هذين الخبرين دليل ساطع على نبوة محمد عليه السلام، وعلى أن الفطرة السليمة لا تعرف الكذب، وتستطيع أن تدلي بالحق ولو كان أقرب المقربين إليها من الآباء ونحوهم يرفضون الإذعان للحق والانقياد له.

    المبحث الثاني: حديث القرآن عن بني إسرائيل

    ... استمرت العلاقة بين الإسلام واليهودية إلى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء مصدقاً لما قبله من أنبياء ورسل عليهم السلام، حيث أمره الله بالإيمان بالأنبياء والمرسلين جميعاً عليهم السلام بلا تفريق. قال تعالى: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على

    (1/11509)

    إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}(1).

    ... وقد شهد القرآن الكريم بصدق موسى عليه السلام ونبوته، وبرأه مما شوه سيرته من دعايات يهودية مغرضة. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً}(2). وفي هذا الإطار دعا الله تعالى بني إسرائيل إلى الإيمان بمحمد الذي صدق بموسى وبشرت به "التوراة". قال تعالى مخاطباً بني

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 84.

    (2) سورة الأحزاب، الآية 69.

    (1/11510)

    إسرائيل: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون، وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}(1)، وأما في حالة عدم استجابتهم للدين الحنيف، فيبقون مع المسلمين ضمن مجتمع واحد، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. ويمكن أن نحدد الأطر العامة لموقف القرآن الكريم من اليهود بما يلي:

    __________

    (1) سورة البقرة، الآيات 40 ـ 42.

    (1/11511)

    أولاً: حديث القرآن عن بني إسرائيل في فترة ما قبل الإسلام. وقد تميز بما يلي:

    ... 1 ـ ذكر محاسنهم ونعم الله عليهم، تذكيرهم بالعهود والمواثيق، وهذا من أفضال القرآن الكريم القائم في أحكامه على العدل والموضوعية عند ذكره للأمم والشعوب. ويتجلى هذا في ذكره للمحاسن والعيوب على حد سواء. فقد ذكر أنه فضل بني إسرائيل على العالمين. قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}(1). والمقصود بالآية تفضيلهم على العالمين في زمانهم كما ذكر

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 47.

    (1/11512)

    المفسرون(1). وهذا التفضيل لا يكون إلا عن حكمة ربانية، ومعرفة بخصائص هذا المفضل. ومن هذه الخصائص: الصبر على البلاء، وقد نوه به الله سبحانه في قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}(2).

    ... 2 ـ ذكر ما أنعم به الله على بني إسرائيل من نعم لا حصر لها. وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن الكريم

    __________

    (1) انظر: الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 62.

    (2) سورة الأعراف، الآية 137.

    (1/11513)

    تذكيراً لهم بما ينبغي عليهم من شكر للمنعم، والتمسك بعهده وميثاقه، منها إنقاذهم من شر فرعون وبطشه وتعذيبه لهم. قال تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}(1). ولقد أغرق عدوهم أمام أعينهم فاشتفت قلوبهم من عدوهم، قال تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}(2). وفي رحلتهم إلى سيناء، قدم لهم الظل والغذاء معاً، قال تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 49.

    (2) سورة البقرة، الآية 50.

    (1/11514)

    والسلوى}(1). وفجر لهم الأرض ينابيع ليشربوا ويستقروا، قال تعالى: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}(2). كما أثنى على المؤمنين منهم بالنبي محمد عليه السلام، وقد تقدم ذكر ذلك في المبحث السابق.

    ... 3 ـ ذكر سلبياتهم التاريخية. إذ يعتبر القرآن الكريم مصدراً أميناً، وسجلاً موثقاً لمواقف الأمم مع أنبيائها، وما اكتنف تلك المواقف من حوار

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 57.

    (2) سورة البقرة، الآية 60.

    (1/11515)

    وجدال ومواجهات ساخنة. وسوف نستعرض هنا ما يتعلق بتسجيل القرآن لسلبيات اليهود بكل دقة ووضوح. فقد ذكر قصصهم ومثالبهم مع أنبيائهم. قال تعالى: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون}(1). وفي هذا الصدد، سجل القرآن أقوال اليهود وشبهاتهم الفاسدة حول دعوة الله عز وجل، وعلى مختلف الأصعدة، نذكر منها مواقفهم العقدية التي تؤمن بالغيب، ولكنها تفسد الإيمان به بالتحريف والتبديل، مما جعلها تقع في فخ الشِّرْك وتقترب من الوثنية. من ذلك ما ورد في قوله تعالى: {وقالت

    __________

    (1) سورة النمل، الآية 76.

    (1/11516)

    اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}(1)، وقوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم}(2)، وقوله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}(3).

    ... وسجل القرآن مواقفهم من الأنبياء عليهم السلام. ويبدو أن دعاية السحر والجنون ألصقت بالأنبياء في كل

    __________

    (1) سورة التوبة، الآية 30.

    (2) سورة المائدة، الآية 64.

    (3) سورة المائدة، الآية 18.

    (1/11517)

    الأمم، وذلك أن التفكير المادي لا يرى تفسيراً للنبوة غير هذا. قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون}(1). وسجل القرآن موقف اليهود من مريم وابنها السيد المسيح عليه السلام، قال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم}(2).

    ... كما سجل مواقفهم من أتباع الأنبياء عليهم السلام، وهي مواقف تقوم على الأذى والعدوان، كما في قصة

    __________

    (1) سورة الذاريات، الآيتان 52 ـ 53.

    (2) سورة النساء، الآيتان 156 ـ 157.

    (1/11518)

    أصحاب الأخدود، حيث ندد القرآن بما تعرض له النصارى من أتباع المسيح عليه السلام من تصفية جسدية على يد اليهود في قصة أصحاب الأخدود، والتي سجلت أحداثها »سورة البروج«، حيث رفض النصارى تبديل دينهم، واعتناق اليهودية، واختاروا القتل حرقاً على تبديل دينهم، فحفرت لهم الأخاديد في الأرض، وأضرمت فيها النيران، وسيق الشعب المؤمن إلى النار فألقي فيها مكبلاً مقهوراً، وذلك كما ذكر ابن إسحاق(1).

    __________

    (1) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ط 2، 1411 هـ/ 1990 م، ج 2، صص. 129 ـ 132.

    (1/11519)

    ... وقد اشتهر اليهود بقتل الأنبياء وأتباعهم. قال تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}(1). وهذه الآية نزلت فيهم. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح:

    ... يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة. فقام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر. فقتلوهم جميعاً

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 21.

    (1/11520)

    من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل (1).

    ... 4 ـ تسجيل القرآن للأحوال النفسية لليهود. من ذلك قول أصحاب طالوت له عند لقاء أعدائهم: {قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} (2)، وهذا القول يكشف عن نفسية خائفة قد أدركها الوهن بسبب قوة عدوها، وقلة عددها وعتادها، وصور القرآن النفسية المحطمة لبني إسرائيل التي لا تحب الحرب وتبعاتها، وتلقي بها على كاهل نبيها وحده. قال تعالى مصوراً موقفهم مع موسى حين طلب منهم القتال

    __________

    (1) الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 274.

    (2) سورة البقرة، الآية 249.

    (1/11521)

    لدخول الأرض المقدسة:

    ... {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} (1).

    ... وفي موقف آخر يصور القرآن ترددهم في ذبح البقرة، فيقول: {قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون}(2)

    __________

    (1) سورة المائدة، الآية 22 ـ 24.

    (2) سورة البقرة، الآية 71.

    (1/11522)

    . كما يصور سوء ظنهم واستعجالهم بالاتهام لمريم بالخطيئة، قال تعالى: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا}(1).

    ... 5 ـ سجل القرآن انحرافات اليهود الاجتماعية، كما في قوله تعالى عن الكافرين من بني إسرائيل وسبب لعنتهم على لسان أنبيائهم: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}(2). كما سجل الانحرافات الاقتصادية، حيث أشار القرآن إلى نهم اليهود في جمع المال بكل السبل المحرمة، وأن

    __________

    (1) سورة مريم، الآيات 27 ـ 28.

    (2) سورة المائدة، الآية 79.

    (1/11523)

    هذا كان سبباً في تحريم الطيبات التي أحلت لهم، وذلك في قوله تعالى: {فبِظُلْمٍِ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدِّهم عن سبيل الله كثيرا، وأخْذِهِم الربا وقد نُهُوا عنه وأَكْلِهِم أموال الناس بالباطل}(1).

    ثانياً: حديث القرآن عن بني إسرائيل في عهد الدعوة الإسلامية

    1 ـ ذكر القرآن الكريم مواقفهم العدوانية من الدعوة الجديدة. قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى}(2)

    __________

    (1) سورة النساء، الآية 160 ـ 161.

    (2) سورة المائدة، الآية 82.

    (1/11524)

    . وهذه الآية تأسيس لعلاقات المسلمين بأهل الكتاب. وبالرغم من عداوتهم، فقد دعا القرآن للتعايش السلمي بين أصحاب الشرئع السماوية جميعاً. وكانت فكرة قبول الآخر أساس الحرية الدينية في الإسلام: فالناس أحرار في أديانهم ومعتقداتهم حسب تصور الشريعة الإسلامية التي لا ترى وصاية على عقول الناس ومعتقداتهم، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(1). ولا يقبل كفر بالإكراه، ولا إيمان بالإكراه كذلك. فالأساس في الإيمان والكفر هو الحرية الإنسانية الكاملة بلا وصاية ولا

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 256.

    (1/11525)

    إكراه؛ وبناء على الاختيار تكون المسؤولية أمام الله تعالى يوم القيامة.

    ... وفي إطار التعايش السلمي، دعا الإسلام برفق وشفافية مطلقة إلى الحوار مع أهل الكتاب عبر التاريخ. والهدف من الحوار الوصول إلى الحقيقة المتمثلة في الإقرار بنبوة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام. وقد دعا القرآن إلى هذا الحوار، قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}(1)

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 64.

    (1/11526)

    .

    ... 2 ـ سجل القرآن الكريم أقوال اليهود وشبهاتهم. من ذلك قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق}(1)، {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى}(2). من ذلك قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده لم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(3)

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 181.

    (2) سورة البقرة، الآية 111.

    (3) سورة البقرة، الآيتان 80 ـ 81.

    (1/11527)

    . فحيث إنه لا عهد لهم عند الله بذلك يثبتونه، بطل قولهم الذي لا يستند إلى عهد أو علم، ثم وجه الله تعالى الحديث إلى الحكم في قضية الخلود بالنار، وأنها مرهونة بكسب السيئات المحيطة بالإنسان، والتي تقوده إلى النار إذا لم يتخلص من إحاطتها، ويفك نفسه من أغلالها، وذلك بالإيمان بمحمد عليه السلام.

    ... وأنكر يهود نبوة سليمان بن داود، وزعموا أنه ساحر. فأنزل الله تعالى في ذلك رداً على قولهم: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}(1)، أي باتباعهم السحر والعمل به(2)

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 102.

    (2) انظر: الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 96.

    (1/11528)

    .

    ... وتنازع اليهود والنصارى عند النبي عليه السلام، فأنزل تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم}(1).

    ... 3 ـ تسجيل موقفهم من الرسول عليه السلام

    ... رفض أكثر اليهود الدعوة الجديدة، متذرعين بحجج واهية، منها على سبيل المثال ما جاء في قوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهِد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلمَ قتلتموهم

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 113.

    (1/11529)

    إن كنتم صادقين}(1). كما قاموا بممارسة هواية التحريف لكتابهم المقدس، والتحريف في خطابهم للنبي عليه السلام، وهو ما نبه عليه الله عز وجل في قوله: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعِنا لَيًّا بألسنتهم وطعناً في الدين}(2).

    ... وكانوا يكتمون ما أنزل الله من "التوراة" من التبشير بمحمد عليه السلام(3)، فأنزل الله تعالى فيهم: {إن الذين

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 183.

    (2) سورة النساء، الآية 46.

    (3) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 2، ص. 274.

    (1/11530)

    يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}(1).

    ... ولكن هناك بعضهم ممن اعترف بالحق، ودخل في نعيم الإيمان، قال تعالى: {لكن الراسخون بالعلم منهم والمؤمنون يؤمنون بالله وما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}(2).

    ... وعند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، استنكر يهود ذلك، وقالوا: يا محمد! ما ولاك عن قبلتك التي كُنْتَ عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 159.

    (2) سورة النساء، الآية 162.

    (1/11531)

    عليها نتبعك ونصدقك(1)، فأنزل الله تعالى فيهم: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}(2) الآيات.

    4 ـ سجل القرآن موقفهم من المؤمنين

    ... سجل القرآن موقف اليهود من المؤمنين. وهو موقف يقوم على السخرية والاستهزاء، ويمتد إلى الأذى والعدوان. وقد ذكر عداوتهم للمؤمنين فقال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا

    __________

    (1) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 2، ص. 272؛ الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 135.

    (2) سورة البقرة، الآية 142.

    (1/11532)

    اليهود والذين أشركوا}(1). وكانوا يفضلون المشركين على المؤمنين. قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}(2)، وقد آزروا أهل الشرك في غزوة الأحزاب ضد الإيمان، ونقضوا عهودهم مع المؤمنين.

    5 ـ تسجيل القرآن لأحوال اليهود النفسية

    ... وضح الله عز وجل ما في قلوب يهود من حسد يأكلهم بسبب ما أنزل الله من خير على عباده. قال تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب

    __________

    (1) سورة المائدة، الآية 82.

    (2) سورة النساء، الآية 51.

    (1/11533)

    ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}(1). وفي سورة أخرى يكشف المكر الذي يملأ قلوب بعض أهل الكتاب، ويدفعهم إلى الحيلة من أجل ردة المؤمنين، قال تعالى: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}(2)، وقال أيضاً: {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون}(3). وهكذا نجد أن القرآن عني أدق

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 105.

    (2) سورة آل عمران، الآيتان 72 ـ 73.

    (3) سورة آل عمران، الآية 69.

    (1/11534)

    عناية ليس بتسطير فكر اليهود فقط، وإنما برسم هواجسهم وحركاتهم في صور معبرة أيضاً.

    ...

    6 ـ تسجيل القرآن لأهم الأحداث مع اليهود

    ... سجل القرآن معظم الأحداث التي جرت في عهد النبي عليه السلام، والصراع الذي دار بين الشرك والإيمان. فمن ذلك الحروب والوقائع، مثل: وقعة بني النضير في قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}(1)، ووقعة الخندق وبني قريظة في قوله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا}(2)

    __________

    (1) سورة الحشر، الآية 2.

    (2) سورة الأحزاب، الآية 10.

    (1/11535)

    الآية. فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان(1)، وغير ذلك.

    7 ـ دعوتهم للإيمان عبر الخطاب بـ: »يا بني إسرائيل«

    ... تعرض السهيلي للنداء بلفظ »يا بني إسرائيل« في بعض المواضع من القرآن، وما في هذا التعبير من قيمة تربوية راشدة، تبعث على الإيمان، وتدعو إلى الهدى؛ وتركه في مواضع أخرى، حيث يقتضي الحال استعمال صيغة أخرى تظهر كرم المنعم وفضله، موضحاً السبب في إيثار صيغة ما في موضع، وتركها في آخر، من بلاغة قرآنية تدل على إعجاز

    __________

    (1) ابن هشام، مصدر سابق، ج 3، ص. 272.

    (1/11536)

    الكتاب الحكيم، فقال:

    ... [بنو إسرائبيل]: إسرائيل هم بنو يعقوب، وكان يسمى إسرائيل: أي سري الله، لكن لم يذكروا في القراءة إلا إذا أضيفوا إلى إسرائيل، ولم يسموا فيه: بنو يعقوب. ومتى ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب لم يسم إسرائيل، وذلك لحكمة فرقانية، وهو أن القوم لما خوطبوا بعبادة الله، وذكروا بدين أسلافهم موعظة لهم، وتنبيهاً من غفلتهم، سموا بالاسم الذي فيه تذكرة بالله، فإن إسرائيل اسم مضاف إلى الله تعالى في التأويل، ألا ترى كيف نبه على هذا المعنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حين دعا إلى الإسلام قوماً

    (1/11537)

    يقال لهم بنو عبد الله، فقال لهم: »يا بني عبد الله! إن الله قد أحسن اسم أبيكم« (1)، ويحرضهم بذلك على ما يقتضيه اسمهم من العبودية لله. فكذلك قوله يا بني إسرائيل، إنما ورد في معرض التذكرة لهم بدين أبيهم، وعبوديته لله، فكان ذكرهم بهذا الاسم أليق بمقام التذكرة والتحريض من أن يقول لهم: يا بني يعقوب. ولما ذكر موهبته لإبراهيم وتبشيره بإسحاق، ثم يعقوب، كان لفظ يعقوب أولى بذلك المقام، لأنها موهبة بعقب أخرى، وبشرى عقب بها بشرى، وإن كان اسم يعقوب عبرانياً، ولكن لفظه موافق للعربي في العقب

    __________

    (1) لم أجده.

    (1/11538)

    والتعقيب، فانظر مشاكلة الاسمين للمقامين، فإنه من باب النظر في إعجاز القرآن، وبلاغة ألفاظه، وتنزيل الكلام في منازله اللائقة به (1).

    8 ـ حلل القرآن أسباب كفرهم وجحودهم بالرسالة المحمدية، ومبعثه دوافع كثيرة، منها:

    ... ( البواعث النفسية: وهي كثيرة مثل الحسد. قال تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}(2)،

    __________

    (1) السهيلي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، ج 2، ص. 294.

    (2) سورة البقرة، الآية 105.

    (1/11539)

    {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم، وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مُسْمَع وراعنا لَيّاً بألسنتهم وطعناً في الدين}(1). ...

    ... ( البواعث العقلية: وهي تتعلق بضيق التفكير بسبب التمسك بالعادات والتقاليد، أو بسبب ضعف البواعث العلمية وانتشار الجهل والضلال، قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآيات 44 ـ 46.

    (1/11540)

    لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم قوم تجهلون}(1). فبنو إسرائيل سرعان ما نسوا الله الذي قهر عدوهم فرعون، ومالوا إلى عبادة الأوثان. وهذا منتهى البلادة والغباء، ولذلك قال اللهم عنهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً}(2).

    ... ( البواعث الاقتصادية: وسببها الحرص على المصلحة الشخصيّة التي قد تقتضي الاكتناز والبخل معاً، قال تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب

    __________

    (1) سورة الأعراف، الآية 138.

    (2) سورة الجمعة، الآية 5.

    (1/11541)

    أليم}(1)، وقال أيضاً: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}(2). وقد كان اليهود أحرص الناس على جمع المال وابتزاز الناس به في القديم والحديث على حد سواء. وحين اتخذوا العجل ليعبدوه، صنعوه من ذهب !

    ...

    9 ـ إنصاف القرآن لليهود

    ... ليس لمسلم أن يظلم معاهداً أو غيره. وإذا وقع شيء من ذلك، فلابد للعدالة من أن تأخذ مجراها؛ وإذا التبس الأمر على الحاكم في الأرض، فإن يد السماء سرعان ما تتدخل لمصلحة المظلوم ضد الظالم. وقد أنزل الله

    __________

    (1) سورة التوبة، الآية 34.

    (2) سورة آل عمران، الآية 181.

    (1/11542)

    عز وجل عدداً من الآيات في تبرئة يهودي اتهمه أحد الأنصار بالسرقة ظلماً وعدواناً، وهذه الأبيات هي من قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} إلى قوله: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. ولولا فضل الله عليك ورحمته، لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء، وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}(1).

    __________

    (1) سورة النساء، الآيات 106 ـ 113.

    (1/11543)

    والقصة باختصار أن نفراً من الأنصار: قتادة بن النعمان وعمه رفاعة غزيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم: رفاعة، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله، فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى السابق ذلك، عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى رسول الله فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع

    (1/11544)

    فلان، وقد أحطنا بذلك علماً، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه؛ فإنه إن لم يعصمه الله بك، يهلك. ولما عرف رسول الله أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره عل رؤوس الناس. وكان أهله قد قالوا للنبي قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله فكلمته. فقال: عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟ قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض

    (1/11545)

    مالي ولم أكلم رسول الله في ذلك. فأتاني عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله. فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزلت: {إنا أنزلنا إليك} الآيات.

    ويقول سيد قطب في التعقيب على هذه القصة:

    ... في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة، كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول الله وعلى الجماعة الإسلامية لتتصف رجلاً يهودياً، اتهم ظلماً بسرقة، ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم أهل بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذ هم عدة الرسول وجنده في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله

    (1/11546)

    ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة… إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام، وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً في ميزان الله، إنما كانت أكبر من ذلك. كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيّاً كانت الملابسات والأحوال(1).

    ... هذه شريعة الله التي لا تحابي أحداً على حساب الآخر. وأما شرائع الأرض اليوم التي تلبس مسوح الرهبان وتتستر بالعدالة وحقوق الإنسان، فهي التي تسمح

    __________

    (1) في ظلال القرآن، ج 2، صص. 751 ـ 752.

    (1/11547)

    للإنسان بممارسة التمييز ضد أخيه الإنسان، وهو الأمر الذي لم تحققه حضارة الرجل الأبيض في هذا العالم بشكل فعليّ حتى اليوم.

    المبحث الثالث: أهم أحداث الصراع بين الإسلام واليهودية في العهد النبوي

    ... دار صراع طويل بين الدعوة الإسلامية وأعدائها، ابتدأ بالفكر والبيان، وانتهى بالسيف والسنان. وقد دون التاريخ لب هذا الصراع كما سنجد في هذا المبحث.

    أولاً: وثيقة الموادعة أساس للتعايش السلمي

    ... كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً بالتعايش السلمي مع أهل الكتاب ممن لم يؤمن برسالته. وفي هذا الإطار، تمت

    (1/11548)

    الموادعة بينهم وبين المسلمين. قال ابن إسحاق: »وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم«(1). ومما جاء في الموادعة:

    ... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلاَّ نفسه… إن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد

    __________

    (1) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 2، ص. 240.

    (1/11549)

    إلا بإذن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة(1).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 242.

    (1/11550)

    ... وهذه الموادعة تعتبر وثيقة تاريخية تبين قواعد المجتمع المدني الذي حدده الإسلام. فهو مجتمع يقوم على التكافل والتعاون ووحدة المصير لأبنائه أيّاً كان دينهم؛ كما أنه يقوم على الحرية الدينية والفكرية وقبول الآخر، وهو أرقى بكثير مما يسمى بالديمقراطية اليوم، وذلك لأن الديمقراطية تلزم جميع أبناء المجتمع بقوانين واحدة في الحوافز والعقوبات، مما يعني أن قرار الأكثرية يتحكم بالأقلية دائماً، بينما سمح الإسلام للأقلية بأن تمارس تطبيق دينها أو شريعتها كما تريد. فلم يتدخل لفرض قوانين العقوبات الإسلامية أو

    (1/11551)

    غيرها على غير المسلمين، لأنهم يطبقون ما لديهم من شرائع، وبهذا يكون الإسلام أول من أنشأ وحدة اجتماعية حقيقية لمجتمع متعدد الأعراق والأديان ضمن مجتمع مدني متطور. وبهذا أصبح الإسلام هو أول من اعترف بإعطاء حق الحكم الذاتي للأقليات، وهو حق تشرئب إليه أعناق كثير من الأقليات في مطلع الألفية الثالثة للميلاد دون أن تحلم بوجوده في الواقع الذي تتردد فيه شعارات الحرية والعدالة والمساواة كل يوم ملء السمع والبصر.

    ثانياً: احترام حقوق الإنسان

    (1/11552)

    ... وفي إطار هذا التعايش، كان هنالك احترام كامل للإنسان حيّاً كان أو ميّتاً بغض النظر عن دينه. روى جابر قال: »مرت جنازة، فقام لها رسول - صلى الله عليه وسلم -، وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله إنها يهودية. فقال: "إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا"«(1). ومثل هذه المعاملة الحسنة تستوجب إشادة غوستاف لوبون بسماحة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الآخرين، حيث قال:

    __________

    (1) متفق عليه. (انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 1، ص. 521).

    (1/11553)

    ... إن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وإنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله، كاليهودية والنصرانية على الخصوص. وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته. وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون، أو المؤمنون القليلون من الذين أنعموا النظر في تاريخ العرب«(1).

    ثالثاً: موقف النبي عليه السلام من اليهود

    ... ذكرنا أنه منذ هجرة النبي عليه السلام إلى المدينة، كتب بينه وبين اليهود موادعة تحدد العلاقة بين

    __________

    (1) حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ص. 128.

    (1/11554)

    الطرفين في إطار المجتمع المدني، وكان النبي عليه السلام يرغب بإيمان اليهود ونصرتهم له، لأنه يستشرف بما علمه الله تعالى أن المستقبل لهذا الدين، وأن اليهود سيفقدون مبررات وجودهم في المدينة وجزيرة العرب، بما سيرتكبونه من خيانات وجرائم تودي بهم. ولذلك دعاهم إلى الإيمان حفاظاً عليهم وعلى مصالحهم. عن أبي هريرة قال:

    ... بينما نحن في المسجد، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: »انطلقوا إلى يهود«. فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي ، فقال: »يا معشر يهود، أسلموا تسلموا، اعلموا أن الأرض لله

    (1/11555)

    ورسوله، وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه«(1).

    ... ولتوثيق العلاقة معهم، كان يقيم معهم علاقات إنسانية من تبادل اقتصادي ونحوه. عن عائشة قالت: اشترى رسول الله طعاماً من يهودي، ورهنه درعاً له من حديد(2)؛ كما أنه سمح لأتباعه بالرواية عن علماء بني إسرائيل. ففي الحديث: {بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}(3)

    __________

    (1) متفق عليه. (انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 2، ص. 1186).

    (2) المرجع نفسه، ج 2، ص. 873.

    (3) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. (المصدر نفسه، ج 1، ص. 70).

    (1/11556)

    . وكان يتناول طعامهم ويتقبل هداياهم كما سيأتي.

    رابعاً: محاولات اليهود قتل النبي عليه السلام

    ... حاول اليهود قتل النبي عليه السلام بطرح صخرة عليه، حيث:

    ... خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في دية العامريين اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري. فلما خلا بعضهم ببعض قالوا: لن تجدوا محمداً أقرب من الآن. فمن رجل يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب أنا. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر، فانصرف عنهم، فأنزل الله تعالى فيه هو وقومه: {يا أيها الذين آمنوا

    (1/11557)

    اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}(1) (2).

    ... وبالرغم من كيدهم، فقد كان النبي عليه السلام يقبل هداياهم، ويأكل طعامهم. صنعوا له يوم خيبر طعاماً، ودسوا له السم فيه، فاكتشف أمرهم ولم يعاقبهم. روى أبو هريرة، قال:

    ... لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله شاة، فيها سم، فقال رسول الله: »اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود«. فجمعوا له، فقال لهم رسول

    __________

    (1) سورة المائدة، الآية 11.

    (2) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 2، ص. 279.

    (1/11558)

    الله - صلى الله عليه وسلم -: »إني سائلكم عن شيء فهل أنتم مصدقيّ عنه؟ «.قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »من أبوكم؟ «. قالوا: »فلان«. قال: »كذبتم، بل أبوكم فلان«. قالوا: »صدقت وبررت«. قال: »فهل أنتم مصدقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ « قالوا: » نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا«، فقال لهم: »من

    أهل النار؟ «. قالوا: »نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها«، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »اخسأوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً«. ثم قال: »هل أنتم

    (1/11559)

    مصدقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ « قالوا: »نعم يا أبا القاسم«. قال: »هل جعلتم في هذه الشاة سمّاً؟«. قالوا: »نعم«. قال: »فما حملكم على ذلك؟ «. قالوا: »أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك« (1).

    ... وتكررت المحاولة مرة أخرى لقتله عليه السلام بواسطة السم. وقدمت يهودية شاة مسمومة إلى النبي يوم خيبر. فلما سألها عن سبب ذلك، قالت: »إن كنت نبياً لم يضرك، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه«. فعفا

    __________

    (1) رواه البخاري عن أبي هريرة. (التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 3، صص. 1669 ـ 1670).

    (1/11560)

    عنها رسول الله ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذي أكلوا من الشاة(1).

    ... وقد سرى السم في جسده الشريف، وبقي أثره حتى وفاته عليه الصلاة والسلام. فكان في سلك الشهداء، وجمع الله له أجر النبوة والشهادة معاً.

    ... قال الأزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، صص. 1667 ـ 1668، الحديث رقم 5931. وقد رواه أبو داود والدارمي. قال الألباني: »وهو حديث صحيح«.

    (1/11561)

    توفي فيه. فقال: [ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عداداً، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري]. وتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - شهيداً (1).

    ... ونقل ابن إسحاق عن مروان بن عثان بن أبي سعيد بن المعلى قوله في التعقيب على محاولة المرأة اليهودية سم النبي عليه السلام يوم خيبر: »فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيداً، مع ما أكرمه الله من النبوة«(2)

    __________

    (1) ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج 4، ص. 210.

    (2) ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 4، ص. 44.

    (1/11562)

    .

    ... وبالرغم من محاولتهم قتله عليه السلام، فقد تزوج ابنة أحد زعمائهم، وهي صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها.

    ... وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تمنين

    ملك الحجاز محمداً. فلطم وجهها لطمة خضر عينيها منها. فأتى بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وبها أثر منه، فسألها ما هو؟ فأخبرته الخبر (1).

    ...

    خامساً: موقف اليهود من الدعوة

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 4، ص. 43.

    (1/11563)

    ... سجلت صفحات التاريخ موقفاً سلبياً لليهود من دعوة النبي عليه السلام، ابتدأ من إنكار الدعوة، وتكذيب صاحبها وانتهى بالتآمر عليها وحمل السلام في وجهها. قال تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}(1). والآية نزلت في اليهود، الذين »كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 89.

    (1/11564)

    فيه«(1).

    ... وقد شكل يهود من المنافقين من الأوس والخزرج حلفاً، وكان أخبار يهود هم الذين يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتعنتونه، ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل(2).

    ... وقد ذكرت كتب السيرة كثيراً من مواقفهم المشينة تجاه الدعوة(3)، نكتفي من ذلك بموقفين:

    ... الموقف الأول: دخول أبي بكر بيت المدراس، حيث دخل

    __________

    (1) الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 88.

    (2) انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 2، ص. 255.

    (3) انظر على سبيل المثال ما ورد في: المصدر نفسه، ج 2، صص. 258 ــ 284.

    (1/11565)

    ... فوجد منهم ناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً لرسول الله قدجاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في "التوراة" و"الإنجيل". فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن

    (1/11566)

    الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا. قال: فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم، لضربت رأسك يا عدو الله. قال فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد! انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء. فلما قال ذلك، غضبت لله مما قال، وضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما

    (1/11567)

    قلت ذلك؟ فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه(1): {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} (2).

    ... الموقف الثاني: تهجمهم على ذات الله عز وجلّ. فقد روى سعيد بن جبير أنه:

    ... أتى رهط من يهود إلى رسول الله، فقالوا: يا محمد! هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ قال: فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حتى انتقع

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 2، صص. 277 ـ 278؛ والصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 342.

    (2) سورة آل عمران، الآية 181.

    (1/11568)

    لونه، ثم ساورهم غضباً لربه، قال: فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه، فقال: خفض عليك يا محمد، وجاء من الله بجواب ما سألوه عنه: {قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد}(1). قال: فلما تلاها عليهم، قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟ فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أشد من غضبه الأول، وساورهم، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له مثل ما قال له أول مرة، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه، يقول الله تعالى: {وما قدَروا الله حق قدره والأرضُ

    __________

    (1) سورة الإخلاص.

    (1/11569)

    جميعاً قَبْضَتُهُ يوم القيامة والسماواتُ مطويَّاتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}(1) (2).

    سادساً: المواجهات العسكرية بين اليهود والمسلمين

    ... لم يكن خلاف يهود مع النبي - صلى الله عليه وسلم -مجرد خلاف عقدي، بل امتد ليشمل العدوان عليه شخصياً كما تقدم، والعدوان على الإسلام ودولته بالمدينة أيضاً، مما تسبب بإجلائهم عنها. فيهود بني قينقاع قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: »لو حاربتنا، لعلمت أنا نحن الناس«(3)

    __________

    (1) سورة الزُّمر، الآية 67.

    (2) ابن هشام، مصدر سابق، ج 2، ص. 284.

    (3) السهيلي، الروض الأنف، مصدر سابق، ج 2، ص. 296.

    (1/11570)

    . وكان من أمرهم:

    ... أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما أن قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت يهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود. فغضب المسلمون، ووقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (1).

    وكان إجلاؤهم في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر، وقبل أحد.

    __________

    (1) ابن هشام، مصدر سابق، ج 3، ص. 137.

    (1/11571)

    ... وأما بنو النضير، فقد أتاهم رسول الله في دية القتيلين من بني عامر، اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول - صلى الله عليه وسلم -، عقد لهما. فلما جاءهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجدوها فرصة لكي يطرحوا عليه صخرة ويتخلصوا منه، وانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء، فقام وخرج. ثم »قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً للمدينة، فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوْا إليه، فأخبرهم

    (1/11572)

    الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم« (1). وكان إجلاؤهم سنة أربع هجرية.

    ... ويهود بني قريظة كان لهم دور بارز في تحزيب الأحزاب على النبي- صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق(2). فلما أتوا على قريش:

    ... قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول، فسلوهم: دينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج 3، ص. 240.

    (2) انظر تفاصيل ذلك عند ابن هشام، المصدر نفسه، ج 3، ص. 258.

    (1/11573)

    وممن اتبعه، فأنزل الله فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}(1) (2).

    وقد نقضوا عهدهم مع النبي عند حصار الأحزاب له. ولما أن انجلى الكرب، وفرت الأحزاب، وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلاحه، فجاءه جبريل عليه السلام بسلاحه، فقال: »أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح

    __________

    (1) سورة النساء، الآية 151.

    (2) ابن هشام، مصدر سابق، ج 2، ص. 279؛ الصابوني، مصدر سابق، ج 1، ص. 403.

    (1/11574)

    بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد المسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، فمزلزل بهم«(1). وبعد حصارهم خمساً وعشرين ليلة، نزلوا على حكم النبي ، فحكم فيهم رجلاً من الأوس وهو سعد بن معاذ وكانوا مواليه، فقال: »فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء«(2). وكانت غزوة بني قريظة سنة خمس هجرية.

    __________

    (1) ابن هشام، المصدر السابق، ج 3، ص. 267.

    (2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 269.

    (1/11575)

    ... وأما يهود خيبر، فقد غزاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المحرم من سنة سبع للهجرة، وسبب الغزوة أنهم هم الذين:

    ... أثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي، وبغطفان، وأعراب البادية الجناح الثالث من الأحزاب. وكانوا هم أنفسهم يهيئون للقتال. فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متوالية، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي

    (1/11576)

    الحقيق، وأسير بن زارم. ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب، لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم، وهي قريش، كانت مجابهة للمسلمين. فلما انتهت هذه المجابهة، صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم سوء الحساب (1).

    ... وحصلت مواجهات أخرى مع مجموعات أخرى من اليهود بعد غزوة خيبر، مثل يهود فدك، ووادي القرى، وتيماء. وعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وكان من وصاياه قبل

    __________

    (1) المباركفوري، الرحيق المختوم، ص. 408.

    (1/11577)

    موته إخراج اليهود من جزيرة العرب(1).

    ... ومن استقراء واقع المدينة بعد الهجرة النبوية، نجد أن النبي عليه السلام كان حريصاً على أن يسود السلام والأمن في ربوع المدينة لكل سكانها، بمن فيهم اليهود. وكان حريصاً أيضاً على إقامة النظام الذي يكفل الأسس المنطقية للتعامل بين الجميع وفق مقتضيات العدل والمساواة. وكان يود لو أن اليهود كانوا في طليعة المؤمنين به؛ ولذلك لم يتوان عن دعوتهم إلى الهدى، ولم يكن

    __________

    (1) انظر »باب إخراج اليهود من جزيرة العرب«، عند: التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 2، ص.6 118.

    (1/11578)

    يريد لهم إلا الخير. بيد أنهم ظلموا أنفسهم، وأعلنوا رفضهم للدعوة. وهذا من حقهم وفق التصور الإسلامي لقضية حرية الأديان. لكنهم تجاوزوا ذلك إلى التآمر والدسائس وتحريض المشركين على المسلمين، ونكث العهود، وإعلان الحرب على الدعوة. فكان لابد من التصدي لهم بقوة. وقديماً قال الشاعر:

    إذا لم يكن غير الأسنة مركباً

    فما حيلة المضطر إلاَّ ركوبها

    ... وبعد هذه المواجهات مع اليهود في العهد النبوي، عادت الأمور إلى نصابها في ما تلاه من عهود، وعومل اليهود أحسن معاملة، وذلك لأن:

    (1/11579)

    ... معاملة اليهود في ظل الحكم الإسلامي عبر التاريخ لم تكن وليدة الصدفة، ولا مجرد كرم أخلاقي من الحكام المسلمين، وإنما كان بسبب العقيدة الإسلامية التي تلزم أصحابها حكاماً ومحكومين بحماية أصحاب الديانات الأخرى، ومعاملتهم كمواطنين لهم حقوقهم التي لا يجوز المساس بها، ولهم احترامهم كأصحاب ديانات سماوية، يعترف بها الإسلام، ويعترف برسلهم (1).

    __________

    (1) رفيق شاكر النتشة، السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، ص. 17.

    (1/11580)

    ... وقد استغل اليهود هذه المعاملة الحسنة، فتظاهر بعضهم بالإسلام مثل اليهودي اليمني عبد الله بن سبإٍ، وقادوا الفتن والمؤامرات داخل المجتمع الإسلامي. وكان من تأثير فتنهم مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما. كما حاولوا تشويه العقيدة الإسلامية بما نشروه من سموم وأفكار هدامة، لا تتفق والعقيدة الإسلامية(1). ومع هذا، فقد بقوا آمنين سالمين لم يعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.

    __________

    (1) انظر: عبد الله التل، جذور البلاء، ص. 163 وما بعدها.

    (1/11581)

    المبحث الرابع: التعايش بين الإسلام واليهودية في العهود الإسلامية

    أولاً: العهد للأقليات في المجتمعات الإسلامية

    ... الذمة: معناها العهد. وهو لفظ قد يطلق على كل من له عهد. يذكر ابن كثير أنه »في سنة إحدى عشر، أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وإن أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب« (1). فالمؤمن له ذمة عند الله، وأهل الكتاب لهم ذمة الله عند المسلمين. وليس في هذا المصطلح ما يشين اليهود أو غيرهم، لأن مصطلح المواطن لم يكن

    __________

    (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص. 286.

    (1/11582)

    شائعاً في تلك الأيام، وإنما الشائع أن يطلق لفظ مسلم أو ذمي على المواطنين في الدولة الإسلامية. يقول آدم متز:

    ... إن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على عهد المسيحية في العصور الوسطى، وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين، وأولئك هم أهل الذمة، الذين كان وجودهم من أول الأمر حائلاً بين شعوب الإسلام وبين تكوين وحدة سياسية، وقد ظلت كنائس اليهود والنصارى وأديرتهم أجزاء غريبة. واستند أهل الذمة إلى ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود، وما منحوه من حقوق، فلم

    (1/11583)

    يرضوا بالاندماج في المسلمين. وقد كان حرص اليهود والنصارى على أن تظل دار الإسلام دائماً غير تامة التكوين (1).

    ثانياً: الاستقلال الكامل لأهل الذمة

    ... وكان لليهود والنصارى استقلالهم الخاص بهم. يقول آدم متز: »ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى والمحاكم الخاصة بهم«(2). وقد فتحت أمامهم أبواب الدولة والمناصب الرسمية

    __________

    (1) آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ج 1، ص. 55.

    (2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 75.

    (1/11584)

    والشعبية. يقول آدم متز: »ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة، أي باب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخاً في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجاراً، وأصحاب ضياع وأطباء«(1).

    ثالثاً: وضع اليهود في العصر الأموي

    ... وفي العصر الأموي، تمتع اليهود بالحرية الكاملة مع بقية أهل الذمة. يقول فيليب حتي:

    ... وقد تمتع أهل الذمة في هذه الوضعيّة بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج، وارتبطت بالفعل قضاياهم في الأمور المدنية والجنائية والقضائية

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 68.

    (1/11585)

    برؤسائهم الروحانيين، إلا إذا كانت القضية تمس المسلمين. أما الشريعة الإسلامية، فلم تطبق عليهم، لأنها لم توضع لهم. ولقد بقيت بعض أقسام هذا النظام الخاص تسري على أهل الذمة حتى آخر العهد العثماني، ومنها ما ظل مرعياً في عهد السلطات المنتدبة في العراق وسورية ولبنان وفلسطين(1).

    رابعاً: وضع اليهود في العصر العباسي

    ... وكذلك الأمر في العصر العباسي، فقد:

    __________

    (1) تاريخ العرب، دار غندور، بيروت، ط 7، 1986 م، ص. 297.

    (1/11586)

    ... لقي اليهود من محاسنة المسلمين فوق ما لقيه النصارى برغم ما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب أنهم كانوا قليلي العدد، فلم يخش أذاهم. وقد وجد المقدسي سنة 985 أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى. ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد [892 ـ 902 هـ] أنه كان لليهود مراكز هامة في الدولة(1).

    ... وعلى العموم، »كان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود جهابذتهم عنده« (2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 426.

    (2) آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبي ريدة، ط 3، 1377 هـ/ 1957 م، ج 1، ص. 75.

    (1/11587)

    . وقد بلغت مكانة أهل الكتاب إلى حد الذروة في ظل الدولة الإسلامية. يقول الدكتور فيليب حتي:

    ... إن النصارى واليهود كثيراً ما تقلدوا مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة حسدهم عليها بعض المسلمين من العامة، بحيث ظهرت نتائج ذلك التنافس في استنان شرائع جديدة لإيقاف أهل الذمة عند حدودهم. غير أن أكثر هذا التشريع الجديد ظل حبراً على ورق، ولم ينفذ دائماً (1).

    __________

    (1) تاريخ العرب، مصدر سابق، ص. 422.

    (1/11588)

    ... وعاش اليهود إلى جانب المسلمين في أحياء واحدة، فلا عزلة ولا حصار: »ولم يكن في المدن الإسلامية أحياء مختصة لليهود والنصارى، بحيث لا يتعدونها، وإن آثر أهل كل دين أن يعيشوا متقاربين، وكانت الأديرة المسيحية منتشرة في كل أجزاء بغداد، حتى كادت لا تخلو منها ناحية«(1).

    ... وفي مصر كانت هنالك حرية كاملة لليهود، »وقد ولي الوزارة بالقاهرة منذ عام 436 إلى 439 هـ/ 1044 إلى 1047 م أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، وكان يهودياً فأسلم، وكان يدير الدولة معه أبو سعد التستري

    __________

    (1) آدم متز، مرجع سابق، ج 1، ص. 75.

    (1/11589)

    اليهودي«. ولذلك قال الشاعر المصري:

    يهود هذا الزمان قد بلغوا

    العز فيهم والمال عندهم

    يا أهل مصر إني نصحت لكم

    غاية آمالهم وقد ملكوا

    ومنهم المستشار والملك

    تهودوا فقد تهود الفلك (1)

    خامساً: وضع اليهود في الأندلس

    ... وأما اليهود في الأندلس، فكان حالهم أفضل من إخوانهم في أوروبا كلها. ولذلك كانت الأندلس محطتهم ومركزهم في القارة الأوروبية تحت لواء الإسلام الذي أمن لهم الرعاية والحماية. يقول غوستاف لوبون:

    __________

    (1) المرجع نفسه، ج 1، ص. 100.

    (1/11590)

    ... وأسلم كثير من النصارى، ولكنهم لم يسلموا طمعاً في كبير شيء، وهم الذين استعربوا، فغدوا هم واليهود مساوين للمسلمين، قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة، وكانت إسبانية العربية بلد أوروبا الوحيد الذي تمتع اليهود فيه بحماية الدولة ورعايتها، فصار عددهم فيه كثيراً جداً (1).

    سادساً: الموازنة بين وضع اليهود في أوروبا ووضعهم في البلاد الإسلامية

    ... إن الحرية التي تمتع بها اليهود في ظل الإسلام لا تستوي وما لاقوه في أصقاع أوروبا من أذى وتشريد عبر التاريخ

    __________

    (1) حضارة العرب، مرجع سابق، ص. 77.

    (1/11591)

    ... ولقد شهد اليهود مذابح واضطهادات في معظم البلاد الأوروبية، إن لم يكن جميعها شرقيها وغربيها. منها بريطانيا، طردتهم في أول القرن السادس الميلادي، ومنعت دخولهم إليها مدة ثلاثة قرون؛ وفرنسا اضطرت في عهد لويس التاسع عشر إلى طردهم وحرق تلمودهم؛ وإسبانيا طردتهم وحرمتهم من الدخول إلى بلادها؛ وفي سنة 1492 م أصدر الملك فرديناند والملكة إيزابيلا مرسوماً بطردهم ومعهم أبناؤهم وبناتهم وخدامهم وخادماتهم، وأقرباؤهم صغيراً وكبيراً؛ والبرتغال فعلت كذلك لأسباب مختلفة؛ أما روسيا القيصرية التي حاولوا فيها قتل

    (1/11592)

    القيصر، فقد قامت ضدهم بعدة مذابح في أوقات متفرقة من التاريخ؛ وألمانيا، فكلنا يعرف موقف السلطات الألمانية النازية والمذابح التي وقعت عليهم من النازيين (1).

    ... وإذا كانت أوروبا قد اضطهدت اليهود، فقد وفر لهم الإسلام الملاذ الأمن في ربوع بلاده، مما أسهم بالحفاظ على الجنس اليهودي من الإبادة، وسمح لهم بتطوير مقدراتهم الاقتصادية والفنية والعلمية عبر التاريخ. وعن هذا الأمر يقول الأستاذ رفيق النتشة:

    __________

    (1) رفيق شاكر النتشة، مرجع سابق، صص. 15 ـ 16.

    (1/11593)

    ... وفي حين كانت أوروبا الغربية المسيحية تضطهد اليهود باسم الدين، وتذيقهم ألوان العذاب في العصور الوسطى، وتضطرهم إلى النزوح إلى شرقي أوروبا وغربيها، كانت الدولة العربية توليهم أسمى المناصب، وتعترف لهم بحق المساواة المطلقة، فيتجرون، ويثرون، ويبلغون شأواً في السياسة والإدارة والاقتصاد لم يكن له مثيلٌ (1).

    سابعاً: اليهود في الدولة العثمانية

    ... كان العهد العثماني في سياسته نحو اليهود امتداداً لما سبقه من عهود إسلامية.

    __________

    (1) المرجع نفسه، ص. 21.

    (1/11594)

    ... وبعد خضوع فلسطين للحكم العثماني في أوائل القرن السادس عشر، بدأ يهود أوروبا يهاجرون إليها، وأقاموا في الأماكن المقدسة، القدس وطبريا وصفد والخليل. وفي منتصف القرن الثامن عشر، هاجر عدد من يهود بولندا وروسيا إلى فلسطين، بسب اضطهادهم هناك، واستقر معظمهم في صفد وطبريا، حيث لاقوا تحت حكم ضاهر العمر الحماية والأمن، كما لاقوا من مختلف السلاطين العثمانيين المعاملة الحسنة. وتعتبر الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التي لم يحصل فيها اضطهاد (1).

    __________

    (1) المرجع نفسه، صص. 26 ـ 27.

    (1/11595)

    ... وقد حاولت الدولة العثمانية أن تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين:

    ... وظلت العواصم الأوروبية المتعاطفة مع اليهود تضغط على الباب العالي ضغطاً لا هوادة فيه، للتخفيف من ذلك الشرط الزمني لإقامة اليهود في فلسطين، ورأى الباب العالي في سنة 1887 م إطالة المدة المسموح بها للحجاج اليهود إلى ثلاثة شهور بدلاً من شهر واحد (1).

    ثامناً: اليهود يقضون على الخلافة الإسلامية

    __________

    (1) عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ج 2، ص. 977.

    (1/11596)

    ... في 18 أيار (مايو) 1901 م، قال هرتزل للسلطان ـ وكان قد اصطحب معه حاخاماً تركيّاً [موسى ليفي]، وعرض على السلطان تصفية الديون العثمانية، وإصلاح الاقتصاد المتدهور، ووقف حملات صحف "تركيا الفتاة" في أوروبا، وذلك مقابل إيجاد ملجأٍ لليهود في الأراضي المقدسة: فلسطين(1).

    ... فغضب السلطان، وكان مما قاله: »إننا لن نفرط بشبر من بلادنا دون أن نبذل أكثر مما بذلناه من دماء في سبيلها«(2).

    __________

    (1) رفيق شاكر النتشة، مرجع سابق، ص. 9.

    (2) المرجع نفسه، صص. 9 ـ 10.

    (1/11597)

    ... وعرض عليه رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم »جون ترك« مبلغ 150 مليون ليرة إنكَليزية ذهباً، لكي يصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، فكان جوابه:

    ... إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهباً فضلاً عن مائة وخمسين مليون ليرة إنكَليزية ذهباً، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، ولذلك لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي أيضاً (1).

    __________

    (1) المرجع نفسه، ص. 160.

    (1/11598)

    ... وبعد هذا الجواب، خلعوه من الخلافة. وقد تم إلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 م على يد مصطفى كمال الذي »كان ينتمي إلى يهود الدونمة في سالونيك؛ كما أن الجمعية التي أسسها قبل الحرب العالمية الأولى سنة 1907 م وهي جمعية "الوطن" في دمشق، كانت جمعية ماسونية«(1).

    اليهود في العصر الحديث (إسرائيل فتنة كبرى)

    __________

    (1) زكريا البيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين. التحالف الصليبي الماسوني الاستعماري وضرب الاتجاه الإسلامي، ص. 283.

    (1/11599)

    ... قامت دولة ما يسمونه بإسرائيل، وهي دولة لا تمت إلى اسمها بصلة، ومعنى إسرائيل بالعبرية: عبد الله(1). وهم يقصدون من وراء هذا الاسم معنى التفوق والتفضيل على من سواهم، بأنهم شعب الله المختار، وهم الجديرون بحمل كلمته في هذا العالم، وباقي شعوب الأرض إنما هي كالدواب ليركب عليها بنو إسرائيل(2). ولتحقيق هذا المشروع، لابد من تحطيم الأديان والأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة بين الأمم، لأن الأديان جميعاً

    __________

    (1) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 2، ص. 183.

    (2) انظر: عبد الله التل، جذور البلاء، ص. 51، 79.

    (1/11600)

    تقف ضد عدوان الإنسان على أخيه الإنسان، وضد هذا المشروع الصهيوني الذي يستأثر بالله من دون بقية خلقه(1)، لأن الخلق لا يستحقون الدين حسب ما هو مذكور في "التلمود"، و"بروتوكلات حكماء صهيون" المنسوب إليهم. ولتحقيق هذا المشروع الصهيوني، يبرر اليهود كل ألوان العنف والخديعة، وكل الأساليب الماكرة والمتنافية مع الأخلاق(2)، وهم يهدفون من وراء مشروعهم إلى هدم المسجد الأقصى، وبناء ما يزعمونه هيكل

    __________

    (1) المرجع نفسه، ص. 24.

    (2) ... الفصل السادس »طرق تدمير المجتمعات غير اليهودية«، المرجع نفسه، ص. 172 وما بعدها.

    (1/11601)

    سليمان، ليحكموا العالم من ذلك الموقع. وليس ما يسمى بالعولمة والنظام العالمي الجديد إلا مشاريع أمريكية ظاهراً، ويهودية حقيقة. والهدف من ورائها أن يلعبوا بالعالم كما يريدون، لأن التاريخ بلغ نهايته عندهم كما زعموا، وقد وجدها الغرب فرصة ليتخلص من أذى اليهود، فدفع بأفواجهم إلى فلسطين المحتلة.

    ... قاوم العرب المشروع الصهيوني على مدى نصف قرن، وقد تخلل المقاومة ثغرات كثيرة من تمزق كلمتهم، وتفرق صفوفهم، وخلل ميزان القوى، وتخاذل بعضهم، فاستبدلوا بالمقاومة السلام والهرولة للتطبيع.

    (1/11602)

    ... والسلام هدف استراتيجي للأديان جميعاً، ولكنه لن يكون إلا بإعادة الحقوق والنية الحسنة بين الطرفين، وهو ما لا تفعله القيادة الإسرائلية. فأيّ نية حسنة لقتلة الأطفال من أمثال محمد الدرة وإخوانه في انتفاضة الأقصى الثانية؟ وأي حقوق تسترد وهم يريدون طمس الشخصية الإسلامية لفلسطين، وتشريد شعبها بالآفاق؟ إن الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها ليس هو بداية السلام في المنطقة، بل هو بداية الحرب. فهذا السرطان إذا استشرى في المنطقة وتمكن منها، فإنه سيزرع الفتن والحروب بين العرب والمسلمين أنفسهم، ليكون هو

    (1/11603)

    المسيطر على الجميع، تماماً كما كان يهود المدينة يشعلون نار الحرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، ويوردون السلاح للطرفين، وإلا كيف نفسر هذا التشرذم العربي، وهذه الفرقة بين المسلمين، التي بدأت واستفحلت منذ انطلاق عملية السلام بعد حرب رمضان سنة 1973 م، حيث اشتعلت الحروب بين العرب وجيرانهم، ثم فيما بينهم. وكانت النتيجة هيمنة القوى الأجنبية على منطقة الشرق الأوسط بشكل كامل، وإذلال العرب والمسلمين.

    ... ولم يجتمع العرب إلا بعد سقوط محمد الدرة شهيداً وأمثاله من أطفال الحجارة الفلسطينية في القدس. لقد كان

    (1/11604)

    هؤلاء يرجمون الجندي الإسرائيلي، ويستنكرون التخاذل العربي والإسلامي عن أداء واجب النصرة للمسجد الأقصى، وكان حجارتهم تردد ما قاله الأبيوردي عند سقوط بيت المقدس بأيدي الصليبيين قبل تسعة قرون، فقال غاضباً(1):

    أترضى صناديد الأعارب بالأذى

    فياليتهم إذ لم يذودوا حمية

    وتغضي على الذل كماة الأعاجم

    عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

    ... إن قراءة التاريخ واجبة ليس للمتعة والتسلية، وإنما للعظة واستشراف المستقبل. ولابد للأمة التي يكون لها مستقبل من أن يكون لها عدو

    __________

    (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق، ص. 394.

    (1/11605)

    تفكر بمقاومته والتفوق عليه، وهذه سنة كونية ثابتة عبر التاريخ ومن دراسة أحوال الأمم. وحينما هوت الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية، بحث الغرب عن عدوّ جديد، فلم يجد أمامه إلا المسلمين، فبدأ قصف بلادهم، وغزوهم في عقر دارهم، وفرض الحصار عليهم دولة تلو الأخرى، تحت دعاوى أنها دول ترعى التطرف والإرهاب. وليت شعري إذا استسلم العرب لليهود، من هو العدو الجديد الذي سيبحثون عنه بديلاً لصراعهم مع إسرائيل حتى تجتمع كلمتهم، ويتوحدوا عليه؟ إنه بكل أسف غير موجود، أو قل إن شئت هو أنفسهم، فسيسفك بعضهم دم بعض، ويغزو

    (1/11606)

    بعضهم بعضاً، وتعود الحالة كما كانت في الجاهلية الأولى، وستتوجه المعارك إلى الساحة الداخلية في كل بلد، فتستعر الحروب بين السلطة المتمكنة والتي يوهمها الغرب بأنه سندها ومصدر قوتها من جهة، وبين شعبها الأعزل الذي يبحث عن لقمة العيش وأدنى معيشة من جهة أخرى، وسيكون دور اليهود تسليط القوتين على بعضهما، وقد نصوا على هذا في "بروتوكولاتـ"ـهم التي جاء فيها:

    ... لقد وسعنا الفجوة بين الحكام وشعوبهم. وبذلك أضعفنا الفريقين، ليسهل علينا السيطرة عليهما. ألبنا جميع السلطات بعضها على بعض، شجعنا تطاحن الأحزاب

    (1/11607)

    وتكالبها على السلطة، وأوهمنا العمال والكادحين بأنهم ينالون حقوقاً كاملة بدساتير وقوانين مزيفة، يتبجح بها أعواننا وعملاؤنا الذين جعلناهم رؤساء موجهين للعمال (1).

    فأبواقهم الإعلامية تحث الشعوب على الثورة من أجل الديمقراطية من جهة، ومصانعهم الحربية تقدم السلاح لتلك الدول لتقمع بها تلك الشعوب من جهة أخرى. إنها فتنة لا قرار لها، وبقاء إسرائيل رهين بإشعال هذه الفتنة. ومن هنا يمكن أن نفهم سبب الترويج للديمقراطية في هذا الوقت بالذات من تاريخ الأمة.

    __________

    (1) عبد الله التلّ، مرجع سابق، ص. 267.

    (1/11608)

    ... إن استقرار إسرائيل لن يدمر العرب وحدهم، بل سيدمر من ورائهم كل الشعوب الفقيرة والمحرومة في هذا العالم. وسيلقون بالفتات للشعوب الغربية، وسيمسكون بالثروات جميعاً. فمعبودهم هو الذهب، ويوم اتخذوا العجل وعبدوه من دون الله لم يكن عجلاً حياً على طريقة الهنود، وإنما كان عجلاً من ذهب. فما عبدوا إلا الذهب بتمثاله الحيواني الهابط، فلم يتخذوا الذهب على صورة ملائكة أو بشر، وإنما على صورة حيوان يؤدي المنافع والخدمات الشاقة لمالكه، وسيكون موقفهم عند تمكنهم من رقاب الشعوب بالسلام الذي يريدونه على طريقتهم

    (1/11609)

    تماماً كما كان موقف سلفهم فنحاص مع أبي بكر الصديق. ولن تهدأ هذه الفتنة إلا بسوط من الله، وتدخل مباشر من إرادته العلوية، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود«(1).

    الخاتمة

    __________

    (1) رواه مسلم. (انظر: التبريزي، مشكاة المصابيح، مصدر سابق، ج 3، ص. 1491).

    (1/11610)

    ... استعرضت في هذا البحث بعض عقائد اليهود ومشاعرهم النفسية، وجانباً من سلوكهم ومواقفهم التاريخية قبل الإسلام وبعده. وذكرت أن هناك بشارات في التوراة حول نبوة محمد عليه السلام؛ وبناء على هذه البشارات وتطابقها وتحققها بالنبيّ الكريم عليه السلام، أسلم بعض أحبارهم، ونكص أكثرهم حسداً واستكباراً، لأن النبي لم يكن من الجنس الإسرائيلي، وبينت أن الإسلام ليس ضد اليهودية بما هي دين، وإن كان يختلف معها. فقد عمل الرسول موادعة مع اليهود عند وصوله للمدينة. وتعتبر تلك الموادعة وثيقة للتعايش السلمي بين الطرفين

    (1/11611)

    في دولة المدينة، بيد أن اليهود نكصوا وغيروا، وحاولوا قتل النبي عليه السلام، فاستوجب ذلك تأديبهم وإبعادهم عن المدينة، والوصية بإخراجهم من جزيرة العرب.

    ... وبعد العهد النبويّ، واستقرار الإسلام، هدأت مشاعر المواجهة بين المسلمين واليهود. ولقد آوى المسلمون اليهودَ طيلة التاريخ الإسلامي، وعاملوهم معاملة مواطنين محترمين، وتبوأ اليهود مناصب عليا في الدول الإسلامية على مر عهودها، وهو أمر لم يكونوا يحلمون به في أوروبا والغرب كله عموماً، الذي كان يطاردهم بتهمة قتل المسيح عليه السلام. وهي جريمة لم تحدث،

    (1/11612)

    وقد برأهم الله منها في كتابه المنزل على محمد عليه السلام. بيد أنهم ظلوا متمسكين بنسبة هذه الجريمة إليهم، متفاخرين بقتلهم للمسيح كما يزعمون، مما يدل على غبائهم. قال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ومالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً}(1).

    __________

    (1) سورة النساء، الآيتان 156 ـ 157.

    (1/11613)

    ... وفي العصر الحديث تعاون الغرب مع اليهود على قيام ما يسمونه بإسرائيل، ولم تقم دولة إسرائيل إلا على جثة الخلافة الإسلامية في إستانبول، والتي دق مسامير نعشها يهود الدونمة. فكان جزاء الإحسان والرعاية المقدمة لهم من المسلمين عبر التاريخ الإسلامي كله هو تأليب القوى العالمية على العرب والمسلمين من أجل إبقاء إسرائيل واستمرارها، ولا بقاء لإسرائيل إلا بإبعاد العرب عن دينهم. يقول المبشر اليهودي وليم جيفورد بالكراف: »متى توارى القرآن، ومدنية مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل

    (1/11614)

    الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه«(1)، مما يستوجب على المسلمين قاطبة التصدي لهذا المشروع الذي سيفتت عضدهم ويمزق وحدتهم. فقيادة هذا العالم ينبغي أن تكون بيد المسلمين أمة الخير والسلام، وصفها الله تعالى بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(2)، وليس بيد محرفي التوراة وقتلة الأنبياء، قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون}(3).

    __________

    (1) عبد الله التلّ، مرجع سابق، ص. 201.

    (2) سورة آل عمران، الآية 110.

    (3) سورة البقرة، الآية 87.

    (1/11615)

    ... ونؤكد في خاتمة البحث أنه لا خلاف للمسلمين مع اليهودية بما هي دين له حق في الحياة، قال تعالى: {لا إكراه في الدين}(1)، والإنسان حر في ما يختار، قال تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}(2). ولا خلاف مع أتباع اليهودية من المسالمين، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(3). والإسلام يؤمن بالحوار مع جميع المذاهب والطوائف

    __________

    (1) سورة البقرة، الآية 256.

    (2) سورة الكهف، الآية 29.

    (3) سورة الممتحنة، الآية 8.

    (1/11616)

    والأديان. يؤكد ذلك دعوته أهل الكتاب إلى قواعد مشتركة من الإيمان بالله وتوحيده. قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}(1).

    ... وإنما الخلاف مع المشروع الصهيوني، ومع السلوك الصهيوني المتوحش الذي يبيح لنفسه قتل الأطفال في سن الورد، وطلعة الفجر، في عصر يقال إن فيه ميثاقاً لحقوق الإنسان وضعته هيئة الأمم المتحدة! ولقد أحسن من قال:

    __________

    (1) سورة آل عمران، الآية 64.

    (1/11617)

    يا هيئة الأمم المحير أمرها

    القتل والتشريد ملء عيوننا

    ما أعجب الإنسان يعلن مبدأ

    ماذا فعلت لأمة القرآن

    في القدس في لبنان والجولان

    حرّاً ويسكر من دم الإعلان

    ولله الأمر من قبل ومن بعد.

    المصادر والمراجع

    البيومي، زكريا، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين. التحالف الصليبي الماسوني الاستعماري وضرب الاتجاه الإسلامي، عالم المعرفة، جدة، ط 1، 1411 هـ/ 1991 م.

    ابن هشام، السيرة النبوية، ضبطه طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409 هـ/ 1989 م.

    حتي، فيليب وآخرون، تاريخ العرب، دار غندور، بيروت، ط 7، 1986 م.

    (1/11618)

    الكيرواني، رحمة الله، إظهار الحق، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.

    ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ط 2، 1411 هـ/ 1990 م.

    لوبون، غوستاف، حضارة العرب، ترجمة عادل الزعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي.

    المباركفوري، الرحيق المختوم، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، ط 1، 1400 هـ/ 1980 م.

    محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، المكتبة الإسلامية، استانبول، 1984 م.

    المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، دار المعرفة، بيروت.

    (1/11619)

    متز، آدم، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط 3، 1377 هـ/ 1957 م.

    النتشة، رفيق شاكر، السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، دار الكرمل، عمان، ط 1، 1983 م.

    السهيلي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، ضبطه طه عبد الرءوف سعد، دار الفكر، بيروت، 1409 هـ/ 1989 م.

    السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، شركة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 4، ص. 1398.

    ـ ـ ، تاريخ الخلفاء، دار الفكر، بيروت.

    (1/11620)

    الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير، دار القرآن الكريم، بيروت، ط 7، 1402 هـ/ 1981 م.

    قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط 7، 1398 هـ/ 1978 م.

    الشناوي، عبد العزيز، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1983 م.

    التبريزي، مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، ط 3، 1405 هـ/ 1985 م.

    التل، عبد الله، جذور البلاء، المكتب الإسلامي، دمشق، ط 2، 1398 هـ/ 1978 م.

    (1/11621)

    قواعد المناظرة وأخلاقياتها من خلال مجادلة محمد القيسي ومحمد الأنصاري للنصارى بالأندلس

    الأستاذ محمد عبد الواحد العسري

    كلية الآداب ـ تطوان

    ... 1 ـ لقد جمعت المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية منذ أن اضطرهما التاريخ إلى الالتقاء ببعضهما. ولقد عبرت هذه المجادلة عن تأسيس هذين الدينين لمعرفتهما بذاتهما، من خلال تأملهما ودراستهما لعناصر الاختلاف والائتلاف بعينهما. كما عبرت المناظرة ذاتها عن مختلف الضرورات التاريخية التي دفعت بالدينين المذكورين إلى الانخراط معاً، ضمن تقليدين مختلفين متكاملين في

    (1/11622)

    الوقت نفسه؛ تقليد التعايش والمثاقفة من جهة، وتقليد بسط الهيمنة والسيطرة، وتأجيج روح الإلغاء والإقصاء المتبادلين بينهما من جهة ثانية.

    ... ولقد اندرج المسلمون والنصارى معاً ضمن ذينك التقليدين، بمجرد ما دفعهم واقعهم التاريخي والثقافي والمعرفي للقائهم بالأندلس إلى ذلك. ولقد عبرت عن أجزاء من تمظهرات هذا الواقع، أعداد عديدة من كتب المناظرات الدينية التي لم يتقاعسوا يوماً عن استثمار المناسبات لعقدها واختلاقها. ولقد تناول بعض هذه المجادلات ـ ضمن رؤى متباينة ـ عدد من مؤرخي الأديان، ودارسي أفكارها

    (1/11623)

    وعلاقاتها بمجريات التاريخ العام للأندلس. ويمكن أن نمثل لهذا الأمر بالمجهودات التي بذلها كل من ل. ب. هارفي(1)

    __________

    (1) L. P. Harvey, The Literary Culture of the Moriscos, 1492-1609.

    ... وهذه الأطروحة لم تنشر بعد، غير أن الباحثين في موضوع النصوص الدينية الأندلسية يحيلون عليها باستمرار. ولقد وقفت على فصلين منها، ترجمهما إلى الفرنسية مكيل دي إبالثا.

    Recueil d'études sur les Moriscos Andalous en Tunisie (I.H.A.C), Madrid,

    (C.E.H.A), Tunisie, 1973, préparé par Miguel de Epalza et Ramon Petit.

    (1/11624)

    ، وفان كونينكزفلد(1)، وخيرار فيخرز(2)، وم. دي إبالثا(3)

    __________

    (1) P. Sj. Van Koningsveld, "La apologيa de Al-Kendي en la Espaٌa del siglo

    XII. Huellas Toledanas de un Animal Disputax", Actas del II Congreso internanal

    de Estudios Mozلrabes, Toledo, 1989, pp. 107-129.

    (2) Van Koningsveld and G. A. Weigers, "The Polemical Works of Muhammad

    Al Qaysi (Fl. 1309) and their Circulation in Arbic and Aljamiado among the

    Mudejars in the Fourteenth Century", Al-Qantara, 15, 1994.

    (3) M. de Epalza, "Notes pour une histoire des polémiques anti-chrétiennes dans

    l'Occident Musulman", Arabica, 18, 1971, pp. 99-106.

    (1/11625)

    ، ول. كاردياك(1)

    __________

    (1) L. Cardaillac, Moriscos y Cristianos. Un Enfretamiento Polémico, (1492 1640), trad. Mercedes Garcia Arenal, Madrid, 1979.

    ... ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة مقالتين، أولاهما لخوزيب هرناندو، وثانيتهما لأنخل كورطبريا.

    J. Hernando, "De nuevo sobre la obra antiislلmica atribuida a Ramَn Martي,

    dominico catalلn del siglo XIII", Sharq Al Andalus, 8, 1992, pp. 97-108;

    A. Cortabarria, "La connaissance des textes arabes chez Raymond Martin O. P.

    et sa position en face de l'Islam", Cahiers de Fanjeux, 18, Ouvraje intitulé:

    Islam et Chrétiens du Midi (XII-XIII), pp. 279-300.

    (1/11626)

    . كما عمل بعض المهتمين بموضوع المناظرات نفسه على إخراج بعض متنها وتحقيقها. ومن بينهم، يمكن أن نذكر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ عبد المجيد التركي(1)، وعبد المجيد الشرفي(2)، وأحمد حجازي

    __________

    (1) ”رسالة راهب فرنسا إلى المقتدر بالله وجواب الفقيه أبي الوليد الباجي على هذه الرسالة، مع مقدمة وترجمة إلى الفرنسية“، ضمن: Al-Andalus, 31, 1966, pp. 73-115. ولقد حقق هاتين الرسالتين، وقدم لهما محمد عبد الله الشرقاوي، القاهرة، 1986.

    (2) أحمد بن عبد الصمد الخزرجي، مقامع الصلبان، تحقيق وتقديم، تونس، 1975.

    (1/11627)

    السقا(1)، ومحمد رزوق(2)، وميكيل دي إبالثا(3)

    __________

    (1) الإمام القطبي، الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، تقديم وتحقيق وتعليق، القاهرة، 1980.

    (2) شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري، ناصر الدين على القوم الكافرين، تحقيق، الدار البيضاء، 1978. ويعنى حالياً بتحقيقه ودراسته وترجمته إلى الإنجليزية: قاسم السمرائي وفان كوننكزفلد وخيرار فيخرز، من جامعة ليدن، هولندة.

    (3) عبد الله الترجمان، تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، دراسة وتحقيق وترجمة إلى الإسبانية: ميكل دي إبالثاAtti de la accademia nazionale de lincei, Roma, 1971) .).

    (1/11628)

    ، ودينيز كردياك(1).

    ... وتندرج المناظرتان اللتان سنعنى بهما في هذه الورقة، ضمن هذا التراث الجدلي الذي جمع بين المسلمين والنصارى بالأندلس. ولنتوقف قليلاً عند ما نقصده بالمناظرة والمجادلة قبل أن نشرع في معالجتهما. فالمناظرة في "لسان

    __________

    (1) D. Cardaillac, La polémique antichrétienne du manuscrit aljamiado, N° 4944 de la bibliotèque nationale de Madrid, T. II, Translitteracion, Thèse de doctorat, Monpellier, 1972.

    ... أشكر الأستاذ الدكتور خيرار فيخرز الذي مكنني من مصورة من الجزء الثاني من هذا العمل.

    (1/11629)

    العرب" هي: ”أن تنظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معاً كيف تأتيانه“. والنظر في هذا المعجم نفسه هو: ”الفكر الذي تقدره وتقيسه منك“(1). والمناظرة في حقول المعرفة العربية الإسلامية وخطابتها المتعددة، من مثل ”خطاب التعارض وخطاب الرد وخطاب النقض وما إليهما“، هي فكر ومنهج في آن واحد تداولها المسلمون والتزموا بها في تحصيل المعرفة وتبليغها(2). لذلك وضعوا لها شروطاً وقوانين في شكل مبادئ

    __________

    (1) لسان العرب، بيروت، 1955، مادة ”نظر“.

    (2) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، 1987، ص ص. 36 ـ 65.

    (1/11630)

    أخلاقية وقواعد منطقية. والجدل في المعجم المذكور هو: ”اللدد في الخصومة والقدرة عليها“(1). ويستمد الجدل قسماً من معناه من الدرس الديني الذي انتهى إليه القرآن الكريم بالآية القائلة: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(2)

    __________

    (1) والجدل: شدة القتل. والجدل: الصرع. وجدله جدلاً وجدله فانجدل وتجدل: صرعه على الجدالة. ولا تختلف هذه المعاني كثيراً عن مدلول الأصل اليوناني لمفردة: Polémique.

    André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philisophie, 13è ed, 1980.

    (2) سورة النحل، الآية 125.

    (1/11631)

    . لذلك استخدم الجدل في الثقافة الإسلامية ـ فيما استخدم فيه، وبوصفه منهجاً ـ للدعوة إلى الله، والدفاع عن العقيدة الإسلامية في الوقت نفسه (1).

    ... وبما أن لكل مناظرة أخلاقيات ومنطقيات، وبما أن الكتابين اللذين سنعنى بمعالجتهما يندرجان ضمن آداب المناظرة، أو بالأحرى ضمن ما يمكن تسميته بآداب المناظرة الجدلي، فسوف نؤشر على تلك الأخلاقيات وهذه القواعد المنطقية

    __________

    (1) وبهذا المعنى الأخير استخدمه محمد القيسي (ت. القرن 14 م) ومحمد الأنصاري الأندلسي (ت. القرن 15 م) اللذين سنعنى بتناول مجادلاتهما للنصارى.

    (1/11632)

    التي تميزهما. وقصدنا من ذلك مزدوج. فمن جهة، نروم الوقوف على جزء من الكيفية التي تمّ بواسطتها إنتاج هذين العملين. ومن جهة ثانية، نريد أن ننبه إلى ضرورة الاهتمام بوضع دراسات أخرى للتقعيد لتداوليات هذا النوع من المناظرة، بوصفها خطاباً طبيعياً، يرمي إلى إنتاج اليقين العملي أكثر مما يروم تحصيل اليقين النظري.

    ... 2 ـ لم تتبلور بالأندلس مناظرات جدلية دينية بين النصارى والمسلمين خلال الفترة نفسها التي ظهرت فيها بالشرق الإسلامي(1)

    __________

    (1) Van Koningsveld and Weigers, p. 193.

    ... ويميز المؤلفان بين مراحل ثلاث أساسية في تطور هذا الجدل باللغة العربية. ولقد أدرجا مجالادت عبد الله السير ومحمد القيسي، ضمن هذه المرحلة الأخيرة، المرجع نفسه، ص. 196.

    (1/11633)

    . بيد أنه بمجرد ما وصلت رسالة عبد المسيح الكندي إلى الأندلس، أخذ النصارى في إنتاج ردود ضد الإسلام على منوالها، ووفقاً لمحتوياتها(1). ولقد دافع فان كونينكزفلد على هذه الأطروحة وانتصر لها، معززاً ذلك بشواهد تاريخية ونصية متعددة(2). غير أن هذا الأمر لا يعني ـ في نظرنا ـ أن المجادلات الدينية لم تكن لتظهر بالأندلس، لولا تداول

    __________

    (1) ومنها، حسب فان كوننكزفلد: مجادلات بدرو ألفونسو، والراهب الطليطلي الذي جادله الخزرجي بكتابه سابق الذكر.

    La aplogia de Al Kendi, pp. 108-111.

    (2) Ibidem, pp. 107-129.

    (1/11634)

    النصارى والمسلمين لرسالة الكندي بها. فلقد خضع انبثاق هذه المجادلات وتطورها إلى شروطهما التاريخية الأندلسية الخاصة، أكثر مما خضع إلى مؤثرات شرقية صرفة(1). فضمن مختلف هذه الشروط التاريخية الأندلسية(2)، يمكن أن ندرج كتاب "مفتاح الدين والمجادلة بين النصارى والمسلمين من قول الأنبياء

    __________

    (1) لا يمكن نفي دور هذه المؤثرات في هذا الصدد. فلقد ساهمت بالفعل في تعرف النصارى بالأندلس وبأوروبا على الإسلام.

    (2) تراجع في هذه الشروط الأعمال المذكورة أعلاه لكل من: فان كوننكزفلد وفيخرز وميكل دي إبالثا ولويس كاردياك.

    (1/11635)

    والمرسلين والعلماء الراشدين الذين قروا [قرأوا] الأناجيل" لمحمد القيسي(1)، وكتاب "رسالة السائل والمجيب ونزهة روضة الأديب" لمحمد الأنصاري

    الأندلسي(2). وما فتئ أول هذين الكتابين مخطوطاً بالخزانة الوطنية بالجزائر(3)

    __________

    (1) وهو من أصل تونسي، ولقد عاش مدة من حياته أسيراً لدى النصارى بشمال الأندلس (ت. ق. 14 م).

    (2) نزيل فاس أواسط القرن التاسع الهجري. (محمد المنوني، ”مناقشة أصول الديانات في المغرب الوسيط والحديث“، مجلة البحث العلمي، الرباط، 1968، ص ص. 24 ـ 26).

    (3) رقم 1557. لقد مكنني من مصورات من هذا الكتاب، ومن كتاب الأنصاري كذلك الأستاذ الفاضل الدكتور فان كوننكزفلد الذي أشكره جزيل الشكر على ذلك وعلى اقتراحاته وتوجيهاته بخصوص موضوع هذه الورقة.

    (1/11636)

    . ولقد شكل موضوعاً لمقال فان كونينكزفلد وخيرار فيخرز، حيث عالجا في الجزء الأول منه الأقسام الثلاثة من "مفتاح الدين". كما عملا على تتبع آثار الترجمات الأعجمية التي خضع لها في أدبيات المجادلة بالأندلس خلال القرن الرابع عشر(1). كما استخدم أول هذين الباحثين قطعاً منه في درسه الافتتاحي ـ لتقلد منصب أستاذ كرسي للتاريخ الديني للإسلام في غرب أوروبا ـ للاستدلال على قدر من

    __________

    (1) وحسب اجتهادات فان كوننكزفلد وفيخرز، فالذي نقل هذا الكتاب إلى العجمية، هو علي الغريب (Van Koningsveld and Weigers, p. 192).

    (1/11637)

    أطروحة هذا الدرس(1). أما كتاب "رسالة السائل والمجيب"، فما زال مخطوطاً كذلك(2)

    __________

    (1) الأسرى المسلمون في أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى المتأخرة، ص. 11 من النسخة المهداة إلى كاتب هذه السطور.

    (2) ويعرف منه ثلاث نسخ. محمد المنوني، ص ص. 27 ـ 28؛ والنسخة التي تستخدم في هذه الورقة هي نسخة الخزانة العامة بالرباط، 178 ج. وتجدر الإشارة إلى أنه إذا قارنا وصف المنوني لتلك النسخ، فإنه يمكن ملأ بياض في النسخة التي نستخدم بخصوص المدن التي عقد فيها الأنصاري مجادلاته، فتكون كالتالي: المجلس الأول بشقوبية (أمكن تحديد ذلك بالاستنتاج)؛ والثاني بسلمنقة؛ والثالث والسادس بمجريط؛ والرابع بوليدا؛ والخامس بشقوبية. ويذكر المؤلف بأن الفصول الجدلية التي سنتناولها في هذه الورقة، هي التي دعته إلى تأليف مجموع رسالته برسم الوزير المريني الحاجب أبي زكرياء يحيى بن زيان.

    (1/11638)

    . ولقد استخدم فان كونينكزفلد ورقتين منه في درسه سابق الذكر، لتحقيق الهدف نفسه.

    ... 1 ـ تستلزم كل مناظرة وجود دعوى، ووجود جانبين للدفاع عنها والاعتراض عليها ضمن آداب ووظائف محددة. ولابد أن تنتهي كل مناظرة إلى إفحام طرف منها للطرف الآخر، من أجل إظهار الحق وتحصيل الحقيقة

    واقتسامها(1)

    __________

    (1) لم تندرج المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية ضمن هذه الاستراتيجية الأخيرة، فلم يكن يهم الإسلام ولا المسيحية معاً سوى إعادة إنتاج الحقيقة المحصلة عند كل منهما سلفاً والدفاع عنها، ودحض حقيقة الآخر ورفضها وإقصائها.

    (1/11639)

    . فما دعوى محمد القيسي ومحمد الأنصاري ومجموع النصارى الذين تجادلوا معهما؟ (1)

    ... إنها دعوة عقدية لاهوتية صرفة. لذلك سنجد كاتبينا ومن ناظرهم من النصارى يتقلدون ـ في آن واحد ـ وظائف المعتقد

    __________

    (1) ”الحمد لله الذي هدانا للحق وأشهد النبي محمداً على الخلق وسلك بنا طريق الصدق وعصمنا من الزلال وجنبنا طريق الضلال فنحن الخلفاء الراشدين على الحق شاهدين اعتقادنا التوحيد وآمنا بالوعد والوعيد ونبيه الرشيد مفتاح العلوم ومبدد اليهود والروم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل وفي كل كتاب وتنزيل“ (49/ 11 ـ 17).

    (1/11640)

    المسلِّم لما جاء في عقيدته بنصوصه المقدسة الخاصة به، ووظائف الناظر السالك لسبل الاستدلال على صحة عقيدته، إلى جانب أدوار العارض لدعواه والمعترض على دعوى خصمه.

    ... 1. 1 ـ بلور محمد القيسي في مقدمة كتابه ملخص الدعوى التي سيعمل على الدفاع عنها في القسم الأول والأخير منه. ولقد رامت هذه الدعوى الدفاع عن أطروحة مركزية تستقطب جوهر المناظرة الإسلامية النصرانية. وهي إثبات نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - بوصفه رسولاً جاء بالدين الحق والوحيد، من بعدما بشرت به جميع الكتب المنزلة. وتلك هي الدعوى نفسها التي

    (1/11641)

    سيتخذ الأنصاري دور المنتج لها والعارض إياها باتخاذه لدور المعترض على دعوى النصارى في ما يتعلق بتصورهم لنبوة المسيح وألوهيته في الوقت نفسه. ومن المعروف أن دعاوى المسلمين والنصارى في هذا الصدد، وما يترتب عليها من تصورات مختلفة للرب وللنبوة عند كليهما، هي التي شكلت خلافهم السرمدي الذي انعكس في مجادلاتهم الدينية، وفي علاقاتهم المختلفة على مر الحقب والعصور(1)

    __________

    (1) ولم تنجح قط أيّ محاولة توفيقية لتخفيض هذا الفرق الأساسي بين الإسلام والنصرانية. تراجع المصادر والمراجع التي اعتمدها في هذا الإطار خوان بانيلا وميكل دي إبالثا.

    Juan Panella, "Littérature morisque en espagnol en Tunisie", extait de la hèse de

    doctorat en histoire, encore inédite : Los moriscos espaٌoles emigrados al norte

    de africa depués de la expulsيon de 1609, Barselona, 1971, in Epalza, Recueil,

    pp. 187 - 198; "Influences islamiques dans la théologie chrétienne médiévale:

    L’adoptionisme espagnol (VIIIème siècle)", Islamochristiana, Roma, 1992,

    pp. 55-71.

    (1/11642)

    .

    ... ولقد رجع محمد القيسي لعرض دعواه إلى التوراة والإنجيل، فقدم ما جاء بهما بخصوص نبيه. وأول عباراتهما التي تسمح له بالدفاع عن دعواه وبالاعتراض على دعوى النصارى في شأن علاقة ناسوتية المسيح بألوهيته. ففي القسم الأول من كتابه، وقف عند ذكر إشعيا والزبور والإنجيل لرسول الإسلام(1)

    __________

    (1) ” أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل ينزل أحدهما لصاحبه (…) إن صاحب الحمار هو عيسى بن مريم وصاحب الجمل هو محمد- صلى الله عليه وسلم - “ (50ـ 12)؛ ولعله يحيل على: إشعياء 21/ 7: ”هددوا في الزبور أن يرسل عليهم السيف ومعلوم أنه لم يأت نبي بسيف إلا محمد- صلى الله عليه وسلم - “، (50/ 15 ـ 16): ”فاحفظوا وصيتي فسياتيكم الفارقليط يكون معكم أبداً فإذا أتاكم الفارقليط بروح الحق والصدق فهو الذي يشهد علي“ (16/ 12 ـ 14)؛ في إنجيل يوحنا آيات مختلفة تسمح باستنتاج هذا المعنى (15/ 26 و 16/ 7). ومن المعروف أن الفارقيط مفردة يونانية تفيد معنى:الشفيع. لذلك استند إليها القيسي ـ مثل جميع المسلمين ـ ليستدل بها على أن المسيح بشر بمحمد، نظراً لأنه لم يعرف نبي آخر بهذه الصفة. (راجع هامش 84). وترجع جميع المناظرات الإسلامية للنصارى إلى هذا الإنجيل. للاستدلال على هذا الأمر، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ناصر الدين على القوم الكافرين، مصدر مذكور، ص ص. 31 ـ 106؛ تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، مصدر مذكور، ص ص. 479 ـ 485.

    (1/11643)

    ، قبل أن يشرع في وضع تاريخ للنصرانية ضمن رؤية إسلامية صرفة لهذا المعتقد. فبين كيف غرر بولس اليهودي(1)

    __________

    (1) ولقد كان بولس يهودياً قاسياً على النصارى يتتبعهم بالتهديد والقتل قبل أن يعتنق النصرانية بدوره. ”أنا رجل يهودي (…) فاضطهدت هذا الطريق [النصرانية] حتى الموت، فكنت أعتقل أتباعه من الرجال والنساء، وأزج بهم في السجون“. (أعمال الرسل، 22/ 3 ـ 4). وتعتبر رسائل بولس في "العهد الجديد"، من أهم النصوص التي قعدت للنصرانية وشرحتها. ويرى المسلمون أن اليهود ”دسوا هذا الرذل بولس لإضلال أتباع المسيح“؛ ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل،بيروت، 1975، ص. 71؛ أحمد شلبي، مقارنة الأديان، 2 المسيحية، ص 6، 1978، ص ص. 104 ـ 125، 142؛ عبد الله الشرقاوي، في مقارنة الأديان، 1986، ص ص. 152 ـ 161؛ موريس بوكاي، دراسات في الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، دار المعارف، 1978، ص ص. 70 ـ 74. (مترجم عن الفرنسية).

    Maurice Bucaille, La Bible, le Coran et la Science, ed, 14, 1976, p. 62.

    (1/11644)

    بمختلف شيع النصارى(1)، ما عدا شيعة المومن التي قاتلها إلى أن تفرقت في الأرض(2)

    __________

    (1) ”يعقوب ونسطور وملكون“ (53/ 9). ويقصد القيسي بذلك فرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية.

    (2) أما شيعة المومن، ”فأدرك النبي منهم ثلاثين رجلاً راهباً فأمنوا وصدقوا قوله“. (55/ 5 ـ 6)؛ ولقد جعل القيسي من خوف ”صاحب فرنجة“ ونصارى الأندلس من بقية هذه الشيعة بأحد معابدها بينهم، ومن استعدادها الأصلي للانقلاب إلى الإسلام، سبباً في اندلاع حرب ضد المسلمين بهذه البلاد. (ص ص. 68 ـ 71).

    Van Koningsveld and Weigers, pp. 172-176.

    (1/11645)

    ، وكيف حرَّف لهم دينهم وأعدهم لمتابعة هذا التحريف. ولقد رام القيسي من هذا التأريخ لهذا الدين تيسير إمكان الاعتراض على دعوى النصارى بشأن ألوهية عيسى. ولقد بلور اعتراضه على هذه الدعوى ذاتها، بالرجوع إلى الأناجيل المختلفة والاستناد عليها؛ فاختلافها دليل عنده على ضياع تواتر النصرانيّة وانقطاع سندها، مما أدى ـ في نظره ـ إلى ضرورة مجيء الإسلام لتتميم الرسالة السماوية وإقفالها. ناهيك عن أنه لا يوجد في هذه الأناجيل، على تعددها واختلافها(1)

    __________

    (1) ”هكذا اختلفوا في قتله وفي سيرته وجميع أحواله والإنجيلات الأربعة مختلفة في جميع معانيها“ (63/ 16 ــ 17).

    (1/11646)

    ، ما يسمح باستنتاج عقيدة النصارى ـ عنده ـ في المسيح، تلك العقيدة المتعددة والمختلفة في حد ذاتها. فاعتقادهم بأن المسيح ابن الله لم يرد لا بالتصريح ولا بالتضمين في أي إنجيل(1). ولم يرد كذلك

    __________

    (1) ترد مفردات الابن والأب والآب في الأناجيل: ”ما زال أبي يعمل إلى الآن، وأنا أيضاً أعمل“. (يوحنا، 5/ 17؛ وكذلك 5/ 21 ـ 22، إلخ). ولا ندري لم أنكر القيسي ذلك مع قدرته على تأويل الآبن والأب تأويلاً مجازياً، خاصة وأن بعض آيات الأناجيل تسمح بذلك: ” …. إني سأصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم“ (يوحنا، 20/ 18).

    (1/11647)

    اعتقادهم بأن الله هو المسيح وأنه ثالث ثلاثة(1). فالمسيح كان ينادي ربه(2)

    __________

    (1) ” لأن اعتقادهم بأن الله هو المسيح، ولهم اعتقاد آخر أن الله ثالث ثلاثة، ولهم اعتقاد آخر أن المسيح ابن الله، فهذه اعتقاداتهم مختلفة غير موافقة بعضها بعضاً“ (60/ 4 ـ 6)؛ ولقد اختلفت ”اليعقوبية والملكية والنسطورية“ في التثليث والاتحاد بالفعل. (Emilio Platti, "La doctrine des chrétiens d’aprés Abu Isa Alwarraq dans son traité sur la trinité", MIDEO, (20, 1991, p. 25.

    (2) ” ربنا الذي في السماء تقدس اسمك وبان ملكك وطابت مشيئتك“ (55/ 16 ـ 17)؛” ولم يقل أنا في السماء تقدس اسمي وربان ملكي“ (57/ 5 ـ 6).

    (1/11648)

    ، وربه كان يناديه(1)، كما كان ”يتضرع إلى الله ويدعوه ويرفع يده إلى السماء“، ويحيي بإذنه الموتى(2). فكيف اعتقد النصارى في عيسى ما

    __________

    (1) ”أنت نبيِّي وحبيبي الذي بك سررت“ (57/ 18)؛ ”فهذا دليل على أنه رسوله أرسله وعبده وابن أمته“، (58/ 5 ـ 6). ويلاحظ في هذا المضمار أننا نقف في إنجيل مرقس (1/ 11) على هذه الآية: ”وإذا صوت ينادي من السماوات يقول: أنت ابني الحبيب، بك سررت“. (انظر هامش 36).

    (2) ” رب لك الحمد إني أعلم أنك تعطيني كل شيء (…) ثم قال: "قم يا يعزار!"، فقام يجر حماره“ (60/ 19 ـ 21/ 1 ـ 2).

    (1/11649)

    اعتقدوه؟

    ... 1. 2 ـ عندما حاول النصارى ـ حسب القيسي ـ تمثل عيسى وتكوين تصورات عنه وعن الله من خلال قصة المسيح، اعتمدوا منهج القياس، قياس الرب على المسيح ومماثلة أحدهما للآخر، بالرغم من اختلافهما بوصفهما محدثاً وحادثاً. فانتهوا تبعاً لذلك إلى التثليث، عندما كان عليهم أن يتوقفوا في هذا الأمر مثلما يتوقف المسلمون، فلا يسألون عن كيفية حدوثه(1). هكذا اعترض القيسي

    __________

    (1) ”نومن بالنفخة والروح والكلمة ولا نقول كيف ذلك إلا أنه نقول من أمر الله ونقف حيث انتهى في صفته أو رسوله ولا علينا حجة“ (86/ 14 ـ 16).

    (1/11650)

    على مضمون دعوة النصارى وعلى منهج تحصيلهم للمضمون نفسه. لذلك اتجه إلى إبطال دليل المدعين (النصارى) بما يسمى في لغة أهل المناظرة بالنقض أو المنع المدلل. فمن جهة، لا يستلزم من أدلة النصارى تصورهم للرب وللمسيح؛ ومن جهة ثانية، فإن المنهج الذي اتبعوه لتحصيل دعواهم (القياس) لا يجوز استخدامه في هذا الصدد، لعدم تساوي قطبي القياس ولاختلافهما. ثم إن هذا المنهج يحايثه بالضرورة الشك والظن، بينما يقتضي تحصيل العقيدة بناءها على القطع واليقين(1)

    __________

    (1) ”لأن الدخول مع الله وصفاته إذن قياس والقياس ظن والظن شك والشك لا يخرج منه حق“ (87/ 1 ـ 2).

    (1/11651)

    . وبذلك أبطل القيسي حجية القياس في هذا المضمار جرياً على عادة المتكلمين في الغرب الإسلامي الوسيط(1). وسيستمر محمد القيسي، لبلورة دعواه الخاصة في الله وصفاته المعارضة لدعوى النصارى في هذا الصدد، بعض أدلة علم الكلام الإسلامي، من مثل دليل

    __________

    (1) عن إبطال القياس عند ابن حزم مثلاً يراجع، سالم يفوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، 1986، ص. 318؛ وعن إبطاله عند ابن تومرت: عبد الواحد العسري، معالم من الفكر الموحدي بمراكش، مراكش من التأسيس إلى آخر العهد الموحدي، آداب مراكش، 1988، ص ص. 206 ـ 207.

    (1/11652)

    الخلق ودليل نفي التحيز ودليل نفي الشبه(1).

    ... 1. 3 ـ ويبدو أن القيسي كان يضطر إلى مجادلة النصارى في غير هذه المواضع التي تشكل الخلاف الأساسي في الجدال الديني بين الإسلام والنصرانية. فلقد اعترض على دعاوى أخرى للنصارى ضد الإسلام بخصوص ما يتضمنه من

    __________

    (1) ” قد تبين أن الله ليس كمثله شيء فكيف يمتزجوا الأعراض إذ ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم“ (59/ 16 ـ 18)؛ ”فذلك محدث وله محدث لا يشبهه ولا يمازجه“ (60/ 2 ـ 3).

    (1/11653)

    ”الآيات المتشاهبات والأحاديث المشكلات“. فعندما سأله ”راهب فاجر“ عن دينه ونبيه، فأجابه القيسي بأن دينه هو التوحيد، وبأن نبيه هو محمد الذي نعته الإنجيل بالفارقليط، اعترض عليه ذلك مناظره (1). فالتوحيد في الإسلام ـ حسب هذا الأخير ـ مجرد زعم وادعاء، ما دام المسلمون يتمثلون ربهم ـ من خلال الآيات القرآنية ـ داخل مفاهيم الجوهر والعرض والجسم

    __________

    (1) ” ورماني بين حزب الشيطان في دار الكفر والطغيان أخدم النصارى العصيان والقسيسين والرهبان في المجادلة والهوان حتى سلبني عقلي وصيرني لا أملك قياد قولي“ (81/ 6 ـ 9).

    (1/11654)

    وبواسطتها؛ فيجعلون بذلك لله جسماً ويدين ورجلين وحركة وانتقالاً، إلخ. (1) وقبل أن يشرع كلٌّ من الراهب والقيسي ـ بمعية ”الزعيم الكافر“ ـ في إنتاج الدعاوى والاعتراضات المتبادلة، حاول ـ كل من جانبه ـ أن يضبط بعض قواعد المناظرة وأخلاقياتها. فهذا محمد القيسي يطلب من محاوره أن لا يغصبه حقه في الكلام، وأن يلتزم بما ستسفر عنه محاورتهما(2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص ص. 82 ـ 83.

    (2) بالرغم من أن هذا النوع من المجادلة لم يكن ليهمه هذا الأمر في الدرجة الأولى، فإن ذلك لم يكن ليمنع أن يطمع ـ أحياناً ـ أحد طرفيها في إقناع الطرف الآخر. لذلك ذهب القيسي إلى أن من الرهبان من تشرح المناظرة ”صدره للإسلام“ (84/ 1).

    (1/11655)

    . وذاك الزعيم الكافر يرفع القيسي إلى مستوى خصمه حتى لا يستعظمه ويستحقره فيضعف عن القيام بحجته(1). لذلك تمكن القيسي من منع دعوى الراهب، بالنقض نفسه الذي سبق أن استخدمه للاعتراض على دعوى النصارى بخصوص المسيح والتثليث. غير أن القيسي، بعد إلحاح مجادله الذي يبدو بأنه لم يفهم ذلك الاعتراض المنهجي (إبطال القياس) أو أنه لم يقتنع به، استعاد مناقشة إشكال المتشابه في الإسلام، مضيفاً إلى ذلك مشكلات عقدية أخرى(2)

    __________

    (1) ”يا محمد اسمع ما اقول لك تكلم وانصر دينك وقيد ألفاظك“ (84/ 8 ـ 9).

    (2) من أهمها تصور المسلمين للجنة بوصفها مجالاً للذات، الأكل والشرب والجماع وما يترتب على ذلك. ومن الجدير بالذكر أننا نجد هذا الاعتراض النصراني على جنة المسلمين، يتردد في جميع المجادلات من هذا النوع.

    Raymond Martin, Explantio, 52-54, in A. Cortabaria, p. 296;

    الحجري، ناصر الدين، ص ص. 77 ـ 80.

    (1/11656)

    . ونظراً لأن هذه المشكلات هي نفسها التي سبق أن أجاب عنها راهب فرنسا، عبدُ الله الأسير(1)، فلقد اكتفى القيسي بإعادة إنتاج اعتراضات هذا الأخير على

    __________

    (1) لقد أفرغ كوننكزفلد وفيخرز جهداً ملحوظاً للتحقق من هذه الشخصية الغامضة في تاريخ المجادلة الإسلامية النصرانية بفرنسا. وفي انتظار ذلك، استطاعا معاً أن يفندا ما ذهب إليه كل من هارفي وأسين بلاثيوس ودينيز كاردياك ولويس كاردياك في هذا الصدد، الذين تصوروا بأن المعني بالأمر، هو: عبد الله الترجمان، صاحب "تحفة الأريب".(Van Koningsveld and Weigers, p. 193) .

    (1/11657)

    دعوى النصارى في هذا الصدد. ولقد تمحورت هذا الاعتراضات على مضمون الدعوى واستندت إلى المنع المدلل. فالآيات التي احتج بها الراهب على القيسي تستلزم نقيض ما رام بها، لأنها تمتنع على التمثل الحرفي لها، وتستدعي في المقابل تأويلاً مجازياً بحسب دليل خطابها، وبما جرت به العادة من كلام العرب ولغاتهم، وذلك هو ما يجهله الراهب تمام الجهل حسب القيسي(1). فاليد في قوله {يد الله مغلولة}(2)

    __________

    (1) ”وهو [أي المتشابه من القرآن والحديث] بلسان العرب ولا معرفة لك به ولا جواب“ (84/ 4 ـ 5).

    (2) {يد الله مغلولة} (المائدة، الآية 63).

    (1/11658)

    لا يجب أن تحمل على معناها الحرفي فيستفاد منها اليد الجارحة، بل عل معناها المجازي الذي تسمح به اللغة العربية، فتغدو هي ”النعمة“(1).

    ... بهذا النقض المدلل عارض القيسي دعوى الراهب دون أن يعترض على لفظها ولا على صحة نقلها. كما عمل على منعها بإبطال ما استلزم من ألفاظها مناظرُه من تصورات تشبيهية وتحييزية لله ولصفاته التي رام بنسبتها للإسلام نسف دعوى هذا الدين بخصوص التوحيد والتنزيه اللذين يقوم عليهما.

    __________

    (1) 87/ 18 ـ 20.

    (1/11659)

    ... وبذلك استطاع محمد القيسي أن يحقق هدفه من مجادلته للنصارى التي اضطر إليها، باعتراضه على دعاويهم ومنعها وإبطالها، فأفحمهم وانتصر عليهم(1)، معتمداً في كل ذلك بعض قواعد المناظرة المنطقية والتداولية والأخلاقية.

    ... 2 ـ قبل أن يشرع محمد الأنصاري في مناظرة خصومه، أورد مقدمة بين يدي قارئه، بين له فيها أنه إذ يتوجه إليه بكتابه، فلكي يُيسر له ـ في حالة اضطراره إلى مجادلة النصارى ـ

    __________

    (1) ولا غرو في ذلك، فالمجادل ينتصر دائماً على خصومه في النصوص التي يخطها بيده (فان كوننكزفلد، الأسرى المسلمون، ص. 9).

    (1/11660)

    إمكان الرد عليهم وإفحامهم، لصيانة دينه ونبيه(1)، بأن يتعلم كيف يعترض على صحة النصرانية لتناقض الأس الذي تقوم عليه، وهو التثليث. لذلك يمكن أن ندرج هذا الكتاب من حيث وظيفته المصرح بها، ضمن الآداب الإسلامية ـ العلمية والتعليمية ـ التي رامت المحافظة على الإسلام بين أوساط المسلمين الذين تغلَّب عليهم النصارى بالأندلس(2)

    __________

    (1) ” فإنه إن اضطر أحد إلى مناظرتهم يوماً وهو غير عارف بأصولهم ربما أفحموه وألبسوا له الحق بالباطل“ (301/ 52 ـ 302/ 1).

    (2) بوصفها وسيلة من وسائل حماية الذات الإسلامية وهويتها، من خطر التنصير المحدق بها داخل أوساط النصرانية المتغلبة. أتأسف لكوني لم أستطع الحصول على مقال دينيز كردياك في هذا الموضوع:

    D . Cardaillac, “ Alqayçi et le moine de lérida, ou comment affirmer une identité

    islamique en milieu chrétien ”, in Actes du II. Symposium international du

    CIEM sur Religion, identité et sources documentaires sur les Morisques

    Andalous, Tunis, 1984, Vol. 1, pp. 129-137.

    (1/11661)

    .

    ... ولقد دارت المجالس الستة التي عقدت بين الأنصاري وأساقفة وشمامسة النصارى بالأندلس النصرانية حول دعاوى مختلفة ومتعددة، استقطبت جل نقاط الخلاف بين الإسلام والنصرانية بوصفهما دينين متغايرين ومتصارعين في آن واحد. ولعل أهم عنصر من عناصر هذا التغاير المستعصي بينهما، هو إنكار النصارى لنبوة محمد وإنكار المسلمين لألوهية المسيح، إلى جانب ما يتفرع عن ذلك من مشكلات عقدية وتشريعية متعددة.

    ... 2. 1 ـ عندما امتدح أحد زعماء الأساقفة دينه وعرض بالإسلام بالنيل من رسوله(1)

    __________

    (1) غير أنه لم يقدم ـ كما تقتضي ذلك قواعد المناظرة ـ أدلة خصمه على دعواه، وسيكون هذا هو ديدنه طيلة مجادلته، لذلك بدأ بهذا الاعتذار: ”كان أول ما بدا به هذا الأسقف الضليل الثناء على دينه بجعاجيع وأخاليط أضربت عن ذكرها لطولها وشناعتها في الكفر“ (303/ 1 ـ 2). ومن المعروف أن النصارى يستندون لإبطال الإسلام إلى الحياة الخاصة لنبي هذا الدين وسيرته.

    “- Machometus fuit mendax - Machometus non fuit mundus sed potus immundus

    et peccator- Machometus nunqam fecit miracula ”, Ramَn Mيrti, Tractatus

    contra Machometum, in J. Hernando, p p. 100-101.

    De Bunes Ibarra-Miguel Angel, La imagen de los Musulmanes del norte de

    Africa en la Espana de los siglos XVI y XVII, Los caràcteres de una hostilidad,

    (C.S.I.C), Madrid, 1989, pp. 203-213.

    (1/11662)

    ، اعترض عليه الأنصاري بمجموعة من الاعتراضات على مضمون

    هذه الدعوى ومنعها بالنقض المدلل. ولقد استقطب هذه الاعتراضات هم البحث عن أصل النصرانية وأسها لتيسير الاستدلال على فسادها وعدم صحتها. لذلك عمد الأنصاري إلى التأريخ لظهور هذا الأس وذلك الأصل(1)، فأرجعهما إلى تحريفات عديدة رافقت ظهور النصرانية وتطورها وحايثتهما. ولقد شملت هذه التحريفات ـ عند الأنصاري ـ نصوص هذا الدين من جهة، وتأويلات أساقفته لها من جهة أخرى. فبالإضافة إلى المؤامرة اليهودية التي طالت النصرانية في

    __________

    (1) الأضاليل التثليثات (304/ 9).

    (1/11663)

    مهدها، وأدت إلى ألوهية المسيح وبنوته إلى الرب(1)، وبالإضافة إلى رؤيا قسطنطين أو أمه التي أدت إلى اتخاذ الصليب أسّاً لهذا الدين ورمزاً له(2)، فلقد كان لاجتماعات أساقفة النصارى دورٌ هامٌّ وحاسمٌ في التقعيد للتَّثْليث(3)

    __________

    (1) انظر هامش 32.

    (2) ”تقولون إنه رأى رماحاَ كانت نزلت من السماء وأعلاماً فيها صور صلبان وإنه قيل له خذها وقاتل بها عدوك“ (305/ 5 ـ 6)؛ وحمل الصليب وتقديسه من أهم شعائر النصرانية. ”إن أراد أحد منكم أن يسير ورائي، فلينكر نفسه وليحمل صليبه كل يوم ويتبعني“ (لوقا، 9/ 23).

    (3) ” ذلك أن قسطنطين لما تم من أمره، ذكر جمع الأساقفة الذين كانوا ببيت المقدس، وهو أول الاجتماعات التي تسمونها سندوسات وهي ستة عندكم وفيها شرعوا لكم ديانتكم“؛ ويقصد الأنصاري بأول الاجتماعات ما هو معروف في تاريخ النصرانية، بمجمع نيقية الذي عقده قسطنطين سنة 325 م، والذي اتخذ فيه أساقفة المسيحية لذلك الزمان قرار ألوهية المسيح بوصفه ابناً للرب. يقول القرار: ”نومن بالله الواحد (….) الأب مالك كل شيء (…) وبالابن الواحد (…) يسوع المسيح ابن الله الواحد (…) إله حق من إله حق من جوهر أبيه“. (أحمد شلبي، مقارنة الأديان، ص. 2؛ المسيحية، 1978، ص. 144).

    (1/11664)

    .

    ... يرجع التثليث عند النصارى إلى ثلاثة قواعد أساسية، عمل الأنصاري على عرضها وعلى الاعتراض عليها في الوقت نفسه. فلقد اعترض على مضمون الدعوى (التثليث) وبين كيف أنها لا تستلزم بالضرورة من النصوص الدينية وقصصها التي استدل بها النصارى على ذلك، من دون أن يعترض على صحة نقلها، بل اكتفى بالاعتراض على عدم ملاءمة تأويلات الأساقفة لهذه النصوص ذاتها، لمصادرتها المسبقة على المطلوب الذي هو التثليث(1)

    __________

    (1) ” إن الله لما قال للملائكة نحن خالقون بشراً على صورتنا (…) قال أساقفتكم إن هذا تصريح ونص من الله بالتثليث“ (305/ 16 ـ 17)، ”وإن إبراهيم لما قرب إليهم العجل لياكلوه، امتنعوا من ذلك. فعلم إبراهيم من زعمكم أن الاثنين ملكان وأن الثالث هو الله“ (306/ 3 ـ 5).

    (1/11665)

    . كما اعترض على اعتمادهم لمنهج القياس في تحصيلهم الدعوى نفسها، فبين لهم أنه حتى ولو سلم لهم تسليم جدل بأن ”جميع الأنبياء مثلِّثة“ وبأن الشمس ”من ثلاثة أشياء: جرم وحرارة وضياء” “وأن الإنسان كذلك جسم وروح وشهوة“ (1)، فإنه لا يجوز نقل هذا التثليث من مضمار الموجودات إلى مضمار موجد الموجودات وسحبه عليه(2). ويعكس هذا الأمر اختلاف تصوري

    __________

    (1) 306/ 11 ـ 12.

    (2) ”لنطق كل حبر منكم من يقيس الخالق بالمخلوقين والرب القديم بالمحدثين“ (306/ 17 ـ 18). راجع ”إبطال قياس الشاهد على الغائب“ عند القيسي (هامش 43).

    (1/11666)

    النصارى والمسلمين للرب أو للإله فيما يتعلق بإشكال مفارقته أو محايثته للكون وللإنسان. وهو الإشكال نفسه الذي سيتردد بصيغ مختلفة في جميع مجالس مناظرات الأنصاري لخصومه.

    ... 2. 2 ـ ففي المجلس الثاني منها، طرَح هذا الأمر من خلال قصة صلب المسيح التي استدرج أسقف سلمنقة لعر ض دعواه فيها، وللاستدلال عليها. ولقد انساق هذا الأسقف وراء ذلك، طمعاً في إقناع الأنصاري بحكمة الصلب في المسيحية. وتعتبر قصة صلب المسيح وما يحايثها من الاعتقاد في الطبيعة المزدوجة لعيسى(1)

    __________

    (1) لقد جعل الأنصاري من محاوره المعبر عن ذلك بقوله: ”فهو الإنسان التام من جهة الجسم و[الإله] التام من جهة الروح“ (308/ 5 ـ 6).

    (1/11667)

    ، وفي الحلول والتجسيم، الأساس الثاني من الأسس الثلاثة للنصرانية(1). ويعتبر النصارى سر التثليث وكنهه من الخفاء والغموض بحيث إنه يتعدى حدود المعرفة العقلية وإمكاناتها(2)

    __________

    (1) ”أولها التثليث وثالثها محاسبة عيسى للناس. ”والأب لا يحاسب أحداً، بل أعطى الابن سلطة القضاء كلها“ (يوحنا، 5/ 22).

    (2) عن حدود العقل والتثليث، يراجع:

    “Trinité”, in Dictionnaire des religions, 1984, pp. 1729, 1731.

    ... ”ويقول القس وهيب عطا الله: إن التجسيد قضية فيها تناقض مع العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية، ولكننا نصدق ونومن أن هذا ممكن حتى ولو لم يكن معقولا“ (طبيعة السيد المسيح، ص. 18؛ أحمد شلبي، مقارنة الأديان، ص. 2؛ المسيحية، 1978، ص. 139). وعند عموم المسلمين، فإن الدين الحق لا يمكن أن يتضمن الأسرار والخفاء والغموض (علي بن زين بان المهتدي، الرد على النصارى، نشره الأبوان: I. A. Khalife et W. S. J. Kutsh, Ar-radd ala-n-

    nasara de Ali Attabari, Edi, in Mélange de l’université St. Joseph, Vol. 35,

    (1959, p. 116.

    ... لذلك ذهب ابن حزم إلى أنه ”لولا أننا شاهدنا النصارى، ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون“ (الفصل في الملل والأهواء والنحل، بيروت، 1975، ج 1، ص. 49).

    (1/11668)

    . ذلك هو ما رام مجادل الأنصاري إقناعه به، مستدلاًّ على ذلك بقصة عصيان آدم لربه بالجنة(1). فلقد اقتضت مشيئة الرب أن يعاقب العاصي وذريته على ذنبه مثلما اقتضت رحمته أن يُصلب ابنه فدية للأنبياء وتخليصاً للآدميين(2). اتجاه هذه الدعوى، بلور محمد الأندلسي الأنصاري خمسة اعتراضات لنقضها ومنعها.

    __________

    (1) ”قصة المسيح من الخفاء والغموض بحيث لا ينتهي إليها المسلمون ولا كثير من النصارى لدقتها وخفاياها“ (307/ 91 ـ 20).

    (2) 69. 307/ 25 ـ 27 ـ 308/ 1 ـ 5؛ ولقد خرّج هذه السطور فان كوننكزفلد، الأسرى المسلمون، ص. 12.

    (1/11669)

    ولقد أراد بثلاثة منها الاستدلال على أن دعوى النصارى في هذا الصدد تنسب الجور إلى الله من حيث تروم نفيه عنه، مما لا يجوز في حقه لا شرعاً ولا عقلاً(1). كما أراد برابعها نقض قول النصارى بالاتحاد والحلول لاستحالة اجتماع ”الإله القديم الباقي مع الجسم المحدث الفاني“(2). أما الخامس من هذه الاعتراضات، فلقد نقض به الأنصاري فكرة الخلاص النصرانية المحايثة لقصة صلب

    __________

    (1) ” فكيف على أحكم الحاكمين وهو أهل العدل والأمر به في كتابه أن يعاقب أبناء أبناء الأنبياء في آباء آباء الآباء“ (308/ 14 ـ 15).

    (2) 309/ 6.

    (1/11670)

    المسيح(1). وبذلك جاءت جميع هذه الاعتراضات من قبيل المنع المستند والمنع المدلل التفصيلي. فلقد

    __________

    (1) ”قولكم إنه قتل في مرضاتكما ولينقدكم من النار“ (309/ 11 ـ 12)؛ ونظراً لأن المنع في المناظرة يكون أحياناً فعلاً ”تكلميا إدباريا تشكيكيا وسجاليا“. (طه عبد الرحمن، ص. 72)، فقد اعترض الأنصاري على نقض الأسقف لاعتراضاته. [”فإن الموت ذاقه جسمه لا روحه“، 309/ 17؛ ”كان له روحان أحدهما لسائر البشر (…) والآخر إلهي لم يستحس بشيء من الألم“ (310/ 3)]، بتأكيد علاقة الروح بالجسد وباستحالة اجتماع روحين في جسد واحد.

    (1/11671)

    استندت إلى تصور الإسلام لله وللنبوة، المخالف لتصور النصارى لهما، من حيث المفارقة والمحايثة اللتان سبق ذكرهما.

    ... ولقد أبطل محمد الأندلسي دعوى النصارى التي عرضها في المجلس السادس من مناظراته مجموعة من الأساقفة. فلقد دعوه في هذه المرة إلى الدخول في ”دين المسيح والعهد الصريح“ (1)، مسوغين لأنفسهم هذا الحق بالاستناد إلى ما جاء في الإسلام عن المسيح، من حيث كونه: ”رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه“ (2)، وإلى ما عندهم فيه كذلك: ”ونحن نقول باسم الأب والابن والروح

    __________

    (1) 310/ 31.

    (2) 310/ 15.

    (1/11672)

    القدس ثم نقول إلاهاً واحداً“(1). والواقع أن هؤلاء الأساقفة قد راموا بذلك تقليص الفوارق بين النصرانية والإسلام، وتذويبها بعبارات قليلة في بلاغة نصيّة متهافتة(2). وغني عن البيان أن

    __________

    (1) 310/ 61.

    (2) تندرج مناظرة النصارى للمسلمين في هذا الصدد، ضمن استراتيجية التبشير التي أملتها عليهم ظروفهم التاريخية المعروفة في هذا الباب. لذلك حاولوا الترويح لمثل هذا التعبير عن عقيدة التثليث بين الأقليات الإسلامية المدجنة والموريسكية بالأندلس وترسيخه بينها. (L. Cardaillac, Moriscos y (Cristianos, pp. 208-209.

    (1/11673)

    لمثل هذه الفروق أهمية عظمى عند الأنصاري. فإضافة المسيح إلى الله في الإسلام ”إنما هي إضافة تشريف وتكريم“ (1)، وليست إضافة حقيقية تستلزم الاتحاد والحلول بين اللاهوت والناسوت. ولقد منع محمد الأندلسي هذه الدعوى ـ الدعوة، بالمنع المستند إلى نصوص الأناجيل التي تسمح للنصارى بالاعتقاد في ألوهية عيسى، بينما لا تسمح ـ في نظره ـ إلا بالإيمان بنبوته فقط. وبذلك غصب الأنصاري وظيفة المدعين من النصارى بنقض دعواهم بأدلتهم وبالاستدلال بها على دعواه.

    __________

    (1) 310/ 20.

    (1/11674)

    ... كان من المفروض أن يدور المجلس الرابع من مناظرات الأنصاري عن صلاة المسلمين وصيامهم، إلا أنه سرعان ما رجع به إلى موضوع المسيح وبنوته إلى الرب، لينقض هذه الدعوى مرة أخرى بالنقض المستند كذلك، وليغصب مرة ثانية وظيفة المدعي وأدلته عليها. هكذا تحدى الأنصاري الأسقف محاوره أن يأتيه ولو بنص واحد من: ”التوراة والإنجيل من كلام المسيح عليه السلام يقول فيه إنه إله أو ابن الله“(1)، ليجعل منه كائناً عاجزاً عن رفع هذا التحدي. فالمسيح ”نبي معصوم، ولا يمكن، بل لا يجوز أن يتكلم بهذا القول العظيم

    __________

    (1) 313/ 25.

    (1/11675)

    الذي أحوجتموه إلى إنكاره والاعتذار منه إلى الله“(1).

    ... 2. 4 ـ سبق أن ذهبنا إلى أن الخلاف الأساسي الذي تدور عليه جميع المجادلات الإسلامية النصرانية يكمن في التصورات المختلفة للنصارى وللمسلمين لله وللنبوة. ذلك هو ما استقطب مجموع الدعاوي والاعتراضات التي دارت بالمجلس الخامس الذي ناظر فيه الأنصاري، رئيس كتبة الملك وحاجبه. ولنلاحظ في هذا الصدد أن هذا الأسقف استهل مناظرته بتأكيد ضرورة احترام أخلاقيات المناظرة وقواعدها(2)

    __________

    (1) 314/7 ـ 8.

    (2) والجدير بالذكر في هذا المضمار أن الأنصاري لم يلتزم في جميع مجالسه بأخلاقيات المناظرة، فلم يتجنب الإساءة إلى خصومه بالقول (الشتم ـ السخرية ـ التشنيع) وبالفعل (الانفصال عن المناظرة والمحاور ”أشهى ما كان لمحاورتي“).

    (1/11676)

    قبل أن يعترض على دعوى المسلمين في نبيهم ورسالته، بواسطة المنع المستند. فالقرآن ـ في نظره ـ يشهد بصحة اليهودية والنصرانية بوصفهما ديناً واحداً(1)، بينما لا تشهد التوراة ولا الأناجيل بصحة الإسلام. لذلك تحدى الأنصاري أن يأتيه ”بدليل قاطع على صحة نبوة نبيكم من كتاب نبي غيره أو تفسير

    __________

    (1) ” أعني دين اليهود ودين النصارى لا اختلاف فيه كما يظن من لم يحصل عنده تحقيق“ (315/ 1)؛ ولسوف يعترض الأنصاري على ذلك، بالوقوف على عناصر الاختلاف بين هذين الدينين (القصاص ـ الطلاق ـ الختان ـ الناقوس ـ الصليب، إلخ).

    (1/11677)

    عالم من غير ملتكم“(1). فكان لزاماً على محمد الأندلسي أن يمنع هذه الدعوى ـ الاعتراض، بالاجتهاد في بلورة مجموعة من الاعتراضات على مضمونها. ففي نظره أن النصارى يعلمون صحة الإسلام وصدق رسالة نبيه، ”ولكن من يضلل الله فلا هادي له “(2). والمسيح نفسه يقول: ”وسياتي بعد البارفليط المبارك ولا ينطق إلا بالحق ولا يقول شيئاً من نفسه، وإنما يتكلم بما يوحَى إليه ويومر به وانا [جئتكم] بالأمثال وهو يجيئكم بالشرح والبيان“ (3)

    __________

    (1) 315/ 31. انظر هامش 57.

    (2) 318/ 2.

    (3) 318/ 4 ـ 5 ، في إنجيل يوحنا آيات كثيرة تفيد معنى هذا النص. (14/ 16 و 26، 15/ 26، 16/ 7). ويمكن أن نضيف إلى ما سبق أن قلناه في البارفليط ما ذهب إليه موريس بوكاي من أن دلالة فعلي "يسمع" و"يتحدث" ("Akouo" و "Laleo")، تسري على جميع مخطوطات إنجيل يوحنا في ما يتعلق بالبارفليط Paraclet. ”ذلك يقودنا بمنتهى المنطق إلى أن نرى في Paraclet عند يوحنا كائناً بشرياً مثل المسيح يتمتع بحاستي السمع والكلام […] فالمسيح يصرح بأن الله سيرسل فيما بعد كائناً بشرياً على هذه الأرض ليؤدي الدور الذي عرفه يوحنا. ولنقل باختصار إنه دور نبي يسمع صوت الله ويكرر على مسامع البشر رسالته“ (ص ص. 128 ـ 129).( Maurice Bucaille, La Bible, le Coran et la Science, p p. 108-109).

    (1/11678)

    . كما أن التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد وقع في التوراة، عندما بشر الله إبراهيم بأنه سيستجيب دعوته في إسماعيل، بمباركة ذريته ونقل النبوة إليها من ذرية إسحاق(1)، وعندما أوحى لموسى بأنه سيبعث نبياً مثله(2). كما أن الإعلان عن النبي نفسه تم في صحف أشعيا وإرميا وحيقون [حبقوق]

    __________

    (1) 318/ 10 ـ 16.

    (2) ”نبي مثلك أجعل فيه خطابي ويتكلم بجميع ما أمره“ (318/ 51)؛ ورد هذا المعنى بـ "كتاب التثنية" بهذا اللفظ: ”لهذا أقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلك، وأضع كلامي في فمه، فيخاطبهم بكل ما آمره“ (18/ 18).

    (1/11679)

    (1)، كما جاء ذكر الإسراء معجزته في صحف دانيال(2)

    __________

    (1) لم نقف في هذه الصحف على هذه الآيات التي احتج بها الأنصاري في هذا المضمار، ولعل هذا الأمر يرجع إلى اضطراب في الإحالة على النصوص. وتلك سمة من سمات هذا النوع من المجادلة. (I. A. Khalife et W. Kutsch, Ar-radd, p. 121).

    (2) ” رأيت بسحاب السماء ابن ءادم طالعاً حتى وصل إلى الرب وبين يديه تقرب“ (318/ 20)؛ ”وإذا بمثل ابن الإنسان مقبل على سحاب حتى بلغ الأزلي فقربوه منه فأنعم عليه بسلطان ومجد وملكوت لتتعبد به كل الشعوب والأمم من كل لسان“. (كتاب دانيال، 7/ 13 ـ 14).

    (1/11680)

    .

    ... هكذا أبطل الأنصاري دعوة النصارى المبطلين لدينه والمنكرين لنبوة نبيه، بالاستناد إلى كتبهم المقدسة والاستدلال بواسطتها على دعواه. لذلك أنهى مناظرته في هذا المجلس بقول جلساء الأسقف: ”ما أردنا إلا أن ننصره، فكان يقودنا إلى دينه“(1).

    ... في المجلس السادس والأخير من مناظراته، اعترض الأنصاري على دعوى ”أسقفين وقحين“ حاولا نقض تصورات المسلمين للجنة (التمتع بلذات المأكل والمشرب والجماع) وللحياة الزوجية (تعدد الزوجات) (2)

    __________

    (1) 319/ 8.

    (2) يستثمر النصارى هاتين المسألتين بالإضافة إلى الطلاق وزواج المتعة، للاستدلال على أن الإسلام مجرد دعوى محمدية محملة بصدى تطور الحياة الخاصة لصاحبها بآثار رغباته ومنازعه الحسية في هذا المضمار. (Raymond Martin, Explantio, 49-50, in A. Cortabaria).

    (1/11681)

    ، بوصفها ـ في نظرهما ـ تصورات حسية خسيسة، وشهوانيّة شبقية في آن واحد. غير أن الأنصاري تصدى لهما بنقض هذه الدعوى بنقضين مختلفين ومتكاملين. فمن جهة، تخبر التوراة والأناجيل عن الأنبياء الذين تزوجوا وتسروا بأكثر من واحدة(1)، كما تتحدث عن المسيح الذي وعد حواريه بالأكل في الجنة(2). ومن جهة ثانية، فإن المنهج الذي اتبعه الأسقفان لإبطال اللذات المذكورة يعتمد القياس الذي لا يصح في

    __________

    (1) ” فقد كان له [داوود] تسع وتسعون امرأة“ (320/ 17).

    (2) ”على مايدة السرور بحضرة القدس في ضيافة رب العالمين“ (92، 320/ 14).

    (1/11682)

    هذا المضمار، إذ لا يصح أن يقاس حال الدنيا بحال الجنة، أي قياس الغائب على الشاهد، نظراً لعدم تساوي قطبي القياس ولاختلافهما(1). ولقد كان يمكن للأنصاري أن ينهي بكل هذا وذاك آخر مجلس من مجالس مناظراته. غير أنه أبى إلا أن يعقد فصلاً أخيراً لينتصر فيه مرة أخرى لصحة نبوة نبيه وللطبيعة البشرية الصرفة للمسيح وكأن ذلك ما كان ليكفيه وليشفي غليله. فلقد فضل أن يضع هذا الانتصار في فم أحد الرهبان، ليعبر بدله عن ذلك، ويدافع عنه.

    __________

    (1) ” قياسكم الفاسد حال الدنيا بحال الجنة“ (انظر هامش 43).

    (1/11683)

    ... لقد اتخذ كل من محمد القيسي ومحمد الأندلسي الأنصاري في مناظرتهما للنصارى أدوار المدعي المعلل والمجيب معتقدين وناظرين ومحاورين، للدفاع عن تصوراتهما لله وللنبوة. كما اتخذا في الوقت نفسه أدوار المعترض والسائل والمانع لتمثلات النصارى لربهم ولأنبيائهم وعقائدهم وشعائرهم. وبذلك استخدما بعض قواعد المناظرة وأخلاقياتها. غير أن هذا لا يعني أنهما قد احترما إلى حد بعيد تلك القواعد ولا هذه الأخلاقيات. فمناظراتهما لم تراهن في الواقع على إشراك الخصم في البحث عن الحقيقة واقتسامها والالتزام بمقتضياتها، بقدر

    (1/11684)

    ما كانت تهدف إلى حماية الذات الإسلامية وتحقيقها والدفاع عنها وضمان استمرارها بين الجماعات الإسلامية في الأندلس المهددة بالتنصير. لذلك وجب مراجعة هذا النوع من المجادلة والتقعيد لتداولياتها ولأخلاقياتها، بمراعاة شروط إنتاجها التاريخية والمنطقية الخاصة بها.

    ...

    (1/11685)

    الجديد في المكتبة الأندلسية:

    كتاب »أدباء مالقة« أو سيرة كتاب ينشر لأول مرة بعد خمس وأربعين سنة من اكتشاف مخطوطته الأصلية

    ... ... ... ... الأستاذ عبد العزيز الساوري

    ... ... ... وزارة الشؤون الثقافية ـ الرباط

    ... وكم من الشيوخ الأكابر كتبوا فملؤوا الدفاتر والدواوين بأسماء رجال الأندلس خاصة فضلاً عن ذكر مصنّفاتهم وأنسابهم وفضائلهم وأحوالهم(1)

    __________

    (1) ... الأنوار النبوية في آباء خير البرية تأليف محمد بن عبد الرفيع بن محمد الشريف الحُسَيْنِي الجعفري المرسي الأندلسي المتوفى سنة 1052 هـ، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط رقم كـ 1238، صص. 342 ـ 343.

    (1/11686)

    .

    ... إذا كان مصطلح "السيرة" يختص بالأعلام، فإن للكتاب الذي نتحدث عنه في هذا العرض سيرة تشبه سير الرجال، لا تخلو من طرافة وتشويق. وهذه بعض تفاصيلها:

    ... للمحققين والدارسين الأردنيين يَدٌ يَجِبُ أن تُذكر فَتُشْكَر(1)، لما يبذلونه من جهود متواصلة في نشر التراث المغربي الأندلسي، أمثال: د. عبد الكريم خليفة، ود. صلاح جرَّار، ود. نصرت عبد الرحمن، ود. حسين يوسف خربوش، ود. محمد علي شوابكة،

    __________

    (1) ... مجلة "العرب"، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، ج 11، 12، ص 33، شتنبر ـ أكتوبر 1998، ص. 846.

    (1/11687)

    ود. عبد الجليل حسن عبد المهدي، ود. محمود عبد الرحمن خياري، ود. حسن افلفيل، والأستاذة منال منيزل. وليس المجال مجال الإفاضة في هذا الموضوع، ولكن دعا إليه الحديث عن كتاب جليل مما قام أولئك بإحيائه بالنشر والتحقيق(1)، وهو كتاب "أدباء مالقة المسمّى مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار فيما احتوت عليه مالقة من الأعلام والرؤساء والأخيار وتقييد مالهم من المناقب والآثار" لمؤلفه

    __________

    (1) ... انظر: من مساهمات الباحثين الأردنيين في تحقيق التارث الأندلسي والمغربي، بيبليوغرافيا أعدّها د. صلاح جَرّار (لم تنشر).

    (1/11688)

    أبي بكر محمد بن محمد بن علي بن خميس المالقي المتوفى بعد سنة 639 هـ.

    ... وقد تولى تحقيقه والتقديم له الصديق الأستاذ د. صلاح جَرَّار، وهو من أساتيذ الجامعة الأردنية في عمان، وصدر عن دار البشير بعمان ومؤسسة الرسالة ببيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ 1999 م، في 510 صفحة من القطع الكبير، مذيّلاً بالفهارس الضرورية.

    ... اعتمد د. صلاح جَرَّار في تحقيقه لهذا الكتاب على نسخة مصوّرة عن النسخة الخطية الوحيدة التي كان يملكها الأستاذ محمد العرائشي المكناسي، ثم آلت إلى خزانة خاصة أخرى.

    (1/11689)

    ... وتقع هذه المخطوطة في 105 ورقة من الحجم المتوسط، ومعدل سطور الصفحة الواحدة تتراوح ما بين 22 و25 سطراً. أما كلمات كل سطر، فتتراوح ما بين سبع كلمات وثلاث عشرة كلمة.

    ... ويتخلل الأسطر عناوين أسماء المترجم بهم بخط غليظ أحمر.

    ... وليس هناك تاريخ محدد للنسخ، ولكن لاحظ د. صلاح جَرَّار أن عبارة "أعادها الله" التي كان يثبتها الناسخ بإزاء اسم مدينة مالقة، تدل على أنها نسخت بعد سقوط مدينة مالقة سنة 892 هـ، ولكن اختلاف الخطوط فيها يوحي بأنها لم تكتب في زمن واحد(1).

    __________

    (1) ... أدباء مالقة، ص. 30.

    (1/11690)

    ... ويذكر د. قاسم أحمد السامرائي ـ الذي فحص أصل هذه النسخة سنة 1988 في مكتبة خاصة في الرباط حين زار مالكها في داره برفقة د. يحيى محمود ساعاتي، وصديقه المستعرب الهولندي د. بيتر شورد فان كوننكزفيلد ـ أن النص كتب »بالمداد الأسود والأحمر بخط أندلسي واضح على نوعين من الكاغد، أولهما: عربي سميك يعود إلى القرن التاسع للهجرة وأوراقه قليلة، والثاني: وهو الأغلب، أوروبي أبيض يعود إلى القرن العاشر (السادس عشر للميلاد) تظهر فيه الخطوط المائية المتوازية والعلامة المائية فيه على شكل عنقود عنب. أما تسفيرها (أي

    (1/11691)

    تجليدها)، فهو مغربي حديث جدّاً«(1).

    ... والنسخة ـ كما يصفها د. قاسم السامرائي ـ مرممة ترميماً بدائياً سيئاً طمس الكثير من أسطر رؤوس الصفحات فأخفاها. وفي آخر النسخة نقصٌ لا يزيد على بضع ورقات، وفي داخلها نقص آخر يقع في ورقة واحدة أو اثنتين(5) لا تزالان محفوظتين في خزانة الأستاذ الحسن السائح في الرباط، كما أخبرني بذلك الفقيه محمد المنوني شفاه الله تعالى، ولم تَعْلَق بهما يد المحقق بعد.

    __________

    (1) ... مخطوطة أندلسية فريدة في تراجم رجال مالقة، عالم الكتب (مجلة سعودية)، مج 9، ع 3، محرم 1409 هـ، ص. 335.

    (1/11692)

    ... وبالإضافة إلى ما في النسخة من محو ونقص وطمس، فإن فيها تصحيفاً كثيراً وسقطاً وتآكلاً في بعض الكلمات والأسطر، وأخطاء لغوية وإملائية.

    ... ونظراً إلى الأهمية الكبيرة لهذه المخطوطة، فقد نالت شهرة واسعة بين المعنيين بالمخطوطات والدارسين ومحققي التراث الأندلسي؛ إلا أنه لم يجرؤ أحد على تحقيقها ونشرها مع وجود أصلها(5)، ومنتسخات خطية كثيرة عنها، وبعض النسخ من مصوراتها في الخزائن العامة والخاصة داخل المغرب وخارجه.

    (1/11693)

    ... وقد كان الفقيه محمد المنوني شفاه الله تعالى لما بلّغته خبر صدور كتاب أدباء مالقة، قال لي: في سنة 1957، كانت نية معهد مولاي الحسن للأبحاث المغربية الأندلسية بتطوان متجهة إلى تحقيقه مشاركة مع الأستاذ محمد بن تاويت التطواني مدير المعهد آنذاك ود. محمود علي مكي. غير أن المبلغ القليل الممنوح للأستاذ محمد العرائشي المكناسي مالك المخطوطة الأصلية لهذا الكتاب حالت بين المعهد وبين المضيّ معه إلى النهاية، لذا قرّر المعهد إلقاءه من مشاريعه.

    (1/11694)

    ... كما رأيت منه نسخة مخرّجة بتحقيق د. محمد بن شريفة ولست أدري هل دفعه إلى المطبعة أولاً؟

    ... وأول من عرّف بهذه المخطوطة وقيمتها الأدبية والتاريخية في وقت مبكّر، هو المستعرب الفرنسي ليفي بروفنسال في مقالة له بعنوان: "حول شعراء مالقة في القرن العاشر"، ونشرها في مجلة "أرابيكا"، العدد الأول، سنة 1954، صص. 289 ـ 293.

    ... ثم تلاه المستعرب الإسباني خواكين بالبي برميخو في دراسة له بعنوان: "مصدر مهم في تاريخ الأندلس: "تاريخ ابن عسكر". وهذه الدراسة منشورة في مجلة "الأندلس"، في العدد 31 لسنة 1966، صص.

    (1/11695)

    237 ـ 265.

    ... وكان الذي أمَدَّهما بمصوّرة منها هو المستعرب الفرنسي جورج كولان، كما أخبرني بذلك د. محمد بن شريفة.

    ... ووجدنا بعدهما مجموعة من الدارسين قد عرَّفوا بها أيضاً. فمن هؤلاء الأستاذ محمد الفاسي في مقالة له بعنوان: "كتاب ابن عسكر وابن خميس في مشاهير مالقة"، وهي منشورة في مجلة "المناهل" التي تصدرها وزارة الشؤون القافية في الرباط في عددها 13 لسنة 1978، صص. 125 ـ 135.

    ومن هؤلاء الدارسين أيضاً الأستاذ محمد العرائشي المكناسي ـ الذي كان يحتفظ بنسخة فريدة من هذه المخطوطة ـ مقالة له بعنوان:

    (1/11696)

    "صفحات من المخطوط النادر: بعض أخبار فقهاء مالقة وأدبائها لابن عسكر"، ونشرها في مجلة "دعوة الحق" التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الرباط، في العدد 2، السنة 23، جمادى الأولى 1402 هـ/ أبريل 1982، صص. 110 ـ 114.

    ... وفي هذا المقال أعلن الأستاذ العرائشي عن نية تحقيقه لهذه المخطوطة، إلا أن هذا الأمل لم يتحقق. يقول:

    ... يسميه بعضهم "تاريخ مالقة"، والبعض الآخر "تاريخ ابن عسكر"، وهو مخطوط نادر، وتحفة أدبية تاريخية، لم يسبق له أن نشر أو عثر على نسخة أخرى في خزانة من الخزانات؛ إذ بعد البحث

    (1/11697)

    المتواصل، انتهيت إلى أنه لا وجود لنسخة ثانية من هذا المخطوط، سوى تلك النسخة الفريدة التي تعتز خزانتي باحتضانها. ومنذ أن قدمت هذا المخطوط لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات [سنة 1970 التي تنظمها وزارة الشؤون الثقافية بالرباط] (1)، وأنا منهمك في تصحيحه وجمع شتاته. وبمجرد فراغي من تصحيح القسم الأول منه، سأقدمه للطبع عندما تتيسر أسبابه بإذن الله تعالى. ونظراً لكوني أمتلك النسخة الأصلية، وهي النسخة

    __________

    (1) ... استخرج الفقيه محمد بوخبزة نسخة أخرى منه بخطه، وحصل بها على جائزة الحسن الثاني للمخطوطات سنة 1989.

    (1/11698)

    الوحيدة الموجودة منه كما ذكرت آنفاً، فإني أحتفظ بجميع حقوقي القانونية فيما يرجع للنشر؛ وكل من قام بعمل يتنافى وتلك الحقوق، فإنني أعتبره مختلساً ومعتدياً على حقوق الغير بدون موجب. أما التعريف بالمخطوط في المجلات والصحف، فإنني لا أمانع فيه(1).

    ... غير أن أدق تعريف ـ على إيجازه ـ قرأناه عن هذه المخطوطة هو تعريف الأستاذ الخبير بالمخطوطات، قاسم أحمد السامرائي في مقالة له بعنوان: "مخطوطة أندلسية فريدة في تراجم رجال مالقة" منشورة في مجلة "عالم الكتب" السعودية (مجلد 9، عدد

    __________

    (1) ... ص. 10، هامش رقم 1.

    (1/11699)

    3، محرم 1049 هـ، صص 335 ـ 336).

    ... وآخر من عرّف بهذه المخطوطة هو الأستاذ د. عبد الله المرابط الترغي في مقالة له بعنوان: "سبتة من خلال أعلام مالقة"، وهي منشورة في مجلة كلية الآداب بتطوان، العدد الخاص بندوة سبتة: التاريخ والتراث، السنة 3، ع 3، 1410 هـ/ 1989 م، صص. 135 ـ 161.

    ... وفيها يقول:

    ... ورغم أن الكتاب يتعلق بمالقة وأخبار أهلها والتعريف برجالها، فإنه لم يخل من ذكر بعض البلاد الأخرى وعرض أخبار رجالها، ولا سيما البلاد القريبة من مالقة كسبتة في عدوة المغرب. وتبرز سبتة على أكثر من واجهة بين

    (1/11700)

    مواد كتاب أعلام مالقة، فهي تبرز ضمن واجهة تراجم الرجال المعرَّف بهم سواء أكانوا سبتيين أم من بلاد غيرها. وتبرز على واجهة المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في جمع مواد كتابه. وأخيراً تبرز وبشكل لافت للنظر ضمن النصوص الأدبية التي تخص سبتة أو ترتبط بأي صنف من أصناف العلاقة التي تجمع بين الأدباء في كل من سبتة ومالقة(1).

    ... كما اعتمد عليها نفر من محققي التراث الأندلسي، مثل الفقيه محمد المنوني في كتابه "العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين"، ود. محمد بن شريفة في تحقيقه لبعض أجزاء

    __________

    (1) ... ص. 141.

    (1/11701)

    "الذيل والتكملة" لابن عبد الملك المراكشي، وكتابه: "أبو المُطرِّف أحمد بن عَمِيرَة المخزومي حياته وآثاره"، ود. إحسان عباس في تحقيقه لشعر أبي عبد الله الرّصافي البلنسي وبعض أجزاء "الذيل والتكملة"، والأستاذ إبراهيم بن مراد في تحقيقه لكتاب "مختارات من الشعر المغربي الأندلسي" تنشر لأول مرة، ود. صلاح جَرَّار في تحقيق لشعر مَرْج الكُحْل الشُّقرِي، ود. عبد السلام الهراس والشيخ سعيد أعراب في تحقيقهما لبعض أجزاء "صلة الصلة" لابن الزبير، ود. محمود ومحمد عبد الرحمن خياري في رسالته للدكتوراه: "رسائل موحدية

    (1/11702)

    جمعاً وتحقيقاً ودراسة"، والمستعربان الإسبانيان ماريا إيزابيل كاليروسكال وفيرخيليو مارتينز اينمورادو في كتابهما "مالقة مدينة الأندلس"... وآخرون.

    ... فما السبب في تردُّد وعزوف الدارسين عن تحقيقها ونشرها؟

    ... يجيب د. صلاح جرَّار، فيقول: »لعل مصدر هذا التردد هو ما يعتور المخطوطة من نقص في أولها ووسطها وآخرها، وما لحق بعض صفحاتها من تلف، وما أصاب بعض سطورها وعباراتها من طمس ومحو، وما يشوب المخطوطة نفسها من تصحيف وسقط وتقديم وتأخير وخلل، مما يجعل من قراءتها أمراً شاقّاً، ولا سيما أن نسخة هذه المخطوطة

    (1/11703)

    فريدة ولا يوجد نسخة ثانية لمقابلتها بها«(1).

    ... غير أن مثل هذه العوائق ليس مما يُعجز الأستاذ المحقق د. محمد بن شريفة على سبيل المثال، ولذلك يبدو أن سبباً آخر حال دون نشره هذا الكتاب دون شك. وفي هذا المجال أفادني د. علي لغزيوي أن ما حال دون إقدام د. محمد بن شريفة على إخراج الكتاب، على الرغم من نيته القوية، يرجع في الغالب إلى ما كان قد ذكره الأستاذ محمد العرائشي في مقالته المشار إليها، من احتفاظه بحقه في متابعة كل من يُقدم على إخراج الكتاب ونشره بحكم كونه هو المالك

    __________

    (1) ... أدباء مالقة، ص. 7.

    (1/11704)

    الحقيقي الوحيد للنسخة الأصلية منه.

    ... ونظراً لأهمية مدينة مالقة ـ وهي من أعمال كورة ريّة في الأندلس ـ موضوع هذه المخطوطة، فقد حظيت بعدة تواليف في تراجم أعلامها، مثل:

    ... 1 ـ فقهاء ريّة لقاسم بن سعدان المتوفى سنة 347 هـ؛

    ... 2 ـ رجال مالقة المُؤلَّف للحكم المستنصر؛

    ... 3 ـ تاريخ مالقة لأبي عبد الحميد إسحاق بن سلمة القَيْنِي؛

    ... 4 ـ كتاب في المشهورين من أعلام مالقة لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري؛

    (1/11705)

    ... 5 ـ الإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة الكرام لأبي العباس أصبغ بن علي بن هشام المالقي المتوفى سنة 592 هـ(1)؛

    ... 6 ـ الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة الكرام لأبي عبد الله محمد بن علي بن خضر بن هارون الغسَّاني المشهور بابن عسكر المتوفى سنة 636 هـ(2)

    __________

    (1) ... ختم أسبغ بن أبي العباس كتابه في أعلام مالقة بترجمة أبي محمد ابن الأصم المنْشِي أو المنشري المتوفى سنة 598. (انظر: الذيل والتكملة، س 5، ق 1، ص. 77).

    (2) ... له كتاب آخر ذيّل فيه كتاب السهيلي، عنوانه: "التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام"، حققه وقدم له حسن مروة، وصدر عن دار الفكر المعاصر ببيروت ودار الفكر بدمشق، الطبعة الأولى سنة 1418 هـ/ 1997 م، كما حققه الباحث حسين عبد الهادي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1404 هـ، ونال به درجة الدكتوراه.

    (1/11706)

    . وهذا الكتاب هو صلة وتتميم لكتاب أصبغ؛

    ... 7 ـ ذيل أو تذييل تاريخ مالقة لأبي الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجُذامي البُنّاهي المالقي كان حيّاً سنة 793 هـ.

    ... ويبدو أن هذا الكتاب تذييل على كتاب ابن عسكر وابن خميس الآتي ذكره، ولم نقف على ذكره إلا عند ابن الخطيب(1).

    __________

    (1) ... انظر مقال الدكتور محمد بن شريفة: "البُنّاهي لا النُّباهي" مجلة الأكاديمية، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، العدد 13، سنة 1988، ص. 78، 81؛ والإحاطة في أخبار غرناطة، ج 3، ص. 46، 193؛ ج 4، ص. 263.

    (1/11707)

    ... 8 ـ أما الكتاب الثامن ـ من الكتب التي وضعت في التعريف بأعلام مدينة مالقة وأدبائها وفقهائها ـ فهو كتاب ابن خميس الذي ينشر لأول مرة بتحقيق د. صلاح جرَّار، وهو تتمة وتكملة لكتاب خاله ابن عسكر السابق.

    ... يقول السخاوي عن ابن خميس في سياق حديثه عن مدينة مالقة:

    ... وعمل أبو عبد الله محمد بن علي بن خضر بن عسكر الغسّاني لها تاريخاً لم يكمله، فأكمله ابن أخته أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن خميس، وسماه "مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار فيما احتوت عليه مالقة من الأعلام والرؤساء والأخيار وتقييد ما

    (1/11708)

    لهم من المناقب والآثار"(1).

    ... وقد فهم المحقق »من هذا النص أن ابن خميس هو الذي اختار هذا العنوان للكتاب وليس ابن عسكر حسب قول ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة"، وابن الخطيب في "الإحاطة" اللذين جعلا كتاب "مطلع الأنوار" عنواناً آخر لكتاب "الإكمال والإتمام" لابن عسكر«(2).

    ... وفي رأيه "أن ابن عسكر سمى كتابه "الإكمال والإتمام..." وأن ابن خميس سمى تتمته لذلك الكتاب "مطلع الأنوار..." (3)

    __________

    (1) ... الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، ص. 272.

    (2) ... المصدر نفسه، ص. 18.

    (3) ... المصدر نفسه، ص. 19.

    (1/11709)

    .

    ... وتسمِّي المصادر كتاب ابن خميس: "تاريخ مالقة"، و"التتميم"، و"التكملة" و"أدباء مالقة". أما العنوان المثبت على غلاف مخطوطة هذا الكتاب، فهو: "كتابٌ جُمعَ فيه بعض فقهاء مالقة وأدباؤهم". وهذه كلها تسميات صحيحة لكتاب ابن خميس.

    ... ويؤكد المحقق »أن ما وضعه أصبغ بن أبي العباس وأبو عبد الله بن عسكر وأبو بكر بن خميس هي كتبٌ ثلاثة مستقلة وليست كتاباً واحداً، وإن كان اللاحق منها يتمم السابق. وقد اختار كل واحد من هؤلاء المؤلفين الثلاثة عنواناً لكتابه«(1).

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ص. 21.

    (1/11710)

    ... ومن الأدلة التي ساقها المحقق على أن ما وضعه ابن خميس هو كتاب مستقل عما وضعه سابقاه:

    ... 1 ـ أن ابن خميس قد نقل في كتابه مراراً من كتاب ابن عسكر وكتاب أصبغ. فلو كانت هذه الكتب كتاباً واحداً، لما احتاج ابن خميس إلى تكرار ما ذكره وأورده سابقاه؛

    ... 2 ـ لو كان ما أضافه ابن خميس جزءاً من كتاب ابن عسكر، لما وضع ابن خميس له عنواناً، ولما فرّقت المصادر في نقلها عن ابن خميس وابن عسكر بينهما؛

    ... 3 ـ لو كان ما قام به المؤلفان كتاباً واحداً، لوصلنا بجزئيه أو لضاع بجزئيه. أما أن يضيع الجزءُ الذي وضعه

    (1/11711)

    ابن عسكر ويصلنا الجزء الذي وضعه ابن خميس، لذلك دليل على استقلال كل من العملين عن الآخر(16). ويخلص د. صلاح جرَّار من ذلك إلى أن

    ... كتاب "مطلع الأنوار" لابن خميس هو كتاب مستقل عن كتاب ابن عسكر، وإن كان يتمّم ما بدأه ابن عسكر. وإنما قام ابن خميس بتأليف هذا الكتاب، وفاء وتقديراً لخاله وأستاذه ابن عسكر. ويظهر هذا الوفاء لخاله جليّاً من خلال الترجمة المطوّلة التي خصّه بها في كتابه واستغرقت نحو إحدى وعشرين صفحة(1)... وهي أطول ترجمة في الكتاب(2)

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ص. 164 ـ 184ن رقم 50.

    (2) ... المصدر نفسه، ص. 21 ـ 22.

    (1/11712)

    .

    ... ولم يقف المحقق على ترجمة لابن خميس في أي من المصادر التي رجع إليها في تحقيق هذه المخطوطة. وقد جمع بعض أخباره من خلال كتابه هذا، وبعض الإشارات القليلة جدّاً الواردة في بعض المصادر.

    ... وينبه المحقق إلى »أن آخر تاريخ وفاة ورد في كتاب ابن خميس هو سنة وفاة أبي عبد الله محمد بن عيسى بن مع النصر المومناني، وهي سنة 638 هـ. ويذكر السخاوي أن كتاب ابن خميس قد انتهى في سنة تسع وثلاثين وستمائة. مما يعني أن ابن خميس كان حيّاً في هذه السنة«(1).

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، صص. 24 ـ 25.

    (1/11713)

    ... ولهذا الكتاب فوائد جمّة. فهو أولاً مصدر أدبي وتاريخي أندلسي له مكانته المرموقة في المكتبة الأندلسية، إذ يشتمل على تراجم ثلاثة وسبعين ومائة علمٍ من أعلام مدينة مالقة والطارئين عليها.

    ... وقد حذا فيه ابن خميس »حذو أستاذه ابن عسكر في ترتيب كتابه ترتيباً هجائياً حسب الترتيب المغربي، وبدأ من حيث انتهى أستاذه. فقد وصل أستاذه إلى أول حرف الميم، فترجم ابن خميس للأعلام التي تبدأ بحرف الميم، ثم حرف الصاد، فالعين، فالغين، فالقاف، فالسين، فالشين، فالهاء، فالياء. وهذا يعني أن الأحرف الأولى... كانت من

    (1/11714)

    نصيب ابن عسكر؛ ولذلك لا نجد تراجم تبدأ بهذه الحروف في كتاب ابن خميس«(1).

    ... ويمتاز هذا الكتاب بكثير من التراجم مما لا نعثر عليه في مصدر آخر سواه، كما أنه انفرد بمعلومات كثيرة من الأعلام التي لها تراجم في مصادر أخرى.

    ... وتشمل تراجم هذا الكتاب: الخلفاء والرؤساء والأدباء والشعراء والفقهاء والمدرّسين، وغيرهم من طبقات الأعلام.

    ... أما منهج ابن خميس في الترجمة لأعلامه، فهو يقوم

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ص. 25.

    (1/11715)

    ... على ذكر اسم العلم كاملاً، ثم كنيته، ثم بلده مبيّناً إن كان من مالقة أو من أحد أعمالها أو طارئاً عليها. ثم يسوق لنا أسماء شيوخه وتلاميذه ورحلاته ومؤلفاته وأهم الوظائف التي شغلها، ثم يسوق لنا نماذج من شعره ونثره. وغالباً ما يطيل في إيراد أشعار المشاهير ورسائلهم، ويظهر لنا واضحاً ميل ابن خميس إلى الشعر أكثر من النثر، ثم يختم الترجمة بذكر تاريخ وفاة صاحب الترجمة، وفي أغلب الأحيان بذكر اليوم والشهر والسنة ومكان الدفن(1).

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، صص. 25 ـ 26.

    (1/11716)

    ... وفي هذا الكتاب أيضاً قصائد ونصوص نثرية كثيرة لا نجد لها ذكراً في مصدر آخر.

    ... ولكتاب ابن خميس هذا مقدمة بين فيها أهمية تدوين الأخبار وتقييد المناقب والآثار، ولكن هذه المقدمة أخلّت بها النسخة الخطية التي اعتمد عليها المحقق، وإنما وردت في كتاب "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ" للسخاوي(1) الذي كان يملك نسخة كاملة منه، ووصفه بقوله: »وهو في مجلد لطيف على حروف المعجم«(2).

    __________

    (1) ... صص. 49 ـ 50.

    (2) ... الإعلام بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، ص. 273.

    (1/11717)

    ... وقد أثبت د. صلاح جَرّار هذه المقدمة في بداية النص المحقق (1).

    ... استمد ابن خميس معلوماته في هذا الكتاب من مصادر وتقييدات كتابية وشفوية، وهي: كتاب "الإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة الكرام" لأبي العباس أصبغ بن هلي بن هشام المالقي المتوفى سنة 592 هـ، وبعض تقييدات أبي عمرو بن سالم، ومؤلفات خاله ابن عسكر مثل كتاب "الإكمال والإتمام"، ورسالة شيخه أبي علي الرندي إلى أهل سبتة، وكتاب "طلوع الزهرة السنية في سقوط زهرة الثنية" لمحمد بن حسن البنّالي، وتاريخ ابن حمادة

    __________

    (1) ... أدباء مالقة، ص. 43.

    (1/11718)

    السبتي وابن الفرضي والرازي وابن حيان وابن الصّيْرفي وابن أبي الفيّاض وابن مزين والحميدي، و"طبقات الشعراء" لابن الفرضي، و"رجال" أبي الفضل عياض، و"قلائد العقيان" للفتح بن خاقان، و"رجال مالقة" المُؤلَّف للحكم المستنصر، و"فهرسة" ابن الباذش، وفهرسة شيوخ أبي القاسم ابن الطيلسان المسماة: "اقتطاف الأنوار واختطاف الأزهار"، و"زاد المسافر" لصفوان ابن إدريس، و"المظفّري" لابن الأفطس، وكتاب أبي الطاهر السبتي في موثّقي زمانه، و"المقامات المُحْسنيَّة" لأبي عبد الله الجوني، و"صاحب الخبر".

    (1/11719)

    ... أما المصادر التي نقلت من كتاب ابن خميس واعتمدت عليه، فمنها "صلة الصلة" لابن الزبير، و"الذيل والتكملة" لابن عبد الملك المراكشي، و"الإحاطة" و"أعمال الأعلام"، وهما للسان الدين بن الخطيب، و"الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" للسخاوي، و »جامع مختارات من الشعر المغربي والأندلسي".

    ... وكلمة أخيرة: إن هذا الكتاب نفيس ومهم في تخصصه بمدينة مالقة، إضافة إلى أنه يقدم لنا "معلومات تفصيلية أدبية وعلمية وتاريخية كثيرة عنها، ويصوّر لنا جوانب شتى من الحياة الأدبية فيها مثل المجالس الأدبية والمعارضات الشعرية

    (1/11720)

    والعلاقات التي تربط بين الأدباء. والكتاب واحد من مصادر أندلسية قليلة وصلتنا واختصت بالتعريف بأعلام مدينة بعينها، كما فعل لسان الدين بن الخطيب في زمنٍ تال عندما ألف "الإحاطة في أخبار غرناطة". وقد أورد السخاوي في كتابه "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" أسماء طائفة من الأندلسيين الذين ألفوا كتباً في التعريف بأعلام مدن أندلسية بعينها. وقد ضاع أكثر هذه الكتب ولم يصل إلينا منها سوى عددٍ قليل(1).

    __________

    (1) ... المصدر نفسه، ص. 7 ـ 8.

    (1/11721)

    ... وأكرر القول، فأشيد بما كان للأستاذ د. صلاح جَرّار من عمل جاد ومخلص في هذا التحقيق، كما أشير بأن الكتاب سيصدر مرة أخرى هذه السنة بتقديم وتخريج وتعليق الصديق الكريم د. عبد الله المرابط الترغي ـ وهو من أساتيذ كلية الآداب في تطوان ـ عن دار الغرب الإسلامي ببيروت ودار الأمان بالرباط، تحت عنوان: "أعلام مالقة المسمّى الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة الكرام أو مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار فيما احتوت عليه مالقة من الأعلام والرؤساء والأخيار وتقييد ما لهم من المناقب

    (1/11722)

    والآثار" تأليف أبي عبد الله بن عسكر وأبي بكر بن خميس.

    ... ولنا وقفة قادمة معه للموازنة بينه وبين تحقيق د. صلاح جَرَّار.

    (1/11723)

    كتب الفتوح مصادر للدراسات الحضارية

    ... ... ... ... الدكتور عبد العزيز بن إبراهيم العمري

    كلية العلوم الاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

    ... ... ... ... ... الرياض ـ المملكة العربية السعودية

    مقدمة

    ... يعد تاريخ الفتوح والجهاد من أوسع الأبواب في التاريخ الإسلامي، حيث تحتل أحداثه مساحة واسعة في المصادر التاريخية الإسلامية. وتلك الأحداث مقرونة دائماً بامتداد الإسلام وانتشاره، وتأمين الإسلام والمسلمين في بلادهم وفي البلاد المفتوحة. وهذا بالطبع لا يعني أن الإسلام انتشر بقوة الجهاد فقط؛

    (1/11724)

    فالإسلام دين الفطرة، فيه من المقومات الذاتية ما أقنع الناس على الدخول فيه، لكن حركات الجهاد والفتوح لها الأثر الأول في حفظ معتنقي الإسلام من الخروج منه أو الإجبار على تركه؛ كما كان لتلك الحركات أثر في بقاء أقاليم كاملة تحت راية الإسلام على مر العصور، وبالتالي فإن التأريخ لانتشار الإسلام لا يستغني عن تاريخ الجهاد فهما صنوان. وقد بدأ الجهاد منذ أيام رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا الحاضر وسيظل حياً إلى يوم القيامة »الجهاد ماض إلى يوم القيامة«(1)

    __________

    (1) وضع البخاري باباً في "صحيحـ"ـه سماه "باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". (انظر: البخاري، صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير)؛ وأورد أبو داود في "سننـ"ـه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: »الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل«. (كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور، الحديث رقم 2170).

    (1/11725)

    .

    ... واهتم المسلمون بالتأريخ له في كتب مستقلة وخصوصاً العصور الأولى، فألفت فيه كتب مختلفة مثل"فتوح البلدان" للبلاذري، و"الفتوح" لابن أعثم الكوفي، و"فتوح الإسلام" للأزدي، و"فتوح مصر وأخبارها" لابن عبد الحكم، وما نسب للواقدي من كتب في هذا الباب؛ كما أن أحداثه تمثل العصب الأساسيّ في التأريخ لعصور معينة في كتب التاريخ الحولية.

    ... وهذه الكتب المختصة بالفتوح مليئة بالأحداث الأخرى والروايات المتعددة في موضوعات شتى ذات صلة بقضايا حضارية مختلفة، آثر أولئك المؤلفون التطرق إليها وإعطاءها عناوين مستقلة

    (1/11726)

    في بعض الأحيان، أو إيرادها ضمن قضايا أخرى. وتعد تلك الموضوعات والروايات في كتب الفتوح مادة علمية مهمة لا يستغني عنها الدارس للجوانب الحضارية، مع أن عناوين تلك الكتب لا توحي بذلك. ولاشك في أن بعض هذه الكتب يحوي موضوعات هامة يعتد برواياتها، ويمكن الاستفادة منها مباشرة، وبعضها الآخر يعد كتباً أسطورية ليس لها أي قيمة تاريخية تذكر، لكن يمكن الاستئناس بها في بعض القضايا إلى حد ما.

    ... ولذلك، فإن هذا البحث يناقش مدى الاستفادة من تلك الكتب في الجوانب الحضارية، مع إيراد بعض النماذج والشواهد من خلال

    (1/11727)

    الروايات الواردة فيها؛ كما يتطرق البحث لمفهوم الحضارة ومفهوم الفتوح، وأهم الكتب التي ألفت في الفتوح وأشهر طبعاتها.

    ...

    مفهوم الفتوح

    ... الفتوح جمع فتح، والفتح في اللغة نقيض الإغلاق. ويقصد به افتتاح دار الحرب ودخول دار العدو، وجمعه فتوح؛ كما يأتي الفتح بمعنى النصر والغلبة. وقد وردت لفظة "الفتح" في العديد من الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}(1)، وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم

    __________

    (1) سورة الفتح، آية 1.

    (1/11728)

    وأثابهم فتحاً قريباً}(1)، وقول الله تعالى: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}(2)، وقوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}(3)، وقول الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاًّ وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}(4).

    ... ولا يقتصر مفهوم الفتح على الانتصار العسكري فحسب، بل يتعداه إلى الانتصار في مختلف الميادين العسكرية

    __________

    (1) سورة الفتح، آية 18.

    (2) سورة الصف، آية 13.

    (3) سورة النصر، آية 1.

    (4) سورة الحديد، آية 10.

    (1/11729)

    والأدبية والأخلاقية، والتي سببت مجتمعة دخول الأقوام في البلاد المفتوحة عسكرياً في دين الإسلام بقناعة ورضا، مما سبب انتصار عقيدة التوحيد على الشرك في تلك البلدان.

    أهداف الفتوح والتأليف فيها

    ... لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً- صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة بدين الإسلام، كما قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(1). وقد وعد الله بنصر هذا الدين وإظهاره في قوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على

    __________

    (1) سورة سبأ، آية 28.

    (1/11730)

    الدين كله ولو كره المشركون}(1).

    ... ومن هذا المنطلق، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بذل جهده وسعى لتبليغ هذا الدين إلى كافة الناس دون إجبار لهم على الدخول فيه كما قال تعالى: {لا إكراه في الدين}(2)، وقال: {ما على الرسول إلا البلاغ}(3).

    ... وقد بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتصالاً سلمياً بالدول عن طريق مكاتبة ملوكها، قبل الحرب والجهاد، حيث دعاهم في تلك الكتب إلى الإسلام(4)

    __________

    (1) سورة التوبة، آية 33.

    (2) سورة البقرة، آية 256.

    (3) سورة المائدة، آية 99.

    (4) انظر حول تلك الكتب: خالد سيد علي، رسائل النبي إلى الملوك والأمراء، الطبعة الأولى، دار التراث، الكويت، 1407 هـ.

    (1/11731)

    ، وعرضه عليهم، وبلغهم إياه، حتى يعذر إليهم أمام الله وأمام الناس.

    ... وقد جاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفسه العرب واليهود، وجاهد خلفاؤه رضي الله عنهم من بعده، في وقت واحد، أقوى دولتين في العالم في ذلك الوقت، هما فارس والروم. وكان هدف الجهاد الأول تبليغ دعوة الإسلام إلى الشعوب في تلك الدول، التي كانت قواها تمنع ذلك، وكانت أنظمتها تحجب الناس عن رؤية الحق. وكان الفاتحون المجاهدون يعرفون موقف الإسلام من الدعوة، وأنه لا إكراه في الدين. ولذلك، فإنهم كانوا يعرضون على الأعداء ثلاثة أمور قبل

    (1/11732)

    الدخول معهم في أي معركة: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما القتال، وهو آخر الخيارات؛ فإن هم أسلموا، فهم من المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم؛ وإن هم دفعوا الجزية، فإن لهم حقوقاً كان المسلمون أوفى الناس بها لهم. ويقوم المسلمون بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة بين الناس. وأما الإجبار على الدخول في الإسلام، فلم يكن وارداً على الإطلاق لقول الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم

    (1/11733)

    صاغرون}(1).

    ... كما أن الكفار كانوا يحاولون القضاء على دين الإسلام بالقتال إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}(2). ومن هذه المنطلقات فإن الهدف الحروب التي جرت بين المسلمين وأعدائهم وصاحبت الفتوح إعطاء الناس الحرية الكاملة في الاختيار، وأن لا يحول بينهم وبين اختيار الدين الصحيح أية قوة أو أية دولة ثم {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}(3). وقد رصدت كتب الفتوح تلك الحركة وما

    __________

    (1) سورة التوبة، آية 29.

    (2) سورة البقرة، آية 207.

    (3) سورة الكهف، آية 29.

    (1/11734)

    يتعلق بها من تخيير الناس وإعطائهم الحرية.

    ... ونتيجة لهذه الحرية، دخل الناس في البلاد المفتوحة في دين الله أفواجاً كما وعد والله، ونظم الإسلام حياتهم العامة والخاصة، ورصدت كتب الفتوح تحقق هذه الأهداف، والمسار الحضاري الذي صاحبها، وما يمس حياة الناس في كافة المجالات، ونظم الحضارة الإنسانية المختلفة.

    تعريف الحضارة

    ... في اللغة العربية: ضد البداوة(1)، ويقابلها باللغة الإنجليزية civilisation. وقد تعددت تعريفات

    __________

    (1) ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص. 197؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج 2، ص. 10.

    (1/11735)

    العلماء لكلمة الحضارة، وتأثر بعضهم بأصل الكلمة عند الأوربيين وما يتبعها من اشتقاق(1). والحضارة سميت بذلك لاشتغال أهلها بالأمور التي تساعدهم على الاستقرار وترتيب شؤون حياتهم المعيشية. وقد أخذ مفهوم الحضارة يشمل ما يتبع الاستقرار والإقامة من »تعاون وتآزر وحسن الخلق ورقة الحاشية وتبادل الأفكار والمعلومات في كل ناحية من نواحي الحياة، من صناعة وعلوم وثقافة وقانون« (2)

    __________

    (1) انظر إلى مجموعة من هذه التعريفات عند: الواعي، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ص ص. 25 ـ 41.

    (2) توفيق يوسف الواعي، الحضارة الإسلامية، ص. 16.

    (1/11736)

    .

    كتب الفتوح

    ... كتب العديد من المؤلفين كتباً مستقلة في الفتوح، وعنونوا لها عناوين تدل على تميزها في هذا الجانب. ولاشك في أن رصد هذه الكتب يتطلب العودة إلى الكتب المتخصصة في الفهرسة، إذ إن معظم ما كتب منها يعد مفقوداً أو مدمجاً في كتب أخرى، وما طبع منها مستقلاً قليل. وقد رصد فرانز روزنتال تسعة وعشرين ومئة (129) كتاب في الفتوح. إلا أنه بدراسة للعناوين التي أوردها، تبين لي أن ما عنون بالفتوح منها هي تسعة وعشرون (29) بحثاً، وبقية ما أورده منها جاءت في قضايا جهادية عامة، أو في تاريخ قادة، أو بلدان

    (1/11737)

    بذاتها(1). وقد استفاد روزنتال من قوائم ابن النديم في كتابه "الفهرست"(2).

    ... ومما عرف من الكتب المتخصصة في الفتوح "فتوح البلدان" لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279 هـ) (3)

    __________

    (1) فرانز روزنتال، علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة د. صالح أحمد العلي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1403 هـ، ص ص. 283 ـ 287.

    (2) روزنتال، علم التاريخ عند المسلمين، ص. 273.

    (3) هو أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري، ولد في بغداد ونشأ بها، وطلب العلم وتنقل في بلاد الشام والجزيرة، وسمع الحديث والتاريخ من عدد من الرواة في زمانه؛ كما تتلمذ على يديه عدد من العلماء. حظي بمكانة خاصة عند خلفاء بني العباس وعلماء زمانه. ألف الكثير من الكتب من أشهرها أنساب الأشراف. (ت 279 هـ). [انظر: ابن عساكر، تاريخ دمشق، مخطوط مصور من المكتبة الظاهرية، المدينة، ج 2، ص. 469؛ المشهداني، موارد البلاذري في أنساب الأشراف، ج 1، ص ص. 44 ـ 67].

    (1/11738)

    ، وهو كتاب مشهور أخذه العلماء بالقبول، ويعد ـ في تصوري ـ أوثق كتب الفتوح وأكثرها دقة وشمولية(1).

    __________

    (1) تعد أقدم طبعات فتوح البلدان للبلاذري، طبعة لايدن، 1866 م، ثم طبعة الرحمانية بالقاهرة 1901 م، ثم طبعة القاهرة 1932 م، ثم طبعات بيروت 1956 م و 1957 و 1958 م و 1978 م. كما ترجم الكتاب إلى عدة لغات منها الفرنسية والإنجليزية [انظر المشهداني، محمد جاسم حمادي، موارد البلاذري عن الأسرة الأموية في أنساب الأشراف، ج 1، ص. 62].

    (1/11739)

    ... كما أن من كتب الفتوح ما ألفه ابن أعثم الكوفي(1) بعنوان "الفتوح". وقد طبع الكتاب عدة طبعات(2). والكتاب مليء بالمبالغات والأساطير التي لا تصح ولا تصدق. لكنه لا يخلو من

    __________

    (1) هو أبو محمد أحمد بن محمد بن علي، ليس هناك معلومات كثيرة عن ترجمته، ضعفه كثير من العلماء في الحديث والرواية. وهذا واضح من خلال استعراض كتابه، ولم تتحدث عنه المصادر بشيء يذكر. (ت 314 هـ) [انظر: نعيم زرزور، "مقدمة" كتاب الفتوح، ص. 8].

    (2) من أشهر طبعات هذا الكتاب وأكثرها انتشاراً طبعة بيروت، دار الكتب العلمية، 1406 هـ.

    (1/11740)

    روايات يمكن الاستفادة منها من بعض الوجوه، وما يستشهد به في هذه الوقفات يعد عندي مما يمكن الاستفادة منه بحدود من هذه الكتب.

    ... وكتاب "الردة والفتوح" لسيف بن عمر التميمي الأسيدي(1)

    __________

    (1) هو سيف بن عمر الضبي الأسدي البرجمي السعدي الكوفي، له تصانيف كثيرة في الفتوح، كان إخبارياً عالماً، متروك الحديث مقبول التاريخ، عاش في العراق، وتنقل في البلدان (ت 180 هـ) [الذهبي، ميزان الاعتدال، ج 2، ص. 255؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 4، ص. 295]. من طبعات الكتاب طبعة بتحقيق قاسم السامرائي، انظر الطبعة الثانية، الرياض، دار أمية، 1418 هـ.

    (1/11741)

    ، وفيه روايات عديدة يستفاد منها في جوانب تاريخية مختلفة.

    ... كما أن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(1) له كتاب "فتوح مصر وأخبارها". وهو كتاب جيد في بابه، ومرجع مهم للباحثين في "تاريخ مصر وأخبارها". وقد أجرى محمد جبر أبو سعدة دراسة على كتابه عنوانها "ابن عبد الحكم المؤرخ وكتابه فتوح مصر وأخبارها"(2)

    __________

    (1) ابن عبد الحكم هو: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم القرشي المصري، أشهر العلماء الذين ألفوا في تاريخ مصر في صدر الإسلام، له رواية في الحديث (ت 257 هـ).

    (2) طبع البحث في القاهرة، د. ت.، 1399 هـ/ 1979 م.

    (1/11742)

    .

    ... أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي (130 ـ 207 هـ) (1)

    __________

    (1) هو أبو عبد الله محمد بن عمرو الواقدي السهمي الأسلمي ولاءً. ولد بالمدينة المنورة سنة 130 هـ، وتلقى العلم على أهلها، رحل في طلب العلم إلى مكة المكرمة والحجاز والشام والعراق وغيرها من بلدان الإسلام، استقر في بغداد سنة 180 هـ وعاش بها بقية حياته. له الكثير من الروايات في الحديث والتاريخ، اشتهر بالتأليف في المغازي. تولى قضاء الجانب الشرقي من بغداد أيام الرشيد. له العديد من التلاميذ أشهرهم ابن سعد صاحب كتاب "الطبقات الكبرى" (ت 207 هـ). [انظر: ياقوت الحموي، معجم الأدباء، بيروت، دار إحياء التراث، ج 18، ص. 279؛ شمس الدين محمد الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405 هـ، ج 9، ص. 475؛ محمد ابن سعد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار صادر، د. ت؛ ج 7، ص. 77؛ محمد فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ج 1، ترجمة محمود فهمي حجازي، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403 هـ، م 1، ج 2، ص. 100].

    (1/11743)

    . وله العديد من الكتب المتعلقة بالفتوح، وكثير مما طبع منها كتب أسطورية لا تصح نسبتها للواقدي، وإن كان من المتوقع أن كتبه الأصلية ربما لا يزال بعضها موجوداً ضمن المخطوطات المحفوظة في المكتبات لكنها لم تر العناية الدقيقة

    من الباحثين. كما أن المخطوط منها لا يتفق بعضها مع بعض في الغالب، وإن اتفقت في التسمية، مما يدل على استخدام القصاص لاسم الواقدي ونسبة أساطيرهم وما اخترعوه من روايات إليه، وبالتالي ضياع كتبه الأصلية أمام هذا الكم الهائل مما نسب إليه.

    ... من هذه الكتب المنسوبة للواقدي:

    (1/11744)

    ... 1 ـ "فتوح إفريقيا"(1).

    ... 2 ـ "فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان"(2).

    ... 3 ـ "فتوح البهنسا"(3).

    __________

    (1) نشر في تونس 1315 هـ. (صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، معهد المخطوطات العربية، 1995، ج 5، ص. 323).

    (2) طبع في القاهرة 1309 هـ. (صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 323).

    (3) طبع في القاهرة 1278 هـ و 1290 هـ و 1305 هـ و 1311 هـ، وغيرها. (انظر: صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 324).

    (1/11745)

    ... 4 ـ فتوح الشام(1).

    ... 5 ـ فتوح العراق والعجم(2)

    __________

    (1) طبع الكتاب طبعات مختلفة، أقدمها طبعة شركة الهند الشرقية، كلكتا، 1854 م؛ كما طبع في القاهرة 1978 م، و 1891 م، و 1895 م، و 1912 م، و 1929 م، و 1935 م. ومن هذه الطبعات طبعة بيروت عن دار الجيل. ويشك كثير من الباحثين في نسبة الكتاب للمؤلف (راجع، صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 324).

    (2) طبع في الهند 1287 هـ. (انظر: صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 324)؛ كما طبع في مصر سنة 1309 هـ/ 1891 م. وقد وقفت على هذه الطبعة.

    (1/11746)

    .

    ... 6 ـ فتوح الجزيرة والخابور وديار بكر(1).

    __________

    (1) طبع الكتاب لأول مرة في ألمانيا 1827 م. (صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 324). وطبع الكتاب بتحقيق عبد العزيز فياض حرفوش، نشرته دار البشائر، بيروت، 1417 هـ. وقد قام بسام الخراشي بتحقيق الكتاب في رسالة ماجستير، قدمت لقسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض خلال العام الجامعي 1411 هـ. [انظر: زيد الحسين، دليل الرسائل الجامعية في المملكة العربية السعودية، ط 2، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، 1415 هـ، ص. 333].

    (1/11747)

    ... 7 ـ فتوح مصر(1).

    ... 8 ـ فتح منف والإسكندرية(2).

    9 ـ "الردة مع نبذة من فتوح العراق" وذكر المثنى بن حارثة الشيباني(3)

    __________

    (1) طبع في لايدن 1825 م. (صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 5، ص. 324).

    (2) طبع في لايدن 1825 هـ. ( إدوارد فندك، اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، بيروت، دار صادر، مصور عن طبعة القاهرة، دار الفجالة، 1313 هـ ص. 65).

    (3) طبع الكتاب من رواية أحمد بن محمد بن أعثم الكوفي، بتحقيق يحيى الجبوري، بيروت، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، 1410 هـ. والكتاب المطبوع قصة أسطورية خيالية نسجت بأسماء مغلوطة ووقائع مخترعة لا صحة لها، وبالتالي فإنه لا يعول عليه.

    (1/11748)

    محمد بن عبد الله الأزدي(1). وله كتاب "تاريخ فتوح الشام"(2)

    __________

    (1) هو محمد بن عبد الله بن عمار بن سوادة الأزدي الغامدي، أبو جعفر البغدادي المخزومي من علماء البصرة المعدودين، اشتهر بالحفظ ورواية الحديث. وقد وثقه العلماء وأجازوا الرواية عنه، ولد سنة 162 هـ (ت 242 هـ). [انظر: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 5، ص. 416؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 25، ص. 509؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 9، ص. 265].

    (2) طبع لأول مرة في الهند 1854 م. (صالحية، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، ج 1، ص. 55)؛ كما طبع بعناية عبد المنعم عبد الله عامر في القاهرة 1970 م، وقد اطلعت على هذه الطبعة.

    (1/11749)

    ، ويتميز كتابه بإسناد الروايات وبيان مصادرها وسلسلة وصولها إليه.

    ... و"تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية القرطبي، من القرن الرابع الهجري(1).

    ... أبو الحسن محمد البكري (ت 950 هـ) وله كتاب "فتوح مكة" المسمى "الدرر المكللة في فتوح مكة المشرفة". وهو كتاب أسطوري، مليء

    __________

    (1) أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز من علماء القرن الرابع الهجري المتقدمين في الأندلس، وقد حقق كتابه عبد الله أنيس الطباع، وأخرجت طبعته الأولى دار المعارف، بيروت 1415 هـ [انظر: عمر فاروق الطباع، مقدمة تاريخ افتتاح الأندلس، ص. 32].

    (1/11750)

    بالقصص والقصائد المنحولة(1).

    ... عبد الله بن محمد بن أبي شيبة(2)

    __________

    (1) طبع الكتاب لأول مرة سنة 1302 هـ، وقد اطلعت على طبعة للكتاب صدرت عن دار المنار بتونس، دون تاريخ.

    (2) هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ولد بالكوفة وترعرع بها، طلب العلم على أشهر علماء زمانه، اعتبر من أشهر المحدثين، روى له البخاري في صحيحه أكثر من ثلاثين حديثاً، كما روى له مسلم في صحيحه ما يزيد على ألف وثلاثمائة حديث، من أشهر تلاميذه الإمام البخاري، والإمام مسلم، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، اشتهر بكتابه المصنف الذي يحتوي على قسم في المغازي النبوية، وقسم في التاريخ والفتوح. [انظر: ابن أبي شيبة، المصنف، الجزء الرابع عشر؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 6، ص. 413؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 16، ص. 37؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 11، ص. 124].

    (1/11751)

    (ت 235 هـ) وله كتاب "الفتوح"(1).

    ... وأما الكتب الأخرى في الفتوح التي لم أعرف لها طبعات، وقد عرفت مخطوطة وانتشرت بين العلماء، ونقل عنها الكثير من المؤرخين في السابق، فمنها ما كتبه أبو مخلف لوط بن يحيى (ت 157 هـ) (2)

    __________

    (1) لم أطلع على الكتاب مستقلاًّ، ولعله جزء من كتابه "التاريخ"، حيث احتوى على أقسام خاصة بالفتوح. وقد طبع ضمن المصنف، طبعته الدار السلفية في الهند، وأعادت طباعته دار القرآن الكريم في كراتشي، باكستان، سنة 1406 هـ.

    (2) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف. تابعي لقي عدداً من الصحابة. عاش في الكوفة واشتهر بها، له مرويات متعددة عند الطبري وغيره من المؤرخين، أجمع علماء الحديث على ترك الرواية عنه لتشيعه. [انظر: ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 18، ص. 41؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 7، ص. 301؛ يحيى بن إبراهيم اليحيى، مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري. دراسة نقدية، الرياض، دار العاصمة، 1410 هـ].

    (1/11752)

    ، في فتوح الشام وفتوح العراق؛ وسيف بن عمر التميمي (ت 200 هـ) في "الفتوح الكبير"(1)؛ وأبو حذيفة إسحاق بن بشير (ت 206 هـ) في "الفتوح"؛ وأبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 221 هـ) (2) في "السواد وفتحه"، وفي كتاب "فتوح الأحواز وفتوح أرمينية"؛ والمدائني (225) (3)

    __________

    (1) لعله كتاب "الردة والفتوح" الذي حققه قاسم السامرائي.

    (2) أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي، مولاهم، البصري، له تصانيف كثيرة. اشتهر بمعرفة أنساب العرب وأيامهم، له روايات متعددة في الحديث. [انظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 10، ص. 246].

    (3) هو العلامة الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن سيف المدائني الإخباري، نزيل بغداد. له مؤلفات عديدة في السير والمغازي والأنساب. ثقة يروي عن الثقاة في الغالب. ولد سنة 132 هـ وتوفي في بغداد سنة 225 هـ. [انظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 10، ص. 401؛ ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 14، ص. 124؛ ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص. 516؛ سزكين، تاريخ التراث العربي، م 1، ج 2، ص. 139].

    (1/11753)

    في كتبه "فتوح الشام"، "فتوح العراق"، "فتوح الجزيرة"، "فتوح مصر"، "فتوح برقة"، "فتوح الأهواز"، "فتوح سجستان"، "فتوح كرمان"، "فتوح الري"، "فتوح جرجان وطبرستان"، "فتح بابل ورامامسال"(1)؛ وأبو إسحاق العطار(2) في "الفتوح"؛ وابن أبي البغل(3) في "رسائل في فتح البصرة"(4)

    __________

    (1) وقد أكثر الطبري النقولات عن المدائني في قضايا الفتوح، حيث نقل عنه في "تاريخ الأمم والملوك" ما يزيد علىخمسمئة (500) رواية.

    (2) لم أقف له على ترجمة.

    (3) لم أقف له على ترجمة.

    (4) انظر: روزنتال، علم التاريخ عند المسلمين، ص. 273؛ انظر محمد جاسم حمادي المشهداني، موارد البلاذري عن الأسرة الأموية في أنساب الأشراف، ج 1، ص. 62.

    (1/11754)

    .

    ... وقد احتوت كتب التاريخ العام العديد من أخبار الفتوح، وبموضوعات وأبواب مستقلة أحياناً، إلا أنها لا تدخل في بحثنا هذا، مع أن بعض المحققين أخرجوها أحياناً مفصولة عن مصنفاتها الأصلية، وظن بعض الناس أنها كتب مستقلة في الفتوح(1).

    التشريع والنظم

    __________

    (1) انظر قصة فتح الأندلس، عن كتاب"الإمامة والسياسة" لابن قتيبة، وقصة فتح الأندلس لابن قطبية، استخرجهما وحققهما عبد الله أنيس الطباع، بيروت، مكتبة المعارف، 1415 هـ، وهما ملحقان بكتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية.

    (1/11755)

    ... لقد كان ضمن أهداف الفتوح رفع الظلم عن المظلومين والمستضعفين الذين وقعوا تحت أيدي الطواغيت وأولياء الشيطان. قال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}(1).

    __________

    (1) سورة النساء، آية 75 ـ 76.

    (1/11756)

    ... ولذا فقد كانت الشريعة الإسلامية هي الحاكمة لأحوال المجاهدين وللمناطق المفتوحة على أيديهم، وبالتالي فقد كانوا يقيمون شريعة الإسلام في تلك المناطق. وقد استجدت بعض الأمور التي تطلبت من الخلفاء والعلماء بحثها وإيجاد التشريعات الخاصة بها مستنبطة من الشريعة الإسلامية. ولعل فرض الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة يعد في مقدمة التشريعات التي استنبطها عمر بن الخطاب من أصول شرعية صحيحة. ودعاه هذا لعقد اجتماع مع عدد كبير من علماء المسلمين وفقهاء الصحابة الذين قدموا من الأمصار المختلفة التي فتحت في تلك

    (1/11757)

    الفترة(1)؛ كما أن فرض العطاء كان إجراءاً تشريعياً كذلك. وترصد كتب الفتوح ما يتعلق بالخراج والعطاء من الناحية التشريعية واتخاذ القرارات الخاصة به، حيث يحدثنا البلاذري في عنوان مستقل عن "أحكام أراضي الخراج". ويذكر في هذا الأمر أصول تشريع الخراج، وأقوال

    __________

    (1) لمزيد من التوسع في هذه القضية، راجع: أبو يوسف، كتاب "الخراج"، الذي ألف في عهد هارون الرشيد، لبحث أصل هذا التشريع والنظام، وتوسع في قصة اتخاذ عمر لهذا التشريع وما دار فيه من مشاورات. ( أبو يوسف، الخراج، دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ، ص. 24).

    (1/11758)

    الفقهاء فيه، وما يعتري الأراضي الخاصة به من إصابات، وما تنتجه من غلات وتغير الأحكام بتغير أحوالها، وغير ذلك من التفصيلات المتعلقة بها(1). كما تحدثت بعض تلك الكتب عن اختلاف الفقهاء والمشرعين حول معاملة بعض الأراضي: فابن عبد الحكم يتحدث عن أقوال الفقهاء حول معاملة بعض الأراضي في مصر، وهل كان الفتح عنوة أو صلحاً، وما بني على ذلك من أحكام شرعية(2). وتعد كتب الفتوح مرجعاً في عهود الصلح التي عقدوها مع أهل

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص . 433.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، ص ص. 151 ـ 156.

    (1/11759)

    البلاد الأصليين، وطبقها المسلمون عبر قرون طويلة. ولا يزال ينظر البعض إليها على أنها قائمة، مثل صلح بيت المقدس(1)؛ كما يحدث البلاذري عن فرض عمر للعطاء وما يتعلق به من تنظيم سواء في مقدار العطاء أو في ترتيب أهله، وفي مصادر أمواله، وتدوين الدواوين الخاصة به(2).

    ... كما تعد كتب الفتوح مصدراً مهماً للمناظرات الفكرية والدينية التي دارت بين المسلمين الفاتحين، وبين أعدائهم من الفرس والروم، والتي كان محورها

    __________

    (1) انظر حول شروط الصلح: الأزدي، فتوح الشام، ص. 246.

    (2) انظر: البلاذري، فتوح البلدان، ص. 435.

    (1/11760)

    الحديث عن الإسلام وأصوله، وعلى رأسها توحيد الخالق وهي ديانة الأنبياء كلهم، والحديث عن بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والشريعة التي بعث بها. وهذه المناظرات كثيرة ومتعددة، ومنتشرة في أخبار كتب الفتوح ورواياتها، ويصعب حصرها وتفصيلها، وسواء كان بعضها صحيحاً أو منحولاً، فإنها تعد مؤشراً هاماً على أن قضية الجهاد والفتح لم تكن عسكرية فقط، بل كانت دينية وفكرية أيضاً(1)

    __________

    (1) انظر مناظرة معاذ بن جبل للروم، عند ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 143؛ ومناظرة المغيرة بن شعبة للفرس في المصدر نفسه، ج 1، ص. 158؛ وانظر إلى بعض هذه المناظرات عند الأزدي، فتوح الشام، ص. 197؛ وانظر إلى بعض هذه المناظرات بين بعض المسلمين ورهبان النصارى عند الواقدي، فتوح الجزيرة، ص. 41، 53. وهي مناظرة لا يحتج بها، لكنها مؤشر على قضايا فكرية معينة.

    (1/11761)

    .

    ... كما أن بعض هذه المناظرات والمحاورات وقعت بين جماعات خارجية على المسلمين من بينهم، ويمكن رصدها من خلال كتب الفتوح ومعرفة الأدلة الشرعية للأطراف المختلفة فيها(1).

    ... كما تحتوي كتب الفتوح على رصد لحياة فقهاء الصحابة وعلماء الشريعة. فكتاب ابن عبد الحكم يحوي:

    ... مادة تاريخية طيبة ومفيدة للغاية. فهي من جهة ترصد النشاط العلمي للرعيل الأول من علماء مصر من الصحابة الذين نزلوا مصر وقدموا

    __________

    (1) انظر إلى مناظرة بعض أصحاب علي ـ رضي الله عنه ـ لطائفة ممن خرج عليه عند ابن أعثم، الفتوح، ج 3، ص. 262.

    (1/11762)

    إليها من الأقطار الأخرى؛ وهي من جهة ثانية تؤرخ قدوم من قدم من الصحابة إلى مصر، وهو أمر ذو أهمية بالغة (1).

    ... كما أن ابن عبد الحكم لا يكتفي بالحديث عن هؤلاء الصحابة الذين نزلوا مصر بل يذكر الأحاديث الواردة عنهم ويرويها بسندها ويعنون لذلك بـ "ذكر الأحاديث" حيث يذكر جمعاً من الصحابة وأحاديثهم(2).

    ... كما تتحدث كتب الفتوح عن بعض الدروس والمواعظ والخطب التي ألقاها فقهاء الصحابة(3)

    __________

    (1) أبو سعدة، ابن عبد الحكم المؤرخ، ص. 97.

    (2) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص ص. 248 ـ 319.

    (3) انظر إلى بعض هذه الخطب عند ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 3، ص. 253، 255، 258؛ ج 5،

    ص. 212، 213، 356؛ وانظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، ص. 139.

    (1/11763)

    وغيرهم من العلماء. ومن أمثلة ذلك الحديث عن خطبة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الجابية حينما زار الشام، والتي لم تتوقف عند الوعظ والنصيحة، بل امتدت للحديث عن بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة(1).

    ... كما تحدث ابن عبد الحكم عن خطبة لعمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ حث فيها على الزكاة وصلة الأرحام والاقتصاد والإحسان إلى الجيران، وبين فيها بعض الأحكام الشرعية(2).

    الإدارة ...

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص. 252.

    (2) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 139.

    (1/11764)

    ... يعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول من نظم الأقاليم وعين الأمراء والعمال في أنحاء الدولة الإسلامية المختلفة. وتعد هذه أولى الخطوات الإدارية لتنظيم الدولة الإسلامية وتحديد المسؤوليات في المناطق وربطها بالعاصمة الإسلامية، وبالقائد الأول رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. وقد تحدث البلاذري بالتفصيل عن أمراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم إلى اليمن، وعن المهام التي كلفوا بها(1).

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 78.

    (1/11765)

    ... وتتحدث كتب الفتوح عن مشاورة الخلفاء والأمراء لأتباعهم وأخذ الرأي منهم، وهو مبدأ إداري أساسي سار عليه القادة(1).

    ... وقد تحدث الأزدي عن بعض المراسلات الإدارية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعماله وأمرائه(2). كما قام الأزدي برصد العديد من المراسلات التي دارت بين أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وأمرائه في بلاد الشام(3)

    __________

    (1) انظر: الأزدي، فتوح الشام، ص. 45؛ ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 191؛ البلاذري، فتوح البلدان، ص. 266.

    (2) انظر: فتوح البلدان، ص. 78.

    (3) الأزدي، فتوح الشام، ص. 30، 50، 125، 127، 135، 156، 159، 243، 244.

    (1/11766)

    .

    ... ويتحدث الواقدي عن بعض المراسلات بين عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب رضي الله عنه(1).

    ... ويحدثنا الواقدي عن مراسلات إدارية دارت بين عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما(2).

    ... ويعد ابن أعثم أكثر كتاب الفتوح إيراداً لنصوص الرسائل الإدارية في فترات الفتوح المختلفة(3)

    __________

    (1) الواقدي، فتوح البهنسا، ص. 64.

    (2) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص ص. 39 ـ 40.

    (3) انظر: ابن أعثم، الفتوح، حيث أورد العديد من هذه الرسائل، ج 1، ص. 171، 232، 254،

    267، 277، 279، 282، 287، 396، 402، 442؛ و ج 7، ص. 5، 177، 183، 184، 232،

    388، 389.

    (1/11767)

    .

    ... ويذكر البلاذري في عنوان خاص ("أمر الخاتم") اتخاذ رسول - صلى الله عليه وسلم - خاتماً خاصاً يختم به رسائله ثم استعمال الخلفاء لهذا الأمر من بعده(1).

    ... كما تعد كتب الفتوح مرجعاً هاماً لمعرفة القواد والأمراء المسؤولين عن تسيير أمور الأقاليم وإدارتها بعد الفتح، وما يتصل بذلك من عزل وتعيين ومحاسبة ومراقبة وتأديب(2)

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص ص. 447 ـ 451.

    (2) انظر إلى قضية مراقبة عمر ـ رضي الله عنه ـ لأمرائه وقسمة أموالهم، في: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 149؛ وانظر إلى قصص عزل عثمان ـ رضي الله عنه ـ لبعض أمرائه عند: ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 346؛ وانظر إلى عزل بعض أمراء بني أمية عند: ابن أعثم، الفتوح، ج 7، ص. 280.

    (1/11768)

    ؛ كما تعتبر مرجعاً للتقسيمات الإدارية في عصور الفتح وقبلها. فمن خلالها يمكن التمييز بين الإدارة والقضاء والشرطة(1). فابن عبد الحكم يتحدث عن تقسيم مصر إلى قسمين، مصر السفلى ومصر العليا، وعن دمج هذين القسمين في عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه(2).

    ... كما تحدث الواقدي في عنوان مستقل عن عزل أبي موسى الأشعري من البصرة وولاية عبد الله بن عامر عليها(3). وقد

    __________

    (1) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 236.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص ص. 63 ـ 74.

    (3) الواقدي، فتح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 132.

    (1/11769)

    تحدث الأزدي عن عزل خالد بن الوليد عن العراق وتوليته الشام(1).

    ... وتحدث ابن عبد الحكم عن ولاة المغرب في عدة مواضع من كتابه(2). وقد أوردت كتب الفتوح العديد من الروايات المرتبطة بتعيين الخلفاء ومبايعتهم. فقد تحدث الواقدي في كتاب "فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان" عن مبايعة عثمان بن عفان بالخلافة في عنوان مستقل(3).

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص. 68.

    (2) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 204، 213، 215، 217.

    (3) المصدر نفسه، ص. 130.

    (1/11770)

    ... وتحدث ابن أعثم عن قيام دولة بني العباس، وبيعة أول خلفائهم(1).

    ... كما تحدث عن بيعة هارون الرشيد(2) وخلافة الأمين(3) وبيعة المعتصم(4).

    القضاء

    ... لقد كان القضاء منظماً بين المسلمين في حياتهم المدنية العامة؛ كما أن نظام القضاء رتب بطريقة معينة بين المجاهدين في ساحات القتال في المعارك المشهورة، حتى أن كتب الفتوح تتحدث عن القضاء في المعارك المشهورة. ... ويتحدث البلاذري عن كيفية

    __________

    (1) ابن أعثم، الفتوح، ج 7، ص. 258.

    (2) لمصدر نفسه، ص. 402.

    (3) المصدر نفسه، ص. 432.

    (4) المصدر نفسه، ص. 470.

    (1/11771)

    اختيار عمر ـ رضي الله عنه ـ لبعض قضاته(1).

    ... وقد وضع ابن عبد الحكم عنواناً خاصاً ("ذكر قضاة مصر") (2). وقد تحدث في هذا الموضوع عن أوائل القضاة في مصر بعد فتحها، ثم تحدث بالتفصيل عن بقية القضاة في عهد الراشدين وفي عصر بني أمية وفي عصر بني العباس(3).

    ... وتحدث كتاب "فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان" عن القضاة في بعض بلاد فارس قبل فتح المسلمين لها(4)

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 101.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص ص. 227.

    (3) المصدر نفسه، ص ص. 227 ـ 247.

    (4) انظر: الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 114.

    (1/11772)

    .

    ... ويمكن من خلال دراسة بعض النصوص والروايات الواردة في كتب الفتوح الوصول إلى حقائق معينة في العصور المصاحبة للفتح أو السابقة واللاحقة لها، حول تنظيم القضاء في بعض المناطق سواء في الظروف العسكرية أو المدنية. وحول قواعد التعيين والعزل للقضاة(1).

    اللغة والأدب

    ... لاشك في أن اللغة العربية وآدابها قد انتشرت بانتشار الإسلام في المناطق المفتوحة. ودعا ذلك أهل اللغات الأخرى إلى تعلم اللغة العربية، وما يتبع ذلك من ثقافة إسلامية، وآداب للغة القرآن(2)

    __________

    (1) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 241.

    (2) علي بن إبراهيم النملة، مراكز الترجمة عند المسلمين، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1412 هـ، ص. 11.

    (1/11773)

    . وتحتوي كتب الفتوح على العديد من النصوص الأدبية الرائعة، منها الخطب الراقية ذات النصوص الفريدة(1)، والوصايا البليغة(2)

    __________

    (1) انظر إلى خطبة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الجابية عند الأزدي، فتوح الشام، ص. 251؛ وخطبة عبادة بن الصامت في المصدر نفسه، ص. 274؛ وخطبة أبي الدرداء، المصدر نفسه، ص. 275.

    (2) انظر إلى الوصايا البليغة المتبادلة بين أبي بكر الصديق وخالد بن سعيد بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ عند: الأزدي، فتوح الشام، ص. 23؛ ووصية أبي بكر لهاشم بن عتبة ـ رضي الله عنهما ـ في المصدر نفسه، ص. 33.

    (1/11774)

    .

    ... كما احتوت تلك الكتب على قصائد شعرية منها ما استشهد به، ومنها ما كان وليد المواقف، وبعضها صحيح النسبة لأصحابه، وبعضها الآخر منحول. فما ورد من حكايات وأشعار في ما نسب للواقدي من كتب الفتوح يعد في إجماله من الشعر المنحول. ومع هذا، ففي غالبه شعر فصيح وله معان رصينة، وبالتالي تعد كتب الفتوح سجلاً لشعر الجهاد(1)

    __________

    (1) انظر: سيف بن عمر، الردة والفتوح، ص. 11، 13، 24، 27، 37، 38، 84، 88، 149، 186، 212، 219، 236، 248، 263؛ وانظر: البلاذري، فتوح البلدان، 25، 32، 51، 60، 65، 105، 118، 126، 127، 261، 289، 331، 349، 371، 372، 377، 378، 384 387، 390، 402 ،

    ... 403، 422، 426، 428، 430؛ وانظر: الواقدي، فتوح الشام، ج 1، ص ص. 33 ـ 107 و 196 ـ 287؛ و ج 2، ص ص. 9 ـ 235، 246، 248، 249، 266، 273، 282؛ وفتوح الجزيرة والخابور وديار بكر، ص ص. 33 ـ 191؛ وفتوح البهنسا، ص. 22، 88، 111 ـ 142؛ وانظر: البكري، فتوح مكة المشرفة، ص ص. 3 ـ 48؛ وانظر: ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص ص. 83 ـ 114 وغيرها. وانظر: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص ص. 48 ـ 98، وغيرها من الصفحات؛ كما تحتوي بقية مجلدات "الفتوح" على العديد من القصائد الشعرية التي يصعب حصرها.

    (1/11775)

    ، وتعد بعض هذه القصائد سجلاًّ لمعلومات تاريخية أو جغرافية(1).

    ... كما تعد تلك الكتب سجلاً للقصص المنسوجة بطريقة أدبية رائعة، سواء منها ما كان أسطورياً خيالياً، أو ما كان حقيقياً صيغ بأسلوب أدبي فريد. فبعض هذه الكتب بكاملها عبارة عن قصص خيالية اشترك فيها رجال ونساء عرفوا حقيقة أو خيالاً.

    ... ومن أبرز القصص على سبيل المثال قصة الخنساء مع أبنائها الأربعة، وما دار بينها وبينهم من حديث وقصائد

    __________

    (1) انظر إلى القصيدة التي أوردها الواقدي، فتوح الجزيرة، والتي تتضمن وصفاً جغرافياً لبعض الأماكن، ص. 33.

    (1/11776)

    شعرية تعد من روائع القصص والشعر(1).

    ... كما تبرز قصة لامرأتين وجدتا مدفونتين في اليمن منذ زمن قديم قبل الإسلام وتركتا قصائد شعرية عند قبريهما فيها العديد من الحكم والمواعظ(2).

    ... وتعد كتب الفتوح سجلاً رائعاً لأدب الرسائل، حيث ترد نصوص مختلفة منها تعالج قضايا متنوعة، أشرنا إلى بعضها عند الجانب الإداري، كما أن البعض الآخر يتعلق بمناسبات اجتماعية أو بقضايا خاصة يصعب حصرها(3)

    __________

    (1) انظر إلى هذه القصة عند الواقدي، ص. 35.

    (2) انظر: ابن أعثم، الفتوح، ج 7، ص. 39.

    (3) انظر رسالة عمر إلى أهل الشام يعزيهم في وفاة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ عند: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص. 123.

    (1/11777)

    .

    الترجمة

    ... يتحدث كُتاب الفتوح عن مواقف معينة استخدمت فيها الترجمة من اللغة العربية إلى لغات أخرى، وخصوصاً الفارسية والرومية، وتعد من أنواع الترجمة الفورية. فالأزدي مثلاً يذكر مواقف في فتوح الشام تطلبت الترجمة وفهم اللغة الأخرى(1).

    ... وقد وردت أخبار عن إجادة بعض النساء والجواري للترجمة(2)، بالإضافة إلى الأخبار المتعددة التي تتحدث عن وجود التراجمة من الرجال.

    __________

    (1) انظر: الأزدي، فتوح الشام، ص ص. 176، 200، 101.

    (2) انظر: الواقدي، فتوح الجزيرة، ص. 57.

    (1/11778)

    ... وقد كانت دواوين الخراج منذ تأسيسها في عهد عمر بلغات غير العربية. ففي مصر بالقبطية، وفي الشام بالرومية، وفي العراق وفارس بالفارسية. وقد ذكر البلاذري أنه في خلافة عبد الملك بن مروان قام أحد كتاب الديوان من الروم بالبول في الدواة التي يستخدمها للكتابة، مما أغضب عبد الملك بن مروان ودفعه لترجمة الديوان ونقله إلى العربية(1).

    ... ولاشك أن نقل الديوان إلى العربية له ما يبرره من أسباب دينية واقتصادية وخلافها.

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 197.

    (1/11779)

    ... كما يتحدث البلاذري في موضوع مستقل عن نقل ديوان الفارسية إلى العربية زمن الحجاج بن يوسف الثقفي(1).

    ... كما يتحدث عن بدايات الخط العربي وانتشاره في المدن العربية قبل الإسلام في عنوان مستقل ("أمر الخط") أورد فيه الحديث عمن كان يجيد الخط بمكة المكرمة عند بداية الإسلام، وعن مدى انتشاره بعد الإسلام، ومن كان يكتب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ بتعلم كتاب يهود(2).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 298.

    (2) المصدر نفسه، ص. 460.

    (1/11780)

    الهجرات البشرية

    ... تطلبت عملية الفتوح مشاركات واسعة من القبائل العربية التي رحلت مجاهدة من كافة أنحاء بلاد العرب إلى مناطق الجهاد. وقد تبع ذلك هجرة هذه القبائل، وإقامتها في مناطق جديدة. وقد كان تحرك هذه القبائل ابتداءً بترتيب من الخلفاء الراشدين. فالأزدي يتحدث عن مكاتبة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لأهل اليمن، ثم يفصل ما كان من أمرهم واستجابتهم لأبي بكر ورحيلهم بأولادهم من اليمن إلى المدينة، ثم منها إلى مناطق الفتوح المختلفة، ويتحدث عن قبائل بعينها، حيث يضع عنواناً لقدوم حمير على أبي بكر

    (1/11781)

    رضي الله عنه(1)؛ كما يضع عنواناً: "وفود العرب على أبي بكر رضي الله عنه(2)؛ ويتحدث بالتفصيل عن قدوم بني سليم وجماعة من القبائل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتوجههم إلى الشام(3). وفي الوقت نفسه نرى بروزاً لهذه القبائل في الوقائع المختلفة وتميزها عن غيرها(4). ويتحدث الواقدي عن جموع القبائل التي وردت العراق قبل القادسية مع سعد بن أبي وقاص، ومعهم أهلوهم وأولادهم(5)

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص ص. 8 ـ 9، 16.

    (2) المصدر نفسه، ص. 39.

    (3) المصدر نفسه، ص. 42.

    (4) انظر: الأزدي، فتوح الشام، ص. 227.

    (5) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 15.

    (1/11782)

    .

    ... كما تحدث عن أثر لفرسان من بجيلة، ومن بني بكر بن وائل، ومن الأشعريين ومزينة(1).

    ... ويذكر ابن عبد الحكم أخباراً عن تحرك جموع كبيرة من قبائل قضاعة من الشام إلى مصر(2)؛ كما تحدث بالتفصيل عن توزيع الخطط على القبائل التي رحلت إلى مصر عند فتحها مثل خولان، ومهرة، ولخم، ومذحج، وغافق، وتجيب، وهمذان وغيرها(3).

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص ص. 69 ـ 77.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، ص. 112.

    (3) المصدر نفسه، ص ص. 98 ـ 129.

    (1/11783)

    ... ويتحدث ابن أعثم عن مراسلات دارت بين أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وقبائل كنده من أجل هجرتهم بأولادهم إلى العراق(1).

    ... وفي موضع آخر يتحدث عن البربر واستقرارهم في شمال إفريقيا(2).

    ... ويتحدث البلاذري عن سكان الطائف، وعن رحيل بعض اليهود إليها وسكنهم فيها(3).

    ... وكما لا يخفى علينا، فإنه بالمقابل هاجر كثير من الموالي من مناطق الفتح إلى بلاد العرب. ومن بينهم من تعلم وأصبح له مكانة

    __________

    (1) ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص. 55.

    (2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 495.

    (3) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 66.

    (1/11784)

    خاصة بين العرب وغيرهم من المسلمين. ويمكن رصد عدد منهم في روايات كتب الفتوح. فالبلاذري مثلاً يتحدث في عنوان مستقل عن "أمر الأسارورة والزط"، وهم جماعة من الأتراك سكنوا العراق وحالفوا بعض قبائل العرب في البصرة وخالطوهم(1).

    الحياة الاجتماعية

    ... هناك الكثير من الأخبار المتناثرة ذات العلاقة بالحياة الاجتماعية، مثل الزواج والعلاقة بالأقارب والجيران والمجتمع والأرحام وغير ذلك من الأمور الاجتماعية(2).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 366.

    (2) انظر عن بعض هذه الأخبار في مصر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 139.

    (1/11785)

    ... فمثلاً قصص الزواج كثيرة. ونطالع بعض رواياتها من خلال تلك الكتب، مثل زواج سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ من سلمى امرأة المثنى بن حارثة بعد وفاة المثنى(1).

    ... ويتحدث ابن أعثم عن زواج سجاح بنت الحارق التميمية بمسيلمة الكذاب ويورد بعض الروايات المتعلقة بهذا الزواج(2).

    ... كما يتحدث عن زواج خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ من بني حنيفة بعد موقعة اليمامة(3).

    __________

    (1) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 29.

    (2) ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 27.

    (3) المصدر نفسه، ص. 39.

    (1/11786)

    ... ويورد قصة زواج أحد أمراء بني العباس من ابنة لملك الترك في بلاد الخزر، ويصف الهدايا والتحف التي صحبت الزواج(1).

    ... كما ذكر قصة زواج هارون الرشيد بإحدى نساء بني العباس، وكيفية تعامل هذه المرأة مع زوجها الرشيد(2).

    ... ويتحدث الواقدي عن وجود سبعمائة امرأة من النخع في موقعة القادسية مات أزواجهن فتزوجن من قبائل أخرى(3).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ج7، ص. 393.

    (2) المصدر نفسه، ص. 42.

    (3) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 36.

    (1/11787)

    ... كما تتعرض بعض هذه الكتب لعلاقة النساء بأزواجهن، واحترامهن لهم وإعداد الطعام لهم، والقيام بحاجاتهم، وخدمتهم عند إصابتهم في المعارك وغيرها، وذلك من خلال قصص وروايات لوقائع محددة تمكن من معرفة طبيعة العلاقات الزوجية في المجتمعات إبان فترة الفتوح وعقبها(1)؛ كما يرد الحديث عن دور هؤلاء النسوة في الفتوح(2).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 29.

    (2) انظر: البلاذري، فتوح البلدان، ص. 141، حيث تحدث عن دور النساء في معركة اليرموك؛ وانظر: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص. 90 و 202.

    (1/11788)

    ... وتوجد نظرات اجتماعية خاصة تتعلق بالنسب والمصاهرة، يمكن معرفتها من خلال بعض الروايات(1).

    ... كما توجد أخبار خاصة ومميزة عن الوفيات، وفقد بعض الزعماء والقادة ممن لهم مكانة خاصة على الصعيد الاجتماعي وغيره(2)

    __________

    (1) انظر أقوال الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ عند: ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 186.

    (2) انظر أخبار وفاة عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ عند: ابن عبد الحكم، المصدر السابق، ص ص. 180 ـ 183، حيث وضع لها عنواناً خاصاً وتحدث عنها بالتفصيل؛ وانظر بعض أخبار الوفيات عند: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص ص. 240، 376، 495.

    (1/11789)

    .

    ... وتوجد بعض الأخبار المتعلقة بالحلي والملابس. فمثلاً نجد تفصيلات عن ملابس عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حينما قدم على بيت المقدس لمصالحة أهلها؛ كما نجد أخباراً عن ملابس أمراء المسلمين وقوادهم حينما قابلوا عمر ـ رضي الله عنه ـ في الجابية(1).

    ... ونجد عند ابن أعثم أخباراً عن أنواع الأطعمة والأشربة السائدة في تلك الفترة. ونجد أخباراً لأنواع الملابس والزينات والحلي التي يرتديها بعض القواد والمقاتلين وعوام الناس، أو التي يرتديها بعض رجال الكنيسة من نصارى العرب

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص. 353.

    (1/11790)

    وغيرهم، بالإضافة لبعض المشروبات المحرمة والمنتشرة بين أهل الكتاب، أو بعض المسلمين(1).

    ... وجرى الحديث عن بعض الخلافات والنزاعات التي دارت بين المسلمين والتي كان لها تأثير على النواحي الاجتماعية(2).

    ... ويمكن الاستئناس ببعض الروايات عن الأحوال الاجتماعية السائدة في مناطق الفتح قبل وصول الإسلام(3).

    ...

    الحياة الاقتصادية

    __________

    (1) انظر: ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 164.

    (2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 298.

    (3) انظر: الأزدي، فتوح الشام، ص. 175.

    (1/11791)

    ... يتبادر إلى الذهن حين الحديث عن كتب الفتوح ما يرتبط بالجهاد من غنائم وجزية، مما يؤخذ من الأعداء والمعاهدين. وهذا الأمر صحيح، حيث نجد الأخبار عن ذلك في أحداث المعارك المختلفة. إلا أن الأمر لا يتوقف عند الحصول عليها. فالحديث عن الغنائم يبين نوعية الممتلكات التي يكسبها المسلمون، من أنواع النقود المختلفة، والأطعمة، والأقمشة والملبوسات، وعروض التجارة المختلفة، بالإضافة إلى الثروات الحيوانية(1)

    __________

    (1) انظر الحديث عن غنائم المسلمين في القادسية عند: الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 37؛ ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص. 168؛ وانظر غنائم المسلمين في اليرموك عند: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 1، ص. 208.

    (1/11792)

    .

    ... فالبلاذري يتحدث في عنوان مستقل عن »أموال بني النضير«، وعن المزارع التي غنمها المسلمون ومحتوياتها، وعما تم فيها من توزيع وإقطاع(1)؛ كما تحدث في عنوان آخر عن »أموال بني قريضة«، ذكر فيه قسمة ما غنمه المسلمون من أموالهم(2)؛ كما تحدث البلاذري عن أموال خيبر التي غنمها المسلمون من يهود، وعن المزارع وإنتاجها، والاتفاقية التي عقدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع يهود خيبر على استزراع أرضها، وما أنتجته هذه الأرض ونصيب المسلمين

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 31.

    (2) المصدر نفسه، ص. 35.

    (1/11793)

    والمزارعين من يهود(1). كما تحدث عن مغانم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وادي القرى وتيماء(2).

    ... كما تحدث البلاذري في مواضع عدة عن غنائم المسلمين من الفرس. فهو يذكر كنوزاً أخذها المسلمون بعد فتح نهاوند فيها درر ومجوهرات وأنواع مختلفة من الحلي(3).

    ... ويتحدث ابن أعثم عن كمية هائلة من الغنائم التي أخذها المسلمون من الفرس في بيكند وغيرها، حيث احتوت على كميات هائلة من الأسلحة والآنية والجواهر وغيرها(4)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 36.

    (2) المصدر نفسه، ص. 47.

    (3) المصدر نفسه، ص ص. 2، 3.

    (4) ابن أعثم، الفتوح، ج 7، ص. 163.

    (1/11794)

    .

    ... ويتحدث كتاب فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان عن غنائم المسلمين في القادسية، وعن كمياتها وطريقة توزيعها(1).

    ... ويفصل في بعض غنائم المسلمين من بعض مدن شرقي فارس(2).

    ... وفي موضع يذكر بعض ما لدى نصارى العرب في العراق من ملابس وزينة وعدد مختلفة(3).

    ... ويفصل في موضع آخر القول في الملابس التي يرتديها بعض قواد الفرس، وما لديهم من جواهر وزينة مرتبطة بها(4)

    __________

    (1) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص ص. 27 ـ 28.

    (2) المصدر نفسه، ص. 109.

    (3) المصدر نفسه، ص. 16.

    (4) المصدر والصفحة نفسهما.

    (1/11795)

    .

    ... ويتحدث الواقدي في مواضع من كتابه "فتوح الجزيرة" عن أنواع من الهدايا والتحف والمجوهرات التي كانت تنقل بين الجزيرة وخراسان(1).

    ... أما ابن عبد الحكم، فهو يحدثنا عن تكاثر الأموال عند عمال عمر ـ رضي الله عنه ـ على الأمصار، حيث وصلت قصيدة شعرية تعرض بهؤلاء العمال؛ فشكل لجنة قاسمت العمال أموالهم(2).

    الخراج والعطاء

    __________

    (1) الواقدي، فتوح الجزيرة، ص. 78.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 149؛ و البلاذري، فتوح البلدان، ص. 377.

    (1/11796)

    ... تعد الجزية من الفروض التي يضعها المسلمون على غيرهم، وخصوصاً أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويقاتلون حتى يؤدوها، كما يقاتل مانعو الزكاة من المسلمين عند تركها. وقد كانت الجزية تفرض على أهل البلاد المفتوحة صلحاً، وبمقادير محددة ومختلفة، بحسب الأحوال الاقتصادية لمن يدفعها. وتعد الجزية مقياساً لأحوال المجتمع الاقتصادية. وقد نالت مقادير الجزية اهتماماً خاصاً من قبل كتب الفتوح. فابن عبد الحكم يتحدث بالتفصيل عن »ذكر الجزية« على أهل مصر: فبعضها مال، وبعضها طعام وبعضها زيت، إلى غير ذلك من المقادير

    (1/11797)

    المحددة(1).

    ... كما يتحدث البلاذري عن الجزية التي فرضها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نصارى نجران وتفصيلاتها، ومنها الإبل والخيل والأقمشة والنقود وغيرها(2). كما يذكر الجزية التي فرضها عمر ـ رضي الله عنه ـ على أهل الشام، وما فيها من نقود وأطعمة(3).

    ... ويتحدث البلاذري في موضع خاص عن »أحكام أراضي الخراج«، وعما يفرض عليها من أموال أو إنتاج، وعن الحكم في حال تعطيلها وعن أراضي

    __________

    (1) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح البلدان، ص ص. 151 ـ 156.

    (2) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 77.

    (3) المصدر نفسه، ص. 131.

    (1/11798)

    العشور، وعن الأحكام والضرائب التي كانت سائدة عليها قبل الإسلام، وموقف الإسلام منها(1).

    ... ويتحدث البلاذري في موضوع مستقل عن »ذكر العطاء في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه«، حيث يذكر تفاصيل مختلفة حول العطاء الذي فرض وحدد في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد أن كثرت الأموال، حيث بين مقادير العطاء التي فرضت للناس في زمن عمر ـ رضي الله عنه ـ، وعن ترتيب الناس في ديوان العطاء، وعن تنظيم هذا الأمر في كافة أمصار الإسلام، والعمال الذين أوكل إليهم العمل عليها(2)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 433.

    (2) المصدر نفسه، ص ص. 435 ـ 447.

    (1/11799)

    .

    ... كما تحدث عن توزيع الأرزاق على أهل البادية والحاضرة(1). وتشير بعض الأمصار إلى أسعار السلع المتداولة في فترات مختلفة في بعض المناطق الإسلامية(2).

    ... ويضع البلاذري عنواناً ("أمر النقود") تحدث فيه عن أنواع النقود المتداولة في فترات مختلفة، وعن أوزانها وأقيامها؛ كما تحدث بالتفصيل عن الأوزان والمكاييل المتداولة في الأمصار الإسلامية، وعن ضرب الدنانير لأول مرة في الدولة الإسلامية واستمرار الضرب بعد ذلك(3)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 440.

    (2) انظر: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج 7، ص. 163.

    (3) البلاذري، فتوح البلدان، ص ص. 451 ـ 457.

    (1/11800)

    . وتعد أخبار البلاذري في هذا الجانب على غاية كبيرة من الأهمية في رصد العملات في أول الإسلام، ومن أهم أنواع النشاط الاقتصادي.

    الزراعة

    ... الزراعة من أهم أعمدة الاقتصاد. ولاشك في أن ازدهار الزراعة في أي مكان له مراحل، وقد يتعرض لقوة أو ضعف، وبالتالي فإن التأريخ لها يحتاج إلى تتبع الروايات حولها. وتعد كتب الفتوح من المصادر التي يعتمد عليها في التاريخ للزراعة وما يتعلق بها. فالبلاذري يتحدث بالتفصيل عن المحاصيل الزراعية للطائف، ويذكر منها العنب والرمان والعسل والزبيب، ويتحدث عن أحكام الزكاة في هذه

    (1/11801)

    المحاصيل(1).

    ... كما يتحدث عن إنتاج اليمن من العسل والعنب والزبيب وأنواع أخرى من المحصولات الزراعية(2)؛ ويتحدّث عن مسح السواد في العراق، وما فيه من أنواع المنتجات الزراعية، وما فرض عليها من خراج(3).

    ... ويتحدث ابن عبد الحكم عن الزراعة في ريف مصر وما فيه من الإنتاج والمرعى(4).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 68.

    (2) المصدر نفسه، ص. 84.

    (3) المصدر نفسه، ص. 269.

    (4) ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، ص. 139، 141.

    (1/11802)

    ... كما يتحدث عن خروج جيش المسلمين إلى الريف في فصل الربيع وعنايتهم بخيولهم في هذا الموسم وتسمينها ورعيها(1). كما يتحدث عن محصول الزيتون وأهميته لدى الناس في شمال أفريقيا، وما يحصلون عليه من أموال مقابل بيعه في أفريقيا وفي أوربا(2).

    ... كما يتحدث عن جلب المحاصيل من مصر إلى الحجاز أيام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ(3)، ويتطرق لسياسة عمر في نهي جنده عن الاشتغال بالزراعة(4).

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 139.

    (2) لمصدر نفسه، ص. 185.

    (3) المصدر نفسه، ص. 163.

    (4) المصدر نفسه، ص. 162.

    (1/11803)

    ... كما يتحدث الأزدي عن أنواع من القمح والشعير وجدها المسلمون بدمشق عند فتحها(1)، وعن أنواع من الأعناب والفواكه والثمار(2).

    ... ويذكر البلاذري أنواعاً من الصيد البري في شمال الجزيرة العربية: في المناطق الساحلية القريبة من تبوك، وفي دومة الجندل(3)، والمناطق المجاورة.

    الصناعة

    ... ولاشك في أن المجتمعات البشرية على اختلافها يوجد بها حرفيون وصناعيون يقومون بتجهيز بعض احتياجات هذا المجتمع وتصنيعها.

    __________

    (1) الأزدي، فتوح الشام، ص. 103.

    (2) المصدر نفسه، ص. 113.

    (3) البلاذري، فتوح البلدان، ص ص. 71 ـ 72.

    (1/11804)

    ومن تلك الاحتياجات ما هو مدني، ومنها ما هو عسكري. وتوجد بعض الشواهد الخاصة بالصناعة، وخصوصاً العسكرية وما يرتبط بها. ومن ذلك حديث ابن القوطية عن إقامة عبد الرحمن بن الحكم لدار صناعة السفن بإشبيلية(1)؛ كما يتحدث البلاذري عن وجود منجنيق ودبابة استخدمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثناء حصار الطائف(2). وهذه صنعها أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموقع بعد أن تعلموا صناعتها من بعض الأماكن جنوب الحجاز(3)

    __________

    (1) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص. 111.

    (2) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 67.

    (3) انظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج 3، ص. 132، حيث ذكر بالتفصيل كيف بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أناساً إلى جُرش تعلموا له صنع الدبابة.

    (1/11805)

    .

    ... ويتحدث البلاذري عن صناعة القراطيس في مصر تحت موضوع "أمر القراطيس"(1).

    ... ونالت المعاملات التجارية نصيبها من الروايات في كتب الفتوح. فالبلاذري يتحدث عن تعامل نصارى نجران بالربا وكثرته فيهم، مما أغضب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عليهم(2).

    ... كما يمكن الاستدلال على أنواع السلع المتداولة في المجتمعات المفتوحة في تلك الفترة من خلال بعض روايات الفتوح. فنجد الحديث عن أنواع الطيب من العنبر والعود وأنواع الزينة من الملابس المختلفة

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 241.

    (2) المصدر نفسه، ص. 77.

    (1/11806)

    وما يتعلق بها(1)، بالإضافة لأنواع الأطعمة والملابس.

    ...

    الخطط والبناء

    ... ورد الكثير من الأخبار والموضوعات المستقلة في كتب الفتوح عن التخطيط والتعمير والبناء. فقد وضع البلاذري موضوعات مستقلة وعناوين خاصة تتعلق ببناء المدن والأمصار. فقد وضع عنواناً مستقلاً عن "تمصير الكوفة"، تحدث فيه بالتفصيل عن اختيار موقع المدينة والمراسلات التي دارت بين عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهما ـ؛ كما تحدث بالتفصيل عن بناء مسجدها وتقسيم أراضيها على

    __________

    (1) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 37.

    (1/11807)

    السكان، وما أحدثوه فيها من بناء؛ كما تحدث عن قطائعها وتوسع بنائها بعد ذلك في أيام بني أمية وبني العباس(1).

    ... وبالطريقة نفسها نجده يضع عنواناً لـ "تمصير البصرة"، ويتحدث عنها بالتفصيل في ما يزيد عن خمس وعشرين (25) صفحة، ذاكراً ما يتعلق بها من خطط وقطائع وبناء ومساجد، ومصادر للمياه عبر عصر الراشدين ("عصر التأسيس") وكل من عصر بني أمية وبني العباس(2).

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص ص. 274 ـ 287.

    (2) المصدر نفسه، ص ص. 341 ـ 365.

    (1/11808)

    ... كما تحدث بالتفصيل عن بناء مدينة بغداد وعنون لها بـ "أمر مدينة السلام"، حيث تكلم عن تخطيطها وبنائها وأسواقها وأهم عيونها، في عدة صفحات(1). ...

    ... كما تحدث البلاذري عن إعادة بناء العديد من المدن والثغور وتحصينها في وجه الأعداء زمن هارون الرشيد(2).

    ... كما وضع عنواناً خاصاً عن "حفائر مكة" تحدث فيه بالتفصيل عما جرى فيها من حفر للآبار وتجميع للمياه؛ كما تحدث فيه عن أهم بيوت مكة، ودروبها، وترتيب بنائها منذ العصر الجاهلي حتى عصر

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص ص. 293 ـ 297.

    (2) المصدر نفسه، ص ص. 175 ـ 176.

    (1/11809)

    بني العباس، وتحدث عن سجن مكة(1).

    ... كما تحدث عن »سيول مكة« المكرمة في موضوع مستقل فصل فيه الطرق التي سلكها سيول مكة، وتحدث عن تاريخ السيول(2).

    ... ووضع ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر وأخبارها" عنواناً هو »ذكر الخطط« (3)، تحدث فيه عن تفاصيل دقيقة من خطط الفسطاط عند تأسيسها فهو يتحدث عن سبب تأسيس المدينة وسبب اختيار المكان وبناء جامع الفسطاط(4)؛ كما تحدث في موضوع مستقل عن

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 60 ـ 64.

    (2) المصدر نفسه، ص. 64.

    (3) ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 92.

    (4) المصدر والصفحة نفسهما.

    (1/11810)

    »الزيادة في المسجد الجامع«(1)؛ وتحدث عن تأسيس سوق الفسطاط، والطرق داخل المدينة(2).

    ... وفصل الحديث عن توزيع الأراضي على القبائل المختلفة، وعنون لذلك "ذكر من اختط حول المسجد الجامع مع عمرو بن العاص"(3).

    ... كما تحدث عن خطط الجيزة، وعن المكاتبات التي دارت بين عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ وهمذان، وبينه وبين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حول نزول الجيزة، وبناء الحصون فيها وتوزيع الأراضي على القبائل(4)

    __________

    (1) المصدر نفسه، ص. 131.

    (2) المصدر نفسه، ص. 97.

    (3) المصدر نفسه، ص. 98.

    (4) المصدر نفسه، ص. 130.

    (1/11811)

    . وقد فصل في الحديث عن القطائع واستصلاح الأراضي ليس في زمن الفتح فقط بل وفي أيام بني أمية أيضاً(1).

    ... وتحدث عن حفر خليج أمير المؤمنين، ابتداء من الفكرة حتى التنفيذ، والنتائج الاقتصادية لذلك الحفر على مصر والحجاز(2). ولم يتوقف ابن عبد الحكم عند الحديث عن عمليات البناء، بل تحدث عن عمليات الهدم والتخريب التي حدثت لبعض القرى(3).

    __________

    (1) انظر العنوان الذي وضعه ابن عبد الحكم، فتوح مصر، "ذكر القطائع"، ص. 132.

    (2) ابن عبد الحكم، فتوح مصر، ص. 162.

    (3) المصدر نفسه، ص. 77.

    (1/11812)

    ... كما تحدث البلاذري عن حفر القنوات في بعض المناطق في العراق لتأمين وصول المياه إلى السكان(1).

    ... وتحدث كتاب "فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان" المنسوب للواقدي عن تأسيس مدينتي الكوفة والبصرة، وعن السبب في ذلك، وعن تخطيط سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ للكوفة، وبناء بيوتها ومسجدها وتوزيع أراضيها(2).

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص . 273، 366.

    (2) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 71.

    (1/11813)

    ... كما تحدث البلاذري عن إعادة بناء العديد من المدن والثغور وتحصينها في وجه الأعداء زمن هارون الرشيد(1).

    العلوم والظواهر الطبيعية

    ... هناك بعض الظواهر الطبيعية التي رصدتها كتب الفتوح، وبالتالي فهي تعد مرجعاً للعلماء المشتغلين بهذه الظواهر. فابن القوطية يرصد كسوفاً للأندلس في أيام عبد الرحمن بن الحكم(2).

    ... وابن أعثم يتحدث بالتفصيل عن الطاعون الذي أصاب المسلمين في بلاد الشام أيام عمر بن الخطاب ـ رضي

    __________

    (1) البلاذري، فتوح البلدان، ص ص. 175 ـ 176.

    (2) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص. 111.

    (1/11814)

    الله عنه ـ(1).

    ... كما يتحدث الواقدي عن المجاعة التي حدثت في الحجاز نتيجة القحط والجدْب وهو ما عرف بعام الرمادة زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، كما يتحدث عن طاعون عمواس الذي أصاب الشام أيضاً(2).

    ... كما يتحدث البلاذري بالتفصيل عن السيول التي أصابت مكة المكرمة في الجاهلية، والطرق التي سلكتها تلك السيول(3).

    __________

    (1) ابن أعثم، الفتوح، ج 1، ص. 238.

    (2) الواقدي، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، ص. 120.

    (3) البلاذري، فتوح البلدان، ص. 175.

    (1/11815)

    ... كما أن هناك بعض المعلومات التي أوردتها كتب الفتوح عن التقسيمات الجغرافية، وأسماء بعض المناطق، وتقسيماتها، والمسافات بينها(1)، وطبيعة بعض المناطق وثرواتها الطبيعية، ومنتجاتها الزراعية، والحدود الجغرافية لبعض الأقاليم(2).

    ... فابن عبد الحكم يتحدث في موضوع مستقل عن "ذكر النيل"(3)، وتتحدث تلك الكتب عن موارد

    __________

    (1) انظر طريق خالد بن الوليد من العراق إلى الشام والأماكن التي مر عليها في ص ص. 73 ـ 77.

    (2) انظر مناقشة حدود مصر عند ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص. 99.

    (3) المصدر نفسه، ص. 149.

    (1/11816)

    المياه ومواقعها والطرق التي يسلكها المسافرون(1)، فلو نظرنا مثلاً إلى وصف الأزدي للطريق التي سلكها أبو عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ حينما توجه لفتح الشام، لوجدناه يقول: »وأقبل أبو عبيدة حتى مر بوادي القرى، ثم أخذ على الحجر وهي أرض النبي صالح عليه السلام مما يلي الحجاز وهي دون الحجر مما يلي الشام وعلى ذات المنار ثم على زيزاء ثم على مأب بعمان« (2). وغير ذلك من المعلومات البلدانية والجغرافية، التي تشكل مادة أساسية للباحثين في

    __________

    (1) الأزدي، فتوح البلدان، ص. 262.

    (2) الأزدي، فتوح الشام، ص. 29.

    (1/11817)

    هذه القضايا.

    ... كما تذكر تلك الكتب معلومات تاريخية مهمة عن بعض المناطق قبل وصول الإسلام إليها. فالواقدي يذكر في مكان واحد قرابة عشرين كنيسة ودير وبيعة كانت في الجزيرة الفراتية إبان فتحها زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ(1)، وبعض المعلومات التاريخية الواردة يمتد إلى عصور موغلة في القدم، فيها معلومات هامة أحياناً، وفي بعضها الآخر أساطير وخرافات لا قيمة لها من الناحية التاريخية(2)

    __________

    (1) الواقدي، فتوح الجزيرة، ص. 92، 93.

    (2) انظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، ص. 7، حيث أورد معلومات متعددة عن تاريخ مصر القديم. وقد قام أبو سعدة في بحثه عن ابن عبد الحكم بتحليل بعض تلك الروايات، ص ص. 99 ـ 102؛ وانظر: الواقدي، فتوح البهنسا، ص ص. 5 ـ 8.

    (1/11818)

    . ...

    الخاتمة والتوصيات

    ... تتعدد كتب الفتوح وتتنوع، وتختلف أهمية رواياتها ومصداقية كتابها، فهي تحتاج إلى مزيد من الرصد والعناية والتصنيف والنقد الدقيق للكتاب، وللكتب وللروايات كل على حدة. وتبعاً لذلك، فإنه يمكن الوثوق بالعديد منها والاعتماد على ما أوردته من روايات تاريخية مختلفة في هذه الكتب؛ كما نجد أنها لم تتوقف عند الفتح والجهاد كما توحي بذلك عناوينها، بل امتدت للحديث عن القضايا الحضارية المختلفة المرتبطة بحياة الإنسان، فهي ولاشك ترصد انتشار الإسلام من الناحية الجغرافية، والجهود العسكرية

    (1/11819)

    التي بذلت من أجل ذلك، وما سبقها وصاحبها من طرق سلمية، وكتابات دعوية؛ كما أنها ترصد التغير الذي طرأ على حياة المجتمعات التي دخلها المسلمون إبان فترات الفتوح المختلفة، وخصوصاً المراحل الأولى منها، وبالتالي فهي ترصد الهجرات البشرية والحياة الاجتماعية والقضايا الاقتصادية وما يتفرع منها، كما ترصد بناء المدن والأمصار ومقومات الحياة فيها، بالإضافة إلى ذلك فهي تورد بعض الأخبار التاريخية السابقة للإسلام في تلك المناطق؛ كما أنها مرجع للدارس للحياة اللغوية والأدبية لا يستغنى عنه. يضاف لذلك أننا يمكن أن

    (1/11820)

    نستفيد منها في التاريخ الإداري للمناطق الإسلامية المختلفة وخصوصاً في عصوره الأولى.

    ... ومن خلال تلك الشواهد المختلفة في كتب الفتوح، يمكن أن ندرك أن الفتح الإسلامي ـ وخصوصاً في عصر الراشدين ـ لم يكن حركة جهادية عسكرية فحسب، بل كان امتداداً حضارياً وأخلاقياً وتنظيمياً شهد له أسلوب كتّاب الفتوح في ربطهم للقضايا الحضارية بموضوع كتاباتهم في الفتوح. فالفتح في نظرهم هو حضارة امتدت لتغير في حياة الناس في تلك البلدان مجتمعة؛ كما أن هذا التغيير لم يكن مقصوراً على البلاد المفتوحة، بل تعداه إلى الشعوب

    (1/11821)

    والمناطق التي شاركت فيه، حيث كانت هناك عقلية متفتحة أوجدت الجو المناسب للتبادل الحضاري والتطوير البشري الذي أثر في حياة الناس في المناطق التي امتد إليها الإسلام، منذ مَدّه الأول حتى عصرنا الحاضر. وأعود لتأكيد أهمية تلك الكتب لدارسي القضايا الحضارية، مع الاهتمام بالتمييز بين الكتب بعضها عن بعض وبين الروايات نفسها، من خلال منهج البحث التاريخي الصحيح والمعروف.

    المصادر والمراجع

    القرآن الكريم.

    أولاً : المصادر المطبوعة:

    (1/11822)

    ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (630 هـ ـ 1238 م)، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، 1385 هـ.

    الأزدي، محمد بن عبد الله (231 هـ)، فتوح الشام، القاهرة، مؤسسة سجل العرب، 1970 م.

    ابن أعثم الكوفي، أحمد بن محمد بن علي (ت 314 هـ)، الفتوح، بيروت، دار الكتب العلمية، 1406 هـ.

    البخاري، الحافظ أبو عبد الله إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ)، الجامع الصحيح، إسطنبول، المكتب الإسلامي، د. ت.

    (1/11823)

    البكري، أبو الحسن محمد (ت 950 هـ)، الدرر المكللة في فتوح مكة المشرفة، تونس، دار المنار، د. ت.

    البلاذري، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 هـ)، فتوح البلدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1398 هـ.

    التميمي، سيف بن عمر الأسيدي (ت 180 هـ)، الردة والفتوح، تحقيق قاسم السامرائي، ط 2، الرياض، دار أمية، 1418 هـ.

    ابن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني (ت 852 هـ)، تهذيب التهذيب، 12 جزءاً، حيدر آباد، دائرة المعارف، 1325 هـ.

    (1/11824)

    ابن حجر، تقريب التهذيب، ج 1، 2، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ط 2، بيروت، دار المعرفة، 1395 هـ.

    الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله، معجم الأدباء، بيروت، دار المعرفة، د. ت.

    الحموي، معجم البلدان، 5 أجزاء، بيروت، دار الكتاب العربي.

    الحموي، معجم الأدباء، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت.

    الخطيب البغدادي، الحافظ أبو بكر أحمد بن علي، تاريخ بغداد، 14 جزءاً، بيروت، دار الكتاب العربي، د. ت.

    (1/11825)

    أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202 ـ 275 هـ)، سنن أبي داود، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، ط 2، القاهرة، مطبعة السعادة، القاهرة، 1369 هـ.

    الذهبي، الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 847 هـ)، سير أعلام النبلاء، 23 ج، ط 1، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405 هـ.

    الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي البجاوي، بيروت، دار المعرفة، د. ت.

    ابن سعد، محمد (ت 230 هـ/ 845 م)، الطبقات الكبرى، 9 ج، بيروت، دار صادر، د. ت.

    (1/11826)

    ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد، المصنف، كراتشي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، 15 ج، مع تكرار الجزء الرابع من 1: 4، 1406 هـ.

    الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ/ 923 م)، تاريخ الأمم والملوك، الجزء 3 و4، بيروت، دار الفكر، د. ت.

    ابن عبد الحكم، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم القرشي المصري (ت 257 هـ)، فتوح مصر وأخبارها، لايدن، بريل، 1920 م.

    ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ دمشق، مصور من نسخة المكتبة الظاهرية، المدينة المنورة، مكتبة الدار، 1407 هـ.

    (1/11827)

    ابن القوطية، أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز (ق 4 هـ)، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، بيروت، دار المعارف، 1415 هـ.

    الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي، القاموس المحيط، بيروت، عالم الكتب، د. ت.

    المزي، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف (654 ـ 742 هـ )، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق بشار عواد، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1402 هـ.

    ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي (ت 711 هـ)، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، القاهرة، دار

    (1/11828)

    المعارف، د. ت.

    ابن النديم، أبو الفرج يعقوب بن إسحاق المعروف بالوراق (ت 380 هـ)، الفهرست، بيروت، مكتبة خياط، د. ت.

    الواقدي، محمد بن عمر (ت 207 هـ)، فتوح أفريقيا، تونس، مطبعة المنار، 1966 هـ.

    ـ ـ ، فتوح الإسلام لبلاد العجم وخراسان، القاهرة، مطبعة المحروسة، 1309 هـ.

    ـ ـ ، فتوح البهنسا، القاهرة، مطبعة بولاق، 1311 هـ.

    ـ ـ ، فتوح الشام، بيروت، دار الجيل، د. ت.

    ـ ـ ، فتوح الجزيرة والخابور وديار بكر، تحقيق عبد العزيز فياض حرفوش، بيروت، دار البشائر، 1417 هـ.

    (1/11829)

    ـ ـ ، الردة مع نبذة من فتوح العراق وذكر المثنى بن حارثة الشيباني، تحقيق يحيى الجبوري، ط 1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1410 هـ.

    أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 182 هـ)، الخراج، بيروت، دار المعرفة، 1399 هـ.

    ثانياً ـ المراجع:

    بدران، عبد القادر (ت 1346 هـ)، تهذيب تاريخ دمشق، ط 2، بيروت، دار المسيرة، 1399 هـ.

    الحسين، زيد عبد المحسن، دليل الرسائل الجامعية في المملكة العربية السعودية، ط 2، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1415 هـ.

    (1/11830)

    روزنتال، فرانز، علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح أحمد العلي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1403 هـ.

    سزكين، فؤاد محمد، تاريخ التراث العربي، المجلد الأول، الجزء الأول، ترجمة محمود فهمي حجازي، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403 هـ.

    أبو سعدة، محمد جبرا، ابن عبد الحكم المؤرخ وكتابه فتوح مصر وأخبارها، القاهرة، 1399 هـ.

    صالحية، محمد عيسى، المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع، 5 أجزاء، القاهرة، معهد المخطوطات العربية، 1395 هـ.

    (1/11831)

    علي، خالد سيد، رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، ط 1، الكويت، دار التراث، 1407 هـ.

    كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، 15 ج، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت.

    المشهداني، محمد جاسم حمادي، موارد البلاذري عن الأسرة الأموية في أنساب الأشراف، ط 1، مكة المكرمة، مكتبة الطالب الجامعي، 1407 هـ.

    الواعي، توفيق يوسف، الحضارة الإسلامية مقارنة بالحضارة الغربية، ط 1، القاهرة، 1407 هـ.

    النملة، علي بن إبراهيم، مراكز الترجمة القديمة عند المسلمين، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1412 هـ.

    (1/11832)

    كنط والعصور الحديثة

    الدكتور محمد سبيلا

    كلية الآداب – الرباط

    لم تشرع الحداثة الغربية في تلمس الوعي نجز انصرام إلا بعد انصرام ما يقارب ثلاثة قرون على انطلاق ديناميتها في أوربا الغربية عند مطلع القرن الخامس عشر.

    فقد انطلقت حركة الحداثة (التي هي التسمية الفكرية لمسمى تاريخي تحقيقي متداول هو . العصور الحديثة) مع أحداث تاريخية كبرى (أهمها اكتشاف العالم الجديد من طرف كريستوف كولومبوس سنة 1492، وسقوط بيزنطة 1453...) وأحداث علمية وتقنية هامة (اكتشاف الطباعة مع غوتنبرغ سنة 1440، وفلكيات كوبرنيقوس

    (1/11833)

    ،41526، واكتشاف الدورة الدموية . . .) وأحداث فكرية محددة (النهضة الفنية في إيطاليا، و أطروحات مازلن لوثر الاحتجاجية سنة 1517، وظهور كتاب "مقال في المنهج " لديكارت سنة 1637... ).

    وتلك أحداث يأخذ ب حضها برقاب ب حض ضمن دينامية كلية لم تتوقف مسيرتها التي تتزايد سرعة ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي . وقد شكلت هذه الأحداث العلامات البارزة لسيرورة لم تنته أشواطها الكبرى إلى الان . فما تزال الحداثة تشكل الأفق المنظور للعالم الحديث ، حتى ضمن ما يدعى بما ب حد الحداثة الذي لا يعدو أن يكون مرحلة ثانية

    (1/11834)

    من مراحل الحداثة، مرحلة غيرت فيها هذه الأخيرة سرعتها وعمقت فيه منطقها.

    هذه الأحداث والوقائع المتنوعة، المشتتة في المكان والزمان ، والتي أدرجها المؤرخون باكرا ضمن المرحلة التاريخية الجديدة (العصور الحديثة)، هي في الظاهر

    أحداث لا رابط بينها باستثناء عملية إدراجها ونظمها ضمن تصنيف زمني لعصور ا لتاريخ .

    أول مفكر تحقق لديه وعي واضح بالروابط العميقة الثاوية خلف هذه الأحداث ، واستني حر جدتها الكلية بالقياس إلى ما سبقها، وفطن إلى الدلالة الفلسفية المشتركة بين هذه الأحداث المتناثرة والمتنافرة هو هيجل

    (1/11835)

    (Hugel). فمعظم مؤرخي فكرة الحداثة يؤكدون أن الحداثة لم تع ذاتها فلسفيا، وبشكل صرج وواضح ، إلا مع هيجل . فقد استعمل هذا الأخير مصطلح العصور الحديثة استعمالا خاصا يتميز عن المفهوم الزمني المتداول لدى المؤرخين ، والذي يشير إلى مجرد حقبة أخرى من حقب التاريخ وفق التصنيف التاريخي المتداول : عصور قديمة - عصور وسطى - عصور حديثة.

    فالعصور الحديثة، في منظور هيجل ، هي عصور جديدة كل الجدة، عصور مختلفة نوعيا عما سبقها. العصور الحديثة بهذا المعنى تصف الحاضر على أنه فترة انتقال تستنفد ذاتها في الوعي بالتسارع

    (1/11836)

    من جهة، وبانتظار ولوقع لمستقبل مختلف نوعيا عن الحاضر وجذريا عن الماضي .

    في مقدمة كتاب "فينومينولوجيا الروح "، يصف هيجل الزمن الذي يعيش فيه بأنه "زمن ميلاد وانتقال نحو حقبة جديدة. فقد قطعت الروح مع ما كانه العالم إلى حد الآن ، في وجوده وتمثيله . إن هذا الزمن الآن هو في طور إغراق كل ذلك في الماضي ، كما أنه ب حمل الآن على تمثله . إن الفلق الذي يداهم ما ظل باقيا إلى حد الآن ، والإحساس الغامض ب (ـقدوم ) شيء مجهول ، هي العلامات المبشرة بأن شيئا آخر (مختلفا) يتهيأ. إن هذا الانفتات . .. يقطعه بزوغ

    (1/11837)

    الشمس التي تحاول ، في رمشة عين ، ودفعة واحدة، أن تقيم صرح العالم الجديد"(1).

    كان هيجل - فيما يرى هابرماس - هو أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإيحاءات والإلهامات المعمارية للماضي التي هي غريبة عنها، في صيغة مشكل فلسفي "(2). ففي نهاية القرن 18 بدأت الحداثة تطرح على نفسها مشكلة العثور في

    (1) HabermasDiscours philosophique de modernité gallimard 1985 p 7

    (2) المرجع نفسه ، ص 18.

    ذاتها على مشروعيتها الخاصة، أو أن تستمد، بلغة هابرماس ، ضمانتها من ذاتها. وقد اتخذت هذه المسألة صورة حادة لدى هيجل

    (1/11838)

    حيث تناولها كمشكل فلسفي ، بل كمشكل أسا!س في فلسفته . فبسبب غياب نماذج سابقة جاهزة، فإن الحداثة وجدت نفسها مرغمة على أن تجد توازنها، بل توازناتها، انطلاقا من الانقطعات التي أحدثتها هي ذاتها، وهي الانقطاعات التي نتجت عنها اختلالات ولدت قلقا اعتبره هيجل مصدر الحاجة إلى الفلسفة. وذلك من حيث أن الفلسفة بدأت ترى ذاتها، ابتداء من ذلك الوقت ، مكلفة بترجمة عصرها وزمنها إلى أفكار. بل إن هيجل مقتنع تماما بأنه يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها خارج مفهوم الحداثة( 3 ) .

    (1/11839)

    إن سؤال الحداثة إذن ليس مجرد سؤال - من بين عدة أسئلة - قي حين على الفلسفة أن تطرحه على نفسها، بل ربما كان هو السؤال المركزي ، سؤ"ل الأسئلة الذي يطرحه العصر على نفسه من خلال الفلسفة ليفهم ذاته رب حرف ماهيته ومعناه ويستشرف مآله .

    لكن إذا لم يكن هناك جدال في كون هيجل هو الرائد الأول للوعي الفلسفي بالحداثة، فإن هناك اختلافا كبيرا وتباينا واضحا حول موقع كنط من الحداثة وحول مدى وعيه بها.

    يزيد هذا الموضوع بلبلة وارتباكا كون فلسفة كنط قد ظلت منذ اكتمالها محط تأويلات مختلفة، كما شهدت الساحة الفلسفية في

    (1/11840)

    ألمانيا وفرنسا بالخصوص موجات من الكنية الجديدة، تبلورت في ألمانيا عبر مدرستين كبيرتين . مدرسة ماربورج ومدرسة هيدلبرغ . ركزت المدرسة الأولى على الإبستمولوجيا، والعلم ، ونقد كنط للميتافيزيقا، في حين ارتبط أتباع المدرسة الثانية بالفلسفة الحيوية المعادية للعلوم الطبيعية والمناوئة لعقلانية عصر التنوير، ولمحاولات فهم حياة الإنسان فهما علميا(9).

    (3) المرجع نفسه ، ص 19.

    (4) صادق جلال العظم ، دفاعا عن المادية والتاريخ ، بيروت ، دار الفكر الجديد، 1990، صص85-94 . Atlas de philosophie T,F, Paris 1993,p .

    (1/11841)

    174

    تبين التأويلات المسايرة لمدرسة ماربورج بأن كنط قد عمل على التوفيق بين التفسير الميكانيكي للطبيعة والتفسير الغائي . فهو، على غرار ليبنتس ، يقيم نظام الكون على الغائية، لكنه لا يذهب إلى حد المغالاة الليبنتسية المتمثلة في مفهوم التناسق الأزلي ! إذ يرى أن القوانين الكلية المتحكمة في الطبيعة تعمل بالضرورة وبالفطرة في انسجام مع النظام الكوفي دون أن تخرج عن سياقها الغائي . وهكذا عمل كنط على التوفيق بين الفكر الطبيعي المدرسي، وفكر الطبيعة الحديث عن طريق إثبات القوانين الميكانيكية الكامنة في

    (1/11842)

    الطبيعة، معارضا النزعات والاتجاهات المدرسية، لكنه في الوقت نفسه يقر بوجود عقل كلى ناظم للقوانين الميكانيكية التي تحكم المادة وتحقق لها الانسجام والوحدة والاطراد، وتحميها من الصدفة والعبث (5).

    فوكو : كنط عتبة الحداثة :

    وعلى النقيض من هوسرل الذي يرفض أن يرى في الكنية عتبة الحداثة، من حيث إن إشكاليتها تماثل إشكالية ديكارت وترتكز عليها ، فإن هيدجر يعتبر كنط مؤسس أو رائد (L’instigateur) الحداثة الفلسفية : فالمحدودية الأساسية للكائن البشري التي تولدها وتعكسها س حرفة الظواهر عن طريق الحدس الحسي لا

    (1/11843)

    الحدس العقلي تمحو المعرفة التمثيلية المميزة للعصر الكلاسيكي لصلح، مدلول

    التمثيل (6).

    يقتفي فوكو أثر هذا التحليل الهيدجري تقريبا، ومعتبرا كنط "عتبة حداثتنا"،. فهو الفيلسوف الذي سيجعل الفلسفة تهتم بالإنسان ، لأن عتبة الحداثة لا تتجسد في اللحظة التي تم الاتجاه فيها إلى دراسة الإنسان دراسة موضوعية، بل عندما أصبح الإنسان وحدة تتشكل من عنصرين : التجريبي والمتعالي ، وهى القسمة التي ظهرت مع كنط ومهدت لظهور الإنسان كموضوع على سطح المعرفة وتناوله من زاويتين (7).

    (1/11844)

    (5) محمد عثمان الخشت ، فلسفة الدين في ضوء تأويل جديد للنقدية الكنطية، دار غريب ، القاهرة،ص 91.

    (6) G.Leblanc, Le conflit des modernités selon Foucault In magazin littéraire n 309 avril 1993 p 57. Voir heidegger kant et le probléme de la métaphysique pp 86-95.

    (7) foucaut, les mots et les choses, gallimard, 198 p 320.

    إلا أن فوكو يتناول حداثة كنط من زاوية أخرى هي علاقته بالتنوير، وذلك من خلال تحليل نصه الشهير . "ما هو عصر التنوير ؟". يكتسي هذا النص أهمية مزدوجة بالنسبة لفوكو : أولا من حيث

    (1/11845)

    انتماؤه إلى مجال خاص من القضايا التي فعالجها الفلسفة، وهو مجال التاريخ والأحداث . فهو يتناول هذا الحدث التاريخي، محاولا أن يفهم تيمته وتأثيره على الأحداث اللاحقة له . ومن ثمة، فإن هذا المقال بعكس وعي الفيلسوف بالعصر الذي ينتمي إليه ، وبالأحداث التي ستغير وجه ووجهة التاريخ . ثانيا أهمية هذا النص بالنسبة لمشكلة الحاضر وسؤال الحاضر. يلاحظ فوكو أن كنط كتب حول التاريخ ، لكن نص "ما هو عصر التنوير ؟" نص متميز من حيث إنه لا يبحث في مسألة أصل التاريخ أو مشكلة التقدم ، باط هو نص يطرح سؤال الحاضر ومسألة

    (1/11846)

    الآن أو الراهن ، مقحما على السؤل حول التنوير سؤالا آخر في غاية الأهمية هو: "هل نحن نعيش الآن قرنا مستنيرا ؟"، محاولا استبانة تميز العصر الراهن عما سبقه من عصورهم مما ب حله ربما أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعا للتفكير. الجديد لدى كنط هو أن الفكر لم يعد مكتفيا باتخاذ موقف من الفكر السابق بالقبول أو الرفض ، ولم يعحد يقتصر على التساؤل عما إذا كان القدماء أفضل من المحدثين أو العكس ، بل أخذ يطرح مسألة الراهنة(8).

    (1/11847)

    لكن فوكو يرى أيضا أننا لا يمكن أن نفصل سؤال التنوير عن سؤال آخر يتبين فيه أن ما كان يهم كنط ليس الثورة في حد ذاتها، بل الآثار المتبقية في أذهان الناس الذين لم يعيشوا مخاضها. ما كان يهم كنط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية. فالثورة والتنوير حدثان لا يمكن نسيانهما، لأنهما يطب حان عص! ر كنط ويمثلان حضورا وراهنية لا يمكن التغاضي عنها. إن هذين السؤالين - فيما يرى فوكو - ما فتئنا يترددان على جزء كبير من الفلسفة منذ القرن 19 إن لم نقل على

    (1/11848)

    كل الفلسفة الحديثة". إن هذين السؤالين يحددان ويوجهان مجال التساؤل الفلسفي عن هوية وجودنا في الآنية التي نعيش فيها(9).

    (8) Foucault, Qu’est ce que les lumiéres magazin littéraire n 309 1993 voir aussi le cours publié in magazin littéraire n 207 1984 pp 35-39.

    (9) فوكو، "كنط والثورة"، مجلة الكرمل ، العدد 12، سنة 1984 ، صص 70-71.

    بهذين السؤالين إذن يكون كنط قد مهد لفلسفة تهتم بأنطولوجيا الحاضر التي حضرت بقوة في الفكر الألماني من هيجل إلى نيتشه إلى ماكس فيبر وهيدجر.

    (1/11849)

    وهكذا، فإن كنط يمثل - في نظر فوكو- "عتبة حداثتنا" سواء من المنظور الأنتربولوجى أو من المنظور اجميولوجي أو من حيث الكتابة عن تاريخ الحاضر. وهذا ما دفع البعض إلى القول بأن كنط يمثل - في نظر فوكو- نقطة التقاء العديد من مسارات الحداثة وروافدها، بل نقطة التقاء صراعاتها ومخاضاتها الفكرية المختلفة وكأنها حداثات متقاطعة لا مجرد حداثة واحدة(10).

    هابرماس : الفلسفة الكنطية مرآة الحداثة

    يذكر هابرماس أن هيجل يرى أن ماهية العالم الحديث تتركز (Se concentre) في فلسفة كنط التي هي بؤرة (foyer ) هذا العالم ،

    (1/11850)

    ونوع من التأويل الذاتي له (Autoexégése)(11)، وأن عصر الأنوار الذي جعل من العقل صنما يعببد، وينعكس ويلمع (culmine)في فلسفة كنط (12).

    إلا أن هابرماس يعود إلى التأكيد بأن كنط "لم يفهم الحداثة كما هي ، وإن كان معماره الفكري قد عبر عن العالم الحديث . فالسمات الأساسية لهذا العصر تنعكس (se reflétent) على الفلسفة الكنطية كما لو كانت مرآة،.

    إن أساس فلسفة كنط هو فلسفة الذات والتأمل (أو الانعكاس ) (Philosophie de la réflexion). فهذه الفلسفة هي القاعدة الفلسفية التي أقام عليها كنط أنماط النقد الثلاثة

    (1/11851)

    التي شكلت البنية العامة لفلسفته ، منصبا العقل النقدي محكمة عليا قي حين أن يخضع لحكمها وقرارها كل شيء ولا يستمد صلاحيته إلا منها. قوام هذه الذاتية الفلسفية هى الذاتية المجردة كما عبر عنها الكوجيتو الديكارتي ، و"لوعي المطلق بالذات عند كنط ، وتعني علاقة الذات العارفة بنفسها من حيث إنها تنكب

    leblanc le conflis des modernités selon Foucault (10)

    (11) Habermas, le discours philosophique de la modernité, t.f. gallimard 1984, pp.22-23.

    (12) المرجع نفسه ، ص 28.

    (1/11852)

    على ذاتها كموضوع ، من أجل إدراك ذاتها، وكأنها أمام صورة مرآوية، أي بصورة انعكاسية(13).

    أول مظاهر الانعكاس هو استبدال كنط للمفهوم الجوهري الموحد للعقل ، وهو المفهوم المتوارث عن التراث الميتافيزيقي السابق ، بعقل مقسم إلى عناصر لا تقوم بينها إلا وحدة صورية. فكنط يفصل بين ملكات ثلاث ، أي بين العقل العملي ، والحكم الجمالي ، والمعرفة النظرية، مرسيا كل واحدة منها على أساس خاص . ومن حيث أن العقل النقدي يقدم أساس إمكانية المعرفة النظرية والحكم الأخلاقي والتقييم الجمالي ، فإنه لا يكتفي بالتأكد من ملكاته

    (1/11853)

    الذاتية، ولا بإبراز البنية المعمارية للعقل ، بل يريد أن يلعب دور الحكم أو القاضي الأعلى تجاه مظاهر ومكونات الثقافة كلها. وبذلك تصبح الفلسفة هي الراسم لحدود دوائر الثقافة برمتها كال ملم والتقنية، وكالقانون والأخلاق ، ومثل الفن و"لنقد الجمالي ، وفق معايير صورية، مضفية المشروعية عليها داخل هذه الحدود.

    كانت هذه النشاطات العرفية (العلم ، الأخلاق ، الفن ) قد أخذت في تحقيق قدر من التمايز والاستقلال الذاتي (إيستمولوجيا ومؤسسيا) ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر. فمن الزاوية العرفية بدأت كل من هذه

    (1/11854)

    الفروع المعرفية تطرح على نفسها مسألة الصلاحية والصدقية، بصورة مستقلة انطلاقا من إشكالات خاصة ومن معايير خاصة. هكذا بدأت هذه الفروع المعرفية تطرح على نفسها المسائل المتعلقة بالحقيقة في مجال المعرفة، وبالعدل في مجال الأخلاق والقانون ، وبالذوق في مجال الجماليات.

    وهذه التمايزات الإبستمولوجية والفلسفية بين الأنشطة العرفية قد حدثت ولبلورت على أرضية دينامية أعم تمثلت في تمايز واستقلال دائرة المعرفة عن دائرة الاعتقاد(14) (وهو التمايز الذي أشار إليه هيجل في دراسة له بعنوان "المعرفة والإيمان " ).

    (1/11855)

    (13) المرجع نفسه ،ص 22.

    (14) Habermas discours pp 22-23.

    دينامية هذه التمايزات المعرفية، التي كانت قد تبلورت في نهاية القرن الثامن عشر، هى مظهر أساسي من دينامية مظاهر الحداثة، وذلك وفق المنظور الفكري لماكس فيبر (M.weber) الذي ينطلق منه هابرماس كقاعدة فكرية لتحليل دينامية الحداثة.

    يرى ماكس فيبر أن هناك علاقة داخلية حميمية وتلقائية بين الحداثة والعقلنة (rationalité). فعلية نزع الطابع السحري عن العالم التي تفتتت وتفككت معها التصورات التقليدية القديمة للعالم ، ولدت بنفس الوقت ، ثقافة دنيوية وفق

    (1/11856)

    سيرورة عقلية . وهكذا استقلت العلوم التجريبية الحديثة، والفنون والنظريات الأخلاقية والقانونية القائمة على أساس مبادئ شكلت دوائر من القيم الثقافية مكنت من إقامة ممارسات تحكمها مشروعيات داخلية خاصة بالإشكاليات النظرية والجمالية والعملية الأخلاقية(15).

    جوهر عملية التحديث عند ماكس فيبر هو عملية العقلنة التي طالت المجتمع والثقافة الحديثين . ووجها العقلنة هما علمنة الثقافة الغربية الحديثة وتنمية وتطوير المجتمع الغربي الحديث. وقد تميزت البنيات الاجتماعية الجديدة، المتولدة عن دينامية التحديث والعقلنة،

    (1/11857)

    بتمايز منظومتين تبلورتا حول محورين أو نواتين تنظيميتين هما المنشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة. وهذه العقلنة، في وجهيها الانجتماعي والثقافي ، تغزر كافة مناحى الحياة اليومية ذاتها ؤلفتت أشكال الحياة التقليدية ذاتها حيث تفقد هذه الأخيرة تلقائيتها الطبيعية وتخلي الساحة لعاير عقلانية حسابية شمولية صارمة قوامها الفردانية وحرية الاختيار(16).

    ويرى هابرماس أن هذه الدينامية من التمايزات والاستقلالات ، التي اعتبرها فيبر جوهر عملية التحديث ، قد وجدت صدى وامتدادا لها في فلسفة كنط . لكن هذا

    (1/11858)

    الأخير - في نظر هابرماس - لم يعان أبدا هذه التمايزات، التي قسمت العقل ، كشروخ وانفصالات (Scissions). لقد انعكست على فلسفته ، لكنه لم يفهم أساسها

    (54) المرجع نفسه ، صص 1-2.

    (16) المرجع نفسه ، ص 2.

    البعيد. وهكذا ظل كنط - في نظر هابرماس - يجهل الحاجة التي ظهرت على أثر الانفصالات التي فرضها مبدأ الذاتية، أي الحاجة التي فرضت نفسها على الفلسفة، الحاجة إلى التفكير في الحداثة كفترة تعني انفصالها عن الماضي ، وعن نماذجه ، ولتستقي معاييرها الخاصة من ذاتها، ولتكتسب مشروعيتها من نفسها(17).

    (1/11859)

    إلا أن الطريف في الأمر هو أنه إذا كان هابرماس يعتبر فلسفة كنط مرآة لدينامية الحداثة، دون أن يكون قد فهم جوهرها واليتها، فإنه من زاوية أخرى، وفي موضع آخر، يعتبر هذه الفلسفة هي المنطلق الأول البعيد لما بعد الحداثة. فتمييز كنط بين العقل (raison) والذهن (أو الفهم أو الفاهمة) (entendement) هو - فيما يرى هابرماس - منطلق نقد التصور الذاتي الصرف للعقل ، أي نقد للعقل الذاتي وللعقل البارد والمتشيء. وهذا يدلنا على مدى التبكير في نقد الأشكال القص حية للعقل ، وخصوصا عندما يكون العقل محصورا ب حد واحد. أي بعد

    (1/11860)

    التشيؤ البارد والموضوعاتي ، أو ب حد التلاعب الأداتي بالطبيعة وبالبشر. وهكذا يعتبر هابرماس أن النقد الذاتي للعقل وللذاتية، الذي اعتبر بمثابة الشيء الجديد كليا عند نيتشه، كان في الواقع موجودا منذ لحظة كنط (18).

    لوك فيري (L.ferry ) : كنط مفكر الحداثة

    ينسب الفيلسوف الفرنسي العاصر لوك فيري نفسه، باعتزاز، إلى الكنطية الجديدة مؤكدا على راهنية كنط ، وعلى ما يسميه باللحظة الكنية التي تتلخص - في نظره - في إسهامين رئيسيين طبعا الفكر الغربي منذ تلك اللحظة إلى الآن ، وهما : العلمانية الفلسفية، ومسألة

    (1/11861)

    الذاتية.

    بالنسبة للنقطة الأولى يبين لوك فيري أن "نقد العقل الخالص" يتضس قلبا جذريا للعلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهى النقطة التي التقطها هيدجر بكامل الوضوح . فنقد العقل الخالص - بخلاف الديكازتية - وضع نظرية في التناهي

    (17) المرجع نفسه ، ص 23.

    (18) هابرماس ، "حتى نكون حداثيين إطلاقا"، (حوار)، مجلة الفكر العربي المعاصر، صص . 123-124.

    سوف تضفي طابع النسبية على المطلق . فالفلسفة الغربية للقرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين كانت تنظر إلى التناهي انطلاقا من المتناهي . المنطلق هو الكائن

    (1/11862)

    المطلق بالمقارنة مع الإنسان ككائن ناقص ومتناهي. وهذا هو المسار الذي سلكه كل من ديكارت وسبينوزا وليبنتز حيث يوجد المطلق أولا ثم يظهر الإنسان ككائن محدود، متناه ، ناقص ، وهو ما يعبر عن نفسه بالجهالة، والحساسية، والموت ، والخطيئة . . .

    وإذا كان كنط - فيما يرى لوك فيري - هو الذي دشن الفضاء الفكري العلماني في الغرب ، وهو الفضاء الذي ما يزال ساريا وسائدا في أوربا والغرب عامة، والذي يؤطر ويوجه الفكر الأوربي عامة، فلأنه قد قلب )لعلاقة السابقة مبتدئا بالتناهي والمحدودية كمنطلق أنتروبولوجيا ومعرفيا. وذاك

    (1/11863)

    هو المعنى الإسلامي "للحساسية المتعالية"، التي لم تعد علامة على التناهي الذي يجب أن يتجاوز بالاتحاد مع نوع من الحدس العقلي المتعالي ، بل هي علامة على الانعطاء الثابت للموضوع .

    أما الإسهام الثاني الأساس لكنط ، فيتمثل في أن كنط هو الذي دشن نقد الذاتية الميتافيزيقية، هذا النقد .الذي ازدهر مع نيتشه ، وجعل الفلسفة الحديثة تدور حوله بدرجات متفاوتة(19).

    يتبين إذن أنه ليس من اليسير تقديم موقف حاسم ونهائي لمسألة علاقة كنط بالحداثة ولمدى وعيه بها. فبعض الدارسين يرى أن (الثورة الكوبرنيقية)، التي ادعى كنط

    (1/11864)

    القيام بها هي في الو"قع "ثورة كوبرنيقية مضادة،)، لأن اتجاه الثورة الكوبرنيقية الأصلية كان نحو

    (19) l.ferry kant, penseur de la modernité, in magazine littéraire, n 309 avril 1993.

    هنظر أيضا :

    ferry et renault, systéme et critique, ousa, bruxelles, 1992 D’un retour à kant, pp 156-157.

    الواقعة في حين أن اتجاه الثورة الكوبرنيقية الكنطية المزعومة كان نحو المثالية(20)، وأن فلسفة كنط هي ارتداد عن فلسفة ديكارت (21) بينما يعتبره البعض الآخر رائد الحداثة(22) ومفكر الحداثة، أو يعتبر فلسفته "بؤرة" العالم

    (1/11865)

    الحديث.

    إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أن هذه المواقف والتحليلات التي تنسب إلى كنط نوعا من الريادة في الحداثة، مواقف متفاوتة في تأكيدها لدرجة حداثية فلسفة كنط ، بل إن بعضها يستعمل مصطلح الحداثة استعمالا خاصا. وهذا هو الحال بالنسبة لفوكو الذي يستعمل الحداثة (حداثتنا) بمعنى خاص ، أي بمي حنى إبيستميه الحداثة وهو الإبيستميه الذي ظهر بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن را والذي تميز بانبثاق الإنسان كذات فاعلة بموضوع للمعرفة. والمعنى المسند للحداثة هنا معنى إبستمولوجي في الدرجة الأولى، ويرتبط

    (1/11866)

    بظهور العلوم الإنسانية بالخصوص. وهذا بالتأكيد معنى خاص للحداثة.

    أما هابرماس ، فيدرج فلسفة كنط ضمن مخاض الحداثة باعتبارها عصر".كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي ، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد ومعياراته وضماناته الخاصة من ذاته . فهذه الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة (علم - أخلاق - فن . . .) انعكست على الصرح الفلسفي الكنطي الذي سجلها دون أن يعيها. فكأن الحداثة هي من هذا الصرح بمثابة

    (1/11867)

    اللاوعي الذي يحدد الوعي دون أن يبلغ مرتبته . وهابرماس يصادق في حكمه هذا على كنط على رأي هيجل حول هذا الأخير وحول التحولات الكبرى التي أحدثتها الحداثة، والتي تكاد تجملها الفقرة 124 من كتاب هيجل "مبادئ فلسفة الحق ، حيث يرد : "إن الحق في الحرية الذاتية هو محور ومركز الاختلاف بين العمصور الحديثة والعصور القديمة. وهذا الحق ، في لا تناهيه ، قد تم التعبير عنه في المسيحية وأصبح فيها بمثابة المبدإ الشمولي الفعلي لشكل جديد من العالم . ومن بين التجليات

    (1/11868)

    (20) صادق جلال العظم ، دفاعا عن المادية والتاريخ ، بيروت ، دار الفكر الجديد، 1990 ، ص88 .

    (21) المرجع نفسه ، ص 93.

    (22) ينسب إريك فيل (E.weil) إلى كنط الدور التاريخي المتمثل في إعداد فلسفة الوعي ، أي الفلسفة الحديثة ( انظر كتابه : E.weil, logique de la philosophie, Paris , Vrin, p.275

    القريبة من هذا المبدإ ندرج الحب و"لرومانسية واستهداف تحقيق السعادة الدائمة للفرد، إلخ . وكذا الأخلاقية والوعي (أو الضمير. م .)، ثم الأشكال الأخرى التي يشكل جزء منها مبادئ المجتمع المدني ويقدم عناصر تشكيل النظام

    (1/11869)

    السياس ، والتي يتجلى جزؤها الآخر في التاريخ ، وبالخصوص في تاريخ الفن ، وفي العلوم ، والفلسفة"(23).

    هذه التحولات فعكسها فلسفة كنط دون أن تعيها وتفهم أساسها الفلسفي . فمصطلح العصور الحديثة منعدم الورود تقريبا في كتابات كنط ، وبالأحرى مصطلح الحداثة . فغياب المفهوم والتسمية مؤشر على غياب الفهم ، وعلى عدم القدرة على التشخيص .

    لكن لفلسفة كنط سمة خاصة. فهي فلسفة تعيش مخاضا وتوترا حادا من حيث ارتباطها بالمضامين الفكرية السائدة في العصر وبالمحددات الإبستمولوجية للتفكير السائدة فيه. إلا أنها مخاض تجديد

    (1/11870)

    الإشكاليات التقليدية المهيمنة، مضمونا ولغة، مما برحلها تكون منط!لق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعملمانية، والذاتية، والعقل ، والنقد. هذا، بالإضافة إلى تقديمها للأساس الإبستمولوجي لمشروعية المعرفة العلمية، ولشخيصها لجوهر فكر الأنوار من حيث أنه ثورة ضد التراث والتقليد، ونقدها للعديد من المعتقدات المسيحية (ألوهية المسيح ، عقيدة التثليث ، عقيدتا الفداء والصلب ، عقيدة ملكوت المعجزات .. . )(45) ومحاولة إقحام مضمون عقلاني في العديد من العقائد المسيحية، ومحاولة تأسيس

    (1/11871)

    الدين على الأخلاق .

    (لأء) على الرغم من جودة الترجمات التي ينجزها إمام عبد الفتاح إمام لأعمال هيجل ، باعتباره من أكبر المتخصصين العرب ي هيجل ، فإن التدقيق ي ترجماته مجعلنا نكتشف بعض مظاهر عدم الدقة سواء في المصطلح أو في الدلالة. فمثلا كتاب هيجل المأخوذ منه هذا النص عنوانه "مبادئ فلسفة الحق )، وهو يترجمه "الأصول فلسفة الحق ". وكلمة السعادة الدائمة يستبدلها بالخلاص الأبدي . قارن بين النصين العربي والفرنسي (هيجل ، أمول فلسفة الحق ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، القاهرة، 1981، ص 241-163-

    (1/11872)

    Hegel , Principes de la philosophie du droit paris vrin 1975 p

    (24) الخشت ، مصدر مذكور آنفا، القسم الثاني.

    (1/11873)

    كيف تطورت الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي في المهاجرات الأندلسية المغرب

    الدكتور عبد العزيز بنعبد الله

    عضو أكاديمية المملكة السعودية -الرباط

    ... أحاول في مبحثي هذا الكشف عن بعض مجالي الفن الموسيقي كما فعلت في خصوص الفن المعماري، وهما مظهران لحضارة المغرب التي أفردت لها منذ الأربعينيات العديد من الدراسات باللغتين العربية والفرنسية. فهو بحث تاريخي لا يزعم التقصي والاستيفاء للتنظيرات والتسطيرات المعمارية ولا للألحان والأوزان الموسيقية، وإنما هو استجابة عفوية زاوجت دواعي السوق ومازجت بواعث الذوق

    (1/11874)

    دون أن تتجاوز حدود الطوق، وكلاهما جزء من "موسوعة رباط الفتح" المرتقبة النشر.

    ... والواقع أن الذي أقحمني في هذا المجال، وإن كنت فيه مزجى البضاعة بمعزل عن أعالي بحوره، هو والدي العلامة الشيخ عبد الواحد بنعبد الله الذي ضم للضلاعة في العلوم الإسلامية الإمامة في فن الموسيقى؛ فكان له وثيق الصلة بأربابه أمثال المطيري والجعيدي والبريهي والحاج محمد التازي والفنانين الطيب بلكاهية والسبيع والوكيلي ورئيس الجوق الغرناطي أحمد بناني وكثيرين غيرهم.

    (1/11875)

    ... وإذا كانت الموسيقى قد تقلص نشاطها في العدوتين (الرباط وسلا) وتطوان، بينما ازدهرت بفاس في عهد بني مرين، فما ذلك إلا لكون العاصمة الإدريسية كانت في مأمن من هجمات الإيبيريين الإسبان والبرتغاليين الذين كانوا يغيرون على سواحل المغرب في كل من البحر المتوسط والمحيط حيث احتلوا جيوبا ولم يستطيعوا السطو على مارتيل ومصب أبي رقراق، لأن سكان المنطقتين من المهاجرين الأندلسيين والأصلاء كان قد شغلهم الاستعداد الموصول لحماية هذا القطاع عن كل ما سواه.

    (1/11876)

    ... وقد انطلقت مزاهر الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي معا في رباط الفتح منذ انبثاق الدولة العلوية، خاصة المولى محمد بن عبد الله الذي اتخذ من المدينة حاضرة سلطانية على غرار فاس ومراكش ومكناس الإسماعيلية. فأقام قصره العامر بأكدال. وتابع نجله المولى سليمان عمران الحاضرة الموحدية ببناء "قصر القبيبات" أو "دار البحر"، وأصبح منذ ذاك لمنطقة أبي رقراق مكانة ديبلوماسية بعد أن صار قناصلة الدول الأوربية يقدمون أوراق اعتمادهم بها للمولى عبد الرحمان الذي أقام الأبراج والدور الجميلة وسط جنان وحدائق غناء زرعت

    (1/11877)

    خارج السور العلوي الذي اتسعت بوجوده رحاب المدينة حيث امتد من البحر جنوبا للالتقاء بالسور الموحدي المحاذي للقصر الملكي. وبقدر ما عزز المولى سليمان أبراج الدفاع عن "رباط الفتح" ببطاريات تحمي الساحل من جهة "دار البحر"، واكب حركة ازدهار الفن الموسيقي فصنف رسالتين اثنتين هما:

    ... 1- "إمتاع الأسماع بتحرير ما التبس من حكم السماع"، نسخة بمكتبة دبلن، جيستر بيتي في لاهاي رقم 4132، (م=118-81).

    ... 2- "تقييد في حكم الغناء"، الخزانة الحسنية بالرباط، 4864 و6430).

    (1/11878)

    ... وقد بادر المولى محمد بن عبد الرحمن بعد استكمال بناء قصره الجديد، وهو البلاط الحالي في المشور السعيد. فأقام حفلا رائعا دعا له المسمعين المطربين من العدوتين (الرباط وسلا). وقد انضاف إلى هذا الفن السمعي الرائع فن الخطاطة (Calligraphie) في شخص الأديب الشريف مولاي أحمد الرفاعي القسطالي الرباطي(1) الذي اتخذه المولى سليمان مربيا لأولاده بالرباط وعينه واليا على فاس ونال الحظوة نفسها من

    __________

    (1) صاحب المنظومة في صناعة الخط المسماة "نظم لآلي السمط في حسن تقويم بديع الخط"، نسخة في الخزانة العامة بالرباط.

    (1/11879)

    خلفه المولى عبد الرحمن. وبذلك ازدهر في رباط الفتح فنان اثنان من أبرز الفنون السمعية البصرية (arts audio-visuels).

    ... ولعل اضطلاع كل من السلطانين العالمين المولى سليمان والمولى عبد الرحمن(1) بتركيز الفن الموسيقي برباط الفتح قد فسح المجال لظهور علماء أفذاذ برعوا في هذا الفن، وفي طليعتهم العلامة الشاعر قاضي العدوتين أحمد بن أحمد

    __________

    (1) ذكر أبو المواهب سيدي العربي بن السائح في "إفادات وإنشادات" (مخطوط في خع)، أن المولى عبد الرحمن بن هشام كان ممن يروى عنه "صحيح البخاري" ويؤخذ عنه، وكان عالما بالحديث.

    (1/11880)

    الحكمي الذي تفرد في وقته بالفنون الأدبية كالموسيقى؛ علاوة على ضلاعته في الأصول والفقه. وعده سبطه شيخ الجماعة إبراهيم بن محمد التادلي من العارفين المبرزين في هذا المجال ("الاغتباط"، ص.33). وقد صنف عالم صوفي هو الشيخ فتح الله بن أبي بكر بناني كتابه المطبوع بالرباط "تسمية الأتباع ببعض ما يتعلق بحكم الطرب والسماع".

    ... على أن الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن عبد القادر التادلي الرباطي قد أوغل في تحقيق وتدقيق بعض معالم هذا الفن حيث ألف كتابا في "الصيكا" سماه "أغاني السيقا ومغاني الموسيقى" أو

    (1/11881)

    "الارتقا إلى علم الموسيقى" (نسخة بالخزانة العامة بالرباط 1821د /109 [66 ورقة]). وعلى هذا المنوال النموذجي سار العلامة علي بن محمد بن عبد الواحد الزجلي في كتابه "أغاني الصيكا"، وهي ألحان مازلنا نستمع إليها في جميع أنحاء البلاد الإسبانية على نسقها العربي الأصيل نفسه. وقد ذكر الصفاقسي في كتابه "قانون الأصفياء" أن السيكاه أصله عربي بالصاد، ثم نقل إلى العجم فبدلوا الصيكة. استخرجه صيكة بن تميم العراقي، ثم نقل إلى أهل فارس (مجلة "الأقلام العراقية"، ج4، السنة الأولى، 1384هـ/1964م).

    (1/11882)

    ... وقد تبنى علماء كل من فاس ورباط الفتح هذا الفن، فأطلقوا على ما اخترع من طبوعه كلمة "مدرج". وهي من مصطلحات علم الحديث النبوي الشريف كما يقول شاعر المحدثين الحافظ العراقي:

    ومدرج الحديث ما ألحق في ... أوله أو وسط أو طرف

    ... وفي طليعة علماء الرباط الذين ولعوا بالعزف على الرباب الشعبي (الكنبري) قاضي الرباط ووزير العدل في العهد اليوسفي محمد الرندة.

    ... وكان أهل الرباط قد سجلوا موشحات وأزجال الآلة الأندلسية في وثائق خاصة يستحضرها حتى الهواة في أجواقهم، لأن الموسيقى والتغني بها اندرجت في أبرز عادات

    (1/11883)

    وتقاليد المجتمع الرباطي. وكان من بين العوام رجالات أتقنوا الخمسة والخمسين مثل الموسيقار إبراهيم بن محمد الجزولي الرباطي (وهو من آل لميرو الأندلسيين المتوفى عام 1325هـ/1907م) ("الاغتباط" لأبي جندار، ج2، ص.22).

    ... وقد عرفت من بين هؤلاء رجلا هو عمي محمد بنعبد الله المتوفى عام 1937م. كان حرارا يصنع "المجاديل"، يتغنى طول النهار بالنوبات الخمس والخمسين في تواجد وهيام. ويرجع الفضل في تدوين الموسيقى للحسن بن أحمد الحايك الأندلسي التونسي التطواني (1130هـ/1717م) الذي جمع هذه الموشحات في كتاب "الحايك"

    (1/11884)

    الذي اشتمل على جميع نوبات وطبوع آلات الطرب. وهذا الكناش لم يبق على ترتيبه الأصلي، بل نسق بترتيب الفقيه الوزير محمد بن المختار الجامعي. وقد أورد خطبته أبو إسحاق التادلي في "أغاني السيقا" (ليفي بروفنصال في "مخطوطات الرباط العربية"، ص.196، خع 8د (60 ورقة) / خع=488د).

    ... وتوجد نسختان في كتاب "الوزير الجامعي" في خع=1327د/8د؛ وكذلك خطبة لتأليف في الموسيقى خع 1031د.

    ... ولعل أبرز ظاهرة موسيقية برباط الفتح وجود جوقة للخمسة والخمسين بالقصر الملكي تعزف على مزامير نحاسية في أزيائها الأندلسية الزاهية، وهي

    (1/11885)

    الجبادولي ذو اللونين الأخضر والأحمر، تيمنا بلوني الراية المغربية. ومن مظاهر شعبية الموسيقى الأندلسية بالرباط أن الفقيه مدرر "مدرسة أبناء الأعيان بالرباط" كان يدربنا آخر الثلاثينيات على مقطوعات من رمل الماية خارج البرامج.

    ... ولم يكن علم الموسيقى مجرد هواية في رباط الفتح، بل أصبحت الألحان تحرك الوجدان وتضبط خلجات الجنان تهذيبا للأنفاس وضبطا للأعصاب. ومعلوم أن مستشفى سيدي فرج بفاس كان يعالج الأمراض العصبية بالموسيقى منذ عهد السعديين في القرن العاشر الهجري، أي قبل أن تعرف أمريكا وأوربا موسيقى

    (1/11886)

    الروك (Rock an roll) الهادفة للغاية نفسها؛ وكذلك الموسيقى الأمريكية المعروفة بـRythm and blues. وقد وردت علينا من الصين الشعبية أواسط الثمانينيات أنباء تفيد قيام الصين بأبحاث لعلاج الأمراض العصبية بالموسيقى. فانضافت تجربة العلاج النفساني هذه إلى تجربة العلاج العضوي المعروف في الصين بالنقطية أو الوخز بالإبر (Acupuncture) والتي أتيح لي أن أشاهد بعض مظاهرها خلال رحلتي إلى الصين عام 1965م إبان الثورة الثقافية. وقد ظهر في هذا الموضوع أيضا بحث لسليمان الحوات (1231هـ/1816م) عنوانه "كشف القناع عن تأثير

    (1/11887)

    الطبوع في الطباع"، نسخة في خح (=الخزانة الحسنية بالرباط، 4229).

    ... غير أنه لا يمكن أن نتعرف بعمق مدى تطور الآلة الأندلسية بشقيها الإشبيلي والغرناطي في المهاجرات، وخاصة رباط الفتح، إلا إذا استعرضنا تطور الفن الموسيقي عبر العصور في مختلف جهات المغرب التي احتضنت وطورت هذا التراث العربي الأندلسي الرائع.

    ... فقد ظهرت بوادر هذا الفن في كل من فاس ومراكش منذ أواخر الموحدين وازدهرت معالمه خاصة في فاس أيام بني مرين وبني الأحمر أمراء غرناطة، ولكن الاضطرابات والفتن التي شبت أواخر السعديين وقيام نوع من

    (1/11888)

    أمراء الطوائف(1) في المغرب حالت دون استمرار هذا الازدهار إلى أن ظهر المولى إسماعيل العلوي بعد مرور بضعة عقود من السنين على جواز آخر فئة من الموريسكيين المطرودين من الأندلس، فاستتب الأمن واطمأن الفكر وعاد الماء إلى مجراه مع تجدد مظاهر هذا الفن بإضافة عناصر جديدة تفتقت عن تجمع حافل ضم الفكر الأندلس في أصالته والفكر المغربي في حيويته وطرافته.

    __________

    (1) أمثال عبد الله أعراس في الحسيمة والخضر غيلان في الهبط والدلائيين في الجبل وكروم الحاج في مراكش وأبي حسون بودميعة في سوس.

    (1/11889)

    ... وقد انضاف إلى فن الموسيقى خينذاك فن جديد هو السماع المرفق بالآلة، فبرز منذ العهد السليماني ليكتمل خلال عهد المولى الحسن الأول في نهاية القرن الثالث عشر.

    ... وكانت فئات المهاجرين قد انتقلت في الفترة نفسها أوائل القرن الحادي عشر الهجري ضمن حشود وفيرة إلي الجزائر وتونس ومصر والقسطنطينية؛ كما انتشر قسم منها في مقاطعات إسبانية خارج الأندلس وأشتات أخرى شكلت طلائع التروبادور (Troubadours) في جبال "المور" بجنوب فرنسا. وكان للمارانوس (Maranos)، وهم موريسكيو(1)

    __________

    (1) الموريسك أو الموريسكيون كلمة إسبانية أطلقها الإسبان على الأندلسيين المنصرين والمهجرين قسرا في القرن السادس عشر الميلادي، أي العاشر الهجري، ولا يعرفون في المراجع العربية إلا بالأندلسيين.

    (1/11890)

    اليهود، دورهم في إسهامات لها ميسمها الخاص. فهي إذن موسيقي عربية أندلسية مغربية تجذرت أصولها على ضفاف الرافدين، وانتقلت مع زرياب إلى الأندلس الرطيب حيث تأثرت بعوامل مغربية ظلت خلوا من كل عنصر إسباني، وأثرت عي الأخرى في الموسيقى الأوربية، وخاصة الألحان الكنسية. وقد أدرج المغاربة في هذه الموسيقى الشرقية طبوعا وموازين وصنائع، مما أضفى عليها طابعا مغربيا في كثير من الحالات بجانب الأصول الراقية الأندلسية.

    (1/11891)

    ... وتنقسم هذه الموسيقى لي وحدات أو نوبات لكل منها نغمة خاصة تسمى الطبع. وهذا الطبع يتكون بدوره من نقط خاصة. ويصل عدد الطبوع إلى ثلاثمائة وستة وستين على عدد أيام السنة الشمسية.

    ... والتلحين عند الآليين معناه وضع قطعة موسيقية للتعبير عن عاطفة وإفراغها في نغمات ينسق فيما بينها في توليف متجانس يتكون منه طبع يسبك في "ميزان" مناسب، طبقا لإيقاع خاص له وحدة تؤدى في زمن محدد تسمى "الدور". وقد بلغ عدد الموازين في الأندلس أربعة، أضاف إليها المغاربة ميزانا خامسا هو الدرج. سمي بذلك، لأنه مدرج بين الموازين

    (1/11892)

    وهو خاص بالآلة الإشبيلية لا يوجد في المألوف التونسي ولا الغرناطي الجزائري، في حين أن الموازين الأخرى هي البسيط والقائم ونصف والبطايحي والقدام. ويضبط كل ميزان بما يدعى التوساد، أي الضرب بالآلة المسماة الطر أو باليدين، الراحة على الراحة. وكان بدل التنويط العصري هو النوطات السبع لا إله إلا الله محمد رسول الله. وما زال المغاربة يحفظون من النوبات إحدى عشرة تتناسق مع موازين عددها خمسة وخمسون. وقد لاحظ الأستاذ محمد الفاسي أن هذه الموازين ضاع منها ثلاثة هي قائم ونصف الرصد وقائم ونصف الحجاز المشرقي ودرج

    (1/11893)

    رصد الذيل التي تأمل جمعية هواة الموسيقى العثور عليها. وقد شاطرها والدي رحمه الله هذا الجهد، متعاونا مع رئيسها الفنان الحاج إدريس بن جلون.

    ... والموسيقى تسمى "الآلة" بالمغرب، والموسيقار هو "الآلي". وقد وردت هذه التسمية في "نزهة الحادي" عند الكلام على سيرة المنصور الذهبي، وتسمى أيضا "الدندنة"، بينما تعرف بـ"الغرناطي" في الجزائر و"المألوف" بتونس.

    ... وهكذا تتركب كل نوبة من خمسة ميازين يشكل كل ميزان صنعة تحتوي على قطع موسيقية خاصة، والنغمة المنبعثة منها عبارة عن نبرات تتواكب مع معاني المقطوعات

    (1/11894)

    الشعرية التي يقع اختيارها طبقا للتناسب لتستجيب لما يوحي به الظرف الزمني من استهلال أو تصاعد أو ارتخاء.

    ... وقد لاحظ أخونا الأستاذ الكبير المرحوم محمد الفاسي في بحث قيم نشرته "اللسان العربي" في عددها السادس، وهي مجلة مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي، بعنوان "الذوق العربي في الموسيقى الأندلسية" أن النوبة إنما سميت بذلك لأن العازفين كان يتقدم كل واحد منهم أمام الخليفة بما اخترعه ليعزف بدوره ثم تأتي بعده نوبة غيره. فسمي المجموع نوبات. ولعل هنالك في نظرنا المتواضع تفسيرا آخر يرجع إلى عدد الأوتار

    (1/11895)

    أو الملامس أو قوة النقر عليها. فالآلات التي كانت مستعملة في العالم العربي عامة والأندلس والمغرب خاصة هي خمسة: الكمان والقانون والأرغن والعود والرباب، وكان لكل آلة نبرة تمتاز بها جعلت أصناف النبرات موازية للميازين الخمسة التي تشكل النوبة. أما بقية الآلات الموسيقية التي بدأنا نستعملها اليوم، فهي مجرد تطوير للآلات القديمة مثل الكمان الجهي (Violoncelle) والقيتارة (Guitare) والبيان (Piano) الذي عوض البيان القيتاري (Clavecin).

    (1/11896)

    ... وقد لاحظ أستاذنا الكبير محمد الفاسي أيضا أن الموسيقى الأندلسية كانت تسمى الآلة بالعامية، تمييزا لها عن الموسيقى التي تؤدى بدون آلة وهي السماع. ونحن نرى أن السماع لم يكن يعدو مجرد مديح في المواليد النبوية أو التواجد بالحب الإلهي دون غزل أو تشبيب في حضرات الذكر الصوفية. فكانت الآلة محظورة في كليهما، وإن كان المادحون قد أصبحوا اليوم يرفقون السماع بالآلة مع الاحتفاظ بأناشيد المديح دون ما اعتادته الآلة الموسيقية من موشحات وأزجال يعطينا "الحايك" صورة واضحة عنها(1)

    __________

    (1) وللشيخ محمد بن العربي الدلائي الرباطي البيضاوي كتاب سماه "فتح الأنوار في بيان ما بعين على مدح النبي المختار". وهو تأليف نظير "كناش الحايك" في فن الموسيقى بين فيه صنعة المديح بذكر الطبوع والألحان الشعرية والأناشيد والنغمات العروضية (أبو جندار، "الاغتباط"، ص.191).

    (1/11897)

    .

    ... غير أن ضرورة التحري لإدراك مدى بعد نظر أستاذنا الفاضل المرحوم محمد الفاسي تحدونا إلى القول بأن الأستاذ البحاثة قد حاول الرجوع بفكره الثاقب إلى الأصول حيث اعتبر السماع أصلا في الموسيقى. وإذا كان السماع هو منبع التواجد الغنائي حتى عند الحيوان، فما بالك بالإنسان في وجدانياته التي هي جزء من كيانه. فالمهاري في الصحراء المغربية تطوي المسافات في تسارعها الحثيث عندنا تتسمع إلى أصوات الحداة وهي تغني في نبرات ترددها أصداء الفيافي مما دفع أحد شعراء صحرائنا وهو ابن الونان في "شمقمقيتـ"ـه إلى إيصاء

    (1/11898)

    الحداة بالتؤدة والتمهل صارخا/

    مهلا على رسلك حاذي الأينق ... ... ولا تكلفها بما لم تطق

    ... والسماع بصورة عامة سواء عند الهنود البوذيين أو البراهمة وغيرهم قد انطلقت منه تواجدات موسيقية لدى فنانيهم وصوفيتهم. ولعل للسماع الموسيقي العربي ضلعا في إثارة هذا الوجدان الآسيوي الذي وجدنا حتى لمصطلحاته صلة وثيقة لهذا المنبع الإنساني. فالصوفي البوذي كان ولا يزال يغيب عن حسه إذا أطربه السماع فيردد كلمة (هو هو) (الله الله). ويغرق فيما سماه البوذيون اقتباسا من لغة متصوفة الإسلام وهو Nervana، أي نور الفناء.

    (1/11899)

    ... وقد ترعرعت الآلة بجميع طبوعها إبان بني مرين حتى كان للجيش المريني نفسه في عهد أبي عنان موسيقاه الخاصة به. كما كان للأسطول موسيقاه (راجع "رحلة أبي عنان المريني" المسماة "فيض العباب..." لإبراهيم عبد الله المعروف بابن الحاج)، وهي عادة استمرت إلى اليوم عن طريق الجوق الملكي. وقد بلغ الاعتناء بهذا الفن مبلغا أصبح معه للموسيقار مكانة كبيرة في المجتمع.

    ... وكان المنصور يجلب إلى مراكش أرباب الموسيقى وأصحاب الأغاني من فاس؛ وكانوا قد وفدوا على المنصور على سبيل العادة فأخرج بعضهم والقاضي أبو مالك عبد

    (1/11900)

    الواحد الحميدي حاضر بشبابة من الإبريز مرصعة أعطاه إياها المنصور وبعضهم قال أعطاني كذا وكذا.. فقال القاضي: لئن بلغت فاس لأردن أولادي إلى صنعة الموسيقى. فإن صنعة العلم كاسدة. ولولا أن الموسيقى هي العلم العزيز، ما رجعنا مخففين ورجع المغني بشبابة الإبريز ("الاستقصا"، ج3، ص.96؛ "نزهة الحادي" عند الكلام على سيرة المنصور الذهبي).

    ... ولعل المغرب قد نال حظا وافرا من الآلة الأندلسية التي احتضنها دون بقية العالم العربي وإن كان العراق هو الذي أمد الأندلس بأول موسيقار وهو زرياب. على أن الأندلس قد عرفت بعد

    (1/11901)

    زرياب موسيقارا أندلسيا صميما عد من طبقات زرياب في الغناء، وهو عباس بن فرناس الذي هو أول من حاول الطيران بآلة صنعها بيده ("نفح الطيب"، ج3، ص.473) واخترع الزجاج من الحجارة.

    ... كما كتب في هذا الموضوع ابن حزم في "الغناء الملهي"، أمباح أم محظور (نسخة من الأسكوريال eb 25).

    ... ومن الموسيقيين الأندلسيين الذين استوطنوا الشرق ابن أبي الحكم محمد بن عبيد الله بن المظفر الباهلي أفضل الدولة (570هـ/1174م).

    ... وكان قد صنع أرغنا وله يد في سائر آلة الطرب وكان طبيب بيمارستان دمشق الذي بناه نور الدين بن الشهيد

    (1/11902)

    ("طبقات الأطباء"، ج2، ص.155؛ "الدارس"، ج2، ص.137؛ "الوافي بالوفيات"، ج3، ص.330) وإن كانت هنالك مصادر عربية أصيلة ما زالت تمد هذا الفن مثل:

    ... - "رسالة في الموسيقى" لعمر الخيام (526هـ/1131م)، نادرة جدا لا تكاد توجد نسخة أخرى في ورقتين (مكتبة مغنيسيا العمومية، 5/1705).

    ... - "رسالة الملحون والنغم" للكندي [256هـ]، (مغنيسيا، 8/1705).

    ... - "عنصر الموسيقى" لإسحاق بن حنين [298 أو 299م] (نسخة فريدة 9/1705).

    (1/11903)

    ... أما الطرب الغرناطي، فهو صنف من الآلة الأندلسية نشأ وترعرع في غرناطة آخر معقل بالأندلس استولى عليه الإسبان عام 897هـ/1481م، فهاجر معظم سكانه إلى فاس وتازة وتطوان وعدوتي أبي رقراق، ثم إلى الجزائر (وهران وتلمسان وبيجة) عبر المغرب الشرقي.

    ... وكانت إشبيلية هي عاصمة الطرب الأندلسي منذ القرن الثالث الهجري. وقد افتتحها موسى بن نصير عام 94هـ/712م، ودخلها المرابطون عام 484هـ أو 490هـ حسب ابن خلدون، وتولى الموحدون بإمارة أبي حفص بن عبد المومن الذي كان له بها كتاب وشعراء وفنانون حوالي منتصف القرن

    (1/11904)

    السادس الهجري. وقد انتقل كرسي المملكة الإسلامية منها إلى غرناطة (646هـ/1248م) عندما استولى عليها ملك قشتالة في دولة المرتضى بعد أن حكمها الموحدون نحوا من قرن واستمرت في قبضة المسلمين زهاء خمسة قرون وأصبحت غرناطة منذ ذك صلة الوصل بين فاس والأندلس طوال عهد بني مرين عندما احتضنت الموسيقى الأندلسية مدة قرنين ونصف القرن، فأضافت إلى هذا التراث الإشبيلي عناصر جديدة عرفت بالطرب الغرناطي. وكان لغرناطة منذ العهود الأولى ضلع في بلورة الموسيقي الأندلسية، ولا سيما أن زرياب علي بن نافع العراقي مؤسس الطرب

    (1/11905)

    العربي قد عاش وتوفي بغرناطة عام 230هـ/ 844م. وقد برز المعقل الغرناطي بين أخريات العواصم الأندلسية التي ظلت تحت حكم المسلمين، فتجلى ذلك في مقطعات موسيقية كلها شجن وحزن على ما فقده الإسلام من تراث أصيل بالأندلس "الشهيدة". وما لبث هذا التراث الذي تقلصت موازينه وطبوعه أن طعم بنغمات كلها حنين إلى الأندلس عندما هاجر الغرناطيون إلى المغرب الذي احتضن كلا من الآلة الإشبيلية والطرب الغرناطي ساد أحدهما -وهو الموسيقى الأندلسية بكامل نوباتها- بشمال المغرب فاس وتازة وتطوان والرباط وسلا وجنوبه مراكش.

    (1/11906)

    ... بينما ترعرع الصنف الثاني، وهو الطرب الغرناطي، بالمغرب الشرقي امتدادا من غرب الجزائر (تلمسان ووهران وبيجة) وتونس. وقد احتضن المغرب الشرقي النوعين معا: الأول بتازة، والثاني بوجدة.

    ... وإذا كانت النكبات التي توالت على الأندلس منذ احتلال الإسبان لإشبيلية -عاصمة الطرب الأندلسي- قد حالت دون تطور الموسيقى، فقد تبلورت هذه الأشجان في ألحان المهاجرات الأندلسية بفاس وتطوان وعدوتي أبي رقراق حيث بدأت الهجرة بعد عام 981هـ/1486م ("الاستقصا"، ج3، ص.101)، أي بعد استيلاء الإسبان على غرناطة بست سنوات

    (1/11907)

    (897هـ/1491م) وكانت الهجرة الثانية عام 1017هـ على أثر مساكنة في غرناطة دامت عشرين ومائة سنة (120). وكان عبد الواحد الملقب بالرشيد الموحدي الذي بويع أول عام 630هـ/1232م هو الذي منح الأندلسيين -عام 637هـ- حق اللجوء إلى المغرب عامة والرباط خاصة حسب ظهير حرره قاضي الرباط آنذاك أبو المطرف بن عميرة. ولعل ذلك كان بسبب انضمام الإشبيليين إلى المولى الرشيد عام 635هـ/1237م، عندما حاول الأمير بن هود اقتحام ميناء مصب أبي رقراق في أسطول حربي. وقد توفي الرشيد عام 640هـ، وبويع بعده الأمير عمر المرتضى الذي كان

    (1/11908)

    واليا على رباط الفتح فامتد نفوذه من أبي رقراق إلى السوس وبه ختم عهد الموحدين وبدأ عهد بني مرين. وكان عرش الخلافة بالأندلس قد انتقل قبل ذلك بسنتين من إشبيلية إلى غرناطة. فهذه الأزمات الغامرة لم تكن لتفسح المجال لازدهار فن الموسيقى، ولاسيما أن الفئات الضخمة التي تواردت على منطقة أبي رقراق لم تتم إلا بعد محنة غرناطة التي استمرت إلى عام 1017هـ بادر الإسبان خلالها بفصل الموريسكيين عن تراثهم الديني والحضاري منذ يناير 1492م، وذلك بإحراق مليون ونصف مليون مخطوط من بينها -دون شك- وثائق حول الموسيقى

    (1/11909)

    ونوباتها حسب مصادر إسبانية أهمها: كتاب Francisco Piferrer, Nobiliario de los reinos y seisiorico de Espana, T.XI, Madrid, 1860, p.138.

    ... وخلال هذه الفترة الحالكة لم نكن نسمع في عدوتي أبي رقراق سوى دوي موسيقي المدافع بين طوائف من المهاجرين الأندلسيين اتخذت لنفسها إطارا مجتمعيا خاصا لممارسة الهجوم البحري على الشواطئ الشمالية للبحر المتوسط في أجفانها الجهادية والتي ما لبثت أن تحولت إلى سفن قرصنية. وقد داخل الرعب الإسبان الملكيين، فألصقوا بالمهاجرين -لاستفزاز الملكية المغربية ضدهم، وتبعهم في ذلك

    (1/11910)

    مؤرخون غربيون - تهمة تكوين جمهوريات ثلاث حول أبي رقراق(1)، في حين لم يكن يعدو تشكيل دواوين أو مجالس أربعينية على غرار "أيت الأربعين" التقليدية في الأطلس، ولا سيما أن الطابع السياسي للمغرب آنذاك، أي آخر أيام السعديين، اتسم بالاضطراب واحتلال الخصم لجيوب ساحلية لم ينقذ

    __________

    (1) وقد استأنسنا بهذه الأساطير الإسبانية التي ألصقت بالمجاهدين الأندلسيين والمغاربة في معارك جزر المتوسط ومناوشات الأنجريين في سبتة وحرب تطوان لقب شفارين (أي لصوص) حتى ألقت إلى جزر الملوية نفسها جزر الشفارين (Les Iles chaffarines).

    (1/11911)

    المغرب من ويلاتها إلى ظهور الملوك العلويين، وعلى رأسهم المولى إسماعيل. فعاد الماء إلى مجراه وألغيت الدواوين الأندلسية وتنفس الجميع الصعداء في ظلال وحدة المغرب وتحركت في هذه البحبوحة الوديعة أنفاس الوجدان لتنطلق مزاهر الفن الموسيقي في أروع وأبدع نبراتها(1).

    ... وإذا تتبعنا مسار مهاجري غرناطة بالمغرب العربي ومصر وقسطنطينية، حتى جنوب فرنسا وجزر المتوسط، فإننا نلاحظ أن الطرب الغرناطي كا له نصيب الأسد بكل من الجزائر وتونس حيث تبلور في مقاطيع

    __________

    (1) راجع "حياة ابن نصيحة" موسيقار السلطان محمد الثالث.

    (1/11912)

    حية تزخر بالرعة والمرح انتقلت بعض موشحاتها إلى دار الخلافة العثمانية إبان احتلال الأتراك للمغربين الأدنى والأوسط ودار الكنانة، بينما تركزت الآلة الإشبيلية في مهاجرات مختلفة بالمغرب الأقصى. وقد نقل الموريسكيون إلى "جبال المور" (Maures) بمقاطعة "بروفانس" (Provence) واللنكدوك (Languedoc) بجنوب فرنسا ألحانا موسيقية أندلسية، ولا سيما أن المنطقة كانت خاضعة للإسبان الذين لم يتنازلوا عنها لفرنسا إلا عام 1644م. وقد طور شعراء التروبادور (Troubadours) هذه الألحان التي واكبت في شبه الجزيرة الإيبيرية

    (1/11913)

    إسبانيا والبرتغال تلاحين الصيكا التي لا تزال منساقة إلى اليوم في طبوعها العربية بمعزل عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وما زلنا نسمع بعض نبراتها في الكنائس الأوربية المسيحية التي نقلت أناشيدها عن الكاثوليكيين الإسبان، وبعدما طرد إسرائيليو غرناطة التي كانت تعرف بـ"حاضرة اليهود"، وتم تنصير بعضهم قسرا ضمن فئات أطلقت عليها الإسبان اسم مارانوس (Maranos) مقابل اسم الموريسك للمسلمين المنصرين انتقلوا إلى المغرب ونقلوا معهم مقطوعات موسيقية كانوا يعزفونها بالعربية معززة بما سبق أن نقلوه إلى غرناطة بعد

    (1/11914)

    سقوط إشبيلية في قبضة الإسبان. وكان اليهود من جملة من هاجر إلى فاس بعد وقعة الربض آخر القرن الثاني الهجري حيث جعلوا منها -خلال العهدين المرابطي والموحدي- مركزا لتعريب العبرية وتصحيح نحوها وصرفها انطلاقا من قواعد سيبويه وضع كتاب التشريع التلمودي في عشرين مجلدا للعالم اليهودي محررين مجموعها باللغة العربية. غير أن نشاطهم العلمي هذا انبثق عن عاصمة قرطبة التي كانت خلوا من كل ما يمت إلى الموسيقى بصلة حيث انفردت إشبيلية وحدها بهذا الفن كما انفردت قرطبة في أربعة وعشرين من أرباضها بعلوم الحكمة، فكان لكل

    (1/11915)

    ربض كليته منها أربعة آلاف فيلسوف ومتكلم بالربض الجنوبي وحده. وقد تزعم هذه الثلة من العلماء اليهود موسى بن ميمون الذي سكن دار المجانة في العاصمة الإسماعيلية طوال خمس سنوات قبل أن ينتقل إلى مصر.

    ... وكان لليهود ضلع في الاقتباس من الآلة الغرناطية في العهد المريني ثم أيام العلويين حيث عززوا التراث الموسيقي بما فيه من أزجال ومواويل أدركت شخصيا نماذج منها بملاح الرباط آخر الأربعينيات ولا يزال صداها يتردد إلى الآن في مهاجرات اليهود خارج المغرب بكندا والولايات المتحدة وإسرائيل. وإذا كان موسيقيو اليهود

    (1/11916)

    اعتمدوا الحايك في طبوعهم العربية، فإنهم عمدوا اليوم إلى ترجمته إلى العربية عناية بمحتواها. وهكذا، فبقيام الدولة المرينية توطدت العلاقات مع بني الأحمر أمراء غرناطة أزيد من قرنين ترسخ خلالها احتضان عاصمة المغرب للتراث الموسيقي الأندلسي.

    ... والغريب أن ما وصلنا من المصادر العربية يكاد يكون خلوا من كل ما يتعلق بالموسيقى. فحتى الحسن بن محمد الوزان المعروف بليون الإفريقي الذي ولد بغرناطة حوالي 901هـ/1495م، أي بعد سقوط غرناطة بثلاث سنوات في قبضة الإسبان، قد ربي بفاس وظل عدلا بمارستان سيدي فرج خلال

    (1/11917)

    سنتين. وعندما بلغ عمر الوزان إحدى وعشرين سنة، بدأ رحلته حيث أسره قراصنة إيطاليون في نابل عام 1519م ونقل أسيرا إلى حاضرة الفاتكان حيث تبناه الباب، وهنالك حرر الوزان كتابه حول "وصف إفريقيا" بالعربية أولا، ثم ترجم للإيطالية. فكان من الصعب -في كلتا الحالتين- على الوزان أن يتحدث عن أزمة غرناطة وهو يعلم أن محاكم التفتيش التي أقضت مضاجع المسلمين بالأندلس قد شكلت بقرار وإمدادات من البابوية آنذاك. وقد ظهرت مع ذلك دراسات وأبحاث عربية في المغرب ألقت الضوء على كثير من الجوانب الغامضة في الموسيقى. وهكذا،

    (1/11918)

    فإذا استثنينا فترة الحكم السعدي التي اضطربت آخر أيامها عند تنازع أدعياء العرش وانقسم المغرب إلى ولايات مستقلة، فإن الموسيقى استعادت ازدهارها نسبيا باستتباب الأمن والاستقرار في عهد المولى إسماعيل الذي تولى الملك عام 1082هـ وعمره ست وعشرون (26) سنة. ولم يكد -قدس الله روحه- يلفظ نفسه الأخيرة في 28 رجب 1139هـ حتى كانت معظم معوقات التطور الثقافي الفكري المغربي قد انمحت بعد أن لم السلطان المجاهد شتات المغرب ومحق الأدعياء ودعم حركة التحرير ونشر الطمأنينة والرخاء.

    (1/11919)

    ... وقبيل وفاة المولى إسماعيل بتسع سنوات، كان الفنان الحسن ابن أحمد الحايك التطواني الأندلسي الذي هبت أسرته قبل ذلك من تونس قد قام بدور هام، فجمع من الموشحات الأندلسية ما انتشر ولم منها ما انتثر في كتابه "الحايك". وقد توفي بتطوان عام 1130هـ بعد نشاط غامر اتصل ضمنه بمجموع منطقة الشمال بين سبتة والفنيدق وتطوان التي كانت مسرحا لكثير من الموريسكيين الذين ظلوا يترددون بين هذه المراكز مستنشقين هواء الأندلس الشهيدة يرددون الألحان الغرناطية في نغماتها الشجية أكثر منها في موشحاتها التي فقدوا نصها

    (1/11920)

    بإبعادهم إبان محنة غرناطة عن لغتهم ودينهم. فكان للحايك الفضل في وصل ما حملوه معهم بما تجمع من تراث غرناطة بفاس. ومن هؤلاء الفاسيين ابن الطاهر المهدي بن يوسف بن أبي عسرية بن علي بن أبي المحاسن الفاسي الموسيقي (1187هـ/1764م) ("تاريخ تطوان"، ج3، ص.66؛ "عناية أولي المجد"، ص.58) والذي كان يعرف -حسب مؤرخ تطوان سكيرج- إنشاء 24 طبعا من طبوع الموسيقى ويعزف على العود والرباب وقد تتلمذ للأديب الشبلي المكناسي.

    (1/11921)

    ... وقد امتاز المغرب بطبوع خاصة مثل الحصار الذي اعترف "المعجم الوسيط لمجمع القاهرة" بطابعه المغربي وكذلك البسيط وهو المسمى عند المشارقة "المحجر" ("الإعلام" للمراكشي، الطبعة الأولى، ج2، ص.199) وبطبع الاستهلال الذي اخترعه الحاج علال البطل في العهد السعدي حسب كتاب في الفن لمؤلف مجهول في المكتبة الوطنية بمدريد عدد 5307. وحتى الملحون عرف طبعا فريدا هو "السماوية" التي تغنى بصوت منخفض يتصاعد تدريجيا إلى السماء.

    (1/11922)

    ... وقد استعمل الموسيقار كل أصناف الآلات مثل العود والكمان أو الكمنجة (Violon)، وهي آلة ذات أوتار أربعة انضافت إليها في العقود الأخيرة الكمان الجهير (Violoncelle) والبيان (Piano) وهو آلة ذات ملامس (Clavier). وقد عوض البيان القيتارى (Clavecin) الذي هو بيان قديم قيتاري الشكل. ولعل هذا "القيتار" من القتر، وهو نصال الأهداف كناية عن تأثير أوتاره وتحريكه للوجدان، ويعرف في أوروبا بـGuitare، وهو آلة ذات أوتار ينقر عليها بقوة، وهي مسطحة الجانبين مشرقية الأصل (حسب قاموس Hachette). وقد عرف العرب القانون

    (1/11923)

    الذي تفنن الفيلسوف الفارابي في العزف عليه بألحان يثير بها مكان الفؤاد فرحا وحزنا يضحك ويبكي تبعا لمدى الضغط على الملامس. ومن الآلات العربية التي اتسمت بطابع مغربي خاص الرباب (Rebec)، وهو ذو وترين اثنين يعزف عليهما بمنهج دقيق جسا بأصابع اليد اليسرى. وقد مهر فيه الشيخ البريهي بفاس وربيبه عبد الكريم الرايس والفنان السبيع بالرباط. كما مهر في القانون صالح الشرقي. وهنالك رباب عراقي من أربعة أوتار ورباب شعبي وحيد الوتر أشبه بما يعرف بالكنبري. ومهما يكن، فإن العازفين على الرباب قليلون جدا نظرا لصعوبة

    (1/11924)

    ممارسة هذه الآلة بمهارة ويعد أصحابها اليوم في العالم العربي على رؤوس الأصابع منهم علي المرابط والعربي بنصاري بالجزائر ومحمد غانم وأحمد بطيخ والدكتور بلحسن فوزة بتونس وإبراهيم الشعوبي في العراق. وقد أصبح كثير من الشباب يتعاطون العزف على الرباب بتشجيع من المعهد الموسيقي بالرباط.

    ... وقد تواكب اللحن الموسيقي في كثير من الأحيان مع ألحان السماع في المديح النبوي حيث علق الأمير الوليد بن زيدان بالسماع لا ينفك عنه ليلا ولا نهارا ("الاستقصا"، ج3، ص.133). وقد نشأ بعض الموسيقيين في العهد العلوي في أحضان

    (1/11925)

    الزوايا الصوفية كزاويتي الحراق وابن الريسوني بتطوان والزاوية الوزانية بفروعها في عواصم كبرى كفاس وطنجة. وقد كان للمعهد الموسيقي العصري بتطوان صلة وثيقة بالزاويتين المذكورتين. وكان على رأس هذا المعهد أخونا المرحوم إدريس بنونة. ومن تعاون المركزين انبثقت ألحان جديدة ذات ميسم خاص. وكان حب ليلى الذي تزخر به مواويل الآلة يتردد في الأذكار الملحنة بالزاوية حيث ينشد المسمعون قول الشيخ محمد الحراق:

    أتبحث عن ليلى وفيك تجلت ... وتحسبها غيرا وغيرك ليست

    (1/11926)

    ... وقد حاول كثير من رجال الفن الذين توثقت صلاتهم بالطرق الصوفية تحقيق ازدواجية إيجابية بين الموسيقى والسماع، فأضافوا إلى شعر الغزل والتشبيب أشعار المديح النبوي. وقد كانت لوالدي العلامة عبد الواحد بنعبد الله يد طولى في هذا التزاوج. فكان إلى جانب تضلعه في الأصول والحديث والفقه، يلعب الشطرنج ويحفظ كل الطبوع؛ مما ساعده على ضمان وحدة تلحينية بين الطرفين. ولا بدع في ذلك إذا علمنا أن للموسيقى والسماع أحيانا نفسا واحدا ينطلق من الوجدان. فشاعر الأمراء حافظ شوقي الذي عارض "همزية البوصيري" يقول في ملحمته

    (1/11927)

    الغرامية بين عبلة وعنترة ضمن حوار بينهما حيث سأل عنتر عشقته قائلا:

    ماذا وددت يا عبيل يا حياة عنتر؟

    ... فأجابته:

    إني وددت أني صدف ... ... وأنت فيه جوهر

    في زاخر لم يدر بعـ ... ... ـد الغائصون خبره

    ... والحب في هدفيه البشري والرباني هو محور الطريقتين. فقد قال ابن الفارض:

    شربنا على حب الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

    ... وقالت ربيعة العدوية:

    أحبك حبين حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا

    ... وقول الشيخ الصوفي السري السقطي:

    لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذلك من يتقلى

    (1/11928)

    إن للعاشقين عن قصر الليـ ... ـل وعن طوله لفي الحب شغلا

    ... وقول إبراهيم بن أدهم:

    ولو قطعتني في الحب إربا ... ... لما حن الفؤاد إلى سواك

    ... وكثير من هذه الألحان السماعية قد أدرجت في الآلة الأندلسية، فأصبحت جزءا من غزلها كقولهم:

    عدتم فعادت ليالي الوصل أعيادا ... من قربكم ولذيذ الأنس قد عادا

    لا أوحش الله عيني من جمالكم ... يا نورها لأقضى الدهر إسعادا

    وقولهم:

    تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل إذا رضي المحبوب صح لك الوصل

    تذلل له تحظ برؤيا جماله ففي وجه من تهوى الفرائض والنفل

    وقولهم:

    (1/11929)

    لي حبيب حبه حشو الحشا ... إن يشا يمشي على قلبي مشى

    قوله قولي وقولي قوله ... إن يشا شئت وإن شئت يشا

    ... وكان الملحنون في الحقلين دور كبير. وقد اشتهر في هذا المجال الشيخ المغراوي والشيخ الأكحل (مكتبة تطوان، 589) (راجع "الأغاني الأراجيز أو مواويل الملحون في فاس والرباط وسلا"، كتاب بقلم Jeanne Jouin، طبع عام 1900هـ).

    ... على أن الموسيقى قد امتزجت بالسماع المرفق بالآلة منذ القرن الثاني عشر، حيث كان علماء القرويين وكبار شيوخ الصوفية لا يأنفون من الاستماع إليهما في نطاق المروءة والصون. وقد برز في عهد

    (1/11930)

    المولى سليمان (ت1238هـ) عازف مسمع هو الشيخ الجابري الذي كان يطرب بحضور شيخ الجماعة بجامع القرويين العلامة سيدي حمدون بلحاج والعلامة المحدث الصوفي سيدي أحمد التجاني. وقد مدحه الشيخ حمدون بلحاج بقوله:

    إن السماع لمقلة: إنسانها في الجابري:

    ... ... ... جبر القلوب بقوسه فاعجب لقوس جابري

    ... وكان العلامة المحدث أبو المواهب سيدي العربي السائح الرباطي يطرب لسماعه.

    ... وقد قامت المرأة المغربية بدور في الموسيقى احتذاء بالأندلسيات اللواتي نظمن موشحات غنائية مثل أم العلام الحجازية صاحبة الموشحات وأم الكرام

    (1/11931)

    ابنة المعتصم صاحبة المرية وأمة العزيز الأندلسية ("المطرب" لابن دحية). وكان العزف والغناء يمارسان ضمن أجواق نسوية في القصور الملكية على نسق ما عرف في الدولة العباسية، بل ازدهرت حتى داخل العائلات من هواة الآلة في الحواضر. على أن البادية المغربية قد عرفت هذا الازدهار مثل "الهكار" التي كانت تابعة للمغرب ضمن صحرائه الكبرى امتازت فيها المرأة بالعزف والتلحين. وكانت الموسيقى خاصة في الريف المجاور للأندلس هجير المرأة البدوية حيث لا تكاد تسمع في القبيلة سوى نغمات المزمار ورنات الأناشيد. ولم يكن ذلك يشغل

    (1/11932)

    المرأة عن إسهامها من فن مواز هو التمثيل الشعبي في تمسمان بالإضافة إلى خوض المعارك الجهادية لتحرير البلاد في بني توزين وفلح الحقول والسقي والحصاد. كما أن النهل من هذا المنبع لم يمنع المرأة في كزناية من المشاركة في مداولات مجلس الجماعة متقلدة بندقيتها التي تستخدمها بمهارة وهي تغني ممارسة في الوقت نفسه الرياضة والسباحة في بني سعيد ومسابح سيدي عيسى. وفي الأطلس وقممه الشامخة كانت الألحان الشعبية بمشاركة المرأة يتردد صداها ضمن رقصات أحيدوس وأحواش والكدرة في روعة أصبحنا نتملى ببعض جوانبها في التلفزة

    (1/11933)

    المغربية.

    المراجع:

    ... ولعل المراجع في اللغات العربية والأوربية المتعلقة بالموسيقى من أغنى المرتجع التي انفرد بها هذا الفن العربي الأصيل. ونستعرض فيما يلي قسما من هذه المراجع مع إبراز ما كتب حول ازدواجية الموسيقى والسماع وما أثاره ذلك من مناظرات بين علماء الدين والصوفية من جهة وهواة الآلة الأندلسية من جهة أخرى.

    ... - "الإنسان المعجب في اللسان المطرب" لأبي الفضل الكبير بن هاشم الكتاني، (مات دون إتمامه)، الموجود منه في ثلاثة كراريس.

    (1/11934)

    ... - محمد بن أحمد بن الحداد الواد آشي، له ديوان كبير في العروض نظر فيه بين الألحان الموسيقية والآراء الخليلية، ("النفح" ج9، ص.238).

    ... - محمد العابد بن أحمد بن سودة، "استنزال الرحمات بالطبع والنغمات أو بإنشاد بردة المديح بالنغمات".

    ... - "الآلة وإطباعها ونغماتها وتاريخ دخولها إلى المغرب وشرح مصطلحات الموسيقى"، مجلد وسط فرغ منه 1325هـ/1907م.

    ... - محمد بن الطيب بن أحمد بن يوسف العلمي (المتوفى بمصر عام 1135-1134هـ/1721-1723م)، "مؤرخو الشرفاء"، ص.295.

    (1/11935)

    ... - قصيدة غلام يسمى أبا الحسن علي الدكالي (68 بيتا)، خع-158د، مطلعها:

    أفدي بأمي وأبي ... ... ظبيا عزيزا مر بي

    له "رسالة في معرفة النغمات الثمان" (مدريد 334، ed H. G. farmer, Glasgow, 1933).

    ... - محمد بن جعفر الكتاني (1345هـ/1926م)، له تقييدات على "كتاب السماع" لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسرلني (مكتبة المرحوم الأستاذ محمد الناصر الكتاني).

    ... - محمد التهامي بن المدني جنون، 1331هـ/1913م، له "الزجر والإقناع بزواجر الشرع المطاع عن آلات اللهو والسماع"، سار فيه على تشديدات ابن

    (1/11936)

    الحاج لا على تسهيلات المواق وقد طبع بفاس، في 295ص. ألف في الرد عليه سيدي جعفر الكتاني "مواهب الجرب في السماع وآلات الطرب" ("الإعلام" للمراكشي، ج6، ص.103، الطبعة الأولى).

    ... - محمد الغالي بن المكي بن سليمان له "الجواهر الحسان في نغم الألحان"، يقع في كراستين، خزانة محمد المنوني بمكناس. له "تشنيف الأسماع في أسماء الجماع وما يلائمه من مستندات السماع" في مجلدين، طبع الجزء الأول بفاس، في 60 ص.

    ... - ابن نصيحة موسيقار السلطان محمد بن عبد الله، راجع "اختصار أبي إسحاق التادلي لتذكرة الأنطاكي"، مخطوط

    (1/11937)

    العلامة محمد التطواني بسلا.

    ... - رسالتان لأحمد بن خالد الناصري في الموسيقى والتنظير بين النغمات العربية والعجمية، خاطب بهما صديقه العلامة الفلكي إدريس بن محمد (فتحا) الجعيدي السلاوي.

    ... - تأليف في "الأمداح النبوية وذكر النغمات والطبوع" لأحمد بن محمد بن العربي أحضري البوعصامي الأندلسي المراكشي، كان حيا أواخر المائة الثانية عشرة، رتب مدائح وموشحات أهل المغرب على النغمات الأربع والعشرين وذكر مستنبط كل نوبة ساير به كتاب "الحايك" في الأمداح بدل التغزل والنسيب (مجلد ضخم في الخزانة السودية بفاس).

    (1/11938)

    ... وقد ذكر النغمات والطبوع مع بيان تعلقها بالطبائع الأربعة وصور شجرة الطبوع، فجعل "الغريبة" المحررة تميل لكل طبع أصلا بلا فروع وجعل الماية أصل رمل الماية انقلاب الرمل والحسين والرصد للدم وفصل الربيع وجعل الزيدان أصل حجاز كبير، إلخ. (راجع "الإعلام" للمراكشي، ج2، ص.199). حيث ذكر أنه يوجد بخزانته.

    ... - أحمد العسراوي التطواني الموسيقي، له "اختصار التذكرة للتادلي".

    ... - أحمد بن محمد بن الخياط الزكاري، 1343هـ/1924م. له "مواهب الأرب المبرئة من الجرب في السماع وآلات الطرب"، مجلد اختصره الشيخ جعفر

    (1/11939)

    الكتاني، وطبع هذا الاختصار بفاس على الحجر، 23 ورقة.

    ... - "الإمتاع والانتفاع في مسألة السماع"، إلخ، مجهول المؤلف ألفه باسم يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني (706هـ/1307م)، ورتبه على ثلاثة أبواب وسمى فيه 31 نوعا من آلات الموسيقى، توجد نسخة منه بالمكتبة الوطنية بمدريد، فرغ منها ناسخها عام 701هـ/1301م. وقف عليها الشيخ عباس بن إبراهيم المراكشي ("الإعلام"، ج2، ص.200، الطبعة الأولى)؛ كما وقف الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني على اسم المؤلف وهو أبو عبد الله بن الدراج ويوجد كتاب باسمه في خع 1828د عنوانه

    (1/11940)

    "الكفاية والغناء في أحكام الغناء".

    ... وقد أشار المراكشي إلى ما أورده المؤلف من أن طبع "الاستهلال" الذي هو فرع "الذيل" قد استخرجه الحاج علال البطلة بفاس أيام محمد الشيخ السعدي (يوجد في مجلد عدد 5307؛ ويوجد بخزانة الأستاذ محمد داود بتطوان كتاب من هذا النوع بخط العلامة محمد بن قاسم بن زاكور).

    ... - "كشف القناع عن تأثير الطبوع في الطباع"، لسليمان الحوات أبي بكر الإدريسي القيطوني (1240هـ/1824م)، أستاذ محمد بن علي السنوسي في الموسيقى.

    ... - "حاضر العالم الإسلامي" للأمير شكيب أرسلان، ج1، ص.279.

    (1/11941)

    ... - أبو الحكم عبيد الله الباهلي (549هـ/1155م)، درس ببلده في العهد المرابطي. وهو طبيب شاعر هجاء مهر في الموسيقى وضرب العود ("نفح الطيب"، ج1، ص.385، طبعة مصر؛ ابن خلكان، ص.332).

    ... - أبو الصلت، أمية بن عبد العزيز (529هـ/1134م). له رسالة في الموسيقي، فقد الأصل العربي واحتفظ بالترجمة العبرية دون اسم المترجم، في المكتبة الوطنية بباريس، عدد 1036.

    ... - لوكلير (Leclerc)، "الطب العربي"، ج2، ص.74.

    ... - سارطون (Sarton)، "مدخل إلى تاريخ العلم"، ج1، ص.203.

    (1/11942)

    ... - أحمد بن المامون البلغيثي الرباطي الفاسي، 1348هـ/1929م.

    ... - عبد الرحمن بن عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي، 1096هـ/1958م، له "الجموع في علم الموسيقى والطبوع" (رجز)، برلين، 5521. وقد تحدث في كتابه "الأقنوم" عن الطب بالألحان في ثمانية أبيات.

    ... - عبد السلام بن الطائع أبو غالب الإدريسي الفاسي الموسيقي (1290هـ/1874م)، "شجرة النور"، ص.403. له: "اختصار التذكرة" للتادلي؛ "أغاني السيقا".

    ... مولاي العربي بن أحمد الوزاني له: "معلومات عن الطرب الأندلسي والعلامات الموسيقية" خح7728، كناش الموسيقى

    (1/11943)

    الأندلسية، 11 نوبة، مكتبة الكلاوي.

    ... - "الروضة الغناء في أصول الغناء"، ذكر مؤلفه المجهول أمداحا قيلت في السلطان مولاي رشيد، وهو ينقل عن ابن زاكور التطواني والبوعصامي، خع192، 137 ورقة، المكتبة الوطنية بتونس (د33م). وهو مجموع مشتمل على أصول ألحان وأصوات وفروع وموشحات وما شاكلها من أوزان وأبيات.

    ... - "مجموع في الغناء والطرب".

    ... - "نوبات على الترتيب التطواني"، خع1518د، 98 صفحة.

    ... مجموع في الغناء والطرب اعتنت بجمعه الإرسالية العلمية الفرنسية بطنجة، وهو عبارة عن أجزاء من نوبات يغلب عليها

    (1/11944)

    الترتيب التطواني، 20 ورقة، خع1459د.

    ... - "المنتخبات الموسيقية"، لإدريس بن عبد العالي، طبع بالرباط.

    ... - "كشف الغطاء عن أسرار الموسيقى ونتائج الغناء"، طبع بالرباط، 25 صفحة.

    ... - "تقدم الموسيقى العربية بالمشرق والمغرب والأندلس" لحسن حسني عبد الوهاب، بالفرنسية.

    ... - "الموسيقى المغربية المسماة أندلسية" لمحمد الفاسي، مجلة تطوان، عدد 7، 1962.

    ... - مجلة اللسان العربي، لسان مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي، عدد 6.

    ... - دعوة الحق، عدد 9، 1959، وعدد 7، 1961.

    (1/11945)

    ... - "تاريخ الموسيقى الأندلسية بالمغرب" لمحمد المنوني، مطبعة الرسالة، الرباط، 1389هـ/1969م.

    ... - "الموسيقى والموسيقيون بالمغرب"، مجلة تطوان، 1962، عدد 7.

    ... - "الآلة الأندلسية بالمغرب"، مجلة البحث العلمي، عدد 9، ص.96.

    ... - "النفح" ج4، ص.117.

    ... - "مجموع الأغاني والألحان من كلام الأندلس"، ديوان الأول والتاسع، في القرنين الثامن، طبع 1904، E. Yafil.

    ... - "تراثنا الموسيقي من الأدوار والموشحات"، اللجنة الموسيقية العليا، تأليف مجموعة من الأساتذة، القاهرة، أربعة مجلدات.

    ... - مصطلحات الموسيقى.

    (1/11946)

    ... - "الإعلام" للمراكشي، ج2، ص.200، الطبعة الأولى.

    ... - أوغست فيشر (August Ficher) (1368هـ/1949)، وهو أستاذ ألماني عضو في مجمع القاهرة. له "زمام الغناء المطرب في النظم السائر في أقاصى المغرب"، بالعربية مع ترجمته إلى الألمانية.

    ... - "الإعلام" للزركلي، ج1، ص.19.

    ... A. Chottin, Les visages de la musique marocaine, Rabat, 1928, 16p.

    ... - الموسيقى العربية الحديثة.

    ... Erlanger (R. d’), La musique Arabe, V. Essai de codification des règles usuelles de la musique arabe moderne, Echelle générale

    (1/11947)

    des sons, Guthner, 1949, p.42.

    ... A. Chottin, Tableau de la musique marocaine, r. des ét. Islam, 1940, cahier III-IV.

    ... (خع 4459).

    (1)

    (1/11948)

    لمحة تاريخية حول مدينة تونس

    الدكتور محمد الباجي بن مامي

    المعهد الوطني للتراث - تونس

    "وهذه المدينة، كلأها الله، من املدن العجيبة الغربية، وهي في غاية الاتساع ونهاية الإتقان ... ولها أبواب عديدة، وعند كل باب منها ربض متسع على قدر البلد المستقل ... كأنها ملك والأرباض لها إكليل ..." - العبدري الحيحي - "الرحلة".

    ذكرها الكثير من الجغرافيين والرحل الزائرين، وأطنبوا في وصفها و التعبير عن الإعجاب بها.

    بسقوط قرطاج، ومسح القائد العربي حسان بن النعمان لرسومها، ظهرت للوجود بالقرب منها، مدينة جديدة، كتب

    (1/11949)

    لها أن تخلف جارتها نهائيا، وأن تصبح عاصمة للبلاد التونسية، وأهم المدن بها. فكانت اسهاماتها في رواج الثقافة العربية الإسلامية، وفي انتشار الحضارة والعمران والفنون، وفي ازدهار الاقتصاد ما يلفت الإنتباه حقا.

    كان اختيار حسان بن النعمان لموقعها ناتج عن عوامل استراتيجية مرتبطة بالحضور البيزنطي في مياه البحر الأبيض المتوسط، خاصة وأن أطماعهم في منطقة دحروا عنها منذ عهد قريبن مازالت متأججة، فكانوا يتحينون الفرص للانقضاض عليها من جديد.

    (1/11950)

    كانت تونس حسب المصادر قبل الفتح الإسلامي، قرية بربرية لم يكن لها أهمية تذكر لوجودها قرب قرطاج العظيمة، ونتيجة لوقوعها في مؤخرة الخليج، بعيدا عن مواضع مراقبة القادمين من البحر.

    إلا أننا نلاحظ ان حفريات وأبارا تمت في بعض المواضع من المدينة العتيقة، وأسفرت عن نتائج جد هامة غيرت كثيرا من الاعتبارات، إذ أثبتت وجود العديد من الآثار البونية والرومانية والبيزنطية، وذلك في حي الحفصية وفي القصة وداخل جامع الزيتونة - قرب المئذنة - وكذلك في جامع القصر بباب منارة الخ ... وهذا دليل واضح أن تونس مثلث مدينة

    (1/11951)

    ذات أهمية لا يستهان بها خلال الفترات الكلاسيكية. ومن المؤكد انها كانت تمثل البعد الدفاعي لقرطاج من الداخل، إذ أننا نعلم أن سكان تونس انذاك كانوا من بين السكان الأصليين للبلاد.

    إلا أنه مع الفتح الإسلامي، تغيرت المعطيات، وأصبح من الضروري أن يكون خط المواجهة من الداخل، خاصة وأن البحرية العربية لم تكن تضاهي آنذاك مستوى الأسطول البيزنطي.

    كما تتميز تونس بموقعها الاستراتيجي والدفاعي، غذ لا يضاهيها في هذا أي موقع آخر، فهي ليست بعيدة عن البحر، وفي آن واحد في مأمن من عوادي الزمان وهجوم الأعادي، محتمية

    (1/11952)

    وراء بحريتها. إذ أن من خاصيات موقعها، انها تطورت بين بحريتين، السبخة من الجهة الغربية والبحرية من الجهة الشرقية.

    هكذا أسس إذن حسان بن النعمان تونس سنة 84 هـ / 703 م، لتكون مركزا دفاعيا يمكنها من مواجهة الخطر البيزنطي، فكانت السد المنيع أمام هجمات الأعداء من البحر، والحامية لقسم هام من داخل البلاد، وجعل منها في آن واحد، نقطة الانطلاق للجيوش الإسلامية الفاتحة والغازية للجزر المتوسطية.

    وحتى يتمكن هذا الجيش الناشر لرسالة الإسلام من مضاهاة الأسطور البيزنطي،

    (1/11953)

    بادر حسان بن النعمان بإنشاء دار صناعة قريبة من البحيرة، وقد ذكر أبو عبيد البكري أن

    البيزنطيين أغاروا من البحر على المسلمين بمدينة تونس فيقول : "كتب عبد الملك بن مروان

    إلى أخيه عبد العزيز والي مصر أن يوجه معسكر تونس ألف قطبي بأهله وولده، وأن يحملهم

    من مصر، ويحسن عونهم حتى يصلوا إلى توشيش وهي تونس، وكتب إلى ابن النعمان يأمره أن يبني لهم دار صناعة تكون قوة وعدة للمسلمين ... وأن يصنع بها المراكب ويجاهد الروم في البر والبحر، وأن يغادر منها على ساحل الروم، فيشتغلوا عن القيروان ..." هكذا سيكتب لتونس

    (1/11954)

    أن تلعب دورا

    دفاعيا، وستكون خاصة من أهم المراكز المستعملة في الحروب البحرية، بفضل ما توفره لها دار الصناعة من سفن، فاقت بها الأسطول البيزنطي. كما أن قدوم الأقباط من مصر سيكون أول الغيث، إذ ستستقطب ميدنة تونس أجناسا عديدة، توافدوا في مد متواصل، إذ فتحت هذه المدينة ذراعيها لكل الوافدين عليها، إما من أجل طلب العلم، او للاحتماء بأسوارها الحصينة أو من أجل طلب الرزق ...

    اختط حسان إذن المدينة الجديدة، بطريقة ذكية، فقد جعل فيها إضافة لدار الصناعة، مسجدا ذكره البكري، إلا أنه لا يفيدنا إن كان هو الجامع

    (1/11955)

    الأعظم الحالي، إذ يؤكد ابن الشباط والرقيق القيرواني، أن عبيد الله بن الحبحاب هو المؤسس للجامع سنة 114 هـ / 732 م. أما ابن عذاري فقد ذكر تاريخ 116 هـ / 734 م. لكن لا يمكن تصور المسلمين طوال ثلاثين سنة من غير جامع يؤمونه ويصلون فيه، ومن الراجح أنه حصل نفس الخطأ الذي نلاحظه بالنسبة لدار الصناعة، إذ يفيدنا البكري أنه : "تقدم أن عبيد الله بن الحبحاب بنى دار الصناعة، فلعل من روى ذلك يريد أن عبيد الله جددها وزادها تحصينا ..." فلعل نفس الشيء حصل بالنسبة لجامع الزيتونة، ومن الممكن أن ابن الحجاب وسع فيه،

    (1/11956)

    وأضاف إليه بعض الزيادات، ويكون ذلك دليلا قاطعا على اتساع المدينة، وازدياد عدد سكانها خلال فترة وجيزة من الزمن.

    وفق ابن النعمان في اختيار موقع هذا الجامع الذي طار صيته بين سكان المغرب الإسلامي. وقد لعب الجامع دورا دينيا وعلميا وكذلك دفاعيا أساسيا، إذ كان مطلا على البحر، لهذا بنى المؤسس في زاويته - الشمالية / الشرقية والجنوبية / الشرقية - برجي مراقبة، يمكن عن طريقتهما مراقبة المغير من البحر. كما أن الجدار الشرقي يذكرنا بجدران الحصون والأربطة، فحجارته السميكة تؤكد هذا الدور الدفاعي.

    (1/11957)

    ومن الواضح، أنه خلال القرون الإسلامية الأولى، شاهدت مدينة القيروان نموا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، أهم بكثير من مدن افريقية الأخرى. لكن لم يمنع هذا ميدنة تونس من لامساهمة الفعالة في النهضة العامة للبلاد.

    وهكذا مثل القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي فترة ازدهار وتطور بالنسبة

    للمدينة، فجدد الأغالبة جامع الزيتونة، وفي آخر أعمال البناء سنة 250 هـ / 864 م، أمر الخليفة المستعين بالله العباسي، إضافة قبة المحراب التي تعتبر عملا فنيا بديعا، وبإتمام هذه الأشغال أخذ الجامع شكله ومساحته النهائتين.

    (1/11958)

    كما أن ابراهيم الثاني جعل من تونس عاصمة له، انطلاقا من سنة 281 هـ / 893 م وذلك لمدة سنتين وانتقل إليها أيضا عبد الله بن الأغلب من سنة 291 هـ / 903 م إلى سنة 293 هـ / 905م - حيث اغتاله ابنه زيادة اله الثالث - وقد ساهم في تطورها التجاري، خاصة وأن علاقاتها مع بعض مناطق البحر الأبيض المتوسط، كانت تعرف دفعا متواصلا. مما يجلب الانتباه أنه انشئت خلال هذه الفترة القصيرة من استقرار الأغالبة بتونس، العديد من القصور والمنشآت، إضافة إلى أن زيادة الله الثالث أعاد بناء أسوار المدينة، مما زادها تحصينا ومناعة.

    (1/11959)

    وقد زار ابن حوقل تونس في بداية القرن التاسع الهجري / العاشر الميلادي، وأبدى إعجابه الشديد بها، وبما وصلت إليه من الرخاء والازدهار. لكن نتيجة لفترة الاضطرابات التي واكبت ثورة صاحب الحمار (أبو يزيد مخلد بن كيداد) لم ينتعش الاقتصاد من جديد إلا في أواخر القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، فيبدو ان الولي الصالح محرز بن خلف وقف حازما أعاد به الحياة إلى الأسواق، فتذكر المصادر بأنه سهر على مصالح قومه وحاول انعاش الحياة الإقتصادية والتجارية، إذ عاش في فترة شبابه الأزمة الاقتصادية التي عرفتها إفريقية

    (1/11960)

    نتيجة لعمليات التخريب والنهب خلال ثورة صاحب الحمار. فتقهقرت الحياة الاقتصادية بكافة نواحي افريقية، وخاصة منها تونس، بعدما عرفت ازدهار نسبيا في أواخر القرن الثالث الهجري. ومما نعلمه أن الشيخ سيدي محرز أحيي السويقة المجاورة لمقره والتي تسمى باسمها أهم أبواب الميدنة، كما ساهم في إعادة بناء أسوار الميدنة لحمايتها من الأعداء.

    كما حافظت الذاكرة الشعبية على اهتمام هذا الولي باليهود الذين كانوا يسكنون خارج الأسوار بحي كان يسمى المرضى (وهو مرض الوباء) والذي يعرف حاليا بحي الملاسين، وبما أن هؤلاء اليهود

    (1/11961)

    اشتهروا ببراعتهم في بعض الصناعات وخاصة في مهنة التجارة، فقد حرص سيدي محرز على تخصيص حي خاص بهم داخل الأسوار وهو الذي كان يعرف باسم حارة اليهود في حي الحفصية.

    إلا أن فترة الازدهار والرخاء التي عفتها البلاد لم تتواصل، ففي أوساط القرن الخامس الهجري / العاشر الميلادي، مرت إفريقية بفترات مضطربة، كان سببها الرئيسي زحف بني سليم وبني هلال، مما تسبب في تقلص هذه الحضارة، ودام هذا الركود فترة طويلة.

    لكن استطاعت مدينة تونس - خلالفا لبقية مدن افريقية - أن تخرج من هذا الانحطاط بسرعة، إذ عرفت في أيام بني

    (1/11962)

    خرسان، ازدهار نسبيا في الميدان الاقتصادي وفي الناحية الفنية والمعمارية، إذ أسس فيها عبد الحق بن خراسان دويلة دامت من سنة 451 هـ / 1059 م إلى سنة 555 هـ / 1160 م. وقد بنى الأمير أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق، قصرا يوجد حسبما يبدو على أنقاضه قصر دار حسين. كما أقام كذلك الأسوار التي ذكرها الإدريسي. وتشهد على هذا الازدهار الذي عرفته المدينة آثار الخراسانيين الباقية، ومنها تربة بني خرسان وجامع القصر.

    (1/11963)

    إلا أن أسبارا أجريت في داخل بيت الصلاة أثبتت أن هذا الجامع كان في أول الأمر حصنا بيزنطيا، استعمله خرسان فيما بعد لإقامة الصلاة، فجعلوا منه جامعا خاصا بهم.

    أما في عهد الموحدين، فقد لقيت تونس عناية، أكبر، خصوصا بتشييد القصبة على يدي عبد المؤمن بن علي سنة الأخماس 555 هـ / 1160 م) التي بلغ اتساعها حوالي الربع من مساحة المدينة والتي يمكن اعتبارها مدينة مستقلة بذاتها.

    بعد أن أصبحت تونس انطلاقا من هذه الفترة، العاصمة الشرقة للأمبراطورية الموحدية، جاء الحفصيون بعد الموحدين، وتابعوا ما قام به من سبقهم

    (1/11964)

    في الحكم، وشجعوا التطور الحاصل، فأبقوا تونس عاصمة لهم، وزادوا في توسيعها والاعتناء بها. ولا ريب أن الفترة الحفصية تعتبر في مجملها عهد نهضة وازدهار، وهكذا أصبحت تونس مدينة متسعة الأطراف، غذ بلغ عدد سكانها - في القرن الخامس عشر الميلادي - حوالي مائة ألف نسمة على مسافة 270 هكتار.

    نتيجة لهذا النمو السكاني، تعددت جوامع الخطبة بالمدينة، إذ شيدت خمسة

    منها خلال القرن التاسع الهجري / الثالث عشر الميلادي ولم يحصل ذلك إلا انطلاقا

    (1/11965)

    من سنة 630 هـ / 1233 م، حيث أقام أبو زكرياء الأول جامع القصبة الموحدي، وهو أول جوامع المدينة الذي يؤسس بعد جامع الزيتونة. إذ علمت إفريقيا خلال الفترة الإسلامية الولى، بالنهي عن وجود أكثر من جامع خطبة بالمدينة الواحدة. وهكذا بقي الجامع الأعظم، هو الوحيد في مدينة تونس إلى بداية القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي.

    كما أن العثمانيين ساهموا بطريقة مباشرة في إعطاء تونس نفسا جديدا، وإرجاع ديناميكيتها المعهودة بعد فترة التراجع التي عرفتها خلال القرن العاشر الهجري / السادس الميلادي. فإن كان القرن

    (1/11966)

    الموالي أحلك الفترات التي مرت بها البلاد. إذ عرفت الثلاثة أرباع الأولى لهذا القرن حروبا عنيفة دارت رحاها بمدينة تونس وعدة جهات من البلاد، بين الجيوش التركية والأسطول الإسباني، والتي انتهت بانتصار العثمانيين سنة 1574 م :

    فقد افتك الإسبان بجاية وطرابلس بداية من سنة 916 هـ/ 1510م. وتولى أبو محمد الحسن منصب الحكم سنة 932 هـ/ 1525م، ولم تكن مدته أحسن ممن سبقه (أبو عبد الله محمد بن الحسن الذي ساهم في إضعاف الدولة) واضطربت البلاد على يد ابن محمد الحسن. وفي أيامه قدم خير الدين وتلت قدومه حروب عديدة،

    (1/11967)

    استنجد أثناءها أبو الحسن بالإسبان. ورغم محاولة ابنه أبي العباس انقاذ الموقف، فإن الأمور تدهورت أكثر من ذي قبل، إذ ترك أبو الحسن خزينة الدولة فارغة من الأموال، فلم يتيسر لابنه الدفاع عن البلاد. وأهم ما اتسم به هذا القرن هو دخول الإسبان إلى مدينة تونس خاصة في سنة 941 هـ/1535م، ويذكر الوزير السراج أنها "الواقعة التي نهبوا فيها وسلبوا وقتلوا أهل تونس" هي التي يعرفها أهل تونس آنذاك "بواقعة الأربعاء" فقد أباح فيها أبو الحسن الحفصي البلاد للإسبان مدة ثلاثة أيام.

    (1/11968)

    ولم ينح الجامع الأعظم من النهب والسلب، فيعلمنا ابن أبي دينار أن النصارى نهبوا خزائن جامع الزيتونة وحرقوا السقوف، كما يعلمنا أنه لحق المدارس ما لحق بالجامع. وتفرقت ما جمع فيها من دواوين العلوم.

    وقد اعاد الكرة الإسبان سنة 980 هـ/1573م، ولم تختلف النتائج في هذه المرة عما سبقه في الاحتلال الأول. وقد بلغ الأمر بالجنود الإسبان إلى تحطيم سقوف الأبنية لاستعمال ألواحها للتدفئة، وقد بلغ الأمر بالجنود الإسبان إلى تحطيم سقوف الأبنية لاستعمال ألواحها للتدفئة، وهو ما تسبب في خروج عدد هام من سكان المدينة إلى

    (1/11969)

    خارجها حفاظا على نسائهم وأبنائهم من القتل والسبي.

    إلا أن مجيء الأتراك بعد معركة حلق الوادي 1574م كان مختلفا عن الهجرات الأخرى، إذ هو متصل باستيلائهم على البلاد، فأول القادمين كانوا من الجند، وقد حاول هؤلاء التأثير في البلاد من الناحية المذهبية، لذلك بنوا الجامع وشيدوا المدارس - كاليوسفية - وأحيوا ما هدم منها - كالشماعية والعنقية - وحاولوا عن طريقها نشر مذهبهم الحنفي لدى العامة. إلا ان الاتجاه لم يتبلور إلا في بداية القرن الحادي الهجري / السابع عشر الميلادي.

    (1/11970)

    كما أنشئت خلال نفس هذا القرن أسواق جديدة (كسوق البركة وسوق الترك وسوق الباي وسوق الجرابة ...) وجوامع خطبة، خاصة منها جامع يوسف داي (سنة 1611 م) ثم جامع حمودة باشا المرادي (سنة 1655) وجامع سيدي محرز (سنة 1696م)، كما أسست العديد من القصور كقصر البايات المراديين قرب القصبة، وكذلك دار عثمان ودار الحداد وغيرها كثير.

    وفي أوائل القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلاد أخذ البايات الحسينيون مكان المراديين، وورثوهم في قيادة الدولة، فعرفت تونس رخاء وانتعاشا، ذلك رغم الحرب الأهلية التي دامت ربع قرن

    (1/11971)

    (انطلاقا من سنة 1140 / 1728 م) وواجه خلالها علي باشا الأول عمه حسين بن علي تركي، وقد أسس كل منهما العديد من المعالم، فإضافة إلى الجامع الجديد بالصباغين، أسست في أيامهما سبع مدارس ضخمة. كما بنيت أهم القصور التي وصلتنا خلال النصف الثاني من نفس هذا القرن، نذكر من بينها : دار حسين ودار ابن عبد الله. كما أسس علي باي الثاني تربة البايات التي يمكن عدها أحد أضخم المعالم الدينية بالمدينة.

    تواصل هذا الرخاء وتدعمت هذه الرفاهية في بداية القرن الثالث عشر الهجري /

    (1/11972)

    التاسع عشر الميلادي، فأضيفت معالم أخرى إلى الرصيد الموجود بعد.

    فإضافة إلى مجموعة المباني التي أنشأها أهم وزير في فترة حمودة باشا ألا وهو يوسف صاحب الطابع، والمتكونة من الجامع المشهور باسمه والمدرستين وقصره والحمام والكتاب والأسواق المحيطة بها، أسست مجموعة من المعالم المدنية كقصر دار لصرم (الراجع إلى سنة 1819)، منشآت دفاعية خاصة منها القشلات الخمس المؤسسة في أيام حمودة باشا.

    هذا، ومن الملاحظ أن المجتمع التونسي، طعم على مر العصور بعناصر أجنبية، لعبت دوار هاما في إعطاء الثقافة والفن والحضارة بصفة

    (1/11973)

    عامة، نفسا جديدا وصيغة اتسمت بأكثر حيوية على مختلف الفترات. وهكذا عرفت تونس العديد من التأثيرات التي قدمت خاصة - خلال القرون الإسلامية الأولى - من المشرق الإسلامي، وكانت اولها تلك التي وردت عن طريق الجزيرة العربية ومصر والعراق وإيران، وكذلك من بلاد الشام.

    لكن بداية من العهد الحفصي أصبحت التأثيرات الأندلسية، المغربية هامة جدا، والتي مازال البعض منها إلى يومنا هذا، وقد أعطى هؤلاء لمدينة تونس طابعا خاصا، ميزها عن العديد من المدن الأخرى، فالكثير من المعالم تأثرت بالنمط الأندلسي، والمغربي على حد

    (1/11974)

    سواء، خاصة مئذنة وقبة الجامع الموحدي بالقصبة وزاوية سيدي قاسم الجليزي (أواخر القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي وغيرها كثير ...).

    كما تواصلت التأثيرات المشرقية خلال الفترة الحفصية، وتمثلت جلها فيما قدم عن طريق مصر، ولم تؤثر العلاقات السياسية السيئة على سير العلاقات التجارية والتقافية، والدليل على ذلك ما حصل في مدرسة ابن تافراكين التي دفن فيها مؤسسها، وكذلك وجود الأواورين في المدارس الثلاث : الشماعية والعنقية والمنتصرية ... وقد عكس ما يؤكده جل المستشرقين من انقطاع هذه العلاقات.

    (1/11975)

    أما أهم هجرة وصلت مدينة تونس، فقد تمثلت في الموريسكيين سنة 101 هـ/ 1609م، ويقدر عددهم بنحو ثمانين ألف نسمة، ورغم ان العديد من هؤلاء المهاجرين وزعوا على عدة قرى ومدن، خاصة بالشمال التونسي، فقد استقطبت تونس الأثرياء منهم، وأهل العلم وأصحاب الحرف - مثل المختصين في صنع الشاشية -.

    ومما لا شك فيه أن العطاء الثقافي والنشاط التعليمي ازدهر بطريقة مطردة انطلاقا من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. فيذكر حسين حسني عبد الوهاب : "أن جامع الزيتونة هو اسبق المعاهد التعليمية للعروبة مولدا، وأقدمها في

    (1/11976)

    التاريخ عهدا، وذلك منذ سنة 120 هـ/ 737م". كما يؤكد بعض المؤرخين أن علي بن زياد أشهر أعلام القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي، والمتوفى سنة 183 هـ/ 800 م، وكذلك ابن أشري، درسا بجامع الزيتونة.

    ومن المؤكد أن علماء أجلاء آخرين عاشوا بتونس، إذ يذكر أبو العرب في طبقات علماء افريقية تسعة من بين أهم أهل العلم بالمدينة. وأصبح للجامع الأعظم شأن عظيم خاصة انطلاقا من بداية العهد الحفصي، وعرف كمعهد علمي طبقت شهراته الآفاق، وتواردت عليه الدارسون من كل حدب وصوب.

    (1/11977)

    ولكن لم يختص الجامع الأعظم بمفرده بالتعليم، بل وجدت العديد من الأماكن الأخرى كالزوايا ومساجد الأحياء المختلفة، وكذلك الدور. وأول من جلس بمنزله، هو علي بن زياد، كما درس محرز بن خلف بداية من أواخر القرن الرابع الهجري / العاشر الميلاد، وفي بيته ...

    وقد نحا أبو زكرياء الأول مؤسس الدولة الحفيصة منحى السلاطين والملوك العظام، فبني وشيد، حتى يعطي مظهرا عظيما لعاصمته، وقد تكون زيادة عدد السكان والتطور العمراني لمدينة تونس سببين المدرسة آخرين دفعا لبناء المدارس، كما الدافع المذهبي جعل السلطان يبني

    (1/11978)

    المدرسة الشماعية أولى مدارس المغرب الإسلامي التي أنشأها حسب كل المؤرخين لنشر المذهب الموحدي، كما أراد أبو زكرياء من وارء ذلك تكوين موظفين أكفاء وإطارات عليا يستعملهم لتقوية أسس دولته، وانطلاقا من هذه الفترة بنيت العديد من المدارس، فاق عددها الثلاثون، ووصلنا منها عشرون مدرسة.

    نشطت إذن الحركة العلمية وازدهرت نتيجة لعدة عوامل منها : تشجيع

    السلطة الحاكمة بما فيها بعض النسوة كالأمير عطف التي أسست جامع ومدرسة

    التوفيق، وكذلك الأميرة فاطمة الاتي بنت المدرسة العنقية، كما وجد عدد هام

    (1/11979)

    من العلماء الذين تركوا بصماتهم في الحركة العلمية والثقافية، لا في مدينة تونس وإفريقية

    فقط، بل اعترف لهم بمقدرتهم في كامل البلاد الإسلامية خاصة بقدوم نخبة من المثقفين الأندلسيين الذين استوطنوا تونس انطلاقا من بداية الدولة الحفصية. وقد أفادنا ابن خلدون أنه : "اجتمع بحضرة المنتصر الحفصي من اعلام الناس الوافدين على أبيه، وخصوصا الندلس، من شاعر مفلق وكاتب بليغ، وعالم تحرير ..." كما أكد ذلك القلصادي في رحلته، وقد ذكر عددها من هؤلاء العلماء ومن بينهم : الشاعر صاحب "الحلة السيراء" والتآليف العديدة :

    (1/11980)

    أبو عبد الله محمد بن الآبار، كما أتى أبو الحسن حازم القرطاجني، وكذلك أبو العباس بن الغماز البلنسي، وابن سيد الناس اليعمري الإشبيلي والنحوي ابن عصفور، وغيرهم كثير من الأسماء اللامعة الذين سيطروا على القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، وقد عرفت مدينة تونس بفضل هؤلاء ومن سواهم من الأفارقة كابن الخباز وأبي القاسم بن زيتونة وقاضي الجماعة ابن عبد الرفيع نهضة علمية شاملة جعلت منها اهم المراكز الثقافية والتعليمية بالمغرب الإسلامي. أما القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي فقد شاهد بروز جماعة

    (1/11981)

    من العلماء الأجلاء كقاضي الجماعة ابن قداح الهواري وابن السلام صاحب المؤلفات الهامة المتوفى سنة 749 هـ / 1348 م. كما استقر بها أبو عبد الله بن مرزوق، وبرز أيضا أبو مهدي عيسى الغبريني، وخاصة أفراد عائلة القلشاني ... لكن طغى اسم عبد الله محمد بن عرفة الورغمي على النصف الثاني من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر ميلادي وهو يعتبر أهم علماء الدين بالبلاد، وبقي اسمه خالدا على مر القرون. أما عبد الرحمن بن خلدون، فهو أبرز العلماء الذين تفتخر بهم مدينة تونس، فهو يعد منشئ علم الإجتماع، وأبرز المؤرخين، كما

    (1/11982)

    برز في العلوم الفكرية بصفة عامة.

    وقد نجح ابن عرفة في تكوين العديد من العلماء البارزين، خاصة منهم : أبو القاسم البرزلي، ومحمد البحيري وأبو عبد الله بن عقاب، وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين برزوا على ساحة التعليم والتأليف في النصف الأول للقرن التاسع الهجري / الخامس عشر ميلادي. ومما يفيدنا به الرحالة المصري عبد الباسط بن خليل أن الفترة ثرية بأسماء عديدة، وقد أعجب بالكثير من الأندلسيين الذين استقروا بتونس، وأهم شخصية ألفت انتباهه هو : محمد الخير المالقي الذي تعرف عليه سنة 846 هـ / 1460 م.

    (1/11983)

    كما برز أيضا خلال الفترة العثمانية الكثير من العلماء والشعراء والمؤلفين، وكان ذلك خلال القرنين الحادي عشر الميلادي، من بينهم : أبو عبد الله برناز وأحمد برناز صاحب "الشهب المحرقة" والوزير السراج صاحب "الحلل السندسية" ومحمد سعادة صاحب العديد من المؤلفات، كما يضاف إليهم محمد فتاتة، وبعض أفراد عائلة البيارمة، وعائلة الشريف، وعائلية ابن الخوجة.

    أما بالنسبة للإشعاع الروحي لمدينة تونس، فقد شهد على ذلك الكثير من المؤلفين بما فيهم الأوروبيين الذين مروا بتونس : كآدورن وليون الإفريقي، إذ انتشرت الطرق

    (1/11984)

    الصوفية بصورة مطردة، وانطلاقا من محرز بن خلف المتوفى في بداية القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، ولا يكاد يخلو حي من أحياء المدينة من وجود ولي أكثر : خاصة خلال القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، الذي قد خلاله من المغرب أبو الحسن الشاذلي، فكون الكثير من الأتباع من بينهم خاصة السيدة عائشة المنوبية، وسيدي القرجاني وسيدي علي الحطاب وغيرهم ... وتذكر كتب المناقب أن عدد هؤلاء الأتباع بلغ الأربعين.

    (1/11985)

    وقد أصبحت المدينة خلال القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، تعج بهؤلاء المتصوفين نذكر من بينهم أحمد بن عروس الذي كان يتمتع بحماية السلطان الحفصي. ومن المؤكد أنه كان للأولياء والصالحين تأثير مباشر على التونسيين، مما جعل السلاطين الحفصيين، ثم البايات المراديين، فالبايات يتقربون إليهم ويخشونهم. وهذا ما جعل الولي العالم إبراهيم الرياحي يصعد إلى قمة الهرم - خلال النصف الثاني من القرن الماضي - ويخشاه البايات الحسينيون.

    الناحية المعمارية :

    (1/11986)

    بعد هذه اللمحة التاريخية، سنحاول تقديم الناحية الفنية والمعمارية لمدينة تونس وربضيها.

    فمما يجب التأكيد عليه، هو أنه تنوعت مصادر التأثير في الناحية المعمارية

    التونسية، وكذلك في الناحية الفنية بتنوع البلدان الإسلامية والمتوسطية التي صدرت

    عنها. ورغم أنه كان للحضور المصري والأندلسي والمغربي والتركي ... تأثير فعال في عدة مجالات، كالثقافة والفن والمعمار والصناهة ... فالمثال الإيطالي دليل على أنه لم تكن كل هذه التأثيرات إيجابية، وأن للتأثيرات السلبية هي الأخرى مكان في هذه العلاقات الخارجية، غذ أن

    (1/11987)

    الاتجاه إلى شراء الحاجيات والكثير من مواد البناء من إيطاليا، نتج عنه انتياب بعض الميادين تونس - وخاصة حي القلالين - ركود لم تعرفه من قبل.

    لكن من المؤكد أيضا أن الدور الذي لعبته التأثيرات المحلية، كان هاما جدا، اتسمت الهندسة المعمارية الحفصية مثلا، بوجود تأثيرات مختلفة، البعض منها محلي، والبعض الآخر ورد في الخارج، لكنها عرفا كيف يتعايشان. ونتج عنهما فن واحد أعطى الصيغة "الشخصية" للفن الحفصي. وهكذا عرفت مدينة تونس كيف تكون لها شخصيتها، فقد استطاعت هضم التأثيرات الأجنبية، وخلقت أشياء بنفسها بقيت

    (1/11988)

    حية إلى يومنا هذا.

    ومما لا شك فيه أن المدينة العصرية التي أنشأت بداية من أواخر القرن الماضي، أثرت بطريقة سلبية على المدينة العتيقة، وقد زاد الطين بلة بعض المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها سكان المدينة الأصليون مما أدى إلى تراجع كبير في مستوى معيشة البورجوازية القاطنة بالمدينة (والذين كان يطلق عليهم : البلدية) وكذلك الأرستقراطية السياسية والعسكرية. فبعد حرمانهم من موارد رزق الدولة التي كانوا يتنعمون بها قبل استقرار الحماية الفرنسية بالبلاد سنة 1881، وكذلك من الموارد التجارية (التي عرفت

    (1/11989)

    تقهقرا متواصلا لفائدة المتاجر الموجودة بالمدينة العصرية)، لم يستطع هؤلاء مواصلة صيانة دورهم وقصورهم، ومن باب أولى وأحرى مواصلة بناء دور في نفس مستوى الدور السابقة، لهذا هجر السكان الأصليون المدينة العتيقة، خاصة أن نمط المسكن الغربي جبلهم، فتحولت المدينة العتيقة في أقل من نصف قرن، إلى ملجإ للطبقات السفلى ولسكان البادية الوافدين على العاصمة للحصول على شغل.

    لهذا بدأ الكثير ممن يؤمنون بأهمية هذه المدينة وبتراثها في محاولة جزئية

    (1/11990)

    لإعطاء نفس جديد لمدينة تونس، فأنشئ المعهد الوطني للتراث للمحافظة على المدينة منذ

    سنة 1973، وهو يساهم مع جمعية صيانة المدينة في إحياء التراث والمحافظة على طابع المدينة العتيقة وعلى تطويرها، وكذلك على إيجاد حلول للمشاكل المتركمة والتي بدأت نتائجها الإيجابية بادية للعيان : فقد وظفت الكثير من المعالم المرممة. أما المعالم الهامة كجامع الزيتونة وجامع سيدي محرز وغيرها رمم جلها، ويحصل تعهدها وصيانتها بصوة مستمرة.

    (1/11991)

    ومما لا شك فيه أنه ليس من باب الصدفة أو من قبيل المجاملة أن ألحقت اليونسكو مدينة تونس بقائمة المدن المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي، إذ أن هذه المدينة العتيقة تعتبر في حد ذاتها متحفا أثريا، فهي تحتوي حاليا سبعمائة معلم، وتعد احدى المدن العربية التي تحافظ على تراثها، وعلى نسيجها المعماري المتكامل.

    كما أن تونس هامة من حيث وضعيتها الحالية، فهي أولا وبالذات العاصمة السياسية للبلاد، وتحتوي على جل الوزارات والإدارات المركزية، التي ما زال قسم منها يتمحور حول قصر الحكومة بالقصبة، كما أن أهم الأدوار

    (1/11992)

    التي تضطلع به هذه المدينة، إذ تستقطب أسواقها القديمة عددا لا يستهان به من السواح ومن التونسيين أنفسهم.

    ومما لا شك فيه أن مدينة تونس ثرية بمعالمها، إلا أن أهم معالم المدينة على الإطلاق هو جامع الزيتونة :

    ذكر النويري أن أبا ابراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب أمر ببناء الجامع بتونس، وأنه بدأ في البناء سنة 248 هـ/ 863 م، وبعد موته واصل عمله أخوه أبو محمد زيادة الله، ومات هو الآخر قبل الانتهاء من إعادة بناء الجامع. وتوجد نقيشة تحيط بالمربع الحامل لقبة المحراب، تمدنا باسم المستعين بالله العباسي الذي أمر

    (1/11993)

    بالقيام بهذا العمل، وهي مؤرخة في سنة 250 هـ/ 865م، ونص النقيشة هو :

    "بسم الله الرحمن الرحيم، مما أمر بعمله الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين العباسي طلب ثواب الله، وابتغاء مرضاته على يدي نصر مولاه سنة خمسين ومائتين (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله) صنعه فتح الله".

    ومما يلاحظ ان أعمدة بيت الصلاة وتيجانها جلبت من المدينة الأثرية بقرطاج. كما أضيفت بعض العناصر الأخرى خلال الفترات اللاحقة.

    (1/11994)

    فقد اهتم به أمراء بنو خرسان، غذ أضافوا ستة أبواب، كما بنوا مقصورة الإمام، والمقصورة الشرفية (سنة 457 هـ / 1064 م).

    أما خلال الفترة الحفصية فقد صنعت أبواب خشبية تطل على الصحن سنة 716 هـ/1316م على يد السلطان أبو يحيا زكرياء وتثبت ذلك نقيشة ذات خط كوفي متأخر توجد في أعلى باب البهو للمدخل الرئيسي لبيت الصلاة. كما شيدت مقصورة أبي عمرو عثمان، والمكتبة العبدلية أبي فارس عبد العزيز خلال القرن التاسع الهجري / الثامن عشر الميلادي هذا إضافة إلى عدة انجازات تدل على اهتمام الحفصيين بهذا الجامع. لكن عرف

    (1/11995)

    الجامع خلال القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي أحلك الفترات، وذلك مع دخول الإسبان ابتداء من سنة 1535، فقد نهبت خزائنه وحرقت في صحنه حوالي أربعين مجلد ولم ترجع له حرمته، إلا مع دخول الأتراك العثمانيين سنة 1574 م.

    وأضيفت في العهد العثماني على يدي الإمام تاج العارفين البكري النقوش الجصية التي تحلي واجهة المحراب والحدائر، وتؤرخ هذا العمل، نقيشة تحيط بقاعدة قبة المحراب. كما تمت بعض أعمال الترميم في أيام محمد باي المرادي سنة 1064 هـ/ 1655م، وقد جددت المئذبة التي بناها، وذلك سنة 1312 هـ/ 1894م،

    (1/11996)

    وهي تعد حاليا من أجمل مآذن البلاد. إن أهمية هذا الجامع متأتية من كونه حافظ على جل عناصره المعمارية والزخرفية منذ فترة تأسيسه، لذلك يعده الأخصائيون كأقدم معالم الإسلامي الموجودة حاليا - بمعية جامع عقبة بن نافع بالقيروان وجامع دمشق الأموي إضافة إلى جامع قربطة - إذ انقرضت كل المعالم التي بنيت قبله او أعيد تشييدها. وهو هام أيضا لكونه من اثرى المعالم التي بنيت قبله أو أعيد العديد من النقائش التي تؤرخ جل عناصره المعمارية.

    لهذا الجامع تخطيط شبه مربع، وتحتوي بيت الصلاة على سبع مسكبات موازية

    (1/11997)

    الجدار القبلة، وهي تمتد على خمسة بلاطة أعرضها الوسطى، ويحوي الجامع قبتين :

    الأولى التي ذكرناها بعد (قبة المحراب) والمتأثرة بقبة جامع القيروان والتي بناها زيادة

    الله الأغلبي سنة 221 هـ، لكن تعتبر قبة الزيتونة أكثر تطورا باحتوائها على الضلوع

    البارزة والمقرصنات ... أما الثانية فهي قبة رواق البهو والتي أقيمت امام بلاطة

    المحراب، بامر من الخليفة الفاطمي : أبو المنصور العزيز بالله، سنة 385 هـ/ 995 م، وهي تعتبر من أجمل قباب المغرب الإسلامي.

    (1/11998)

    أما المنبر فهو الثاني الذي وصلنا في العالم الإسلامي، فقد سبقه زمنيا بستين منبر جامع عقبة بالقيروان الذي صنع سنة 248 هـ/ 862 م.

    جامع سيدي محرز :

    ومن أهم المعالم التي تمتاز بها مدينة تونس، جامع سيدي محرز، وقد عرف بهذا الإسم لوقوعه أمام ضريح هذا الولي الصالح الذي توفي بداية القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. (413 هـ / 1022 م).

    المؤسس هو محمد باي المرادي، وكانت البداية في الأشغال سنة 1104 هـ/ 1692 م، وتوفي محمد باي قبل إتمامه سنة 1108 هـ/ 1696 م، فأكمل عمارته أخوه رمضان باي الذي توفي هو

    (1/11999)

    الآخر قبل إتمام المئذنة. ويمتاز هذا الجامع عن غيره بالبلاد التونسية، ببعض الخاصيات، ومن بينها اعتماد السقف المتكون من قباب متفاوتة الحجم، على أربع دعامات ضخمة، لذلك لا نجد في بيت الصلاة الأعمدة المرمرية التي اعتدنا وجودها في بقية الجوامع التونسية.

    أما الصحن فهو محيط ببيت الصلاة من ثلاث جهات (الشرقية والشمالية والغربية) وهي ميزة لا نجدها إلا في الجوامع المتأثرة بالطابع المعماري للجوامع التركية، مثل جامع السلطان أحمد، وجامع سليمان القانوني وجامع بايزيد باسطنبول.

    (1/12000)

    ويمتاز المنبر بأنه قار ومبني بالحجارة، وقد كسي بأنواع الرخام الثري، على عكس المنابر التي عرفتها إفرقية في السابق،و كانت منابر خشبية متحولة ويرتكز القوس الموجود في فتحة المنبر على عمودين صغيرين من الرخام، تاج كل منهما من النمط الأندلسي.

    أثري هذا المعلم بألواح الزليج المجلوبة خصيصا من أزنيك، والمتميز بصناعة

    ألوانه وأناقة الأشكال الزخرفية المستوحاة من العناصر النباتية الطبيعية، التي تطغى

    عليها الألوان : الأخضر والأزرق والأحمر والتي عرفت بها منطقة الأناضول. ويتمثل

    (1/12001)

    الطراز الأندلسي، في أطباق فسيسفاء تتخذ أشكالا هندسية تسيطر عليها الأطباق النجمة البسيطة والقليلة الألوان (الأزرق والأصفر والأسود والأبيض).

    بينما تمتاز النقوش الجصية بوجود طرازين : الأول أندلسي متكون من عناصر هندسية متمثلة خاصة في أطباق النجوم المكونة للأفاريز وطاقية المحراب والشمسيات. أما الطراز الثاني فهو تركي الأصل، وتتمثل عناصره في أشكال منفردة : كالمزهريات والنجوم المثمنة وكوز الصنوبر الخ ...

    (1/12002)

    هذان بالطبع مثالان فقط من المعالم العديدة التي مازالت تحتفظ بها تونس العتيقة، هذه المدينة التي ترمم فيها معالم عدة، وتنتقد الإندثار والتلاشي حتى تذكر بماضي تليد وبتاريخ ثري يدفعنا إلى إبراز إحدى المدن الهامة في العالم العربي الإسلامي.

    (1/12003)

    ليبيا في مخطوطات الرحالين المغاربة خلال القرنين 11-12 هـ / 17-18 م

    الدكتور عبد الكريم كريم

    كلية الآداب - الرباط

    من دراستنا لتاريخ الرحلات المغربية إلى المشرق، نلاحظ أن بعضها كان يتم خلال القرن 16 م بواسطة البحر المتوسط، خاصة وأن النفوذ العثماني كان يشمل مناطق هامة من حوض هذا البحر؛ ومن ذلك على سبيل المثال: رحلة التامكروتي إلى إسطامبول عام 1589 - 1590، غير أن اضطراب المتوسط أواخر القرن 16 م نتيجة تحول طرق التجارة العالمية إلى المحيط الأطلسي، وما رافقه من انتشار للفوضى في بلدان الشمال الأفريقي

    (1/12004)

    أجبر القوافل على اتباع الطريق الصحراوي الذي ينطلق من مراكش عبر تافيلالت وتوات وبسكره وتوزر نحو فزان وما جاورها حتى وادي النيل؛ ومن ذلك الرحلتان المغربيتان اللتان قام بهما كل من ابن المليح عام 1040 هـ وأحمد الهشتوكي عام 1096 هـ. وعندما أخذت الأوضاع تعرف نوعا من الاستقرار النسبي في ليبيا غداة تولية الباشا أحمد القرامانلي، أصبحت القوافل المغربية تأخذ طريق الساحل الليبي حتى النيل؛ ومن ذلك رحلات كل من : الدرعي عام 1121 هـ والزبادي عام 1148 هـ والحضيكي عام 1152 هـ والصغير عام 1152 هـ والناصري عام

    (1/12005)

    1196 هـ...

    1- طوبوغرافية المنطقة

    أولا - فيما يتعلق بالطريق الداخلي الصحراوي؛

    ثانيا - فيما يتعلق بالطريق الساحلي الليبي.

    مع تفاصيل الأسماء الأماكن الرئيسية التي كانت تحط بها القوافل وتقدير للمسافات التي تفصلها.

    أولا - الطريق الجنوبي الصحراوي: ينطلق من مدينة مراكش إلى وادي درعة وإلى قصبة تنزولين ثم بلاد بلبالت وتوات (هنا يتم اللقاء عادة مع الوفد السوداني)، فصحراء أزكيز وبلاد فزان بليبيا.

    تعبر القوافل الصحراء الجنوبية الليبية في طريقها نحو الشرق:

    (1/12006)

    1- بلاد فزان وأهم محطاتها: أبار (أباري)، مدرك (مرزوق)، جرمة، دجان، ززي، تراغن (طرغين)، زويلة، تبسه (تمسه).

    ... أول منزل نزله الركب وصادفه المولى الرب قصر أبارصانه الباري... فاتصل الخبر ... ... ... بأميرها... فوجه من فرسان دولته وخدام مملكته نحو اثني عشر فارسا... ثم انتقل بعده ... ... لقصر يقال له جرمة... أهله جياد وأيامه أعياد، أكثر لحومه الدجاج، ثم بعده لقصر ... ... ... دجان... ثم لقصبة السلطان الجليل الرئيس محمد بن جميل، وهي المعروفة بمدرك... ما ... ... أحسن سيرته في رعيته وأنشد عدله في

    (1/12007)

    بريته... تأهب - أعانه الله - للقيا الحجيج وتلقاه ... ... بفرح وسرور... وأمر قاضي عسكره وصاحب النوازل الشرعية ببلده أن يستنفر له من ... ... الركب دوره، فاختار له عشرة، فجالسهم بالحكمة... ثم أمر بمنادينا: من ضيع لمغربي ... ... خروبة، قطعت يده؛ ومن ضيع له مثقالا، قطع رأسه.

    (ابن مليح، صص. 22- 23).

    ثم ارتحل القوم وحلوا " بقصر ززي، ثم نزلنا بقصر تراغن: قصر عظيم"، حيث استضافهم هناك الأمير عمر التراغي.

    أما "زويلة ، فيحكى أنها كانت مدينة عظيمة كثيرة النخيل وفيها مزارات وآثار تدل عليها. ويذكر أن دفات

    (1/12008)

    أبوابها هي القائمة إلى باب زويلة، أحد أبواب مصر وسميت بذلك" (ابن مليح، ص. 24).

    واتجه القوم إلى "مورد يقال له أبو اللباع: غابة من شجر، وفيه آبار قصار قريبة الماء، ثم لقصر تبسه وهو أعلى قصور فزان وآخرها كثيرة المياه والعيون" (ابن مليح، ص. 25).

    2 - بلاد "الفقا :

    بلدة منقطعة في صحراء بين جبلين فيه عيون جارية ونخيل قطوفها دانية" (ابن مليح، ص. 25).

    أما "زلة، فمدشر صغير لا معاش عندهم ولا قوت إلا ماء يسمونه أكَب: يستخرجونه من النخيل أبيض حلو ثم يطبخونه ويستخرجونه منه" (ابن مليح، ص. 25).

    3 - بلاد وجلة:

    (1/12009)

    ... رحب المسعى، كثيرة المرعى، أحدقت جنات من الجوانب تسقى بالدوالب، زرعها ... ... ... كثير، وخيرها غزير، تجلب لها الأرزاق من الأقطار والآفاق، كثيرة اللحوم والسمن، ... ... ... يجلب لها ذلك من الجبل الأخضر من برقة، تأتي القوافل منها كثيرا، أهلها سماح ... ... ... الوجوه، وبنيانها يشبه بناء المغرب في الشكل، ولها بابان أحدهما لناحية المشرق والآخر ... ... لناحية المغرب، وأعذب آبارها بئير بباب البلد؛ منها يسقون لأن غيره لا يشبهه في ... ... ... الطعم... وارتحل الركب لمنهل قريب من البلاد - يعرف بجراجي -

    (1/12010)

    فيه آبار ... وبعده ... ... بلاد صحراوية لا ترى فيها إلا رياحا تهب وكثائب الرمل كأنها رواحل تخب يقال له ... ... الغرود تطيش له العقول... وفيها كهوف ودور يقال إنها لقوم عاد منحوتة في الجبال سرنا ... ... فيها من نصف يوم (ابن مليح، ص. 25).

    ومنها "لبلاد سيوره : مدشر عظيم على ربوة مرتفع، دورها بعضها فوق بعض، كثير الأشجار والنخيل، متفجرة العيون. تشبه جناتها جنات بلدنا مراكش" (ابن مليح، ص. 25). ومنها نحو مصر.

    ثانيا - الطريق الشمالي الساحلي :

    (1/12011)

    ينطلق من مدينة قابس التونسية نحو مدينة طرابلس وسرت وأجدابية وبرقة فمصر...

    ... كان دخولنا طرابلس ضحى الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان (عام 1148 هـ). وكان ... ... نزولنا حيث ينزل ركب الحاج في وسطها... فيها مساجد وأسواق وتقام بها الجمعة.

    أهل البلد يسمونها الظهرة من الظهور، لأنها ظاهرة، أي عارية من النخيل، بخلاف ... ... ... العمارات المتصلة بهذا البلد من كل جانب؛ فإنها كلها وسط النخيل. والحجاج يسمونها ... ... الزرارية باسم رملة متصلة بما بينها وبين البلد يعمر بها سوق عظيم.

    (الزبادي، ص. 23).

    (1/12012)

    "وفي يوم الثلاثاء أول يوم من رمضان (عام 1148 هـ)، دخل الركب الوارد من المشرق والقاصد بلاد المغرب، فنزل أيضا هاتيك الدروع وشرع كل من الركبين في قضاء الأمور وأخذنا في كتب الكتب إلى من خلفنا بفاس من الأحبة كالأهل والأشياخ وذوي المحبة" (الزبادي ص. 25).

    بعد مدينة طرابلس، يواصل القوم طريقهم بمحاذاة الساحل: "بيتنا عند عين عافق على ساحل البحر... ثم بيتنا عند جبل النكازة... وفي سفح هذا الجبل من جهة الساحل مدينة عظيمة يقال لها مدينة لبدة قد خلت قديما وبقيت آثارها... ثم نزلنا إلى ساحل حامد... ومررنا ببلدة

    (1/12013)

    أزلتين وهي بلدة مثل التي قبلها في النخيل والسواني" (الزبادي، ص. 35 - 36).

    أما مدينة "مسراته، فسرنا فيها ما شاء الله وبيتنا. ومن الغد، نزلنا - ضحىً - زاوية الشيخ العلامة... قطب مغربنا وإمام أئمتنا أبي العباس أحمد البرنسي... الشهير بزروى رحمه الله" (الزبادي، ص. 37).

    من الأماكن التي وقف بها القوم: المنعم التي يوجد بقربها "مقطع الكبريت. سمي بذلك، لأن في أعلى سبخة هنالك معدن الكبريت في آبار كثيرة يحمل منها كالطين. ومن هنالك يحمل إلى مصر والإسكندرية، ومن المنعم يفارق الركب البحر فيتيامن عنه"

    (1/12014)

    (الزبادي، ص. 44).

    ... ... وأجدابية

    ... ... بلد قرب برقة... والموجود اليوم آثارها الدالة على العمارة الكثيرة، وهي آبار ... ... ... كثيرة في براج من الأرض عظيمة منقورة في الحجر وبقية بنيان حولها متين هائل ... ... ... بالحجر المنحوت. وهنالك رسم مسجد قديم... ومن أجدابية إلى سلوك... آبار ... ... ... في فسيح من الأرض وبإزائها رسوم بناء... وسلوك بمرأى من الجبل الأخضر قريبا

    ... من مرسى ابن غازي... زمن سلوك يحمل الركب ماء سبعة أيام، لأن طريقهم في ... ... ... هذه الأزمنة على السروال وهو مسيرة سبعة أيام

    (1/12015)

    لا ماء فيها.

    (الزبادي، ص. 45).

    و "التميمي... ماؤه على قتله ليس بالطيب، وبينه وبين درنة مسافة يوم ونصف، وهي مدينة على ساحل البحر لها مرسى عجيبة تنزل بها السفن" (الزبادي، ص. 48).

    ومن المحطات أيضا: الدفنة، الجرجوب، حيث "يميل الناس يسارا إلى البحر في منحدر صعب مشرف على البحر، فينزلون إلى رمل أبيض يظهر من بعيد كأنه الثلج؛ فيخرجون الماء منه بعد حفره" (الزبادي، ص. 48).

    وهناك الشمام والمدار والعقبة ووادي الرهبان، فبلاد مصر.

    2 - اقتصاديات البلاد

    أ - الزراعة ورعي الماشية.

    (1/12016)

    ب - التجارة في المدينة الرئيسية (طرابلس)؛ وفي جميع المناطق التي تحط بها القوافل.

    - مواد التجارة: مزروعات وماشية ومصنوعات.

    - التجارة الخارجية : تتم عبر البحار.

    - التجارة الداخلية : مع أهم المناطق الجنوبية.

    ج - طرق المواصلات ووسائلها.

    أ - من أهم المناطق الخصبة:

    - قرى زيزور: "ذات عنب وزيتون كثير" (الصغير، ص. 75).

    - بلاد طرابلس: "ونزلنا الترابلس : مدينة على شاطئ... كثيرة المزارع والبساتين والفواكه بأنواعها" (الحضيكي، ص. 15).

    (1/12017)

    - وادي الرمل: "واد متسع عذب الماء لا ينقطع ماؤه صيفا وشتاء... وهو واد مخصب من أعلاه، فيه مزارع تخرج إليه ماشية أهل طرابلس أيام الربيع" (الدرعي، ص. 45).

    - وادي السيد: "هو كالذي قبله أو أخصب منه، وماؤه ماء غريب لا ينقطع صيفا ولا شتاء" (الدرعي، ص. 46).

    - جبل النكازة: "وزيت هذا البلد من أطيب الزيوت مذاقا، سيما ضرب منه يسمونه ضرب الماء يعصرونه بالماء - ولا أدري كيف يصنعون بذلك - لا تكاد تميز بينه وبين السمن" (الدرعي، ص. 46).

    (1/12018)

    - ساحل حامد: "وبلدة حامد بلدة كبيرة ذات نخل كثير ومزارع وأسواق وزيتون؛ إلا أن نخله رديء التمر كنخل هذه السواحل كلها" (الدرعي، ص. 48).

    - مزارع سرت: "وبلاد سرت من أخصب البلاد، ذات مزارع كثيرة بالعمل، وعربها أهل رفاهية" (الدرعي، ص. 58).

    - الجبل الأخضر: "لا يوجد أخصب منه ولا أكثر منه... وطول هذا الجبل نحو عشرة أيام... وأكثر أشجار الناحية التي مررنا بها العرعر، حتى أنه من شدة اشتباكه والتفافه لا ينفذ الناس فيه إلا في طرق معلومة وشعب مسلوكة" (الدرعي، ص. 61 - 62).

    ب - أما أهم المراكز التجارية فهي: