Translate

الثلاثاء، 21 مارس 2023

ج3.وج4.مجلة التاريخ العربي

ج3.مجلة التاريخ العربي 

== المدينة بعد رجوع الإسلام لها، وهو ملحق بجامعة ابن رشد الإسلامية التي أسسها الجماعة. وفي نفس المدينة مسجد آخر كان قد بني بعد الحرب العالمية الثانية، وتحول إلى مخزن لمعدات الحديقة العامة المحيطة به إلى أن أعطته البلدية لجمعية إسلامية قامت برعايته، كما تكونت في بلدة المدور جمعية إسلامية أخرى حول الدكتور عبد السلام منصور اسكوديرو. وبهذا تكون في قرطبة أربع مراكز إسلامية ومساجد، كلها للأندلسين.

أما في مقاطعة جيان فقد أسس الباكستانيون المقيمون في بلدة قزلون ( لينارس ) جمعية إسلامية تحت اسم " جمعية

 

(1/1688)

 

 

جيان الإسلامية " ، ولها مصلي . وهي الوحيدة في هذه المقاطعة حسب علمي .

... أما مقاطعة مالقة ، فلقد فتحت الجماعة الإسلامية بها مركزا سنة 1986 م ، واشترت بيتا سنة 1988 م ، حولته إلى مركز إسلامي . وفي سنة 1996 م هدم هذا البيت لبناء مسجد ومركز إسلامي على أرضه ، و أسس عدد من المسلمين الأندلسيين " جمعية مالقة الإسلامية " في مالقة واشتروا بيتا حولوه إلى مركز إسلامي ، كما فتح المغاربة مركزا إسلاميا ببلدة تور مولينس . وبنى الإخوة السعوديون مسجدين ، أحدها مسجد الملك عبد العزيز في مربلة ، والثاني في بلدة

 

(1/1689)

 

 

سهيل . وبهذا يكون عدد المراكز الإسلامية في مقاطعة مالقة خمسة ، وهي في زيادة مستمرة . وبهذه المقاطعة بلدة قصر بنيرة التي تحتفل سنويا بالمولد النبوي الشريف ، وبها بلدة " بلانويبادي لا كنسبيون " التي اعتنق عمدتها ، سليم سيلفا ، الإسلام .

... ويوجد في مقاطعة غرناطة أكبر عدد من المراكز الإسلامية ، أحدها للطلبة العرب والباقية كلها للأندلسيين والإسبان العائدين إلى الإسلام ، ومعظمها منبثق من " جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا " التي تحدثها عنها سابقا . وتوجد معظم هذه المراكز في مدينة غرناطة ، وفي حي

 

(1/1690)

 

 

البيازين بالذات . ويوجد مركز إسلامي واحد في بلدة أرجبة في البشرات . وعدد هذه المراكز حوالي عشرة . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المنتصر 6

... أما في مقاطعة المرية ، فلقد فتحت " الجماعة الإسلامية بالأندلس " بها مركزا سنة1988 م، وهو عبارة عن مركز مؤجر . كما فتح في أوائل التسعينات عدد من المسلمين الأندلسيين التابعيبن للطريقة النقشبندية مركزا في بلدة لوشر بالبشرات . وقد نظم المغاربة أنفسهم وفتحوا خمس مراكز ، إحداها في مدينة المرية و أربعة في مدن المقاطعة الأخرى ، كما نظم السنغاليون أنفسهم

 

(1/1691)

 

 

وفتحوا مركزا إسلاميا في المقاطعة .

8 - المنظمات الإسلامية في قطلونية

قطلونية ذات حكم ذاتي تقع على حدود فرنسا لم يمكث الحكم الإسلامي فيها طويلا ، لكنها أصبحت اليوم ثاني منطقة من حيث التواجد الإسلامي بعد الأندلس ، يسكنها حوالي ثلث مسلمي إسبانيا ، منهم حوالي 80.000 مغربي و 20.000 إفريقي 20.000 من جنسيات أخرى ، وحوالي 10.000 على الأقل يحملون الجنسية الإسبانية ، منهم عدة من أهل البلاد . والفرق بين قطلونية يرجع فيه الفضل لمجهود المغاربة ، بينما نجد أن مجهود الأندلسيين في منطقة الأندلس كما رأينا هو

 

(1/1692)

 

 

الذي أفضى إلى هذا .

أما سكان قطلونية ، فيبلغ عددهم حوالي 6.200.000 نسمة أي أن المسلمين يكونون بها حوالي 2 في المائة ، وقطلونية مكونة من أربع مقاطعات ، وهي برشلونة وجرندة ولاردة وطرقونة ، وبها حوالي 20 مسجدا ومركزا إسلاميا تتوزع على المقاطعات الأربع حسب الجدول رقم 3 ، وهي تزايد مستمر ، ويمكن تقدير عددها سنة 1966 بحوالي 40 مسجدا ومصلى .

... الجدول رقم 3 : المراكز الإسلامية في قطلونية سنة 1996

المقاطعة

إسبانية

مغربية

أخرى

المجموع

برشلونة

1

20

4

20

 

جرندة

-

2

1

3

 

لاردة

-

1

-

1

 

طرقونة

-

1

-

1

 

(1/1693)

 

 

المجموع

1

19

5

25

 

... وفي سنة 1992 م ، افتتحت أول مقبرة إسلامية في المنطقة ببلدة ساردنيولة بمقاطعة برشلونة . كما سمحت الحكومة المحلية القطلونية للمسلمين بالذبح على الطريقة الإسلامية سنة 1991 م .

... لاشك أن الفضل في الانبعاث الإسلامي في منطقة قطلونية يعود لجماعة التبليغ . ولم يظهر هذا الانبعاث بزخمه الحالي إلا بعد سنة 1990 م . و أول مصلي فتح في المنظقة كان من مبادرة الراهبة الكاثوليكية تيريزا لوسادا حيث فتحت سنة 1976 م مركزا للصلاة سمته " دارالثقافة " في مدينة برشلونة حرصا منها على " إدماج

 

(1/1694)

 

 

المهاجرين المغاربة " . وبقي هذا المصلي مفتوحا

إلى سنة 1980 حين فتح الطلبة المسلمون " المركز الإسلامي " في شارع مرديانة ببرشلونة بمساندة من رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة . فأصبح هذا المركز هو النواة الأولى لانتشار الإسلام في قطلونية .

... وفي نفس السنة ، أسست الودادية المغربية مصلى للمغاربة في شارع بالمس ببرشلونة، تلى ذلك تحول المركز الثقافي الباكستاني في شارع هنبتل ببرشلونة إلى مسجد طارق بن زياد . فأصبح هذا المسجد مركز نشاط جماعة التبليغ ، وكاثر فيه المغاربة اخوانهم الباكستانين ، وأصبح

 

(1/1695)

 

 

اانواة لتأسيس مساجد أخرى في منطقة قطلونية . ولم يفتح مصلى في مدينة لاردة سنة 1989 م . وفي نفس السنة ، فتح مصلى ببلدة روزس بمقاطعة جرندة ( مسجد أبو بكر ) . أما مقاطعة طرقونة ، فقد فتح بها أول مصلى سنة 1991 م ، في بلدة بيزانتي دي كالديرس . '

... والجدير بالذكر أن لقطونية شخصية خاصة بها داخل الدولة الإسبانية ،فلها لغتها الخاصة وهي القطلانية والمغاربة الذين يكونون معظم أعضاء المجتمع المسلم في المنطقة علاقة جيدة . لكن هناك أقلية صغيرة من العنصرين الذين يتبجحون بمحاربة المسلمين و أحيانا لا يتورعون عن

 

(1/1696)

 

 

الاعتداء عليهم .

فمثلا كان إمام مسجد روزاس بمنطقة جرندة ضحية عدوان عنصرين قطلانيين في شهر فبراير سنة 1990 م . وفي 8 / 8/ 1991 م ، خرج بعض سكان بلدة انغلس ، بمقاطعة برشلونة ، في مظاهرة ضد مشروع فتح مصلى ببلدتهم .

... أما الحكومة القطلانية ، فابتدأت بموقف يكاد يكون معادي لما صرح جوردي بوجول ، رئيس الحكومة المحلية ، في 2 / 11 / 1989 م يتهم فيه الإسلام بأنه لا يمكن أن يستوطن في قطلونية . ولقد أدى هذا التصريح إلى رد فعل قوي من طرف المسلمين .

 

(1/1697)

 

 

فرد عليه إمام المركز الإسلامي أبو سعيد ( وهو من مصر ) باسمهم . ولقد تحسن موقف الحكومة القطلانية نحو الإسلام بعد هذه " الحادثة " .

... ومنذ سنة 1990 م أخد المسلمون يصلون صلاة عيد الفطر جماعة في ساحة عامة من ساحات برشلونة مما جعل الإسلام يظهر للزائر بوضوح ولكن منطقة قطلونية لا زالت تنتظر بناء

أول مسجد بها . إذ ليس فيها ولا مسجد واحد مبني بهندسة إسلامية في الوقت الذي نجد في الأندلس أربعة مساجد جديدة ، وعلى الأقل مسجدين قديمين استرجعا لصلاة المسلمين ولكن الإسلام في قطلونية لا زال في بداية الطريق

 

(1/1698)

 

 

9 - المنظمات الإسلامية في باقي إسبانيا

... أما التواجد الإسلامي في المناطق الإسبانية الأخرى فهو يزيد أو ينقص كما هو موضح في الجدول رقم 4 الذي يبين عدد المساجد و أماكن الصلاة بها سنة 1996 .

... الجدول رقم 4 عدد المساجد وأماكن الصلاة في المناطق الإسبانية .

المنطقة

الإسبانية

الأخرى

المجموع

الأندلس

22

16

38

 

قطلونية

1

21

22

 

مجريط

2

8

10

 

بلنسية

-

6

6

 

الجزر الخالدات

-

4

4

 

إوسكادي

1

3

4

 

مرسية

1

2

3

 

الجزر الشرقية

-

3

3

 

اشتورياس

1

1

2

 

قشتالة مانشا

-

1

1

 

قششتالة ليون

-

1

1

 

أراغون

-

1

1

 

(1/1699)

 

 

استرامادورا

-

1

1

 

نبارة

-

1

1

 

جليقبة

-

1

1

 

نبارة

-

1

1

 

لا ريوخا

-

1

1

 

المجموع

27

72

100

...

نرى أن عدد المساجد الآن في إسبانيا يناهز المائة ، منها الثلث أسسه الراجعون إلى الإسلام . وتعد اليوم منطقة مجريط هي المنطقة الثالثة بعد الأندلس وقطلونية من حيث التواجد الإسلامي.كانت أول جمعية أسست بمجريط هي " الجمعية الإسلامية في إسبانيا " وقد انتقلت من شقة إلى مسجد ومركز إسلامي متكامل في حي تطوان بالعاصمة الإسبانية هو مسجد" أبو بكر الصديق " وهو أول مسجد بني في مجريط .

 

(1/1700)

 

 

وفي سنة 1978 م انفصل عنها عدد من الأعضاء وأسسوا " المراكز الإسلامية في إسبانيا " كما سبق الذكر . كما أن السفارات الإسلامية في مجريط وعلى رأسها سفارة المملكة العربية السعودية بنت مسجدا كبيرا في إسبانيا كما سبق أن ذكر كذلك ، وبمجريط كذلك جمعية إسلامية إسبانية أخرى إسمها " المعهد الغربي الإسلامي للثقافة " ، وحوالي خمسة محلات للصلاة أسسها المغاربة .

... ومنطقة بلنسية هي المنطقة الرابعة من حيث التواجد الإسلامي . وبها حوالي ستة مراكز إسلامية ، أهمها "المركز الإسلامي ببلنسية " ، وهو متكامل وبه مدرسة

 

(1/1701)

 

 

وقاعة للمحاضرات ومسجد للصلاة وبيت للإمام ، بني سنة 1992 م على أرض تبرعت بها بلدية بلنسية . كما يوجد بمنطقة بلنسية مسجد آخر وعدة أماكن للصلاة في مدينة بلنسية .

... وهناك تواجد إسلامي واضح ومتنامي في المقاطعات التالية : اوسكادي والجزر الخالدات ومرسية واشتورياس ، إذ يوجد في كل واحدة من هذه المناطق أكثر من مصلى واحد ، وبها كلها ( عدى الجزر ) مركز مؤسس من طرف الإسبان الراجعين إلى الإسلام . أما المناطق الإسبانية الثمانية الأخرى فيوجد في كل واحدة منها مصلى واحدا على الأقل .

 

(1/1702)

 

 

... ويتوقع أن تتزايد عدد أماكن الصلاة في إسبانيا إلى مائتين قبل دخول القرن الميلادي الواحد والعشرين . أما المساجد المبنية على هيأة مسجد فعددها الآن في كل إسبانيا ثمانية : 4 بالأندلس و 2 بمجريط و 2 ببلنسية ، ويتوقع أن تتضاعف عددها في السنوات الخمس القادمة .

10 - الخاتمة

... بالنسبة لمعظم دول غرب أوروبا ، وخاصة فرنسا ، فالإسلام جديد في إسبانيا ، إذ لم يكن له وجود يذكر قبل 1980 م ، بينما تأسست أول الجمعيات الإسلامية في السبعينات ، وظهرت جمعيات أخرى كثيرة في الثمانينات بظهور أعداد هامة وفاعلة من

 

(1/1703)

 

 

الراجعين إلى الإسلام في منطقة الأندلس . وفي 14 / 7 / 1989 م اعترفت إسبانيا بالبروتستانتية واليهودية . وبهذا أصبح للمسلمين نظريا في إسبانيا حقوق على الدولة الإسبانية ومساندة مالية من طرفها تمكن في عدم دفع الضرائب ، ودفع الدولة رواتب معلمي الدين الإسلامي للمسلمين في مدارس الدولة ، والحق في تأسيس المدارس الإسلامية ، والزواج على الطريقة الإسلامية ، إلخ ...

... ولكي تحصل الجماعة الإسلامية على هذه الحقوق كان عليها أن تنظم نفسها في اتحاد عام يجتمع في " اللجنة الإسلامية الإسبانية " للتفاوض مع الدولة

 

(1/1704)

 

 

الإسبانية على هذه الحقوق . وهكذا اجتمعت حوالي 30 جمعية إسلامية في " الاتحاد الإسباني للمنظمات الدينية الإسلامية " (FEERI) .لكن هذا الاتحاد أخذ ينحاز ضد بعض الجمعيات الإسلامية ، خاصة الأندلسية منها ، فتجزأ إلى اتحادين ، ولكن الوضع لا زال غير مرضي لمعظم مسلمي إسبانيا ، إذ أن " اللجنة الإسلامية الإسبانية " لم تقم بشئ يذكر للحصول على حقوق المسلمين ، خاصة فيما يخص تعليم اللغة العربية والإسلام في المدارس العامة .

 

(1/1705)

 

 

... لكن في الحقيقة لم يظهر الإسلام في إسبانيا بشكل واضح إلا في هذا العقد الأخير من القرن العشرين . إذ أصبحت مراكز الصلاة تتكاثر حتى وصلت المائة كما فتحت أول جامعة أبوابها وهي " جامعة ابن رشد الإسلامية " في مدينة قرطبة العتيقة .

... ويتوقع أن تتزايد أعداد المسلمين في العقود القادمة باعتناق الإسلام أهل البلد وبهجرة المسلمين ، وبهذا سنرى حقبة جديدة م الوجود الإسلامي في أرض الأندلس العتيقة بعد طول الحصار .

... ... ... ... ... المراجع

 

(1/1706)

 

 

... 1 - على المنتصر الكتاني " الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم ، جذورها ومسارها " كتاب الأمة ، قطر ، عام 1412 .

... 2 - علي المنتصر الكتاني " انبعاث الإسلام في الأندلس " مجمع البحوث الإسلامية ، الجامعة الإسلامية العالمية ، إسلام أباد ، باكستان ، 1992 م .

... 3 - محمد عبد الله عنان " دولة الإسلام في الأندلس " القاهرة ( مصر ) عام 1969 م .

 

(1/1707)

 

 

الإسلام في النيجر بين الماضي والحاضر

... ... ... الدكتور حسين محمد الربابعة

... ... كلية عجلون الجامعية جامعة البلقاء التطبيقية ـ الأردن

 

... لم تتفق كلمة المؤرخين على تحديد دقيق ومضبوط للتاريخ الذي بزغ فيه فجر الإسلام في النيجر، وانتشرت فيه أشعة نور الإيمان، وكذلك لم يتفقوا على أسماء الرجال الأوائل الذين قاموا بهذا العمل العظيم، وأدخلوا الإسلام واللغة العربية إلى هذه الأصقاع.

 

دخول الإسلام في النيجر

 

(1/1708)

 

 

... تضاربت أقوال المؤرخين حول التاريخ الذي دخل فيه الإسلام إلى النيجر. فيرى بعضهم أن الإسلام قد دخل البلاد في وقت مبكر من تاريخه على يد الصحابي الجليل عقبة بن عامر حسب ما في كتاب عبد الله بن فوديو(1)، أو عقبة بن نافع رضي الله عنه سنة 666 م على ما ذكره بعض المؤرخين. وقد روي أن هذا الصحابي قد توغل في الصحراء الكبرى، وتابع فتوحاته الإسلامية نحو الجنوب حتى وصل مدينة »كعوار« وفتحها كما فتح الواحات الأخرى الواقعة جنوب الصحراء(2)

__________

(1) ... عبد الله بن فوديو، تزيين الورقات، ص. 40.

(2) مجلة الإسلام اليوم، إصدار منظمة الإيسيسكو، العدد 12، السنة 2، رجب 1404 هـ، ص. 91.

 

(1/1709)

 

 

.

... وتجدر الإشارة إلى أن إقليم »كعوار« هذا يقع في النيجر على طريق الشمال الشرقي للبلاد ناحية الحدود مع ليبيا.

... ويتضح من هذه الرواية أن الإسلام قد وصل إلى النيجر أو أطراف منها في وقت مبكر من تاريخها، أي منذ القرن الأول الهجري. على أن البعض يرى أن السكان المقيمين في جوار بحيرة »تشاد« شرقي البلاد كانوا أول من اعتنق الإسلام.

... وحجة هؤلاء هي التراث الشفهي المتناقل، والذي يرى أن مؤسس مملكة »كانم« في القرن الثامن اسمه »تبع الأول«، وهو أول من نشر الإسلام في جنوب الصحراء الإفريقية(1)

__________

(1) النيجر اليوم، منشورات جون أفريك، ص. 36.

 

(1/1710)

 

 

.

 

دور المرابطين

... كما يرى البعض الآخر أن قوماً من شمال إفريقيا، وهم برابرة مسلمون أتوا من المغرب ووصلوا في القرن الثامن الهجري إلى إقليم »آيرا« الواقع شمال النيجر، وأقاموا فيه مدة من الزمن، ثم أنشأوا عدداً من المساجد في »تفيس« 759 م و»أغاديس« ولبثوا في هذه المدينة (أغاديس) أربعة قرون، وبها مسجد يحمل اسمهم حتى الآن، ثم هاجروا نحو الغرب.

... ومن المحتمل أن يكون ازدهار الإسلام في هذه المناطق قد بدأ مع وصول المرابطين الذين جاءوا من الرباط التي كانت تعني في الأصل حصناً ومركزاً دينياً وتعليمياً في

 

(1/1711)

 

 

الوقت نفسه، لأن الإسلام قد سبقهم إلى المنطقة.

... وفي بداية القرن الحادي عشر، وبالتحديد في سنة 1010 م، أسس الملك »كوزي« أول عاصمة للمملكة »السونغاي«، وهي مدينة »غاو«، وتقع شرق الثنية الشمالية لنهر النيجر. وقد اعتنق هذا الملك الدين الإسلامي، وأصبح من المعتاد بعدئذ أن يكون حاكم قبائل »السونغاي« من المسلمين، بالرغم من أن القبائل نفسها لم تعتنق الإسلام وظلت ديانتها القبلية(1).

__________

(1) جوان جوزيف، الإسلام في ممالك وإمبراطوريات إفريقيا السوداء، ص. 81.

 

(1/1712)

 

 

... كما عمد بعد ذلك بعقود، وبالتحديد 1085، السلكان »مومى« سلطان »كانم« إلى اعتناق الإسلام هو أيضاً وعرف الإسلام كذلك مع ملوك »مالي«، ولا سيما »كنكن موسى« 1312 ـ 1335 م، وازدهر ازدهاراً كبيراً تجاوز حدود إمبراطوريتهم؛ إذ بدأ الدعاة يتوجهون نحو ملوك »الهاوسا« وزعماء القبائل يدعونهم إلى الإسلام. وقد نجحوا بالفعل في كسب الممالك الكثيرة إلى الإسلام وبنوا في ممالكهم المساجد، كما قاموا بدور تعليم اللغة العربية والمبادئ الإسلامية في مجالسهم العلمية وتعليم القرآن للأطفال(1)

__________

(1) ... إبراهيم طرخان، دولة مالي الإسلامية.

 

(1/1713)

 

 

.

... وقد كان لأحد أباطرة »السونغاي«، وهو »أسكيا محمد التوري«، دورٌ هامٌّ في تعزيز دعائم الإسلام في إمبراطوريته، ودعا شعبه إلى الإيمان وقام بزيارة الديار المقدسة، كما قام بإصلاحات كثيرة لصالح الإسلام والمسلمين، وأنشأ كثيراً من المساجد والجوامع التي كانت تقام فيها حلقات علمية(1).

... فالإسلام قديم في غرب إفريقية عامة والنيجر خاصة. وبعبارة أخرى، إنه لم يدخل تلك البلاد لأول مرة في القرن الحادي عشر الميلادي كما هو مشهور، بل دخله في القرن السابع الميلادي. وعلاوة

__________

(1) النيجر اليوم، مصدر سابق، ص. 37.

 

(1/1714)

 

 

على هذا، إن الصلات المتنوعة القديمة القائمة بين بلاد السودان الأوسط والغربي وبين البلاد الإسلامية في وادي النيل وما والاه شرقاً وشمالي إفريقيا كانت ذات أثر كبير في وصول الإسلام والتعريف به في بلاد السودان قبل حركات المرابطين فيها.

 

دخول الإسلام عن طريق كانم

... ويمكن القول إن الإسلام وفد إلى النيجر عن طريق كانم وبرنو. فقد كانت مصر من أسبق الأقطار إلى اعتناق الإسلام؛ كما أن وادي النيل عامة كان ولا يزال أهم المراكز التي زحفت منها الدعوة الإسلامية.

 

(1/1715)

 

 

... وتبعاً لرواية متداولة عند الهوسا، يقال إن شخصاً عرف باسم »أبي يزيد الفزاري« كان يدعو للإسلام في كانم وبرنو في نهاية القرن السابع ومطلع القرن الثامن الميلادي. وقد ارتبط اسمه في برنو باسم أسرة »مسبعرمة« وهي الأسرة التي وفد عدد كبير من أعضائها إلى برنو في القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. ويقال إنها جاءت من فزان أو من وادي النيل، وكانت أسلاف عدد كبير منه العلماء في برنو ومن الوزراء البرنويين، ويطلق على جميع أفراد هذه الأسرة »مسبعرمة«. وهذه التسمية لقب معناه في برنو »الوزراء الوارثيون«.

 

(1/1716)

 

 

... وجاء في مخطوطة عربية ترجع كتابتها إلى الفترة ما بين 1657 و1669 م في تمبكتو عثر عليها الفرنسي »دوميزيير« أن أربعة جنود من جيش عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي (99 ـ 101 هـ/ 717 ـ 720 م) جاءوا من اليمن إلى برنو واستطاعوا أن يكونوا أسرة مالكة في برنو وغيرها من بلاد السودان. وقد اختلطت أخبار هذه المخطوطة بالأساطير. وذكر البكري أن قوماً من بني أمية هاجروا إلى كانم عند محنتهم ببني العباس. ويشكك ياقوت في هذه الرواية حين يتحدث عن كانم وأهلها بقوله: »وهم سودان مشركون ويزعمون أن هناك قوماً من بني

 

(1/1717)

 

 

أمية صاروا إليها عند محنتهم ببني العباس«.

... وخلال القرن التاسع الميلادي وما يليه، جاءت وفود المسلمين المهاجرين عبر الصحراء نحو الجنوب منهم القبائل التيبو أو التدا، الذين هاجروا إلى كانم بعد حوالي عام 800 م، واستأذنوا سلطان الصوفي بالإقامة.

... ويقال إن هؤلاء التيبو كانوا من المسلمين الذين استطاعوا أن يحتلوا جزءاً من كانم وأن يهزموا الزغاوة وينشروا الإسلام ويعاصر استقرار التيبو في كانم قيام الأسرة »السيفية« التي اعتبرت نفسها حامية الإسلام.

 

(1/1718)

 

 

... والواضح من هذه الشواهد أن الشطر الشرقي من إمبراطورية البرنو، وهو كانم، قد اعتنق الإسلام قبل القسم الغربي وهو برنو. يقول بفر: »اعتنق أهل كانم الإسلام قبل البرنويين«. ويقول أوفوي: »انتشر الإسلام في كانم وبرنو حوالي عام 1000«. ويضاف إلى ذلك أن الإسلام دخل برنو على يد الفاتحين الكانميين الذين كانوا يعتنقونه منذ مدة طويلة، وأن عدد الداخلين في العقيدة الجديدة كان يزداد يوماً بعد يوم، وأن مدناً إسلامية اشتهرت مثل مدينتي مارغي وماندرا.

 

... أورد بالمر ترجمة مخطوطة عربية في كتابيه:

 

(1/1719)

 

 

... 1 - Sudanese Memoirs;

... 2 - The Borne Shara and Sudan.

... وهذه المخطوطة عبارة عن رسالة أصدرها الملك أو الماي أوم ابن عبد الجليل (حكم من حوالي عام 1086 إلى عام 1097) موجهة إلى أبنائه وخلفائه من بعده. وتعرف هذه الرسالة أو هذا المنشور أو المرسوم في المصطلح العربي البرنوي باسم »محرم«، وتتضمن معلومات عن دخول الإسلام إلى برنو.

... جاء في هذا »المحرم«، بعد البسملة والحمدلة، أن أول بلد دخله الإسلام في السودان هو برنو، وأن ذلك كان على يد الداعية المسلم الفقيه محمد بن ماني وهو السلف البعيد للإمام

 

(1/1720)

 

 

أحمد بن فرتوا مؤرخ بلاط برنو زمن »الماي إدريس الوما«. توفي حوالي 1602 م. يقول »المحرم« إن الداعية أو المعلم محمد بن ماني كان معمراً؛ فقد عاش 120 سنة وعاصر خمسة من مايات برنو، أولهم الماي بولو الذي حكم حوالي عام 1020 م وآخرهم الملك أوم الذي كتب هذا لمحرم عنه.

... وأن محمد بن ماني قرأ مع الماي بولو الجزءين الأخيرين من القرآن الكريم من أول "سورة الملك" إلى نهاية "سورة الناس".

... وكما جاء في نصوص المحرم، فقد قرأ معه من سورة {تبارك الذي بيده الملك} إلى {من الجنة والناس}، وأن الملك بولو منحه مكافأة

 

(1/1721)

 

 

على ذلك هي عبارة عن خمسين جملاً وأن محمداً بن ماني قرأ مع الماي أركي (وقد حكم حوالي عام 1035 م) من أول "سورة يس" إلى نهاية "سورة الناس". فكافأه بسبعين جملاً؛ وكذلك كافأه الماي عبد الجليل بثمانين جملاً بعد أن أقرأه من "سورة الأعراف" إلى ما بعدها.

... وأما الملك أوم، فقد قرأ معه القرآن كله من "سورة البقرة" إلى نهاية "سورة الناس"، وقرأ معه كذلك سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بمنحه مائة بعير ومائة قطعة ذهبية ومائة قطعة من الفضة ومائة عبد.

 

(1/1722)

 

 

... جاء في هذا »المحرم« كذلك أن الماي أوم قام بنشر الإسلام مع محمد بن مالي، وأنه استحرمه عليه كما استحرم عدداً من القبائل والأسر، وأوصى بحرمة أموالهم ودمائهم، ودعا على من يتعدَّى عليهم بالحرق في نار جهنم وأنهى المحرم بعبارة »والسلام علينا وعليكم«.

... يتضح من هذا المحرم أن الملك أوم لم يكن أول من اعتنق الإسلام من مايات البرنو. فقد سبقه مايات آخرون، فضلاً عن أن الإسلام انتشر بين كثير من أبناء قومه. وكان الماي أوم أول ملك معروف قام بدور كبير في نشر الإسلام، وهو مدفون في مصر. أدركته المنية حين كان

 

(1/1723)

 

 

في طريقه إلى الحج أو في طريق عودته منه. ازداد انتشار الإسلام بعد ذلك في برنو وتمسك المايات به وبمظاهره، فضلاً عن الدعاية له في شتى الوسائل. وبانتشار الإسلام، أصبحت إمبراطورية البرنو جزءاً من العالم الإسلامي. وقد نعمت بهذا الرباط، إذ انتشرت فيها التعاليم الإسلامية والمدنية الإسلامية؛ كما حفلت بالكثير من العلماء المسلمين الذين استقروا في بلاد البرنو واختلطوا بالمواطنين. هذا، وقد عني مايات برنو بأداء فريضة الحج والطريق المألوف لحجاج بلاد السودان الأوسط والغربي عامة، طريق مصر حيث كانت السلطات

 

(1/1724)

 

 

المعاصرة تعمل على تيسير أداء هذه الفريضة. وأول من حج من مايات برنو المسلمين المعروفين، الماي أوم (حوالي 1097 م)؛ وقد مات بمصر وبها دفن.

... ولم يقتصر أداء هذه الفريضة على المايات، ولكن جميع المسلمين من أهل برنو كان القادر منهم يؤدي هذه الفريضة وكثرت وفودهم إلى مصر في طريقهم إلى الحج، حتى احتاجت هذه الوفود إلى مكان ينزلون فيه خلال رحلتهم. ومن أجل هذا، بنوا مدرسة في فسطاط مصر، عرفت باسم مدرسة ابن رشيق، لتدريس المذهب المالكي فضلاً عن استخدامها نزلاً للوافدين. نقل عن العمري والقلقشندي أن أهل كانم

 

(1/1725)

 

 

»بنوا مدرسة للمالكية بالفسطاط ينزل بها وفودهم«.

 

... ويقول المقريزي عن هذه المدرسة:

 

... مدرسة ابن رشيق بخط حمام الريش في مدينة مصر كان من طوائف التكرور، لما دخلوا من مصر في سنة بضع وأربعين وستماية قاصدين الحج دفعوا للقاضي علم الدين بن رشيق مالاً بناها به ودرس بها فعرفت به وصار لها في بلاد التكرور سمعة عظيمة فكانوا يبعثون إليها في غالب السنين بالمال.

 

... وكان بناء هذه المدرسة في أواخر العهد الأيوبي وفي زمن الماي البرنوي دونمه بن ديالادن حوالي عام 1259 م؛ وكما بنيت مدرسة ابن رشيق بمصر لأهداف

 

(1/1726)

 

 

التعليم وإقامة حجاج برنون، بنيت فيها كذلك فنادق لنزول حجاج برنو.

... على أن أغلب المسلمين في إفريقيا السودان عامة يسيرون وفق طرق صوفية مختلفة. وكل هذه الطرق على مذهب الإمام مالك.

 

أسباب انتشار الإسلام في النيجر

... لا يزال المؤرخون، خصوصاً دارسو التاريخ الإسلامي، يدهشون من سرعة انتشار هذا الدين وانتصاره على غيره في المناطق التي وصل إليها، ليس في إفريقيا التي يعد النيجر جزءاً منها فحسب، بل العالم كله. فقد بسط سلطته على أجزاء كبيرة من البسيطة في وقت مبكر ووجيز نسبياً.

 

(1/1727)

 

 

... يقول الكاتب الأمريكي لوثروب سطودار في كتابه "عالم الإسلام الجديد":

... إن نشر الإسلام هو الحدث الأكثر عجباً في التاريخ الإنساني. لقد خرج من بلاد وشعب لم يكن يؤبه بهما؛ وإذا به ينتشر في مدة قرن واحد في نصف الكرة الأرضية فاتحاً إمبراطوريات عظيمة، محطماً ديانات كبيرة تأسست منذ زمن طويل صاهراً في قلبه نفوس الأجناس، ومشيداً عالماً جديداً كله عالم الإسلام وبقدر ما ندرس هذا الوضع بدقة يتجلى لنا أنه أمر خارق للعادة (1).

__________

(1) نقلاً عن: علال الفاسي، تاريخ التشريع الإسلامي، ط 1، 1990، ص. 16.

 

(1/1728)

 

 

... وفي الحقيقة إن ذلك يرجع في المقام الأول إلى الإسلام نفسه ثم إلى ظروف وطبيعة كل منطقة وصلت إليها الدعوة الإسلامية. وعند إمعان النظر في ذلك بالنسبة للنيجر، نجد أنها لم تشذ عن هذه القاعدة. فقد تظافرت عوامل كثيرة وأسباب عديدة جعلت الإسلام ينتشر في بلاد النيجر، ويستقر فيها ويدين به الغالبية الساحقة من السكان. وهذه العوامل يعود بعضها إلى طبيعة الدين الإسلامي نفسه، وبعضها إلى عوامل خاصة، أي طبيعة موقع النيجر جغرافياً. وفيما يلي نوجز أهم تلك العوامل:

 

أولاً : العوامل التي ترجع إلى الإسلام نفسه

 

(1/1729)

 

 

... 1 ـ جاذبية العقيدة الإسلامية: إن وحدة الإسلام وتجانسه وتناسقه وتماسك المسلمين وتشابههم تستهوي غير المسلمين نحوه، إذ يتقاسم جميع أفراد الجماعة الإسلامية عقيدة واحدة وعبادات متحدة، لا تتغاير مهما تباين مكان وزمان معتنقيها، ومهما تباعدت أصول أتباعها ولغاتهم وألوانهم وظروف حياتهم.

... 2 ـ سهولة الإسلام وبساطته: إن الإسلام دين الفطرة، يوافق فطرة الإنسان، لا يكلفه بما لا يستطيع القيام به {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. ومما لا ريب فيه أن بساطة الإسلام وسهولة عقيدته ساهمتا في انتشاره بسرعة مذهلة

 

(1/1730)

 

 

في أنحاء المعمورة. فالإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى، والاعتراف برسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والالتزام بمقتضى هذه العقيدة يجعل المرء كامل العضوية في الجماعة الإسلامية دون قيد أو شرط.

... 3 ـ الرقي الاجتماعي الذي يخوله الإسلام لأتباعه: إن الإسلام يهيِّءُ للفرد المسلم نوعاً من التفتح على العالم الخارجي يكفل له استعداداً فكرياً، ويوفر له عوامل تساعده على الرقي الاجتماعي، ويدفعه إلى التطلع إلى حياة أفضل، ويخرجه من وضع اجتماعي وثقافي واقتصادي متدنٍّ إلى وضع أعلى وأرقى. أضف إلى ذلك أن

 

(1/1731)

 

 

المجتمع الإسلامي، مهما كانت بساطته، فإنه يتوفر على مؤسسات عمومية يستفيد منها جميع أعضاء الجماعة دون تمييز، ويذكر منها المساجد والجوامع والمدارس ومجالس العلم وغير ذلك مما لا نظير له في المجتمع الوثني.

ثانياً : العوامل التي تعود إلى طبيعة الموقع الجغرافي

... تكمن هذه العوامل الخاصة في ما سبقت الإشارة إليه، وهو أن جسر الإسلام إلى هذه البلاد هو الشمال الإفريقي. ولا غرابة في ذلك، إذ أن الصحراء التي تفصل بلدان شمال إفريقيا وبلاد النيجر متصلة ببعض. فهي في الواقع همزة الوصل بين الشعوب التي تقطن جنوب

 

(1/1732)

 

 

الصحراء والتي تقطن شمالها. ومن ثم لا نستغرب ـ كما رأينا فيما سبق ـ دخول الإسلام إلى بعض أجزاء النيجر في وقت مبكر خاصة على الرواية القائلة بأن الإسلام دخل إلى هذه البلاد على يد الصحابي الجليل عقبة بن نافع رضي الله عنه.

...

واقع الإسلام في النيجر

... يعتبر الإسلام دين الغالبية العظمى لسكان النيجر. فتشير أكثر الإحصائيات إلى أن نسبة المسلمين في جمهورية النيجر تبلغ 95 % من مجموع السكان(1)، والنسبة المتبقية

__________

(1) زكريا مومني، وضعية التعليم العربي في مدارس النيجر، بحث مقدم لنيل دبلوم عالمي، ص. 27.

 

(1/1733)

 

 

موزعة بين المسيحيين والوثنيين.

... ومن الناحية الرسمية، فإن النيجر عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي. لكن دستور الدولة الرسمي الذي أقر في المؤتمر الوطني الذي عقد في عام 1991 م أن النيجر دولة علمانية (لاييك)، أي لا دينية على الرغم من المعارضة الشديدة لهذه الفقرة من الدستور وعلى الرغم من قيام الجمعيات الإسلامية وبعض الشخصيات بالمطالبة بإلغاء هذه العبارة من الدستور. إلا أن ذلك لم يغير من الواقع شيئاً.

... وانتشر في جمهورية النيجر بعض الجمعيات الدينية التي تتخذ الإسلام منهج عمل لها إضافة إلى الجمعية

 

(1/1734)

 

 

الإسلامية النيجرية التي كانت موجودة من قبل، وهي جمعية حكومية شبه رسمية ترعى المصالح والشؤون الدينية وتشرف على المساجد وعلى موسم الحج والقضايا التي تهم المسلمين.

... وجاء ظهور هذه الجمعيات بعد ظهور فكرة الديمقراطية التي تحترم حرية الانتماء الديني للشخص عقب انعقاد المؤتمر الوطني العام. ونالت هذه الجمعيات اعترافاً من قبل الحكومة. وأهم الجمعيات:

1 ـ الجمعية الإسلامية النيجرية ((Association Islamique du Niger. وقد تأسست بمقتضى القانون رقم 34/ 64 المؤرخ في 5 نوفمبر 1963 م والمنظم للجمعيات في

 

(1/1735)

 

 

النيجر(1)، ومقرها الرئيس نيامي.

2 ـ الجمعية النيجرية للدعوة والتضامن الإسلامي (Association Nigerienne pour l’appel l’unite et la solidarité Islamique).

3 ـ الجمعية النيجرية للدعوة والوحدة والتعاون الإسلامي (Association Nigerienne pour l’appel, l’unite et la solidarité Islamique).

4 ـ جمعية نشر العقيدة الإسلامية ( Association pour le Rayonnement de la culture Islamique).

__________

(1) قانون الجمعية الإسلامية الأساسي، المادة الأولى، الفصل الأول، ص. 1.

 

(1/1736)

 

 

5 ـ جمعية نشر الثقافة الإسلامية ( Association pour le Rayonnement de la foi Islamique).

6 ـ جمعية نشر الإسلام في النيجر ( Association pour la diffusion de l’islam au Niger).

7 ـ جمعية الشباب المسلمين بجامعة نيامي ( Association des Etudes Musulmanes de l’Université Nigerienne. Ienne).

8 ـ جمعية الشباب المسلمين في النيجر (Association des jeunes Musulmans du Niger).

9 ـ اتحاد النسوة المسلمات بالنيجر (Unité des femmes Musulmanes au Niger).

 

(1/1737)

 

 

... ويعد ظهور هذه الجمعيات بداية لبوادر الصحوة الإسلامية في هذه البلاد؛ والكثير من أعضاء هذه الجمعيات من الشباب والمثقفين ذوي الاتجاهات الثقافية المختلفة.

... وتقوم هذه الجمعيات بالتصدي لكل القضايا والمسائل والدعايات التي تمس الإسلام وتتعارض مع عقيدة المسلمين وكل ما يمس الشعور الإسلامي.

... وتتبنى الجمعيات الإسلامية مقاومة نشر سياسة تحديد النسل التي تسعى الحكومة إلى تعميمها على جميع فئات المجتمع، وإن كان ظاهر دعاية الحكومة هي تنظيم النسل.

 

(1/1738)

 

 

... كما يوجد في النيجر مجموعة من الهيئات الإسلامية الخيرية تقوم بالاهتمام ورعاية الدعوة الإسلامية وتقديم المساعدات الخيرية المختلفة التي تمكن المسلمين من التغلب على الكثير من الصعوبات التي يواجهونها. وهذه الهيئات هي:

... 1 ـ »لجنة مسلمي إفريقيا«، وهي هيئة إسلامية تهتم بالدعوة الإسلامية وتقديم المساعدات للمحتاجين من أبناء المسلمين والعناية بالأيتام، وتقوم ببناء المساجد والمستوصفات الطبية وحفر الآبار وتعيين الدعاة إلى الله وتوزيع الأضاحي في عيد الأضحى وتقديم وجبات إفطار في شهر رمضان. ومقرها

 

(1/1739)

 

 

الرئيس في الكويت، ولها فروع في معظم الدول الإفريقية.

... 2 ـ »الهيئة الخيرية العالمية«، وهي هيئة إسلامية تهتم بالعمل الخيري وتقوم بتقديم المساعدات للمحتاجين في النيجر، وتقوم ببناء المساجد وحفرالآبار وتعيين الدعاة إلى الله وتوزيع الأضاحي. ومقرها الرئيس في الكويت، ولها فروع في كثير من دول العالم.

... 3 ـ »مركز رابطة العالم الإسلامي«، ويقوم هذا المركز بالإشراف على معهد لتعليم أبناء المسلمين في النيجر. وفيه مكتبة عامة للمطالعة وتوزيع المصاحف والكتب، ولها عدة مستوصفات طبية تقدم العلاج المجانِيّ

 

(1/1740)

 

 

للمواطنين. ويتبع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية.

... 4 ـ »مكتب جمعية الدعوة الإسلامية العالمية«، ويقوم بالاهتمام بإقامة الدورات لتعليم العربية. ويقدم المساعدات للمحتاجين. والمقر الرئيس له في الجماهيرية العربية الليبية، وله مكاتب في كثير من دول العالم.

... وهناك نوع من التنسيق بين هذه الهيئات للوصول إلى الهدف المشترك بينها. والمذهب السائد في النيجر هو المذهب المالكي.

 

(1/1741)

 

 

... والمظاهر العامة تدل على اهتمام المجتمع النيجري بالإسلام. فتنتشر المساجد والمصليات الصغيرة في المدن والقرى ويرفع الأذان في جميع الأوقات. ويلاحظ في أوقات الصلوات توجه الكثير من المسلمين إلى أداء الصلوات في المساجد والمصليات المنتشرة في كل الأحياء. وفي كل عام يقوم عدد لا يستهان به من النيجريين بأداء فريضة الحج. وفي شهر رمضان تجد مظاهر الصيام وانتشار حلقات تفسير القرآن طوال ليالي الشهر الكريم.

... وفي عيد الأضحى يكاد معظم النيجريين يقومون بالتضحية اتباعاً لسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

 

(1/1742)

 

 

... ومن العادات الإسلامية المنتشرة في المجتمع النيجري العقيقة، بحيث يذبح شاة عندما يرزق الرجل بمولود ويكون ذلك في اليوم السابع من الولادة.

... وفي مجال الزواج، فإن أبناء المجتمع النيجري يلتزمون بالطريقة الإسلامية في إجراء العقود، وينتشر الزي الإسلامي في المجتمع النيجري على نطاق واسع بين الرجال والنساء.

...

الجامعة الإسلامية بالنيجر

... وتوج وجود الإسلام في النيجر بموافقة »المؤتمر الإسلامي« في لاهور بباكستان عام 1971 م على إنشاء جامعة إسلامية في غرب القارة الإفريقية يكون مقرها دولة النيجر

 

(1/1743)

 

 

لموقعها المتوسط بين دول المنطقة، وللنسبة الكبيرة للمسلمين فيها. وبدأت الدراسات لتنفيذ هذا المشروع بعد المؤتمر مباشرة، وتم افتتاح الجامعة فعلاً عام 1986 م وابتدأت بكلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية. والهدف من إنشاء هذه الجامعة إحياء التراث الإسلامي في المنطقة، وتخريج وإعداد المعلمين والدعاة لنشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية ـ لغة القرآن الكريم ـ وربط حاضر المسلمين بماضيهم العتيد، ونشر الوعي بين أبناء المسلمين في المنطقة، والوقوف في وجه الهجمة الصليبية على المنطقة. وبالفعل قامت الجامعة

 

(1/1744)

 

 

بتخريج عدة دفعات من أبناء المسلمين في المنطقة، وأصبحت الجامعة معقلاً علمياً مهماً في المنطقة ومركز إشعاع للثقافة والعلوم الإسلامية.

 

الطرق الصوفية في النيجر

... يوجد للطرق الصوفية انتشارٌ واسعٌ في جمهورية النيجر، وخاصة الطريقة التيجانية التي لها تأثير كبير على أبناء المسلمين في النيجر ولها أتباع في مختلف المحافظات. ولشيوخ هذه الطرق مكانة في نفوس المريدين. ويعود سبب انتشار الطرق الصوفية في النيجر، وخصوصاً في القرى والأرياف، إلى البساطة والسهولة في حياة الناس وتناسب هذه الطرق مع طبيعة الناس. ووجد

 

(1/1745)

 

 

الناس التجمع حول الشيخ وفي الانضمام إلى حلقات للذكر ما يروي الظمآن ويشبع الجوع الروحي، وطالما شاع الاعتقاد بأن للشيخ كرامات واسعة يلعب بها الخيال فيصل إلى فك المعاني وشفاء المريض وإزالة العقم. وكان الناس يتناقلون هذه الشائعات ويضيفون إليها، فتتوافد على الشيخ الجموع الغفيرة الراغبون في الانضمام إلى مريديه، بما أن رجال الطرق الصوفية لا يكترثون بالمال ولايسعون إلا للكفاف؛ ومن هنا يلقب المريد بالفقير. وإذا كان نشاط الناس يكون في النهار، فإن نشاط الطرق الصوفية يرتبط بالليل لما له من جلال وعظمة.

 

(1/1746)

 

 

وجمهور الليل ومريدوه أكثر، وحضرة الذاكرين لها جاذبية تشد الحاضر وتقرب لها البعيد. وفي هدأة الليل تغمر أصوات الذاكرين النجع كله، فيهرع الجميع إلى حلقة الذكر من شيب وشباب ورجال ونساء، بل ربما انتقلوا مع الشيخ من مكان إلى مكان ومن قرية إلى قرية.

... ويعتبر الشيخ أبو بكر جوتا أكبر شيوخ الطريقة التيجانية الذي استمد هذه الطريقة من الشيخ إبراهيم انياس السنغالي أشهر أعلام التيجانية في غرب أفريقيا. وقد دخلت هذه الطريقة إلى النيجر منذ قرابة قرن من الزمان وحملها إلى النيجر الحجاج الذين يمرون عبر السنغال

 

(1/1747)

 

 

ومالي ونيجيريا وغانا(1). وأهم المراكز التيجانية المعروفة اليوم هي: ساي، تاسوا، زندر، مرادى، منطقة غوري، فيلنجه، دسو. ثم إن هناك فرقة دينية تفرعت عن التيجانية هي المامالية. وقد انتشرت هذه الفرقة ضمن نطاق محصور قرب ولاموردى.

... أما »السنوسية«، فقد لاقت رواجاً خاصاً بين الطوارق في عير وبين التوبوس في بيلما؛ كما أن الشاذلية عرفت لها بعض الأتباع بين الطوارق في كليل اوى وفي زندر

__________

(1) من مقابلة مع الشيخ موسى سليمان، مدير التعليم العربي في النيجر. ويعد أحد أتباع الطريقة التيجانية في يوم 25/7/1995 م.

 

(1/1748)

 

 

وبين اتباع مذهب يان كوبلي في ماكوديا وفي زرمو قرب زندر، ولدى البول في غورى، وهي مذهب يشدد على نمط الحياة الصارمة وينتظر عودة الولي أو المخلص(1). ويسود في النيجر المنهج السلفي على نطاق واسع بين أوساط الشباب والمثقفين.

...

النشاط التبشيري في النيجر

... وعلى الرغم من انتشار مظاهر التمسك بالإسلام، فإن التأثر بالحضارة الغربية وتقليد الأجنبي منتشرة في المجتمعات النيجرية على نطاق واسع، خاصة في العاصمة والمدن الكبرى. أولى هذه المظاهر انتشار اللغة الفرنسية التي تعد

__________

(1) النيجر اليوم، مرجع سابق، ص. 39.

 

(1/1749)

 

 

اللغة الرسمية للدولة ولغة التعليم؛ وهناك فئات عديدة في المجتمع النيجري تتبع النهج الغربي في العادات والتقاليد والزي وطريقة العيش، وكذلك المعاهد والمراكز والمؤسسات المختلفة. ويوجد انتشار واسع لأماكن اللهو والحضارات والنوادي الليلية. ويمكن القول إن هناك صراعاً حضارياً وثقافياً بين الحضارة والثقافة الإسلامية والحضارة والثقافة الغربية. وأما انتشار الكنائس والنشاط التبشيري لصرف المسلمين عن دينهم ومعتقداتهم الإسلامية، فكبير. وقد بدأت هذه الحملة منذ الستينيّات، وكانت في أوج نشاطها في عدد من المحافظات

 

(1/1750)

 

 

النيجرية. وقد تمكن هذا النشاط من جني ثمراته بتحويل عدد من أبناء المسلمين عن دينهم، وذلك بما يقدمه المبشرون من خدمات صحية وتعليمية باسم الخدمات الإنسانية. وأهم المناطق التي تأثرت بالنشاط التنصيري منطقة تيرا ودوتشي واغادس وطاوا ونياس ومرادى وساي.

... ويستغل المبشرون الحالة الاقتصادية للسكان وجهلهم بتقديم بعض الخدمات العينية والمادية مقابل تنصيرهم(1).

__________

(1) ... صلاح الدين حماد، الغزو الثقافي والفكري لغرب إفريقيا، رسالة ماجستير، ص. 168.

 

(1/1751)

 

 

... وتقوم جماعات التنصير بإقامة المراكز الصحية وتقديم الخدمات الطبية، وتدعو إلى إقامة مؤتمرات في النيجر منها مؤتمر السياسة السكانية الذي عقد في عام 1990 بمدينة مرادى. وقد حضر هذا المؤتمر مندوبون عن مؤسسات مختلفة في النيجر(1).

... زيادة على ذلك، بدأت الكنائس النصرانية تنتشر في النيجر بسرعة مدهشة. فمثلاً، في مدينة نيامي وحدها فيها ما لا يقل عن أربع كنائس كبيرة. فهذا العدد يعتبر كبيراً باعتبار عدد النصارى في البلد، وهناك محاولات مستمرة لبناء كنائس أخرى في مدن مختلفة.

...

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 169.

 

(1/1752)

 

 

التعليم العربي والإسلامي

... أصبح التعليم العربي والإسلامي حقيقة ملموسة في أنحاء النيجر، فلقي التعليم الديني اهتماماً من قبل الدولة. وهذا الأمر بدأ في وقت مبكر عقب الاستقلال. مما يدل على ذلك أنه أنشئت إدارة خاصة للتعليم العربي في وزارة التعليم العربي والإسلامي في جميع المراحل. وقد أرسلت حكومة النيجر بعض أبنائها ليتعلموا اللغة العربية والدراسات الإسلامية في البلدان العربية، وأصبح انتشار المدارس والمعاهد العربية ظاهرة واضحة في النيجر. فمثلاً، في نيامي يوجد المعهد الإسلامي المتخصص في التعليم

 

(1/1753)

 

 

العربي والإسلامي للمرحلة الثانوية؛ وكذلك معهد رابطة العالم الإسلامي. وتستعين النيجر، إضافة لأبنائها، بمعلمين متعاونين من دول عربية مثل مصر (الأزهر) والسعودية والمغرب لسد النقص في المواد العربية والإسلامية في مدارسها؛ كما انتشرت المدارس الأهلية التي تهتم بالتعليم الديني انتشاراً واسعاً؛ وتجد هذه المدارس الدعم والتشجيع من قبل الحكومة.

... ليس هذا فحسب، بل إن جامعة نيامي الوطنية تشتمل على بعض المساقات العربية الإجبارية لطلبة بعض الكليات فيها؛ وهناك خطة لتعميم التعليم العربي ليشمل كافة المدارس في

 

(1/1754)

 

 

جميع المناطق والمحافظات.

 

(1/1755)

 

 

الإسلام والمسلمون بأوربا : مشاكل الأجيال الصاعدة في حفظ الهوية

 

الدكتور عباس الخراري

عضو أكاديمية المملكة المغربية

...

... لاأخفي منذ البدء مدى صعوبة هذا الموضوع، وهي نابعة من عسر التوفيق بين الأجيال الصاعدة من أبناء الجالية الإسلامية المهاجرة إلى بلدان أروبا وبين تمسكهم بالهوية، مما تجسمه المشاكل التي تعانيها هذه الأجيال، والتي سأكتفي في هذا العرض بمجرد لمسها ومقاربتها .

... وإني لآمل في هذه المقاربة أن أقف على جوانب ثلاثة :

 

(1/1756)

 

 

... أولا ... : مفهوم الهوية ومقوماتها والنزوع التلقائي إلى المحافظة عليها .

... ثانيا ... : موقف المهاجرين وأجيال الصاعدة من هذه الهوية وما يعاونون من مشاكل في سبيل التمسك بها .

... ثالثا ... : اقتراح خطة شاملة لمواجهة تلك المشاكل.

* * *

... الهوية بالنسبة للفرد - أي فرد - هي ما يكون يه "هو" أي مجموع المقومات والعناصر المكونة لشخصه والميزة لذاته؛ وما يثبت وجوده ويؤكد حضوره في مجتمعه الصغير والكبير، وما به كذلك يوجه أفعال وانفعالاته ويضبط علاقاته الخاصة والعامة.

 

(1/1757)

 

 

... وهي تتشكل انطلاقا من نوازعه الفرطية، وما يتمتع به من طاقات وقدرات، وما يكتسب من معارف وتجارب، تجعله ينصهر في بوتقة تلك المقومات، لينبثق منها مطبوعا بملامح وسمات، وهي التي تمثل هويته، وتحدد ما له فيها من أبعاد، وما يشده من روابط، وتعطيه حقا خالصا له لاسلطان فيه لأحد عليه، إذهو في طليعة ما يعترف به للإنسان من حقوق. ويمكن حصر عناصر هذا التشكل في مكونات أربعة(1) :

__________

(1) انظر "الثقافة من الهوية إلى الحوار" لصاحب العرض (مشورات النادي الجراري، 3، الرباط، 1413 ه /1993م)

 

(1/1758)

 

 

... 1- البيئة بمختلف عناصرها الطبيعية والبشرية وما ينشأ عنها من نظم وأوضاع شتى ملدية لاتلبث أن تتبلور في تجليات ذهنية ونفسية هي التي تحل هذه البيئة مقام الوطن بكل ما له من معان وقيم.

... 2- الدين باعتباره عقيدة تكيف المفاهيم والتصورات، وعبادات تنبع من هذه العقيدة وتضبطها، وشريعة تنظم الحياة في شتى مظاهرها، ومنظومة خلقية تحدد السلوك وأنماط العلاقات.

... 3- اللغة من حيث هي أداة خطاب وتواصل، ووعاء فكر وأحاسيسن ومظهر إثبات الوجود، والرمز المعبر عن الذات.

 

(1/1759)

 

 

... 4- التراث الثقافي والحضاري المعبر عن مدى نبوغ الأجيال وعبقريتها وما كان لها من إنتاج دال على ما أدركت في مجالات العقل والعاطفة والذوق والممارسة من علوم وفنون وآداب، وما أبدعت من صناعات ومهارات، وما أشاعت من عادات وتقاليد.

... وحين يتعلق الأمر بالمهاجرين المسلمين، أي أصحاب هوية إسلامية، فإن هذه المقومات تنصهر في بوتقة الدين، باعتباره المؤثر الفاعل فيها جميعا، بدءا من الأوطان التي أسست على دعامته، إلى اللغة التي هي لارتباطها بالقرآن الكريم تداخل وجدان كل مسلم حتى من لم تكن له أداة تفاهم

 

(1/1760)

 

 

وتخاطب، ليمس الأمر بعد ذلك التراث الذي تبع من الإسلام واصطبغ بروحه.

... والتحام هؤلاء المهاجرين بالهوية الإسلامية في مجالها الرحب الواسع، لا يحول دون تمسكهم بهويات فرعية، تشدهم إلى بيئات معينة ومجتمعات محددة، لها ثقافتها الإقليمية وممارساتها المحلية، بدءا من لهجة أو لغة غير العربية إلى تقاليد وأعراف خاصة.

... ومهما تكن الدواعي التي تقود المهاجر إلى مغادرة وطنه للإقامة في غيره، فإنها تجعله في حيرة من أمره يعاني نزاعا نفسيا أمام مختلف الاختيارات التي تكون متاحة له، أو بالأحرى تكون مفروضة عليه، إذ

 

(1/1761)

 

 

يتلقى ظروفها وشروطها من الطرف المستقبل.

... ويكفي بالنسبة للأجيال الصاعدة أن نشير إلى احتمالين:

... الأول ... : الاندماج في الآخر بكل معطيات حياته ومقتضياتها، ومنها الهوية.

... الثاني ... : التمسك بالهوية الأصلية، وعدم الذوبان في الآخر.

... وعلى العكس ما يبدو نظريا ولأول وهلة، فإنه ليس سهلا أن يتحقق للمهاجر هذا الاحتمال أو ذاك، سواء أكان راغبا فيه أم مكرها عليه.

... ففي الحالين، يواجه المهاجر بالرفض النابع عند الآخرين من ميز جنسي، أو تعصب ديني، أو عنصرية ثقافية، أو من هذه العوامل مجتمعة بكل ما

 

(1/1762)

 

 

يكون لها من انعكاسات اقتصادية واجتماعية تحل الآخر مقام التفوق، بالقياس إلى المهاجر الذي

- مهما يكن مؤهله أو العمل الذي يقوم به - يبقى في مكان دوني، يتمثل ماديا في الواقع الذي يعيشه، ونفسيا في المرارة التي يجترها باستمرار.

... وهووضع يعانيه المهاجر إذا أراد أن يبقى على صلة بهويته، ولو بخيط رفيع؛ ويعانيه حتى إن أبدى قطع هذه الصلة. وتزيد هذه المعاناة حين لايكون له وضع قانوني يسمح له بالإقامة والحصول على عمل قار أو موقت.

 

(1/1763)

 

 

... والمشاكل التي يعانيها المهاجرون كثيرة كثرة الأسباب التي تكمن خلفها، ومن أبرزها :

 

... - صعوبة التمتع بوضع قانوني إلى حد الاستحالة.

... - عسر الحصول على عمل.

... - الطبيعة الشاقة أو المزرية لهذا العمل.

... - ضعف الأجر .

... - ضياع حقوق نقابية والضمانات الاجتماعية.

... - الإقامة في أحياح معزولة ومختلفة.

... - الشعور بالقلق والرعب من رد فعل الآخر وحتى من نظراته.

... - الغربة عن الأهل والوطن.

... - التمزق العائلي بالنسبة لمن يترك زوجته وأولاده في وطنه، وكذا بالنسبة لمن ينتقل بأسرته أو يضطر إلى

 

(1/1764)

 

 

تكوينها بالزواج المحلي.

... - الحرمان من إثبات شخصيته وممارسة حريته ....

 

... من هذا الحرمان تبدأ مشاكل حفظ الهوية، وهي إذا كانت مشاكل يعانيها المهاجرون عامة، فإن بالنسبة للأجيال الصاعدة تأخذ أبعادا تضاعف ما تظهره أو تخبئه من أخطار.والمقصود بهذه الأجيال، هو الجيل الثاني والثالث بالتجديد؛ وأول ما يلفت النظر فيها أن عددهما يزيد بسبب كثرة الولادات التي تدفع إليها الرغبة في الحصول على مزيد من التعويضات، حتى حين تكون الزوجة أروبية، لما لها في القوانين المحلية من مكاسب وحقوق باعتبارها أما وربة بيت.

 

(1/1765)

 

 

ويتخذ الوضع أبعادا أوسع حين يلجأ المهاجر إلى زيجات متعددة.

... وتبدإ معاناة هذه الأجيال بصدام مع واجهات كثيرة :

... 1- مع أنفسهم التي يضطرم فيها نزاع قوي نابع مما هم عليه في الواقع، سواء من حيث انتماؤهم في الأصل، أو الوضع المزري الذي تعيشه أسرهم.

... 2- مع هذه الأسر التي تريدهم أن يظلوا محافظين - ولو نسبيا ومظهريا- على ما يشدهم إلى جذورهم، غير راضين عنها، لأنها ستقيهم في وضعية آبائهم وأمهاتهم، وهم لهذه الوضعية رافضون.

 

(1/1766)

 

 

... 3- مع المجتمع الذي يعلن عدم قبولهم، أو حين لا يعلنه يتعامل معهم بحذر شديد. وهم يشعرون بهذا الموقف في سلوك أقرانهم من جيران الحي ورفقاء المدرسة.

... والحقيقة أن هذا الصدام في البدء والختام يؤول إلى صراع مع الهوية. فإذا كان عدد ضئيل منهم يريد بقاء الارتباط بها، فإن أغلبيتهم يودون التخلص منها، لأنهم يرفضون أن يظلوا مهاجرين، ولأنهم يتمنون الاندماج، إما عن اقتناع أو لحل مشاكلهم.

... وهي مشاكل تبدأ منذ الميلاد وعند تسجيل اسم المولود، إذ يلزم الوالدان باختياره بعيدا عن المجال الذي يرتبط بالهوية.

 

(1/1767)

 

 

وحين لايقع الألزام، فإن يكتفي بالإيحاء والتوجيه.

... ثم تلبث هذه المشاكل أن تتضخم إذا ما تسنى للطفل أن يلتحق بالمدرسة. فعلى الرغم من أن التعليم لايتاح إلا في نطاق محدود، فإن من يحظى به يلقى تعثرا كبيرا لضعف الإمكانات ووسائل المتابعة، مما يسبب له تخلفا عن المستوى المطلوب. بالإضافة إلى أنه لطابعهالعلماني، ولابتعاذه عن مقومات الهوية، يعمق في نفس التلميذ المهاجر ذلكم النزاع النفسي الذي قد ينتهي به إما لفصله عن هويته، وإما لرد فعل مضاد يقود إلى التطرف الديني الذي يجد له مرتعا خصبا بين المهاجرين،

 

(1/1768)

 

 

والذي غالبا ما يرتبط باتخاذ مواقف معارضة من أنظمة البلاد الأصلية؛ هذا إن لم يؤد الأمر إلى الانحراف الذي توجد له مغريات كثيرة.

... وتأتي بعده مشاكل البحث عن عمل، وهو في الغالب غير متيسر في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية تولد البطالة، وفي مناخ ينظر فيه للمهاجر - مهما يكن جيله - بشيء غير قليل من الازدراء والاحتقار. وهو منظور لايتغير حين طلب الجنسية التي لاتمنح إلا في نطاق محدود، بغض النظر عن موقف الدين والوطن منها .

 

(1/1769)

 

 

... وفي حال التغلب على جميع هذه المشاكل، تبقى موانع تحول دون الاندماج، إذ لايمحي أثر الحاجز العنصري، ولا العائق الديني والثقافي والنفسي؛ أي لاتمحى بصمات الهوية من الشاب الراغب في الاندماج، مهما تكن رغية الانفصال عنها، لاسيما وأن شروط التساكن وظروف التايش غير متوافرة، على نحو يتيح له علاقات طبيعية مع الأقران من أبناء البلد. كما لايدل موقف الآخر منه،حتى حين يتزوج من فتاة أروبية. بل لعل هذا الموقف يزيد عداء، للشعور بأن الشاب المحافظ على بصمات هويته، رغم أن مختلف ظروف الاندماج قد أتيحت له، هو أقوى

 

(1/1770)

 

 

خطرا من المهاجر الأب أو الجد، لأنه غدا صاحب حق يجعله قادرا على أن يتسرب من الداخل. وما يقال عن هذا الشاب يقال كذلك عن الفتاة المسلمة التي تقترن بأروبي. يضاف إلى كله أن الإندماج لايمكن أن يتحقق - مهما تكن الأسباب التي توافرت له - ما لم يكن الشخص الراغب فيه مقبولا لدى الآخر، أي قبولا كما هو، أعني بهويته في جميع مقوماتها أو بعض ما يبقى لها من ملامح، حين يراد منها الانسلاخ، أو حين يفرض تعاقب الأجيال المندمجة محو آثارها، إلا ما كان من النتماء الأصلي الذي لاشك يستمر موشوما في الذاكرة لمن ينقب عنه

 

(1/1771)

 

 

ويبحث. وقد يستمر معه إحساس باطني يبدو غير معلن عنه ولا مكشوف؛ وإذا ظهر فبخاء وتستر واحتشام، ولكنه إن واتته ظروف لايلبث أن يتجلى في أبهى مظهر وأقواه، في شبه انفعال موقوت.

... إن الأجيال الصاعدة في خضم هذه المشاكل تسعى إلى تكوين الشخصية وفرض الذات، وتحقيق الطموحات وممارسة الحريات، على نحو ما لمثيلاتها من الأجيال الناشئة الأروبية. وهي من أجل ذلك تسارع إلى التقليد والاتباع، وإلى القناعة بالقليل، وإلى ابتلاع عقد النقص وتجاوز الصراع النقسي تجاه الهوية؛ وهو تجاوز ذو مظهرين :

 

(1/1772)

 

 

... أولهما ... : يتمثل في الانسلاخ عن الهوية في أبرزمكوناتها، ولاسيما الدين واللغة.

... وثانيهما ... : يتجلى في التمسك بها، أو ببصيص منها، مهما يكلف هذا التمسك.

... وعلى الرغم من كل ما يفرضه واقع الغربة على المهاجرين الأوائل، فإن ارتباكهم بالهوية يتجلى باستمرار مقترنا بما لهم من حنين إلى أوطانهم، وعودتهم إليها بصفة نهائية حين تنقضي مدة عملهم، أو بصفة موسمية لقضاء عطلهم . كما أنهم غالبا ما يحولون إليها مدخراتهم المالية، لاستثمارها والتعويل عليها عندما يعودون إليها للاستقرار وقضاء بقية أيام

 

(1/1773)

 

 

العمر.

... أما أثر هذا الواقع على الأجيال الصاعدة فإنه يبدو مخالفا لذلك :

... 1- فهم أميل إلى الاندماج بمفهوم الانفصال عن الهوية، وهو انفصال إن لم يكن نهائيا، فإنه ينم بالتدريج.

... 2- وإذا ما اجتمعت لهم مدخرات، فإنهم لا يستثمرونها في أوطانهم.

... 3- ومن ثم، فإنهم لايفكرون في العودة النهائية إليها للاستقرار.

... 4-فلما يقضون عطلهم فيها، وإن فعلوا أحسوا بغربة تعمق شعورهم بالانفصال ورغبتهم فيه.

... 5- لايربطهم بالهوية إلا حديث الآباء والأمهات، بما يثيره هؤلاء من ذكريات، وبما يمارسون من عادات

 

(1/1774)

 

 

غالبا ما تواجه بالضيق والانتقاد وربما الاشمئزاز.

... 6- كما أن معاملة الأروبيين لهم تذكرهم دائما بانتمائهم.

 

* * * *

... ويبدو أن هذه الحقيقة الأخيرة تجعل المرارة تتضاتعف في نفوسهم، ومعها يقوى شعور في لاوعيهم بضرورة التمسك بشيء يعطيهم كيانهم ويبرز شخصيتهم، وقبل ذلك يرد عنهم الإهانة ويحميهم من الضياع. وهنا يكمن بصيص الأمل في إنقاد الأجيال الصاعدة، بإعادة الثقة في هويتها التي هي كالرحم الحنون تجمع المهاجرين من مختلف الأجيال بأوطانهم وتحميم في هجرتهم. وهذه لاشك مهمة جسيمة تقتضي من البلاد الإسلامية

 

(1/1775)

 

 

خطة شاملة تكون لله هادفها واضحة ووسائلها محددة ومناهجها مضبوطة.

... ونقطة البدء في هذه الخطة أمور جوهرية منها هذه الأربعة :

... أولا ... : حصر العناصر الصحيحة والمعالم الضرورية في الهوية لاعتمادها، وكذا حصر الزائف منها لإبعاده، مع تهميش ماهو اختياري أو تأجيله لقاء ما تكون له الأولوية والسبق، سواء بالنسبة للدين أو التراث

... ثانيا ... : توحيد الرؤى فيما يتعلق بأمور الدين خاصة، في بعد عن الخلافات المذهبية، وفي النطاق الذي يبرز وسيطة الإسلام واعتداله ويسره.

 

(1/1776)

 

 

... ثالثا ... : بحث إمكان التوفيق بين قيم ومقتضيات المجتمعات الأروبية، وإن مع شيء من التطوير الذي لامس جوهر تلك القيم.

... رابعا ... : التوسل بأساليب العصر الحديث، بما فيها السمعية البصرية وأدوات الاتصال الجديدة، مع مراعاة التبسيط والإغراء والتشويق، وتجنب كل ما يفضي إلى التعقيد والتفير. وحتى تتحق هذه الخطة، فإنه ينبغي:

... 1 - إقامة مؤسسات حكومية وحرة، وإنشاء هيآت عامة وخاصة، وتأسيس مراكز ثقافية، وبناء مدارس ومساجد وقاعات للصلاة؛ وتوظيفها جميعا لمباشرة الاتصال الدائم بالمهاجرين، وتنظيم هذا

 

(1/1777)

 

 

الإتصال، وتوجيهه لرعاية الأجيال الناشئة منهم على الخصوص، في شتى مقتضيات الحياة، بما يجعل تلك الأجيال مشدودة باستمرار لأوطانها معتزة بهويتها.

... 2- إمداد هذه المؤسسات وما إليها بأطر كافية للنهوض بالتعليم والوعظ والإمامة والخطابة، والإشهاد العدلي، على أن بكون مؤهلة ومكونة، كل في دائرة اختصاص عمله، للقيام بالمهام التي يقتضيها حسن توجيه الأجيال الصاعدة من المهاجرين، سواء فيما يتعلق بإتقان الغة العربية وما إليها من لهجات وعاميات وكذا اللغات الأروبية، أو فيما يتعلق بالمعارف الدينية والتاريخية وغيرها

 

(1/1778)

 

 

مما يتصل بالحضارة والثقافة؛ على أن تستعمل الأساليب التربوية لذلك. وينبغي لهؤلاء القيمين أن يكونوا قارين في هذه المؤسسات، وربما تنقلوا من واحدة إلى أخرى؛ دون إهمام الأساتذة والعلماء الزائرين الذين يفدون بمناسبات معينة.

... 3 - العناية بتعليم منظم للدين واللغة - أواللغات واللهجات إن اقتضى الأمر - مع ما يرتبط بهما من معارف ثقافية وحضارية، على أن تقام لهذا التعليم مدارس خاصة به، أو يتفق مع الدول الأروبية على إمكان استعمال مدارسها الرسمية في أوقات معينة وكذا على ضرورة تخصيص حصص في تعليمها لبعض

 

(1/1779)

 

 

المواد الدراسية التي تهم المهاجرين المسلمين. ويمكن تقديم هذا التعليم كذلك في المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية بتلك البلدان.

... 4 - تزويد هذه المراكز بما يلزم من كتب وصحف ومجلات وأشرطة مسموعة ومرئية وغيرها، مما تسيره أجهزة الاتصال العصرية، بهدف توفير مادة مرجعية كافية، ومقنعة، تغريهم بالتردد على هذه المؤسسات، للمحافظة على استمرار علاقات أجيال المهاجرين بها، لمتابعة توعيتهم بالهوية، ولميساعدتهم على تذليل الصعوبات التي تعترضهم في الغربة.

 

(1/1780)

 

 

... 5 - تخصيص إداعات وقنوات فضائية تشرف عليها البلدان الإسلامية وتوجه مختلف برامجها الإعلامية والتثقيفية والترفيهية لما يشهد المهاجرين إلى مقومات هويتهم.

... 6 - توفير ظروف الزواج وما إليه من متعلقات الأحوال الشخصية وقضاياها المختلفة، كالطلاق والنفقة والحضانة وما إليها ، وتيسيرها لتشجيع ارتباط المسلم بالفتاة المسلمة، وعدم اضطرارهما إلى الارتماء في أحضان زيجات أجنبية، غالبا ما تكون إجرآتها سهلة ومبسطة ولكن عواقبها وخيمة.

 

(1/1781)

 

 

... 7 - إقامة مخيمات ومراكز للأطفال والشباب يقضون فيها عطلهم ، في نطاق تأطير يركز على مقومات الهوية، وكذا تنظيم رحلات لمختلف البلاد الإسلامية تكون في نفس الإطار.

... 8 - عقد مهرجانات ثقافية وفنية بالمناسبات الدينية وغيرها من المواسم، لتعميق الشعور الديني والحس الحضاري الإسلامي.

... 9 - إحداث مرصد للمعلومات ومختلف المعطيات التي تتعلق بالمهاجرين، لتتبعها وتحليلها والاستفادة منها في تطوير العمل وتجديد أساليبه.

 

(1/1782)

 

 

... 10 - توجيه الآداب التي يكتبها المسلمون بلغات أروبية، لتكون أحدى وسائل التوعية بالهوية وقيمها وخصائصها؛ أقصد في وسط الأجيال الناشئة من أبناء المهاجرين، وحتى في الله وساط الأروبيين أنفسهم.

... وتحتاج الخطة بعد هذا إلى أمرين اثنين :

... أولا ... : الحرص على تنفيذ الاتفاقات التي أبرمتها البلدان الإسلامية مع الدول الأروبية بشأن حقوق المهاجرين، وكذا المواثيق الدولية والتشريعات الأروبية التي تحمي هذه الحقوق، والعمل على بلورتها في الواقع؛ وفي طليعتها حق الانتماء إلى هوية مخالفة، والتمتع بحرية

 

(1/1783)

 

 

ممارستها في شتى الجوانب.

... ثانيا ... : إقناع الدول الأروبية - مسؤولين ورأي عام - أن الهوية الإسلامية غدت بحكم عدد المهاجرين الكبيرن وبطول إقامتهم واستمرارها إلى حد الاندماج، جزءا مكونا للواقع الثقافي الأروبي تحتاج إلى أن تقبله هذه الدول، وتتعامل معه ومع أصحابه رافد من شأنه أن يغني هذا الواقع ويمده ويفتح معه - عبر المبادئ المشتركة والقيم العريقة - آفاق التقتح والتواصل، في رحابة صدر وسعة ذهن، وفي تحاور هادف لمزيد من التفاهم والتعارف، وإرادة صادقة للتعايش والتسامح. ولعلها إن سارت في هذا الاتجاه

 

(1/1784)

 

 

أن تقوي كيانها ، وتحمي تقدمها ، وتشيع في ربوعها ومن حولها السلام.

 

(1/1785)

 

 

الإسلام والمسلمون في بلاد البلغار والروملي الشرقية الفترة الثانية 1945 ـ 1980

 

... ... ... ... ... الدكتور عبد الكريم الأبيض

... ... ... كلية الآداب ـ الرباط

 

... قبل أن أدخل في الموضوع المشار إليه، أحيل القارئ الكريم على سلسلة من الوثائق المهمة والدراسات ذات الطابع العرقي والديني التي ضمتها أكثر من 80 صفحة تحمل عنوان "المشاكل الدينية في أوربا الشرقية: 1945 ـ 1970"(1):

__________

(1) ... La Documentation Française, Notes et Etudes Documentaires, N° 3790-3791, 17 mai 1971, pp. 1-78.

 

(1/1786)

 

 

... في العدد السابع من مجلة "التاريخ العربي" كنت قد أشرت في الصفحة 240 إلى أن البحث في وضعية الإسلام والمسلمين في بلاد البلغار والروملي الشرقية سيقسَّم إلى قسمين، وكل قسم يختلف عن القسم الآخر تبعاً للفترتين التاريخيتين.

... لقد قمت بتحديد الفترتين عبر التسلسل الزمني، فعالجت الفترة الأولى التي تمتد من سنة 1870 عند انعقاد مؤتمر برلين المشهور إلى نهاية الحرب الكونية الثانية. أما الفترة الثانية 1945 ـ 1980(1)

__________

(1) ... كان لهذا المؤتمر الذي عقد في باريس سنة 1878 تحت رئاسة المستشار بسمارك دور أساسي في وقف الزحف الروسي والإطلال على البحر الأبيض المتوسط وكان رد فعل إنجلترا حاسماً.

 

(1/1787)

 

 

، فكنت قد وعدت القارئ الكريم بتقديمها في مناسبة لاحقة. وقد كان التأخر في الوفاء بهذا الوعد يرجع لصعوبة البحث أولاً ـ وكنت قد ألمحت إلى ذلك في البحث الأول ـ ولقلة المصادر والمراجع ثانياً، فضلاً عن دخول بلغاريا عهداً جديداً في نظام الحكم، وهو النظام الشيوعي الذي عم منطقة البلقان برمتها.

... في المقال الأول أشرت إلى دور الهجرة الكثيفة للطائفة المسلمة، وخاصة طائفة الترك وطائفة التتر اللتين حملتا معهما الإسلام إلى بلغاريا بعد دخول الإمبراطورية العثمانية إلى بلاد البلغار. ولم يكن ذلك حاصلاً للطائفتين

 

(1/1788)

 

 

الأخريين، طائفة البوماك (Pomak) ـ وهم بلغار أسلموا بعد ذلك ـ أو الجيتان. هذه الهجرة لعبت الدور الأساسي في تكوين الصعوبة التامة للبحث، وأدت نتيجة لذلك إلى عدم توفر وسائل الدقة والمراقبة، عندما يحتاج الباحث إلى تقديم إحصاء تام ومستقر وكامل حتى يتمكن بعد ذلك من فحص الطائفة المسلمة عبر هياكلها العامة من حيث التنظيم ومن حيث التلاحم والقوة والتراص، وكذلك من حيث حياتها العامة السياسية والثقافية والاجتماعية والقانونية. إن هذا الأمر متعذر المنال صعب التحقيق. وإذا كان هذا الأمر كذلك؛ فإن تضارب المراجع

 

(1/1789)

 

 

وتناقصها بالنسبة لما نشره الأتراك أو ما أعلنت عنه الحكومة البلغارية، كل ذلك يزيد أمر البحث عرقلةً.

... ثم إن الحدود التي كانت تفصل بين دول البلقان كانت قابلة للتغير في كل وقت وحين بسبب الحروب البلقانية الطاحنة ضد الأتراك أو ضد بعضهم البعض(1)، فتتقلص الأرض أو تتسع حسب الانتكاس الحربي أو عقب الانتصار.

__________

(1) ... الحرب البلقانية الأولى سنة 1912 جمعت دول البلقان ضد الأتراك، والثانية سنة 1913 أعلنت فيها بلغاريا الحرب على صربيا، وكان ذلك مقدمة لإشعال دول البلقان نار الحرب ضد البلغار.

 

(1/1790)

 

 

... لقد أدخل النظام الشيوعي شريعة جديدة، فاعتبر النظام العلماني سبيلاً إلى تحقيق أهداف النماء والتطور. ولن يتم ذلك إلا عن طريق تحرير الإنسان من

سيطرة الدين(1)

__________

(1) ... في سنة 1919 كتب لينين ما معناه: إن الدين عبارة عن مظهر للقهر الروحي (Notes et Etudes Documentaires)، حيث أعلنت كل المذاهب والعقائد الشيوعية عن عزمها على تحطيم كل الأديان. في بلغاريا قامت السلطات الحاكمة بتقديم اقتراح إلى لجنة تحرير جريدة "Istina" التي كانت أسبوعية وتنطق باسم الكاثوليك بنشر مقال في هذه الجريدة يقدمه لها الحزب الشيوعي، لكن الرهبان قرروا وقف هذه الصحيفة حتى يتمكنوا من إبعاد أي احتمال لتدخل الدولة:

(Notes et Etudes Documentaires, p. 12.).

... ينظر الشيوعيون إلى الدين من خلال ثلاث نقط أو مواقف هي:

... 1 ـ لا يمكن للدين أن يكون نافعاً للحزب الشيوعي، وفي هذه الحالة يجب القضاء عليه.

2 ـ في تقدير الحزب الشيوعي أن المؤسسات الدينية في كنائس ومساجد يتم القضاء عليها ليس عن طريق الهدم والتحطيم، ولكن بواسطة تشديد المراقبة وتعزيزها لوظيفة هذه المؤسسات.

3 ـ بعد مرور الزمن، ستتعاون هذه المؤسسات الدينية ـ طوعاً أو كرهاً ـ مع النظام الشيوعي. ذلك بأن الدين في ظل النظام الشيوعي يتعرض للذبول والتلف كالنسبة داخل شقة درجة حراتها مرتفعة. (Notes et Etudes Documentaires).

... نورد هذت الملاحظات في الصفحات التالية: 12 ـ 14، 24 ـ 25، 32، 60 ـ 62، 74 ـ 78.

 

(1/1791)

 

 

. وبالفعل، تم تهميش الدين بصفة عامة، بل إنه من المرجح أن يكون نجاح الحكومة البلغارية عائداً إلى سلسلة من الإجراءات التي اتخذت في سبيل طمس عدد كبير من المصادر. وقد نجحت في إدماج طائفة البوماك، طائفة الأطفال الضائعين المعتنقين للإسلام. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يرجع بالدرجة الأولى إلى عدم توفر هذه الطائفة على تنظيم محكم يجعل منها أداة قادرة على المقاومة والدفاع على غرار ما رأيناه لدى الألبان المسلمين بطائفتيهم السنية والبكداشية(1)

__________

(1) ... راجع مقالنا المتعلق بقوانين الطائفتين، مجلة "التاريخ العربي"، العدد الثالث، ص. 263، والعدد الخامس، صص. 196 ـ 197.

 

(1/1792)

 

 

.

 

العهد الشيوعي 1945 ـ 1980: نظرة تاريخية مقتضبة

... بعد انهزام دول المحور، قام في بلغاريا ما كان يسمى بالجبهة السياسية التي خاضت المقاومة المسلحة ضد الألمان بوضع تصميم أولي يتطلع إلى تحقيق نظام سياسي جديد للحكم. كان الصراع محتدماً بين ثلاثة أحزاب: حزب الإنجاد الزراعي والحزب الشيوعي وحزب الفلاحين الاشتراكيين. وقد تمكن الحزب الشيوعي من القضاء على المعارضة، وإعدام رئيس حزب الوحدة بالرغم من تدخل بريطانيا والولايات المتحدة لإنقاذ رأسه. بعد ذلك، تم تأسيس النظام الجمهوري بواسطة استفتاء 8 شتنبر سنة

 

(1/1793)

 

 

1946 ونصب على رأس الحكم جورج دمتروف (George Dimetrov) الذي كان مستقراً في موسكو ويحمل الجنسية الروسية، وبذلك تم الدفع بالبلاد إلى النظام الديمقراطي الشعبي فصارت بلغاريا بعد ذلك تدور في فلك الاتحاد السوفياتي(1).

... في سنة 1980 كان عدد السكان في بلغاريا يقدر بتسعة (9) ملايين نسمة(2). ومن الملاحظ أن وجه الساكنة

__________

(1) ... لا يخفى دور ستالين في ذلك.

(2) ... إحصاء سنة 1980. وفي سنة 1946 كان مجموع السكان 7029349، وفي سنة 1956 كان 7613709، وفي سنة 1965 طتم 8227866، وفي سنة 1975 كان 8728720 نسمة.

 

(1/1794)

 

 

الريفية قد تغير تغيراً مهماً بسبب موجة التمدن، حيث نلاحظ أن الساكنة الريفية كانت قبل الحرب العالمية الثانية تشكل 80 % مقابل 20 % فقط لسكان المدن، وهي الآن قد انخفضت إلى 60 % لترتفع نسبة التمدن إلى 40 %، وبذلك تشير هذه الأرقام والنسب المذكورة إلى أن نسبة التمدن في بلغاريا كانت أعلى نسبة في بلاد البلقان بأجمعها(1). وهذا يجرنا إلى إقرار ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن الساكنة

__________

(1) ... وبذلك يكون تجانس سكان بلغاريا كاملاً، إذ لم تكن تعاني من وجود تكتلات عرقية ودينية كما هو الحال في بعض دول البلقان.

 

(1/1795)

 

 

البلغارية تحتفظ بطابع التلاحم وميزة التجانس حيث تشكل للأقليات القاطنة في بلغاريا 80 % من السكان. أما الأتراك، فلهم ما بين 8 و9 %، و2 و3 % للنَّوَر أو الجيتان. والجدول الآتي يقدم الأرقام الخاصة بسكان بلغاريا حسب إحصاء 1956:

 

... ... البلغار 6.506.541

... ... الأتراك ... ... 656.025

... ... النَّور أو الجيتان ... 197.865

... ... المقدونيون ... 187.789

... ... الأرمينيون ... 21954

... ... الروس 10551

... ... اليهود 6027

... ... التتر ... 5993

... ... أقليات مختلفة ... 13527

 

(1/1796)

 

 

... ... المجموع 7.613.709

 

... يلاحظ القارئ الكريم ضعف الوجود اليهودي في بلغاريا، بسبب موجة الهجرات المتلاحقة إلى إسرائيل. إذ ثبت أنه خلال سنة واحدة (1948 ـ 1949) عرفت البلاد هجرة مكثفة بنسبة 90 %.. ومن المعروف أن اليهود قد قدموا إلى بلاد البلغار من إسبانيا في القرن الخامس عشر وكان عددهم يقدر ـ إلى حدود الحرب الثانية ـ بـ 50.000. وقد لعب التهجير والهجرة دوراً أساسياً في تقليص حجمهم إلى 6000 تقريباً.

 

(1/1797)

 

 

... وما دمنا بصدد موضوع الهجرة والتهجير، فإن الجدول الآتي يقدم صورة واضحة تتعلق بنزوح الأقليات بصفة عامة خارج بلغاريا:

 

... ... 1947 ... 954 مهاجر

... ... 1948 ... 15.818

... ... 1949 21.524

... ... 1951 99.477

... ... 1952 486

... ... 1953 400

... ... 1954 242

... ... 1955 820

... ... 1956 334

... ... 1970 138(1).

__________

(1) ... راجع: « La population et l’économie de la république populaire bulgare », Documantation Française, Notes et Etudes Documentaires, N° 2787, 12 Juin 1961, p. 5.

 

(1/1798)

 

 

... وفيما يخص الأقليات الأخرى، فإن الأتراك كانوا يمثلون نسبة 8,6 % من السكان ويشكلون مجوعات متراصة تقطن الشمال الشرقي من البلاد (1).

... وكانت الدولة الشيوعية تعتبر أقلية الأتراك أقلية إثنية وليست أقلية دينية. أما أقلية الجيتان، فكانت تمثل

__________

(1) ... في منطقة Soudogovie ومنطقة Dobroudja، وعلى طول نهر الدانوب. كما تقطن في الجنوب الغربي من البلاد في منطقة Rhodopes الشرقية. ومن المعلوم أن هذه المنطقة عرفت ثورة طويلة وعامة قام بها البلغار المسلمون الذين يحملون اسم "البوماك" من سنة 1878 إلى سنة 1903.

 

(1/1799)

 

 

2,6 %؛ وقد بدأت تتخلى عن حياة الرعاة والتنقل إلى الاستقرار النسبي. ومع ذلك، فهي تعيش حياة الفقر المدقع على غرار إخوانها في منطقة البلقان: حب الموسيقى وكثرة الأولاد وعدم الاعتناء بالمظهر والملبس والصحة. تقطن هذه الأقلية المناطق المحيطة بالمدن والقرى، وتعيش في مجموعات حسب الديانة التي يدينون بها: فهم أرتدكس أو مسلمون، وحسب اللغة التي يتحدثون بها، التي هي يونانية أو بلغارية.

... أما المقدونيون 2,5 %، فهم مستقرون في وادي Strouma وفي بعض المدن الكبرى؛ وقد تم إدماجهم تقريباً.

 

(1/1800)

 

 

... وإذا كانت الساكنة البلغارية ملتحمة ومتجانسة لضعف دور الأقليات، سواء الدينية أو العرقية، فإنه تبعاً لذلك نلاحظ أن الطائفة الإسلامية بمجموعاتها الأربع تفتقر إلى التنظيم، باستثناء الطائفة التركية التي ضعف شأنها بعد موجات الهجرة والتهجير.

... كانت الطائفة المسلمة تضم أربع مجموعات:

... 1 ـ البوماك وهم سكان ينتمون بالعرق واللغة إلى المجتمع البلغاري. ويعيشون في منطقة Phodops الجبلية وفي نواحي منطقة Razlog. ويقدر عددهم بـ 952.000 نسمة (1)

__________

(1) ... لا يمكن معرفة عدد المسلمين في بلغاريا لغياب إحصاء يتعلق بالديانات. وكان آخر إحصاء حول هذا الموضوع يرجع إلى (13 دجنبر) سنة 1946 حيث يمكن حصر المسلمين في 938.418 نسمة من مجموع الساكنة التي يبلغ عددها 7.029.349.

 

(1/1801)

 

 

.

... قلنا إن مجموعة البوماك طائفة مسلمة أصلها بلغاري، اعتنقت الإسلام بعد دخول الأتراك إلى بلاد البلغار كما حصل لصرب البوسنة والهرسك. يخيم على هذه المجموعة الجهل والفقر ويعتبرهم المسؤولون بعد الثورة التي قاموا بها(1) منشقين عن الوطن والدين. وكان إدماج هذه المجموعة في المجتمع البلغاري لا يتطلب كثيراً من الوقت، وهم في نظر الحزب الشيوعي أطفال ضائعون (2)

__________

(1) ... راجع الهامش رقم 10.

(2) ... يشير ما نشره المسؤولون البلغار سنة 1945 إلى أنهم يميلون إلى الكبرياء والتعجرف، بل إنهم يؤكدون أن مجموعة البوماك بلغاريون وأن قوة باغية كانت تهدف في محاولات متعددة إلى إدماجهم في الأتراك أو عزلهم عن إخوانهم في العرق والدين.

 

(1/1802)

 

 

.

... المجموعة الثانية هي مجموعة الأتراك، ولها دورٌ بارز بحكم التنظيم والتراص والتجانس والاحتفاظ بلغتها الأصلية. تقطن هذه الطائفة شمال البلاد وعلى طول نهر الدانوب وكذلك في نواحي منطقة Rhodops الشرقية. وهي في نظر المسؤولين البلغار لا تمثل طائفة مسلمة، بل أقلية عرقية. وهي تتمتع بحقوق متميزة جعلتها تعيش في وضعية متميزة. وهذا ما أعلنت عنه الحكومة البلغارية في النشرة التي تحمل عنوان "الأقلية التركية داخل الجمهورية الشعبية البلغارية" (1)

__________

(1) ... La minorité turque en République Populaire de Bulgarie, Sofia, Edition de la Direction de la Presse, 1951, 1 vol. in 8.

 

(1/1803)

 

 

.

... وقد تعرضت الطائفة المسلمة التركية لموجبات الهجرة والتهجير ابتداءً من سنة 1945.

... أما المجموعة الثالثة، فهي أقلية التتر التي تضم 6000 نسمة. والجيتان يمثلون المجموعة الرابعة، ويبلغ عددهم 200.000 نسمة.

... يتضح مما سبق أن الطائفة المسلمة بمجموعاتها الأربع تدفعنا إلى طرح السؤال التالي، بالمقارنة مع ما تم بحثه في الأعداد السابقة في مجلة "التاريخ العربي": هل كان لهذه الطائفة المسلمة في بلاد البلغار دور فعال في المجتمع البلغاري؟

 

(1/1804)

 

 

... إن الجواب يقترن بملاحظتين اثنتين: أولاً، هذه الطائفة المسلمة لا تكوّن إلا 20 % بمجموعاتها الأربع، وهي بذلك لا تطرح مشكلة لها وزنها بالنسبة للمجتمع البلغاري في ظل النظام الشيوعي؛ ثانياً إن الأقلية التركية التي كان لها دور فعّال داخل المجتمع البلغاري قد تعرضت لموجات الهجرة والتهجير حسب مقياس العلاقات السياسية التركية البلغارية، وهي بذلك نقص مفعولها على مر السنين.

... إن موقف الحكومة البلغارية من الإسلام خاصة ومن الدين كله عامة يتعلق توضيحه بما لدى الباحث من وسائل الدقة والمراقبة. وهذا أمر يظل

 

(1/1805)

 

 

حبيس النسبة والافتراض، ذلك بأن تضارب المصادر وقلتها لا يفسحان المجال لإقرار موقف ما. ويرجع تضارب المصادر بالأساس إلى طرفين اثنين هما: المصادر التركية التي تحمل لواء الدفاع عن الإسلام عن طريق سلسلة الانتقادات الموجهة للمصادر البلغارية؛ ثم المصادر البلغارية التي تتمسك في أغلبها بفكرة الإقرار بالوضعية التي كان عليها الأتراك قبل الاندحار العثماني وإبان فترة الاستقلال وسيطرة الحزب الشيوعي (1)

__________

(1) ... في سنة 1949 أصدرت الحكومة البلغارية قانوناً يتعلق بالدين وممارسة شعائره. هذا القانون منح السلطة الفعلية لوزارة الشؤون الخارجية التي صارت وصية على المؤسسات الدينية، وبذلك صار على كل المسؤولين عن الدين والرجوع إلى الوزارة المذكورة للنظر في التنظيم والميزانية وموظفي الطوائف الدينية. ومن دون الإذن والمصادقة، فإن هذه الطوائف لا يمكن أن تكون لها شخصية شرعية (المادة 3) من القانون المذكور.

 

(1/1806)

 

 

. ولا يقتصر الأمر على تضارب المراجع وتناقص منابع البحث، بل يتجاوز ذلك إلى قلتها وندرتها. وعلى كل حال، فإن الواضح أن الإسلام قد أخذ في التراجع بعد مجيء المسؤولين البلغار إلى هذه الأقلية على أنها أقلية عرقية وليست طائفة مسلمة. وهذه النظرة تنسحب كذلك على طائفة البوماك البلغار: فهم مسلمون مشتتون في مناطق جبال "Rhodops"؛ وهم كذلك في نظر المسؤولين أطفال تائهون ضائعون، ولا يتطلب إدماجهم في المجتمع البلغاري وقتاً طويلاً أو مزيداً من العمل. إن التركيز على الطائفة التركية لا يعني إغفال الطائفتين

 

(1/1807)

 

 

الأخريين، طائفة التتر وطائفة الجيتان. فقد كان إدخال أسلوب العلمانية وتغيّر طرق التعليم منهاجاً وأسلوباً قد أصاب بحماه الطائفتين معاً، وكانت هاتان الطائفتان تتسمان بقلة التنظيم وعدم التلاحم والتراص، بالإضافة إلى أن اعتناق هؤلاء للإسلام كان اعتناقاً سطحياً بلا ممارسة فعلية لشعائر الدين. وهذا كله أدى إلى تبخر الدين وتراجعه بسبب ممارسة عمليات التفتيش والمراقبة لمراكز التثقيف ومؤسسات التعليم.

... ليس من السهل عمليّاً أن نقوم بسرد لتسلسل الإجراءات التي اتخذت ومورست في هذا السبيل على المسلمين هناك عبر

 

(1/1808)

 

 

قنوات تاريخية معينة؛ وعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى ما نشر من مقالات في العددين من مجلة "التاريخ العربي" حول وضعية الإسلام والمسلمين في ألبانيا بعد مجيء الشيوعيين إلى الحكم ابتداءً من سنة 1945 م. لقد أرغمت السلطات طائفة البوماك المسلمة على التخلي عن معتقداتها الدينية كتغير الأسماء، وحذف الأعياد الدينية، والقضاء على الصحافة المسلمة، واستحالة التوجه إلى الديار المقدسة، ومنع الاتصال بالطوائف المسلمة المقيمة في البلدان المجاورة لبلاد البلغار، وتشجيع دروس الإلحاد داخل المدارس. من جهة أخرى، نلاحظ أن

 

(1/1809)

 

 

الطائفة المسلمة التركية التي كان البلغار يعتبرونها أقلية إثنية وليست أقلية دينية قد تعرضت لضربات موجعة نتيجة تدهور العلاقات التركية البلغارية. وللتذكير، فإن حروب البلغار الأولى والثانية التي اندلعت فجمعت دول البلقان ضد الإمبراطورية العثمانية، كان لها الأثر البعيد في تدفق الهجرة المسلمة التركية خارج بلغاريا. ومن المرجح أن يكون لطرد هؤلاء الناس دوافع سياسية، وقد اتخذت طريق الهجرة التركية إلى الديار التركية مظاهر مختلفة تتناسب مع طبيعة العلاقات التركية البلغارية وتقلباتها. وهذه المظاهر تحددها

 

(1/1810)

 

 

فترات تاريخية هي:

... أ ـ فترة 1945 ـ 1949: كانت هجرة قوية.

... ب ـ 1950 ـ 1951: طرد جماعي مكثف 150.000 مهاجر.

... ج ـ 1952 ـ 1956: كانت الهجرة تخضع لشروط ولا تتم إلا عن طريق وثيقة الإذن من السلطات المسؤولة.

... وبعد 1969، أخذت الهجرة طريقها العادي لتصل في هذه السنة إلى 2529 مهاجر؛ وفي 1970 إلى 1110 مهاجر؛ وفي 1971 إلى 9540 مهاجر؛ وفي 1972 إلى 10465 مهاجر؛ وفي 1973 إلى 3223 مهاجر.

... أما الحياة الدينية للمسلمين على اختلاف مشاربهم، فإن المعلومات التي لدينا عنها لا تخرج عن نطاق التخمين، لقلة

 

(1/1811)

 

 

المكتوب أو لتضارب الآراء. وعلى كل حال، فإني أحيل القارئ الكريم على مرجعين مهمين: المرجع الأول هو ما عثرت عليه في نشرة رسمية صدرت عن الحكومة البلغارية وتحمل تاريخ سنة 1950، وهذا النص يقدم لنا نظرة مختصرة عن وضعية المسلمين خلال السنوات الأولى التي أعقبت الحرب الكونية الثانية. ومن خلال قراءته، يتضح أنه لم يحصل أي تغيير على وضعية الإسلام والمسلمين عما كان عليه الأمر قبل مجيء النظام الشيوعي إلى الحكم، لكن ذلك يظل محصوراً في فترة تنتهي سنة 1951، تلك السنة التي عرفت فيها الطائفة المسلمة التركية حملة

 

(1/1812)

 

 

من الطرد الجماعي بلغ ـ كما سبق ذكره ـ 150.000 مطرود. أما المصدر الثاني، فيتعلق بما كتب في الصحافة اليوغسلافية، وبالأخص ما نشر في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك (1).

... وسنقدم في الأخير نظرة مختصرة عن وضعية الإسلام والمسلمين، وهي تتعلق بالتنظيم الهيكلي للطائفة المسلمة بمجموعاتها الأربع: الترك والتتر والجيتان والبوماك، الظاهر أنه كان يوجد تنظيمان دينيان للمسلمين: الأول يضم الأتراك والتتر والجيتان، والثاني يتعلق بالبوماك فقط. وكان على رأس التنظيمين معاً مفتٍ واحد وللطائفة المسلمة برمتها،

__________

(1) ...

 

(1/1813)

 

 

وهو المفتي الأكبر، لكننا نجهل تماماً عدد المفتين الآخرين ووظائفهم على غرار ما كان عليه الأمر في ألبانيا للطائفة السنية والطائفة البكداشية. أما الأئمة، فكانت تسميتهم تتم عن طريق المفتي الأكبر، وكانت مرتباتهم تصرفها الدولة.

... ونظراً لقلة المصادر وتضاربها كما سبق ذكر ذلك، فإن معلوماتنا تظل ناقصة عن المؤسسات الدينية من مساجد ومراكز للعلم والتثقيف الديني.

... إن الأرقام التي حصلنا عليها من خلال المكتوب الرسمي في الفترة الممتدة ما بين 1945 و1980 تصل إلى وجود ما بين 1100 و1400 مسجد. وقد تعرض هذا

 

(1/1814)

 

 

الحجم من المؤسسات للتناقص بشكل ملموس بسبب النقص الحاصل في عدد الأئمة، وخاصة الأئمة الأتراك حيث انخفض عددهم من 2393 إلى 462 خلال الفترة الواقعة من سنة 1956 إلى سنة 1961. أما أئمة طائفة البوماك (المسلمون البلغار)، فقد انخفض عدد أئمتهم من 322 إلى 95 إماماً فقط. ومثل ذلك حدث أيضاً لمؤسسة الوقف التي انقرض شأنها وكذلك المدارس الدينية التي كانت تكوِّن الأطر الدينية. انعدم شأن الصحافة والمنشورات الإسلامية ابتداءً من سنة 1945، ويرجع ذلك إلى الإنتاج المحلي أو عدم وجود واردات إلى بلاد البلغار من الصحافة

 

(1/1815)

 

 

المسلمة التي كانت تأتي من الخارج.

... أما ممارسة الشعائر الدينية من صلاة وزكاة وصوم وحج، فإن معلوماتنا تظل ناقصة عنها، باستثناء المعلومات الرسمية لسنة 1965.

... كانت ممارسة هذه الشعائر متواضعة؛ إذ القلة هي التي كانت(1) تحضر صلاة الجمعة؛ كما انعدمت مراسيم عقود الزواج والدفن والاحتفال بالأعياد الدينية. والملاحظ أنه لم يحصل أن مسلماً قام بالحج إلى الديار المقدسة منذ سنة 1945.

__________

(1) ... هناك احتمال أن تكون الدولة قد قامت بطمس عدد كبير من الوثائق جزئياً أو كلياً.

 

(1/1816)

 

 

... وإذا كنا قد لاحظنا في البحثين السابقين المنشورين في مجلة "التاريخ العربي" حول ألبانيا أن الطائفتين السنية والبكداشية كانتا تتمتعان بتنظيم محكم عم كل مرافق الحياة الدينية، فإن طائفة البوماك محرومة من ذلك بسبب الهجرة الكثيفة التي تعرضت لها طائفة الترك(1).

... قبل أن نختم هذا البحث، يجب أن نشير إشارة مقتضبة إلى وضعية الإسلام والمسلمين في الوقت الراهن، فالطائفة المسلمة التي

__________

(1) ... حتى الزوايا والطرق الصوفية اضمحلت في بلاد البلغار منذ زمن طويل، باستثناء ما كان لدى الأتراك في منطقة Doli Orman.

 

(1/1817)

 

 

كانت تعيش في بلغاريا تتوزع ـ كما سبق أن ذكرنا ـ على مجموعات أربع هي: الأتراك، وهي طائفة مسلمة قدمت إلى البلاد مع دخول الجيش التركي، وتمتاز عن المجموعات الباقية بقوة إسلامها وشدة تنظيمها وتفرع هياكلها وتعدد مؤسساتها، سواء كانت للعبادة أو للتثقيف. وهذا ما دفع الحكومة البلغارية في العهد الشيوعي إلى اعتبارها أقلية إثنية وليست طائفة مسلمة، وقد تعرضت هذه الطائفة ـ وهو ما أشرنا إليه سابقاً ـ إلى موجات متتالية للهجرة والتهجير، فقلّ شأنها، وبذلك قل شأن الإسلام في بلاد البلغار؛ المجموعة الثانية هي طائفة

 

(1/1818)

 

 

التتر، وقد حملت معها الإسلام إلى بلغاريا؛ المجموعة الثالثة، وهي مجموعة النَّوَر أو الجيتان، كان إسلامها إسلاماً سطحياً بسبب طبيعة الحياة التي كانت تعيشها: الهجرة والتجوال وتعاطي الموسيقى وعدم الاعتناء بالمظهر والملبس؛ وينتسب بعضهم إلى الديانة الأورتذكسية، والبعض الآخر إلى الإسلام؛ أما المجموعة الرابعة، فهي طائفة البوماك، أصلها بلغاري، اعتنقت الإسلام بعد دخول الأتراك وتشكل نسبة مهمة داخل المجتمع البلغاري.

 

(1/1819)

 

 

... وإذا كان النظام الشيوعي يسمي البلغار المنتسبين إلى هذه الطائفة بالأطفال الضائعين، ويتطلع إلى إدماجهم بصفة نهائية في المجتمع البلغاري ديناً وثقافة، فإن أمر الوصول إلى ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى تفككهم لافتقارهم إلى التنظيم وغياب الثقافة والتعلم وتدني المستوى الفكري وتوغل آلة الجهل والأمية فيهم ونزول مستوى المعيشة وعدم التطلع إلى مغادرة الحياة الريفية. لقد قامت هذه الطائفة بثورة عارمة طال أمدها في منطقة جبال Rhodops قبل الحرب الكونية الأولى، هذه الثورة التي كانت تنم عن عمق الأزمة الاقتصادية

 

(1/1820)

 

 

والاجتماعية فيها. وبالرغم من طول مدة هذه الثورة (1878 ـ 1903)، فإن القضاء عليها كان نهاية مؤلمة لهذه الطائفة، طائفة البوماك.

 

المصادر والمراجع:

 

« La population et l’économie de la République Populaire Bulgare », Documentations françaises, Notes et Etudes Documentaires, N° 2787, 12 juin 1961.

La minorité turque en République Populaire de Bulgarie; Sofia, Edition de la Direction de la Presse, 1951, 1 vol. in 8° de 72 p.

 

(1/1821)

 

 

« Les Problèmes religieux en Europe Orientale, 1945-1970 », La Documentation Française, Notes et Etudes Documentaires, N° 3790-3791, 17 Mai 1971, p. 62, etc.

La lutte antireligieuse et contre l’Islam principalement, Edition du Parti Communiste Bulgare, 1965, pp. 180-185.

A. Girard, les Minorités nationales ethniques et religieuses en Bulgarie, Paris, 1932.

P. Thibault, « Bulgarie », Grand larousse Encyclopédique, t. II, 1960, pp. 437-438.

Revue du monde musulman, 26, 1914, pp. 259-262.

 

(1/1822)

 

 

Cf. L. Samouche, La Bulgarie, Rieder, p. 38.

A. Girard, « La situation des Musulmans en Bulgarie », dans La Nation Arabe, 1-3, Genève, Janvier-Mars 1933, pp. 39-46 précédé par une introduction « La réalité sur les Musulmans des Balkans. Les Musulmans de Bulgarie sont-ils bien traités par leur compatriotes ou non? », pp. 37-39.

S. A. Dchemalovitch, « Les Musulmans en Bulgarie », dans La Nation Arabe, 4-6 Genève, avril-juin 1933, pp. 38-44.

 

(1/1823)

 

 

الإسهام المغربي في التراث الإسلامي إسهام أخلاقي

عمل المغاربة الخُلُقي في مصر نموذجاً

... ... ... ... ... ... ... ... ...

... ... ... ... ... الدكتور طه عبد الرحمن

... ... كلية الآداب ـ الرباط

 

... لقد عُرِف المغاربة في المشرق، منذ أن أخذوا يفدون عليه بعد الفتح الإسلامي، بالعكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، حتى فاقوا غيرهم عددا ومَدَدا في المجاورة بالحرمين الشريفين والحرم الأقصى، واشتهروا عند أهله بكونهم من أشد المسلمين تمسكا بالكتاب والسنة عند انتشار البدع وظهور الفساد(1)

__________

(1) ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوُّف، ص.32.

 

(1/1824)

 

 

، حتى وقر في القلوب أنهم هم المقصودون بالحديث الشريف: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة "(1)؛ كما شَهِد رجال الأخلاق بالمشرق لنظرائهم من المغاربة برسوخ القدم في التربية الخلقية والتزكية الروحية، وقدَّموهم على أنفسهم في إرشاد من يقصدهم، طلبا للتخلق والتحقق بمكارم الأخلاق(2).

... وإذا كان الأمر كذلك، أليس معنى هذا أن العطاء المغربي في باب التربية الدينية والخلقية كان وافرا؟ ولعله كان أوفر

__________

(1) حديث شريف رواه مسلم في كتاب "الإمارة".

(2) محمود عبد الحميد، قضية التصوُّف، ص. 20.

 

(1/1825)

 

 

في هذا الباب منه في أبواب الثقافة الإسلامية الأخرى؛ ونريد بهذا الصدد أن ندعي دعوى ونشتغل بالتدليل عليها، وهي: أن العطاء المغربي الذي غلب على المصريين الاستمداد منه تعلَّق أساساً بالعمل الخُلُقي الذي تميز به المغاربة الوافدون عليهم.

... ونحتاج في ذلك إلى بسط الكلام في الأغراض الثلاثة الآتية:

... - أشكال وأسباب تنقل رجال الأخلاق المغاربة إلى مصر.

... - خصائص العمل الخلقي المغربي.

... - دور العمل الخلقي المغربي في مصر.

 

1 ـ تنقل الأخلاقيين المغاربة إلى مصر

 

(1/1826)

 

 

... لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن العمل الخلقي المغربي انتقل إلى الديار المصرية، لكن انتقاله إليها لم يكن بطرق نظرية تقوم على الرواية والكتابة، وإنما بطرق عملية تقتضي التنقل إلى عين المكان والإقامة به.

... لقد أخذ الأخلاقيون المغاربة ـ أساتذة وتلامذة ـ يفدون على أرض الكنانة في طريقهم إلى أداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول عليه السلام. وقد يختار بعضهم الإقامة بهذه الأرض المباركة؛ وتَذْكر المصادر أن أشهر من أقام بها منهم في مطلع القرن الرابع أبو الخير الأقطع التيناتي (ت 343) الذي كان أوحد عصره

 

(1/1827)

 

 

في التحقق بخلق التوكل، ثم تفيض في سرد أسماء من جاء بعده في القرون الموالية إلى أن تذكر الوافدين منهم في القرن الرابع عشر الهجري؛ وسوف يطول بنا المقال لو أردنا أن نذكر أشهرهم(1)

__________

(1) فيما يلي لائحة بأسماء بعضهم متسلسلةً من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الهجري؛ في القرن الرابع: أبو الخير أقطع التيناني توفي سنة 340 هـ؛ وفي القرن السادس: القنائي وأبو يزيد يعلى من أصحاب أبي مدين توفي بالإسكندرية سنة 577 هـ، وأبو حفص عمر الجنان الذي استوطن الإسكندرية من أهل فاس، وابن عمران المعروف بابن تاندلست الذي أقام بالإسكندرية مدة من الزمن، وأبو محمد عبد الرزاق الجزولي الكبير وأبو العباس الطنجي الذي توفي سنة 612 هـ، ومحمد الحصار المغربي الفاسي الذي رحل إلى مصر سنة 597 هـ ومات فيها؛ وفي القرن السابع: الشاذلي والبدوي والشريشي السلوي (581 ـ 641 هـ)، وأبو الحسن بن الدقاق، وأبو زكرياء السبتي، وأبو محمد السجلماسي، وعبد الرحمان السوسي، وأبوعبد الله محمد الفاسي، وعبد العزيز بن أبي محمد صالح الذي مات بالقاهرة سنة 646 هـ، وعبد الله السايح المغربي الدمنهوري الذي كان خليفة للشاذلي في منطقة دمنهور وقد توفي سنة 684 هـ؛ وفي القرن الثامن: حسين الآدمي، وبرهان الدين إبراهيم بن محمد المغربي الذي توفي سنة 816 هـ ؛ وفي القرن التاسع: عواض بن محمد بن إسحاق الطهلموس الذي توفي بمصر سنة 878 هـ، وأحمد زروق الذي توفي سنة 899 هـ؛ وفي القرن العاشر: محمد المغربي الذي توفي في أوائل القرن الحادي عشر الهجري؛ وفي القرن الثالث عشر: محمد =

= الفاسي الشاذلي شيخ الأمير عبد القادر، وقد حضر إلى مصر وتوفي بمكة سنة 1284 هـ؛ وأخيرا في القرن الرابع عشر: عبد القادر بن عبد الكريم الشفشاوني الدرقاوي، وقد توفي بالقاهرة سنة 1313 هـ الموافق لـ 1895 م.

 

(1/1828)

 

 

، على أن بعضهم سوف يستوقفنا عند تفصيل أدلتنا على دعوى إمداد المغاربة لإخوانهم المصريين في مجال الأخلاق.

 

1. 1 ـ أشكال التنقل

اتخذ تنقل العمل الخلقي المغربي إلى الديار المصرية أشكالا مختلفة نذكر منها:

... أ ـ تنقل الأساتذة المغاربة إلى مدن وقرى مصرية معينة مثل الإسكندرية أو قنا أو طنطا أو الفسطاط أو القاهرة أو الفيوم، إلخ.

... ب ـ تنقل أتباعهم من أهل الغرب الإسلامي (أي "المغرب الأقصى" و"الأندلس" و"المغرب الأوسط" و"إفريقية")(1) إلى مصر والانتشار بأقاليمها المختلفة.

__________

(1) أي تونس حاليا.

 

(1/1829)

 

 

... د ـ عودة المصريين إلى بلادهم بعد الأخذ عن الأساتذة المغاربة أو تلامذتهم(1)، وإن كان الوافدون منهم على المغرب قلة قليلة.

 

1. 2 ـ أشكال الإقامة

... كما اتخذت الإقامة بالمدن والقرى المصرية أشكالا متعددة نورد منها ثلاثة هي:

... أ ـ الإقامة الدائمة: قد يختار الأستاذ أو التلميذ الإقامة بمصر على الدوام، فيكون نزيلها ودفينها.

__________

(1) نذكر من هؤلاء المصريين: عبد العظيم الشروني الذي صحب عبد العزيز المهدوي من أكابر اصحاب أبي مدين.

 

(1/1830)

 

 

... ب ـ الإقامة المؤقتة الواحدة: قد يختار الأستاذ أو التلميذ الإقامة بمصر لفترة واحدة قصيرة أو طويلة يعود إلى المغرب أو ينتقل إلى إحدى البلاد الإسلامية الأخرى مثل الحجاز أو الشام أو العراق أو اليمن.

... ج ـ الإقامة المؤقتة المتعددة: قد يختار الأستاذ أو التلميذ الإقامة بمصر على فترات متعددة يقع فيها الاختلاف إلى مصر بعد تنقلات شرقا أو غربا(1).

__________

(1) ممن أقاموا إقامات متعددة في مصر، نجد أبا العباس أحمد بن إدريس (1172 ـ1253 هـ) والمعروف بأبي العباس العرائسي والمؤسس للطريقة المحمدية الأحمدية.

 

(1/1831)

 

 

1. 3 ـ أسباب التنقل

لقد تعددت الآراء في شأن الأسباب التي حملت الأخلاقيين المغاربة على التنقل إلى الديار المصرية والإقامة بها.

فقد قيل إن مصر التي كانت تضم مراكز للإشعاع الحضاري والنشاط الثقافي جعلت هؤلاء المغاربة يفضلون التوجه إليها لِما تفتحه هذه المراكز من آفاق لممارسة دعواتهم وجلب الأتباع إليها.

وقيل أيضا إن مصر التي تحط بها رِحال المغاربة القاصدين أرض الحجاز للحج أو للمجاورة كما يشع بمنازل الحجاج بها جو من الروحانية يناسب أذواق الأخلاقيين منهم، فيطيب لهم المقام بها.

 

(1/1832)

 

 

وقيل كذلك إن مدينة الإسكندرية التي كانت تعد رباطا إسلامياً كبيراً، من أقام به كان له أجر المجاهد في سبيل الله، جلبت إليها الأخلاقيين المغاربة الذين ألفوا الرباطات في بلادهم واتخذوها مراكز يزاولون فيها العلم والتعبد والجهاد.

وقيل أخيرا بأن مدينة الإسكندرية التي ظلت مدينة سُنِّية على مذهب الإمام مالك كانت تلبي حاجات الأخلاقيين المغاربة العقدية والمذهبية، فتغريهم بالمقام فيقيمون بها، ولاسيما أن الحدود بين أطراف البلاد الإسلامية لم تكن مرسومة ولا الشعور بها كان موجودا.

 

(1/1833)

 

 

... أيا كانت هذه الافتراضات في تعليل تنقل أهل التربية المغاربة إلى أرض الكنانة، فلا نستطيع أن نقطع بانفراد واحدة منها بالصحة. فقد يكون لكل منها جانب من الصواب، وقد يشترك بعضها مع بعض أو قد تجتمع كلها لتحصيل هذا الصواب بعضا أوكلا؛ لكن يبقى أن هذه الافتراضات تتعلق بتعليل عموم إقامة الأخلاقيين المغاربة بمصر، بينما نحتاج إلى تعليل ظاهرة تقلبات هذه الإقامة، زيادة ونقصانا، عبر فترات التواصل بين البلدين: المغرب ومصر.

 

(1/1834)

 

 

... فنحن نعلم أن الوافدين على مصر من الأخلاقيين المغاربة ارتفع عددهم ارتفاعا في الحقبة الممتدة بين أواخر القرن السادس وأواخر القرن السابع الهجري، وهي بالذات الفترة التي ازدهر بها العمل الخلقي بالقطر المصري واتسعت حركته اتساعا؛ ومن هؤلاء الوافدين المغاربة: الأستاذ عبد الرازق الجزولي والأستاذ عبد الرحيم القنائي والأستاذ أبو الحسن الشاذلي والأستاذ أحمد البدوي.

... أما عبد الرازق الجزولي، فأصله من المصامدة، أخذ الطريق على يد أبي مدين الغوث واستقر بالإسكندرية وبها مات سنة 592 هـ أو سنة 596 هـ على

 

(1/1835)

 

 

بعض الأقوال.

... أما عبد الرحيم القنائي، فأصله من ترغاي من قبيلة غمارة بإقليم سبتة؛ ولد سنة 521 هـ ولبس خرقة التخلق على يد الأستاذ أبي يعزى، ثم انتقل إلى الحجاز حيث أقام بها مجاورا تسع سنين ومنه تحول إلى صعيد مصر، فاستقر بقَنا، منتصبا للتدريس والإرشاد حتى وفاته سنة 592 هـ.

... وأما أبو الحسن الشاذلي، فتنسبه المصادر هو الآخر إلى قبيلة غمارة بإقليم سبتة؛ ولد سنة 593 هـ وأخذ الطريق على يد عبد السلام بن مشيش الذي وجهه إلى "إفريقية" (أي تونس) وأنبأه بالظهور في المشرق، فكان أن استقر بالإسكندرية،

 

(1/1836)

 

 

موجٍّها وهاديا إلى سبيل الله بكلامه "القريب العهد بالله" إلى أن وافته المنية في طريقه إلى الحج سنة 656 هـ.

... وأما أحمد البدوي، فقد وُلد بفاس سنة 596 هـ ولبس الخرقة بها على يد الأستاذ عبد الجليل النيسابوري، ثم انتقل إلى المشرق متجولا فيه حتى انتهى به المطاف إلى الاستقرار بطنطا في شمال مصر، متصدرا للتربية والدعوة إلى الله.

... قد يقول القائل بأن علة توافد أرباب التربية على مصر في هذه الفترة هي أنهم وجدوا أسباب العيش الآمن في ظل دولة الأيوبيين ودولة المماليك اللتين صارتا رمزا للقوة الإسلامية

 

(1/1837)

 

 

القادرة على قهر جحافل الغزاة من التتار والصليبيين؛ ولا يمكن أن يصح هذا القول، لأن الفتن كانت منتشرة في هذه الفترة والتنازعَ على السلطة كان ضاربا أطنابه بين الأيوبيين والمماليك؛ والأرجح عندنا أن لهذا التوافد علتين متكاملتين:

... إحداهما أنه كان تنقلا مطلوبا: فإذا كانت مصر في هذه الفترة تسوسها دولة ذات قوة ومنَعَة، فإن المغرب كانت تسوسه دولة لا تقل عنها ظهورا بالسلطان؛ فقد أدرك هذا البلد آنذاك من البأس والمجد ما لم يدركه مذ كان دولة مستقلة، حتى سارعت الدولة الأيوبية إلى الاستنجاد به، طالبة منه

 

(1/1838)

 

 

قِطَعا من أسطوله لمنازلة المواقع التي احتلها الصليبيون.

... وهكذا، فقد كان المغرب مطلوبا للجهاد، ولا يخفى أن من يُطلَب للجهاد هو، عند الأخلاقيين المغاربة، كمن يُطلَب للمجاهدة وهم الذين ألفوا واختاروا الإقامة بالرباطات التي عُرِفت بالنضال الروحي والمادي.

... وعلى هذا، فلا يبعد أن يكون توجه المربين المغاربة إلى مصر امتدادا لتوجه المحاربين في أسطولهم إليها إن كان هذا التوجه العسكري قد تحقق أو يكون تعويضا عنه إن كان قد تعذر، وذلك استجابة لنداء إخوانهم من المصريين حتى يقوموا بواجبهم في تجديد أخلاق

 

(1/1839)

 

 

الجمهور وإعداده لمنع الغزاة عن بلاده؛ ولو أنهم لم يكونوا مطلوبين، لما هب الأيوبيون ينشئون المدارس والخوانق ويجرون عليها الأرزاق ويوقفون الأوقاف ويسارعون بإسناد مهام التدريس والتربية إلى الوافدين عليهم. فقد عينوا عبد الرحيم القنائي أستاذا للأخلاق في مدينة قَنا، وأسكنوا أبا الحسن الشاذلي برجا من أبراج الإسكندرية.

... والعلة الثانية أنه كان تنقلا مأذونا: لا يخفى أن الأخلاقيين المغاربة يأخذون في كل حركاتهم وسكناتهم بقِيَم روحية ومُثل ربانية لا تُجوِّز لهم ترك ترحالهم واستقرارهم تعبث بهما الأهواء

 

(1/1840)

 

 

العابرة وتعتورهما الأغراض الفانية، وإنما تحملهم على أن ينزلوا ويرحلوا حيثما وجدوا دلائل الاستزادة من النفع والانتفاع بهذه المعاني الخلقية، ووجدوا دلائل القيام بشروطها على الوجه الأكمل، كما تحملهم على الاستعانة بإشارات أساتذتهم في التربية والتخرج حتى لا يفوتهم حسن الأدب والوفاء بحقوق الصحبة؛ فقد أذن أبو مدين الغوث لعبد الرزاق الجزولي في الانتقال إلى مصر، كما أشار به عبد السلام بن مشيش على أبي الحسن الشاذلي.

 

(1/1841)

 

 

... وقد جرى المؤرخون على عادة إسقاط مثل هذه الأسباب، إذ يعدونها من باب المزاعم أو الخواطر الذاتية التي لا تفيد كثيرا في التحليل التاريخي؛ ولا يتسع المقام لتقويم هذا الموقف، على شهرته بين الباحثين واعتقاد الجمهور في موضوعيته وعلميته، وإنما حسبنا أن نقول بأن الحياة التي تبنى أدق جزئياتها على قيم روحية صرف لا تنفع في تحليلها أساليب تتسم بالانغلاق على المادة ولا في تفسيرها أسباب تتصف بالجمود على الظاهر.

 

(1/1842)

 

 

... لذا نذهب إلى أن هذا الجانب المعنوي أبلغ في الدلالة على علة الانتقال إلى مصر من الجانب الحسي الذي هو الطلب الموجه إلى المغاربة، لأن الذي استهلكت نشاطه الروحانيات لا يلوي على شيء من الحس إلا أن يكون خادما لهذه الروحانيات؛ ولولا الشعور بالإذن في التحرك، لما أتى هذا التحرك بالثمار المطلوبة منه، ألا ترى كيف أن التحول الأخلاقي الذي أحدثه المربون المغاربة في سلوك المصريين في تلك الفترة ما زالت آثاره تُشيع حتى الآن في أوساطهم روحانية قدسية !

 

(1/1843)

 

 

... إذا صحَّ تعليلنا لتنقل أهل الأخلاق المغاربة إلى الديار المصرية، وهو أنهم طُلِبوا (بضم الطاء) فأُذِن (بضم الهمزة) لهم، صحَّت معه أيضا الحقيقتان التاليتان:

... إحداهما أن العمل الخلقي المغربي يتصف بأوصاف لا يشاركه فيها غيره.

... والثانية أن هذه الأوصاف الخاصة للعمل الخلقي المغربي تفيد في تحقيق جوانب التجديد الخلقي التي شعر المجتمع المصري بالحاجة إليها يومذاك.

... فلنمض الآن إلى بيان خصائص العمل الخلقي الذي نهض به المغاربة، ثم ننعطف على بيان الوجوه التي أفادت بها هذه الخصائص المجتمع المصري

 

(1/1844)

 

 

آنذاك في إنجاز مراده من الإصلاح الخلقي.

 

2 ـ خصائص العمل الخلقي المغربي

... إن من يتأمل في الممارسة الخلقية المغربية في القرنين السادس والسابع لا يلبث أن يتبين أنها تتصف بخصائص أساسية ثلاث هي : "البعد عن التجزيء" (أو التجزؤ، أو التفريق؟؟؟) و"البعد عن التجريد" و"البعد عن التسييس".

... 2. 1 ـ البعد عن التجزيء أو الخاصية التكاملية

... يظهر البعد عن التجزيء في العمل الخلقي المغربي في أصناف الجمع الثلاثة التالية، وهي: "الجمع بين التخلق والتفقه" و"الجمع بين التجرد والتسبب" و"الجمع بين المجاهدة

 

(1/1845)

 

 

والجهاد".

... 1.1.2 ـ الجمع بين التخلق والتفقه، تدل على هذا الجمع الأمور الثلاثة الآتية:

... أحدها أن الأخلاقيين المغاربة أخذوا الفقه في معناه الأصلي الواسع، وهو موافقة أحكام الشريعة ظاهرا وباطنا، بحيث تكون الأعمال الظاهرة متوقفة في صحتها على الأعمال الباطنة توقف المشروط في صحته على الشرط.

... والثاني أن أغلبهم كانوا فقهاء أو محدِّثين أو حملة للقرآن أو حفظة للمتون العلمية يشتغلون بالتدريس أو التحفيظ.

 

(1/1846)

 

 

... والثالث أنهم شاركوا الفقهاء فيما هم فيه من القيام على أداء الأعمال الظاهرة، بل نافسوهم في ذلك حتى قاموا بما وقف دونه الفقهاء؛ فقد استنبطوا الوسائل التي تُعين على نشر العقيدة الإسلامية وعلى ترسيخها في النفوس وعلى إقدار العامة على أداء شعائرهم وفرائضهم، إذ انتقلوا إلى البوادي والأصقاع النائية يعلّمون الناس أمور دينهم، مقرّين لأنماط من التعبد كالذكر الجماعي وقراءة القرآن الجماعية، حتى يُسمعوا الغافل ويجلبوا العابر وييسروا الحفظ على الأمي، كما عملوا على رفع الموانع التي جعلت الفقهاء يفتون

 

(1/1847)

 

 

بإسقاط فريضة الحج عن المغاربة، فأمَّنوا الطرقات ونظموا الرحلات وأنشأوا المحطات، موفِّرين للحُجاج السلام والزاد والراحة(1).

... 2.1.2 ـ الجمع بين التجرد والتسبب: اعلمْ أن التجرد عند الأخلاقيين تجردان: "تجرد عن الحظوظ أو المصالح" و"تجرد عن الأسباب أو الوسائل"، وكثيرا ما اختلط على الناظرين في التراث ا المغربي أمرهما، فحملوا أحدهما على الآخر؛ والصواب أن العمل الخلقي المغربي وَقَف التقدم السلوكي

__________

(1) لا يخفى ما قام به أبو محمد صالح دفين أسفي وذريته من أعمال جليلة لتأمين الطريق للحُجَّاج المغاربة.

 

(1/1848)

 

 

للتلميذ على ترك الحظوظ أو المصالح، حتى يتحقق بإفراد الله بالقصد في الأعمال، وامتاز بالتحذير من ترك الأسباب والنهي عنه؛ وقد دخل أكابر رجالهم في طلب الأسباب واتخذوا من وسائل العيش ما يدفع عنهم الحاجة إلى الخَلْق، فمارسوا التدريس والتجارة والزراعة وكرهوا "المتعطلين" من تلامذتهم، ونصحوهم باتخاذ الحِرَف وبالبعد عن السؤال وعن انتظار عول العائلين.

... لكن، لشدَّ ما كانوا يحرصون على أن يكون تعاطي هؤلاء التلامذة للأسباب قائما بشرط الخروج عن التعلق بها، حتى يدركوا أن تسبُّبهم ليس هو الذي يوصلهم إلى تحقيق

 

(1/1849)

 

 

طلبهم من الرزق، وإنما الذي يوصلهم إلى ذلك هو الرزاق ذو القوة المتين، فيكونون في ذات الوقت متسببين ومتجردين.

... 3.1.2 ـ الجمع بين المجاهدة والجهاد: تدل على هذا الجمع الثالث المظاهر الآتية:

... أولها إنشاء مراكز للمرابطة بعيدة عن العمران تسمح بالانقطاع لأعمال العبادة، ومحاذية للسواحل والتخوم تسمح بالتصدي لأعمال السطو على البلاد.

... والثاني المشاركة الفعلية، إما مباشرةً بدخول غمار المعارك، طلبا لإحدى الحسنيين، وإما بصفة غير مباشرة باستنهاض الهمم واستنفار الرجال للذود عن حوزة الإسلام.

 

(1/1850)

 

 

... والثالث المشاركة المعنوية بقبول دعوات الولاة والأمراء لهم بمصاحبتهم عند الخروج إلى ملاقاة العدو، استدرارا للبركات وتثبيتا للقلوب واستجلابا للنصر.

... وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحى التجزيء ويتجه اتجاها تكامليا صريحا يجعل العمل الروحي جزءا من الاشتغال الفقهي والتجردَ جزءا من التسبب والجهاد جزءا من المجاهدة.

 

2. 2 ـ البعد عن التجريد أو الخاصية التداولية

... يظهر البعد عن التجريد في العمل الخلقي المغربي في أصناف النفور الثلاثة التالية، وهي: "النفور من الفروع الفقهية"

 

(1/1851)

 

 

و"النفور من الجدل الكلامي" و"النفور من الحكمة العرفانية".

... 1.2.2 ـ النفور من الفروع الفقهية: لقد اقتضى التطور أن يخرج علم الفقه عن بساطة أصوله وقرب مأخذ مسائله إلى تعقيدات في القواعد والأحكام وإلى تفريعات في الأقضية والفتاوي، فأظهرت هذه التشعبات أقوال بعض الفقهاء بمظهر النظر المجرد، وألجأت إلى رجال التخلق الذين ظلوا يدعون إلى سلوك يتسم بالبساطة والحيوية ويراعي طاقة العامة في التعقل والتفقه، ويأخذون من الآراء ما كان تحته عمل أو ما كان داعيا إلى العمل؛ لذلك، كان يقع تقريب الأخلاقيين، فكانت

 

(1/1852)

 

 

دعوتهم تنتشر متى تعرض "فقهاء الفروع" للإبعاد والمضايقة(1)؛ وعلى العكس من ذلك، كان الأخلاقيون يتعرضون للمضايقة والمراقبة كلما وقع تقريب "فقهاء الفروع" وتوسيع نفوذهم(2).

... 2.2.2 ـ النفور من الجدل الكلامي: لقد اختص الأخلاقيون المغاربة بمفهوم للتوحيد يقتضي أساسا العمل التعبدي، لا النظر التأملي على طريقة أهل الكلام، ولا يتعدون في هذا النظر القدر الذي جاء به الكتاب

__________

(1) خير مثال على ذلك موقف الموحدين من الأخلاقيين والفقهاء.

(2) أفضل مثال على ذلك موقف المرابطين بين الطائفتين: الأخلاقيين والفقهاء.

 

(1/1853)

 

 

والسنة، وينفرون من الخوض في مسائله التفصيلية، وقد لا يتردد بعضهم في إنكار ما جاء في كتب بعض الأخلاقيين(1)

__________

(1) يأتي على رأس هذه الكتب كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي الذي أثار الضجة المعلومة وافترق الناس بشأنه بين منتقد ومعتقد حتى غلب أهل الانتقاد، فصدر أمر علي بن يوسف المرابطي بإحراقه؛ وقد كان من المنتقدين بعض كبار الأخلاقيين المغاربة من أمثال أبي الحسن بن حرزهم، ووقفته ضد "الإحياء" معروفة، إذ كان يقوم على إحراق أجزاء منه، حتى رأى رؤيا يشكوه فيها الغزالي إلى رسول الله (ص)، فقضى الرسول بضربه بالسوط.

 

(1/1854)

 

 

من الأقوال التي تُشعر باقتباس أساليب المتكلمين والمشاركة في قضاياهم؛ والشاهد على ذلك المناظرة التي دارت بين أبي شعيب السارية وواسنار ـ أحد قواد الموحدين ـ في مجلس عقده الأمير عبد المومن بن علي، فكان واسنار يسأل أبا شعيب عن عقيدة التوحيد، قاصدا الأوصاف التجريدية التي كان يبُثها المهدي بن تومرت في الناس، ويجيبه أبو شعيب بذكر الآيات القرآنية التي وردت فيها معاني التوحيد.

... 3.2.2 ـ النفور من الحكمة العرفانية: لقد تسربت إلى الممارسة الخلقية بمقتضى التطور والاستمداد من البيئة بعض التوجهات الفكرية

 

(1/1855)

 

 

والعلمية التي لا يمكن إلا أن يضيق بها أخلاقيو المغرب، إذ يعدونها بمنزلة آفات سلوكية ينبغي صون النفس عنها، من هذه التوجهات نخص بالذكر اثنين هما: "الإشراق" و"الكيمياء".

... استقر عند الأخلاقيين المغاربة أن الإشراق مستمد من النظر الفلسفي الذي يأخذ بمبدأين: "مبدأ إطلاق العقل" و"مبدأ امتياز الفرد"؛ أما مبدأ إطلاق العقل، فيعارض توجههم السني، لأن العقل إذا لم يقيد مسلكَه اعتبارُ الشرع، صار عرضة للأهواء؛ وأما مبدأ امتياز الفرد، فيعارض توجههم الجماعي، لأن الفرد إذا لم يقيد أفقَه اعتبارُ الجماعة، صار

 

(1/1856)

 

 

ضرره يغلب على نفعه.

 

... كما استقر عندهم أيضا أن الكيمياء مستمدة من الطمع الدنيوي الذي يخالف شاهد العقل(1)

__________

(1) قال الشاذلي : "كنت في ابتداء أمري أطلب عمل الكيمياء وأسأل الله فيها، فقيل لي: "الكيمياء تجدها في بولك، اجْعل فيه ما شئت يعود كما شئت"، فحميت فأسا فطفيته فيه فعادت ذهبا، فرجعت إلى شاهد عقلي، فقلت: "يا ربي، سألتك عن شيء فلم أصل إليه إلا بمحاولة النجاسة"، فقيل لي: "يا علي، الدنيا قذرة، فإن أردت القذارة، فلا تصل إليها إلا بالقذارة"، فقلت: "يا رب أقلني منها"، فقيل لي: "احم الفأس يعود كما كان في أصله" ( الصومعي، المعزى في مناقب أبي يعزى، تحقيق علي الجاوي، رسالة دبلوم الدراسات العليا مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1989).

 

(1/1857)

 

 

، ويوقع في صريح الفساد(1) ؛ أما مخالفة شاهد العقل، فلأن الكيميائي يطلب أسبابا باطلة لقلب الأعيان؛ وأما الإيقاع في صريح الفساد، فلأن هذه الصنعة تحمل على ممارسة الغش والتدليس، فكان أن نهى الأخلاقيون المغاربة عن الاشتغال بها وحذروا أتباعهم منها أشد تحذير، ولاسيما أن بعض أخلاقيي عَدوة الأندلس تأثروا بهذا الاتجاه الإشراقي الكيميائي.

__________

(1) قال أبو محمد صالح: "اتركوا الاشتغال بصنعة الكيمياء لأنها توقع في الغش والتدليس" (المنهاج الواضح، ص.261، 266 وص.334، 335).

 

(1/1858)

 

 

... وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحى التجريد الذي وقع فيه فقهاء الفروع وأهل الكلام وأهل العرفان واتجه اتجاها تداوليا في ممارسة التعبد والعقيدة والمعرفة، اتجاها يجعلها طبيعية لا تكلُّف فيها ويسيرة لا تعقُّد فيها.

 

3. 2 ـ البعد عن التسييس أو الخاصية التأنيسية

... ويظهر البعد عن التسييس في العمل الخلقي المغربي في أصناف المدلولات الثلاثة الآتية وهي : "المدلول الروحي للجهاد" و"المدلول الإنساني للدعوة" و"المدلول المعنوي للنسب".

 

(1/1859)

 

 

... 1.2.3 ـ المدلول الروحي للجهاد: تجدر الإشارة إلى أن لفظ "الجهاد" من الألفاظ التي حُرِّفت معانيها، فقد صُرف هذا اللفظ عن مقصوده بوجهين:

... أحدهما أن الجهاد صار يُحمل على معنى القتال من أجل التسلط العسكري وبسط النفوذ السياسي.

... والثاني أن الجهاد صار يدل على معنى القتال من أجل القهر الديني وبسط النفوذ العقدي.

... أما مدلول الجهاد كما أخذ به رجال الأخلاق المغاربة، فلا تعلق له أصلا بطلب الرئاسة الدنيوية، لأن هذا يناقض مقاصد التربية الروحية، كما لا تعلق له بالتشدد العقدي، لأن هذا يناقض وسائل

 

(1/1860)

 

 

هذه التربية، وإنما تعلقه بمجاهدة النفس وحدها ببذلها رخيصة في سبيل الدفاع عن حوزة الإسلام كما استُرخِصت في سبيل الخروج عما سوى الله؛ وعلى هذا، فإن الجهاد بالمعنى المغربي ليس عملا سياسيا ولا سلوكا إيديولوجيا، وإنما عملا روحيا تأنيسيا بالأصالة.

... 2.2.3 ـ المدلول الإنساني للدعوة: ليس من شك أن للدعوة دورا بالغ الأهمية في الممارسة الخلقية المغربية، فقد شمل مجالها البوادي والحواضر بعد أن ابتدأ محصورا في الأصقاع البعيدة عن العمران، إلا أنها لا تشبه في شيء الدعوات التي تطلب النفوذ السياسي لطائفة

 

(1/1861)

 

 

معينة، أو الدعوات التي تطمع في المكاسب المادية، إلا أن تكون قد دخلت على بعضها آفة التحريف، فتبدلت أحوالها أو دخلت عليها آفة الادعاء، فانتحلها بعض الأدعياء.

... والصواب أن الدعوة الأخلاقية، كما مارسها المؤسسون من أهل العمل المغاربة، لا تبتغي بالتجديد الخُلقي للإنسان بديلا؛ ولا سبيل لتجديد الإنسانية إلا إذا قام الداعية بشرط الإخلاص لله في دعوته، وقام المدعو بشرط تسليم الإرادة لله؛ وقد سُمّي هذا التجديد الإنساني باسم "الصلاح" وسُمي أصحابه باسم "الصلحاء" أو "الصالحين"، كما أُطلق عليهم اسم "الأفاضل"

 

(1/1862)

 

 

واسم "أهل الفضل والدين"(1) ، علما بأن قِيم الإنسانية مستمدة من قيم الدين؛ وعليه، فإن دعوة أهل الصلاح ليست نزعة طائفية، ولا دعاية مادية، وإنما هي دعوة إنسانية أخلاقية.

 

... 3.2.3 ـ المدلول المعنوي للنسب: من الثابت أن للنسب أهمية في التجربة الخلقية المغربية تزايدت مع مرور الزمن حتى ظُنَّ بأن الولاية الكبرى والفتوحات العظمى لا تحصل إلا لمن كان من أهل النسب الشريف؛ والغالب عند الأخلاقيين المغاربة أن يرفعوا نسب أساتذتهم إلى سيدنا الحسن بن

__________

(1) ابن الزيات، المصدر السابق، ص. 270، 271، 300، 344، 377.

 

(1/1863)

 

 

علي، على خلاف الأخلاقيين في المشرق الذين غلب عليهم نسبة أساتذتهم إلى أخيه سيدنا الحسين بن علي(1)؛ وسواء صح هذا النسب أولم يصح، فإن دلالته تظل بالأساس دلالة معنوية. فلما كان سيدنا الحسن قد نزل لمعاوية عن الخلافة، دل الانتساب إليه على إرادة الزهد في السلطة السياسية، وإذا حدث لأحد الأخلاقيين المغاربة أن تولى السلطة السياسية ـ مضيَّقة أو موسَّعة ـ لِتعذر من يقوم مقامه فيها، فإن توليته لها تكون بالعرَض وبالتبعية للسلطة الأخلاقية التي اختص بها وليس بالجوهر

__________

(1) حسين صافي، الأدب الصوفي، ص.146.

 

(1/1864)

 

 

وبالأصالة كما هو الشأن عند المنتسبين لسيدنا الحسين.

... وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحنى التسييس ويتجه اتجاها تأنيسيا متميزا يجعل للجهاد بعدا روحيا وللدعوة بعدا إنسانيا وللنسب بعدا معنويا.

... وإذ قد عرفتَ أن العمل الخلقي المغربي يمتاز بالخصائص الثلاث: البعد عن التجزيء ـ أو قل طلب التكامل ـ والبعد عن التجريد ـ أو قل طلب التداول ـ والبعد عن التسييس ـ أو قل طلب التأنيس ـ، فاعرفْ أن السبب في ذلك هو تمكُّن المذهب المالكي من نفوس المغاربة حتى ولَّد فيهم نزوعا إلى الممارسة الروحية

 

(1/1865)

 

 

بحكم منطقه وملابسات نشأته. ويقوم هذا المنطق إجمالا على عنصرين هما: "العمل" و"الصحبة"، بينما تقوم ملابسات هذه النشأة على عنصرين هما: "التعظيم" و"الإحسان".

... أما العمل، فالمالكية من دون المذاهب الفقهية الأخرى أقرت عمل المدينة مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي. وفي هذا ما ينهض دليلا على أن المالكية تبينت حقّا ما لمشاهدة السلوك الحي من أثر في تحقيق التدين الصحيح. على أن مصادر التشريع التي اعتمدتها تنقسم إلى قسمين: القسم النظري ويشمل الكتاب والسنة والقياس، والقسم العملي ويشمل الإجماع والعمل، مما

 

(1/1866)

 

 

يترتب عليه أن التفقه في الدين لا يتم إلا بحصول الجمع بين الممارستين: الاستدلالية والاشتغالية. وما زالت مسألة العمل في المالكية مفتقرة إلى تناولها في سياق مستجدات البحث في مجال نظرية الممارسة.

... وأما الصحبة(1)، فهي مبدأ لازم عن أصل العمل الذي تقول به المالكية. ذلك بأن الصحبة عبارة عن المشاهدة الحية للأسباب والقرائن التي ترافق أعمال المصحوب، أقوالا وأفعالا، والتي يحصل بها العلم بالمراد

__________

(1) فقد صحب مالك ـ رضي الله عنه ـ نافعا مولى عبد الله بن عمر، حتى كانت أصح أسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.

 

(1/1867)

 

 

على وجه من التحقيق لا يتأتى بطريق آخر، فلا عمل حي إذن إلا بتمام الصحبة؛ لذا، فقد كان من تلامذة مالك المغاربة من يبقى على ملازمته ردحا من الزمن بعد تمام تعلُّمه وفراغ تكوينه النظري عملا بمبدإ الصحبة، حتى يرث عنه أخلاقه وأحواله.

... وأما التعظيم، فإن مالكاً، رحمه الله، كان يظهر ـ قولا وفعلا ـ من آداب تعظيم الرسول عليه السلام وفروض محبته ما يجعل حديثه وسلوكه ينقلان إلى تلامذته وجلسائه أخبار الرسول عليه السلام حيةً وكأن معانيها رأي العين، فتحيا قلوبهم بأسرارها وتنقاد جوارحهم إلى العمل بها؛ وقد ورث

 

(1/1868)

 

 

عنه فقهاء المالكية المغاربة هذا التعظيم ونشروا آدابه نشرا بين طبقات المجتمع.

... وأما الإحسان، فإن مالكاً صحب علماء عاملين بلغوا النهاية في صفات خلقية اختص الأخلاقيون بطلبها، وهي: "أخلاق الإحسان" أو "الفضائل الروحية"؛ فمن أساتذته هرمز الذي اشتهر بالبكاء، وابن المنكدر الذي عرف بالزهد، وجعفر الصادق الذي اشتهر بالمحبة، كما تتلمذ عليه رجال نالوا قدم السبق في الظهور بأوصاف الإحسان، ومنهم سفيان الثوري وأبو الحسن الشيباني.

 

(1/1869)

 

 

... وحسبنا هذه العناية بهذه الأركان الأخلاقية: "العمل" و"الصحبة" و"التعظيم" و"الإحسان" دليلا على أن المالكية حملت بذور ممارسة روحية سرعان ما أثمرت عند المغاربة، بمجرد تشبعهم بمنطق هذا المذهب، تخلُّقا اختصوا به وصاروا فيه قدوة لغيرهم؛ ولا عجب إذ ذاك أن يتكاثر بين فقهاء المالكية أهل العبادة وأهل الزهادة وأهل الورع وأهل التقوى حتى إن "لفظ الصوفي"(1) أُطلِق عليهم إطلاقه على أهله المختصين به لاعتبار أساسي وهو كونهم يقصدون بفقههم وجه الله تعالى. وحتى إن ذكر

__________

(1) ابن الزيات، المصدر السابق، ص.34.

 

(1/1870)

 

 

الفقهاء في كتب التراجم والطبقات، صار لا ينفصل عن ذكر المتعبدين والزاهدين(1).

... بعد أن أنهينا الكلام عن الخصائص التي تميز العمل الخلقي المغربي في القرنين السادس والسابع على الخصوص والتي تجعل منه تخلقا تكامليا تداوليا تأنيسيا، نمضي إلى بيان كيف أن هذه الخصائص تخدم أغراض التجديد الخلقي الذي ينشده المجتمع المصري في هذه الفترة؛ ولا سبيل الى قيام العمل الخلقي المغربي بهده الخدمة المطلوبة إلا إذا كان وصفه التكاملي يفيد في محو مظاهر تجزيئية لحقت بهذا المجتمع، ووصفه التداولي

__________

(1) المالكي، رياض النفوس.

 

(1/1871)

 

 

ينفع في محو جوانب تجريدية عرضت له، ووصفه التأنيسي يفيد في محو مظاهر تسييسية طرأت عليه.

 

3 ـ آثار العمل الخلقي المغربي في التجدد الأخلاقي المصري

3. 1 ـ الخاصية التكاملية للعمل الخُلقي المغربي ومحو المظاهر التجزيئية في المجتمع المصري

 

... لقد أشرفت مصر على هذه الفترة وهي تعاني من المظهرين التجزيئيين التاليين:

... أحدهما أن الفقهاء السنيين لم يكونوا على وئام مع رجال الأخلاق، لما نُسب إلى هؤلاء من مخالطة الإسماعلية(1)

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة ، ص. 473؛ وقد شاعت تهمة مخالطة الإسماعيلية إلى غاية أن صارت وسيلة في يد الخصوم للتضييق على كل أخلاقي وافد أخذ صيته ينتشر بين الجمهور؛ فقد رُمِي بهذه التهمة أحمد البدوي وأبو الحسن الشاذلي.

 

(1/1872)

 

 

؛ فقد استخدم الفاطميون ستار الخطاب الأخلاقي لفرض دعوتهم وترسيخ حكمهم، حتى حامت حول كل أخلاقي شبهات الانتماء إليهم، ولاسيما أن ما ظهر في كلام الأخلاقيين من معان يشبه بعضُه ـ وإن قَلَّ ـ عقائد أهل التشيع.

... والثاني أن وسائل القتال الرسمية (من استعدادات مادية وجيوش نظامية) لم تكن على وئام مع أساليب الجهاد الروحية، هذا الوئام الضروري لمواجهة الأخطار التي تحدق بالمسلمين في مصر بسبب هجوم المغول والتتار والصليبيين والمبشرين(1).

__________

(1) سعيد عبد الفتاح عاشور، السيد أحمد البدوي، شيخ وطريقة، ص.35

 

(1/1873)

 

 

... فاحتاج الحكام الجدد في مصر إلى إزالة هذين المظهرين التجزيئيين: التفرقة بين الفقهاء والأخلاقيين والتفرقة بين المقاتلين والمجاهدين، مع العلم أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالجمع بين التفقه والتخلق والجمع بين الجهاد والمجاهدة في الممارسة، فتبينوا أنه لا يصلح لهذه المهمة إلا من تحقق بالتوجه التكاملي الصحيح.

... ويبدو أن التجربة المرابطية التي جمعت بين الجهاد والمجاهدة كانت حاضرة في ذهن الأيوبيين، كما كان بين أيديهم حُكم أبي بكر الطرطوشي على سيرة المغاربة؛ فهذا الفقيه الأندلسي السلفي الذي نال حظا

 

(1/1874)

 

 

وافرا من التربية الروحية زار المغرب وأخذ عن علمائه بفاس واطلع عن كثب على العمل الخلقي المغربي لينتهي به المطاف إلى الاستقرار بالإسكندرية حيث تعاطى للتأليف والتدريس، فقد كان حكم هذا العالم على أهل المغرب ـ وهو الذي ألف كتابا في البدع ـ هو أنهم ما زالوا ظاهرين على الحق بما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين(1).

... وبدا لهؤلاء الحكام أن للتجربة الخلقية المغربية توجها تكامليا صريحا، يجعلها تستجيب أكثر من غيرها لغرضهم في

__________

(1) ابن الزيات، المصدر السابق، ص. 32.

 

(1/1875)

 

 

توثيق الصلة بين التفقه والتخلق والصلة بين الجانب الروحي والجانب المادي من الجهاد.

... ولما فُتِح باب العمل للمربين المغاربة، تولوا تحقيق الوصل بين التفقه والتخلق عند تلامذتهم، مبطلين عمليا الدعوى الإسماعيلية القائلة باستقلال علوم الباطن؛ وقد كان أغلبهم، وبالأخص عبد الرزاق الجزولي وعبد الرحيم القنائي وأبو الحسن الشاذلي، يحيطون بالعلوم الشرعية الظاهرة والعلوم القلبية معا، كما كانوا يتمتعون برسوخ القدم في ممارسة تدريس الفقه ورواية الحديث، فلقنوا تلامذتهم أن للشريعة وجهين متكاملين: وجها حُكميا

 

(1/1876)

 

 

تنضبط به الأعمال الظاهرة ووجها خلقيا تنضبط به الأعمال القلبية، ووجَّهوهم إلى الاشتغال بعلوم الأحكام وعلوم الأعمال اشتغالا متساويا، فتخرجت على أيديهم ثلة ممتازة من العلماء العاملين، منهم أبو الفقراء حجاج وعبد الرحمان بن طيب من تلامذة عبد الرزاق الجزولي، ومنهم أيضا أبو الحجاج الأقصري وأبو الحسن بن الصباغ وصالح بن غازي الأنماطي من مريدي عبد الرحيم القنائي، ومنهم أخيرا مكين الدين الأسمر وأبو القاسم القباري وابن المنير وأبو العباس المرسي من تلامذة أبي الحسن الشاذلي.

 

(1/1877)

 

 

... كما تولى هؤلاء المجددون تحقيق الوصل بين الاستعدادات الروحية والمادية في الجهاد؛ فقد نقلوا إلى تلامذتهم المصريين خبرتهم الأصيلة والطويلة في المرابطة الجامعة بين الممارسة الحربية والممارسة الخلقية، على اعتبار أن الأولى تنزل عندهم منزلة الفرع التابع للثانية، فجددوا قدراتهم المعنوية والوجدانية بأن مدوا عزائمهم بمدد روحي خلاَّق أنهضهم إلى التطوع وحبب إليهم التضحية والاستشهاد، ونصبوا أنفسهم قدوات لهم في هذا الصنف من الجهاد المتكامل، فشاركوهم في ما خاضوه من معارك بأن حملوا السلاح وثبَّتوا الأقدام.

 

(1/1878)

 

 

فهذا أبو الحسن الشاذلي، على انكفاف بصره وتقدم سنه، يَهُبُّ إلى إنقاذ ثغر دمياط من الصليبيين، محفِّزا للهمم ومثبّتا للقلوب، حتى أتى نصر الله.

 

3. 2 ـ الخاصية التداولية للعمل الخلقي المغربي ومحو المظاهر التجريدية في المجتمع المصري

... لقد خرجت مصر من الحكم الفاطمي وهي تقاسي من آثار المظهرين التجريديين التاليين:

... أحدهما أن الحكمة العرفانية بوجهيها، وهما: الشطحات الإشراقية والأسرار الكيميائية الموروثة عن مصر القديمة، ظهرت على بعض الأخلاقيين المحليين والوافدين(1)

__________

(1) فقد اشتهر ذو النون بممارسة الكيمياء؛ كما اشتهر تلامذته بذلك. ولعل هذه الممارسة هي التي جنت على ذي النون، فتسبَّبت له في دخول السجن ببغداد في عهد الخليفة المتوكل.

 

(1/1879)

 

 

.

... والثاني أن العمل الخلقي الذي احتضنته الدولة الفاطمية واستعملته لنشر مذهبها الشيعي تصوف فردي، أي يختص به الأفراد دون الجماعات.

... فاحتاج الحكام الجدد في مصر إلى محو هذين المظهرين التجريديين: "الحكمة العرفانية" و"التصوف الفرداني"، مع العلم بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بتحصيل الحكمة الشرعية والتخلق الجماعي؛ وتبينوا أن هذا الأمر لا يمكن أن يقوم به إلا من تحقق بالتوجه التداولي الصحيح.

... ولا يبعد أن تكون حالة الصوفيَّيْن الفردانيَّيْن: محيي الدين بن عربي وعبد الحق بن سبعين حاضرة في أذهان هؤلاء

 

(1/1880)

 

 

الحكام؛ فمعلوم أن هذين الصوفيين الأندلسيين قد استقرا بالمغرب، لكنهما ما لبثا أن تركاه، متوجهين إلى المشرق، طلباً لممارسة تجربتهما الإشراقية والأسرارية الفردانية؛ وسواء كان تركهما للمغرب عن رغبة أو عن رهبة(1)، فإن ذلك شاهد حي على أن نوع الممارسة الخلقية الذي اشتهر به هذا البلد والذي بلغ صيته غالب الديار المشرقية، لم يكن يوافق هواهما العرفاني الخاص.

__________

(1) لقد كفَّر بعض علماء المغرب عبد الحق بن سبعين وقضوا بنفيه.

 

(1/1881)

 

 

... ويبدو أن هؤلاء الحكام أدركوا أن للممارسة الخلقية المغربية توجها تداوليا تصير به أقدر من غيرها على التصدي للحكمة العرفانية وللتصوف الفرداني، ففتحوا الطريق لعمل المغاربة الوافدين على مصر.

... وقد تولى هؤلاء تنقية الممارسة الخلقية المصرية من أقوال الشطح وعبارات الرمز التي يأباها ظاهر الكتاب والسنة وتخالف ما أُثِر عن جمهور السلف الصالح، كما تولوا تجريد النفوس من الميل إلى الاشتغال بالكيمياء الذي كان راسخا في البيئة المصرية، وأورثوا تلامذتهم في مصر الدعوة إلى محاربة هذا الاشتغال. فهذا أبو العباس

 

(1/1882)

 

 

المرسي أقرب التلاميذ إلى أبي الحسن الشاذلي يتبرأ من الكيمياء ويجعل الكرامات تعلوها درجات في قلب الأعيان وطي الأزمان(1).

... وقد ساعد إنشاءُ المراكز لتجمع التلامذة من مدارس و"خوانق" هؤلاء المجددين على ترتيب الأعمال الجماعية لهم وتوظيف الوظائف المشتركة عليهم، فكانت هذه الأعمال والوظائف

__________

(1) قال المرسي: "ما أصنع بالكيمياء؟! والله لقد صحبت أقواما ما يصير أحدهم على الشجرة اليابسة، فيشير إليها، فتثمر للوقت. فمن صحب هؤلاء الرجال، ماذا يصنع بالكيمياء؟!" (أبو الوفاء التفتازاني، ابن عطاء الله، ص.101).

 

(1/1883)

 

 

تجمع أفرادا من مختلف الطبقات، فمنهم العالم والأمي والكبير والصغير والغني والفقير ومنهم الوجيه وغير الوجيه والشريف وغير الشريف، فجعلت الجميع ينتفع بالجميع، فقويت بذلك بينهم أواصر الخدمة وكثرت فيهم الأسباب لإنهاض الهمة.

... ولا نستغرب إذ ذاك أن يجد ابن عربي وابن سبعين من بعده في مصر بيئة أخذ يشكلها التخلق التداولي الجماعي المغربي تشكيلا لم يلبثا أن ضاقا به أولم يلبث هو أن ضيق عليهما حتى اضطرا إلى النزوح عن هذا البلد كما نزحا عن المغرب من قبل ليستقر الأول بالشام والثاني بالحجاز(1)

__________

(1) فقد ضايق قطر الدين القسطلاني عبد الحق بن سبعين؛ كما أن ابن عربي تعرض لمحاولة اغتيال.

 

(1/1884)

 

 

.

 

3. 3 ـ الخاصية التأنيسية للعمل الخلقي المغربي ومحو المظاهر التسييسية في المجتمع المصري

... لقد تولى الأيوبيون الحكم في مصر، فوجدوا أنفسهم في مواجهة المظهرين التسييسيين التاليين:

... أحدهما أنهم، وإن كسروا شوكة الصليبيين، لم يتمكنوا من إيقاف الحملات التبشيرية في بعض المراكز من أرض الكنانة.

... والثاني أنهم، وإن أنهوا الحكم السياسي للفاطميين بخلع آخر خليفة منهم، لم يتمكنوا من إيقاف تأثير المذهب الشيعي في النفوس.

 

(1/1885)

 

 

... فاحتاج الحكام الجدد إلى القضاء على هذين المظهرين التسييسيين: التبشير والتشيع، علما بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بدعوة إنسانية روحية، وتبينوا أن هذه المهمة لا ينهض بها إلا من تحقق بالتوجه التأنيسي الصحيح، حتى لا تستهويه الميول السياسية ولا تراوده الأطماع الرئاسية، فينازعهم سلطانهم ويقاسمهم نفوذهم.

... ولا شك أن مثال الإسكندرية كان نصب أعينهم، وهم يسعون إلى إيجاد وسائل هذا التجديد الإنساني الروحي؛ فقد ظلت هذه المدينة سُنية تعمل بالمذهب المالكي على عهد الفاطميين، وتُتَّخذ محط رِحال المغاربة في

 

(1/1886)

 

 

ذهابهم إلى الحج وإيابهم منه، فكان واضحا أن محافظة الإسكندرية على طابعها السني واتجاهها المالكي يرجع الفضل فيه إلى هؤلاء المغاربة الذين اجتمعت لهم خبرتان تاريخيتان: إحداهما خبرة مواجهة الحكم العبيدي أثناء تسلطه على بلاد المغرب قبل أن يحوِّل وجهه إلى مصر؛ والثانية خبرة مواجهة الدعوات المنحرفة والحملات التنصيرية التي ظل يتعرض لها الغرب الإسلامي(1).

... والغالب على الظن أن هؤلاء الحكام علموا أن للعمل المغربي توجها تأنيسيا صريحا يصير به أقدر من غيره على

__________

(1) أبو لبابة، موقف متصوفة إفريقية وزهادها.

 

(1/1887)

 

 

الوقوف في مواجهة التبشير والتشيع، فاستقبلوا رجال الأخلاق المغاربة في أرضهم ومكنوا لهم المقام فيها.

... وقد استطاع هؤلاء الأخلاقيون الوافدون أن يتصدوا للدعوات التبشيرية التي كان يقوم بها الدعاة المسيحيون في المناطق القريبة من المراكز التي احتلها الصليبيون أوفي المناطق النائية من الصعيد؛ فقد تولى الأستاذ أحمد بدوي في طنطا والأستاذ عبد الرحيم القنائي في منطقة قنا تجديد الإيمان في قلوب مَن أضلتهم هذه الدعوات التنصيرية(1)، وأشرفوا على تكوين ثلة من

__________

(1) صلاح عزام، السيد عبد الرحيم القنائي، ص.71.

 

(1/1888)

 

 

الرجال انتشروا في البلاد يردون الناس إلى أصول الدين الحنيف، فهذا أبو الحجاج الأقصري تلميذ عبد الرحيم القنائي يعيد أهل الأقصر إلى الإسلام بعد أن انسلخوا عنه لسنوات عدة(1).

... كما اجتهد هؤلاء المجددون في أن ينزعوا من قلوب عامة المصريين الآثار العقدية التي تركها في نفوسهم المذهب الشيعي ويزرعوا بدلها محبة المذهب السني ويرسخوا العمل بالفقه المالكي بين بعضهم، مزاوجين بين أساليب التربية الروحية التي ترتكز على الأوراد والأذكار والأحزاب وبين أساليب الوعظ والتدريس التي

__________

(1) المصدر نفسه، ص ص. 69-70.

 

(1/1889)

 

 

ترتكز على الفهم والحفظ.

... وحاصل الكلام في هذا المقام، فنقول: لقد ظهر أن تنقل أرباب السلوك المغاربة إلى مصر في القرنين السادس والسابع كان تنقلا مطلوبا باعتبار توجه أنظار المسلمين عامة والمصريين منهم خاصة إليه في هذه الفترة، وكان تنقلا مأذونا باعتبار شعور المغاربة بواجبهم نحو المسلمين عامة والمصريين منهم خاصة، كل ذلك لحصول هذا العمل المغربي على صفات تؤهله لسد حاجات المجتمع المصري من التجديد الأخلاقي؛ وقد ذكرنا أن هذه الخصائص ثلاث هي: البعد عن التجزيء والبعد عن التجريد والبعد عن التسييس، جاعلة

 

(1/1890)

 

 

من العطاء المغربي عطاء تكامليا تداوليا تأنيسيا؛ ثم بينا كيف أن الخاصية التكاملية لهذا العطاء أفادت في محو التنافر بين التفقه والتخلق وإغناء مفهوم الجهاد في المجتمع المصري، وأيضا كيف أن الخاصية التداولية لهذا العطاء أفادت في محو آثار الحكمة العرفانية ـ إشراقا وأسرارا ـ وآثارِ التصوف الفرداني في هذا المجتمع، وأخيرا كيف أن الخصوصية التأنيسية للعطاء المغربي أفادت في إيقاف الحملات التبشيرية وإيقاف تأثير المذهب الشيعي فيه.

 

(1/1891)

 

 

... وهكذا نكون قد دللنا على الدعوى التي قلنا بها وهي أن العطاء المغربي الذي غلب على المصريين الاستمداد منه تعلق أساسا بالعمل الخلقي الذي تميز به المغاربة.

... وإذا ثبتت هذه الدعوى، ترتبت عليها النتائج التالية:

... أ ـ أن أهل المغرب أمَدوا المصريين بأفضل ما يميز الثقافة الإسلامية، ما دام الإسلام هو عبارة عن مكارم الأخلاق.

... ب ـ أنهم أمدوا مصر بأخص ما يميز الثقافة الإنسانية، ما دامت "الأخلاقية" هي المقوم الذاتي للإنسان، وليست، كما يُظَن منذ أرسطو، "العقلانية المجردة".

 

(1/1892)

 

 

... ج ـ أن أصالة العطاء المغربي يجب أن تُطلب في المنجزات الأخلاقية أكثر مما تُطلب في سواها من الاختيارات الثقافية الأخرى، ما دام عطاء المغرب هو أبرز في جانب الأخلاق منه في أي جانب آخر.

... د ـ أن العطاء المغربي يحصل إحياؤه ويسهل استئنافه متى وقع تجديد الصلة بهذا الأصل الأخلاقي من أصول الثقافة المغربية، ما دامت أسباب الإبداع متوافرة في المجال الأخلاقي أكثر مما هي متوافرة في غيره من مجالات الثقافة المغربية.

 

المراجع

 

(1/1893)

 

 

الإدريسي الحسني، يوسف بن عابد، ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضرموت، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1988.

الأزدي القشتالي، أحمد إبراهيم، تحفة المغترب ببلاد المغرب، المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، 1973.

أعراب، محمد سعيد، المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، المطبعة الملكية، الرباط، 1982.

بدوي، عبد الرحمن، تاريخ التصوف الإسلامي، وكالة المطبوعات، الكويت، 1985.

بسيوني، إبراهيم، نشأة التصوف الإسلامي، دار المعارف، القاهرة، 1969.

 

(1/1894)

 

 

التفتازاني، أبو الوفا، ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1969.

ـ ـ ، ابن سبعين وفلسفته الصوفية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973.

التليدي، عبد الله، المطرب بذكر بعض مشاهير أولياء المغرب، مطابع الشمال، طنجة، 1980.

الجاوي، علي، (تحقيق)، كتاب المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى لأبي العباس أحمد بن أبي القاسم التادلي الصومعي، رسالة دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1989.

جعفر، محمد كمال إبراهيم، التصوف، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1980.

 

(1/1895)

 

 

الجنحاني، الحبيب، دراسات مغربية، دار الطليعة، بيروت، 1980.

الجيدي، عمر، محاضرات في تاريخ المذهب المالكي، منشورات عكاظ، 1987.

حسين، أبو لبابة، موقف متصوفة إفريقية وزهادها، دار اللواء للطباعة والنشر.

الحفني، عبد المنعم، الموسوعة الصوفية، دار الرشاد، القاهرة، 1992.

حلمي، محمد مصطفى، ابن الفارض والحب الإلهي، دار المعارف، القاهرة، 1971.

حوى، سعيد، المستخلص في تزكية الأنفس، دار عمار، بيروت.

حوى، سعيد، مذكرات في منازل الصديقين والربانيين، دار عمار، بيروت، 1989.

 

(1/1896)

 

 

ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، مطبعة مصطفى محمد، مصر.

درنيقة، محمد أحمد ، الطريقة الشاذلية وأعلامها، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1990.

رزق، يونان لبيب ومزين محمد، تاريخ العلاقات المصرية المغربية، الهيئة المصرية العامة.

ابن الزيات التادلي، التشوف إلى رجال التصوف، منشورات كلية الآداب ـ الرباط، 1984.

السكندري، تاج الدين، لطائف المنن، مكتبة القاهرة.

السلمي، عبد الرحمان، طبقات الصوفية، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1982.

الشعراني، عبد الوهاب، الطبقات الكبرى، دار الفكر.

 

(1/1897)

 

 

ـ ـ ، المختار من الأنوار في صحبة الأخيار، عالم الكتب، بيروت، 1985.

 

الصغير، عبد المجيد، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، 1988.

الطويل، توفيق، التصوف في مصر إبان العصر العثماني، مكتبة الآداب بالجماميز.

عاشور، سعيد عبد الفتاح، السيد أحمد البدوي : شيخ وطريقة، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967.

بنعبد الله، عبد العزيز، "الفكر الصوفي والانتحالية بالمغرب"، مجلة البينة، عدد 6 ـ7، أكتوبر ـ نوفمبر، 1962.

ابن عجيبة، أحمد بن محمد، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، دار المعرفة، بيروت.

 

(1/1898)

 

 

عزام، صلاح، السيد عبد الرحيم القنائي، دار الشعب.

ابن عسكرالحسني الشفشاوني، محمد، دوحة الناشر، مطبوعات دار المغرب، الرباط، 1976.

الغبريني، أبوالعباس، عنوان الدراية، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت.

الفاسي، علال، "التصوف الإسلامي في المغرب"، مجلة الثقافة المغربية، يناير ـ فبراير، 1970.

الفاسي، محمد المهدي، ممتع الأسماع في الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع، مطبعة محمد الخامس، فاس، 1989.

فهمي، محمد عبد اللطيف، السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر، المركز العربي للصحافة، القاهرة.

 

(1/1899)

 

 

ابن القاضي المكناسي، أحمد، جذوة الاقتباس، دار المنصور، الرباط، 1974.

 

القبلي، محمد، مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987.

ابن قنفد القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير، المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط.

الكتاني، محمد بن جعفر، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، المطبعة الحجرية، فاس، 1900.

الكلابدي، أبوبكر محمد، التعرف لمذهب أهل التصوف، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1980.

 

(1/1900)

 

 

المالكي، عبد الله بن أبي عبد الله، رياض النفوس، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1901.

مبارك، زكي، التصوف الإسلامي، دار الجيل، بيروت.

المراكشي، أبو عبد الله، الذيل والتكملة، السفر السادس، دار الثقافة، بيروت، والسفر الثامن، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط.

محمود، عبد الحميد، قضية التصوف، دار المعارف، القاهرة.

ـ ـ ، أبو الحسن الشاذلي، دار الكتب الحديثة، القاهرة.

المراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1978.

 

(1/1901)

 

 

ابن الملقن، طبقات الأولياء، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973.

ابن أبي المنصور، صفي الدين، رسالة صفي الدين بن أبي المنصور، ترجمة وتحقيق ديني جريل، المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، القاهرة، 1986.

النبهاني، يوسف بن إسماعيل، جامع كرامات الأولياء، دار الكتب العربية الكبرى، مصر، 1983.

النجار، عامر، الطرق الصوفية في مصر، دار المعارف، القاهرة.

النشار، علي سامي، ديوان أبي الحسن الششتري، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1960.

الهجويري، كشف المحجوب، دار النهضة العربية، بيروت، 1980.

 

(1/1902)

 

 

اليوسي، الحسن، المحاضرات في الأدب واللغة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1982.

 

(1/1903)

 

 

الاختلاف المباح في التشريع الإسلامي

... ... ... الدكتور فاروق حمادة

... ... ... ... كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط

 

ـ 1 ـ

 

... الحمد لله ذي العزة والجلال الكبير المتعال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله عظيم السؤدد وكريم الخصال، وعلى آله الأخيار نجوم الهداية، وعلى أصحابه الأبرار ذوي المفاخر وجلائل الأعمال ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛

... فقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله في "الجامع الصحيح"، »كتاب العلم«، قال: باب كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر

 

(1/1904)

 

 

بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.

... ولْتُفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلَّم من لا يعلم. فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرّاً.

... وعن عبد الله بن عمر بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا، وأضلوا. إن مسألة

 

(1/1905)

 

 

المعرفة الإسلامية دقيقة وجليلة. دقيقة، لأنها تتعامل مع نصوص الوحي المقدس وكلام النبوة الأسمى، فتحتاج من التأهل والاستعداد ما يفوق كل علم وكل معرفة أخرى.

... فخطأ طبيب في قتل واحد، أو مهندس في تدمير عمارة أو قنطرة، ضرر محدود، وأثر معدود؛ لكنَّ فتوى جائرة، ورأياً أرْعن هو قتل لمن لا حصر لهم من البشر المعاصرين لهذه الفتوى، ولمن يأتي بعدها من الأجيال. ومن هنا تنشأ خطورة التأهل للبلاغ عن الله والرسول. وأما دقة المسألة، فتأتي من ضوابط التعامل مع هذه النصوص وكيفية أخذ الأحكام وتنزيل هذه الأحكام على

 

(1/1906)

 

 

الخليقة والأنام، وكيفية أخذ الأحكام وتنزيل هذه الأحكام على الخليقة والأنام. وفي ذلك تتفاوت القرائح وتتباين العقول والأفهام، ويبقى باب التصحيح والتقويم والردّ والتأكيد مفتوحاً على الدوام. وقد أكد القرآن العظيم والسنة الشريفة على وحدة الأمة وسلامة صفها، وحذَّراها من الفرقة والاختلاف وأسبابه ودواعيه. قال الله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون} (الأنعام، 159)؛ وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا

 

(1/1907)

 

 

شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم، 32)؛ وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (آل عمران، 105)؛ وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام، 153).

... وفي الحديث الشريف: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد«؛ وفي رواية: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ«؛ وفي رواية: »من صنع أمراً على غير أمرنا فهو ردّ«(1)

__________

(1) متفق عليه، البخاري، 2697؛ ومسلم، 1718؛ والرواية الثانية له وأبو داود رقم 4606، والرواية الثالثة له، وابن ماجة رقم 14.

 

(1/1908)

 

 

.

... وعن جابر بن عبد الله قال: »كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب، احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة« (1).

... وعن العرباض بن سارية السلمي قال: »وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها

__________

(1) أخرجه مسلم رقم 867؛ وابن ماجة رقم 45.

 

(1/1909)

 

 

العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة«(1).

__________

(1) أبو داود: السنة: باب لزوم السنة، رقم 4607؛ والترمذي، ج 2، ص. 278؛ العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة؛ وأحمد، ج 4، صص. 126 ـ 127؛ وابن ماجة رقم 42، 43، 44؛ والدارمي؛ وابن حيان في "صحيحـ"ـه وغيرهم.

 

(1/1910)

 

 

... ومن أشد ما جاء في التحذير من التفرق والاختلاف ما جاء من حديث عبد الله بن عمرو ومعاوية بن أبي سفيان وأبي هريرة وعوف بن مالك وغير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: »ألا إن مَنْ قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة. وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه، أو لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله«(1)

__________

(1) أخرجه أحمد، ج 4، ص. 102؛ وأبو داود، رقم 4597؛ السنة: »باب شرح السنة«.

 

(1/1911)

 

 

.

... والكَلَب: داء يعرض للإنسان من عضّة لكلْب الكَلب، وهو داء يصيب الكل كالجنون، والكلب داء عظيم.

 

ـ 2 ـ

 

... وإذا كان التفرق والاختلاف بهذا الموقع من الذم والتنفير، فما دلالة هذا التفرق الذي جاء في الحديث الشريف؟

... لقد ذهب العلماء في تفسيره مذاهب عديدة؛ وحاولوا أن يلتمسوا أوصافهم التي خرجوا بها أو كادوا عن الملّة. يقول الإمام الشاطبي(1):»إن للراسخين طريقاً يسلكونها في اتباع الحق، وإن الزائغين على طريق غير طريقهم...«، إلى أن قال:

__________

(1) الاعتصام، ط 1، ج 2، ص. 223 وما بعدها.

 

(1/1912)

 

 

... فمنها اعتمادهم على الأحاديث الواهية والضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها كحديث أكل الباذنجان، وإكرام الديك الأبيض...

... ومنها: ردّهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدَّعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة؛ وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، وأنه يقدم الذي فيه الداء، وحديث الذي أخذ أخاه

 

(1/1913)

 

 

بطنُه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بسقيه العسل وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول. وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عد التهم وإمامتهم... وقد بالغ بعض الضالين في ردّ الأحاديث، ورد قول من اعتمد على ما فيها، حتى عدوا القول به مخالفاً للعقل، والقائل به معدود في المجانين.

... ومنها: تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العروِّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

 

(1/1914)

 

 

... ومنها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف...

... ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط ينصرف من ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً بأن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه.

... ومنها: بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل يدَّعون فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل، وذلك أنهم فيما ذكر العلماء راموا إبطال الشريعة جملة وتفصيلا. فلم يمكنهم إلقاء ذلك صُراحاً، فيردّ ذلك في وجوههم،

 

(1/1915)

 

 

فصرفوا أعناقهم إلى التحيل على ما قصدوا بأنواع من الحيل لإحالة الكلم عن الظواهر إحالة لها على أن لها بواطن هي المقصودة، فقالوا: كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن.

 

... ولما كان الاجتهاد في الفروع الفقهية والاختلاف فيها واقعاً في الصحابة ومن اتبعهم بإحسان معلوماً بالقطع واليقين، ولم يذم ذلك بل كان من محاسن الشريعة وسعتها وتيسيرها ورحمتها، كان من المؤكد أن التفرق المذموم هو في العقائد. قال أبو عمر بن عبد البر(1)

__________

(1) جامع بيان العلم وفضله، دار الفكر، د. ت، ج 2، ص. 113،

 

(1/1916)

 

 

: وأما التنازع في أحكام القرآن ومعانيه، فقد تنازع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من ذلك... وأما الفقه، فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك.

... وقال أبو عمر: وأما تناظر العلماء وتجادلهم في مسائل الأحكام، فأكثر من أن يحصى(1). وذكر طرفاً من ذلك.

... وعن القاسم بن محمد قال: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمل، لا يعمل العامل بعلم رجلٍ منهم إلا رأى

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 131.

 

(1/1917)

 

 

أنه في سعة.

... وعنه أيضاً قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز، ما أحب أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً، لكان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم. فلو أخذ رجل بقول أحدهم، كان سنة. قال الشاطبي(1):

 

... ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق، لأن مجال الاجتهادات ومجالات الظنون لا تتفق عادة، فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع

__________

(1) الاعتصام، ج 2، صص. 170 ـ 171.

 

(1/1918)

 

 

خلافهم وهو نوع من تكليف ما لا يطاق، وذلك من أعظم الضيق، فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة.

 

... وإننا لما وجدنا بالقطع واليقين هذا الخلاف هو في الفروع القائمة على الاجتهاد وبذل الوسع في الوصول إلى الحق واليقين، لم نجد كذلك بالقطع واليقين من بدّع أو فسَّق هؤلاء الأئمة المجتهدين، ولو أخطأوا أو ابتعدوا عن الصواب، بل كانوا يخطئونهم ويُحصون عليهم سقطاتهم وعثراتهم، بل جمعوها من كل مذهب وأحصوها على كل إمام مهما علا قدره. وإن أكثر الأئمة تعرضاً للنقد في

 

(1/1919)

 

 

الفقه والاجتهاد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت وتلامذته، ولم يُتَّهَمْ أحد منهم في اجتهاده بالفسق والبدعة أو غير ذلك، سوى ما نسب إلى أبي حنيفة من تهمة الإرجاء. وقد أصبحت عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلامذته عقيدة جميع المسلمين من جميع المذاهب حسب ما نقله الإمام الطحاوي في عقيدته إذ قال:

 

... هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما

 

(1/1920)

 

 

يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين(1).

وقد تتبعوا أصحاب الأهواء والمخالفين في العقائد وفندوا أقوالهم صغيرها وكبيرها، ووزنوا أقوالهم وحصروا فرقهم، فأحصوا فرق الشيعة وبدَّعوهم لقولهم بعصمة الأئمة، وتقديمهم الإمام عليّاً على الشيخين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصّ على استخلافه وإبطالهم الاجتهاد في الأحكام، وأن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس...(2) مع أقوالهم في التجسيم والصفات، والبَدَاء الذي يرونه جميعاً إلا شرذمة

__________

(1) العقيدة الطحاوية، ص. 3.

(2) مقالات الإسلاميين، ج 1، ص. 89.

 

(1/1921)

 

 

قليلة منهم(1) والرجعة.

... وبدَّعوا كل من قال بأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها(2) كالزيدية وغيرهم.

... وضللوا الخوارج على كثرة عبادتهم، وتقشفهم في حياتهم، لأنهم كفروا عليّاً بن أبي طالب والصحابة، وقالوا إن صاحب الكبيرة كافر مخلّد في النار؛ وتتبعوا كذلك فرقهم وفندوا آراءهم

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 111؛ والبداء: هو أن يظهر لله رأي ثم يبدو له غيره، والرجعة اعتقادهم برجوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل يوم القيامة وأخذه الحق ممن خالفه.

(2) المصدر نفسه، ص. 149.

 

(1/1922)

 

 

وفسقوهم وردّوا عليهم في كل صغيرة وكبيرة تخالف الكتاب والسنة.

... وناقشوا المرجئة ووقفوا منهم الموقف الصارم؛ إذ قالوا: الإيمان بالله هو المعرفة فقط، وما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ورسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان(1).

... ومنهم الجهمية الذين قالوا: إن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده وأن الإيمان لا يتبعض، ولا يتفاضل أهله فيه...

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 213 ـ 214.

 

(1/1923)

 

 

... وأما معاركهم مع المعتزلة، فسيبقى صداها يرنُّ مع الدهر، وقد تتبعوهم في كل صغيرة وكبيرة من العقائد والأصول، ولم نجدهم يقفون كثيراً أمام الفروع والأحكام الفقهية.

... أما موقفهم منهم في رؤية الله عز وجل في الآخرة، فمعروف؛ وهو من المسائل الكبرى التي خالف فيها المعتزلة ومثلها الصفات الإلهية، كقولهم: إن الله عالم قادر حي بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة. وكان النظام يقول: معنى قولي: عالم إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، ومعنى قولي: قادر إثبات ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى قولي: حيّ إثبات ذاته ونفي الموت عنه...

 

(1/1924)

 

 

وهكذا في بقية الصفات. وقولهم: إن الجنة والنار تفنيان، حتى يكون الله سبحانه وتعالى آخِراً لا شيء معه كما كان أولاً لا شيء معه.

... وأنكرت المعتزلة بأسرها أن يكون الله مريداً للمعاصي، وأنكروا كذلك أن يكون الله تعالى لم يزل مريداً لطاعته.

... وأعظم فتنهم التي أثاروها وامتحنوا بسببها العلماء، عندما تمكنوا من الدولة، فتنة خلق القرآن التي يرون فيها أن كلام الله مخلوق وعَرَض؛ وكان لها أثر عظيم في الفكر الإسلامي كله، وكانت محكاً لكل عالم في آخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجري. ومن بدعهم التي لا

 

(1/1925)

 

 

تزال تجد صدى عند كثير من المتهورين ما أجمعوا عليه أن الناس محجوجون بعقولهم، مَنْ بلغه خبر الرسول ومَنْ لم يبلغه، ومسألة أن الله لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره، ومسألة التحسين والتقبيح، وأن الله جعل الإيمان حسناً والكفر قبيحاً، وأن الله لم يخلق الشر.

... وأجمعوا أن مَنْ أدخله الله النار خلّده فيها، وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة كيف قدر الإنسان على ذلك، مع كثير من ترَّهاتهم التي رتبت على خمس مخالفات وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين

 

(1/1926)

 

 

المنزلتين، وإثبات الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

... لقد صلا المعتزلة علماء السنة وأهل الحديث على الخصوص بنارهم. فمات من مات منهم، وصبر من صبر منهم، وداهن من داهن، ودافع من دافع؛ وما نال أحمد بن حنبل مرتبة إمامة أهل السنة والجماعة إلا بثباته في هذه المحنة.

... وقد روى الآجري في كتابه "الشريعة"(1) عن صالح بن علي الهاشمي قال:

... حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم

__________

(1) دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م، ص. 91.

 

(1/1927)

 

 

به إليه ما استحسنته. فأقبلت أرمق ببصري حتى إذا نظر في القصص فإذا رفع طرفه إلي أطرقت، فكأنه علم ما في نفسي فقال لي: يا صالح أحسب أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! فأمسك. فلما فرغ من جلوسه، أمر أن لا أبرح ونهض. فجلست جلوساً طويلاً، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي: يا صالح أتحدثني بما في نفسك أم أحدثك؟ فقلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن. فقال: كأني بك وقد استحسنت من مجلسنا. فقلت: أي خليفة خليفتنا! إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن؟ فقال: قد كنت على ذلك

 

(1/1928)

 

 

برهة من الدهر حتى أقدم ابن أبي دؤاد على الواثق شيخاً من أهل الفقه والحديث من أذنة من الثغر الشامي مقيداً طُوالاً حسن الشيبة جميل الوجه، فسلّم غير هائب، ودعا فأوجز فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه.

... فقال: يا شيخ، أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه، فقال: يا أمير المؤمنين أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة، فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضباً عليه، فقال: أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟ فقال: هوِّن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في كلامه؟ فقال له

 

(1/1929)

 

 

الواثق: قد أذنت لك.

... فأقبل الشيخ على أحمد فقال: يا أحمد إلام تدعو الناس؟ فقال: إلى القول بخلق القرآن. فقال له الشيخ: مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها؟ قال: نعم! قال الشيخ: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إليها أم تركهم؟ قال: لا . قال: يعلمها أم لم يعلمها؟ قال: علمها. قال: فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، وتركتهم منه؟

 

(1/1930)

 

 

... فأمسك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قال له: يا أحمد أخبرني، قال الله تعالى في كتابه العزيز {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، فقلت أنت: الدين لا يكون تاماً إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله عز وجل صدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟ فأمسك. فقال الشيخ: وهذه ثانية. ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، قال الله عز وجل {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}، فمقالتك هذه التي دعوت إليها الناس فيما بلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة أم لا؟ فأمسك.

 

(1/1931)

 

 

فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين! وهذه ثالثة. ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد! لما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالتك هذه التي دعوت إليها الناس اتسع له أن أمسك عنها أم لا؟ فقال: بل اتسع له ذلك فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ قال نعم. فصرف وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، فلا وسع الله علينا. قال الواثق، نعم! لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

 

(1/1932)

 

 

وأصحابه. ثم قال الواثق: اقطعوا قيوده. فلما فكت، جاذب عليها الجلاد، فقال الواثق: دعوه فأخذه الشيخ فوضعه في كمه ثم قال: يا شيخ! لم جاذبت عليها؟ فقال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها فإذا أخذتها أوصيتُ أن تجعل بيني وبين كفين ثم أقول: يا رب سل عبدك لم قيدني ظلماً، وارتاع بي أهلي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي؟ فبكى الواثق وكل من حضر، ثم قال له الواثق: يا شيخ! اجعلني في حلّ. فقال: يا أمير المؤمنين! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلّ إعظاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابتك منه. فتهلل وجه

 

(1/1933)

 

 

الواثق وسُرَّ. ثم قال: أقم عندي آنس بك. فقال له: مكاني في ذلك الثغر أنفع وأنا شيخ كبير ولي حاجة. قال: سل ما بدا لك. قال: يأذن أمير المؤمنين بالرجوع إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم ـ أي ابن أبي دؤاد. وأمر له بجائزة فلم يقبلها. فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة وأحسب أيضاً أن الواثق رجع عنها.

 

... لقد دافع السلف الصالح حماة الدين وأمناء الله على كتابه وسنة رسوله، تجاه جميع التيارات والأهواء. وقال عبد الله بن عمر لابن بريدة ويحيى بن يعمر وقد قالا له: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس

 

(1/1934)

 

 

يقرؤن القرآن ويتقفرون العلم(1)، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قَدَر، وأن الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجل

__________

(1) يتقفرون العلم: بتقديم القاف على الفاء: أي يقتفونه ويجمعونه، وفي رواية أخرى للصحيح عن مسلم: يتفقرون، بتقديم الفاء؛ والمعنى يبحثون عن غامضه وأسراره.

 

(1/1935)

 

 

شديد بياض الثياب... الحديث حديث جبريل المعروف(1).

... ولم يتبرأ عبد الله بن عمر ممن خالفه الرأي الفقهي أو أفتى بغير فتواه وهم كُثُر.

... ومن قبله عمر بن الخطاب ضرب صَبِيغاً بن عَسْل العراقي وكان يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب قال: أين الرجل؟ قال: في الرحل، قال: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به فقال عمر: تسأل محدثةً، فأرسل عمر إلى رطائب من جريد،

__________

(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان أول حديث فيه.

 

(1/1936)

 

 

فضربه حتى ترك ظهره دَبْرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له. فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته(1).

__________

(1) انظره في سنن الدّارمي، رقم 150، ط. السيد عبد الله هاشم اليماني؛ والشريعة للآجري، ص. 73.

 

(1/1937)

 

 

... بعد هذا، يمكننا القول إن الابتداع والتفرق قد كان في العقائد والمذاهب الفكرية؛ أما الاجتهاد في الفروع، فقد كان بمنأى عنه. قال السبكي(1): والاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول وهو المشار إليه في القرآن. ولاشك أنه بدعة وضلالة؛ الثاني: في الآراء والحروب هو حرام أيضاً لما فيه من تضييع المصالح؛ الثالث: في الفروع كالاختلاف في الحِلّ والحرمة ونحوهما. قال: والدي ـ أيده الله ـ: والذي يظهر لنا ويكاد أن يقطع به أن

__________

(1) الإبهاج في شرح المنهاج، دار الكتب العلمية، 1404 هـ/ 1984 م، ج 3، ص. 19.

 

(1/1938)

 

 

الاتفاق فيه خير من الاختلاف. لكن هل نقلوا أن الاختلاف ضلال كالقسمين المذكورين؟ وكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن منع التقليد يقتضي أنه مثلهما؛ وأما نحن، فإنه يجوز التقليد للجاهل والأخذ بالرخصة من أقوال العلماء بعض الأوقات عند مسيس الحاجة من غير تتبع الرخص. ومن هذا الوجه يصح أن يقال: الاختلاف رحمة، إذ الرخص رحمة.

... وحتى لا يتسرب هذا الاختلاف إلى الأحكام التشريعية، أشاد حماة الدين علم أصول الفقه وضوابط الاستنباط، ووضعوا الطريق بما لا مزيد عليه، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض القضايا في هذا العلم مما

 

(1/1939)

 

 

يمكن للباحث المنصف المتمكن أن يرجح ويوازن، ولكنه يجد الطريق معبدة. من ذلك الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز، وخبر ما تعم به البلوى، وموافقة الحديث لظاهر القرآن، والاستثناء المتصل هل يدخل في باب النسخ وعمل الراوي وفتواه بخلاف نقله وروايته، في مسائل عديدة جزئية.

... ولكنهم جميعاً لا يتعمدون المخالفة. قال ابن تيمية في كتابه النفيس "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"(1):

__________

(1) رفع الملام، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالرياض، ص. 9.

 

(1/1940)

 

 

... وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة ـ المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً ـ يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته دقيق ولا جليل. فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن إذا وجد لواحدٍ منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

... أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله.

 

(1/1941)

 

 

... الثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

... والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.

 

... وهذا كلام دقيق ونفيس. ولهذا فإن إلصاق البدعة والفسق بمسلم، ولا سيما إذا كان عالماً أو باحثاً لها من الخطورة والعظم والدقة ما يجعل المنصف يتوقف أمامها طويلاً جداً قبل أن يطلقها أو يدونها أو يلفظها لو كان عاقلاً يبتغي مراد الله.

 

ـ 3 ـ

 

... ولكني وجدت إضافة لهذا في نصوص السنة على الخصوص أحاديث جاءت بالتيسير والسعة وترك الاختيار للمجتهد ولكل مسلم وعامل، وذلك في عدد كبير من المسائل التشريعية العملية

 

(1/1942)

 

 

وليس في الأحكام الاعتقادية.

... وقد تردد في كتبهم مصطلح الاختلاف المباح. وأول من علمته أكد على هذا المصطلح واستعمله وأقام الدليل عليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وتردّد كثيراً في كلام أحمد بن حنبل وتبعهما في ذلك أئمة أعلام كابن خزيمة (ت 311 هـ)، والطحاوي (ت 323 هـ)، والخطابي (ت 388 هـ)، وأكثر منه الحافظ أبو عمر بن عبد البر (ت 463 هـ) والحازمي (ت 575 هـ) وابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وابن حجر في "فتح الباري" (ت 852 هـ)، وغيرهم من الجِلَّة الأخيار.

 

(1/1943)

 

 

... وسأقتبس نماذج من هؤلاء الأئمة عبرة لأولي الألباب وتبصرة للباحثين عن الحق والصواب.

... قال الإمام الشافعي في كتابه "اختلاف الحديث": »باب الاختلاف من جهة المباح«، وساق بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضأ وجهه ويديه ومسح برأسه مرة مرة. ثم ساق بسند آخر عن حُمْدان مولى عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً. ثم ساق بسنده إلى يحيى المازني أنه سمع رجلاً يسأل عبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا

 

(1/1944)

 

 

بماء ثم ذكر أنه غسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين مرتين، ومسح رأسه وغسل رجليه«.

... قال الشافعي: »لا يقال لشيء من هذه الأحاديث مختلف مطلقاً، ولكن الفعل فيه يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام والأمر والنهي، ولكن يقال: أقل ما تجزئ من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاثاً«(1).

... وفي »باب سجود القرآن«، ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بـ{النجم}، فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين، قال: أرادا

__________

(1) اختلاف الحديث مع الأم، دار الفكر، ط 2، 1403 هـ/ 1983 م، ج 8، ص. 599.

 

(1/1945)

 

 

الشهرة.

... ثم ذكر حديث زيد بن ثابت أنه قرأ عند رسول الله بـ{النجم}. فلم يسجد فيها. إلى أن قال: فإن قال قائل: فلعل أحد هذين الحديثين نسخ الآخر، قيل: فلا يدعي أحد أن السجود في النجم منسوخ إلاّ جاز لغيره أن يدعي أن ترك السجود منسوخ والسجود ناسخ، ثم يكون أولى لأنه السنة لقول الله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا}. ولا يقال لواحد من هذين ناسخ ومنسوخ، ولكن يقال: اختلاف من جهة المباح(1).

... وفي »باب قتل الأسارى والمفاداة بهم والمن عليهم«، ذكر بإسناده حديث عمران بن حصين قال:

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 601.

 

(1/1946)

 

 

... أسر أصحاب رسول الله رجلاً من بني عقيل، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ففداه النبي بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. ثم ذكر حديث ثُمَامَة بن أُثال الحنفي أن خيل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرته فأُتي به مشركاً فربطه النبي إلى سارية من سواري المسجد ثلاثاً ثم منَّ عليه وهو مشرك، فأسلم بعد.

 

ثم قال:

... أخبرني عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر النضر بن الحارث العبدي يوم بدر وقتله بالبادية أو بين البادية والأثيل صبراً.

 

(1/1947)

 

 

... وأخبرني عدد من أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر فقتله صبراً.

... وأن رسول الله أسر سهيل بن عمرو وأبا وداعة السهمي وغيرهما ففاداهما بأربعة آلاف أربعة آلاف، وفادى بعضهم بأقل، وأن رسول الله أسر أبا عَزَّة الجمحي يوم بدر فمَنَّ عليه ثم أسر يوم أحد فقتله صبراً.

... فكان فيما وصفت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن للإمام إذا أسر رجلاً من المشركين أن يقتل أو أن يمن عليه بلا شيء أو أن يفادي بمال يأخذه منهم أو أن يفادى بأن يطلق منهم على

 

(1/1948)

 

 

أن يطلق له بعض أسرى المسلمين، لا أن بعض هذا ناسخ لبعض ولا مخالف له من جهة إباحته. ولا يقال لشيء من الأحكام مختلف مطلقاً، إلا ما قال حاكم حلال وحاكم حرام. فأما ما كان واسعاً، فيقال: هو مباح وكل من صنع فيه شيئاً وإن خالف فعل صاحبه، فهو فاعل ما يجوز له كما يكون القائم مخالفاً للقاعد والماشي مخالفاً للقائم. وكل ذلك مباح، لا أن حتماً على الماشي أن يقوم ولا على القائم أن يقعد(1).

 

... وقال رحمه الله وأعلى مقامه: »باب القنوت في الصلوات كلها«:

__________

(1) المصدر نفسه، ج 8، ص. 606.

 

(1/1949)

 

 

... أخبرني بعض أهل العلم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل أهل بئر معونة، أقام خمس عشرة ليلة كلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من الصبح قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد؛ اللهم افعل... فذكر دعاء طويلاً ثم كبر فسجد، قال: وحفظ عن جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القنوت في الصلوات كلها عند قتل أهل بئر معونة، وحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت في المغرب، كما روي عنه في القنوت في غير الصبح عند قتل أهل بئر معونة. والله أعلم.

 

(1/1950)

 

 

... وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت وترك القنوت جملة. ومن روى مثل حديثه روى أنه قنت عند قتل أهل بئر معونة وبعده، ثم ترك القنوت. فأما القنوت في الصبح، فمحفوظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أهل بئر معونة وبعده، ولم يحفظ عنه أحد تركه.

... أخبرنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح، قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة؛ اللهم أشدد وطأتك على مضر

 

(1/1951)

 

 

واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف.

... قال الشافعي: فأما ما روى أنس بن مالك من ترك القنوت، فالله أعلم ما أراد. فأما الذين أرى بالدلالة، فإنه ترك القنوت في أربع صلوات دون الصبح؛ كما قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر تعني ثلاث صلوات دون المغرب.

... وترك القنوت في الصلوات سوى الصبح لا يقال له ناسخ، إنما يقال الناسخ والمنسوخ ما اختلف. فأما القنوت في غير الصبح، فمباح أن يقنت وأن يدع، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقنت في غير الصبح قبل قتل أهل بئر معونة، ولم

 

(1/1952)

 

 

يقنت بعد قتل أهل بئر معونة في غير الصبح. فدل ذلك على أن ذلك دعاء مباح كالدعاء المباح في الصلاة لا ناسخ ولا منسوخ(1).

... وقال قبله سفيان الثوري: من قنت فحسن، ومن لم يقنت فحسن(2).

... وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحق بن خزيمة المتوفى (311 هـ) في "صحيحـ"ـه(3): »باب

__________

(1) المصدر نفسه، ج 8، ص. 653.

(2) الاستذكار، ج 6، ص. 201؛ وانظر مصنف ابن أبي شيبة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ط 1، الدار السلفية بالهند، 1413 هـ، ج 2، ص. 312

(3) تحقيق الدكتور مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ج. 3، صص. 170 ـ 172.

 

(1/1953)

 

 

القراءة في صلاة الجمعة«، وساق بسنده إلى أبي عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي بن أبي طالب قال: كان مروان يستخلف أبا هريرة على المدينة فصلى بهم يوم الجمعة فقرأ بـ {الجمعة} و{إذا جاءك المنافقون}، فقلت: أبا هريرة لقد قرأت بها قراءة قرأها بنا علي بالكوفة، فقال أبو هريرة: سمعت حُبي أبا القاسم يقرأ بهما.

... ثم قال: »باب إباحة القراءة في صلاة الجمعة«: بـ{سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية}. وهذا الاختلاف في القراءة من اختلاف المباح، وساق بسنده إلى سمرة بن جندب قال: كان رسول الله يقرأ في الجمعة

 

(1/1954)

 

 

{سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية}.

... وقال أبو عمر في "الاستذكار"، »شرح باب القراءة في صلاة الجعة والاحتباء ومن تركها من غير عذر« (1)، حيث قال: »وقد اختلف العلماء في هذا الباب على حسب اختلاف الآثار فيه، وهذا عندهم من اختلاف المباح الذي ورد ورود التخيير«.

... وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار": »باب المشي في الجنازة أين ينبغي أن يكون منها«، وذكر أحاديث منها حديث ابن عمر قال: »رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون

__________

(1) الاستذكار، ج 5، ص. 110.

 

(1/1955)

 

 

أمام الجنازة«.

... ومنها حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها.

... وحديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :الراكب خلف الجنازة حيث شاء منها.

... إلى أن قال: فدل ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك على جهة التخفيف على الناس ليعلمهم أن المشي خلف الجنازة وإن كان أفضل من المشي أمامها ليس هو مما لابد منه ولا ممّا يُحرج تاركه، ولكنه مما له أن يفعله ويفعل غيره(1)

__________

(1) شرح معاني الآثار، تحقيق محمد زهدي النجار، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، صص. 481 ـ 483؛ الاستذكار، ج 8، ص. 222.

 

(1/1956)

 

 

.

... ومنهم الإمام الخطابي حمد بن محمد البستي المتوفى 388 هـ، حيث قال في شرحه لحديث عطاء أنه رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينحاز عن مصلاه الذي صلى الجمعة فيه قليلاً غير كثير فيركع ركعتين قال: ثم يمشي من ذلك فيركع أربع ركعات(1).

... وقد اختلفت الرواية في عدد الصلاة بعد الجمعة. وقد رواها أبو داود في هذا الباب على اختلافها: روى أربعاً، وروى ركعتين في المسجد، وروى أنه كان يصلي في المسجد حتى إذا صار إلى بيته صلى ركعتين.

__________

(1) سنن أبي داود، »الصلاة: الجمعة«، رقم 1133.

 

(1/1957)

 

 

... قلت ـ الخطابي ـ: وهذا ـ والله أعلم ـ من الاختلاف المباح. وكان أحمد بن حنبل يقول: »إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعاً«.

... أما أبو عمر بن عبد البر الذي كان يحصّل مذاهب السلف بأدلتها والأئمة المجتهدين ومناهجها، فقد أكثر من ذلك وأخذ من ذلك أمثلة منه. ففي "الاستذكار" في شرح حديث يحيى بن سعيد أنه قال:

... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فأُري عبد الله بن زيد الأنصاري، ثم من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم، فقال: إن هاتين لنحو

 

(1/1958)

 

 

مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: ألا تؤذنون للصلاة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان(1).

 

... قال أبو عمر: روي عن النبي في قصة عبد الله بن زيد ورؤياه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة... وهي متواترة الطرق من نقل أهل المدينة والكوفة: »وقد جاء الأذان من رواية بلال، وأبي محذورة، وسعد القرظ، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه«.

__________

(1) المصدر نفسه، ج 4، ص, 7 وما بعدها.

 

(1/1959)

 

 

... أما اختلاف أئمة الأمصار في كيفية الأذان والإقامة، فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة.

... إلا أن الشافعي يقول في أول التكبير: »الله أكبر« أربع مرات، وذلك محفوظ من رواية الثقات في حديث أبي محذورة، وفي حديث عبد الله بن زيد. قال: »وهي زيادة يجب قولها«.

... وذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة، وفي أذان عبد الله بن زيد.

 

(1/1960)

 

 

... وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن: الأذان والإقامة جميعاً مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة: الله أكبر أربع مرات، قالوا كلهم: ولا ترجيح في الأذان...

... فهذا أذان الكوفيين متوارث عندهم به العمل قرناً بعد قرن أيضاً كما توارث الحجازيون في الأذان زمناً بعد زمن على ما وصفنا.

... وأما أحمد بن حنبل، فذكر عند الأثرم أنه سمعه يقول: أنا أذهب إلى حديث محمد بن إسحق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ثم وصفه أبو عبد الله

 

(1/1961)

 

 

فكبر أربعاً وتشهد مرتين ولم يرجِّع.

... والإقامة: »الله أكبر« مرتين، وسائرها مرةً مرةً، إلا »قوله قد قامت الصلاة«، فإنها مرتين.

... قال الأثرم: »سمعت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ يقول: "من أقام مثنى مثنى لم أعنفه، وليس به بأس"«.

... قيل لأبي عبد الله: »حديث أبي محذورة صحيح؟«، فقال: »أما أنا، فلا أدفعه«.

... قال أبو عمر بن عبد البر:

... ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهوية، وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وحملوه على الإباحة

 

(1/1962)

 

 

والتخيير، وقالوا: كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز ذلك وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر، الله أكبر مرتين في أول الأذان، ومن شاء قال ذلك أربعاً، ومن شاء رجّع في أذانه ومن شاء لم يرجع، ومن شاء ثنّى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله: قد قامت الصلاة؛ فإن ذلك مرتان على كل حال (1).

 

... وقال: »قال الجلَّة من المتأخرين بالتخيير والإباحة في كل وجه نُقل منه«.

__________

(1) المصدر نفسه، ج 4، ص. 16.

 

(1/1963)

 

 

... وفي شرح حديث أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »إذا ثُوِّب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، واتوها وعليكم السكينة. فما أدركتم، فصلوا؛ وما فاتكم، فأتموا. فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة« (1).

... وأما قوله عليه السلام في هذا الحديث: »وما فاتكم فأتموا على ما رواه مالك وغيره، ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامه فهو أول صلاته، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 34.

 

(1/1964)

 

 

... وقد جاء في بعض طرقه الثابتة الصحيحة: »وما فاتكم فاقضوا«. قال أبو عمر، بعد أن نقل مذاهب الفقهاء في ما أدركه المصلي هل هو أول صلاته أو آخرها: »والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر والنظر؛ إلا أن رواية من روى "فأتموا" أكثر«.

... وقال في شرح حديث ابن عمر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: »سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد«، وكان لا يفعل ذلك في السجود.

 

(1/1965)

 

 

... واختلفت الآثار عن النبيّ عليه السلام في كيفية رفع اليدين في الصلاة، فروي عنه أنه كان يرفع يديه حَذْو أُذنيه، وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه، وروي عنه أنه كان يرفعهما إلى صدره، وكلها آثار معروفة مشهورة.

... قلت: وكأنه يجعلها من الاختلاف المباح. ...

... وقال في كيفية التسليم والخروج من الصلاة(1):

... وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في كيفية السلام من الصلاة هل هو واحدة أو اثنتان، واختلفت الآثار في ذلك أيضاً، واختلف الفقهاء أئمة الفتوى هل السلام من فروض

__________

(1) المصدر نفسه، ج 4، ص. 288.

 

(1/1966)

 

 

الصلاة أو من سننها.

... قال مالك وأصحابه والليث بن سعد: »يسلّم المصلي من صلاته نافلة كانت أو فريضة تسليمة واحدة "السلام عليكم"، ولا يقول: "ورحمة الله"«. وقال ابن وهب عن مالك: »يسلم تلقاء وجهه "السلام عليكم"«.

... قال أشهب عن مالك أنه سئل عن تسليم المصلي وحده فقال: »يُسلم تسليمة واحدة عن يمينه«، فقيل: »وعن يساره؟«، فقال: »ما كانوا يسلمون إلا واحدة... «.

... قال أبو عمر: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها

 

(1/1967)

 

 

معلولة لا يصححها أهل العلم الحديث...

... وروي عن عثمان وعلي وابن عمر وابن أبي أوفى وأنس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن وابن سيرين وأبي وائل شقيق بن سلمة، ويحيى بن وثاب وأبي العالية، وأبي رجاء وسويد بن غفلة وقيس بن أبي حازم، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة. وقد اختلف عن أكثرهم فروي عنه التسليمتان كما رويت الواحدة. والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابراً عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم

 

(1/1968)

 

 

مراراً.

... وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين، متوارث عندهم. وكل ما جرى هذا المجرى، فهو اختلاف في المباح.

... ولذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة، ولا إنكار التسليمتين. بل ذلك عندهم معروف، وإن كان اختيار بعضهم فيه التسليمة الواحدة، وبعضهم التسليمتين على حسب ما غلب على البلد من عمل أهله. إلا أن الأعم والأكثر بالمدينة التسليمة الواحدة، والأكثر والأشهر بالعراق التسليمتان: السلام عليكم ورحمة الله على اليمين، السلام عليكم ورحمة الله

 

(1/1969)

 

 

على اليسار(1)، إلخ.

... وذكر في "الاستذكار" في شرحه لباب التشهد في الصلاة فقال: ذكر مالك في التشهد عن عمرو ابن عمرو عائشة وليس عنده منها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ولما علم مالك أن التشهد لا يكون إلا توقيفاً عن النبي، اختار تشهد عمر، لأنه كان يعلمه للناس على المنبر من غير نكير عليه من أحد من الصحابة، وكانوا متوافرين في زمانه، وأنه كان يعلم ذلك من لم يعلمه من التابعين وسائر من حضره من الداخلين في الدين، ولم يأت عن أحد حضره من الصحابة أنه قال:

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 296 ـ 297.

 

(1/1970)

 

 

ليس كما وصفت.

... وتشهد عمر هو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

... وبه أخذ مالك وأصحابه.

... وتشهد ابن مسعود ثابت من جهة النقل عند جميع أهل الحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده

 

(1/1971)

 

 

ورسوله. وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث. ...

... وأما الشافعي وأصحابه والليث بن سعد، فذهبوا إلى تشهد ابن عباس الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

 

(1/1972)

 

 

... وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً وموقوفاً نحو تشهد ابن مسعود، وروي عن علي أكمل هذه الروايات كلها.

... والذي أقول به ـ وبالله التوفيق ـ أن الاختلاف في التشهد وفي الأذان والإقامة وعدد التكبير على الجنائز، وما يقرأ ويدعى به فيها، وعدد التكبير في العيدين، ورفع الأيدي في ركوع الصلاة وفي التكبير على الجنائز وفي السلام من الصلاة واحدة أو اثنتين، وفي وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وسدل اليدين، وفي القنوت وتركه، وما كان مثل هذا كله اختلاف في مباح...

 

(1/1973)

 

 

... وكل ما وصفت لك قد نقلته الكافة من الخلف عن السلف، ونقله التابعون بإحسان عن السابقين نقلاً لا يدخله غلط ولا نسيان، لأنها أشياء ظاهرة معمول بها في بلدان الإسلام زمناً بعد زمن لا يختلف في ذلك علماؤهم وعوامهم من عهد نبيهم وهلم جرّا، فدل على أنه مباح كله إباحة توسعة ورحمة.

... وقد قال الإمام الشافعي في التشهد من قبل في مختلف الحديث(1).

... وقد روى أيمن بن نابل بإسناد له عن جابر عن النبي عليه السلام تشهداً يخالف هذا في بعض حروفه ـ أي تشهد ابن عباس ـ وروى

__________

(1) اختلاف الحديث مع الأم، ج 8، ص. 600.

 

(1/1974)

 

 

البصريون عن أبي موسى عن النبي عليه السلام حديثاً يخالفهما في بعض حروفهما، وروى الكوفيون عن ابن مسعود في التشهد حديثاً يخالفها في بعض حروفها فهي مشتبهة متقاربة.

... واحتمل أن تكون كلها ثابتة وأن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الجماعة والمنفردين التشهد فيحفظ أحدهم على لفظ، ويحفظ الآخر على لفظ يخالفه لا يختلفان في معنى أنه إنما يريد به تعظيم الله جل ثناؤه وذكره بالتشهد والصلاة على النبي فيقر النبي كلاًّ على ما حفظ وإن زاد بعضهم كلمة على بعض أو لفظها بغير لفظه لأنه ذِكْر. وقد اختلف بعض

 

(1/1975)

 

 

أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض لفظ القرآن عند رسول الله ولم يختلفوا في معناه فأقرهم وقال: »هكذا أُنزل. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه«. فما سوى القرآن من الذكر أولى أن يتسع هذا فيه إذا لم يختلف المعنى، وليس لأحد أن يعمد أن يكف عن قراءة حرف من القرآن إلا بنسيان، وهذا في التشهد وفي جميع الذكر أحق؛ وإنما قلنا بالتشهد الذي روي عن ابن عباس، لأنه أتمها وأن فيه زيادة على بعضها (المباركات).

 

(1/1976)

 

 

... وقال في "الرسالة"(1): »ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعاً...«.

... ولكن كيف صرت إلى اختيار حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد دون غيره؟

... قلت: لما رأيته واسعاً، وسمعنه عن ابن عباس صحيحاً، كان ذلك عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، فأخذت به، غير معنف لمن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

__________

(1) رقم 756، تحقيق أحمد شاكر، د. ت، د. م.

 

(1/1977)

 

 

... وقال أبو عمر في "الاستذكار"، في »باب العمل في جامع الصلاة« (1)، في شرح حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين.

... وقد اختلفت الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد وكرهها قوم لهذا الحديث، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى قوم يصلون بعد المغرب في المسجد، فقال: هذه صلاة البيوت، إلى أن قال: لا

__________

(1) الاستذكار، ج 6، ص. 266.

 

(1/1978)

 

 

خلاف بين متقدمي العلماء ومتأخريهم أنه لا حرج على من لم يصل بعد الجمعة ولا من فعل من الصلاة أكثر أو أقل، مما اختاره كل واحد منهم، وأما قولهم في ذلك على الاختيار لا على غير ذلك.

... وقال في صلاة الخوف(1): في شرح حديث نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف، قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو ولم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم

__________

(1) المصدر نفسه، ج 7، ص. 75.

 

(1/1979)

 

 

ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فتقوم كل من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين. فإن كان خوفاً أشدّ من ذلك، صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.

... قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر حدّثه إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

... وقد جاءت صلاة الخوف عن عدد من الصحابة بأسانيد صحيحة وحسنة:

... ـ ابن عباس

... ـ وأبي موسى الأشعري

... ـ وأبي هريرة

... ـ وابن مسعود

... ـ وسهل بن أبي حثمة

 

(1/1980)

 

 

... ـ وابن عياش الزرقي

... ـ وجابر بن عبد الله.

... ـ وحذيفة.

... ـ وأبي بكرة وخوات بن جبير وغيرهم، وبكيفيات مختلفة.

 

... قال أبو عمر في "التمهيد"(1): »وفي صلاة الخوف وجوه كثيرة. قال أحمد بن حنبل: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، هي كلها ثابتة، فعلى أي حديث صلى صلاة الخوف أجزأه ـ إن شاء الله«.

... وقال في "الاستذكار"(2): »كان أحمد بن حنبل، ومحمد بن جرير الطبري، وطائفة من أصحاب الشافعي يذهبون إلى جواز العمل بكل ما روي عن النبي -

__________

(1) التمهيد، ج 15، ص. 269.

(2) الاستذكار، ج 7، ص. 75.

 

(1/1981)

 

 

صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف، وهي ستة أوجه«.

... وقال الشافعي في "الرسالة"(1): »يحتمل أن يكون لما جاز أن تصلى صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف، جاز لهم أن يصلوها كيف ما تيسَّر لهم، وبقدر حالاتهم وحالات العدو إذا أكملوا العدد، فاختلف صلاتهم. وكلها مجزية عنهم«.

... وقد أكثر ابن عبد البر من هذا المصطلح عندما تصح عنده الآثار، ويجد كل إقليم من أقاليم الإسلام قد أخذ ببعضها.

__________

(1) الرسالة، ج 1، ص. 201.

 

(1/1982)

 

 

... وقال في "الاستذكار"(1): »اختلف العلماء في إدخال الحج على العمرة، والعمرة على الحج... « إلى أن قال: »والاختلاف هنا واسع جداً، لأنه مباح كله بإجماع من العلماء والحمد لله«.

... وأما الإمام الحازمي محمد بن موسى المتوفى 584 هـ، فقد قال في كتابه "النافع العمدة الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار"(2) وهو يتكلم عن سجود السهو بعد كلام طويل في الموازنة والمقارنة: »وأما بقية

__________

(1) الاستذكار، ج 11، صص. 137 ـ 139.

(2) النافع العمدة، تحقيق راتب حاكمي، مطبعة الأندلس، حمص، 1386 هـ/ 1966 م، ص. 117.

 

(1/1983)

 

 

الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولاً وفعلاً، فهي وإن كانت ثابتة صحيحة ففيها نوع تعارض. غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة، والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين«.

... أما الإمام ابن قيم الجوزية، فقد ظهر ذلك في كتابه القيم "زاد المعاد في هدي خير العباد"، وفي مواطن عديدة. وبعد استعراضه للنصوص والأدلة، آخذ نماذج من ذلك.

... قال في هديه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة(1)

__________

(1) تحقيق شكيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1402 هـ/ 1982 م، ج 1، ص. 201.

 

(1/1984)

 

 

: »وكان دأبه في إحرامه لفظة "الله أكبر" لا غيرها ولم ينقل أحد عنه سواها«.

... وكان يرفع يديه ممدودة الأصابع، مستقبلاً بها القبلة إلى فروع أذنيه، وروي "إلى منكبيه". فأبو حميد الساعدي ومن معه قالوا: حتى يحاذي بهما المنكبين، وكذلك قال ابن عمر، وقال وائل بن حجر: إلى حيال أذنيه، وقال البراء: قريباً من أذنيه، وقيل: هو من العمل المخير فيه، وقيل: كان أعلاها إلى فروع أذنيه، وكفّاه إلى منكبيه فلا يكون اختلافاً، ولم يختلف عنه في محل الرفع.

 

(1/1985)

 

 

... وقال في هديه في الصلاة كذلك(1) في القنوت: والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر وأسر، وقنت وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله... إلى أن يقول: ولا ريب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة وأن رسول الله فعله. وهذا ردّ على أهل الكوفة الذي يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها، ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة. فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء

__________

(1) زاد المعاد، ج 1، صص. 273 ـ 275.

 

(1/1986)

 

 

وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطّائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتركون حيث ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون فعله سنة وتركه سنة؛ ومع هذا، فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء وقد جمعهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه،

 

(1/1987)

 

 

ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر به الإمام أحياناً ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه، إلخ.

... وقال في سياق صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل(1) بعد أن استعرض ما جاء في النصوص عن السيدة عائشة أنه كان - صلى الله عليه وسلم -

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 330.

 

(1/1988)

 

 

إذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، أخرجه مسلم، وأخرج عن أبي هريرة بلفظ الأمر إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، وحديث ابن عباس، ومبيته عند خالته ميمونة عند مسلم كذلك قال: وكان قيامه بالليل ووتره أنواعاً، فمنها هذا الذي ذكره ابن عباس، النوع الثاني: الذي ذكرته عائشة أنه كان يفتتح ورده بركعتين خفيفتين ثم يتمم ورده إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة.

... النوع الثالث: ثلاث عشرة ركعة كذلك.

 

(1/1989)

 

 

... الرابع: يصلي ثمان ركعات يسلِّم من كل ركعتين ثم يوتر بخمس سرداً متوالية لا يجلس في شيء إلا في آخرهن.

... الخامس: تسع ركعات يسرد منهن ثمانياً لا يجلس في شيء إلا في الثامنة ثم يجلس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يصلي التاسعة ثم يعقد ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعتين جالساً بعدما يسلِّم.

... السادس: يصلي سبعاً كالتسع المذكورة، ثم يصلي بعدها ركعتين جالساً.

... السابع: أنه كان يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. فهذا رواه أحمد رحمه الله عن عائشة، أنه كان يوتر بثلاث لا فصل

 

(1/1990)

 

 

فيهن.

... وروى النسائي عنها: كان لا يسلم في ركعتي الوتر. وهذه الصفة فيها نظر. فقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحـ"ـه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا توتروا بثلاث أو توتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب. قال الدارقطني: »رواته كلهم ثقات... «إلى أن قال: »وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر. قال: يسلم في الركعتين؛ وإن لم يسلّم رجوت ألا يضره، إلا أن التسليم أثبت عن النبي «- صلى الله عليه وسلم -.

 

(1/1991)

 

 

... وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: إلى أي حديث تذهب في الوتر؟ قال: أذهب إليها كلِّها، مَنْ صلى خمساً لا يجلس إلا في آخرهن، ومن صلّى سبعاً لا يجلس إلا في آخرهن. وقد روي من حديث زرارة عن عائشة: يوتر بتسع لا يجلس فيها إلا في الثامنة(1). قال: لكن أكثر الحديث وأقواه: ركعة، فأنا أذهب إليه، قلت: ابن مسعود يقول ثلاثاً، إلخ.

... وقال في هديه في صلاة الكسوف(2):

__________

(1) صحيح مسلم، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، رقم 746.

(2) زاد المعاد، ج 1، ص. 450.

 

(1/1992)

 

 

... لما كسفت الشمس، خرج إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه، وكان كسوفها في أول النهار على مقدار رمحين أو ثلاثاً، فتقدم فصلى ركعتين قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة طويلة جهر بالقراءة ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فأطال القيام وهو دون القيام الأول. وقال لما رفع رأسه: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم أخذ في القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى، فكان في كل ركعة ركوعان

 

(1/1993)

 

 

وسجودان، فاستكمل في الركعتين أربع ركعات، وأربع سجدات...

 

إلى أن قال: »وقد روي أنه صلاها على صفات أخر منها: كل ركعة بثلاث ركعات، ومنها: كل ركعة بأربع ركعات، ومنها: كأحدث صلاة صليت كل ركعة بركوع واحد«.

... وعند أبي داود عن أبيّ بن كعب مرفوعاً خمس ركوعات في كل ركعة(1). ثم قال: وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها مراراً وأن الجميع جائز. فممن ذهب إليه: إسحق بن راهويه، ومحمد بن إسحق بن

__________

(1) سنن أبي داود، رقم 1182، وهو ضعيف.

 

(1/1994)

 

 

خزيمة، وأبو بكر بن إسحق الصبغي، وأبو سليمان الخطابي، واستحسنه ابن المنذر.

... وقال في هديه في الجنائز(1): وذكر الصلاة على الجنازة داخل المسجد وخارجه وذكر حديث عائشة أنه صلّى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد. وحديث أبي هريرة: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له(2).

... قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد. ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم

__________

(1) زاد المعاد، ج 1، صص. 500 ـ 502.

(2) أخرجه أبو داود وأحمد والطحاوي والبيهقي.

 

(1/1995)

 

 

الإنكار الدليل على جوازه... إلى أن قال: سنته - صلى الله عليه وسلم - وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. والله أعلم.

... وقال في الصلاة على الشهداء في "تهذيب السنن"(1): والصواب في المسألة أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذه الروايات عن الإمام أحمد، وهي الأليق بأصوله ومذهبه.

__________

(1) نقلاً عن حاشية زاد المعاد، ج 1، ص. 503.

 

(1/1996)

 

 

... وقال في صلاة الخوف بمثل ما تقدم عن ابن عبد البر والشافعي، وزاد إيضاحاً فقال: قال الإمام أحمد: كل حديث يروى في صلاة الخوف فالعمل به جائز... وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار واحداً منها؟ قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلِّها فحسن، وظاهر هذا أنه جوّز أن تصلي كل طائفة معه ركعة ركعة، ولا تقضي شيئاً، وهذا مذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله، وطاووس ومجاهد، والحسن وقتادة والحكم وإسحق بن راهوية.

 

(1/1997)

 

 

... بل وجدت ابن القيم في هديه - صلى الله عليه وسلم - في العمرة يقف موقفاً عجيباً يترك للمسلم التفكير والاختيار، لمّا صحت عنده النصوص فقال(1): والمقصود أن عُمَره كانت كلها في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين؛ فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك.

... وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان، فموضع نظر. فقد صح عنه أنه أَمَرَ أم معقل لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان وأخبرها

__________

(1) زاد المعاد، ج 2، ص. 95.

 

(1/1998)

 

 

أن عمرة في رمضان تعدل حجة. وأيضاً، فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان، وأفضل البقاع، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في عُمَره إلا أولى الأوقات وأحقها بها، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره. وهذه الأشهر قد خصَّها الله تعالى بهذه العبادة وجعلها وقتاً لها والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج، وذو القعدة أوسطها. وهذا مما نستخير الله تعالى فيه. فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه.

 

(1/1999)

 

 

... ثم نجد أن هذا المفهوم قد تردد عند الإمام النووي المتوفى 676 هـ والحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى 852 هـ في الكتابين الجليلين، وهي من أكثر كتب الإسلام قبولاً وانتشاراً: "شرح صحيح مسلم"، أو "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، و"فتح الباري شرح صحيح البخاري"، وناهيك بجلالتهما وقبول الناس لهما. فنجد على سبيل المثال فيهما وهو كثير:

... الإمام النووي في »كتاب الكسوف« يقول(1): وقال جماعة من العلماء منهم إسحق بن راهوية

__________

(1) انظر: النووي، الكسوف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، ج 6، ص. 199.

 

(1/2000)

 

 

وابن جرير وابن المنذر: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلاف صفاتها محمول على جواز جميع ذلك، فتجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهذا قوي والله أعلم.

... ويقول الحافظ ابن حجر عن ذلك: وهو من الاختلاف المباح(1).

... وقال الإمام النووي في شرح حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس؛ فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم

__________

(1) فتح الباري، المكتبة السلفية، د. ت، ج 2، ص. 532.

 

(1/2001)

 

 

يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.

... هذا الحديث أخذ بظاهره الأوزاعي وأحمد فيما حكاه القاضي عنهما، فأباحا ركعتين بعد الوتر جالساً.

... وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله، قال: وأنكره مالك، قلت ـ أي النووي ـ: والصواب أن هاتين الركعتين فعلهما - صلى الله عليه وسلم - بعد الوتر جالساً لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز النفل جالساً. ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قليلة(1).

__________

(1) المنهاج، ج 6، ص. 21، بتصرف يسير.

 

(1/2002)

 

 

... هذه نماذج مقتطفة قدمناها دارت على ألسنة أئمة كبار، وفي كتب جليلة لها وزن واعتبار تذكرة لنفسي ولأولي النهي والأبصار، تبين لنا مدى الرحمة والسعة في هذه الشريعة الغراء، والمنحة الإلهية البيضاء حتى لا نحجر ما وسع الله، ونضيق نطاق التفكير على الناس، أختهما بكلمة للإمام المجمع على جلالته ورسوخ قدمه في السنة وفقهها والشريعة الإسلامية عامة وأصولها الحافظ أبي عمر بن عبد البر، حيث قال في "الاستذكار"(1):

__________

(1) انظر: الاستذكار، ج 7، ص. 100.

 

(1/2003)

 

 

... وإنما يصير كل عالم إلى ما روى عن شيوخه ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلافاً بإباحة وتوسعة. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف مراراً فحكى كل ما رأى، كل صادق قد جعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالنجوم فكلهم في النقل من اقتدى به اهتدى.

... هذه نماذج من نصوص الحديث الصحيح، وهي تؤصل لجواز هذا الاختلاف المشروع المباح، فحري بكل باحث أن يتسع أفقه وتفكيره مع هذه التوسعة الشرعية ولا ينكر على من أخذ موقفاً آخر مشروعاً. ولعل هذا المبحث يدخل في باب مختلف الحديث

 

(1/2004)

 

 

وتعارض الأدلة، بل هو داخل فيها بكل تأكيد.

... وقال رحمه الله(1):

... ذكر أحمد بن سعيد عن أحمد بن خالد قال: كان عندنا جماعة من علمائنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث ابن عمر، ورواية من روى ذلك عن مالك، وجماعة لا يرفعون إلا في الإحرام على رواية ابن القاسم فما عاب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء. وسمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الله بن هاشم يقول: كان أبو إبراهيم إسحق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على حديث ابن عمر في "الموطأ". وكان أفضل من رأيت

__________

(1) الاستذكار، ج 4، صص. 101 ـ 102.

 

(1/2005)

 

 

وأفقههم وأصحهم علماً، فقلت لأبي عمر: لم لا ترفع فنقتدي بك؟ قال: لا أخالف رواية ابن القاسم، لأن الجماعة عندنا اليوم عليها ومخالفة الجماعة فيما قد أُبيح لنا ليس من شيم الأئمة.

 

(1/2006)

 

 

الاستعراب الإسباني الحديث من خلال كتابات فرانسيسكو كوديرا إي زايدين و فيديريكو كوريينتي كوردوبا

 

... ... ... ... ... الدكتور محمد القاضي

... ... ... ... طنجة

 

المدخل

... عرف القرن التاسع عشر مستعرباً كبيراً، أسس نهضة كبيرة في ميدان الاستعراب الإسباني، وأسدى خدمات جليلة للأدب الأندلسي. إنه العالم »فرانسيسكو كوديرا إي زايدين«، تلميذ المستعرب الكبير »غاينغوس«، وخليفته على كرسي الدراسات العربية في جامعة مدريد، وصاحب أشهر مدرسة استعرابية في إسبانيا. تخرج على يديه عدد من التلاميذ كان لهم فضل كبير في

 

(1/2007)

 

 

توجيه نظر الباحثين في إسبانيا إلى أهمية المرحلة الإسلامية في تاريخها، وهي مرحلة زاخرة ومزدهرة حضارياً وفكرياً.

... وقد أسس هؤلاء مدرسة أطلقوا عليها اسم »بني كوديرا« (Beni Codera)، مستخدمين في ذلك اللفظ العربي الذي شاع بين الإسبان وما زال قائماً في كثير من القرى الإسبانية التي تبدأ بلفظ beni، وهي منتشرة في الريف الإسباني بأسمائها هذه إلى اليوم (1).

__________

(1) انظر: مجلة الأندلس، المجلد 15، 1950، ص. 274.

 

(1/2008)

 

 

... وكان من أشهر تلاميذه: خوليان ريبيرا، وآسين بلاثيوس، وآنخيل غونثاليث بالينثيا، وغارسيا غوميث أبرزهم وأغزرهم إنتاجاً وفكراً (1).

كوديرا والاعتزاز بالنسب العربي

... نشأ كوديرا في قرية أندلسية بإقليم بلنسية. وبما أنه كان ابن فلاح، لم يكن له بد من أن يعيد الاشتغال بما تعوَّده: فقد كان في شبابه يغير أشكال آليات الحرث ويعدل أجهزة الجر والري ويباشر مزارع جديدة ويجلب الأسمدة المعدنية ويكتشف العيون والينابيع؛ إلا

__________

(1) انظر دراستنا عن إميليو غارسيا غوميث في مجلة الحرس الوطني، عدد سبتمبر/ اكتوبر 1996.

 

(1/2009)

 

 

أن موهبته كانت تبحث عن مجالها من بين عدة اختصاصات: الدراسات الكاثوليكية باللاتينية، وعلم اللاهوت المدرس بالجامعة، بالإضافة إلى الدراسات القانونية والعلمية واللغات الكلاسيكية حيث تعلم الإغريقية والعبرية والعربية التي أحبها ودرسها في غرناطة وسرقسطة ومدريد إلى أن تقاعد سنة 1902 م. ولم يجعل من دراسة اللغة العربية هدفاً لذاته، بل جعلها معبراً لفهم مرحلة هامة من مراحل تاريخ إسبانيا نفسها، ومن تاريخ الإسلام الذي اعتقدته قروناً وازدهر في تربتها، وفصل بين العلم والسياسة، بين الدراسات الموضوعية والتعصب

 

(1/2010)

 

 

الجامح. ووراء إصراره على البحث والدرس حب عميق لأهله ووطنه. فقد كانت ـ كما يقول الدكتور محمود علي مكي ـ تجري في عروقه دماء عربية زعمها لنفسه وأقام الحجة دونها، وجاهر بالانتساب إليها قومه وفاخرهم بأمسه(1).

... وكان الأمير شكيب أرسلان حين يتحدث عنه، ينطق الاسم في صيغته العربية »قديرة« ويبدو أن »كوديرا« من أصل عربي؛ وكان يقول إن »زايدين«، وهو اسمه الآخر، هو: »الزيديين« (2).

__________

(1) انظر استجواباً معه أجراه جهاد فاضل لمجلة الحرس الوطني، عدد فبراير 1993، ص. 111.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/2011)

 

 

... يقول الكاتب الموسوعي المكسيكي ألفونسو ريجيس:

... لقد عرف كوديرا كثيراً وعمل كثيراً، لكنه كان يطبق مبدأ الشك العلمي ويلقنه لتلامذته ويبتعد عن الأسلوب التخميني. وبالرغم من أنه كان أكثر كفاءة، فإنه كان يعلم أنه لم يكن مؤهلاً للخوض في التاريخ العام للحكم الإسلامي بإسبانيا، بل فضل أن يدشن، تبعاً لتعاليم غاينغوس، منهاج الدراسات العربية عن طريق أبحاث مونوغرافية ومساهمات متفرقة وترتيب المواد ونشرها. لم يقل قط إنه يعرف ما لم يكن يعرف ولم يسمح لتلامذته بذلك. وهكذا أمكنه أن يكون مدرسة حقيقية

 

(1/2012)

 

 

للمستعربين الذين ورثوا عن شيخهم تفانيه العلمي. لقد كان كرمه مثالياً: »كان يؤتي علمه من يطلبه منه«، كما يصفه ميننديث بيدال؛ كما أنه لم يزك نفسه في شيء. كان العلم الذي يخدمه كل همه، وتمكن بهذه التضحية والنزاهة أن يتغلب على تردد المسلمين في فتح كنوز مكتباتهم وأن يجلب من إفريقية معلومات لم يستطع أي عالم قبله أن يبلغها (1)

__________

(1) انظر: Retratos Reales E Imaginarios, Barcelona, 1984 (بالإسبانية). وقد قام بترجمة ما يتعلق بكوديرا إلى اللغة العربية الدكتور عبد الله اجبيلو، نشر في الملحق الثقافي لجريدة العلم، عدد 15/2/1997 م.

 

(1/2013)

 

 

.

 

كوديرا وخدمة التراث الأندلسي

... قام فرانسيسكو كوديرا بمجهود كبير في تحقيق المكتبة الأندلسية. فقد شرع في إعادة ترتيب مخطوطات الأسكوريال التي ألقي بها من النوافذ لإنقاذها من الحريق وأصبحت عبارة عن رزم مبعثرة من الأوراق: »فقد رتب هذه الصفحات حسب حجمها، وقام بعدّ سطور كل صفحة وقياس طول وعرض ما هو مكتوب بها. وبهذه المعطيات كون جدولاً منهجياً استطاع بواسطته أن يضبط كثيراً من الأوراق وأن يضمها إلى المخطوطات المنسوبة إليها« (1). كما قام بنشر مجموعة »المكتبة العربية الإسبانية«

__________

(1) المرجع نفسه.

 

(1/2014)

 

 

وعاونه في ذلك تلميذه خوليان ريبيرا، وقد صدرت في مدريد وسرقسطة 1883 ـ 1895 م (B. A. H. Ispa?a)، وتشمل عشرة أجزاء. وكان الدافع إلى ذلك هو الرد على مبالغات وافتراءات المستشرق الهولندي رينهارت دوزي الذي وصف استيلاء المرابطين على ممالك الطوائف وإنقاذ الأندلس من الفتنة والتمزق، بالخشونة والاستبداد وعدم المعرفة: »وإنهم أغاروا على البلاد وقضوا على الازدهار الحضاري والفكري الذي تمتعت به في عصر الطوائف«(1)

__________

(1) انظر: أنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، ص. 19. ولكوديرا دراسة عن دولة المرابطين بالأندلس أصدرها في سرقسطة سنة 1899 م أنصف فيها دولة المرابطين، وبين فضلهم في حماية الإسلام بالأندلس والحفاظ على منجزاته الحضارية في تلك البلاد.

 

(1/2015)

 

 

.

... وشكل كتاب "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم" لابن بشكوال، الجزء الأول والثاني من هذه المجموعة، ويحتوي على 1440 ترجمة في 650 صفحة ما عدا الفهارس. وقد ألف ابن بشكوال (494 ـ 578 هـ) خمسين تأليفاً في أنواع مختلفة أجلها كتاب "الصلة" وهو ذيل أكمل به "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، وضمنه سير طائفة من الأئمة والمحدثين والفقهاء وأهل الأدب من الأندلسيين. يقول في حقه ابن الأبار: »إنه منتهى ما يصل إليه الواصل في معاجم التراجم«، وقال: »سلم له أكفاؤه بكفايته فيه، ولم

 

(1/2016)

 

 

ينازعه أهل صناعته الانفراد به ولا أنكروا مزية السبق إليه، بل تشوفوا للوقوف عليه وأنصفوا في الاستفادة منه... وهو كتاب في فنه خطير القيمة ضروريّ الاستعمال، لا يستغني أهل الفقه عن التبليغ به والنظر فيه والاحتجاج منه«(1).

... أما الجزء الثالث، فهو كتاب "بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس: علمائها وشعرائها وذوي النباهة فيها" للضبي القرطبي، ويحتوي على 1595 ترجمة في 532 صفحة ما عدا الفهارس. وقد نشره كوديرا وريبيرا سنة 1885 م. وكان الضبي (توفي سنة 599 هـ) محدثاً بارعاً حسن

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 273.

 

(1/2017)

 

 

القراءة ذا قدرة عظيمة على فهم المتون وشرحها، وهو مشهور بكتابه "بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس"، وهو ذيل على "جذوة المقتبس" للحميدي وتصويب لما وقع فيها من أوهام... ويضم تراجم ـ موجزة في الغالب ـ لمن وفد على الأندلس وأقام بها من المشارقة، ومعلوماته التي يوردها تتفق في بعض الأحيان مع ما يذكره ابن بشكوال، مما يدل على أن مادته التاريخية عظيمة يوثق فيها. وقد أوجز الضبي في فاتحة كتابه "تاريخ الأندلس"(1).

__________

(1) المرجع نفسه، صص. 276 ـ 277.

 

(1/2018)

 

 

... والجزء الرابع هو "المعجم في أصحاب القاضي الإمام ابن علي الصدفي" لا بن الأبار، ويحتوي على 315 ترجمة في 324 صفحة ما عدا الفهارس. وقد نشره كوديرا وريبيرا سنة 1885 م. وهو يضم تراجم أصحاب أبي علي الحسين بن فيرة بن حيون ابن سكرة الصدفي السرقسطي (444 هـ ـ 516 هـ). وكان شيخاً جليلاً سمع منه ودرس عليه الكثيرون. قال ابن الأبار في فاتحة كتابه:

... سموت إلى جمع أسمائهم وإيراد أبيات تنم عن مكانهم، مما أمكن ذكره من أبنائهم مباهياً بهم وبعصرهم، ومناغياً أبا الفضل بن عياض في جمع شيوخه وحصرهم... وهم بين

 

(1/2019)

 

 

حاجب في الأخذ عنه راغب، وتلميذ على السماع منه راتب، ومن شيوخه من شذ، واعتقده في وقته الفذ، فكتب عن روايته، وخصه بحظ من عنايته، ذلك لاختصاصه بقربة هي ما هي، ورُتَبُهُ في العدالة بلغت التناهي...

أي أن الكتاب يصور لنا مدرسة كاملة بأستاذها وشيوخه وتلاميذه ورواته والآخذين عنه (1).

... الجزء الخامس والسادس هما كتاب "التكملة لكتاب الصلة" لابن الأبار. نشره كوديرا في مجلدين بين سنتي 1888 و1889 م. ويحتوي هذان المجلدان على 2125 ترجمة في 756 صفحة. سار فيه على نهج ابن بشكوال

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 274.

 

(1/2020)

 

 

واستدرك ما أغفل في كتاب "الصلة" وتمم ما نقص وجود ما اقتضب مما وقع إليه وترجح لديه(1). وقد قال المستشرق دوزي في حق ابن الأبار:

... إن ذلك المؤرخ الصادق كان يؤلف وتحت يديه وثائق على أكبر جانب من الأهمية، وهو يمتاز بملكة نقادة صحيحة قوية، ويمتاز إلى جانب ذلك بعاطفة جياشة تذكرنا بفحولة العرب القدماء وأسلوبهم في الحياة والإحساس، وهو شيء نادر بين معاصريه من المصنفين (2).

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) المرجع نفسه، ص. 279.

 

(1/2021)

 

 

لقد ترك الرجل أثراً كبيراً في الأوساط السياسية والأدبية، مما جعله شخصية ناجحة ولامعة ومحبوبة؛ وإن الهم الأندلسي ظل يلازمه إلى آخر نفس في حياته كما يقول الدكتور عبد السلام الهراس في إحدى دراساته عن ابن الأبار(1).

... الجزء السابع والثامن هما كتاب "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، وفيه 1400 عنوان. وهو كتاب ألفه مسلمو الأندلس في مجلدين يحتويان على 1766 ترجمة في 534 صفحة ما عدا الفهارس. وقد نشره كوديرا في سنتي 1891 ـ 1892 م:

__________

(1) انظر مجلة دعوة الحق المغربيّة، عدد 325، يناير 1997، ص. 69.

 

(1/2022)

 

 

... وكان ابن الفرضي (351 هـ ـ 403 هـ) من أهل قرطبة فقيهاً محدثاً خطيباً جماعاً للكتب حتى صار له منها خزانة عامرة. وقد ضاع بعض ما ألفه من الكتب، ولكن شهرته طارت بمعجم أعلامه المسمى "تاريخ علماء الأندلس". وهو أقدم معجم رجال عام بين أيدينا. بلغ فيه الغاية والنهاية من الحفل والإتقان. ويدل على حفله وإتقانه ما يذكره المؤلف نفسه من أنه سأل عن هذا التاريخ أو ذاك، أو قرأ شاهد قبر ليتحقق بنفسه من شيء، بل إنه يقرر بصراحة في كثير من المواضع أنه لم يجد شيئاً يستطيع أن يطمئن إليه(1)

__________

(1) تاريخ الفكر الأندلسي، مرجع سابق، ص. 271.

 

(1/2023)

 

 

.

 

... الجزء التاسع والعاشر كتاب "فهرسة ما رواه عن شيوخه أبو بكر بن خير الإشبيلي الأموي"، وهو في مجلدين من 463 صفحة. وقد نشره كوديرا وريبيرا عام 1895 م. وكان ابن خير (502 هـ ـ 575 هـ)، وهو إشبيلي واسع العلم بالحديث والنحو والأدب وأسماء الكتب، وكان أستاذ عصره، قال عنه ابن الأبار:

... كان من الأكفاء في تقييد الآثار والعناية بتحصيل الرواية، بحيث يأخذ عن أصحابه الذين شاركهم في السماع من شيوخه. وعدد من سمع منه أو كتب منه نيف ومائة رجل، قد احتوى على أسمائهم برنامج له ضخم في غاية الاحتفال والإفادة. لا

 

(1/2024)

 

 

يعلم لأحد من طبقته مثله… ولدينا من مؤلفاته الكتاب المسمى "فهرسة ابن خير"، وهو يضم أسامي كل من قرأه من الكتب في شتى العلوم، وأسماء شيوخه الذين درس عليهم وأجازوه، مرتبين حسب النواحي: إشبيليا وقرطبة وألمرية ومالقة والجزيرة الخضراء وغيرها من البلاد. وأهميته تتجلى في ذلك العدد العظيم من الكتب التي ذكرها، والمؤلفين الذين أثبت أسماءهم، مما لا نجده في غيره من المراجع (1).

وبهذه الفهرسة تمت هذه المجموعة القيمة من المصادر الأندلسية. وعلينا أن نتصور المجهود الجبار الذي بذل في

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 281.

 

(1/2025)

 

 

إخراج هذه الذخيرة إلى الوجود وتيسيرها للقارئ مادَّةً فكرية مفيدة، وخصوصاً عن تلك الفترة الصعبة في تاريخ إسبانيا. »ولئن عيب عليها تحريف وسقط، إنهما يغتفران لها إلى جانب العناية بطبعها وتنظيم فهارسها« (1).

... وفضلاً عن عمل التحقيق والنشر، انكب كوديرا على دراسة التاريخ الأندلسي ودور الأندلس الإسلامية في عملية تنظيم المعارف العربية ونقلها إلى أوربا دون تعصب أو ضغط كنسي أو سوء نية. ويقول: »إن العرب كانوا أكثر شعوب العصور القديمة والوسطى اهتماماً بالعلم

__________

(1) نجيب العقيقي، المستشرفون، ج 2، ص. 180.

 

(1/2026)

 

 

وأغزرهم تأليفاً في شتى صنوف المعارف«…. وكان يدعو إلى الاهتمام بالدراسات العربية في إسبانيا لا باعتبارها ترفاً استشراقياً، بل باعتبارها جزءاً من تراث إسبانيا الحضاري يمكن أن يفيد كثيراً في تجديد نهضة بلاده الفكرية (1).

... وبهذا يربط كوديرا بين الدراسات الأندلسية وواقع إسبانيا الثقافي والفكري في أيامه. فقد كان اتجاه كثير من المفكرين المنتمين إلى جيل 1898 م داعياً إلى ربط إسبانيا بالفكر الأوروبي. فإذا كوديرا

__________

(1) انظر: F. Codera, Estudios Criticos de Historia Arabe Espag?ola, Madrid, 1917, PS.

 

(1/2027)

 

 

يعلن دعوة مضادة تماماً لهذه، فيقول: »إن من الخطإ العمل على أوربة إسبانيا (أي صبغها بالصبغة الأروبية)، بل الواجب هو تعريب أوروبا، وعلى إسبانيا أن تسترد دورها الأندلسي القديم في هذا التعريب« (1). إنها دعوة جريئة في وقت كانت فيه البلاد العربية متخلفة ومطمعاً للدول الأوربية الاستعمارية.

... قام كوديرا برحلة إلى شمال إفريقيا في مهمة علمية بصفته أستاذ اللغة العربيّة بجامعة مدريد وعضو أكاديمية التاريخ، وذلك في أواخر القرن

__________

(1) المرجع نفسه؛ وانظر كذلك مجلة فصول المصرية، المجلد 3، العدد 1، ص. 215.

 

(1/2028)

 

 

الماضي، حيث تمكن من الاطلاع على المخطوطات العربية في الجزائر وتونس وقام باستنساخ بعضها، واقتنى عدداً كبيراً من المخطوطات العربية النفيسة التي يرتبط أكثرها بالتاريخ الإسلامي للأندلس. كما جمع قدراً كبيراً من النقود العربية الأندلسية وصفها في دراسة مهمة، اعتمد فيها الترتيب الزمني للأحداث الإسبانية العربية. وكان أول من كسر نطاق العزلة التي كان يعيشها الاستعراب الإسباني، فكان يراسل أحمد زكي باشا (شيخ العروبة). وكان هذا الأخير قد أهداه مصورة لمخطوطه جديدة من كتاب "التكملة" لابن الأبار لم يكن كوديرا

 

(1/2029)

 

 

قد اطلع عليها أثناء نشره لهذا الكتاب، فعهد بها كوديرا لأحد تلاميذه وهو أنخيل غونثليث بالينثيا. وقام هذا بنشر الزيادات الواردة في هذه المخطوطة، ومجموعة من الاستدراكات على الطبعة السابقة، وصدرت هذه الإضافات ضمن مجموعة من الدراسات العربية في مدريد سنة 1915 م.

... لقد كرس كوديرا حياته للعمل دون التزامات أو مرضاة أحد. إن توجهه الموسوعي العلمي مكنه من أن يحيط عمله بالحماس الفكري وحتى بالحرمان والجلد، فعاش طوال حياته متواضعاً كريماً مثاليّاً.

 

فيديريكو كوريينتي كوردوبا

 

(1/2030)

 

 

... من أنشط المستعربين الإسبان المعاصرين في ميدان الدراسات اللغوية والأدبية. ولد في غرناطة سنة 1940 م، ودرس في جامعة مدريد حيث نال الإجازة سنة 1962 م والدكتوراه سنة 1967 م. وكان موضوع أطروحته "مشكلات الجمع في اللغات السامية: جمع التكسير". شغل عدة مناصب جامعية في القاهرة والرباط وفيلادلفيا وسرقسطة ومدريد، وحاضر في جامعات أمريكية وألمانية وفرنسية، كما شارك في العديد من الندوات واللقاءات الثقافية داخل إسبانيا وخارجها.

 

(1/2031)

 

 

... يقرأ اللغة العربية ويفهمها ويتكلمها ويكتب بها وينظم الشعر بها، ويلتقطها في دقة حين يسمعها، ويعبر بها في وضوح حين يتحدث بها، وتأخذ حروفها مكانها الطبيعي من فمه وقعاً وموسيقي، وتجيء جمله عربية في تراكيبها. وهو، إلى جانب ذلك، يعرف شيئاً من أخواتها من اللغات السامية الأخرى قواعد وتاريخاً، متمكناً من عدد من اللغات الأوروبية، يجيد اللغة الأنجليزية… عاش سنوات في القاهرة وأكسبته نضجاً وصقلته مستشرقاً وأعدته لما يتهيأ له (1)

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، » المعلقات الإسبانية«، مجلة الدوحة، عدد 69، 1981، ص. 22.

 

(1/2032)

 

 

.

 

... يعتبر كوريينتي من المستعربين المشهورين بدراسته اللغوية، اشتغل بتأليف كتب قواعد اللغة العربية: »وكنت أول من وضع قواميس عربية إسبانية وإسبانية عربية، وألفت كتاباً في قواعد اللهجة الأندلسية، ونشرته بالأنجليزية ليصل إلى أكبر عدد من القراء«(1).

... وقد بذل مجهوداً كبيراً في إنجاز قاموسه الإسباني ـ العربي، بحيث لم يقتصر على ذكر الألفاظ المستعملة في الحديث فقط، بل أدرج كذلك المصطلحات العلمية والفنية والحقوقية

__________

(1) ... استجواب أجرته معه تيشرين المنيري، صحيفة الأهرام، عدد يوم 7/5/1983، ص. 12.

 

(1/2033)

 

 

والأدبية التي أصبحت زاداً لا غنى عنه للإنسان المثقف في مجتمع القرن العشرين. كما أورد عدداً من كلمات الدارجة في قارة أمريكا الجنوبية التي تتحدث اللغة الإسبانية وتستعملها في خطابها وكتبها. هذا، إضافة إلى البحث في علاقات الألفاظ العربية والإسبانية ومعانيها وتأثيراتها المتبادلة ومقارنتها في ضوء المبادئ اللغوية العلمية(1).

__________

(1) انظر مقدمته للقاموس باللغتين العربية والإسبانية، المعهد العربي للثقافة ـ مدريد. Instituto) (Hispano Arabe de Cultura, Madrid, 1970.

 

(1/2034)

 

 

... وقد تعمق كثيراً في دراساته عن مميزات العربية الأندلسية ومقارنتها باللهجات المغربية وتوصل إلى أن عدد المؤلفات الهامة المتعلقة باللهجة الأندلسية وأدبها الشعبي المطبوعة في النصف الثاني من هذا القرن يفوق ضعف إنتاج السنين المائة قبل هذه المدة المذكورة. فكان نتيجة هذا النشاط أن مراجع اللهجة الأندلسية التي كانت إلى منتصف القرن العشرين منحصرة في حدود محتويات مؤلفات »سيمونت« و»دوزي«، علاوة على بعض التعاليق على هامش ديوان ابن قزمان وكتاب شتيكر "ديوانا ابن قزمان والششتري"، ودراسات ذكر أهمها في فهرس

 

(1/2035)

 

 

المراجع المدرج في كتابه عن اللهجة الأندلسية الصادر في مدريد سنة 1977 م تحت عنوان "ملخص قواعد فصلية اللهجات الأندلسية".

 

... وتنقسم هذه المراجع إلى سبعة أصناف، وهي:

 

...

نصوص تعمد واضعوها تحريرها باللهجة لأغراض فنية خاصة، مثل ديواني الأزجال المذكورين أعلاه، ومجموعة الأمثال الشعبية لابن هشام وابن عاصم الزجالي التي اعتنى بنشرها أو درسها الدكتور الأهواني والمستعرب غارسيا غوميث والدكتور محمد بنشريفة.

نصوص لم يتعمد أصحابها تحريرها باللهجة، إلا أن كثيراً من ألفاظها وتعابيرها مخالفة للفصحى، لأن أصحاب

 

(1/2036)

 

 

هذه النصوص لم يتضلعوا من الفصحى. وهي تقع في أصناف متفاوتة الأهمية، من "كتاب الإسكندر" الذي نشره غارسيا غوميث إلى مجموعات مستندات قانونية متأخرة التاريخ متنوعة اللغة لمطابقتها النماذج التقليدية، مثل "مجموعة مستندات المستعربين الطليطليين" التي نشرها المستعرب غونثاليث بالينثيا وفيها ما يزيد على ألف وثيقة، إلى جانب رسائل شخصية قليلة الأسطر مثل التي نشرها هارفي ولاركون وسيكو دي لوثينا.

معاجم وكتب قواعد وتعاليم دينية من تأليف القساوسة المسيحيين لأغراضهم التبشيرية، مثل المعجم المنسوب إلى ريموند مارتي

 

(1/2037)

 

 

الذي نشره سيكا باريلي، وكتابي ألكالا في اللهجة الغرناطية، والمعجم المسمى "ليدن" الذي يعزوه كونخسفلد إلى أحد المستعربين الطليطليين الناطقين بالعربية المهتمين بتعليم اللاتينية في مدارسهم الدينية. وجميع هذه المراجع معروفة من قديم، وقد استعملها دوزي في ملحقه المشهور دون أن يستوفي محتوياتها.

الكتب في لحن العامة، منها تأليف الزبيدي الذي نشره رمضان عبد التواب، وكتاب ابن هشام اللخمي الذي اعتنى بدراسته ونشره الدكتور الأهواني وآخرون، وكتاب "الجمانة" الذي نشره الباحث الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب. وهي مراجع

 

(1/2038)

 

 

مهمة فيما يتعلق بالأصوات والمعجم، على أن إفادتها في الصرف والنحو قليلة.

مراجع تاريخية وجغرافية إسبانية تدرج فيها أسماء أماكن وأعلام عربية الأصل، ولا سيما منها أقدمها وأدناها من أصولها مكاناً وزماناً مثل وثائق التخطيط والإقطاع المسماة Repartimientos، التي كان ملوك النصارى يعقدونها عند استيلائهم على نواحي الأندلس. وقد نشر منها وثيقة لإقطاع الجزر الشرقية المنفردة بوقوعها في روايتها اللاتينية والعربية معاً، ووثائق بلنسية ومرسية وإشبيلية، وكشف الأوقاف بغرناطة، إلخ.

 

(1/2039)

 

 

مراجع معجمية محتوية للألفاظ العربية الأصل ومستعملة في لغات إسبانيا والبرتغال التي جمعها انكلمان ودوزي في تأليفهما المشهور تحت عنوان Glossaire des mots espagnols. وقد عقب عليه الأستاذ كوروميناس في تأليفه الضخم المسمى "قاموس أصول ألفاظ اللغة القشتالية".

أبحاث اللغويين المعاصرين في الأندلسيات. وهي قليلة، يغلب عليها الإيجاز. منها تأليف شتيكر المذكور، ومقالات لكولان، ولا سيما مقالاته المدرجة في مادة »الأندلس« بـ"دائرة المعارف الإسلامية".

 

(1/2040)

 

 

... إلا أننا نتبيّن من مطالعة فهرسة المؤلفات المختصة باللهجة الأندلسية وباللهجات العربية عموماً أنها مع زيادة عددها في السنين الأخيرة بقيت في مرحلة جمع المعلومات وأخذ اللغة من الناطقين بها؛ إذ هي عبارة عن مجموعات نصوص وأبحاث وصفية أو تحليلية مخصصة للهجة معينة، وقلما يوضع تأليف مخصص لمقارنة اللهجات العربية بالجملة أو داخل فصائلها.

... أما ما يتعلق باللهجة الأندلسية، فإنه حاول أن يجمع معلوماتها المشتتة في المراجع المذكورة أعلاه وألف وصفاً شاملاً لمميزاتها سماه "ملخصاً"، لأنه لم يقصد الاستيفاء

 

(1/2041)

 

 

بتأليفه، وإنما اكتفى فيه باحتوائه على ما قل ودل. ومع ذلك، فإن عنايته فيه بالوصف أكثر منها بالمقارنة.

... ومن مميزات اللهجة الأندلسية في نظره على المستوى الفونولوجي إمالة الألف في غير جوار حروف التفخيم. وقد تكون هذه الإمالة ضعيفة يقتصر تأثيرها على التقليل من انفتاح الألف المعتاد، أو تكون شديدة تحولها إلى ياء. وتعد الإمالة من خصائص جميع اللهجات العربية المغربية القديمة من مالطة وصقلية إلى الأندلس؛ كما يبدو أنها كانت موجودة في فصيلة قديمة من لهجات الشرق حسب معلومات النحاة العرب عن لهجات نجد وثبوت

 

(1/2042)

 

 

وجدوها في كلام أهل العراق قبل غزو المغول الذي قضى على سكان جنوبها وأدى إلى استبدال قبائل واردة من جزيرة العرب بهم.

... ومن مميزاتها أيضاً المحافظة على الفتح الذي تليه ياء أو واو ساكنتان، مثلاً في بيت ولون. وهي قديمة غريبة في اللهجات المغربية، لا نكاد نجدها إلا في المالطية. كما أن من خصائص الكلام الأندلسي تحويل الضاد المجهورة إلى طاء مهموسة في بعض الألفاظ. وقد ذكر الدكتور بنشريفة أنها ظاهرة كثيرة الوقوع في كلام المغاربة الأندلسيي الأصل إلى اليوم، وتنعكس في بعض الألفاظ الأندلسية وأسماء أماكن

 

(1/2043)

 

 

عربية الأصل في الأندلس: مثلاً، Arriate، أي الرياض في مقاطعة مالقة (Malaga) وRbatine، أي الربضيون في ضواحي بلنسية (Valencia). ويرى أن كثيراً من خصائص كلامهم ـ أي أهل الأندلس ـ تشاركهم فيها اللهجات المغربية، إما أن يكون ذلك لرجوعها معاً إلى أصل مشترك، وإما أن يكون نتيجة التأثير بالجالية الأندلسية المهاجرة إلى العدوة حيث كان لها الدور المشهور في ترسيخ الشخصية التاريخية المغربية المدافعة عن ذاتها من العجم والأتراك على أساس الإسلام والعروبة(1)

__________

(1) بتصرف عن محاضرة ألقاها بمدينة الرباط في شهر يونيو 1981. وقد نشرت في حلقتين بالملحق الثقافي لجريدة العلم، العددين 572 و573، 24 يوليوز 1981 و31 يوليوز 1981.

 

(1/2044)

 

 

.

 

فيدريكو كورينيتي وابن قزمان:

... من الأعمال المهمة التي يشهد له بدقتها وتفوقها تحقيق ودراسة ديوان الشاعر الأندلسي ابن قزمان (461 ـ 555 هـ) نصاً ولغة وعروضاً. واعتبر دارسو الأدب الأندلسي ديوانه »الصورة الحية« والفنية المتكاملة والمعبرة عن الجمال والتطور اللذين وصل إليهما شعر الأندلس والتي صورت بصدق ومعاناة وقابلية فذة حياة المجتمع الذي ولد وعاش فيه سواء في مدينة قرطبة أو المدن الأندلسية الأخرى حيث عرف حبه للتجول والغناء ومشاركة الناس احتفالاتهم ومهرجاناتهم الشعبية على الرغم مما كان يعانيه من

 

(1/2045)

 

 

فقر وجوع(1).

... وقد عثر على ديوانه في بلدة صفد الفلسطينية، فقدم له كوريينتي بدراسة وافية حول لغة ابن قزمان باعتبارها الموضوع الذي اختلف حوله. فمنهم من ذهب إلى أن لغته كانت فصيحة مع لحن كثير، بينما ذهب آخرون إلى أنها لهجة أندلسية. وقد توصل المحقق من خلال هذه الدراسة إلى أن لغة ابن قزمان إنما هي لهجة أندلسية لها قواعد خاصة، وأما عروضه وهو الموضوع الآخر الذي أثار جدلاً بين الباحثين حيث ذهب الدكتور عبد

__________

(1) عطاطة التكريتي، »ابن قزمان مغني قرطبة الضائع«، مجلة الجامعة العراقية، عدد 5، 1981، ص. 94.

 

(1/2046)

 

 

العزيز الأهواني إلى أنها عروض خليلية مع ضرورات عديدة. وذهب إميليو غارسيا غوميث إلى أنها عروض من النوع الرومانثي الذي يستعمله شعراء شبه الجزيرة الإبيرية على اختلاف لغاتهم. أما كوريينتي، فقد توصل إلى أنه على أساس قواعد لغة ابن قزمان فإن عروضه عربية الأصل، غير أن الإيقاع فيها لا يقوم على تناول المقاطع المحدودة والمقصودة الذي هو قوام الشعر العربي، بل على تسلسل مقاطع منبورة وغير منبورة. وفي تحقيقه لنصوص الديوان بيَّن عروض كل قصيدة، وشرح معنى كل كلمة غامضة؛ كما أنه أضاف تعليقات وإضافات وكتب فصلاً عن

 

(1/2047)

 

 

النصوص بالأحرف اللاتينية(1).

... كذلك قام بترجمة دقيقة للمعلقات إلى اللغة الإسبانية:Las Muiallaqat: Antologia, Panorama de Arabia Preislamica ["المعلقات: مختارات وصور للجزيرة العربية قبل الإسلام"]. ويعترف:

 

... بأنه بدأ بترجمته هذه منذ زمن غير قصير، وأنه عايش الشعر الجاهلي زمناً طويلاً وفتن بما فيه من صور شعرية

__________

(1) نشر الديوان المعهد الإسباني العربي للثقافة بمدريد، 1980.

Gramatica Metrica y Texto del Cancionero Hispano Arabe de Aban Quzman,

an Instittuto Hispano Arabe de Cultura, Madrid, 1980.

 

(1/2048)

 

 

دقيقة، ومن موسيقى رقيقة، ومن واقعية تأخذ بالألباب، وأنه انتهى من مسودة الترجمة الأولى في القاهرة عام 1965 م. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف عن العودة إليها مهذباً، ومدققاً في ضوء نضجه، وتجاربه، وتطور دراساته، واتساع معارفه اللغوية في المجالين العربي والإسباني. ولم تأخذ شكلها النهائي إلا بعد ذلك بأعوام ستة، أو على التحديد في عام 1971 م، ليقوم المعهد الإسباني العربي في مدريد بطبعها بعد ذلك بثلاث سنوات.

... وقدم للترجمة بدراسة أدبية وأخرى تاريخية، وانتهى إلى أن البدوي العربي توصل بطريقة عفوية تدعمها

 

(1/2049)

 

 

الدراسات الحديثة إلى حل قضية الشكل والمضمون، لأن كلمة »شعر« تعني المعرفة والشعور، وإن شئت المعنى والإحساس به… وتعتبر هذه الدراسة الفذة هي الأولى في اللغة الإسبانية التي تدرس شعرنا الجاهلي و"المعلقات" بصفة خاصة. وأقر صادقاً وعلى وعي أنها من أدق التراجم التي نقل إليها في اللغات الأجنبية(1).

 

... وكان المستشرق الأنجليزي وليم جونز (مؤسس علم الاستشراق بمعناه الحديث) قد قام بترجمة "المعلقات السبع" ونشرها عام 1782، وكانت

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، »المعلقات الإسبانية«، مجلة الدوحة، عدد 69، 1981، ص. 22 و24.

 

(1/2050)

 

 

تلك أول مرة تترجم فيها المعلقات كاملة إلى لغة أوربية حديثة، بحيث قام بنقل القصائد بألفاظها العربية إلى الحروف اللاتينية ونشرها في الصفحة المقابلة للنص المترجم، آملاً بذلك أن ينقل إلى قارئه صورة مقربة من موسيقى الشعر الجاهلي وجماله، كما حرص على أن يدرك القارئ الأنجليزي جلال اللفظ العربي وفخامته. إضافة إلى هذه الأعمال الجليلة، فقد قام كذلك كما يقول:

... بتحقيق للششتري وابن زمرك وابن الخطيب، وشاركت مع زملائي في تحقيق المجلد الخامس من كتاب "المقتبس" لابن حيان. لكنني لا أعرف ما الذي جذبني لدراسة

 

(1/2051)

 

 

الأدب العربي، وإن كان قد لفت نظري أن إسبانيا تعربت تماماً بعد أن دخلها العرب عكس ما نجده مثلاً في دولة كفارس التي لم تتغير لغتها بدخول العرب(1).

ويرى أن أفضل نتاجات الثقافة العربية لم تظهر في القرن العشرين أو التاسع عشر، بل ظهرت في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، حيث كانت الثقافة العربية في قمة ازدهارها. وتلك الثقافة بشكل أو بآخر ما زالت صالحة، وليس من الصحيح اعتبارها من الموضة القديمة.

__________

(1) ... استجواب أجرته معه تيشرين المنيري، صحيفة الأهرام، عدد يوم 7/5/1983، ص. 12 (مرجع سابق).

 

(1/2052)

 

 

الاستعراب الإسباني والتراث الأندلسي من خلال ثلاثة نماذج: خوان أندريس ـ غاينغوس ـ ريبيرا

... ... ... ... ... ... الأستاذ محمد القاضي

... ... ... ... ... ... ... طنجة

 

تحديد المصطلح: استشراق أم استعراب؟

... يرفض الكثير من الإسبان المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية نعتهم بالمستشرقين ويفضلون بدلها كلمة »الاستعراب« ((Arabistas نظراً لأنهم كلهم نذروا حياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه الجزيرة الإيبيرية بصفة خاصة دون أن يهتموا بلغات شرقية أخرى كالفارسية والتركية

 

(1/2053)

 

 

والأردية وغيرها، إلا ما كان من طرف بعض الباحثين المعاصرين وهم قلة. ويلح المستعرب بيدرو مارتينث مونتابيث على استعمال »كلمة "الاستعراب" (Arabista)، لأن الدراسات التي بدأت في إسبانيا وازدهرت منذ وقت طويل كانت الدراسات العربية، ولا توجد منذ بداية هذه الدراسات دراسات في التركية وفي الصينية والهندية وكلها تدخل في الاستشراق« (1).

__________

(1) الاستجواب الذي أجرته معه مجلة "الوطن العربي"، عدد 328، يونيو 1983، صفحة 73.

 

(1/2054)

 

 

... ويرى الدكتور محمود صج »أنه يجب التمييز بين المستعربين والمستشرقين في إسبانيا. المستعربون هم الذين يهتمون بالدراسات العربية الإسلامية، وبخاصة الأندلسية منها، والمستشرقون هم الذين يهتمون بقضايا الشرق على العموم، وبخاصة قضايا الشرق الأقصى«(1).

... والاستعراب استعمال قديم. فقد استعمله ابن الفرية، وهو من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة. فإنه قال لما سأله الحجاج عن أهل البحرين: »نبط استعربوا«؛

__________

(1) الاستجواب الذي أجرته معه مجلة "الفكر العربي المعاصر"، عدد مزدوج 4 ـ 5، سنة 1980، ص. 165.

 

(1/2055)

 

 

قال: »فأهل عمان«؛ قال: »عرب استنبطوا«، وذلك يكون إما لغة أو انتساباً أو لعلاقة أخرى(1).

... أما في الأندلس، فقد أطلقت كلمة »المستعربة« أو »المستعربين« Mozarabes)) على العناصر المسيحية التي استعربت في لغتها وعاداتها، ولكنها بقيت على دينها محتفظة ببعض تراثها اللغوي والحضاري. وقد كفلت لهم الدولة الإسلامية حرية العقيدة، فأبقت لهم كنائسهم وأديرتهم وطقوسهم الدينية التي كانت تقام باللغة اللاتينية، كما كان لهم

__________

(1) محمد الطنجي، »من أطوار الاستشراق ومراميه«، مجلة دعوة الحق، عدد 7، السنة 13، 1970، ص. 23.

 

(1/2056)

 

 

رئيس يعرف بـ»القومس« (Gomez) وقاضٍ يعرف بقاضي العجم أو النصارى، يفصل في منازعاتهم بمقتضى القانون القوطي(1).

... وقد وصف ألبارو (Alvaro) ونفسه تقطر حزناً وألماً فقال:

... إن إخوتي في الدين وأبناء رعيتي يتذوقون الأشعار والروايات العربية ويتعمقون في دراسة الفلاسفة المسلمين. وليت انصرافهم هذا يؤدي إلى مساعدتهم على

__________

(1) أحمد المختار العبادي، »الإسلام في الأندلس«، مجلة عالم الفكر، عدد 2، 1979، ص. 94؛ وانظر كذلك أسعد حومد، محنة العرب في الأندلس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ لبنان، ص. 121.

 

(1/2057)

 

 

دحض المذاهب الإسلامية أو الرد عليها، بل على العكس لكي يتمكنوا من هذه اللغة ومن آدابها وليجيدوا استعمالها أحسن فأحسن… أين نجد الآن علمانياً واحداً نصرانياً يقرأ الأناجيل أو حياة القديسين وأعمال الرسل والأنبياء؟ آه ويا للأسف! إن الشباب المسيحي الذي تميز بذكائه وعبقريته لا يجد اللذة والمتعة الروحية إلا في قراءة الكتب العربية وآدابها وينفقون الأموال الطائلة على شراء هذه الكتب وتشكيل مكتبات ضخمة، وينادون على رؤوس الأشهاد: أن لا آداب توازي الآداب العربية… كلموهم عن الكتب المسيحية يجيبوكم بازدراء:

 

(1/2058)

 

 

»إنها لا تستحق الانتباه...«. آه ما أتعسنا! إن المسيحيين منا قد نسوا لغتهم، وبين ألف شخص منهم لا يوجد واحد يحسن كتابة رسالة إلى صديقه باللغة اللاتينية، ولكن إذا طلبته للكتابة باللغة العربية أجاد كل الإجادة بحيث أن الكثيرين من إخواننا في الدين يحسنون اللغة العربية أفضل من العرب أنفسهم (1).

... ولقد أدَّى هؤلاء دوراً مهماً في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الممالك المسيحية بشمال إسبانيا وجنوب فرنسا، وكانوا أداة وصل

__________

(1) سيمون الحايك، عبد الرحمن الأوسط، المطبعة البولسية، بيروت، ص ص. 166 ـ 167.

 

(1/2059)

 

 

بين شطري إسبانيا، ولم ينقطعوا عن التنقل بين أراضي المسلمين وأراضي النصارى في الشمال. فعملوا بذلك على نشر الثقافة الإسلامية بين أهل الشمال، وبخاصة عن طريق ترجمة كتب المسلمين، وشاركهم في ذلك اليهود حيث اضطلعوا بدور كبير في ترجمة المصنفات العربية إلى اللاتينية والقشتالية، مما جعل الفقيه الإشبيلي ابن عبدون ـ في القرن الثاني عشر الميلادي ـ يدعو إلى ألاَّ »يباع من اليهود ولا من النصارى كتاب علم إلا ما كان من شريعتهم. فإنهم يترجمون كتب العلوم وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم، وهي من تواليف المسلمين«(1)

__________

(1) ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص. 57؛ »الإسلام في الأندلس وصقلية وأثره في الحضارة والنهضة الأوربية«، إعداد قسم البحوث والدراسات بمجلة رسالة الجهاد الليبية، عدد 57، 1987، ص. 84.

 

(1/2060)

 

 

.

ومع مرور الزمن وتطور مفهوم »الاستعراب« وصيرورته ذا طابع علمي

 

... يختص بدراسة حياة العرب وما يتعلق بهم من حضارة وآداب ولغة وتاريخ وفلسفات وأديان وله أصوله وفروعه ومدارسه وخصائصه وأتباعه ومنهجه وفلسفته وتاريخه وأهدافه. والمستعرب هو عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب وبلاد العرب أو باللغة العربية والأدب العربي، أو بالأحرى المستعرب هو من تبحر من غير أهل العرب في اللغة العربية وآدابها وتثقف بثقافتها وعني بدراستها (1)

__________

(1) سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف، 1980، ص. 34؛ وانظر منير البعلبكي، المورد، دار العلم للملايين، بيروت، ص. 58.

 

(1/2061)

 

 

.

 

... ومهما يكن من أمر، فإن إسبانيا تميزت عن غيرها من الدول الأوربية الأخرى التي تدين بالشيء الكثير لإسبانيا العربية بأنها كانت سباقة إلى الاحتكاك بالعرب والاستفادة من حضارتهم وثقافتهم، مما جعلها تتبوأ مكانة خاصة في ميدان الاستعراب بصفة عامة؛ كما أن اهتمام الإسبان اتجه بالدرجة الأولى إلى دراسة الثقافة والفكر العربي الإسلامي الذي أنتجته العبقرية الأندلسية فأدوا للتراث العربي والإسلامي خدمات لا تنكر سواء بأبحاثهم ودراستهم الجادة أو بتحقيقاتهم للتراث الأندلسي واكتشاف مصادره ونفض غبار الإهمال عن

 

(1/2062)

 

 

كثير من المؤلفات المهمة التي لولاهم ما رأت النور؛ كما قاموا بوضع فهارس يستفيد منها الباحثون والمهتمون بالتراث الأندلسي.

 

I ـ خوان أندريس (1740 ـ 1817) والتأثير العربي في الثقافة الإسبانية

... كتب الكثير عن التأثير العربي الإسلامي في الثقافة الغربية وتناول الباحثون والمهتمون هذا الموضوع بالدراسة والتحليل والمقارنة، فأبرزوا الدور الهام الذي لعبته الثقافة العربية الإسلامية بصفتها ثقافة إنسانية متطلعة إلى أفق أخلاقي رفيع المستوى، يعطي الحضارة امتدادها الإنساني، ويرتقي بمستوى الطموح البشري ليجعله

 

(1/2063)

 

 

طموحاً بانياً ومعبراً عن كرامة الإنسان وسمو وعيه. وقد حظيت هذه الثقافة بالتقدير والإعجاب من طرف الشعوب التي ارتبطت بالإسلام ديناً وثقافة وحضارة. ويعتبر الراهب الإسباني خوان أندريس (Juan Andres) أول من أشار إلى الأثر العربي في الثقافة الإسبانية خاصة والأوربية عامة. فقد ألف كتاباً عن أصول الأدب عامة وتطوراته وحالته الراهنة باللغة الإيطالية ونشره في سبعة مجلدات، وذلك بين سنتي 1782 و1798 وترجمه إلى الإسبانية بين سنتي 1784 و1806)، وهو بعنوان: Origen progresos y estado actual de toda la letteratura.

 

(1/2064)

 

 

وقد فجر فيه الكثير من القضايا الأدبية والفكرية والتاريخية: »وأعلن أن كل ما بلغته أوربا من نهضة في العلوم والفنون والآداب إنما كان بفضل ما تلقته من العرب عن طريق الأندلس وصقلية الإسلامية«(1).

... وقال أندريس:

... بينما تصرف المدارس الكنسية جهدها إلى تلقين الناس الأناشيد الدينية، وتعلمهم القراءة وعد الأرقام، وبينما نجد الناس في فرنسا كلها يهرعون إلى متز وسواسون يكتب أناشيدهم الكنائسية لكي يقوموها

__________

(1) الدكتور محمود علي مكي، محاضرة ألقيت بجامعة قطر، ثمار الفكر، الموسم الثقافي السادس، 1980، ص. 128.

 

(1/2065)

 

 

على النحو المتبع في كنائس روما، نجد العرب يبعثون السفارات لاستجلاب الكتب القيمة ما بين إغريقية ولاتينية، ويقيمون المراصد لدراسة الفلك، ويقومون بالرحلات ليستزيدوا من العلم بالتاريخ الطبيعي وينشئون المدارس لتدرس فيها العلوم بشتى صنوفها (1).

... والجدير بالذكر أن أحكام الراهب خوان أندريس هذه قد أسسها على كتاب العالم اللبناني الماروني ميخائيل الغزيري (Miguel Casiri) (1701 ـ 1791) الذي استدعته الحكومة

__________

(1) آنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، ص. 533.

 

(1/2066)

 

 

الإسبانية إلى مدريد سنة 1738 م وعينته موظفاً في المكتبة الملكية بمدريد، ومديراً مساعداً لمكتبة الأسكوريال، ومترجماً للملك في اللغات الشرقية وعهدت إليه الحكومة الإسبانية منذ البداية بالمهمة الرئيسة التي دعته إلى القيام بها، وهي دراسة المجموعة العربية بالأسكوريال والتعريف بها، ونزل الغزيري بقصر الأسكوريال في سنة 1749 ولبث مقيماً به حتى سنة 1753 م. وفي سنة 1760 م أصدر الجزء الأول من فهرسه اللاتيني الشهير بعنوان "المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال". واتبع في وضعه قاعدة التركيز، وهي تدور حول

 

(1/2067)

 

 

المواد والتحليلات، وجرى على أسلوب الاقتباسات الموجزة والمطولة في إبراز قيمة المخطوطات ذات الأهمية الخاصة وترجمة هذه الاقتباسات إلى اللاتينية(1).

... وتتلخص أفكار هذا الراهب في أن كل ما هو موجود في أوربا من الحضارة إنما يدين للعرب وإلى المسلمين، وأن الفضل في قيام الدراسات الطبية في أوربا يرجع إلى ما كتبه العرب، وأن قيام التأليف العلمي في أوربا

__________

(1) انظر ذلك بالتفصيل في "كتاب العربي"، الكتاب العشرون، يوليو 1988، "أندلسيات محمد عبد الله عدنان" ـ نفائس المكتبة العربية في الأسكوريال، ص ص. 212 ـ 219.

 

(1/2068)

 

 

في الطب والرياضيات والعلوم الطبيعية مرجعه إلى العرب. وتأييداً لرأيه ذكر أسماء: Gerberto وCampamo Denovara وAdelardo وAlfonso Elsabio وMoraly وBath، وقال إنهم أعلام حركة انتقال علوم العرب إلى أروبا وذهب إلى أن روجر باكون استقى مادة مؤلفه عن العدسات (anteojos) من الكتاب السابع من "أوبتيكا" للحسن بن الهيثم، وأن فيتاليون اختصر النظريات التي أودعها ذلك العالم المسلم في الكتاب نفسه وشرحها، وأن ليوناردو بساما أخذ علم الجبر من مؤلفات العرب، ونقل عنهم الأرقام العربية وأدخلها إلى أروبا، وعلمها لأهلها،

 

(1/2069)

 

 

وأن جيربرت درس علم الحساب العربي في إسبانيا الإسلامية وأدخله إلى المدارس الأوربية، وأن Ronaldo di Villanova تلقى تعليمه كله في إسبانيا الإسلامية على أيدي العرب وعن كتبهم ومدارسهم أخذ المعارف النافعة في الطب والكيمياء التي نشرها في أوربا.

... وذهب أندريس كذلك إلى أن الفيلسوف الكتلاني Lulio مدين للأدب العربي في كثير، وأن أعلام الطب الأوربي قبل النهضة أمثال جلبيترو وجيرالمو إنما نهلوا من كتب العرب، ومن مؤلفات أبي القاسم الزهراوي على وجه الخصوص، وأن بيير دانييل هوست ذهب إلى أن ديكارت أخذ عن أعلام

 

(1/2070)

 

 

الفكر الإسلامي مبدأه الرئيس الذي يقول: »إن كل من يستطيع أن يفكر فهو موجود«، وأن كبلر استوحى اكتشافه الأفلاك الدائرية للكواكب من كتابات البطروجي، وأن بعض آراء سانتو توماس في الإلهيات مستقاة من كتب العرب »ولو لم يكن للعرب من الفضل إلا الاحتفاظ بذخائر العلوم التي أهلتها الشعوب الأوروبية ونقلها، وإيداعها أيدي الناس عن طيب خاطر لاستحقوا من أهل الأدب المحدثين الشكر والعرفان«. أما عن إسبانيا الإسلامية خاصة، فقد أشار أندريس إلى حقيقة خطيرة أثبتها البحث العلمي فيما بعد، وهي أن الناس في الأندلس كانوا

 

(1/2071)

 

 

يستعملون لغتين دارجتين: إحداهما عربية والأخرى »رومانثية« (romance)، وأن كتدرائية طليطلة تضم مئات الوثائق باللغة العربية، خلفها النصارى الذين كانوا يستخدمون العربية في حياتهم.

... وذهب إلى أن الشعر الإسباني إنما نشأ أول أمره تقليداً للشعر العربي، وانتهى إلى هذا الرأي استنتاجاً وقال: إن اختلاط النصارى والمسلمين من الطبيعي أن يدفع الأول إلى تقليد الآخرين، ويمضي مع تفكيره المنطقي. وصور هذا الشعر وقوالبه حرية بأن تنتقل إلى بروفانس عن طريق الصلات المتبادلة بين الفرنسيين والإسبان ـ نصارى ومسلمين ـ

 

(1/2072)

 

 

وتجوال شعراء التروبادور، فنشأ الشعر البروفانسي على أساس من الشعر العربي، فهو ينتسب إلى العرب أكثر مما ينتسب إلى اليونان واللاتين، إذ لم يكن لدى البروفانسيين علم بهذين الأدبين في حين أن شعر العرب كان أقرب إليهم مورداً.

... ويؤكد أن قواعد القافية التي اتبعها الشعر الشعبي، إسبانياً كان أو بروفانسياً، وأساليب صياغة الشعر الحديث ونظمه مأخوذة عن العرب؛ وكذلك قصص الخرافات والحكايات ترجع في نشأتها إلى أصول عربية.

 

(1/2073)

 

 

... وقد بقيت هذه الإشارات المجملة التي كتبها خوان أندريس دون إثبات مؤكد في عصره، لأن شيئاً من آثار الأندلسيين لم يكن قد نشر إذ ذاك. أما اليوم وبعد قرنين من الزمن على صدور كتابه، فإننا نستطيع أن نذكر الكثير عن أثر المسلمين في آداب من جاء بعدهم من الشعوب الأوربية وخاصة الإسبان(1).

... إن هذه الآراء والأحكام والجرأة على كتابتها ونشرها في ذلك الوقت من طرف راهب منفي، لأنه طرد من إسبانيا عام 1765 لأسباب داخلية متعلقة

__________

(1) آنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ص ص. 534 ـ 536.

 

(1/2074)

 

 

بخلافات داخل التنظيم الكنيسي المسيحي، ما كان لها لتقبل وخصوصاً من طرف معاصريه الذين عارضوا آراءه واعتبروها من نسج الخيال ونشطوا في الرد عليها سواء في إيطاليا أو في باقي الدول الأوربية.

 

II ـ باسكوال دي غايَنْغُوس (1809 ـ 1897 م) باعث الدراسات العربية والإسلامية في إسبانيا

... يعتبر باسكوال دي غاينغوس ((Pascual de Gayangos المؤسس الحقيقي للاستعراب العلمي الإسباني الحديث. فقد أمضى طفولته في باريس حيث درس على المستشرق الفرنسي المشهور دي ساسي (De Sacy) مدة ثلاث سنوات انتقل بعدها إلى لندن ومنها عاد

 

(1/2075)

 

 

إلى إسبانيا وبعدها إلى لندن، ومنها إلى إسبانيا.

... في سنة 1833 عين غاينغوس مترجماً في وزارة الخارجية الإسبانية، وفي سنة 1843 عين لشغل كرسي اللغة العربية الذي أنشئ بالجامعة الإسبانية بمدريد. كان أول من اهتم به هذا الباحث هو دراسته للتراث الأندلسي تاريخاً وفكراً وحضارة، فتمكن من جمع مكتبة نفيسة ضمت أكثر من أربعمائة مخطوط. ويعد:

... رائداً لضرب جديد من الدراسات الأندلسية، يقوم على تفهم صحيح لحضارة العرب في إسبانيا وتقدير لمنجزاتها… غير أن أهم منجزاته على الإطلاق هو إعداده لطائفة كبيرة من تلاميذه

 

(1/2076)

 

 

خدموا الدراسات العربية طول القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (1).

 

... قام غاينغوس بتصنيف كتاب عن تاريخ المسلمين في إسبانيا ثم فهرسته للمخطوطات الإسبانية في المتحف البريطاني:

 

... ووصف قصر الحمراء مع بيان آثاره وتفسير كتاباته الحجرية. لندن 1843 م وفذلكة عن صحة الصحيفة الإخبارية للرازي في صفة الأندلس متنا وترجمة إسبانية… ورسالة في بيان فضل الأندلس وذكر علمائها عن المقري متنا وترجمة إنجليزية، وقصيدة مديح

__________

(1) محمد علي مكي، »الأندلس في شعر شوقي ونثره«، مجلة فصول، عدد 1، المجلد 3، 1982، ص. 215.

 

(1/2077)

 

 

محمد وهي من الشعر الإسباني في القرن الرابع عشر (1).

 

... لعل أهم أعماله في هذا الميدان هو وقوفه على مصدرين من مصادر التراث الأندلسي وتحقيقهما ونشرهما وهما: "نفح الطيب" للمقري. فقد قام بنشر قسمٍ كبيرٍ منه وترجمته إلى الإنجليزية في مجلدين (لندن ـ مدريد 1840 ـ 1843). يقول في مقدمته:

 

... إن ماريانا وأكابر المؤرخين الإسبانيين تحدوهم عاطفة بغض قومي عميق، أو نزعة تعصب ديني، أبدوا دائماً أبلغ الاحتقار لمؤلفات العرب… فكانوا يرفضون وسائل

__________

(1) نجيب العقيقي، المستشرقون، دار المعارف، ج 2، ص ص. 182 ـ 183.

 

(1/2078)

 

 

البحث التي تقدمها لهم الوثائق التاريخية العربية الكثيرة، ويهملون المزايا التي قد تترتب على المقارنة بين الروايات النصرانية والإسلامية، ويوثرون أن يكتبوا تواريخهم من جانب واحد. وقد ترتب على هذا الروح الضيق الذي يطبع كتاباتهم أثر واضح. ذلك أن تاريخ إسبانيا في العصور الوسطى ما يزال ـ بالرغم مما أفاض عليه النقدة المحدثون ـ معتركاً من الخرافة والمتناقضات (1).

__________

(1) محمد عبد الله عنان، »مقدمة« كتاب دولة الإسلام في الأندلس من الفتح إلى بداية العهد الناصر، ط 4، ص. 10.

 

(1/2079)

 

 

... أما المصدر الثاني، فهو كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية الذي نشره في مدريد سنة 1868 م، »ويؤخذ على ناشره عدم تعمقه لفهم المعنى العام للفصل أو المقطع لكثرة الأخطاء الإملائية والنحوية التي وقع فيها… وقد حظي المؤلف لقيمته العلمية والتاريخية بعناية كبار المستشرقين الإسبان«(1).

... لقد كسر غاينغوس الصمت الطويل الذي فرض على كل ما هو عربي في إسبانيا منذ سقوط الأندلس، وتجرأ على

__________

(1) ابن قوطية القرطبي، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق وشرح وتعليق عبد الله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، ص. 25.

 

(1/2080)

 

 

الكلام وأثبت ذلك بالحجج والوثائق فكانت أعماله كما يقول غوستاف دوغه (Gustave Dugat) في كتابه "تاريخ المستشرقين": »في إسبانيا إن أعمال غاينغوس الجدية فيما يتعلق بتاريخ العرب معروفة لدى الجميع. لقد أنشأ عدداً من الطلاب الذين يهتمون بالدراسات الشرقية«(1).

... وعلى العموم، فإن أعمال غاينغوس الاستعرابية تندرج في إطار تحرري لا يخلو من عطف نحو الماضي الأندلسي والموريسكي كما استشهد بذلك الكاتب الإسباني الكبير

__________

(1) ميشال جحا، الدراسات العربية والإسلامية في أوربا، ط 1، بيروت، معهد الإنماء العربي، ص. 129.

 

(1/2081)

 

 

خوان غويتسولو في دراسته »تأملات في الاستعراب الإسباني« (1).

...

III ـ خوليان ريبيرا إي طَرَاكُو (1858 ـ 1934 م) أول من تبنى فكرة الأصل الإسباني لمسلمي الأندلس

... يعتبر خوليان ريبيرا إي طراكو (Julian Ribera y Tarrago) واحداً من كبار المستعربين الإسبان، وقف حياته على دراسة الأدب الأندلسي وتاريخه. ولد في كركخنته (Carcajente) من أعمال بلنسية، تعلم اللغة العربية على المستعرب كوديرا، وتخرج من جامعة سرقسطة، وعين أستاذاً للعربية فيها سنة 1887

__________

(1) انظر جريدة العلم الثقافي، عدد يوم 15/12/ 1984، ص. 1.

 

(1/2082)

 

 

م، وأستاذاً لتاريخ حضارة اليهود والمسلمين في جامعة مدريد (1905 ـ 1927 م)، ثم اعتزل التدريس، وعكف على التأليف في بلنسية. وقد انتخب عضواً في المجمع اللغوي الإسباني وفي غيره. وعد من بين كبار علماء الاجتماع والتاريخ والكشف عن أصل الشعر الغنائي الأوربي من المنابع العربية.

... أنجز ربييرا العديد من الأعمال المهمة المتعلقة بالتراث الأندلسي منها نشره بمعاونة أستاذه كوديرا "المكتبة العربية الإسبانية"، وله "دراسات عن نظم التدريس عند المسلمين الإسبان" (سرقسطة 1893) و"أصول القضاء العالمي في أرغون" (سرقسطة

 

(1/2083)

 

 

1897) و"تاريخ القضاة بقرطبة" للخشني القيرواني متنا وترجمة إسبانية، وكتب عليه بالعربية: وقف على طبعه خوليان ربييرا إي طراكو البلنسي (مدريد 1914)، كما نشر الملاحم الإسبانية سنة 1915 بمدريد، و"ديوان ابن قزمان" (مدريد 1922) و"موسيقى الأندلسي والشعراء الجوالون" (مدريد 1925 م)، كما ترجم إلى الإسبانية "تاريخ افتتاح الأندلس" لابن القوطية. وكان قد نشره غاينغوس وسابيدرا من قبله ـ مع إضافات من كتاب "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة (مدريد 1926)، و"الموسيقى العربية وأثرها في الموسيقى الإسبانية" (مدريد 1927)،

 

(1/2084)

 

 

وصنف كتاباً بعنوان: "بحوث ورسائل" في جزئين اشتمل على الشاعر ابن قزمان والرد على دوزي، وأصول فلسفة رايموند لول، وجامعي الكتب والمكتبات في إسبانيا الإسلامية. وله في المجلات العلمية دراسات رصينة عن: أحوال العرب عند فتح الأندلس، وحول قلعة طريف، ومعاهدة سلام بين فيرناندو الأول حاكم نابولي وأبي عامر عثمان حاكم تونس. وقد حال الموت دون إنجاز كتاب: "تاريخ الثقافة الإسلامية". وقد أحصى مؤلفاته وقدم لها آسين بلاثيوس في كتاب عنوانه "أحاديث ونبذ" (1928 م) (1)

__________

(1) بتصرف عن كتاب نجيب العقيقي، كتاب المستشرقون، دار المعارف، ج 2، ص ص. 189 ـ 190.

 

(1/2085)

 

 

.

... وككل مستعرب إسباني في عصره واجهته مشكلة التراث الأندلسي في لغته العربية الذي لم يكن متيسراً في إسبانيا:

 

... وحين عزم على أن يطبع أمهات المصادر الأندلسية في نصها العربي بإسبانيا، لم يجد غير مطبعة البرلمان. ففيها قسم عربي لطبع الوثائق السياسية، ولكنه يتقاضى أجوراً باهظة لا قدرة له عليها، فتركه ليفكر في أمر لا يظنه دار بخاطر مستشرق قبله (إذا استثنينا المستشرقين الروس فقد مروا بالتجربة نفسها فيما أذكر): أن يشتري حروفاً عربية، وأن يعمل عليها مع طلابه، ويجمعون بأيديهم ويدفعون بما جمعوا إلى

 

(1/2086)

 

 

المطبعة، ويدفعون التكاليف من جيوبهم، ومن جيوب عشاق العصر العربي من الإسبان (1).

 

... وهكذا انكب خوليان ريبيرا على دراسة التراث الأندلسي ثقافة وفناً وتاريخاً. وكان يعتبر الحضارة الأندلسية جزءاً من التراث الإنساني القيم، وأن كل منجزات الأندلسيين المسلمين في العلوم والفنون والثقافة ينبغي أن تنتسب إلى إسبانيا قبل أن تنتسب إلى الشرق العربي أو الغرب الأوربي؛ كما أنه يعتبر أن المجتمع المولد

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، »قمة الاستشراق الإسباني المعاصر«، مجلة آفاق عربية، عدد 3، السنة الثالثة، 1972، ص. 72.

 

(1/2087)

 

 

الجديد في الأندلس بعد الفتح والاختلاط والانصهار بين العرب الفاتحين والسكان الأصليين كان عربي اللسان إسلامي الدين، وردد علانية أنه:

... ليس ثمة فضل في أن يعرف أحدنا اللغة العربية، فهناك ملايين الرجال يعرفونها، ويتحدثون بها خيراً منا. أما الذي نستطيعه دون قدرة الملايين، فهو أن نجعل منها دوراً نكتشف في هديه أصول الثقافة الإسبانية، ونوضح في ضوئها ما خفي من جوانبها، حين كانت العربية في وطننا لغة الثقافة ولغة الحياة (1)

__________

(1) مجلة آفاق عربية، مرجع سابق، ص. 73. والرأي نفسه ورد في مجلة "اللسان العربي"، العدد الخامس (غشت 1967)، ص. 66.

 

(1/2088)

 

 

.

 

خوليان ريبيرا وإسبانية الموشحات

... تعددت الآراء واختلفت حول أصل الموشحات وأوزانها، وكان الباحثون ـ وما زالوا ـ منقسمين إلى رأيين بارزين ما بين الأصل الإسباني الأندلسي والعربي المشرقي، وكل فريق يدلي بآرائه وحججه في هذا الميدان. ويرى الدكتور زكريا عناني أن:

 

... الآراء حول النشأة الأندلسية للموشحات أكثر من أن تحصى، ولكن ليس معنى هذا أن الموشحات ظاهرة مستقلة لا علاقة لها بالشعر العربي. فمؤلفو الموشحات هم أولاً وأخيراً شعراء عرب، وهذه حقيقة لم ينكرها حتى المستشرقون المنادون بأن في الموشحات

 

(1/2089)

 

 

عناصر إسبانة محلية(1).

... ويذهب خوليان ريبيرا إلى »إسبانية الموشحات« ويدلل على نظريته هاته بما يلي: إن أهل الأندلس الإسلامي كانوا يستعملون اللغة العربية الفصيحة لغة رسمية يتعلمها الناس في المدارس ويكتبون بها الوثائق وما إليها. وأما شؤونهم اليومية وأحاديثهم فيما بينهم، فكانوا يستعملون لهجة من اللاتينية الدارجة أو العجمية (El romance). ثم إن هذا الازدواج في اللغة هو الأصل في نشوء طراز شعري مختلط تمتزج فيه مؤثرات غربية

__________

(1) الموشحات الأندلسية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 31، يونيو 1980، ص. 66.

 

(1/2090)

 

 

ومشرقية. وقد ازدرى أهل الأدب الفصيح والمعنيون بأمره هذا الطراز الجديد، بينما مضى الناس جميعاً يتناقلون مقطعاته سراً فيما بينهم، وذاع أمره داخل البيوت وفي أوساط العوام، وما زال أمره والإقبال يشتد حتى أصبح في يوم من الأيام لوناً من الأدب. وقد أخذ هذا الطراز الجديد من الأدب الشعبي صورتين: إحداهما »الزجل« والثانية »الموشحة«، وهما في واقع الأمر فن شعري واحد، ولكن الزجل يطلق على السوقي الدارج منها، إذ لابد من أن يكون في اللغة الدارجة، فقد كان يتغنى به في الطرقات؛ أما الموشحة، فلا تكون إلا في العربي

 

(1/2091)

 

 

الفصيح، وإسمها كذلك عربي كما هو واضح(1).

... وقد وافقه في هذا تلميذه أميليو غارسيا غوميث، ووافقهما بعض الباحثين العرب كالدكتور عبد العزيز الأهواني والدكتور مصطفى عوض الكريم وبطرس البستاني. وقد اعتمد هؤلاء على نقاط محددة في مذهبهم، منها أن الموشحات تختلف اختلافاً بيناً عن فنون الشعر العربي في المشرق لكونها استجابة لبعض متطلبات الفن الغنائي؛ وثانيها أن أوزان قسم الموشحات غير جارية وفق

__________

(1) انظر ذلك بالتفصيل في كتاب أنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، ص ص. 142 ـ 143.

 

(1/2092)

 

 

أوزان الخليل؛ وثالثها أن فن الموشحات قد ظهر في الأندلس، وحذقه الأندلسيون وأحبوه، لذا ذهبوا إلى أن هذا الفن تقليد لشعر غنائي أعجمي كان منتشراً في الأندلس عرفه كل من العرب والإسبان. ومما قوى اعتزاز هذا الفريق برأيهم اكتشاف مجموعة من الخرجات الأعجمية، وعددها ست وعشرون، في كتاب: "عدة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس" لعلي بن بشري الغرناطي، فضلاً عن الخرجات الأعجمية التي وردت في موشحات عبرية نظمها ابن النغرلة وابن جبيرول وموسى بن عزرا ويهودا هاليفي وغيرهم. لذا انبرى جماعة من العلماء لدراستها، ومن أولئك

 

(1/2093)

 

 

شتيرن (Stern) ونشرها في مجلة "الأندلس" (العدد 13، سنة 1948)، وغارسيا غوميث، ونشرها في المجلة المذكورة (الأعداد: 14، سنة 1949 و15، سنة 1950 و17، سنة 1952 و19، سنة 1954)، بل جزم غوميث بأن تلك الخرجات المشتركة بين الموشحات العبرية أغان قصيرة باللهجة الرومانتيَّة كانت شائعة، وأنه على هذه الأغاني بنيت الموشحات(1).

__________

(1) عباس مصطفى الصالمي، »الموشحات والأزجال«، مجلة آفاق عربية، عدد 5، ماي 1987، ص. 98. وهي الآراء نفسها التي يثبتها الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "فصول في الأدب الأندلسي".

 

(1/2094)

 

 

... كما اهتم ريبيرا بدراسة موسيقى الأغاني الإسبانية ودواوين شعراء التروبادور في أروبا في العصر الوسيط، فانتهى من دراساته المستفيضة إلى أن الموشح والزجل هما »المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سير تكوين القوالب التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط، وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلاً عن الموسيقى العربية إلى أروبا«(1). وكان قد أكد وجود التماثل في تراكيب الأبيات وتعاقب القوافي

__________

(1) أنحيل بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، ص ص. 613 ـ 614.

 

(1/2095)

 

 

لدى أغاني التروبادور (الشعر الغنائي الجوال) البروفانسية خلال العصور الوسطى كما هي في النتاج الأصلي للشعر الشعبي الأندلسي، وذلك في محاضرة ألقاها سنة 1912 م في المجمع الملكي الإسباني.

... وكانت مقاطعة بروفانس في جنوب فرنسا أولى الإقطاعيات ازدهاراً، وكانت لغتها البروفانسية أشهر اللغات الرومانتية، وموقعها الجغرافي يجعل منها نقطة اتصال حضاري لا بين اللغات الرومانتية أو الشعوب اللاتينية فحسب، وإنما بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية أيضاً. فقد كانت على حافة الأندلس الإسلامي… وشهدت أول ازدهار أدبي لا

 

(1/2096)

 

 

يتخذ اللاتينية لغة له، وشغل هذا الازدهار قرنين كاملين في تاريخها، من مطلع القرن العاشر حتى عام 1210 م، وكانت تدين في ذلك طائفة من الشعراء دخلوا التاريخ تحت اسم التروبادور ((Troubadour(1).

وثمة عامل ديني كان وراء اهتمام سكان بروفانس بالأندلس، وهو توافدهم سنوياً في أعداد كبيرة حجاجاً إلى كتدرائية سانتياكو دي كومبوستيلا (Santiago de Compostela) في الشمال الغربي من شبه الجزيرة،

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، »التروبادور ـ شعراء أوروبيون تأثروا بالشعر العربي«، مجلة آفاق عربية، عدد 10، يونيو 1976، ص. 69.

 

(1/2097)

 

 

لأنها تضم رفات القديس يعقوب، وهم في غدوهم ورواحهم يلتقطون الأخبار، ويسمعون الإشاعات ويحملون ما يفتقدونه في بلادهم مادياً أو فكرياً. وكان المسلمون بدورهم يعرفون قيمة هذه الكنيسة… وأدى هذا إلى قيام رجال الدين المسيحيين فيما وراء جبال البرانس بمحاولة تعلم اللغة العربية ليتعرفوا إلى ما عند المسلمين(1).

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، »العلاقة بين الشعر الأندلسي وشعر التروبادور«، مجلة آفاق عربية، عدد 6، فبراير 1983، ص ص. 31 ـ 33.

 

(1/2098)

 

 

... وأول شاعر تروبادور عرف، ووصلتنا أخباره وجانب كبير من قصائده هو جيوم التاسع (1071 ـ 1127 م) وإليه ينسب ابتداع الشكل الجديد الغنائي، والذي يتخذ من شكل الموشحة العربية قالباً ينظم فيه أشعاره… ولم يجدد جيوم في الشكل فقط، بل في موضوعات هذا الشعر أيضاً. فكان أول من تغنى بجمال المرأة ودفعها إلى أن تحس بقيمتها. وكان جيوم قد رحل إلى المشرق في حملته الصليبية (عامي 1101 ـ 1102 م) وأقام في الشام حقبة من الزمن وجاء إلى الأندلس عام 1120 م ليساعد ألفونسو المحارب في معركة »كتندة« ضد مسلمي الأندلس، وتزوج من

 

(1/2099)

 

 

أندلسية هي ابنة راميرو الراهب ملك أرغون. وذلك يعني تأكيداً أنه كان يعرف أشياء كثيرة تتعلق بالإسلام والبلاد الإسلامية، ويرجح أنه كان يعرف اللغة العربية بقدر لا بأس به، يمكنه أن يقرأها ويتفاهم بها، وليس ثمة شك في أن غنائها وأشعارها كانت مألوفة لديه(1).

... وقد استنتج خوليان ريبيرا من تأثير الموسيقى العربية في نشأة الموسيقى الأوروبية عنصرين مهمين حددهما عبد الرحمن بدوي وهما:

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، »التروبادور ـ شعراء أوروبيون تأثروا بالشعر العربيّ«، مجلة آفاق عربية، عدد 10، يونيو 1976، ص. 74.

 

(1/2100)

 

 

أولاً، ظهور مذهب جديد في الموسيقى اسمه فن الميزان ظهر في أروبا لأول مرة في القرن الثالث عشر والكتب التي وضعها المؤلفون الأوروبيون في هذا الفن في ذلك القرن تشابه في معالجتها لأنواع الأنغام ما كتبه العرب في القرن التاسع في الموسيقى؛ ثانياً، استعمال الآلات الموسيقية العربية في أروبا وأهمها الربابة، وهي في أصلها أسيوية قديمة جداً، ثم العود وهو ما يجمع عليه المؤلفون في تاريخ الموسيقى أنه عربي دخل إلى أروبا عن طريق الإسبان؛ وثالثاً، الناي الأندلسي أو القيتارة الموريسكية(1)

__________

(1) دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، ط 2، 1979، ص. 44.

 

(1/2101)

 

 

.

... كما اتجه إلى دراسة الملاحم الشعبية والقصص والأساطير الأندلسية وتأثيرها في الأدب الإسباني، ودلل على ذلك في بحث نشره سنة 1915 م، حيث لاحظ وجود آثار من شعر قصصي عند أوائل مؤرخي الأندلس من المسلمين لابد أنه كان مزدهراً في الأندلس خلال القرنين التاسع والعاشر، ومضى يلتمس ما في كتب التاريخ الأندلسي من بقايا أسطورية ذات أصول محلية، إذ غلب على ظنه أن هذه العناصر الأسطورية قد اندرجت في كتب التاريخ الإسلامي الأندلسي، وبالضبط كما حدث لأشعار الملاحم القشتالية من انتشار نظمها واندراجها في المدونات

 

(1/2102)

 

 

النصرانية في زمن متأخر. ذلك بأنه علاوة على ما تحدثنا به من المراجع من أن نفراً من الأندلسيين وصف أحداث فتح الأندلس وما تلاه من حروب في قصائد طوال كيحيى الغزال (توفي 250 هـ) والذي اشتهر بالغارات التي قام بها لعبد الرحمن الأوسط، وبأرجوزته التي كتبها عن فتح الأندلس والوقائع التي دارت بين العرب والإسبان… واستنتج من تحليله لبعض النماذج القصصية أنه كان لأهل الأندلس شعر قصصي شعبي، ولكنه ضاع ضياعاً يكاد يكون تاماً لسوء الحظ. ومن الممكن أن يكون هذا الشعر القصصي قد عاش طالما وجدت بين ظهراني أهل الأندلس

 

(1/2103)

 

 

جماعة يعمر قلوب أفرادها الحب للغة هذا الشعر وموضوعاته. ومن الممكن أن تكون هذه الجماعة قد وجدت بين الصقالبة الذين كان لهم أثر عظيم خلال فترة معينة من العصور الإسلامية من تاريخ إسبانيا. ومضى يتساءل إن كان من الممكن لهذا الأدب بعد أن أثبت وجوده أثر في الشعر القصصي الإسباني والفرنسي الذي ظهر بعد ذلك، فوجد بعد المقارنة أن الشعر القصصي الأندلسي البدائي لا يبدو لنا مجرد محاكاة جامدة لأدب أجنبي، بل هو يروي أخباراً كانت ذكرياتها غضة ماثلة في الأخلاق، إذا ذكرنا أن المدة بين وقوع الحادث الذي تدور الأسطورة

 

(1/2104)

 

 

حوله وبين اندراجها في مدونة تاريخية لا تكاد تعدو قرناً من الزمان تنشأ خلاله الأسطورة التي تندرج في ثنايا المدونة. وتلك الأساطير الأندلسية تتفق في هذا مع الأساطير الإسبانية، ومن بعض النواحي مع الأساطير الفرنسية، التي ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وتتفق تلك الأساطير الأندلسية كذلك مع الإسبانية في أنها نشأت في النواحي والأعصر التي حفلت بالصراع والحروب، وتتفق مع الإسبانية والفرنسية في أن شخصياتها تاريخية(1)

__________

(1) انظر ذلك بالتفصيل في كتاب أنخيل غونثاليث بالينثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، ص ص. 603 ـ 613.

 

(1/2105)

 

 

.

... كان خوليان ريبيرا من المتعصبين للعرق القومي الإسباني فكان أول من تبنى من المستشرقين فكرة الأصل الإسباني لمسلمي الأندلس معتمداً في ذلك على دور المرأة البالغ الأهمية في أسبنة المسلمين القادمين من المشرق أو من شمال إفريقيا، وفي إشاعة اللغة الرومانتية والإبقاء عليها والحفاظ على الخصائص البيولوجية الإسبانية، والتقاليد التي كان عليها الإسبان قبل الفتح الإسلامي بعامة، وفي مجال الحياة العاطفية والأسرية على نحو خاص. لقد جاء العرب أو البربر جنوداً فاتحين، أو أفراداً مهاجرين، وتزوجوا في الأندلس من

 

(1/2106)

 

 

نسائها جواري أو حرائر، وفي كل الأحوال كن ينحدرن في الأعمِّ الأغلب من أصول إسبانية، ونشأ أولادهم هجناء في بيت مختلط. ويمضي ريبيرا بعيداً مع فكرته لينتهي بها إلى أن العرب القادمين إلى الأندلس فقدوا خصائصهم السلالية بصفتهم جنساً سامياً ابتداءً من الجيل الثالث أو الرابع، نظراً لتغلغل الدم الإسباني في عروق المسلمين.

... ويثبت ذلك من الوجهة العلمية فيجري تجربته على الأسرة الأموية التي حكمت في الأندلس فيقول ما خلاصته: إن عبد الرحمن الداخل كان يحمل فقط نصف دم عربي، لأنه كان من أم غير عربية؛ وكذلك ابنه

 

(1/2107)

 

 

هشام لا يحمل إلا ربع دم عربي، لأن أمه كانت جارية إسبانية. وهكذا تتناقص نسبة الدم العربي كلما مضينا من أمير إلى آخر، بينما تتضاعف نسبة الدم الأجنبي. وهكذا إلى أن يصل إلى هشام الثاني، فلا يكون له من الدم العربي إلا جزء من أربعة وعشرين ألف جزءٍ(1).

__________

(1) أحمد هيكل، الأدب الأندلسي. من الفتح إلى سقوط الخلافة، دار المعارف، ص ص. 35 ـ 36؛ والطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة"، ص ص. 249 ـ 250، وكلاهما اعتمدا على كتاب خوليان ريبيرا: Disertaciones y opusculos, Vol. 1, p. 14.

 

(1/2108)

 

 

... ويعلق الدكتور أحمد هيكل على نظرية خوليان ريبيرا قائلاً:

... لسنا ننكر الدافع الكريم الذي حمل الأستاذ ريبيرا على محاولة إثبات أن الأندلسيين إسبان مسلمون. فهو يعتز بالأندلسيين ويحاول كسب الحضارة الأندلسية وضمها إلى التراث الإسباني، ولكنّنا مع ذلك لا نستطيع أن نذهب مع الأستاذ ريبيرا في ما ذهب إليه من تجريد الأندلسيين من عروبتهم، ولا نستطيع كذلك أن نسلم بتلك التجربة التي أجراها على الأسرة الأموية الأندلسية كدليل على ذوبان الدم العربي في الدم الإسباني، لأننا لا نتصور أولاً أن كل الذين جاءوا إلى

 

(1/2109)

 

 

الأندلس من الرجال قد تركوا نساءهم في المشرق؛ ولأننا لا نتصور ثانياً أن الوفود على الأندلس كان دائماً من نصيب الرجال دون النساء؛ ولأننا لا نتصور ثالثاً أن كل عربي في الأندلس كان ينجب دائماً من إسبانية جديدة، وإن كان تصادف ذلك في الأسرة الأموية. بقي أن نقرر أن هؤلاء الأندلسيين وإن كانوا مولدين جنساً ومختلطين دماءً، فهم عرب في قوميتهم، لأنهم عرب في عقيدتهم وثقافتهم ولغتهم وكل جوانب حضارتهم (1).

__________

(1) أحمد هيكل، الأدب الأندلسي. من الفتح إلى سقوط الخلافة، دار المعارف، ص ص. 36 ـ 37.

 

(1/2110)

 

 

... أما الدكتور الطاهر المكي، فيعلق على ريبيرا قائلاً:

... نحن إذاً مع خوليان ريبيرا في الدور الذي لعبته المرأة الإسبانية بوصفها هذا، في مجال الحياة الأندلسية، وكان واضحاً ومقدراً، لكننا لا نتابعه في لعبة الأرقام التي اعتمد عليها، وأدارها في مهارة وسذاجة في الوقت نفسه، لأن العلم والشواهد التاريخية والظواهر النفسية والاجتماعية تقف في الجانب المقابل منها (1).

__________

(1) الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة"، ص ص. 225 ـ 252.

 

(1/2111)

 

 

... إنه مهما وجهت من تعليقات وملاحظات لبعض أعمال المستعرب الكبير، فإنه ينبغي أن نعترف له ببعض الإيجابيات المهمة في أعماله وأبحاثه ومجهوداته. فقد استطاع أن يثبت بالحجج والدلائل الدور العظيم الذي قامت به الأندلس الإسلامية في مجال الثقافة والفن والفكر بصفة عامة، كما أنه ساهم مساهمة فعالة في تصحيح العديد من المفاهيم الخاطئة التي رسخت في أذهان العديد من الباحثين والكتاب الإسبان منذ مئات السنين، وذلك نتيجة التعصب الأعمى والتغاضي وعدم الاعتراف بأهم وأزهى فترة في تاريخ إسبانيا وهي الفترة العربية

 

(1/2112)

 

 

الإسلامية التي دامت ثمانية قرون.

 

(1/2113)

 

 

البحرية الإسلامية في الخليج العربي والمحيط الهندي خلال العصور الإسلامية

 

... ... ... ... الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني

... ... ... ... كلية الدراسات الإسلامية والعربية ـ دبي

 

تمهيد

... يدل ما وصل إلينا من إشارات على أن الملاحة في الخليج العربي قد نشأت منذ أقدم العصور، وذلك بحكم أن هذه المنطقة كانت ممراً طبيعياً للتجارة العالمية بين الشرق الأقصى وحوض البحر الأبيض المتوسط. فكان للخليج العربي موقعٌ جغرافيٌّ متميزٌ هو بمثابة حلقة اتصال مباشر بين الشرق الأقصى من جهة والشرق العربي وأوربا من جهة

 

(1/2114)

 

 

أخرى، وممرّ آمن لنقل التجارة البحرية بين هاتين المنطقتين(1). وعلاوة على ذلك، فإن سكان الخليج العربي بصورة خاصة والعرب بصورة عامة كانوا يعرفون نظام هبوب الرياح الموسمية في الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر(2)

__________

(1) صباح إبراهيم الشيخلي وآخرون، دراسات عن تأريخ الخليج العربي والجزيرة العربية، شعبة الدراسات والعلوم الاجتماعية، جامعة البصرة، 1985، ص. 11.

(2) عادل محيي الدين الآلوسي، تجارة العراق البحرية مع أندونيسيا حتى أواخر القرن السابع الهجري/ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، دار الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 1984، ص. 82.

 

(1/2115)

 

 

، فساعدهم ذلك على إتقان ركوب البحر، وبالتالي نظموا رحلاتهم البحرية إلى الشرق الأقصى والهند وشرق إفريقيا. ثم إن ضحالة المياه قرب السواحل العربية للخليج العربي مع كثرة التعرجات والخلجان فيها هيأت ظروفاً طبيعية جيدة للملاحة القديمة في السواحل العربية للخليج العربي، فضلاً عن توافر المياه العذبة وضرورات الحياة الأخرى(1). إن الأهمية الجغرافية والاستراتيجية للخليج العربي

__________

(1) رضا جواد الهاشمي، »النشاط التجاري القديم في الخليج العربي وآثاره الحضارية«، مجلة المؤرخ العربي، عدد 12، بغداد، 1980، ص. 69.

 

(1/2116)

 

 

المذكورة آنفاً دفعت أهله إلى ركوب البحر وممارسة الملاحة فيه على نطاق واسع.

 

المبحث الأول: الملاحة البحرية في الخليج العربي

1 ـ قبل الإسلام

... يمتد الخليج العربي باتجاه شمالي غربي، وينتهي عند السهول الفيضية لجنوب العراق، حيث تصب فيه ثلاثة أنهر هي الفرات ودجلة وكارون التي كانت تفرغ مياهها منفردة في العصور القديمة بينما تشترك الآن في مصب واحد هو شط العرب الذي ينتهي بالخليج العربي(1). وتنتشر على جانبي الخليج مجموعة من الجزر تقترب معظمها من الساحل. وساعدت عدة عوامل

__________

(1) الهاشمي، المقال نفسه، ص. 67.

 

(1/2117)

 

 

الإنسان العربي على ركوب البحر وممارسة الملاحة البحرية في الخليج العربي منذ عهود مبكرة.

... أ ـ فقد أدّى الموقع الجغرافي المتميز للخليج العربي دوراً كبيراً في ممارسة الملاحة البحرية فيه(1). فهو حلقة وصل بين الشرق

__________

(1) راجع الشيخلي، دراسات عن تاريخ الخليج العربي، ص. 11؛ وأحمد الشامي، »العلاقات التجارية بين دول الخليج وبلدان الشرق الأقصى وأثر ذلك في بعض الجوانب الحضارية في العصور الوسطى«، مجلة المؤرخ، عدد 12، ص. 87؛ وحسن صالح شهاب، »العرب والبحر«، مجلة التراث الشعبي، عدد 3 ـ 4، بغداد، 1979، ص. 65.

 

(1/2118)

 

 

الأقصى والعالم العربي وبين الشرق وجزر البحر المتوسط ومدن جنوب أوربا، فضلاً عن اتصال الشرق الأقصى بواسطة الخليج العربي بشرق إفريقيا. فهو باختصار حلقة اتصال بين الشرق والغرب.

... ب ـ وهيَّأت ضحالة مياه الخليج العربي، خاصة قرب السواحل العربي مع كثرة التعرجات والخلجان فيها، ظروفاً طبيعية جيدة للملاحة القديمة(1).

... ج ـ ساعد توافر ضرورات الحياة ـ وأبرزها المياه العذبة(2) ـ في بعض مراكز على الخليج العربي على استقرار الإنسان فيها، ومن ثم دفعه إلى

__________

(1) الهاشمي، المرجع السابق، ص. 69.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/2119)

 

 

ممارسة الملاحة في الخليج العربي.

... د ـ وعرف العرب نظام هبوب الرياح الموسمية في الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر وممارسة الملاحة البحرية(1).

... هـ ـ عرقل الصراع السياسي العسكري البيزنطي الساساني طرق التجارة البرية بين الشرق والغرب، وهدد أمن مراكز الملاحة في

__________

(1) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 82؛ والشيخلي، المرجع السابق، ص. 16؛ وجورج فضلو حوراني، العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل القرون الوسطى، ترجمة السيد يعقوب بكر، القاهرة، مطابع دار الكتاب، 1958، صص. 220 ـ 221.

 

(1/2120)

 

 

البحر المتوسط والبحر الأحمر والبحر العربي. لذلك تحولت طرق التجارة البحرية إلى الخليج العربي والمحيط الهندي. وكان للساسانيين دور في توجيه هذا الطريق في سبيل المحافظة على قوتهم الاقتصادية خلال فترة صراعهم مع بيزنطة(1).

... و ـ إن وجود حضارة وادي الرافدين العريقة وغيرها من الحضارات العربية على مقربة من الخليج العربي ووجود اتصال نهري بين العراق

__________

(1) صالح أحمد العلي، التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، مطبعة المعارف، بغداد، 1953، ص. 22؛ والآلوسي، المرجع السابق، ص. 22.

 

(1/2121)

 

 

والخليج العربي متمثل في نهري دجلة والفرات، وجه أنظار سكان وادي الرّافدين إلى الاهتمام بالملاحة البحرية في الخليج العربي لتأمين حاجاتهم المختلفة من الشرق.

... لقد مارس سكان الخليج العربي والمنطقة العربية الملاحة البحرية عبر الخليج العربي منذ عصور سحيقة. وتشير الآثار التي تركتها الحضارات المتعاقبة في المنطقة العربية إلى أن الملاحة البحرية نشأت في سيف البحر، أي في منطقة الخليج العربي(1). فمنذ الألف الثالثة قبل

__________

(1) طه باقر، مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة، وادي الرافدين، بغداد، 1955، ج 1، ص. 439.

 

(1/2122)

 

 

الميلاد، كان هناك نشاطٌ بحريٌّ ملموسٌ في الخليج العربي. فسلالة لجش (في حدود عام 2450 ق. م) كان لها نشاطٌ تجاريٌّ بحريٌّ في الخليج العربي(1)، وكان لسرجون الأكدي نشاط بحري في الخليج العربي(2).

... واهتم السومريون بالملاحة عبر الخليج العربي؛ وكذلك فعل البابليون(3). وظل الخليج العربي يشهد نشاطاً بحرياً بتعاقب الحقب التاريخية. ووصلت إشارات توضح اهتمام الإسكندر (ت 323 ق. م) بالخليج العربي،

__________

(1) الهاشمي، المرجع السابق، ص. 77.

(2) المرجع نفسه؛ الآلوسي، المرجع السابق، ص. 25.

(3) المرجع نفسه، ص. 19.

 

(1/2123)

 

 

حيث أراد تأمين مواصلات إمبراطوريته الواسعة. وكان الخليج العربي الطريق البحري الوحيد الذي يربط بين بابل والهند. إن هذه الإشارات التي وصلت من المؤرخين المرافقين لحملة الإسكندر تؤكد صلاحية الملاحة البحرية في الخليج العربي، ونشاطها الواضح(1). ويشير المؤرخون إلى نشاط سكان الجهراء التي كانت من المراكز التجارية في جزيرة العرب ونشاط سكانها الملحوظ في ملاحة الخليج العربي لتأمين تجارتهم(2). وأشار المؤرخ اليوناني »أمبانوس«

__________

(1) صالح أحمد العلي، المرجع السابق، ص. 232.

(2) الهاشمي، المرجع السابق، ص. 60.

 

(1/2124)

 

 

الذي عاش في أواخر القرن الرابع الميلادي إلى أن الخليج العربي كان يعج بالملاحة والسفن البحرية(1)، وكان لاهتمام الفرثيون ومن تلاهم بالطريق البري الذي يربط العراق بالشرق فسمح ذلك بزيادة هيمنة العرب على الطرق التجارية والملاحة البحرية في الخليج العربي ومنافذه(2).

...

2 ـ في العصور الإسلامية

... لقد أحدث ظهور الإسلام في الجزيرة العربية تطوراً ملحوظاً في توجه العرب الملاحي في الخليج العربي. فمنذ عهد مبكر، اهتم الرسول - صلى الله

__________

(1) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 26.

(2) الهاشمي، المرجع السابق، ص. 63.

 

(1/2125)

 

 

عليه وسلم - بمنطقة الخليج العربي، فأرسل الدعاة إلى بعض مناطق الخليج العربي في محاولة لنشر الإسلام وتوحيد الأرض العربية تحت لوائه(1). ولاشك في أن اهتمامات الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده بمنطقة الخليج العربي تعكس معرفة المسلمين باستراتيجية الخليج العربي وأهميته الجغرافية. وما أن استقر الإسلام في مناطق الخليج العربي حتى بدأ العرب المسلمون يمارسون نشاطاً بحرياً في الخليج العربي. ففي سنة 14 هـ/

__________

(1) أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، مصر، مطبعة السعادة، 1959، ص. 89.

 

(1/2126)

 

 

653 م أرسل العلاء بن الحضرمي والي البحرين حملة بحرية(1) عبر الخليج العربي حققت نجاحاً واضحاً. وفي سنة 23 هـ/ 643 م أرسل عثمان بن أبي العاص، والي البحرين وعمان، حملة بحرية أخرى إلى الخليج العربي(2). وبتقدم الوقت، زاد النشاط الملاحي

__________

(1) شهاب الدين أبو عبد الله باقون بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار صادر ـ دار بيروت، 1957، ص. 349؛ البلاذري فتوح البلدان، ص. 96.

(2) عز الدين علي محمد عبد الواحد بن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1965، ج 3، ص. 41؛ البلاذري، المرجع السابق، ص. 430.

 

(1/2127)

 

 

العربي الإسلامي: فمنذ خلافة عثمان رضي الله عنه (23 هـ/ 643 م ـ 35 هـ/ 655 م)، أخذت طلائع سفن العرب المسلمين تظهر في الهند، ثم تتابع النشاط الملاحي العربي الإسلامي الحربي والتجاري. فقد خرجت سفن عربية من عمان والبحرين وتقدمت نحو مصب نهر مران، وخضع ملك كابل وأدّى الجزية للمسلمين سنة (44 هـ/ 664 م) (1)، وفتح العرب المسلمون السند في خلافة الوليد (86 هـ) (2)، وظهرت وازدهرت في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي عدة مراكز بحرية في مناطق الخليج العربي

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 389.

(2) المرجع نفسه، ص. 426.

 

(1/2128)

 

 

مثل البحرين ودارين وعمان وصحار والإبلة وغيرها والتي سنتناولها بالتفصيل لاحقاً.

... وبظهور الخلافة العباسية في بغداد (123 هـ/ 749 م ـ 656 هـ/ 1258 م) وتوسع النشاط الملاحي العربي الإسلامي في الخليج العربي والمحيط الهندي، أصبحت السفن الإسلامية بأنواعها المختلفة وأعدادها الكبيرة تصول وتجول في البحار والمحيطات. وقد ساهمت عدة عوامل في ازدهار الملاحة البحرية في الخليج العربي والمحيط الهندي في العصر العباسي، فضلاً عن العوامل الأخرى المذكورة آنفاً. وأهم هذه العوامل:

 

(1/2129)

 

 

... 1 ـ بناء بغداد سنة 148 هـ/ 756 م واتخاذها عاصمة للخلافة العربية(1) الإسلامية من قبل الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (136 هـ/ 753 م ـ 158 هـ/ 774 م). فارتبطت العاصمة مائياً بواسطة نهري دجلة والفرات بمراكز الملاحة البحرية في الخليج العربي كالإبلة وصحار ودارين. فازدهرت الملاحة البحرية في الخليج العربي، خاصة في القرنين الثالث والرابع

__________

(1) فيصل السامر، الأصول التاريخية للحضارة العربية الإسلامية في الشرق الأقصى، بغداد، 1977، ص. 4؛ الآلوسي، المرجع السابق، ص. 23؛ الحوراني، العرب والملاحة، ص. 195.

 

(1/2130)

 

 

الهجريين/ التاسع والعاشر الميلاديين، نتيجة لحرص بعض خلفاء بني العباس ومسؤولي الدولة لتأمين حاجات الدولة الضرورية والكمالية من المشرق(1).

... 2 ـ أدى فتح العرب المسلمين السند واستقرار العرب المسلمين فيها في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي إلى تنشيط التجارة العربية البحرية مع الشرق وبخاصة مع الهند، وكان الخليج العربي محطة انطلاق السفن العربية الإسلامية إلى الهند وعبر المحيط الهندي(2).

__________

(1) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 31.

(2) السامر، المرجع السابق، ص. 14.

 

(1/2131)

 

 

... 3 ـ الازدهار الاقتصادي الذي شهدته الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي، خاصة العراق حيث ارتفعت الصناعة المحلية وكثرت الحاصلات الزراعية. وقد تطلب الأمر تصدير هذه السلع، فنشطت التجارة ـ خاصة البحرية ـ عبر الخليج العربي لسهولة نقل السلع والبضائع مائياً من المزارع والمصانع عبر نهري دجلة والفرات ، ولا سيما القريبة منها إلى موانئ الخليج العربي ومنه إلى بلدان العالم(1).

__________

(1) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 29.

 

(1/2132)

 

 

... 4 ـ كان لتطور الجغرافية والفلك وعمل الإسطرلابات واختراع جهاز البوصلة وتحسين عملها وترجمة كتاب "السند هند"، نتيجة هي تقدم الصيد البحري وانتشار الفنارات البحرية والنواظر كالمرقب بين الإبلة وعبادان. وقد ساعد ذلك كله على ازدهار النشاط البحري(1).

... 5 ـ جهود العباسيين في تأمين الملاحة البحرية من الأخطار وحماية الموانئ من الغزو والقرصنة وتحصين الموانئ بالماصر وتحصين المدن بالأسوار وسلسلة ضخمة من الحديد تعترض الميناء فتحده من

__________

(1) الحوراني، المرجع السابق، ص. 277؛ الآلوسي، المرجع السابق، ص. 30.

 

(1/2133)

 

 

جهة البحر. فقد روى ناصر خسرو »أنه رأى في بعض الموانئ التي زارها سلاسل مربوطة بحائطين داخلين في البحر. فإذا أريد إدخال سفينة إلى الميناء، أرخيت السلسلة حتى تغوص في الماء فتمر السفينة فوقها ثم تسد حتى لا يستطيع عدو أن يقصدها بسوء« (1).

 

المبحث الثاني: أهم المراكز البحرية في الخليج العربي

... 1 ـ البحرين:

... البحرين إقليم ممتد من جنوبي البصرة إلى عمان، وهي متصلة غرباً باليمامة وجنوباً بعمان وشمالاً بالبصرة وشرقاً بمياه

__________

(1) ناصر خسرو، سفر نامه، ترجمة الدكتور يحيى الخشاب، القاهرة، 1945، ص. 51.

 

(1/2134)

 

 

الخليج العربي. والبحرين جزء لا يتجزأ من الجزيرة العربية (1). ويحدد ياقوت الأماكن التي يشتمل عليها إقليم البحرين، وهي »الخط والقطيف والاره وهجر ويينونه والزاره وجواثا والسابور ودارين والغابة وقصبة هجر الصفا والمشقرة« (2). ويطلق اسم هجر أحياناً على البحرين من باب إطلاق الجزء على الكل، علماً بأن إقليم البحرين يشتمل على عدة جزر،

__________

(1) صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، 1945، ج 1، ص. 176.

(2) ياقوت، المرجع السابق، ج 1، ص. 347.

 

(1/2135)

 

 

ومنها جزيرة أورال وشفار وثاروت وحوارين وقطر(1).

... وقد دفع الموقع الجغرافي سكان البحرين ومعظمهم من قبيلة عبد القيس ابن قصي إلى ركوب البحر منذ عهد مبكر(2). فكان بعض أهالي البحرين يمتلكون السفن كما يتجلّي ذلك من البيت الذي قاله طرفة بن العبد في معلقته وهو من أهل البحرين:

 

عدولية أو من سفين ابن يامن

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 393.

(2) شمس الدين محمد بن أحمد المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لندن، 1909، ط 2، ص. 93؛ البلاذري، المرجع السابق، ص. 89.

 

(1/2136)

 

 

يجور بها الملاح طوراً ويهتدي (1)

 

... فالعدولية منسوبة إلى ميناء عدولي في الصومال. أما ابن يامن، فهو يهودي من أهل هجر (إحدى جزر البحرين) كان يمتلك عدداً من السفن التي تبحر في الخليج العربي وتصل إلى سواحل شرق إفريقيا. ويبدو أن سكان البحرين كانوا يمارسون الملاحة البحرية مع الشرق الأقصى وكذلك شرق إفريقيا منذ ما قبل الإسلام(2)

__________

(1) أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني، شرح المعلقات السبع، تحقيق محمد علي حمد الله، المطبعة التعاونية، دمشق، 1936، ص. 139.

(2) عبد الرحمن عبد الكريم العاني، عمان في العصور الإسلامية الأولى ودور أهلها في المنطقة الشرقية من الخليج العربي وفي الملاحة والتجارة الإسلامية، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، 1975، ص. 173.

 

(1/2137)

 

 

.

... ويبدو أن ازدهار البحرين واكتسابها أهمية في أواخر العصر الساساني يرجع إلى عدة عوامل، منها: قربها من شمال فارس، واحتكاك سكان البحرين بالساسانيين (1)، ثم الخبرة الممتازة التي يتمتع بها سكان البحرين في صناعة السفن ومهارتهم الملاحية وشجاعتهم أمام العواصف (2).

... وبعد استقرار الإسلام في البحرين في العصر الراشدي، أخذ العرب المسلمون يهاجمون المدن الفارسية بحراً من البحرين. وكانت أولى

__________

(1) العاني، المرجع السابق، ص. 174.

(2) أحمد الشامي، المقال السابق، مجلة المؤرخ العربي، عدد 12، 1980، ص. 94.

 

(1/2138)

 

 

الغارات بقيادة عثمان بن أبي العاص الثقفي والي البحرين سنة (22 هـ/ 643 م) (1).

... ويظهر من المعلومات المتوافرة في المصادر العربية أن البحرين كانت عند ظهور الإسلام المركز الرئيس للتجارة والملاحة في الخليج العربي. فكان فيها عدة موانئ ترسو فيها السفن التي تتاجر مع الهند، حيث كان

__________

(1) فاروق عمر فوزي، تاريخ الخليج العربي في العصور الإسلامية الوسطى، ط 2، بغداد، 1985، ص. 83؛ راجع العاني، البحرين في صدر الإسلام وأثرها في حركة الخوارج، رسالة الماجستير، جامعة بغداد ـ كلية الآداب، 1971، صص. 151 ـ 155.

 

(1/2139)

 

 

التجار يسيرون سفنهم بمحاذاة سواحلها أو يفرغون السلع فيها ثم ينقلونها بالطريق البري (1). ولابد من أن نشير إلى أنشط مناطق البحرين في الملاحة، وهي الدارين التي اكتسبت أهمية خاصة من بين مناطق البحرين؛ فكان لها دور واضح في التجارة البحرية مع الهند (2). وكانت دارين في أوائل العصر الإسلامي من المراكز العربية المهمة للتجارة، وخاصة تجارة المسك حتى سمي بائع المسك والطيب بـ »الداري« نسبة إليها (3)

__________

(1) العاني، عمان في العصور الإسلامية، المرجع السابق، ص. 171.

(2) العلي، المرجع السابق، ص. 231.

(3) ابن عبد الحق، المرجع السابق، ج 2، ص. 509.

 

(1/2140)

 

 

. وكانت دارين تستورد المسك من الهند وتتاجر به في جزيرة العرب. فكان للمسك الداري شهرة في كافة أنحاء الجزيرة. ولكن يبدو أن دارين أخذت تضعف تدريجياً بعد إنشاء البصرة التي صارت المركز الرئيس لتجارة الهند، فحرمت دارين من أهميتها (1). وعلى العموم، فقد أخذت أهمية البحرين التجارية تضعف بعد استقرار الدولة العربية الإسلامية وحلت محلها البصرة وعمان، حيث كانتا تتمتعان بموقع جغرافي أكثر ملاءمة للملاحة البحرية.

...

... 2 ـ عمان

__________

(1) العلي، المرجع السابق، ص. 231.

 

(1/2141)

 

 

... قاعدة الخليج العربي. وتقع على مداخله من الجهة الجنوبية على الشاطئ الغربي كما تطل على المحيط الهندي (1). ويذكر المقدسي (2) عدداً من مدن عمان، منها صحار، وهي قصبة عمان، ونزوة والسر وحفيت وديا وسلوت والقلعة وضنكان ومسقط وتؤام وسمد وجلفار وغيرها. وعمان مدينة جليلة بها مرسى السفن من الصين والهند والزنج وليس على بحر الخليج مدينة أجل منها، وهي ديار الازد (3)

__________

(1) أحمد الشامي، المرجع السابق، ص. 88.

(2) أحسن التقاسيم، المرجع السابق، ص. 92.

(3) أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة، 1963، ج 2، ص. 55.

 

(1/2142)

 

 

المشهورين بالملاحة. فكان لموقع عمان أثر في ازدهارها. فهي مواجهة لكل من الخليج العربي والبحر الأحمر، وهي أيضاً قريبة من الهند؛ كما أن مياهها عميقة ومعظم شواطئها محاطة بجبال تحميها من الرياح القوية فتساعد على نشوء الموانئ، فضلاً عن أنها تقع على الطريق الرئيس للتجارة الرائجة الممتدة من الصين، إلى المدن الواقعة على جانبي الخليج، كل ذلك جعلها المركز الرئيس للساحل الغربي من الخليج العربي. وكان لهذا أثر في تطور الملاحة والتجارة البحرية (1).

__________

(1) العاني، المرجع السابق، ص, 175.

 

(1/2143)

 

 

... ويبدو أن سكان عمان كانوا يشتغلون بالملاحة فترة طويلة قبل الإسلام. فيذكر أبو عبيدة أن »أردشير بن بابك جعل الأزد ملاحين بشهر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة« (1). وبعد ظهور الإسلام، كثرت الإشارات إلى اشتغال العمانيين بالملاحة وإلى مهارتهم فيها. فيروي الجاحظ(2) قصة تصف أزد عمان بأنهم ملاحون.

__________

(1) ياقوت، المرجع السابق، ج 4، صص. 521 ـ 522.

(2) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 2، القاهرة، 1966، ج 3، ص. 313.

 

(1/2144)

 

 

... وكان للعمانيين نشاطٌ ملاحيٌّ بعدة جهات. فيذكر المسعودي(1) أن المحيط الهندي »له خليج متصل بأرض الحبشة... ويسمى الخليج البربري... وأهل المراكب من العمانيين يقطعون هذا الخليج إلى جزيرة قنبلو من بحر الزنج... وهؤلاء القوم الذين يركبون هذا البحر من أهل عمان عرب من الأزد«. وقال بخصوص سفالة: »وهي أقاصي بلاد الزنج، وإليها تقصد مراكب العمانيين... وهي غاية مقاصدهم« (2).

__________

(1) أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط 4، بيروت، 1981، ج 1، ص. 107.

(2) المرجع نفسه، ج 2، ص. 6.

 

(1/2145)

 

 

وقد توضح من خلال هذه النصوص أنه كانت هناك ملاحة مباشرة نشطة واسعة بين عمان وسواحل شرق إفريقيا وأن عمان كانت مركزاً لهذه الملاحة. وكان لعمان اتصال مع الشرق الأقصى وخاصة الصين، فكانت الملاحة العربية نشطة ومباشرة، خاصة في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي وهي تصل خانقو، أي كانتون الحالية (1). وكان يقوم بمعظم هذه الملاحة أهل عمان. وكانت مراكب الصين بالمقابل تصل إلى المراكز العربية على الخليج العربي: »مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف... «(2)

__________

(1) العاني، المرجع السابق، ص. 180.

(2) المسعودي، المرجع السابق، ج 1، ص. 140.

 

(1/2146)

 

 

. وكان العمانيون يتاجرون مع المحطات الملاحية والتجارية التي تقع على طريق الصين، وأهمها »كله« وهي »فرضة بالهند«. وخلاصة القول: كانت مراكب العمانيين تؤم معظم موانئ المحيط الهندي وتتاجر معها؛ فوصلت مراكبهم إلى الصنف وفنصور وسرنديب وصندايور وسندان والديبل وغيرها(1).

... ولابد من أن نشير إلى صحار أهم مدن عمان، حيث وصفها المقدسي بأنها »بلدة طريفة ممتدة على البحر... لهم آبار عذبة وقناة حلوة. وهم في سعة من العيش، ودهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومئونة اليمن«(2)

__________

(1) العاني، المرجع السابق، ص. 184.

(2) أحسن التقاسيم، المرجع السابق، ص. 93.

 

(1/2147)

 

 

، وهي أعمر مدن عمان وأكثرها مالاً وهي قصبتها. ومما زاد أهمية صحار أنها أقرب الموانئ العربية لرسو السفن الآتية من الهند، الأمر الذي ساعدها على أن تصبح ـ فوق كونها ميناء ـ مركزاً للتجارة مع الهند وإفريقيا (1).

... ولابد من أن نشير إلى أن نشاط أهل عمان شمل مختلف جوانب النشاط التجاري والبحري. فكان بعضهم يمارس الملاحة وآخر يدير السفن ويبحر فيها، وبعضهم يمتلك السفن ويستخدمها لنفسه أو لمن يؤجره، وبعضهم يقوم بالتجارة أيضاً. وهذا مكنهم من القيام بنقل سلع إفريقيا والهند

__________

(1) العلي، المرجع السابق، ص. 231.

 

(1/2148)

 

 

والشرق الأقصى مباشرة دون الاعتماد على العناصر الأخرى (1).

 

... 3 ـ الإبلة

... تتمتع الإبلة بموقع جغرافي مهم، فتقع في نهاية الرأس الجنوبي لنهري الدجلة والفرات الصالحين للملاحة وعلى زاوية الخليج الذي يدخل بقناة اصطناعية إلى مدينة البصرة (2). ويرجع تاريخ الإبلة الملاحي إلى عهد الإسكندر الأكبر (3). ووصفها البحار تيارجس في المائة الرابعة قبل الميلاد بأنها مستودع تجارات الخليج(4)

__________

(1) العاني، المرجع السابق، ص. 193.

(2) ياقوت، المرجع السابق، ج 1، ص. 97.

(3) العلي، المرجع السابق، ص. 232.

(4) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 61.

 

(1/2149)

 

 

وتمتعت الإبلة بدور الوسيط في التجارة البحرية مع الشرق. ونظراً لأهمية الإبلة، توجهت إليها أنظار العرب المسلمين منذ عهد مبكر. فالخليفة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) كتب إلى خالد بن الوليد بعد أن فرغ من حرب اليمامة سنة 12 هـ/ 633 م: »أن سِرْ إلى العراق حتى تدخلها وابدأ بفرج الهند، وهي الإبلة«(1). إلاَّ أنها لم تفتح بصورة كاملة إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 14 هـ/ 635 م

__________

(1) محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 3، بيروت، 1967، ج 3، ص. 343.

 

(1/2150)

 

 

وعلى يد عتبة بن غزوان(1). وكان من ضرورات فتح الإبلة هو إحكام الطوق الاقتصادي على الفرس والسيطرة على طريق الملاحة التجارية مع الهند والصين والعالم. وكانت الإبلة ميناء صالح لرسو السفن البحرية، فكانت السفن المتوسطة تستطيع الوصول إلى الإبلة(2). وكان لانتقال الخلافة العباسية إلى بغداد دور في زيادة الاهتمام بالإبلة، وبالتالي أثر في ازدهارها: »ما رأينا مثل الإبلة أقرب مسافة ولا أطيب نطفة ولا أوطأ مطية ولا أربح لتاجر ولا

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 350.

(2) الآلوسي، تجارة العراق...، المرجع السابق، ص. 63.

 

(1/2151)

 

 

أخفى لعابد«(1). لذا زادت ملاحة الإبلة حتى وصفت بأنها »مرفأ سفن البحر من عمان والبحرين وفارس والهند والصين«(2). وكان الاتصال المائي وقرب المسافة بين بغداد العاصمة وميناء الإبلة، فضلاً عن قابلية الميناء لاستيعاب السفن البحرية، ممّا ساعد على وجود حلقات اتصال بحريّ بين الإبلة ومختلف المناطق. فكانت تسمى أرض الهند أو فرج الهند والسند (3)

__________

(1) الجاحظ، البيان والتبيُّن، المرجع السابق، ج 2، ص. 297.

(2) أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، القاهرة، 1960، ص. 117.

(3) الطبري، المرجع السابق، ج 3، ص. 347؛ راجع أمل عبد الحسين عباس السعدي، الابلة في العصر الإسلامي، رسالة ماجستير، كلية الآداب، 1976، ص. 232.

 

(1/2152)

 

 

. وكانت الإبلة تؤمن حاجات الدولة العربية الإسلامية المطلوبة من الهند مثل السيوف والساج والعطور وغيرها من الكماليات التي تطلبها الدولة، خاصة بغداد (1). وكانت تستورد من الهند مختلف المواد، خاصة الكمالية منها. أما عن اتجار الإبلة مع الصين، فكانت هي أيضاً مزدهرة ومتنوعة؛ »كانت مرفأ السفن من الصين«(2). وتوجد تجارة منتظمة بين الصين والعراق ترد إلى ميناء الإبلة مباشرة، حيث كانت تستورد مختلف السلع التي تحتاجها الدولة وتصدر

__________

(1) العلي، المرجع السابق، ص. 232.

(2) ابن الأثير، المرجع السابق، ج 2، ص. 239.

 

(1/2153)

 

 

السلع الفائضة إلى الصين (1). وكان للعراق نشاطٌ ملحوظٌ مع سواحل شرق إفريقيا. وتعد تجارة جلب العبيد رائجة في البصرة (2)؛ كما تُعَدُّ تجارة الذهب من منطقة سفالة بأرض الزنج أهم الصادرات من شرق إفريقيا إلى العراق عن طريق الإبلة. وفضلاً عن ذلك، كانت للإبلة أهمية في التجارة الداخلية، فكانت تصدر إلى العراق وأنحاء الجزيرة العربية وكذلك اليمن ما تحتاجه من السلع والبضائع الوافدة لها من الخارج(3).

... 4 ـ البصرة

__________

(1) السعدي، المرجع السابق، ص. 243.

(2) المرجع نفسه، ص. 254.

(3) المرجع نفسه، ص. 250.

 

(1/2154)

 

 

... أنشئت البصرة في زمن الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة 16 هـ/ 637 م (1)، وقد هيأها موقعها القريب من شط العرب أن تؤدي دوراً في التجارة البحرية بين العراق من جهة وجنوب شرق آسيا وإيران (2)، فكانت ترد إليها تجارات الهند والصين وفارس وعمان واليمامة والبحرين لتوصلها إلى عاصمة الدولة بغداد عن طريق السفن النهرية. فيروى أن الخليفة المنصور قال: »كل ما يأتي في دجلة من واسط والبصرة والإبلة والأهواز... فإليها ترقى وبها

__________

(1) الطبري، المرجع السابق، ج 3، ص. 590.

(2) الآلوسي، المرجع السابق، ص. 66.

 

(1/2155)

 

 

ترسى«(1). فلا ريب إذن أن يكون تاجر البصرة أعظم الناس تجارة(2) وتكون البصرة فرضة البحر ومطرح البحر(3). ويذكر المقدسي أنه قد شق إليها من دجلة نهرين: نهر معقل في الشمال الشرقي فتأتيه السفن النازلة من بغداد، ونهر الإبلة وتسير فيه السفن من البصرة نحو الجنوب الشرقي إلى الخليج(4)

__________

(1) أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المرجع السابق، ص. 7.

(2) أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، دار الكتاب العربي، بيروت، 1925، ج 1، ص. 216.

(3) المقدسي، المرجع السابق، ص. 128.

(4) المرجع نفسه، ص. 117.

 

(1/2156)

 

 

. وقد أثر ذلك، فضلاً عن إنشاء مدينة البصرة التي حدها الإصطخري بالبادية غرباً ومياه الأنهار شرقاً ونهر المعقل شمالاً ونهر الإبلة جنوباً(1)، أثر في ميناء الإبلة الذي تضاءلت أهميته واستبدلت تدريجياً بالبصرة. فأصبحت الإبلة ميناء للتجار البصريين ورصيفاً للسفن المتوسطة(2)، في حين تضخمت وظيفة البصرة التجارية مع العلم الخارجي وبالذات مع بلدان المشرق كالهند

__________

(1) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإصطخري، المسالك والممالك، تحقيق محمد جابر عبد العال، القاهرة، 1958، ص. 57.

(2) العلي، المرجع السابق، ص. 232.

 

(1/2157)

 

 

وسرنديب وإندونيسيا والصين.

...

... 5 ـ سيراف

... تقع على الساحل الشرقي للخليج العربي. وتمت شهرتها البحرية منذ القرن السادس الميلادي. وبلغت عصرها الذهبي في القرنين الثالث والرابع الهجريين/ التاسع والعاشر الميلاديين. فبعد أن تحولت التجارة العالمية من البحر الأحمر إلى الخليج العربي والعراق، أصبحت هذه المدينة من أهم مدن الشرق التجارية(1). ومما زاد في أهمية سيراف الملاحية أن ميناءها كان صالحاً لرسو السفن الكبيرة، ومنها تحول البضائع إلى البصرة والإبلة وغيرها من

__________

(1) الألوسي، المرجع السابق، ص. 72.

 

(1/2158)

 

 

المراكز(1)، فضلاً عن كون سيراف ممراً بطريق الملاحة البحرية الخارجة من البصرة صوب الهند والصين. ويقول البلخي: »كانت سيراف قبل ذلك مدينة كبيرة مزدحمة بالمتاجر«(2). وقد اشتهر أهل سيراف بحبهم للعمل في البحر لدرجة يصفها الإصطخري بأن الرجل ربما يقضي جل عمره في البحر لا يخرج من سفينته إلا للضرورة القصوى (3). وقد عملت سيراف ـ بحكم موضعها على ساحل إيران جنوب شيراز ـ على السيطرة والتحكم بتجارة أقاليم إيران

__________

(1) أحمد الشامي، المرجع السابق، ص. 90.

(2) المرجع نفسه.

(3) الإصطخري، المرجع السابق، ص. 138.

 

(1/2159)

 

 

البحرية، واشتغل أهل سيراف بالتجارة وبلغوا من الثراء حد العجب حتى بلغت ثورة أحد تجارها أربعة ملايين ديناراً اكتسبها من تجارة البحر (1). إلا أن سيرافاً لم تستمر في ازدهارها، إذ أصابها الدمار على أثر زلزال مروع تعرضت له المدينة سنة 366 هـ/ 976 م، فهجرها أهلها وأصاب المدينة الركود نتيجة ذلك (2).

 

المبحث الثالث: نشاط البحرية الخليجية

1 ـ مع الشرق الأقصى

... أ ـ الطريق الملاحي

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 83.

(2) الألوسي، المرجع السابق، ص. 76.

 

(1/2160)

 

 

... يبدأ الطريق البحري (1) بين الخليج العربي ومناطق الشرق الأقصى رحلته من البصرة إلى الإبلة عبر شط العرب إلى عبادان عند المصب ومنه إلى سيراف. ويوجد عند سيراف طريقان يوصلان إلى الشرق يلتقيان في كولم ملي (كويلون الحالية بالهند)، أحدهما يسير

__________

(1) راجع المسعودي، المرجع السابق، ج 1، ص. 147؛ وحوراني، المرجع السابق، صص. 208 ـ 215؛ والألوسي، التاريخ الإسلامي في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، مطبعة التعليم العالي، بغداد، 1987، صص. 141 ـ 143؛ والسامر، المرجع السابق، ص. 15؛ والعاني، المرجع السابق، ص. 171.

 

(1/2161)

 

 

بمحاذاة ساحل إيران والسند والهند حتى ملابار وهو طريق طويل نوعاً ما، والطريق الثاني يبدأ من سيراف إلى مسقط أو صحار في عمان حيث تتزود السفن بالماء والطعام ومنها تتجه صوب ساحل الملابار في الهند حتى تصل مباشرة إلى كولم ولي. ولاحظ الرحالة أن الطريق الثاني يختصر المسافة إلى النصف، وهو أكثر مسلكاً من الأول. إلا أن الطريق الأول يتيح لسالكيه فرصة البيع والشراء وتعرّف رغبات الناس وحاجاتهم من السلع أثناء مرور السفن في المحطات التجارية والمدن الواقعة في الطريق الملاحي (1)

__________

(1) المقدسي، المرجع السابق، ص. 474.

 

(1/2162)

 

 

، وفي مدينة أتولم ملي حيث ملتقى الطريقين. ومن هذه المدينة يتفرع مسلكان للملاحة: فمن أراد سرنديب سلك طريقاً عبر مضيق بالك بين رأس الهند الجنوبي وسيلان، والمسلك الثاني يبدأ بعد أن تغادر السفن كولم ملي وتدور حول رأس كومورين جنوب الهند، مبحرة إلى ميناء جال جنوب سرنديب ومنها إلى ميناء كالا من بلاد الملايو(1). أما الوصول إلى جزر الهند الشرقية (إندونيسيا)، فيكون إما بالإبحار من سرنديب مباشرة إلى سومطرة أو بالإبحار من كالا جنوباً إلى جاوه وسومطرة (2)

__________

(1) المسعوديّ، المرجع السابق، ج 1، ص. 142.

(2) الألوسي، المرجع السابق، صص. 87 ـ 89.

 

(1/2163)

 

 

. وإذا أرادت القافلة الوصول إلى خانقو (كانتون جنوب الصين)، وهو الجزء الأصعب والأخطر من الرحلة، فمن كالا تدور السفن حول شبه جزيرة الملايو وتسير باتجاه الشمال الشرقي إلى جزيرة تيومه في بحر كندرنج (خليج سيام)، ومنها إلى مملكة الصنف، أي الهند الصينية، وتعبر منها إلى صندفولات، وتصل أخيراً إلى خانقو (ميناء الصين العظيم) (1). وقد قدر الرحالة الفترة الزمنية التي تستغرقها الرحلة من البصرة إلى خانقو في ساحل الصين الجنوبي ذهاباً وإياباً مع التوقفات عاماً ونصف

__________

(1) الحوراني، المرجع السابق، صص. 213 ـ 214.

 

(1/2164)

 

 

عام، في حين يستغرق الطريق المباشر دون توقف بين جنوب الصين والخليج العربي ثلاثة أشهر (1).

 

... ب ـ البضائع المحمولة

... ب. 1 ـ البضائع المستوردة

... كان الرحالة العرب يجلبون في رحلاتهم البحرية من الهند والسند والصين وغيرها من مراكز الشرق الأقصى من المحطات التجارية التي يمرون بها مختلف السلع والبضائع التي تحتاجها الدولة العربية الإسلامية. فكانوا يجلبون السيوف، خاصة الهندية المشهورة بجودتها، والساج والقرنفل والفلفل وسروج الخيل والجلود والبهارات والعاج والقصدير

__________

(1) الألوسي، المرجع السابق، ص. 143.

 

(1/2165)

 

 

والصندل ومختلف المنسوجات الثمينة والمسك الصيني والفخار الصيني والعود الصيني والكافور والبلور والفيلة والقسط والقنا والخيزران والقيان والياقوت والنارجيل والزنجبيل وغيها من السلع والبضائع الكمالية (1).

__________

(1) راجع السامر، الأصول التاريخية، ص. 12؛ الألوسي، التاريخ الإسلامي، صص, 143 ـ 145؛ الألوسي، تجارة العراق البحرية، صص. 205 ـ 228؛ السعدي، الإبلة، صص. 229 ـ 250؛ عواد مجيد الأعظمي وحمدان الكبيسي، دراسات في الاقتصاد العربي الإسلامي، مطبعة التعليم العالي، بغداد، 1988، صص. 134 ـ 137.

 

(1/2166)

 

 

... ب. 2 ـ البضائع المصدرة

... لقد صدرت الموانئ الإسلامية الواقعة على الخليج العربي البضائع والسلع المحلية الفائضة إلى بلدان الشرق الأقصى، خاصة المواد الزراعية مثل التمور والفاكهة كالعنب والنارنج والموز. وصدر المسلمون المنسوجات كالسقلاطون والعمائم والخز والبز والوشي وملابس الوبر والصوف والعنبر الشحري والبخور، كما صدروا الكندر والقاطر وأوراق التنبول والبن والوند والصبر وحجر الولادة والماسكة والنبك والدر بلؤلؤة ومرجانة والجبوة والمر والصمغ العربي الشهير وغيرها من السلع والبضائع المتوافرة في

 

(1/2167)

 

 

أقاليم الدولة العربية الإسلامية (1)، وفضلاً عن دور الموانئ العربية في نقل السلع والبضائع المحلية كانت تقوم بنقل السلع والبضائع القادمة من أوربا وإفريقيا والمتجهة صوب شرق آسيا (2).

 

... ج ـ أثر الملاحة العربية في الشرق الأقصى

__________

(1) الألوسي، تاريخ الإسلام، صص. 145 ـ 146؛ السامر، الأصول التاريخية، ص. 21؛ السعدي، المرجع السابق، صص. 237 ، 350؛ غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، 1948، ص. 663.

(2) المسعوديّ، المرجع السابق، ج 2، ص. 6.

 

(1/2168)

 

 

... فضلاً عن دور الملاحة العربية في نقل السلع والبضائع التجارية بين بلدان الشرق والشرق الأقصى وبين أقاليم الدولة العربية الإسلامية، الأمر الذي حقق ارتباطاً تجاريّاً واقتصاديّاً من خلال انتقال السلع والبضائع والعملات النقدية المتداولة في الأسواق المختلفة، كان لهذا الاتصال التجاري الاقتصادي آثار حضارية كبيرة من أبرزها انتشار الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية في بعض الجهات من بلدان الشرق الأقصى، حيث تكونت جاليات عربية إسلامية استقرت ونمت في كثير من أطراف الصين والهند. وقد أدّى التجار العرب

 

(1/2169)

 

 

المسلمون وهذه الجاليات دوراً كبيراً في نشر الإسلام بهذه المناطق البعيدة (1)؛ كما أحدث هذا الاختلاط آثاراً اجتماعية كثيرة في المجتمعات، حيث شاعت اللغة والعادات والتقاليد والأسماء العربية. ولم يقتصر تأثير التجار والجاليات على عامة الناس في المجتمعات الآسيوية، بل تعدّى تأثيرها إلى الحكام والملوك في بلدان الشرق الأقصى. فكثيراً ما كان يدخل الحكام الإسلامي بفعل لقاء بحري

__________

(1) الألوسي، تجارة العراق البحرية، صص. 142 ـ 144؛ الألوسي، التاريخ الإسلامي، صص. 192 ـ 194؛ السامر، الأصول التاريخية، صص. 49 ـ 52.

 

(1/2170)

 

 

بينهم وبين بعض التجار العربي المسلمين (1). مقابل ذلك، نقل التجار العرب المسلمون إلى الدولة العربية الإسلامية مختلف الصناعات والعلوم التي أسهمت في تطوير الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها، فصناعة الورق وفنون الزخرفة وصناعة النسيج وكثيراً من المحاصيل الزراعية التي نقلت من الشرق لزرعها في مناطق مختلفة من الدولة العربية الإسلامية (2).

...

2 ـ مع شرق إفريقيا

... أ ـ الطريق الملاحي

__________

(1) السامر، المرجع السابق، ص. 48.

(2) الشامي، المرجع السابق، صص. 118 ـ 120.

 

(1/2171)

 

 

... كان مسار السفن العربية إلى شرق إفريقيا يبدأ من أي مركز من المراكز المتعددة سواء من البصرة أو من سيراف أو من عمان تنطلق من الخليج العربي إلى عدن ومنها إلى البحر الأحمر لتجتازه إلى السواحل الشرقية للبحر الأحمر عند مدغشقر والصومال وزنجبار. وأقصى ما تصل إليه الملاحة العربية ـ كما يروي المسعودي ـ في شرق إفريقيا إلى سفالة (1)

__________

(1) مروج الذهب، المرجع السابق، ج 2، ص. 6؛ الحوراني، العرب والملاحة، ص. 230؛ محمد عبد الله النقيرة، انتشار الإسلام في شرقي إفريقيا ومناهضة الغرب له، دار المريخ، الرياض، 1982، ص. 23.

 

(1/2172)

 

 

.

 

... ب ـ أهم البضائع المحمولة

... ب. 1 ـ السلع المستوردة

... لقد جلب الملاحون العرب المسلمون من موانئ سواحل شرق إفريقيا أهم السلع والبضائع الرائجة فيها، خاصة الثمينة؛ فجلبوا العاج والذهب والنحاس والتوابل والعطور والأطياب والعبيد (1). وقد كان التجار العرب المسلمون يؤمنون حاجات الدولة العربية الإسلامية من هذه البضائع، فضلاً عن قيامهم بنقل هذه السلع إلى بلدان الشرق الأقصى، »حيث يشترون العاج ويحملونه إلى الصين«(2)

__________

(1) الأعظمي، المرجع السابق، ص. 130؛ السعدي، الإبلة، صص. 255 ـ 256.

(2) المسعودي، المرجع السابق، ج 2، ص. 6.

 

(1/2173)

 

 

. وكانت معظم واردات الهند والصين تأتي إليهم بواسطة العرب من إفريقيا، فنقل العرب اللبان والبخور وسن الفيل والعاج والرقيق والذهب من شرق إفريقيا(1).

 

... ب ـ السلع المصدرة

... فضلاً عن البضائع والسلع المحلية التي ينقلها البحارة المسلمون إلى شرق إفريقيا عبر الخليج العربي مثل التمور والفواكه واللؤلؤ والأحجار الكريمة والمنسوجات المختلفة، كانوا أيضاً ينقلون بضائع بلدان الشرق الأقصى إلى شرق إفريقيا. فنقلوا التوابل والقرنفل وخشب

__________

(1) الحوراني، المرجع السابق، صص. 82 ـ 85؛ النقيرة، المرجع السابق، ص. 69.

 

(1/2174)

 

 

الصندل والمسك والكشمير والحرير(1). وقد أكد المسعودي سيطرة العرب المسلمين على التجارة في المحيط الهندي، حيث كانوا يحملون التجارة من الهند والصين، وبالعكس، حيث يقومون بدور الوسيط بين شرق إفريقيا وشرق آسيا(2).

 

ج ـ أثر الملاحة العربية على شرق إفريقيا

... لقد أضحى العرب المسلمون المسيطرون على طرق التجارة وكانت سفن عرب الخليج العربي تجوب المحيط الهندي وخلجانه والبحر الأحمر لتحمل البضائع من

__________

(1) السعدي، المرجع السابق، ص. 266؛ النقيرة، انتشار الإسلام، ص. 24.

(2) مروج الذهب، المرجع السابق، ج 2، ص. 6.

 

(1/2175)

 

 

شرق إفريقيا إلى العالم الإسلامي، ومنها إلى بلدان شرق آسيا. وكان العرب سادة التجارة والملاحة في المحيط الهندي منذ القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري، وتقوم التجارة العالمية على وساطتهم(1). فقد كان لعرب المسلمين دور تجاريّ كبير يتمثل في نقل السلع والبضائع من شرق إفريقيا إلى العالم الإسلامي، ومنه إلى شرق إفريقيا فضلاً عن ربطهم شرق آسيا بشرق إفريقيا تجاريّاً واقتصاديّاً(2)

__________

(1) آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، بيروت، 1967، ج 2، ص. 436.

(2) النقيرة، المرجع السابق، ص. 70.

 

(1/2176)

 

 

.

... وكان للتاجر العربي دورٌ حضاريٌّ كبيرٌ، حيث أسهم ـ ومعه الجاليات العربية الإسلاميّة المنتشرة على سواحل شرق إفريقيا ـ بنشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية بين أقوام الأفارقة المستوطنة شرق إفريقيا والأقوام التي تتعامل مع المسلمين في المناطق المختلفة والبعيدة نسبياً عن سواحل شرق إفريقيا(1)، بل حصل اختلاط وتزاوج بين التجار العرب والأفارقة. ولم يقتصر الأمر على ذلك: فقد تكونت بمرور الزمن جاليات عربية كبيرة تمتلك ثروة طائلة وتسيطر على شؤون التجارة، ولها احتكاك متواصل

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 36.

 

(1/2177)

 

 

بالناس. فأقبل الناس على الالتفاف حولهم متأثرين بعقيدتهم وخلقهم وتعاملهم الجميل. فاعتنقوا الإسلام وكان من بينهم ملوك وحكام أفارقة(1). وقد كون العرب المسلمون إمارات وسلطنات إسلامية من عيذاب شمالاً إلى سفالة ومدغشقر جنوباً يحكمها مسلمون من العرب أو غيرهم من المسلمين(2). فانتشر الإسلام والثقافة العربية الإسلامية المتمثلة في اللغة العربية والعادات والتقاليد في أنحاء كثيرة من مدن شرق إفريقيا، الأمر الذي دفع بكتاب القرن الرابع

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 69.

(2) انظر النقيرة، المرجع السابق، صص. 175 ـ 213.

 

(1/2178)

 

 

الهجري/ العاشر الميلادي إلى الإجماع على ظهور تلك المدن زاخرة بالحياة الإسلامية(1).

 

المبحث الرابع: الصعوبات التي تواجه الملاحة البحرية في الخليج العربي

1 ـ طبيعة البحار والمحيطات

... من أكثر الأخطار والصعوبات التي كانت تواجه الملاحة البحرية في الخليج العربي ما اتصفت به البحار والمحيطات من دوامات وأمواج عاتية وعواصف وحيوانات بحرية وجزر بحرية عائمة وسط الخليج(2)

__________

(1) المسعودي، المرجع السابق، ج 2، ص. 18.

(2) السعدي، المرجع السابق، ص. 266؛ الشيخلي، دراسات عن تاريخ الخليج العربي، ص. 15؛ متز، الحضارة الإسلامية، ج 2، ص. 435.

 

(1/2179)

 

 

. ويشير المسعودي إلى ذلك بقوله:

... وهذه المواضع في البحر وجبال سرو ذاهبة في الهواء لا نبات فيها ولا حيوان. يحيط بها مياه من البحر (...) وأمواج متلاطمة تجزع منها النفوس إذا أشرقت عليها. وهذه المواضع من بلاد عمان وسيراف لابد للمراكب من الجواز عليها والدخول في وسطها، فتخطئ وتصيب (1).

ومن الأمور الأخرى ضحالة المياه في بعض الأقسام من الخليج العربي، وخاصة بالقرب من عبادان (2). أما الأمواج والعواصف، فمما يزيد خطورتها أن

__________

(1) المسعودي، المرجع السابق، ج 1، ص. 111.

(2) السعدي، المرجع السابق، ص. 267.

 

(1/2180)

 

 

هياج الخليج والبحر العربي وبحر الهند والصين يكون في أوقات متفاوتة (1).

 

2 ـ مهاجمة القراصنة واللصوص للبحر

... لم يكن خطر لصوص البحر أقل تأثيراً مما سبقه، لأنهم كانوا يأوون إلى الجزر والشعاب المختلفة في البحر. وقد أشار المسعودي إلى خطورة وجود القراصنة في الجزر المنتشرة في عرض المحيط الهندي وإمكان قيامهم بالإغارة على السفن (2)؛ فكان على الملاحين محاذرتهم. وفي سبيل التصدي للقراصنة، زودت

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 268.

(2) المسعودي، المرجع السابق، ج 1، ص. 154؛ راجع متز، الحضارة الإسلامية، ج 2، ص. 437.

 

(1/2181)

 

 

السفن التجارية بالجنود المربين »النفاطين والمقتلين «(1).

 

3 ـ المصاعب السياسية

... كثيراً ما كانت الاضطرابات السياسية التي تواجهها القوى السياسية في المنطقة تهدد باضطراب حركة الملاحة البحرية في الخليج العربي والمحيط الهندي أو توقف سيرها على طول الطريق البحري الواصل ما بين الخليج العربي والشرق(2).

__________

(1) المقدسي، المرجع السابق، ص. 12.

(2) الشيخلي، المرجع السابق، ص. 14.

 

(1/2182)

 

 

التحديات التي تتعرض لها الأمة العربية وسبل مواجهتها (من خلال أقوال صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان )

 

"إن الأمة العربية تواجه الآن ص حركة قاسية من أجل الدفاع عن حقها وترابها وشرفها"(1) في وقت تتعرض فيه لتحديات خطيرة تتمثل في .

- "مأساة التمزق والانقسام والتفرقة،)(2)،

- و"عدم اطمئناننا لبعضها البعض (3)،

- و"استنزاف وإهدار طاقات أمتنا"(4)،

- و"التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول (لعربية) (5)،

 

(1/2183)

 

 

- و"المماطلة والتسويف بهدف فرض الأمر الواقع خلافا للحق و"لقانون "(6). مما أدى إلى "حالة الضعف والهوان(7) التي باتت تهدد اليوم الوجود العربي نفسه (8).

- فماذا ننتظر ح حرب من فرقتنا.... هل تنتظر حتى ينال المتربصون منا؟ (9)،

 

(1) زايد والسياسة الخارجية، ديوان الرئاسة، أبو ظبي ، 1991، ص.363 . (2) (2) المصدر السابق ، ص118

(3) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 5/9/1997

(4) زايد والسياسة الخارجية، ص 138.

(5) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم ،1/10/1995

(6) زايد والسياسة الخارجية، ص 472

 

(1/2184)

 

 

(7) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 1/10/1995.

(8) زايد والسياسة الخارجية، ص118

(9) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 5/9/1997

 

قام صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان برحلات إلى مختلف العواصم (ل حربية : لإصلاح ذات البين ولتنقية الأجواء وجمع الشمل وتعزيز وحدة الصف العربي، ومن أجل الإسهام في تقويم المسيرة العربية حتى تتمكن أمتنا من مواجهة تحديات )ل حصر التي أوجدت تجمعات قوية بوحدتها السياسية والاقتصادية والحضارية : "لقد ساهمت الزيارات التي قمنا بها في تعزيز الصلات الثنائية مع الدول الشقيقة وتوثيق

 

(1/2185)

 

 

أواصر الأخوة القائمة بين الشعوب العربية وتنمية التعاون معها في جميع المجالات وتعزيز التضامن العربي من أجل تحقيق الأهداف السامية للأمة العربية"(10). فما أنجع السبل الكفيلة بمواجهة التحديات التي تتعرض لها الأمة العربية ؟

على المستوى العربي :

"إن أمتنا العربية. . . تحتاج إلى تصفية القلوب وإنكار الذات وإعلاء المصلحة العليا العربية فوق كل اعتبار"(11)، لأن "خطورة التحديات .. تتطلب وجود إدراك عريي لمواجهتها بصورة جماعية،(12)، الأمر الذي يستوجب "مراجعة شاملة للموقف العربي واتخاذ القرارات الضرورية تجاه

 

(1/2186)

 

 

ما يحدث "(13)، ويفرض "بناء الإنسان العربي البناء الأمثل وتوفير جميع مقومات الحياة الكريمة"(14)، والعمل على "إحياء تاريخ ومجد الأسلاف وتوثيقه وإبرازه لشباب الجامعات لكي يعملوا الأجيال القادمة كيف حافظ الأسلاف على وطنهم وعزتهم رغم عدم توفر الإمكانيات والثروة التي يملكها العرب اليوم "(15)، لأن "من لا يعرف ماضيه فهو حتما لا يعرف حاضره. .. أما إذا عرف المرء ماضيه ، فلابد أن يعرف حاضره .. . ويعرف ماذا يجب عليه أن يحسبه من حساب للمستقبل،(16).

 

(10 ) زايد والسياسة الخارجية، ص 26.

 

(1/2187)

 

 

(11) المصدر السابق ، ص157.

(12) جريدة الاتحاد الإماراتية ، يوم 5/9/19897.

(13) المصدر السابق.

(14) زايد والسياسة الخارجية، ص . 111 .

(15) جريدة الاتحاد الإماراتكية، يوم 1/10/1995.

(16) زايد والسياسة اظارجية، ص . 12 .

 

و"بدون الأخلاق وبدون حسن السلوك وبدون العلم لا تستطيع الأم أن تبني أجيالها والقيام بواجبها، وإنما تبنى حضارات الأم بال حلم وحسن الخلق و"لشهامة وص حرفة الماضي والتطلع للحاضر المستقبل "(11). على المستوى السياسي : "إنني أؤمن بأهمية اللقاء العربي المباشر والمستمر لإيجاد حوار دائم لا

 

(1/2188)

 

 

ينقطع . .. لنتخذ، متحدين ، مواقف لها فعالياتها وتأثيرها"(18). وللوصول إلى ذلك ، على "الإخوان من القادة (ل حرب التآزر والمصالحة ولم الشمل والحرص على مصا، الأمة العربية وشعوبها وتجاوز حالة الفرقة بين الأشقاء ومواجهة قضايا الأمة العربية بروح أخوية صادقة وعمل جاد وفعال"(19). مع الحرص على إعادة التضامن العربي "القافي على مبد! احترام سيادة ووحدة أراضي كل دولة عربية وصيانة حقوقها ومصادر رزقها ثروتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"(20). والتأكيد على "صياغة العلاقات العربية والأمن العربي بما يكفل تحقيق

 

(1/2189)

 

 

أمن الدول العربية ورسم مستقبل اكثر أمنا واستقرارا والتطلع إلى غد مشرق دعامته القوة وسنده الحق ومضمونه التكاثف والتآزر وأساسه الأخوة والتضامن والعدل و شعاره فعل الخير وتحقيق السلام "(21).

ومن جهة أخرى، "نحن في حاجة إلى عقد قمة عربية، ولكن علينا أولا قبل الدعوة لعقدها أن نسعى لإزالة الانشقاق والتصدع الموجود في الصف العربي ولابد أن يكون هناك تحضير وإعداد جيدين لضمان نجاح هذه القمة"(22). والأمل كبير في أن "تنجح جامعة الدول العربية في تحمل المهام الموكلة إليها.

 

(7ا) المصدر السابق ، ص . 13.

 

(1/2190)

 

 

(18) المصدر السابق ، ص . 161.

(19) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 1/10/1995.

(20) المصدر السابق ، يوم 3/12 /1996.

(21) زايد والسياسة الخارجية، ص .146.

(22) زايد في رحلة الصداقة والإخاء، مؤسسة الاتحاد للصحافة والطباعة والنشر، أبو ظبي، سبتمبر، 1991، ص . 42.

 

وأن تكون قادرة على منع أي تدهور في الموقف العربي والتصدي له قبل حدوثه بالتعاون مع القادة" (23).

أما الإعلام العربي "فعليه تحمل مسؤوليته العمل على بلورة موقف عربي موحد يحفظ للعرب حقوقهم ووجودهم وكيانهم ... ونقل الحقائق لقادة الأمة العربية

 

(1/2191)

 

 

وشعوبها" (24).

على المستوى الاقتصادي :

"إننا - كعرب ومسلمين - لم نستفد من الإمكانيات والثروات التي أف حم الله بها علينا ووفرها لنا"(25) مما يتطلب أمرين متلازمين : "الاعتماد على أنفسنا، ثم تسخير طاقاتنا جميعا لتحقيق أهدافنا. والشيء الأساسي الذي يحقق هذين الهدفين هو إيماننا بالله وبما ورثناه عن أجدادنا من قيم أخلاقية و شجاعة وإخلاص "(26). ويفرض في الوقت نفسه "إقامة تعاون اقتصادي ونقدي بين الدول العربية" (27) في "هذا العصر الذي يقوم على التكتلات و توحيد المعاملات"(28). ويستوجب "تطويرا للتعاون بين

 

(1/2192)

 

 

العالم العربي والدول الأوربية لفتح آفاقا جديدة في التعاون الاقتصادي و العلمي الذي يساهم في تطور الحضارة الإنسانية و تعزيز السلام العالمي" (29).

"إن التكامل الاقتصادي وإقامة سوق عربية مشتركة هما المدخل العلمي والحقيقي للوحدة العربية التي لم تعد ضرورة حتمية فحسب بل أصبحت مسألة قدر ومصير"(30).

 

(23) المصدر السابق .

(24) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 1/10/1995.

(25) زايد والسياسة الخارجية، ص. 253.

(26) المصدر السابق ، ص. 59.

(26) المصدر السابق ، ص. 190.

(27) المصدر السابق ، ص. 74.

 

(1/2193)

 

 

(28) المصدر السابق ، ص.39 .

(29) المصدر السابق ، ص . 245.

عل مستوى التضامن العربي الإسلامي :

"إن (لأحد الإسلامي بعد متصل مع البعد العربي ويكمل أحدهما الآخر،)(31) و"التكامل (لعربي الإسلامي يخلق قوة جبارة بما تملكه الدول العربية والإسلامية من ثروات تدخل في إيجاد التوازن الدولي ،)(32).

على المستوى الدولي : "إن الحوار السلمي المخلص الجاد طريق لتقرير واحترام الحقوق والمصالح المشتركة لجميع الأطراف على السواء"(33)، وإن "التعاون مع الدول والشعوب يقوم على أساس مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل ورعاية

 

(1/2194)

 

 

المصالح، المشتركة)،(34).

فعلى "المجتمع الدولي أن يقف إلى جانب الحق والإنصاف "(35)! فإنه لن "ينهون هناك استقرار. .. ما دام (لعرب لم يحصلوا على حقوقهم "(36). وإذا كانت "تعاليم ديننا أن نرد الخير بأكثر منه فإننا لا نستطيع أن نتحمل الإساءة إلى ما لا نهاية"(37).

هذا "هو الطريق الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا تضيع الحقوق العربية"(38). ولتعويض ما مر على العرب من خسارة ولدعم المصالح العربية المشتركة"(39)، فالأمة العربية "باتت تؤمن الآن بالتضامن بعد أن أدركت أن خسارتها

(31) المصدر السابق ، ص.167 .

 

(1/2195)

 

 

(32) المصدر السابق .

(33) المصدر السابق ، ص.472.

(34) المصدر السابق ، ص.357.

(35) المصدر السابق ، ص.463.

(36) المصدر السابق .

(37) المصدر السابق ، ص.367.

(38) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 5/9/1997 .

(39) المصدر السابق .

 

في الفرقة،)(40) و"أن التضامن (لعربي مهما كلفنا من جهود يبقى أقوم سبيل للخروج من أزمتنا وتأمين استقرار أوطاننا"(41).

"نرجو الله أن يهدينا لما يحبه ويرضاه وأن ب حل الأخ عونا لأخيه ،)(42).

 

(40) زايد والسياسة الخارجية، ص.390.

(41) جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم 3/12/1996

 

(1/2196)

 

 

(42) المصدر السابق ، يوم 5/9/1997 .

 

(1/2197)

 

 

التحديث والتجديد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر

(وقفة تأمل ومراجعة)

... ... ... ... ... الدكتور سعيد بنسعيد العلوي

... ... ... ... كلية الآداب ـ الرباط

 

... "التحديث" ، "التجديد"، "الفكر العربي الإسلامي المعاصر": مفاهيم ثلاثة تستلزم جملة تدقيقات أو توضيحات نرى أنها ضرورية للتوطئة لعرضنا هذا.

... 1 ـ "التحديث"، من جهة الوصف العام له وليس من جهة التعريف الدقيق لموضوعه وأهدافه، مفهوم يتصل بالوجود الاجتماعي وما يرتبط به من أنماط الوجود السياسي والقانوني والاقتصادي والفكري، مثلما يتعلق بما يحصل من

 

(1/2198)

 

 

الوعي في مختلف تلك الأنماط من الوجود في صلتها بالأحداث المستجدة والظاهرة في مستويات السياسة والاقتصاد والاجتماع والأقل ظهوراً ـ في المعتاد وفي الأغلب الأعم ـ في مستوى الفكر. يعني هذا القولَ إن التحديث يعني وجوب مراجعة كافة أنماط الوجود المختلفة مراجعة شاملة من حيث إنها تستهدف استصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، كما يعني ذلك القول إن المراجعة تكون، حيناً آخر، في معنى إزاحة تلك الأنماط من الوجود واستبدالها بأخرى مكانها حتى يتخذ التحديث معناه الكامل: فلا تحديث إلا باعتبار الموجود متجاوزاً وحائلاً

 

(1/2199)

 

 

دون التطور، وبالتالي عجزاً عن إدراك مغزى التحول والتبدل الملازمين لكل عملية تغير اجتماعي وتحول اقتصادي وتطور سياسي ونقلة نوعية في مستوى الفكر.

 

... يمكن القول، إجمالاً، إن التحديث عملية تتعلق بالمجتمع من جهة أولى، وتتصل بالتاريخ من جهة ثانية، وترجع إلى الإيديولوجيا من جهة ثالثة. فالتحديث إذن سيرورة ثلاثية الحدود والأبعاد. التحديث من وجهة نظر مؤرخ الفكر السياسي والاجتماعي، هو مجموع الكيفيات التي يسلكها الفكر والمجتمع في النظر إلى التحول الاجتماعي الحادث وفي التغير السياسي، الضمني أو الصريح،

 

(1/2200)

 

 

المواكب لذلك التحول أو الناتج عنه. والتحديث، في تعبير آخر، هو مجموع الحلول المقترحة في الرد على الإشكالات الحاصلة؛ فهو إذن حصيلة الإجابات النوعية، الدقيقة أو المضطربة، على الأسئلة الحرجة التي تمثل في صورة تحد يبتغي العصف بالبناء الاجتماعي القائم ويتوخى الإطاحة بالأنسجة الفكرية والاقتصادية والسياسية القائمة، أي تلك التي بها قوام ذلك البناء الاجتماعي ومنها يكون وجوده.

... 2 ـ أما "التجديد"، على النحو الذي نقصده في حديثنا هذا، فهو اصطلاح محدد له مرجعيته المعرفية التي يستمد منها: إنه التجديد في

 

(1/2201)

 

 

المعنى الذي يتحدث عنه الدين الإسلامي والحديث النبوي على وجه التدقيق. ففي الإسلام يكون التجديد أمراً لازماً لوجود الجماعة الإسلامية وضرورياً لاتصالها واستمرارها على حال الجماعة والاجتماع، ولذلك فهو مطلوب شرعاً وعند المسلم إيمان كامل بأن الله هو ضامن ذلك التجديد بموجب الحديث النبوي الصحيح: ”إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها“. وعند فقهاء الإسلام أن الطريق إلى ذلك التجديد يكون في ممارسة الاجتهاد على الحقيقة، والاجتهاد هو الأصل الرابع من أصول أدلة الأحكام الذي يأتي

 

(1/2202)

 

 

بعد الكتاب والسنة والإجماع. يقول الجويني في هذا الصدد: "نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة، ومواقع الإجماع معدودة مأثورة (...) ونحن نعلم قطعاً أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها". وما دام الأمر كذلك، فإن الفقيه العالم مطالب بالبحث عن الأجوبة الشرعية المناسبة لما يستجد من الحوادث في الوجود الإسلامي. ومتى نظرنا إلى عمل الفقيه المجتهد، فنحن نجده، من زاوية نظر البحث الإبستمولوجي، إعمالاً للعقل الفقهي قصد الحصول على الحكم الشرعي في "النازلة" التي تحل بالجماعة الإسلامية في حياتها الاجتماعية

 

(1/2203)

 

 

والاقتصادية والسياسية. وإعمال العقل الفقهي متى توسل بالأدوات التي يتيحها أصول الفقه، يكون بذلاً للجهد واستفراغاً للطاقة وتكلفاً للمشقة في توخي الحكم الشرعي واستخلاصه حيث لا يكون ذلك الحكم صريحاً وواضحاً. إنه نقل له من عالم التضمين والإمكان إلى مجال التصريح والوجود العيني.

... واضح، فيما نأمل، أن التجديد في الدين ينتمي إلى مجال معرفي وحقل دلالي مخالف للمجال المعرفي وللحقل الدلالي الذي رأينا، أعلاه، أن التحديث ينتمي إليه. هل يعني هذا أن التحديث والاجتهاد يتعارضان؟ هل في الإمكان تحصيل التحديث في

 

(1/2204)

 

 

الاقتصاد والمجتمع والسياسة عن طريق التجديد في الدين؟ تلك قضية أخرى وسؤال آخر نرجئ القول فيهما الآن.

... 3 ـ لماذا الحديث عن "الفكر العربي الإسلامي المعاصر" وليس أحدهما فقط؟ أليس في الحديث عن الفكر العربي المعاصر تضمينٌ للفكر الإسلامي المعاصر واقتضاء ضروريٌّ له؟ فالمفكرون المعاصرون العرب يصدرون عن القضايا والمشكلات التي يتناولها الفكر الإسلامي المعاصر، والحضارة الإسلامية مجال طبيعي يتنفس فيه المفكرون العرب من غير أهل ملة الإسلام (= العرب الأقباط في مصر، والمسيحيون العرب في الشام والعراق وفلسطين

 

(1/2205)

 

 

ولبنان). ثم هل يعني إلحاحنا على هذا التركيب المزجي (الفكر العربي الإسلامي) أن في الحديث عن الفكر الإسلامي المعاصر إقصاءً حتمياً لجوانب من الفكر العربي المعاصر؟

... لا يخفى أن الفكر الإسلامي المعاصر نتاج نظري عام يشمل المفكرين العرب وغير العرب أيضاً. ولا يخفى، بالتالي، أنه ليس للوقوف عند الفكر العربي المعاصر (عصر النهضة، فكر النهضة، اليقظة العربية… وما شابه من النعوت والأوصاف) أن يصرفنا عن استحضار جملة من المفكرين المسلمين المعاصرين في كل من تركيا وباكستان والهند وإيران ممن كتبوا بغير اللغة

 

(1/2206)

 

 

العربية وكانت القضايا والإشكالات التي تطرحها كتاباتهم ترجع إلى شؤون المسلمين في البلاد المذكورة، وخاصة ما اتصل بأحوال المسلمين في الهند قبل ظهور دولة الباكستان بعيد منتصف الأربعينيّات. نعم، لقد تم نقل العديد من كتابات أولئك المسلمين إلى اللغة العربية، بل وكان لبعضها صدى وأثر قويان في فكر المفكرين العرب المسلمين، ولكن سمة الإسلام خارج بلاد العرب ظلت ملازمة لتلك الكتابات.

... ولا يغرب عن البال كذلك أن جانباً من الإنتاج العربي المعاصر يتقلص فيه حضور الإسلام بحسبانه شريعة وسلوكاً، وكذلك هو الشأن في

 

(1/2207)

 

 

كتابات المفكرين المسيحيين من رجال اليقظة العربية أمثال فرح أنطون، وشبلي الشميل، وأديب إسحق، وسلامة موسى وغيرهم. صحيح أن الإسلام يحضر في تلك الكتابات بحسبانه مجمل الحضارة التي يرى هؤلاء المفكرون أنهم ينتمون إليها ويتنفسون في مناخها. بيد أن مسألة "التجديد الديني" تغيب في كتابات أولئك المفكرين كلية. وإن هذا الغياب هو ما حدا ببعض الدارسين إلى أن يروا في المفكرين المسيحيين العرب رواداً للفكر الليبرالي في الفكر العربي المعاصر مثلما أنهم يرون في كتابات العرب المسلمين المعاصر تعبيراً عن التيار السلفي

 

(1/2208)

 

 

وبالتالي فإن الفارق بين الفكرين الليبرالي والسلفي يكون في حضور الفكر الديني عند هؤلاء في غيابه عند أولئك. غير أن هذه القسمة الثنائية (التي يأخذ بها العدد من دارسي الفكر العربي المعاصر) يقوم في وجهها اعتراضان اثنان:

... ـ أول الاعتراضين هو أن في الفكر العربي العاصر تيارات قومية تضيق عن الانحصار في أحد التيارين المتصارعين (السلفي/ الليبرالي). وقد نذكر من تلك التيارات الفكر الوطني، فنجد من زعمائه مسلمين أمثال عبد الله النديم، ومصطفى كامل، وعلال الفاسي؛ كما نجد مسيحيين مثل أديب إسحق والخوري. ونذكر

 

(1/2209)

 

 

التيار القومي العربي (أو العروبي)، فنجد فيه مسيحيين أمثال نجيب عازوري وميشيل عفلق ومسلمين أمثال ساطع وعزت دروزة، وبالتالي فهناك قوميون عرب مسيحيون وقوميون عرب مسلمون، مثلما أن للوطنية دعامة من المسلمين والمسيحيين على السواء.

... ـ الاعتراض الثاني هو أن في الوطن العربي مفكرين يأخذون من الفكر السلفي، باعتبارهم متضامنين مع الإشكاليات التي يصدر عنها ذلك، ويتلاقون في العديد من تحليلاتهم مع دعاوى الليبرالية، وهم في الحالتين معاً منتسبون للفكر الوطني ـ فهم من زعمائه ومن كبار دعاته. وكل ذلك في سهولة

 

(1/2210)

 

 

ويسر لا يصيب المنظومة الكلية التي يعملون فيها خلل ولا اضطراب. وأنت لو تأملت كتابات علال الفاسي، لوجدت فيها التعبير الأفضل عن اجتماع هذه المكونات جميعها؛ ولو رَجعت إلى مجمل كتابات الإصلاحيين المغاربة في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، لألفيت فيها ما يربك كل محاولات التصنيف المعتادة (السلفية، الليبرالية، القومية، الدعوة الإسلامية، إلخ.). ولكنني لا أحسب أن في الأمر سمة خاصة تميز الإنتاج النظري المعاصر في المغرب، وإن كنت لا أنفي القول بوجود تلوينات محلية تكسب الفكر العربي في المغرب بعض

 

(1/2211)

 

 

التباين عنه في المشرق العربي ـ تلوينات ترجع إلى الجغرافية حيناً (القرب من أوروبا، مع الاتصال المباشر بإفريقيا السوداء)، وإلى التاريخ حيناً ثانياً (عدم الخضوع للحكم العثماني...)، وإلى السياسة حيناً ثالثاً (اتصال الدولة واستقرارها مدة تربو على أحد عشر قرناً، وإن كان الحكم ينتقل من ائتلاف قبلي إلى آخر، أو من أسرة إلى أخرى). وبالتالي فلست أجد عندي اطمئناناً إلى الأخذ بالقسمة الثنائية (سلفية/ ليبرالية) التي ظل الدارسون العرب يأخذون بها زمناً غير يسير. ...

 

(1/2212)

 

 

... هذان الاعتراضان حملاني على الأخذ بهذا التركيب المزجي (الفكر العربي الإسلامي)، حلاًّ للعديد من الصعوبات المنهجية التي يثيرها القول بالفكر العربي المعاصر من جانب أول والقول بالفكر الإسلامي من جانب ثانٍ(1)

__________

(1) اجتهدنا في توضيح وجهة نظرنا في دراسات شتى، فردية وجماعية، نذكر من بينها:

... أ ـ سعيد بنسعيد العلوي، الإيديولوجيا والحداثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء؛

... ب ـ سعيد بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة، 1992؛

 

ج ـ سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1995.

 

(1/2213)

 

 

.

... ننفذ الآن إلى ما نرى أنه لب المشكل (حضور مفهومي التجديد والتحديث في الفكر العربي الإسلامي المعاصر) فنقول: إذا كان مفهوم التجديد (في الحمولة الدينية الإصلاحية التي رأينا أنها له) وكان مفهوم التحديث (في الحمولة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي تعين مرجعيته وتحكمها) ـ إذا كان الأمر على هذا النحو، أفلا يمكن الحديث عن التقاء ممكن بين برنامج "التجديد" وبرنامج "التحديث" أم إن ذلك متعذر؟ وبعبارة أخرى، ما الصلة التي تقوم بين مجال عمل كل من المفهومين المذكورين: أهي صلة خصومة وتناحر

 

(1/2214)

 

 

(بموجب الاختلاف والتنافر في الرؤية بين الحقلين الدلالين اللذين ينتسبان إليها)، أم إنها صلة وئام وانسجام (يعللها الالتقاء عند إرادة مجاوزة التأخر والتخلف عن ركب الإنسانية المتقدمة)؟

... الحق أننا إذ نتساءل على هذا النحو، فنحن نكون بصدد اقتراح كيفية مغايرة في النظر في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ونحن نأمل توخي سبيل الاختلاف عن الكيفية التي درج عليها عدد من دارسي ذلك الفكر. ومن أجل مزيد بيان، نقول إن هنالك، بصفة عامة، كيفيتين اثنتين سار الدارسون على هدى إحداهما. الكيفية الأولى هي المنحى

 

(1/2215)

 

 

التأريخي الذي يقوم على افتراض ضمني لحركية باطنية من التطور، تطور هو إقدام حيناً وإحجام حيناً آخر، وهو حيناً ثالثاً اضطراب بينهما. والكيفية الثانية هي الأخذ (بعيداً عن التفسير التاريخي والمنحى التطوري) بمبدإ النمذجة (typologie) أو التصنيف في تيارات ومدارس يجتهد الباحث في استخلاص السمات والملامح العامة التي تميز كل تيار أو مدرسة عن غيره من المذاهب دون أن يكون للتاريخ تأثير أو دخل في ذلك التصنيف. وحيث يكون الهم الأول للكيفية الأولى من النظر هو الوقوع على جملة الأسباب التاريخية والشروط الاجتماعية

 

(1/2216)

 

 

والسياسية والاقتصادية التي جعلت ظهور فكر أو نظرية ما أمراً ممكناً، نجد أن الهدف الأسمى عند دعاة الكيفية الثانية يغدو هو استخلاص الثوابت والعوامل المشتركة التي توجد بين القائلين بفكرة معينة أو مذهب معلوم وإن كان التباعد التاريخي الهائل يقوم بينهم، وإن كانت الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما إليها بين أشخاص ينتمون للمذهب الواحد أو الفكرة الواحدة ـ وإن كانت تلك الشروط متباينة، لا بل متناقضة. وفي أحاديثنا اليوم اعتدنا أن نطلق على الكيفية الأولى من النظر نعت المنهج الدياكروني أو المسيرة

 

(1/2217)

 

 

الدياكرونية، في حين أننا نصف المنهج الذي تأخذ به الكيفية الثانية من النظر بالمنهج السانكروني.

... الحق أن للمقاربة السانكرونية مزايا جلية وليست المنهجية العلمية المعاصرة سوى إبراز وتدليل على أهمية تلك المقاربة وبرهنة على ما تكتسيه من صفة الإقناع والملاءمة (pertinence) معاً. غير أن التوسل بالمنهج السانكروني لا يكون مفيداً وناجعاً في تسليط الأضواء الكاشفة والضرورية للفهم في كل أنواع الإنتاج الفكري؛ وأحسب أن الدارس، في حال الأخذ بذلك المنهج مفرداً، يظل في حال من القصور عن إدراك بنية الفكر العربي

 

(1/2218)

 

 

الإسلامي المعاصر. والحال أن إقصاء العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية يجعل الفهم مشوشاً مضطرباً والرؤية الواضحة متعذرة.

... يبدو لي أن سبيل الفهم القويم يكمن في الأخذ بمنهجية تجتهد في الجمع بين المسيرتين الدياكرونية والسانكرونية في التحليل والفهم. نوع من التركيب أو المنهج الوسط بين الأخذ بمقتضيات القراءة التاريخية المحض (الاجتهاد في ربط الإنتاج النظري بجملة الشروط الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية... التي جعلت ميلاد فكر ما ميلاداً ممكناً). فهي تشرح كيف النشأة وتلقي الأضواء

 

(1/2219)

 

 

على شروط العمل والتطور)، والإفادة من تقنيات تحليل الخطاب بغية استخلاص الثوابت والمكونات القارة، أو الانتهاء إلى رسم المعالم الواضحة لنماذج ذهنية تجتمع فيها جملة من الخصائص القابلة للملاحظة والتسجيل.

 

... لنحاول الآن النظر في الفكر العربي الإسلامي المعاصر في مجمله، في ضوء هذه المنهجية المقترحة، آخذين بعين الاعتبار قضية "التحديث" من جانب أول، ومسألة "التجديد" من جانب ثانٍ. لنحاول ذلك ونحن نأخذ في القراءة بمصفوفتين (Matrices) أو بشبكتين. نجدنا، إذ نحاول ذلك، أمام قسمة ثلاثية وأمام أطوار ثلاثة

 

(1/2220)

 

 

حاسمة من مراحل تطور الفكر العربي الإسلامي المعاصر. وقد يَجْمُلُ بنا تقديم مزيد بيان بصدد الشبكتين أو المصفوفتين المذكورتين فنضيف أننا قد توسلنا في القراءة بجملة من المؤشرات (Paramètres) في تلك القراءة هي جملة القضايا التي يبدو لنا أنها كانت الأكثر فعلاً في مسيرة الفكر العربي الإسلامي المعاصر مع اختلاف في كيفية تنظيمها وتباين في مستوى أهميتها بالنسبة للمرجعية التي يحيل إليها مفهوم التحديث من جهة ومفهوم التجديد من جهة أخرى. تلك القضايا هي: الإصلاح، العدل، الديمقراطية، المرأة، المجتمع، الوطن،

 

(1/2221)

 

 

الترقي، التقدم، المدنية أو التمدن، الحرية (1).

... 1 ـ الطور الأول من الأطوار الثلاثة الحاسمة في سيرورة الفكر العربي الإسلامي المعاصر هو ذلك الذي تواضع الباحثون على نعته بعصر النهضة، أو اليقظة العربية أو الصدمة الناتجة عن إعادة اكتشاف الذات من خلال اكتشاف "الآخر"

__________

(1) سعيد بنسعيد العلوي، "مفهوما الأمة والوطن في التداول العربي المعاصر"، ضمن المؤلف الجماعي الأمة والدولة والاندماج في الوطن العربي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ومعهد الشؤون الدولية، 1989، بيروت، الجزء الأول، ص. 139 وما بعدها.

 

(1/2222)

 

 

أو إعادة اكتشافه بالأحرى. إنه مرحلة وعي الانحطاط أو التأخر عن ركب الإنسانية المتقدمة، وهو الذي نعته مفكرو النهضة أو "دعاة الإصلاح" بالتأخر المزدوج: تأخر المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، عما كانوا عليه في العصر الذهبي الإسلامي. وتأخر عما بلغته الإنسانية المتقدمة في الغرب الأوروبي. هذه المرحلة أو الطور من النظر امتد، عملياً، من أربعينيّات القرن التاسع عشر إلى السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية (منتصف الثلاثينيّات من القرن العشرين). في هذا الطور كانت المفاهيم الأكثر بروزاً هي مفاهيم

 

(1/2223)

 

 

العدل/ الظلم، الشورى (الحرية)/ الاستبداد، التقدم/ التأخر، المدنية/ الانحطاط. وكان الجدل الفكري بين دعاة الإصلاح أو "النهضة" ـ على اختلاف مشاربهم ـ جدلاً حول أسباب "تأخر المسلمين وتقدم غيرهم"، وجدلاً حول جدوى أو عدم جدوى أن نَقْتَبِسَ من أوروبا ما هو كفيل بإفادتنا في مجاوزة واقع التأخر والانحطاط، وجدلاً حول المرأة والصورة التي يلزم أن تكون عليها في الواقع العربي الإسلامي، وجدلاً حول موافقة الإسلام أو عدم موافقته للمدنية والتقدم، وجدلاً في معنى الاجتهاد الحق في الإسلام، ودعوة عند "زعماء الإصلاح"

 

(1/2224)

 

 

إلى العودة، بالإحياء والدرس، إلى نصوص عبد الرحمن ابن خلدون، والشاطبي، والماوردي، وابن مسكويه، ودعاة العقل جميعهم. وإذا كان من الضروري، في هذه العجالة، أن أؤشر على بعض الكتابات والنصوص، فإنني أذكر ما كان منها الأكثر فعلاً وأثراً فأعد: مجمل كتابات محمد عبده وجداله مع فرح أنطون من جهة أولى، ومع هانوتو من جهة ثانية ("الإسلام والمدنية"، "الإسلام والرد على منتقديه"). وأنبه إلى قيمة مقدمة كتاب الشاطبي "الموافقات" ـ في نشرة الشيخ دراز. وأعد عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"

 

(1/2225)

 

 

خاصة، كما أعد الكاتب المصري قاسم أمين في كتاب "المرأة الجديدة"، والتونسي الطاهر الحداد في كتابه "امرأتنا بين الشريعة والمجتمع"، والمغربي محمد الحجوي في بحثه "تعليم الفتيات لا سفور المرأة"(1). وأعد، إلى جانب هذه النصوص، كتابات الرحالين العرب رفاعة رافع الطهطاوي ("تخليص الإبريز في تلخيص باريز")، أحمد فارس الشدياق ("الساق على الساق"، "الواسطة في أخبار مالطة")، محمد الحجوي ("الرحلة الأوروبية") (2)

__________

(1) سعيد بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث... (سبقت الإشارة إليه)، ملاحق النصوص المرفقة بالكتاب.

(2) محمد الحجوي، الرحلة الأوروبية، نص ملحق بكتابنا "أوروبا في مرآة الرحلة"... (سبقت الإشارة إليه)، ص. 103 وما بعدها.

 

(1/2226)

 

 

. وأذكر هذه النصوص على سبيل الاستشهاد لا الحصر.

... 2 ـ الطور الثاني من أطوار الفكر العربي الإسلامي المعاصر يمتد من مطلع الثلاثينيّات (بل ونهاية العشرينيّات في بعض الأحيان) إلى السنوات الأخيرة من العقد السادس من القرن العشرين ـ وهذا الطور أغنى الأطوار الثلاثة من حيث وفرة التيارات الفكرية والاختلافات المذهبية، واحتدام الصراع بينها. إنه طور سمته الغزارة في الإنتاج واتساع الإنتاج النظري ليشمل مختلف أقطار الوطن العربي على وجه التقريب بعد أن ظل، في الطور الأول، إنتاجاً أغلب وطنه مصر والشام إلا ما

 

(1/2227)

 

 

كان من أصوات قليلة، متفرقة، في منطقة المغرب العربي. كما أن هذا الطور يواكب مرحلة تاريخية حاسمة في التاريخ المعاصر للوطن العربي: إذا كان الاستعمار الغربي (بأشكاله المختلفة من احتلال مباشر وحماية وانتداب) قد امتد ليشمل مختلف ربوع العالم العربي في النصف الأول من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، فإن هذا الطور قد شهد بداية التحرر الوطني واسترجاع الاستقلال... وحركة استعادة الحرية المغتصبة، في الوطن العربي، ملأت العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. ومن

 

(1/2228)

 

 

الطبيعي أن هذا الزخم في الأحداث، من جهة أولى، وظهور أشكال جديدة من تمثل الفكر الغربي بمختلف تياراته السياسية والفلسفية والإيديولوجية، من جهة ثانية، وما عرفته الإنسانية من رجة في صفوفها بسبب الحرب العالمية الثانية وما سبقها وما مهد لها ثم ما أعقبها من نتائج، وكذلك تنامي المد الشيوعي في أوروبا الوسطى من جهة ثالثة، كل هذا كان له فعله في انبثاق أشكال من الوعي الإيديولوجي وظهور تيارات فكرية ـ سياسية كان عنها حدوث تغيير في الخارطة الثقافية في الوطن العربي. وقد يجوز لنا، في معرض الإجمال والإشارات

 

(1/2229)

 

 

الكلية هذه، أن نقول إن أهم تلك التيارات في الوطن العربي (في هذا الطور الثاني الذي ينحصر بين الثلاثينيّات والستينيّات) هي في زعمنا تيارات أربعة أساسية نوجز الإشارة إليها على النحو التالي:

 

... أ ـ تيار وطني ـ فكري، هو صدى وبلورة طبيعية لحركات التحرر الوطني في العالم العربي... إنه تيار له تجليات فكرية متنوعة، في هذه البلاد أو تلك من الوطن العربي. بيد أن ثوابته ومكوناته الأساسية تظل واحدة؛ فهي محكومة بالمنطق نفسه ، وخاضعة لأثر العناصر الواحدة المكونة(1)

__________

(1) "مفهوما الأمة والوطن"، سبقت الإشارة إليه.

 

(1/2230)

 

 

.

... ب ـ تيار قومي عربي أو عروبي: يضطرب بين التوجه الإسلامي الواضح والمنحى العلماني والتوجه الاشتراكي الطوباوي؛ كما أن في الإمكان أن نميز في داخله بين ما نقول عنه إنه الموقف القومي العربي التقليدي، وما نرى فيه تياراً عروبياً جديداً أو متطلعاً إلى التجديد ومجاوزة الطرح التقليدي القائل بالوحدة العربية الاندماجية وإدانة "الدولة القطرية" والأخذ بنظرية "الإقليم ـ القاعدة"، إلخ.

... ج ـ تيار ليبرالي خجول متردد ومضطرب أمام خصوم من السلفية حيناً، ومن النزعات العروبية (بصوره المختلفة) حيناً ثانياً، ومن

 

(1/2231)

 

 

تيار الاشتراكية الطوباوية حيناً ثالثاً، ومن الآخذين بوجهة نظر المدرسة السوفياتية حيناً رابعاً... تيار ضاع صوته في محاولات عنيدة، فردية في الأغلب الأعم، في الوقوف في وجه مختلف هذه التيارات وامتزج صوته، في بعض المرات كذلك، بصوت الدعوةالوطنية التحررية.

... د ـ تيار رابع هو ما يصح منا أن ننعته بالمنحى السلفي في دعوته إلى الانفتاح على الغرب الأوربي وإلى الأخذ بما كان عنده صالحاً مفيداً في تنظيم الحياة السياسية. ذاك ما يمثله عندنا القائلون بأهمية المسألة الدستورية في الحياة الإسلامية ـ العربية

 

(1/2232)

 

 

المعاصرة، والداعون إلى سلوك طريق الحياة البرلمانية. والرأي عندي أن هذا التيار يجد ممثلاً له في المشرق العربي هو الشيخ حسن البنا، وفي المغرب العربي هو الأستاذ علال الفاسي. وكل يعكس من ذلك التيار مظهراً ويبين عن اتجاه كان له أثره في الحياة السياسية والفكرية. وقد يكون من الملائم، لموضوعنا، أن نقف عند هذه النقطة وقفة قصيرة.

... أقتبس من مؤسس جماعة الإخوان المسلمين هذه الفقرة، آخذها من إحدى رسائله فأقرأ له:

 

(1/2233)

 

 

... الواقع أيها الإخوان [= الإخوان المسلمون]، إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به

 

(1/2234)

 

 

نظاماً آخر (1).

 

... قد يعترض علينا معترض فيقول إننا نقرأ للشيخ البنا في مكان آخر ”إن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعاً أمة واحدة ويعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعدت أقطاره وتباعدت حدوده“(2). وللمعترض أن يعقب ملاحظاً

__________

(1) سعيد بنسعيد العلوي، "المفاهيم السياسية في التداول العربي المعاصر (ملاحظات منهجية)"، مؤلف جماعي، إشكاليات المنهج في الفكر العربي والعلوم الإنسانية، منشورات توبقال، 1987، ص. 19 وما بعدها.

(2) المرجع السابق.

 

(1/2235)

 

 

أن هذا الرأي يتنافى، جزءاً إن لم يكن كلاًّ، مع المسلمات الكبرى للفقه الدستوري المعاصر. ولكن ردنا على الاعتراض هو أن زعيم "الإخوان المسلمين" يظل، في العمق، متضامناً مع مقررات الفكر السياسي الحديث المعاصر القائم على تصور دقيق للدولة وللحياة النيابية في عالمنا اليوم؛ فهو يتنفس في مناخ ذلك الفكر، وبالتالي فهو مؤمن بالتنظيم السياسي المعاصر القائم على الحزبية والحياة النيابية التمثيلية، وعلى الإيمان بالمبدإ الذي يقضي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع في التقرير لوجوب تداول السلطة وانتقالها من جهة إلى

 

(1/2236)

 

 

أخرى وفقاً لما تحكم به صناديق الاقتراع ويحكم به حال الأغلبية.

... أما عند علال الفاسي، فإن الإيمان بالأسس التي تقوم عليها الحياة السياسية في العالم المعاصر أبين وأوضح. ولعل الفكرة تغدو أكثر وضوحاً لدى مؤرخ الفكر متى أمعن النظر في الكيفية التي يحلل بها علال الفاسي طبيعة الصلة التي يراها بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، ويعرض بها، محللاً، لما انتشر في بداية الأربعينيّات خاصة من الدعوة إلى الجامعة الإسلامية. ولعل من الأنسب لموضوعنا أن نقتبس من كتاب "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" هذه

 

(1/2237)

 

 

الفقرة الدالة عن معالجة علال الفاسي للقضية:

 

... هذه الأشياء [= دعاوى أصحاب الجامعة الإسلامية، حيث تختفي فوارق اللغة والثقافة والحضارة وبالتالي مقومات الهوية] لا يمكن أن تتحقق في الحكومة المسلمة إلا إذا خضع هذا الاجتهاد الجديد في التشريع لنواب أكفاء ضمن مجلس تختاره الأمة ويصبحون فيها مكان أهل العقد والحل الأولين. ومعنى هذا أنه لابد من اتباع النظام الدستوري المبني على حكم الشعب بواسطة من يختاره من نوابه الأكفاء. غير أن الوصول لهذه الوسيلة لا يتحقق إلا إذا تحررت البلدان الإسلامية من سيطرة الأجنبي

 

(1/2238)

 

 

المادية والمعنوية. ولذلك فالعمل على الاستقلال شرط أساسي لاكتساب الحرية التي لابد منها لتحمل المسؤولية (1).

 

... أمر آخر يعكس، عندي، الصورة الإيجابية في المنحى السلفي في هذا التيار الرابع: ذلك هو الدعوة إلى الأخذ بما تقضي به "مقاصد الشريعة الإسلامية" والرجوع إلى الفكر المقاصدي بهدف إحيائه وتفعيله في الحياة العاصرة للمسلمين في عالم اليوم. وإذا كنت أجد أن المجال لا يتسع لي، في هذه العجالة، للتوسع في هذه النقطة مع أهميتها وخطورتها في الفكر

__________

(1) علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي.

 

(1/2239)

 

 

العربي الإسلامي المعاصر، فإنني أود أن ألمح إلى اجتماع سمات قوية لمدرسة فكرية قوية، وجدت في منطقة المغرب العربي مناخاً ملائماً وتربة صالحة لنموها وتطورها، هي المدرسة التي أسميها بالمدرسة الشاطبية المعاصرة والتي يتصدرها،

دون مدافع، كل من الشيخ ابن عاشور في تونس والمفكر المغربي علال الفاسي في المغرب... والتي تستدعي طبيعتها وخطورتها إفرادها بدراسة توضيحية مفصلة(1).

__________

(1) حاولت البعض وعملت على توجيه بعض الباحثين في هذا الاتجاه: بادو، الحسني، الصولبي، بلقزيز

 

(1/2240)

 

 

... 3 ـ أما الطور الثالث من أطوار الفكر العربي الإسلامي المعاصر، فإنني أجد له، إسوة بجمهرة دارسي الفكر العربي المعاصر، بداية رمزية في التاريخ الذي أعقب هزيمة يونيو 1967. ذلك بأن تلك الهزيمة لم تكن إضاعة لمناطق شاسعة من الوطن العربي بقدر ما كانت إدانة لاختيارات سياسية وتوجهات إيديولوجية وسمت الوجود السياسي والفكري في منطقة من أشد مناطق العالم مدعاة إلى الصراع الإيديولوجي وإلى التسابق من أجل بسط الهيمنة على مقدرات عظيمة من ثروات الإنسان العربي والفرد المسلم في العالم. وحيث إن لتاريخ الفكر منطقه

 

(1/2241)

 

 

الذاتي الخاص به والذي يقضي باتخاذ بعض النصوص قيمة "رمزية" هائلة ويجعلها مؤشراً على إحداث نقلات أو الإيذان بإحداث تحولات في مستوى الفكر والإدراك، حيث كان الأمر كذلك، فإن الفكر العربي الإسلامي ـ المعاصر خاصة ـ لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يبتعد عن هذا المنطق. وبكيفية مباشرة، أزعم لنفسي (ولعل آخرين كثيرين يشاطرونني ذلك) أن كتيباً صغيراً قد استطاع أن يستوعب كل العناصر الدالة على حدوث النقلة، أو الإشارة إليها، في مستوى التصور والإدراك: "معالم في الطريق" لمؤلفه الشيخ سيد قطب. لغة نارية ونظر قطعي صارم في

 

(1/2242)

 

 

الحكم على وجود المسلمين في عالم اليوم:

 

... نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم [...] حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً... هو كذلك من صنع هذه الجاهلية.

 

... كل مظاهر هذه "الجاهلية" وتجلياتها تقوم، حسب سيد قطب، على أساس واحد: ”الاعتداء على سلطان الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية... وهي الحاكمية“. مصدر "الجاهلية" التي تعيش فيها المجتمعات البشرية، بما

 

(1/2243)

 

 

في ذلك المجتمعات الإسلامية بطبيعة الحال، هو هذا الخلط في الأذهان الذي يعمل على إلحاق خاصية إلهية بالإنسان. هو كذلك خلط إذ يجعل للبشر الحق في الحاكمية ”فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والقوانين والشرائع والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله وفيما لم يأذن به الله“(1).

__________

(1) سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، د. ت.

 

(1/2244)

 

 

... لا أمل في الابتعاد عن هذه السقطة، ولا سبيل إلى الخروج من هذه الحال الغريبة عن الإسلام وما يليق بأهله إلا بإعلان القطيعة مع الغرب كلية: نظمه السياسية والاجتماعية والفكرية. وحيث كانت قضية السلطة وتنظيمها وتداولها مسألة محورية في الفكر السياسي الحديث والمعاصر، وكانت مسألة "الديمقراطية" والدعوة إليها والارتكان إليها والتعلق بالأسباب الموصلة إليها والدالة عليها هي الواجهة في العمل السياسي...، فقد كانت لمن سار من مفكري الإسلام المعاصر العرب في إثر دعوة صاحب "معالم الطريق" آراء وأفكار تتأرجح

 

(1/2245)

 

 

وتضطرب في التقريب بين الديمقراطية (عنوان الفكر الحقوقي الغربي المعاصر) وبين الشورى (ما به قوام الوجود السياسي في الإسلام المرجعي). ومن أجل تبين صورة تقربنا من هذا الفكر الإسلامي العربي الذي أعقب دعوة الشيخ سيد قطب، أقترح أن نفسح المجال للإنصات إلى أصوات ثلاثة من الدعاة البارزين في هذا التيار. نختار هذه الأصوات الثلاثة من جهة التنوع الجغرافي الذي يمثلون به مناطق مختلفة من الوطن العربي، ومن جهة التركيز على مظهر من مظاهر التناقض والتعارض بين الفكرين الإسلامي والأوروبي.

1 ـ الداعية المصري:

 

(1/2246)

 

 

... يرى القرضاوي أن في "الليبرالية الديمقراطية" (وهو شديد الحرص على الجمع بين المفهومين) جانباً إيجابياً، بل لعل أفضل جوانب الليبرالية الديمقراطية (…) هو جانبها السياسي الذي يتمثل في إقامة حياة نيابية يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه الذين تتكون منهم "السلطة التشريعية" في البرلمان وفي المجلس الواحد أو المجلسين. وهي كذلك، لأنها، من حيث النظر، "طيبة ومقبولة من الوجهة الإسلامية". ولكنها لا تكون كذلك من حيث العمل لأنها تغفل تقييداً ضرورياً أولاً هو أن "الأمة مصدر السلطات في حدود شريعة الإسلام"؛

 

(1/2247)

 

 

كما تهمل أمراً ضرورياً ثانياً هو "أن يكون في المجالس التشريعية هيئة من الفقهاء القادرين على الاستنباط والاجتهاد". ولكن ما يحدث في بلاد الإسلام، تلك التي تقول بالديمقراطية، هو ”أن النظام الديمقراطي لم يشترط شيئاً من ذلك، رغم النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام“.

... يستنتج الشيخ من ذلك أن "الليبرالية الديمقراطية" لا يمكن أن تصادف شيئاً آخر غير الفشل والخيبة في بلاد الإسلام. و”السبب الأول (…) هو أننا، نحن المسلمين، لا نؤمن بها ولا بشرعيتها ولا نمنحها من رضا ولائنا واحترامنا، بل نؤمن أعمق

 

(1/2248)

 

 

الإيمان أن الليبرالية الديمقراطية نظام قاصر ككل الأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم بعيداً عن هدى الله ونوره“. وهي تفشل ثانياً لأنها ”مذهب مستورد من أرض غير أرضنا وقوم غير قومنا لهم عقيدة غير عقيدتنا، وقيم غير قيمنا“. قد تكون "الليبرالية الديمقراطية" حسنة في ذاتها (وهي عند القرضاوي أفضل من غيرها من المذاهب الغربية، والماركسية خاصة، بالرغم من العيوب التي تشوبها)، ولكنها تظل، في حالة المسلمين وبلاد الإسلام، قبيحة وبعيدة عن الوفاء بالقصد الذي يبلغه "الحل الإسلامي" ـ لكن الحق أن العيب يكمن فينا في

 

(1/2249)

 

 

خاتمة المطاف: ذلك بأن في هذه الديمقراطية جانباً مضيئاً لم نستطع أن نطوره بما يلائم ظروفنا وأوضاعنا، ولم نضع له من الضمانات التي تحقق مجتمع "الشورى" الحقيقية التي جعلها الله صفات المؤمنين في كتابه وجعلها عنوان سورة من القرآن: {وأمرهم شورى بينهم}… وأمر بها رسوله وكل من يقوم بأمر الأمة من بعده {وشاورهم في الأمر} (1).

2 ـ الداعية السوداني:

__________

(1) يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، 1988، القاهرة، ص ص. 68 ـ 69.

 

(1/2250)

 

 

... يقرر حسن الترابي أن الحديث عن "الشورى والديمقراطية" يطرح، أول ما يطرح، قضية اللغة من حيث هي أداة تملك أن تيسر الاتصال والتفاهم بين الناس كما قد تكون مدعاة للتنافر وسوء التفاهم. فالحديث في المسألة يثير بالتالي "إشكالات المصطلح والمفهوم" (وذاك عنوان فرعي لمحاضرة عنوانها "الشورى الديمقراطية". والرأي عنده أن للكلمة (متى كانت مفهوماً دالاً) أبعاداً اجتماعية وحمولة عاطفية أخلاقية لا تنفصل عنها: ”فكلمة الديمقراطية مثلاً تصاحبها في خاطر السامع جملة من المعاني تتصل بالصورة والقيم التي لازمتها عبر

 

(1/2251)

 

 

الأطوار التاريخية (…). فالمتحدث عن الديمقراطية لا يجردها لتقتصر على معناها في معجم اللغة، بل يصطحب كل هذه المعاني أو ما شاء منها“. والحكم ذاته يصدق على الكلمات التي نشأت في بيئة إسلامية. ومن الناحية المبدئية، وفي سياق الكلام عن نظام الحكم الإسلامي، يمكن أن نتناول الكلمة المقابلة وهي ”الشورى “. لكن الأمر يستدعي احتياطاً منهجياً يلزم الأخذ به منذ البداية كذلك: ذلك هو أن "الأدب الإسلامي السياسي الحديث" أضفى على كلمة "الشورى" مضامين جديدة لم تكن لها في كتب الفقه القديمة. وأما تفسير ذلك عند الترابي،

 

(1/2252)

 

 

فهو أن ”الممارسة السياسية الشورية لم تكن واسعة ولا ذات خطر في التاريخ الإسلامي“. فهل تجيز لنا هذه الملاحظة أن نقول إن ما نقصده بالحديث عن "الشورى" في منطوقها الإسلامي وفي معناها الحديث الذي لم يكن لها في السابق هو ما تفيده كلمة "الديمقراطية" في دلالتها السياسية المعاصرة؟

... يسلم الترابي، من حيث دلالات "المعاني والمقاصد"، بإمكان المقابلة الاصطلاحية بين "الشورى" و"الديمقراطية". يجيز هذه المقابلة لسبب يرجع إلى حال الإسلام اليوم، حال تجاوز ”مرحلة غربة الإسلام وغلبة المفاهيم الغربية بكل مضامينها

 

(1/2253)

 

 

وظلالها“ ـ فالمسلمون اليوم في حال التلقي الإيجابي الفاعل. ”فلا بأس من الاستعانة بكل كلمة رائجة تعبر عن معنى وإدراجها في سياق الدعوة للإسلام ولفها بأطر التصورات الإسلامية“. ولكن التسليم يظل، مع ذلك، مقيداً بشرط أساسي: شرط الدين أو التدين وما يقتضيه من الحضور الدائم للمسؤولية الفردية ”لكل فرد خاطب على قدر وسعه بتكاليف الدين (…) ثم يأتي يوم القيامة ربه فرداً (…) فهو لا يسأل مع أسرته ولا مع حزبه (…) ولا مجال لأن نذوب الأفراد في فرد حاكم (…) ولا حتى أن نضم الناس كتلة واحدة صماء ونسميهم الشعب وتمارس

 

(1/2254)

 

 

المسؤوليات السياسية باسمهم الإجمالي“.

... ألا يعني التقييد المتقدم إعلان القطيعة والفراق بين "الشورى" من جهة و"الديمقراطية" من جهة أخرى؟ أليس يترتب على موقف الشيخ الترابي رجوع إلى المواقع الأصلية ونبذ تام ومطلق لمفهوم الديمقراطية وتشبث بكلمة الشورى دون غيرها في الحديث عن "الجماعة" وعن "المشاركة"؟

... الحق أن في كتابة الترابي ما يجعل الجزم السهل أمراً صعباً. فموقفه من هذه الناحية متميز عن موقف القرضاوي كما عرضنا له سابقاً، كما أننا سنتبين اختلافه عن موقف الشيخ عبد السلام ياسين كما سنراه في

 

(1/2255)

 

 

الفقرة المقبلة. ذلك بأن الزعيم السوداني يميز بين ”الديمقراطية الغربية وبين الشورى والديمقراطية في السياق الإسلامي“، كما يميز بين "ديمقراطية الشورى" و"ديمقراطية الغرب" ـ فهو بالتالي لا يتحفظ مطلقاً في استعمال مصطلح "الديمقراطي" كما يفعل الآخران.

... يبقى مع ذلك أن الزعيم السوداني الإسلامي يعدد جملة فروق بين النظامين أو بين "الديمقراطيتين". أولها ”أن الديمقراطية في المفهوم العربي يمارس غالباً في سياق حكم لا ديني (…) ولا مجال بالطبع في الإسلام لحكم شعبي منقطع عن معاني الإيمان“؛ وثانيها ”أن الشورى

 

(1/2256)

 

 

في الإسلام ليست ممارسة سياسية معزولة، وإنما هي نظام حياة: فهي في الشعائر وفي الأسرة وفي الجوار وفي المجتمع وفي المعاملات الاقتصادية وفي العلم وفي السياسة“؛ وثالثها ”أن السيادة في الديمقراطية الغربية تسند في النظرية الدستورية إلى الشعب (…) ومفهوم السيادة الشعبية هو ذات المعنى الذي ننسبه في الاعتقاد السياسي الديني إلى الله من حيث صفة الإطلاق“؛ ورابعها ”أن ديمقراطية الشورى أدعى لضمان وحدة المؤمنين من ديمقراطية الغرب: فالنهج الليبرالي في الديمقراطية أحال إرادة الشعب إلى إرادة الأغلبية ولم يترك

 

(1/2257)

 

 

للأقلية إلا أن تتربص في المعارضة وتصبر (…) ولكن المنهج الإسلامي يقوم على روح الإجماع لا المغالبة“(1).

 

3 ـ الداعية المغربي:

... يستنكر الشيخ المغربي عبد السلام ياسين (زعيم حركة "العدل والإحسان")، كل قول يحاول الجمع بين الديمقراطية والإسلام في مقام واحد ”أي تناقض هذا: "ديمقراطية إسلامية" أو "إسلام ديمقراطي" ! رِجْلٌ هنا ورِجْلٌ هناك؟ “!. إنهما لا

__________

(1) حسن الترابي، "الشورى والديمقراطية، إشكالات المصطلح والمفهوم"، ضمن كتابه نظرات في الفقه السياسي، الشركة العالمية لخدمات الإعلام، الخرطوم، د. ت.

 

(1/2258)

 

 

يجتمعان، لأن العلاقة الوحيدة الممكن قيامها بينها هي علاقة التنافر والإقصاء المتبادل. لذلك يخطئ من يساوي الديمقراطية بالشورى: ”من المسلمين من يقول: الديمقراطية غنيمة ومكسب للإنسان، هي المخرج لا غيره وهي أخت الشورى الإسلامية ورديفتها وجنسها ـ وقد تكون الشورى مكملة للديمقراطية“. مثلما يخطئ من يقول برأي يدفع فيه بالديمقراطية ويبعدها عن الإسلام إلى درجة يوحدها مع الكفر أو يقربها منه: ”ومن الإسلاميين من يصرح أن الديمقراطية كفر، وفي ساحة الجدل يصرخ بذلك ويصر عليه ويغضب له. وقد يتنازل فيقبل "أن

 

(1/2259)

 

 

الديمقراطية إن لم تكن كفراً فهي أخت للكفر" (…) ليست الديمقراطية نقيض الكفر، إنما هي نقيض الاستبداد. نقيضُ الكفر الإيمانُ“. يخطئ الأول، لأنه يطلب القياس في مجالين لا جامع بينهما: فللشورى وللإسلام مرجعيتهما، مثلما أن للديمقراطية مرجعيتها. ويخطئ الثاني، لأنه يخلط بين حالين هما الكفر والاستبداد من جهة أولى، ولأن قسمته هذه قد تحمله على قبول المستبد، إذ يعلن إسلامه، ورفض العادل إن كان غير ذلك: ”فإن وقف عملنا عند معادلة ديمقراطية = كفر، فيكون بجانبها إيمان = استبداد. وإذن فنحن مع كل مستبد يقول أنا

 

(1/2260)

 

 

مسلم ضد كل حر يقول أنا ديمقراطي“. وهذا من جهة ثانية. فما الرأي الصواب؟

... يجيبنا الشيخ ياسين بأنه لا جدال في معنى الديمقراطية في معناها الحرفي ودلالتها المباشرة (حكم الشعب نفسه بنفسه)، فلا خوف من ذلك؛ بل على العكس من ذلك ”هذا ما ندعو إليه ولا نرضى بغيره، على يقين نحن من أن الشعب المسلم العميق الإسلام لن يختار إلا الحكم بما أنزل الله، وهو الحكم الإسلامي ـ وهو برنامجنا العام وأفق مشروعنا للتغيير“. فإذا تساءلنا: فما وجه الإشكال إذن في قبول الديمقراطية وتقييدها بنعت الإسلام أو الإسلامية. أليس يكفي

 

(1/2261)

 

 

ذلك التقييد، مقدمة، لبسط أوجه افتراق الشورى عن الديمقراطية (على نحو ما فعل حسن الترابي مثلاً)؟ والجواب عند الشيخ ياسين نفي جازم. وتعليل ذلك يكمن في معرفة أمرين اثنين: أ) الفروق الواضحة بين "الديمقراطيين في بلاد الديمقراطية" و"الديمقراطيين في بلاد الإسلام"؛

ب) الأسباب العميقة التي تمنع قيام الديمقراطية في بلد دين أهله الإسلام. فلنقف برهة عند حديث ياسين في كل من النقطتين على حدة.

... أ ـ صورة الديمقراطية في "بلاد الديمقراطية":

 

(1/2262)

 

 

... تعايش بين الأحزاب وتهارش ونقد متبادل ومعارضة ترصد أغلبية في الحكم وفريق متحالف ينتظر ساعته ليسقط الحكومة وتداول على السلطة وحرية للصحافة مضمونة (…) ودستور قعدته الأيام بتجاربها المرة الطويلة (…) إنه نظام استقرار على علاته (…) لها من المرونة، رغم شيخوختها، ما يقويها على تجاوز الأزمات السياسية (…) وهي آخر الأمر هناك أهون الشر وقوام المجتمع.

أما الديمقراطية في بلاد الإسلام، فالشأن فيها مغاير:

... يحيلها بكل زينة وفضيلة أنصارها والدعاة المتعطشون إليها المستجيرون بها من الاستبداد التقليدي العتيق

 

(1/2263)

 

 

أو الانقلابي الطارئ (…) كما يهفو قلب المؤمن إلى الجنة ويتركز طموحه على نعيمها كذلك تهفو أفئدة السياسيين، المحترفين منهم والمناضلين اللاييكيين، إلى الديمقراطية بما هي حرية وحقوق إنسان وتداول على السلطة وباب مفتوح على الرئاسة. وينحشر مع الجوقة الديمقراطية المرتزقة الانتهازيون الطفيليون الذين يجدون في أنظمة الصنائع المناخ المناسب. ـ

 

فهي، في كلمة واحدة، تجمع ذوي الأغراض المختلفة وغالباً ما ينتفي فيها الشرط الأخلاقي فهي لذلك تظل هشة عرضة للإحاطة بها تبعاً لهوى الحكم. وهذا ما يكرر ذكره الشيخ وهو

 

(1/2264)

 

 

يستعيد، بتعابير مختلفة، ما وقع في التجربة الانتخابية التعددية الأولى في الجزائر: ”ما فعله أدعياء الديمقراطية وربائبها في الجزائر بالإسلاميين حين استعدوا عليهم الدبابات وهاجموهم في الشوارع (…) بعد أن توجتهم الديمقراطية وصوت عليهم الشعب وأعلنت عن نجاحهم صناديق الاقتراع الشفافة“. ثم إن هنالك أمراً ثانياً يميز "الديمقراطية في بلاد الإسلام" عند الشيخ ياسين: فحيث تفيد في "بلاد الديمقراطية" معنى واحداً تؤول إليه، فهي إتاحة لحرية التعبير وهي احترام لما يكون عن تلك الحرية والتزام بما تقرره إرادة الشعب

 

(1/2265)

 

 

فإنها تصبح في "بلاد المسلمين" أصنافاً وألواناً. ”فديمقراطية موجهة، وأخرى مقننة، والثالثة مطبوخة وغيرها مراقبة ـ أضافوا في الجزائر إلى الأصناف المجيدة ديمقراطية مشروطة، شرط صحتها أن لا تفرز اختياراً غير لاييكي عصري قومي وطني. ويل لها إن عصت وأخلت بالشرط“ !. وأخيراً، فإن هنالك أمراً ثالثاً يرجع إلى حسن الأخلاق والصراحة في الاعتقاد والقول في "بلاد الديمقراطية"، في مقابل انعدام ذلك كله في "بلاد الإسلام". وتلك نقيصة تتعلق بالطبقة المثقفة أو النخبة: ”تختار النخبة طريق الديمقراطية عن وعي وسابق نظر، ثم

 

(1/2266)

 

 

تدلس هذه البضاعة المستوردة“. هي تدلس، كما يفعل التاجر الغشاش لأنها لا تقول للناس ”إن الديمقراطية جسم روحه اللاييكية، أي الانفصال عن الدين وعزل الدنيا عن الساحة العامة“. ودعاة الديمقراطية يدلسون، لأنهم لا يبينون للناس أن شرط الديمقراطية أن ”لا نحكم بشرع الإسلام في برلماننا وسائر مؤسساتنا إلا كما تتمتم تعويذات في بدء المناقشة وختامها، تعمية وعادة ونفاقاً، والجد هو ما يقال ويقرر بقطع النظر عن الإسلام“.

 

(1/2267)

 

 

... ب ـ هذا "التدليس" من قبل نخبة أو السكوت عن حقيقة أن ”اللاييكية هي إجمالاً فصل الدين عن الدولة (…) واللاييكية لصيقة الديمقراطية وضجيعتها ووجهها وقفاها ولازمتها“ ـ كما يقول زعيم "جماعة العدل والإحسان" ـ هو السبب الأصلي العميق في استحالة قيام "الديمقراطية الحرة النزيهة اللاييكية" في بلاد الإسلام. ذلك بأن معنى هذه الديمقراطية ”يعني في آخر المطاف الحكم بما تهواه النفوس البشرية وتتوحد بالإجماع أو بنصفه وثلثه وأقله عليه“. وهذا الحكم هو النقيض المطلق عند من ينشد قيام "دولة القرآن".

 

(1/2268)

 

 

... يتعذر قيام "الديمقراطية" (في معناها الحقيقي، لا المتوهم) في بلاد الإسلام لسبب ثان يتفرع عن السبب الأول المتقدم وينتج عنه بصورة طبيعية: ذلك هو قبول الاختلاف والتعددية من جهة أولى، والقول بأن أساس الاجتماع (أو المجتمع) هو توافق المصالح وائتلافها من جهة ثانية. وفي كلمة واحدة، يتعذر (لا، بل يستحيل) قيام "الديمقراطية الحرة النزيهة اللاييكية"، لأنها تستدعي أمراً ضرورياً، هو قاعدتها. إنه المجتمع المدني:

 

(1/2269)

 

 

... المجتمع المدني لا يسأل عن مبادئه الخلقية ولا عن عقيدته ودينه ولا عن المروءة والفضيلة. يسأل فقط ويجيب عن مصالح الفئات التي يتكون منها وعن المطالب السياسية والاجتماعية والنفعية التي تشد صفوفه (…) المجتمع المدني عبارة عن أحزاب ونقابات ومنظمات ومؤسسات وجمعيات سياسية، مهنية، طلابية، نسوية، جهوية، قروية، بيئية، طبية، رياضية، خيرية، شبابية، قدماء كذا وكذا (…) والباب مفتوح، فتحته عندهم الحرية بلا حدود، وبالتالي فتحه عندنا دعاة الحرية والمساواة والديمقراطية. الباب مفتوح لمؤسسات ومنظمات ونواد للعراة

 

(1/2270)

 

 

والشواذ وهواة كل ما يخطر على البال، بل المتحررين من كل دين وأخلاق ومروءة.

 

... إذا تبينا الفروق الجلية بين الديمقراطية "في بلاد الديمقراطية"، وبين الديمقراطية "في بلاد الإسلام"، ثم أدركنا الأسباب العميقة التي تحول دون وقوعها في أرض الإسلام، فنحن نقف على جوهر الاختلاف بين "الديمقراطية" من جهة و"الشورى" من جهة أخرى. إنه الاختلاف القائم بين منظومتين متمايزتين، لكل منهما مرجعيتها ومفاهيمها وحقلها الدلالي. فأما مرجعية الديمقراطية، فهي اللاييكية، والمفهومان الكبيران الفاعلان فيها هما: المجتمع المدني

 

(1/2271)

 

 

(ولربما المجتمع إطلاقاً)، ثم المعارضة. وليس للمعارضة معنى آخر سوى الاعتراض البشري على حكم أكثرية لها برنامج معلوم ورغبات بشرية تسعى إلى إشباعها ومنجزات ترسم لتحقيقها ـ والاعتراض معناه التربص وتحين الفرصة الملائمة لإزاحة السلطة الحاكمة من أجل الحلول محلها على نحو ما يقضيه معنى التداول. وأما مرجعية الشورى، فهي الإسلام؛ فهي لا تنفك عنه، ”والشورى عبادة قبل كل شيء وأمر إلهي وصفة إيمانية تتوج صفات أخرى تتكامل وتتضايف وتتساند. متى انخرمت صفة من تلك الصفات الواردة في سياق الآيات الأربع الكريمة، فسم

 

(1/2272)

 

 

نظامك ما شئت غير الشورى“. والمفهومان الكبيران الفاعلان في منظومة الشورى هما مفهوم الجماعة، "جماعة المسلمين" من جهة أولى، ومفهوم "النهي عن المنكر" من جهة ثانية. لا تقوم بين مفهوم "المجتمع المدني" ومفهوم "جماعة المسلمين" سوى علاقة اختلاف ونفي متبادلين: في ”المجتمع المدني (…) تقنن قوانينها وتعالج شؤوننا على اعتبار المواطنة في المدينة والتعايش لا غير (…) رابطة تلك المصالح الدنيوية“. وفي "جماعة المسلمين" ”رابطة هذا التراحم في الله، والتواصل في الله، والتعامل في الله“. قاعدة بناء ”ومناط تجمعه السياسي

 

(1/2273)

 

 

(...) من فارقها مات ميتة جاهلية“(1). والمماثلة نفسها تظل، في العمق، صحيحة حين المقابلة بين "المعارضة" (وغايتها إقرار حكم بشري في مقابل حكم بشري آخر) و"النهي عن المنكر" (وغايته إقرار حكم الله وحده وعدم الرضا بحكم غيره).

__________

(1) عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، الطبعة الأولى، 1994، الدار البيضاء، ص. 21 وما بعدها.

 

(1/2274)

 

 

التحليل الجغرافي للأراضي

ودوره في إنجاح برامج التهيئة المجالية

... ... ... ... ... ... ... الدكتور عبد الله لعوينة

... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

لقد توالت على بلدان جنوب البحر المتوسط والشرق الأوسط عدة تجارب تسعى إلى تنمية الأراضي الجافة تنمية زراعية ورعوية تهدف إلى سن أنظمة ريفية مستديمة، في مجالات تتسم بالهشاشة من جهة وبارتفاع الساكنة من جهة ثانية. ومن أهم هذه التجارب تلك البرامج التي أعدتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة والتي كان الهدف منها في الوقت نفسه

 

(1/2275)

 

 

البحث عن توازن بين الضغط السكاني وإنتاج الغذاء وإيقاف مسلسل تدهور التربة والغطاء النباتي ...

وضمان النماء المستديم للزراعة في المجالات الجافة على صيانة التربة الجيدة القابلة لخزن الماء مع ضمان إنتاجية مرتفعة، أو تقنيات رعي تحافظ على جودة المراعي وتنوع منتوجها النباتي.

ويتضح من خلال فحص مناهج البحث المختلفة أن المنهاج الجغرافي يتميز باستجابته لرغبات التهيئة المجالية، وذلك لشموليته. وهذا ما سوف توضحه هذه الورقة.

التحليل المجالي للأراضي : خرائط المؤهلات والخريطة البيئية

 

(1/2276)

 

 

لتهيئة إقليم، من الواجب معرفة مؤهلاته، أي جرد موارده وتحديد إمكاناته وتوزيع هذه الإمكانات مجاليا. والأداة المستعملة عادة لهذا الغرض هي كرطوغرافية الموارد والمؤهلات.

والطريقة المتبعة تنبني على تطابق خرائط مجالية متعددة لكل واحدة موضوعها الخاص ومنها تستخرج خريطة مركبة تدعى " خريطة إمكانات الأراضي"، الغرض منها وصف المعلومات الميدانية المتعلقة بالبيئة وإحصاؤها، لإلقاء الأضواء على السياسية اللازم اتباعها في ميدان إعداد التراب الإقليمي والتوعية بمشاكل الوسط والبيئة؛ والقصد منها كذلك إثارة انتباه

 

(1/2277)

 

 

المستصحين إلى الأخطار المحدقة بالتوازنات الحيوية التي كان واجبا الحفاظ عليها.

تمثل هذه الخريطة المعطيات العامة للبيئة من طبوغرافيا وهدرغرافيا وهدرلوجيا ومناخ. وتكون المنشآت عنصرا أساسيا في المحيط البشري. إضافة إلى المجالات المحروثة، المجالات الخضراء. وهذا القسم من الخريطة وصفي محض، وهو عبارة عن إحصاء لمجموعة من المعلومات حول المنطقة. أما القسم الثاني، فيهتم بدينامية البيئة، أي بالتطورات الحالية التي من شأنها تغيير معالم البيئة. ولهذا فهو أكثر ارتباطا بإمكانات التدخل البشري؛ إذ يشير بكيفية

 

(1/2278)

 

 

مضبوطة إلى عناصر حركية بعضها طبيعي وبعضها مرتبط بالاستغلال أو الإصلاح البشري.

- آليات تدهور سطح الأرض : منها ما هو طبيعي محض أو ناتج بصفة مباشرة عن التدخل البشري ( تعرية مائية - نهرية، غابات مريضة أو محرقة) ومنها ما هو محدث من طرف الإنسان كالمزابل أو المقالع.

- تلوث الماء : ويرمز إلى المجرى المائي أو إلى السواحل كما يشير إلى التيارات التي يتبعها التلوث وإلى مواطن التلوث ومصادره ( معامل - مزابل - أسمدة كيماوية - مبيدات فلاحية ).

 

(1/2279)

 

 

- الوقاية وإصلاح البيئة : تمثل الخريطة كل التدخلات التي من شأنها وقاية الوسط أو إصلاحه، من محاربة للتدهورات الطبيعية ( كبناء جسور ضد التعرية البحرية أو النهرية) ووقاية للمآثر التاريخية وأخيرا محاربة التدهورات المحدثة التي يتسبب فيها الإنسان ( محطات تصفية الماء الصناعي - معامل ملوثة وأخرى مجهزة بمعدات تقي محيطها من التلوث المائي أو الجوي).

ومن الممكن اعتبار خريطة التكونات السطحية أداة تستجيب للتطلعات السابقة الذكر.

 

(1/2280)

 

 

فتحليل التكونات السطحية يسمح بتوجيه التهئية الوجهة الصحيحة، كما يساعد على تفادي الأخطاء التي لها عواقب وخيمة. وينبني هذا التحليل على تعريف مؤشرات مرفو ترابية قابلة للتمثيل المجالي :

- سمك التكونات السطحية وموقعها ضمن متتالية ترابية تراعي النوع التضاريسي؛

- تنوع القطاع الترابي الذي يمكن من تحديد مدى تطور هذا القطاع، اعتمادا على مؤشرات كيماوية وعدانية، من بينها التركيب المعدني للرمال، والتركيب العداني للطين، ونسب العناصر الكيماوية الأساسية، وتطور بعض المكونات الكيماوية النادرة؛

 

(1/2281)

 

 

- المحتوى العضوي للمسكات السطحية ودرجة نشاط المادة العضوية؛

- القطاع المائي للتكونن باعتبار إمكانات التصريف الداخلي لكل مسكة، مع تحديد مستويات تراكم الماء، وما ينتج عنه من تراكم للأملاح أو تغير في الوضع الكيماوي للتربة.

مجموع هذه المعطيات تمثل في خريطة مرفوترابية تعطي صورة دقيقة للبيئة وإمكاناتها ( العوينة، 1984 و 1993 )، لكن تبقى هذه الصورة جامدة إذا لم يلحق بها تحليل للميكانيزمات المسؤولة عن تطور السطح. ولذا صار من الواجب أن تكون هذه الصورة حركية.

التحليل الدينامي

 

(1/2282)

 

 

إن تهيئة السطح تستدعي معرفة الآليات التي تتحكم فيه وفي تطوراته الحالية. فمشاريع التهيئة للأحواض النهرية ( أحواض التصريف) قد عمدت إلى اختيار منهاج مضبوط يهدف إلى تحديد التهديدات التحاتية. هذا المنهاج ينبني على وضع خرائط مجالية تحاول تطبيق نموذج "فيشمايير" الذي تتحكم فيه مجموعة من المؤشرات منها ثلاثة مؤشرات طبيعية هي اعتدائية المناخ وقابلية التربة للإزالة، ثم درجة الانحدار وطوله، ومؤشران يرتبطان باستعمال الأراضي ووقايتها.

 

(1/2283)

 

 

وباستخلاص المؤشرات لكل وسط، البعض بالتكميم المباشر والباقي بالقياس، يتم استخراج خرائط موضوعية ومنها خريطة التهديدات التي تضبط هشاشة الأوساط.

لكن هذا المنهاج يعتريه إشكالان :

- الإشكال الأول أن هذه خرائط تهديدات ممكنة الحدوث، وليست بالإلزام خرائط الواقع الحالي.

- الثاني أن هذه الخرائط تعتبر سلفا أن القسط الأهم من الإزالة يتم في السفوح، داخل الحقول والمراعي؛ وتتناسى العوامل الأخرى مثل التخديدات المركزة والحركات الكتلية ودور الأنهار في الإزالة الجانبية التي قد تكون كتلية وذات خطورة قصوى ( العوينة

 

(1/2284)

 

 

وآخرون1993 ).

وهذه الأشكال المركزة مجاليا والتي قد تمثل القسط من الإزالة ليست خاضعة لطاقة الأمطار ولا لقابلية الأتربة، وليست بالإلزام خاضعة للانحدار كما أن لا علاقة لها باستعمال السفوح؛ بل تخضع لأسباب أكثر تعقيدا، منها الجيولوجية والتكتونية ونوعية التكونات السطحية وتاريخ استعمال الأرض، الخ.

يتضح إذن قصور هذا المنهاج التحليلي المحض، بينما المنهاج المرفودينامي أكثر اقترابا من الواقع. هذا الأخير يعتمد على مراحل البحث التالية ( دونكان وآخرون، 1995 ) :

 

(1/2285)

 

 

أ- كرطوغرافية حالية للأشكال وتحديد العمليات الدينامية النشيطة والعمليات الخامدة مجاليا، وذلك بوضع خريطة مضبوطة تستند على الواقع المرئي في تاريخ محدد.

وتفرق هذه الخريطة بين العمليات الدينامية الظاهرة، أي المنفردة في الميدان والمسؤولة عن أشكال سطحية واضحة، والعمليات الخفية التي تتضح فقط من خلال نتائجها على التربة. الأولى تبرز في الخرائط والصور الجوية، بينما لا تظهر الثانية إلا بعد الفحص الميداني الدقيق. وحجم الأولى مقارنة مع الثانية لا يدل على ترتيب في درجة الخطورة بالإلزام. ذلك بأن التعرية

 

(1/2286)

 

 

الكارثية التي تحدثها الخدات المركزة أو النسف القاعدي للمجاري ليست بالإلزام أكثر سلبية من الانجراف البطيء لكن المتردد للسيل السطحي المتفرق. فالأولى تحدث خللا في التجهيزات، وتعمل على تطمية حقينات السدود، بينما الثانية تفقر التربة وتقتلع المسكات السطحية الغنية بالمادة العضوية والمخصبات.

كما تفرق هذه الخريطة بين العمليات المرتبطة أساسا بأوضاع طبيعية، وتأثير الإنسان عليها بسيط، وأخرى أصلها - جوهريا - من جراء التدخل البشري. ذلك بأن الأولى معقدة في طبيعتها، ويصعب التغلب عليها لأنها ترتبط بواقع بنيوي،

 

(1/2287)

 

 

أو بنائي، أو صحاري، والثانية معقدة في أصولها، لأن تدخل الإنسان يحدث ميكانيزمات غير منتظرة، يصعب تداركها من أجل الرجوع إلى الوضع السابق، مثل انطلاق التذرية الريحية وما ينتج عنها من تصحر في المناطق السهلية نصف الجافة، ومثل تمليح الأراضي المسقية ذات التصريف الرديء. وعلى كل حال، فهذه الكرطوغرافيا قاعدة للتدخل، لأنها تشير إلى الديناميات القائمة وتوحي نسبيا بما يجب القيام به لتفادي السلبيات الناجمة عن العمليات الحالية.

 

(1/2288)

 

 

ب - ملاحظة الأشكال وقت نشاطها لتحديد نهج تصرفها، وتحديد خطورتها الفعلية. فالخدات مثلا ليست كلها خطيرة، وليست كلها من أصل واحد؛ بل هي نوعان :

- خدات تنشط بفعل المياه المتسربة، أي تنتج عن تصريف داخلي لمياه قرب سطحية بسبب النفاذية المرتفعة للتكونات. ووجود إمكانات تحليل باطني لبعض المكونات، أو نقل جانبي للأطيان. وفي هذه الحالة، فإن أي تهيئة تسعى إلى تقوية نصيب التسرب تمثل خطرا إضافيا، بل الواجب تصريف المياه ومنع تراكمها. والتهيئة تقتضي الدفع بالمياه إلى قنوات تصريف سطحية سبق إعدادها وسبقت تقويتها،

 

(1/2289)

 

 

لمنع تعمقها أو توسيع مجاريها.

إلا أن الملاحظة المؤقتة لهذه العمليات غير كافية، لأن الحوادث متنوعة جدا، بالرغم من تشابه مظاهرها، والتطورات متغايرة جدا حسب ظروف نشأتها.

وهذا يعني وجوب التكميم الدقيق في الميدان، الذي يحصي مقادير السيل المائي من جهة ومقادير الإزالة الفتاتية من جهة ثانية. وهنا يجب اقتراح مجموعة من وسائل التقدير البسيطة وغير المكلفة التي تسمح بالوصول إلى تصور فعلي للنشاط البيئيي ( العوينة ، 1993 ).

 

(1/2290)

 

 

فالخرائط المرفودينامية توجه إذن الأعداد حيث تمكن من تحديد المجالات الخطيرة، بينما التحليلات الميدانية والتكميم يوجهان التهيئة حيث يشيران إلى نوعية الآليات الخطيرة وطرق مواجهتها.

البعد التاريخي

التهيئة تقتضي كذلك معرفة المسلسل لتدهور منطقة، وذلك لتشييد تخطيط مستقبلي، يراعي في الوقت نفسه الشكل الحالي ومسلسل تكوينه. فلا يكفي معرفة المؤهلات ومعرفة الآليات العالمة حاليا، بل من المفيد معرفة كيف وصلنا إلى الوضع الحالي، أي إدماج البعد الزمني.

 

(1/2291)

 

 

فالمتخصصون في الأحياء النباتية لهم منهاج مضبوط لهذا الغرض، هو منهاج خرائط المراحل التراجعية للنباتات الذي يعتمد على الانطلاق من بيئة نباتية ذروية، وملاحظة المراحل التراجعية الموجودة في الميدان، وكذلك على تفسير هذه التطورات بالأسباب المناخية أو المرتبطة بالاستعمال البشري ( اجتثات - تفاقم استغلال موارد الغابة - إقامة زراعة).

أما المنهاج الجغرافي، فهو يهتم بالتربة واستقرار السفوح التي تحمل هذه التربة. فهناك قطاع ترابي ذروي موروث عامة. والقطاعات الحالية تدهورات تراجعية بالنسبة إليه. هذا المنهاج

 

(1/2292)

 

 

يدمج الإنسان، حيث تحلل مظاهر تراجع الغطاء النباتي وظهور أشكال تحاتية ويتم تاريخ بروزها وقياس تطورها، تبعا لتاريخ ومسلسل استغلال الأراضي واستعمارها.

فمعلوم أن البئية تتأثر بما يدخل عليها الإنسان من تحولات قد تكون جذرية. إلا أن مدى هذا التأثر وخطورته يختلفان :

- فقد حصر دور الإنسان في تضخيم تطورات قائمة ومنتظرة، ذلك يجعلها تكتسب سرعة معهودة في الأنظمة الطبيعية المحضة، فتصبح هذه الأنظمة مفرطة الاعتدائية مختلة التوازنات؛

 

(1/2293)

 

 

- وقد يدخل الإنسان على النظام القائم تحولات قصوى تجعله ينمحي كليا، ليحل محل نظام بيئي جديد، على أثر وقوع أزمة حقيقية متنوعة المظاهر عميقة الأبعاد.

خطورة الآثار البشرية على البيئة ترتبط بمدى قدرة الإنسان والمجتمعات البشرية - في مجال ما وفي وقت ما - على التحكم في القوى التي ينتجها التدخل. يعني هل تلك التجمعات البشرية متطورة بما يكفي لتنتج الوسائل الوقائية المتكيفة مع القوى الطبيعية المستحدثة ، أو أنها تكتفي بالاستهلاك ولا تملك الأدوات الكافية للحفاظ والإصلاح ؟

 

(1/2294)

 

 

والتأثير السلبي لللإنسان في البيئة ليس قدرا محتوما، بل هو دليل على وجود خلل اقتصادي واجتماعي - وقد يكون سياسيا كذلك - وقد تكون الساكنة المحلية مسؤولة عنه مباشرة، كما قد تكون أحداث ودوافع خارجية عن المجال، وربما أجنبية تماما، سببا له. الأمر الذي يسمح بتصنيف الأزمات التي تمس البيئة من جراء التدخل البشري، إلى ثلاثة أصناف :

- أزمات سببها الاحتياج والتخلف والبحث عن الرزق، الأمر الذي يدفع الإنسان إلى إنهاك الثروات الطبيعية، كتمديد المجال المستغل فلاحيا - وبلا وقاية - مثلا ، إلى ما وراء الحدود التي

 

(1/2295)

 

 

تسمح بالحفاظ على توازن المنظومات.

- أزمات ناتجة عن تقدم جبهة احتلال أو تعمير، تدفع بالسكان إلى الهوامش الشهة.

- أزمات من نوع خاص، معهودة في دول البحر المتوسط الأوروبية، وما زالت غير معتادة في الدول العربية، تنتج عن هجرة السكان عن المنشآت الوقائية التي شيدتها الحضارات السابقة، بحيث يصبح السكان الباقون محليا عاجزين عن مداومة الوقاية.

لقد اقتضى تحليل هذه التطورات من الجغرافيين عملا مشتركا متنوع التخصصات، تدخل فيه المهتمون بالطبيعة إلى جانب المهتمين بالعلوم الإنسانية. والمطلوب فحص المشكل من واجهتين

 

(1/2296)

 

 

: أولاهما تجريبية ، وتعني الملاحظة الميدانية والتتبع والقياس، وهي واجهة يختص بها دارسو الطبيعة؛ والواجهة الثانية تعتبر الماضي أساسا وتهتم بآثار التدخلات التي وقعت في مختلف العهود التاريخية. والمنهاج الخاص بهذه الواجهة الثانية يعتريه تعقيد كبير، يتلخص في وجوب الفرو بين الديناميات السطحية الطبيعية المحضة، والديناميات التي يعتبر الإنسان أصلا لها. وهو فرز ليس بالهين لسببين :

- لأن الأحداث التاريخية المسؤولة عن هذه الديناميات قلما تكون مضبوطة، وذلك لقلة الوثائق الخاصة بهذا الموضوع ؛

 

(1/2297)

 

 

- ولأن التشابه بين التطورات الطبيعية التلقائية والتطورات المتأصلة عن إيعاز بشري كثيرا ما يكون قويا، والفرق بينهما على مستوى القياس والسرعة لا على مستوى النوع والمضمون.

لذا كان من الواجب العمل على واجهتي التحقيق التاريخي والضبط الدينامي لتطورات السطح للإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة ولو جزئيا. فبعبارة أخرى، كان المطلوب تحديد هل مظاهر تراجع النباتات وانجراف التربة وتصحر مجالات واسعة يمكن نسبتها لفترة مضبوطة من التاريخ ؟ وهل الأحداث التاريخية - التي يجب ضبطها - هي المسؤولة عنها، أو أن أسبابا طبيعية

 

(1/2298)

 

 

عامة تسببت فيها دون تأثير بشري فعلي ؟

والمظاهر الطبيعية التي تثبت دور الإنسان في هذه الأزمات هي :

- أولا : تتبع المسكة السطحية للقطاع الترابي والتي تمتاز باختلافها الواضح شكلا ومضمونا عن المسكات الأخرى، وتحتوي على آثار أركيولوجية تؤكد توضعها أو تطورها في فترة مزامنة لحياة بشرية وتنظيمات اجتماعية يمكن ضبطها.

- ثانيا : ظاهرة انفراد وتشخص خدات أو خدو معزولة فوق سفوح عامة منتظمة ومتوازنة، مما يؤكد حدوث خلل محلي تسبب في تعميق المياه السائلة وحفر السفوح. وتوافق هذه الظواهر دائما مجالات مجتثة أو

 

(1/2299)

 

 

متدهورة النبات.

- ثالثا : حجم الواردات الفتاتية المنقولة من طرف الأنهار في الفترة الحالية، ومدى خشونة هذه الموارد، إذا ما قورنت برواسب الفترات السابقة من الرباعي.

وتتأكد ضخامة هذه الموارد، إذا ما قيست الموارد المتجمعة وراء السدود المشيدة في النصف الثاني من القرن الحالي.

- رابعا : ظاهرة التصحر التي تهدد العديد من المناطق الهاشمية وتجعلها تتحول إلى مجالات عميقة، بينما يتأكد أن الأسباب المناخية ليست وحدها المسؤولة عن هذه الظواهر، بل المسؤول الأساسي عنها هو السلوك البشري، بتهديمه لتوازنات طبيعية

 

(1/2300)

 

 

هشة جدا.

هذه الظواهر الطبيعية المختلفة، من توضعات سطحية وتخديدات وتصحر، كلها تتطلب أن تضبط وأن تنسب تاريخيا لفترة ما، في محاولة لإيجاد الأسباب الداعية إلى انطلاقها أو إلى تضخيمها. وهذا يقتضي العمل المشترك بين المهتم بالطبيعة من جهة، ودارسي المجتمع والتاريخ من جهة أخرى.

خاتمة - الخرائط البيئية في خدمة أرياف الدول العربية :

في بلداننا يمكن التفريق بين نوعين من الأرياف :

- المناطق القروية الكثيفة السكن : هي المناطق حيث الغلبة للمجالات الزراعية، حث الكثافة البشرية عالية وحيث توجد بعض المراكز

 

(1/2301)

 

 

الحضرية. وأغراض الخريطة البيئية في هذا المجال الحفاظ على الثروات و الإمكانات واستصلاح الأراضي وبعث التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

وتمثل الخريطة البيئية الوسط الجغرافي والتغيرات المستمرة التي تطرأ عليه. ولذا فمن الواجب إدخال مفهوم الزمن في هذه الكرطوغرافية. إذ أدى التطور التاريخي بالسطح إلى تغيرات هامة جدا. فجل هذه البلدان عرفت الاستعمار في القرن العشرين. وقد كان أثره على البيئةبالغا كما كان على الأنظمة الإنتاجية. والتاريخ القريب يفسر توزيع الكثافات وأنواع الاستيطانات البشرية والاختلافات المحلية

 

(1/2302)

 

 

في البنيات العقارية وطرق الاستغلال. إلا أن نتائج هذه الظواهر التاريخية فقط هي التي تقبل التمثيل الكرطوغرافي، ودور التحليل إظهار الآليات وتقديم التأويلات.

كما أن مفهوم الزمن يقتضي الإشارة إلى التطورات الممكن حدوثها في الحاضر والمستقبل القريب، وذلك عبر تعريف للتوازنات الحيوية وهشاشتها في الغالب.

- المناطق القروية ذات الكثافات البشرية الضعيفة هي المناطق التي احتفظت على عناصر هامة من الغطاء النباتي الطبيعي، وذلك لضعف الاستيطان البشري.

 

(1/2303)

 

 

لذا، يمكن تحضير خرائط البيئة في هذه المناطق بمقاييس صغرى أو متوسطة، مع الاهتمام بالثروات غير القابلة للتجديد.

والعناصر الدينامية الأكثر ترددا في هذه المناطق هي تقدم وتراجع حدود الغابة والمرفودينامية النهرية والريحية والتطورات البشرية ( تغيرات في نوعية النظام الإنتاجي) والتطور المجالي للاستغلال.

مشكل الموارد والبيئة في البلدان العربية ليس إذن بسيطا، بل يرتبط بالاختيارات الأساسية وبنموذج النمو الذي يسعى إليه كل من هذه البلدان. فالحفاظ على البيئة ليس أبدا حاجزا أمام النمو، وهو ليس من الكماليات؛ بل

 

(1/2304)

 

 

تحقيقه أساسي ليتم التوازن بين الخيرات والثروات من جهة والنمو الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يظهر الدور الذي تلعبه الدراسات الجغرافية وكرطوغرافية البيئة على الخصوص بصفتها أداة تعريف بالحقائق وأداة توعية.

 

بيبلوغرافيا

لعوينة، عبد الله ( 1984)، "التمثيل الكرطوغرافي للدينامية البيئية في السهول المتوسطة نصف الجافة. مثال خريطة تريفة"، مجلة جغرافية المغرب، الرباط، العدد الثامن، صص. 3-12.

 

(1/2305)

 

 

LAOUINA, A. ( 1990), « Implications spatiales et environnementales des transformations socio-économiques et technologiques dans les campagnes marocaines, » in Le Maroc, espace et société, Passauer Mittelmerrustudien, Vol.Spéc.1, PP. 175-181.

LAOUINA, A. ( 1992 ), « La Géomorphologie dans les projets de développement intégré au Maroc », in La Recherche scientifique au service du développement, Publ. Fac. des lettres et des Sciences Humaines, Rabat, Série Colloques, N° 22, PP . 291-298.

 

(1/2306)

 

 

LAOUINA, A. CHAKER, M, NACIRI, et NAFFA, R. ( 1993), « L’érosion anthropique en pays méditerranéen, le cas du Maroc septentrional,", Bull.Ass. Géogr. . Franç., Paris, 5, PP . 384-398.

LAOUINA,A. ( 1993), « Geomorphology in Morocco », in The Evolution of Géomorphology, Edited by H.J. Walker and W.E. Graban, Wiley, PP . 291-298.

DUNCAN, F.M., Mc GEOGOR and DONALD A. THOMPSON, Eds ( 1995), « Géomorphology and Land Management », in A Chanping Environement, Wiley, 339 P.

 

(1/2307)

 

 

TRACART, J. et KILLIAN, J. ( 1979), Hérodote, Maspéro, Parix, 325P.

 

(1/2308)

 

 

التراث العربي في مواجهة المتغيرات الفكرية في القرن الحادي والعشرين

 

... ... ... ... ... الدكتور خليل عودة

جامعة النجاح الوطنية بنابلس ـ فلسطين

 

... يشكل التراث ـ بشكل عام ـ مرتكزاً رئيساً في التوازن القائم بين القديم والجديد، ورابطاً فكرياً وثقافياً بين إبداعات الماضي بكل ما فيه من بساطة أو عمق، وفق المعطيات القائمة في ذلك الوقت، وتعقيدات العصر بما فيه من وسائل التقدم العلمي والرقي الفكري.

... وقيمة التراث لا تقاس بالمعطيات الموجودة في الوقت الحاضر، ولكنها تأتي من أصالة التجربة التي أبدعها

 

(1/2309)

 

 

الأوائل، ومهدوا من خلالها لإبداعات الحاضر. وبقدر ما يكون التواصل بين القديم والجديد على مستوى التراث والمعاصرة، تأتي قيمة التراث في رفد الحركة الفكرية وانطلاقها نحو آفاق جديدة من المعرفة والإبداع.

... والتراث بشكل عام لا يمكن التعامل معه مفصولار والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوماً دون قوم، بل جعل الله ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره«(1)

__________

(1) أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده، تحقيق وشرح د. مفيد محمد قميحة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1403 هـ/ 1983 م، ص. 70.

 

(1/2310)

 

 

.

... فالحديث عن التراث هو حديث عن الوجود الإنساني والحضاري لأمة من الأمم في امتدادها الفكري، وتواصلها المعرفي. وليست القضية في تجريد مفهوم التراث والتعامل معه تعاملك مع فكرة، وإنما يكون التعامل معه من خلال استنباط مفاهيم جديدة ترسخ واقعاً، وتحدد معالم مستقبل، في ظل متغيرات فكرية تفرض نفسها من حيث لآخر على الواقع المعيش.

 

... والتراث ليس قيمة في ذاته إلا بقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره. فهو ليس متحفاً للأفكار نفخر بها، وننظر إليها بالإعجاب، ونقف أمامها في انبهار،

 

(1/2311)

 

 

وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل وموجِّه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية(1).

 

... ... والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تكون عملية توظيف التراث؟ أو بمعنى آخر، كيف يمكن أن نجمع بين التراث والمعاصرة، ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين؟ هل

__________

(1) حسن حنفي، التراث والتجديد، ط. دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط. 1، 1981، ص. 11.

 

(1/2312)

 

 

يكون التعامل مع التراث على أنه شيء مقدس، وأن ما ناسب القدماء لابد حتماً من أن يكون مناسباً لنا؟ أو أن ما توصلوا إليه هو ما ينبغي أن نقف عنده، أو ندور في فلكه على أنه خاتمة المطاف؟

... ... والجواب لا يكون بهذا أو ذاك، لأن التراث يظل تراثاً له ما له، وعليه ما عليه، والفكر الناضج يفرض علينا أن نمحص ما نأخذ، وأن نأخذ ما محّصناه لأن:

 

... ... الأصل في الفكر ـ إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم ـ هو أن يكون حواراً بين "لا" و"نعم" وما يتوسطهما من خلال وأطياف. فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكراً، ولا القبول

 

(1/2313)

 

 

المطلق الأعمى يعد فكراً؛ ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد(1).

 

... ... ونحن بدورنا تؤكد حقيقة احترام الفكر في تعاملنا مع التراث. ولا يعني الفكر أو إمعان النظر فيه أننا نقلل من قيمته، أو أننا نعيد النظر في ثوابته، أو إعجابه به؛ ولكن هذا الإعجاب لا ينبغي أن يقودنا إلى التقديس»فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له، يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ، فعندئذ تنسدل

__________

(1) زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، ط. دار الشروق، بيروت، ط 5، 1398 هـ/ 1978 م، ص. 30.

 

(1/2314)

 

 

الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات في العلم والمعرفة«(1).

... ... ومن أجل تحقيق الفائدة المرجوة من التراث في مواجهة المتغيرات الفكرية والحضارية التي تتلاحق بشكل متسارع، فإنه ينبغي علينا عدم إقحام التراث بشكل غير مسوغ في قضايانا المعاصرة، وإنما نأخذ من التراث ما يساعد حقيقة في مواكبة هذه المتغيرات التي نعايشها في مختلف مجالات المعرفة، ولا يعني الاهتمام بالتراث مجرد تحقيقه أو إعادة نشره، بل يعني الوعي به أيضاً.

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 53.

 

(1/2315)

 

 

... فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق فحسب، الذي ولّى وطواه النسيان، ولا يزار إلا في المتاحف، ولا ينقِّب عنه إلا علماء الآثار، بل هو أيضاً جزء من الواقع ومكوناته النفسية. ما زال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجهاً لسلوك الجماهير في حياتها اليومية، إما بعاطفة التقديس في عصر لا يسلك الإنسان فيه إلا مدَّاحاً، أو بالارتكان إلى ماض زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضني (1).

__________

(1) حسن فهمي، التراث والتجديد، ص. 13.

 

(1/2316)

 

 

... ... وبناء على ما سبق يكن أن نفهم التراث على أنه جزء هام بين مخزون الأمة الفكري والحضاري، وأنه يشكل اللبنات الأساسية التي يُبْنَى عليها حاضر الأمة ومستقبلها. ولا يشترط أن تكون مراحل البناء متجانسة من حيث الهدف والمضمون، ولكنها من دون شك وثيقة الصلة: يمهد السابق منها للاحق، ويؤسس اللاحق لما يأتي بعده.

 

... ملاءمة التراث مع قضايا العصر

... ... عند الحديث عن التراث، نواجه عدة مفردات تفرض نفسها علينا في تعاملنا معه مثل: الأصالة، القداسة، العراقة، النزاهة…، وهي مفردات تعطي لفظة التراث صفات مجردة

 

(1/2317)

 

 

أكثر مما تعطيها قيمة ومضموناً ودلالة. ومع إيماننا بقيمة التراث وأهميته، وعدم انتقاصنا منه، إلا أنه لا ينبغي أن نتعامل معه من خلال مفردات تفرض نفسها على تفكيرنا وطريقة تعاملنا معه. وتظل الإشكالية قائمة: كيف نقرب بين التراث وقضايا العصر، مع بعد المسافة، واختلاف المفاهيم، ووسائل العلم والفكر؟: وإذن فسؤالنا الأساسي هو: أي الأفكار التي يريدوننا أن نبعثها من تراث الأسلاف، يمكن أن نعلق به الرجاء؟ وهل صحيح أننا واجدون في أفكار أسلافنا بالأمس ما يمكن أن ينير أمامنا الطريق؟ لقد كانت أفكارهم وليدة

 

(1/2318)

 

 

مشكلاتهم، فهل تكون مشكلاتنا هي نفسها مشكلاتهم، بحيث نهتدي بحكمتهم في اقتراح الحلول؟(1)

... ... ونحن بدورنا نقرر حقيقة أن الحديث عن التراث لا يعني إعادته، أو جمع مفرداته، مع أهمية ذلك في مرحلة من المراحل، بل يعني الاستفادة منه وتوظيفه. وأما كيفية الاستفادة أو التوظيف، فينبغي أن تكون محور الحديث أو الدراسة؛ إذ كيف نوظف هذا التراث لخدمة قضايانا المعاصرة؟ وكيف نستفيد منه للتغلب على جوانب النقص والتقصير في حياتنا؟

__________

(1) زكي نجيب محفوظ، تجديد الفكر العربي، ص. 84.

 

(1/2319)

 

 

... ... وفي هذا السياق، يجب أن ننبه إلى ضرورة عدم الدخول إلى التراث من بوابة الخروج من واقعنا، أو مدارة العجز الحاصل في تراجع الفكر، وتخلف مناهج البحث، بالعودة إلى التراث بصفته وسيلة إرضاء للذات، أو الاتكاء على إنجازات الآخرين وفق ظروف خاصة بهم، على أنها خلاصة ما يمكن أن نقدمه أو نتوصل إليه، معطين أنفسنا الحق في التقصير أو التراجع.

... ... فالتعامل مع التراث يجب أن يبدأ من بوابة الدخول إلى واقعنا، وليس العكس. بمعنى أن يكون التراث عاملاً مساعداً على الابتكار والتجديد في فترة زمنية لها خصوصيتها،

 

(1/2320)

 

 

ولكنها تستفيد مما سبق ولا تكتفي به:

 

... والابتكار ليس معناه اخترع شيء من الهواء، ولكن معناه وجود مادة تتفاعل هي وشخصية قوية، فتتمثل خلقاً جديداً: فلولا الأساطير القديمة، ما وجد كتاب المسرحية اليونانية، ولولا الأناشيد الدينية للشعب الألماني ـ الكورال ـ، ما كتب باخ موسيقاه الرائعة(1).

 

... وما يبنى على التراث لا يعني بالضرورة أنه الأفضل، ولكنه بلا شك هو الذي يتجاوز مرحلة التأسيس أو البدايات الأولى، للوصول إلى مرحلة أكثر

__________

(1) محمد مصطفى هداره، مقالات في النقد الأدبي، دار القلم، 1964، ص. 50.

 

(1/2321)

 

 

تطوراً في المفهوم والفكرة، تمهيداً لمرحلة جديدة يمكن أن تؤسس على ما تم التوصل إليه مستقبلاً:

 

... فأنا لا أعيش في الحاضر فقط، مبدياً ردود الفعل تجاه الماضي المباشر (كما يفترض التطوريون)، بل في ثلاثة أزمنة معاً: في الماضي من خلال الذاكرة، وفي الحاضر، وفي المستقبل من خلال التوقعات والخطط والآمال. وقد أصل في أي لحظة إلى الماضي البعيد، أو إلى أبعد لحظة في تاريخ الإنسانية. إن هناك إمكانية دائمة للتزامن في تطور الإنسان العقلي، وهذا التزامن يشكل بنية تتحقق في أي لحظة(1)

__________

(1) رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة د, محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 110، 1407 هـ/ 1987 م، ص. 40.

 

(1/2322)

 

 

.

 

... ولا يكون التغيير أو التحديث باستعادة التراث في كليته، أو الانتقاء منه، فلا الإعادة الكاملة مجدية، ولا الانتقاء مفيد، بل يجب وضع فلسفة معينة في التعامل مع التراث من زوايا مختلفة، وتخصصات متنوعة. فإذا أردنا أن ندرس قضايا النقد الحديث ـ على سبيل المثال ـ، فلا ينبغي أن ندور في دائرة القدماء، ولا ينبغي كذلك أن نأخذ كل ما هو مستورد من فكر الآخرين على أنه خلاصة ما يمكن أن نتوصل إليه من دون الوعي بما في التراث العربي من قضايا مسبوقة، وهي قضايا ـ بلا شك ـ توصل إليها السابقون في نتاجهم الفكري، ولم

 

(1/2323)

 

 

نحاول الاستفادة منها أو تطوريها، وتركنا لأنفسنا أخذ نتاج الآخرين على أنه من المعاصرة أو الحداثة، بينما هو في الحقيقة نتاج فكر توصل إليه الآخرون، بعيداً عن تراث مسبوق لا يخصهم. وإذا كان تراثنا غريباً عنهم، فلا ينبغي أن يكون غريباً عنا.

... ولتأكيد هذه الفكرة، يمكن المقارنة بين مفهوم الأسلوبية (Stylistics) في النقد الحديث، وعلم المعاني في الموروث النقدي والبلاغي القديم. فالدراسة الأسلوبية تتناول بشكل رئيس دراسة العمل الأدبي بما يحويه من وسائل تتجاوز مجرد نقل المعنى، إلى عمق الاستعمال اللغوي

 

(1/2324)

 

 

المتمثل في وضع المفردات في صيغ وأنساق معينة، وكيفية انتظامها، وانتظام الجمل والفقرات ورسم الصور، وانسجام ذلك كله مع المعنى: »فالكلمات والعبارات في الشعر يقصد بها بعث صور إيحائية؛ وفي هذه الصور يعيد الشاعر إلى الكلمات قوة معانيها التصويرية الفطرية في اللغة«(1).

... وإذا كانت الأسلوبية قد أفادت من الدراسات النقدية الحديثة، واعتمدت في كثير من نظرياتها على ما توصل إليه علم اللغة الحديث، فإنها في الوقت نفسه قد

__________

(1) محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ص. 357.

 

(1/2325)

 

 

أعادت ما توصل إليه الدارسون في تراثنا البلاغي والنقدي القديم، مثل رصد الأساليب الإنشائية، والصور الفنية، وأساليب المجاز والتشخيص والتجسيم، في محاولة منها للوصول إلى المعنى. ومع ذلك، فإن الأسلوبية قد عجزت عن استكمال الملاحظات البلاغية في دراسة النص الأدبي، لأنها انطلقت من بدايات جديدة، ولم تعتمد على بدايات في تراث غير التراث الذي نشأت فيه.

 

... وإذا قلنا إن الأسلوبية بكشفها عن التباين الأسلوبي إنما تقودنا إلى عمليات التوصيل، وتلفتنا إلى طبيعة الرسالة في النص الأدبي ـ إذا قلنا هذا كله، فإن علينا

 

(1/2326)

 

 

أن نلاحظ أن الأسلوب في ذاته لا يمكن أن يكون مساوياً لجميع الظواهر اللغوية للنص الأدبي؛ ومن الممكن أن نقول إن هناك ظواهر أخرى كثيرة لا تستطيع الأسلوبية بوصفها الحالي أن تتعامل معها، بسبب ما في مناهجها نفسها من قصور. ومن أهم الظواهر التي عجزت المناهج اللغوية المتمثلة في الأسلوب عن معالجتها، ظاهرة الأبنية البلاغية التي تفوق التركيب الواحد، ومنها الأبنية العليا الشاملة في النصوص الأدبية(1)

__________

(1) محمود عياد، "الأسلوبية الحديثة: محاولة تعريف"، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الثاني، يناير 1981، ص. 129.

 

(1/2327)

 

 

.

 

... فانسجام التراث معا المعاصرة يفرض علينا ألا نأخذ فكر الآخرين مقطوعاً عن تراثنا الفكري، بل محاولة الاستفادة مما هو حاصل في التراث، مع ما يمكن أن نتوصل إليه نحن، أو يتوصل إليه الآخرون. وبذلك يتحول التراث من مجرد تراث إلى فكر مكمل ورافد لكثير من الأفكار والنظريات التي يظن كثيرون أنها من المعاصرة الخالصة، بينما هي تنطلق من عمق التراث، وتستفيد منه بوعي أو غير وعي. ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون الاطلاع الواعي على التراث، ومحاولة ربطه بمناهج الفكر التي تم التوصل إليها، أو التي يمكن التوصل إليها،

 

(1/2328)

 

 

وبذلك تتحقق فكرة المعاصرة للتراث.

... وما يقال في علم الأسلوب يقال في كثير من العلوم النظرية والتطبيقية التي كان لروادنا الأوائل فضل السبق في الحديث عنها، أو التوصل إلى بعض المعطيات الأولى حولها، مما شكل حلقة في سلسلة الحلقات المتواصلة في تاريخ الفكر المتصل بهذه العلوم:

... فالتراث العربي غني في الكيفية، غني في الكمية أيضاً، ولا تزال آثار هؤلاء الأسلاف ـ في التشريع والعلوم الفلسفية والرياضية والجغرافية والطبية والنفسية وغيرها ـ معدودة في قمة الإنتاج الفكري؛ ولا تزال النظريات الفلسفية الاجتماعية

 

(1/2329)

 

 

لعلماء العرب وفلاسفتهم أصلاً وجذراً من جذور علم الاجتماع والفلسفة المعاصرة(1).

 

التراث بين الأنا والآخر

... يعد التراث رصيداً معرفياً لأي أمة من الأمم. والناس أمام التراث أحد اثنين: إما ممجَّد دون تمحيص، وإما ممحص دون تمجيد. ونحن لا نطلب من الباحث أن يكون مجرد مادح للتراث، لأنه في هذه الحالة لا يفيد التراث ولا يستفيد منه، بل نطلب منه أن يكون ممحصاً ومستفيداً. فالتراث جزء من الماضي، وله سيطرة على الحاضر:

__________

(1) عبد السلام هارون، التراث العربي، كتاب رقم 35، ص. 7.

 

(1/2330)

 

 

... لا ينظر الباحث إلى التراث إذن نظرة سائح إلى عالم الغيب، لأن التراث جزء من ثقافة الباحث الوطنية، والباحث مسؤول عنه مسؤولية قوية. فالأحكام الخاطئة لا ترصد بل يعاد صياغتها، وأوجه النقص في التراث لا تبرر أو تنقد بل تكمل وتزاد. فالباحث على نفس مستوى مسؤولية المفكّرين القدماء وهم أترابه وليسوا غرباء عنه. فإذا انفصل الباحث عنهم، وقع في الغربة، وأصبحت مسؤوليته هو وليست مسؤولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث، وبأن التراث جزء منه. ولا ينقص الالتزام بالقضية من حياد

 

(1/2331)

 

 

الباحث أو من نزاهته أو من موضوعيته(1).

 

... وأما العجز الحاصل في الواقع العربي في مختلف قضايا العلم والمعرفة، يحاول الباحثون الهروب من هذا الواقع باللجوء إما إلى التراث، وإما إلى الثقافة الغربية. وهذا بدوره يقودنا إلى قضية هامة، وهي علاقة التراث بالثقافة الغربية، وعلاقتنا نحن بالتراث والثقافة الغربية على حد سواء.

... وللإجابة عن هذه التساؤلات، يجب علينا أن نميز بين نظرتنا نحو للتراث، ونظرة الآخرين إلى تراثنا. فإذا كنا نحن ننظر إلى تراثنا بشيء من الإعجاب

__________

(1) حسن حنفي، التراث والتجديد، ص. 21.

 

(1/2332)

 

 

والتقدير، فإن الآخرين لا يفترض فيهم أن ينظروا إلى تراثنا بالعين ذاتها التي ننظر بها نحن إليه، لأنه عندهم مادة للبحث والدراسة والتقويم والنقد، ولا ينبغي أن ننكر على الآخرين دراسة تراثنا الفكري بشيء من الموضوعية، ولا أن نقابل ذلك بالاتهام، بل علينا أن نقابل دراساتهم بدراسات مضادة ـ إن جاز التعبير ـ تتخذ الإقناع والعقل وسيلة لإظهار التراث بالشكل العلمي الصحيح، رداً على من يحاول أن ينظر إلى تراثنا من وجهة نظر خاصة به.

 

(1/2333)

 

 

... وعندما نسمح للآخرين بدراسة تراثنا، فإنه ينبغي علينا كذلك أن ندرس تراثهم، لا لمجرد الرد على دراساتهم، أو المقارنة الإيجابية والسلبية، بل من أجل أن نستفيد ونفيد، ونجعل التراث فكراً للجميع. وإذا كان تراث الآخرين لا يناسبنا أو يتفق مع تراثنا، فلا ينبغي أن نصرف النظر عن دراسته، لأن الآخر يشكل مع الذات حلقة تواصل فكري، لا يمكن الاستغناء عنها. فهو تطور دائري كما يصفه المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي؛ ونحن

 

(1/2334)

 

 

... عندما نتحدث عن الآخر، فنحن لسنا مقياساً، بل لسنا معياراً. من يختلف عنا فليس شاذاً، ليس ناقصاً، ليس غريباً تماماً؛ كما أننا نحن لسنا شاذين، لسنا ناقصين، لسنا غرباء بالمقارنة مع الآخر. ببساطة، ليست البشرية حجارة مصنوعة في القالب، بل أناس ، بشر. والحقيقة أن كل واحد منا يخلتف عن الآخرين جميعاً(1).

__________

(1) سالم جبران، "هو الآخر بالنسبة لي، أنا الآخر بالنسبة له"، مجلة مشارف القدس وحيفا، العدد 2، 1995، ص.21.

 

(1/2335)

 

 

... وفي هذا السياق، ينبغي ألا ننكر جهد الآخرين في تحقيق تراثنا ودراسته. »إن الجهد العلمي الذي بذله المستشرقون في إحياء التراث العربي جهد لا يستطاع إنكاره، فهم كانوا أساتذة الجيل الحاضر في الطريقة العلمية التي جروا عليها«(1).

... والقضية ليست مجرد تحقيق التراث، بل دراسته. فللآخرين فضل السبق في دراسة قضايا التراث أيضاً، وهي قضية ـ في تصوري ـ لها إيجابياتها وسلبياتها، لأنهم تعاملوا مع تراثنا وفق أحكام مسبقة حاولوا تأكيدها، مستغلين بعض الثغرات هنا أو هناك، مما أثار الشكوك في بعض الأحيان من

 

(1/2336)

 

 

هدف دراستهم للتراث العربي، وجعلنا نتعامل مع الآخر بقدر غير قليل من الشك والريبة. وعندما نقف عند دراساتهم في هذا الجانب، فإما أن نرفض من دون أن نسوغ هذا الرفض، أو نتهم من دون أن نستند إلى أحكام العقل والمنطق. وفي كلا الحالين يكون موقفنا ضعيفاً، لأننا ندور في حلقة مفرغة مع دراسات الآخرين بين رفض واتهام، وهي حالة لا تسمح لنا بمراجعة التراث أصلاً، والتعامل مع قضاياه بعيداً عن ضغوط الآخرين، وآرائهم المتلاحقة تباعاً. فالمنطق يفرض علينا أن نكون نحن المبادرين إلى دراسة التراث دراسة متأنية تعالج

 

(1/2337)

 

 

السلبيات. وتستفيد من الإيجابيات، وتردُّ التهم الموجّهة إلى تراثنا بالحجة والمنطق، لأن الآخر ينظر إلى تراثنا على أنه شيء من الأساطير، وأن الفكر العربي ـ تبعاً لذلك ـ عاجز عن التجديد، ولا يتفق وأصول المنطق والعلم. ووصل بهم الأمر إلى رد الإيجابيات في الفكر والتراث العربي إلى أصول غير عربية، كما يقول ديبور: »وإذا وجدنا العرب يصلون بين الأشياء المتعددة برباط منطقي أو قائم على الاعتبار لخصائص الأشياء، لا حين يحصونها إحصاء أو يجمعون بينها على غير نظام، فالراجح أنهم في كل ذلك متأثرون باليونان«(1)

__________

(1) انظر محمد عبد الهادي أبو ريدة، تاريخ الفلسفة في الإسلام، الطبعة الثانية، 1948، ص. 15.

 

(1/2338)

 

 

.

... وإلى جانب هذه الاتهامات، فإن الآخر يحاول أن يأخذ ما في التراث العربي على أنه واقع حقيقي، من دون أن يربط الأحداث أو المواقف بعضها ببعض. وهذا يتطلب منا ليس مجرد رد التهمة، أو تصحيح وجهة النظر، بل المبادرة في دراسة مواقف معينة، أو أحداث مميزة لربط الأسباب بالمسببات، وإخراج الخبر في إطاره الصحيح، وفق الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصاحبة له. فإذا قرأنا مثلاً خبراً عن مصعب ابن الزبير برواية الشعبي، يتحدث عن إحضار مصعب للشعبي إلى بيته، وإظهار زوجه عائشة بنت طلحة أمامه، ثم يقول له:

 

(1/2339)

 

 

»لقد أتيت بك إلى بيتي، لترى جمال عائشة وتشهره بين الناس«(1)، أدركنا ما في الخبر من تشويه لشخصية سياسية مناوئة للدولة الأموية. فالزبيريون حزب سياسي معارض للحكم الأموي، وما قيل عنه برواية الشعبي لا ينعكس حقيقة مصعب بن الزبير، وهو مضرب المثل في المروءة، كما تقول عنه عائشة عبد الرحمن(2)؛ ولا حقيقة المرأة العربية في ذلك العصر، وإنما يؤخذ الخبر في إطار

__________

(1) انظر الأصفهاني، الأغاني، دار الكتب المصرية، ج 2، ص. 310.

(2) انظر عائشة عبد الرحمن، سكنية بنت الحسين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص. 88.

 

(1/2340)

 

 

الحياة السياسية، والعلاقات القائمة بين الأحزاب المتصارعة في ذلك الوقت. وفي مقابل هذا الخبر، نقرأ شعراً لبعيد الله بن قيس الرقيات شاعر الحزب الزبيري، وهو يتغزل غزلاً حسياً مكشوفاً بنساء الخلفاء الأمويين (1).

... فالآخر إذن يدرس التراث، وعلينا نحن أيضاً أن ندرس التراث. فلا ننكر على الآخرين ما توصلوا إيه، ولا نجعل ما توصلوا إليه خلاصة ما يمكن أن يُستقرأ من تراثنا، بل يجب التعامل مع التراث وفق مقاييس خاصة تحقق

__________

(1) انظر ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، صص. 539 ـ 540.

 

(1/2341)

 

 

النظرة الشمولية المتكاملة للتراث، بعيداً عن الانتقائية الضيقة، أو المحاباة والمجاملة.

... والتعامل مع التراث وفق هذا المفهوم لا ينبغي أن يصرفنا عن دراسة فكر لآخر؛ كما أن دراسة فكر الآخر لا ينبغي أن تصرفنا عن دراسة تراثنا. صحيح أن فكر الآخر يقابل بالإعجاب والقبول، ويلقى الدعم والتأييد من الجهات الرسمية وغير الرسمية؛ إلا أن هذا الفكر الذي يتخذ شكل الغزو والتأثير في مختلف مجالات العلم والمعرفة أصبح واقعاً ملموساً في حياتنا لا يمكن تجاهله أو حتى الاستغناء عنه؛ ولكن ينبغي علينا مواجهته بشكل أو بآخر،

 

(1/2342)

 

 

من خلال استلهام روح التراث، وليس الانغماس فيه.

 

(1/2343)

 

 

التراث العربي وعناصره الصالحة لنهضة عربية حديثة

 

الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله

عضو أكاديمية المملكة المغربية

 

الحضارة في مدلولها العام تستلزم طائفة من العناصر، أبرزها: شيوع العمران وانتشار العلوم والفنون وحسن انتظام الاجتماع وتوازن الاقتصاد وعظمة الجهاز السياسي وضخامة المقومات العسكرية وما شئت من مظاهر العزة والمنعة والوفرة والأمن والنظام. والحضارات تقوى وتضعف بحسب قوة تلك العناصر وضعفها ودرجة اكتمالها والصبغة التي تصطبغ بها. فهنالك حضارات يطغى فيها الجانب المادي على الجانب الروحي، أي تسود فيها

 

(1/2344)

 

 

مظاهر العمران والمدنية الملموسة؛ وتلك سمة يغلب وجودها في الحضارات الأوروبية. بخلاف الحضارات الشرقية. التي تضم إلى جانب هيكلها المادي، مجموعة روحية لا تزال الإنسانية تستمد منها إلى الآن سواء في ميدان الفلسفة أو الاقتصاد أو الاجتماع. وغير خاف أن أقدم الحضارات في العالم هي الحضارة الشرقية من صينية وهندية ومصرية وآشورية وكلدانية وفينيقية وفارسية. ولهذه الحضارات الآسيوية تراث فكري ومادي كان ولا يزال من أجل دعائم الحضارة الغربية الآرية. وأقول مادي، لأن كثيرا من الاختراعات قد استمدتها الإنسانية منذ

 

(1/2345)

 

 

فجر التاريخ من الحضارات السامية القديمة.

إن من يتتبع مقومات الحضارة الإنسانية يلاحظ ظاهرة قديمة، وهي إمكان رد معظم هذه المقومات إلى المدنية الشرقية. ففي الفلسفة وفي العلوم وفي الاقتصاد يصطدم المؤرخ بطائفة من المعلومات منتشرة في كتب المطبوع ومنها المخطوط يدل مجموعها على أن كثيرا من مظاهر المدنية التي تبناها عصر الانبعاث في أوروبا ترجع لأعمق العصور ولأعرق المدنيات الشرقية.

والحضارات تتكيف تبعا للجو المحلي وطبقا لمؤثرات تتفاعل فتسمها بطابع خاص.

 

(1/2346)

 

 

فما وضعية الحضارة المغربية بالنسبة للحضارات العالمية؟ وما منزلتها كحضارة إسلامية بالنسبة للحضارات التي توالت على المغرب قبل الفتح الإسلامي؟ وما علاقة الحضارة الشرقية بالحضارة المغربية في عدوتي المغرب والأندلس؟

إن العرب لما فتحوا إفريقية والمغرب، وجدوا الأمم التي تنازعت السلطة في المغرب قبل دخول الإسلام إليه والحضارة القرطاجية قد قضى عليها طغيان الرومان الذين محقوا عاصمة قرطاج واستأصلوا من ربوعها الزاهرة جذور المدنية والعمران ثم بنوا على أنقاضها شيئا جديدا ما لبث الوندال أن استأصلوه بدورهم، ولكن

 

(1/2347)

 

 

لم يلبثوا في المغرب زهاء القرن حتى انقض عليهم الروم سكان الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزانس) فارتكبوا فيهم ما ارتكبوه هم في الرومان وما ارتكبه الرومان في القرطاجيين. وقد ذكر المؤرخين أنه لم تمض ستة أشهر على انتصار الروم حتى عفوا على آثار الوندال بالبلاد. وخرج المغرب من سلسلة الاحتلالات الأجنبية صفر اليد خاوي الوفاض منهوك القوى، ووجد سكان البلاد - وهم البربر - أنفسهم كما كانوا أول مرة بدائيين في حضارتهم. وقد أكد الأستاذ ألفريد بيل (Alfred Bel) في كتابه "ديانة الإسلام في بلاد البربر" (ص. 64)

 

(1/2348)

 

 

أن مما لوحظ كون لغة القرطاجنيين والرومان وكل ما استمده البربر خلال الاحتلال الروماني والقرطاجني قد اندرس بعد انقضاء الاحتلال المذكور، وأن البربر عادوا إلى استعمال لغتهم وإلى أساليبهم الوحشية؛ مما يدلنا على أنهم لم يستفيدوا قلامة ظفر من حضارة قرطاج ولا رومة. ولعل الأستاذ بيل نسي أن يقول بأن الشيء الذي ظل متغلغلا في روح البرابرة هو اللغة البونية التي كانت قريبة من العربية والتي إشعاعها على يد الكنعانيين العرب بين أبناء البربر من قرطاج إلى قابس ومن طنجة إلى بجاية.

 

(1/2349)

 

 

ولكن هل كانت للبربر حضارة قبل سلسلة الاحتلالات الأجنبية؟ أو كانوا مغمورين في بوتقة الشعوب المتوحشة كما يزعم كثير من المؤرخين الأجانب؟ يجب أن نعلم قبل كل شيء أن البربر آسيويون لا أفارقة وأنهم هاجروا من آسيا إلى المغرب عن طريق مصر والبلاد الليبية. وجاء برابرة الأطلس المغربي على الخصوص من ربوع الشام، حيث كان يجمعهم قرب الجوار مع أبناء عمهم العرب الكنعانيين. فالحضارة البربرية حضارة آسيوية بدائية ترتكز على الزراعة والرعي. وقد وصف لنا مؤرخون أجانب التجانس الذي كان ملحوظا بين عادات العرب والبربر والذي

 

(1/2350)

 

 

كان يبلغ سويداء الحياة الاجتماعية بل والدينية. وقد اخترع البربر أحرفا هجائية في الوقت الذي اخترع الكنعانيون أحرفا خاصة بهم. والحروف المعروفة بحروف تفناغ لا تزال مستعملة عند البربر الطوارق الصحراويين إلى يومنا هذا. وعندما انكشف شعاع الحضارات القرطاجنية والرومانية والوندالية من المغرب، انساق البربر في تيار حضارتهم الشرقية الأصلية التي تتبلور فيها مثل عليا ملكت منهم المشاعر وتغلغلت في الأعماق حيث كانوا - كالعرب - يحبون الاستقلال ويتشبثون بالحرية وتجمعهم مع العرب - كما قال سديو (Sédillot) - "ميول

 

(1/2351)

 

 

وعواطف واحدة ومبادئ متشاكلة، كحب الفخر والهيام بالحرية وإكرام الضيف".

وقد وجد البربر أنفسهم بعد الفتح العربي الإسلامي إزاء شعب من بني عمومتهم يشاطرهم مثلهم السامية وتقاليدهم الحرة، فامتزج العنصران ولم يزد توالي القرون هذا التمازج إلا قوة، فتكونت مع الزمان مدنية مغربية مزدوجة القوام انصهر في بوتقتها تراثان كلاهما شرقي الأصل طبعه الإسلام ووسمته العروبة بميسمها الخاص.

وهنا تظهر حيوية الإسلام في إفريقيا الشمالية، وخاصة تلك الحيوية التي أقر بها ألفريد بيل كما أقر بها قبله وبعده مستشرقون منصفون.

 

(1/2352)

 

 

فالإسلام هو الذي استطاع وحده أن يخلق في هذه البلاد حضارة حقا دائمة مكتملة العناصر، بعدما عجزت عن ذلك الحضارتان القرطاجنية والرومانية بالرغم من سموها. وأعني بالحضارة الحق حضارة ترتكز على مقتضيات اجتماعية كوجود الأمة واكتمال مقوماتها وتوافر العناصر الروحية والمادية الضرورية لقيام كيانها واستمرار وجودها وصيانة تراثها. وهذا الشيء قد أوجده الإسلام الذي انضوى المغرب تحت رايته طوال أربعة عشر قرنا.

وقد تطورت تلك الحضارة المغربية ضمن دائرة العروبة والإسلام محتفظة على مر العصور بروحها الشرقية الخالصة،

 

(1/2353)

 

 

وتطورت بجانبها حضارة أخرى هي حضارة الأندلس التي استمدت روحها من تراث الشرق الذي نقله الفاتحون والمهاجرون، وأضفت العوامل والتفاعلات المحلية على تلك الروح جلبابا لم تكن لحمته ولا سداه ليمتدا إلى الأعماق حيث ظلت السيطرة للروح الشرقية وحدها.

إن للوضعية الجغرافية بعض الأثر في تكييف العقلية نوعا ما، ثم الإنتاج الفكري، ثم مظاهر الحضارة. ومع ذلك، فقد ظلت الحضارتان الأندلسية والمغربية شرقيتين بعد أن تفاعلتا نحوا من ثلاثة قرون، أي منذ عهد المرابطين إلى عهد المرينيين تحت إشراف عاصمتي مراكش وفاس.

 

(1/2354)

 

 

والثقافة الشرقية هي المنوال الذي حرك عليه رجال الفكر المغاربة منذ صدر الإسلام. ومن تتبع جزئيات التراثين الشرقي والمغربي أسلوبا ونزعة وروحا، لاحظ وحدة الجوهر أدبا وفلسفة واجتماعا مع فروق سطحية مرجعها إلى مقتضيات اللون المحلي.

فالحضارة المغربية شرقية بدءا ونهاية، ليس فيها أي أُر للحضارة اللاتينية التي قدر لها أن تمر مر السحاب في هذه البلاد.

والحضارة الأندلسية حضارة مغربية صميمة، أي شرقية المبنى عربية المعنى. وقد تداولت عواصم العدوتين، وبالأخص مدينتي فاس وقرطبة، مع عواصم الشرق في حمل راية الحضارة

 

(1/2355)

 

 

العربية الإسلامية في العالم أيام كان الجهل رابضا بكلكله الثقيل على أوربا، فكانت فاس مركزا للإشعاع الفكري والروحي يستمد من نبراسه الأوربيون كما هو معلوم عند من له أدنى إلمام بتاريخ الحضارات.

وتراث العروبة نفسه لم يكتمل في كثير من مقوماته إلا بمساهمة المغاربة في بناء صرحه كالشريف الإدريسي (أستاذ أوربا) بجغرافيته، وابن بطوطة برحلاته، وابن خلدون باجتماعياته، والحاتمي بإشراقاته، وابن رشد بفلسفته وفقهه وطبه، وابن الخطيب بأدبياته ونكاته (التي يبذ بها الجاحظ في كثير من الأحيان)، وابن حزم بتنسيقاته

 

(1/2356)

 

 

الفلسفية والدينية، وابن طفيل بنظرياته في الفلسفة الفطرية.

فنحن - معشر المغاربة بعنصريتنا - أمة عربية المحتد شرقية الروح إسلامية العقيدة، وحضارتنا حضارة شرقية عربية إسلامية في جوهرها ومقوماتها.

وهي حضارة تتمثل فيها كل المؤهلات التي تتكون الحضارة من بعضها، فضلا عن مجموعها.

وقد عاش المغرب والأندلس متحدين نحوا من ثلاثة قرون (من عهد المرابطين إلى أوائل عهد المرينيين) وتم الانصهار والتمازج بين العنصرين اللذين كانت تجمعهما عوامل شتى لما كان بين البلدين من أواصر التزاور والمبادلة، فكانت الوفود

 

(1/2357)

 

 

الأندلسية تترى على مراكش عاصمة المرابطين والموحدين ثم على فاس حاضرة المملكة المغربية في عهد المرينيين، وكان أفراد الشعب المغربي الذين يهبون بين الفينة والفينة لإنجاد إخوانهم سكان العدوة الشمالية يتصلون بالعاصر الأندلسية ويقتبسون منها فكريا واجتماعيا. واستمر الاحتكاك عن طريق رجال مشهورين خلال القرنين الخامس والسادس حيث ظهر فلاسفة وأطباء أفذاذ كابن طفيل وابن رشد وبني زهر. ولم يكد ينتصف القرن السابع الهجري الذي شهد سقوط معظم العواصم الأندلسية في قبضة الإسبان حتى تضخمت حركة الهجرة، فكان لذلك أثره

 

(1/2358)

 

 

الفعال في حياة المغرب الناعمة. وقد توالى سيل المهاجرين الأندلسيين أيام السعديين، فنقلوا معهم نماذج الحضارة الأندلسية التي طبعت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية المغربية. وعندما وقع النفي العام بالأندلس، غصت رحاب بعض كبريات المدن المغربية، كفاس وتطوان وسلا، بعلماء وشعراء وفنانين وتجار وأرباب حرف ساهموا فعليا في صهر الحضارتين صهرا طبعهما منذ ذلك العهد بطابع الطرافة والرصانة والسمو. وقد امتزجت كثير من العادات والمظاهر المقتبسة من الحضارتين امتزاجا عميقا تعذر معه رد كل منهما إلى ينبوعه في

 

(1/2359)

 

 

كثير من الأحايين.

وقد أ[رز الدكتور رين (Reinaud) في كتابه "الطب القديم بالمغرب" (نشرة معهد الدروس العليا، عدد 1، ص. 72) "امتزاج تاريخ الأندلس بتاريخ المغرب تحت راية المرابطين والموحدين". فما هي إذن هذه العناصر الخالدة التي بلورت حضارة المغرب والتي لا تزال في روحها ومبناها كفيلة بدعم كل تطور عربي في العصر الحديث؟

 

فمن أبرز مظاهر تراثنا الفكري والحضاري الصالحة لنهضة عربية حديثة تلك العناصر الأساسية للمنهجية العلمية والتقنية التي ارتكز عليها الانبعاث في أوربا بعد عصر النهضة وانطواء العصور الوسطى

 

(1/2360)

 

 

التي ظلت قرابة ألف عام الإطار الزمني لازدهار الحضارة العربية في مختلف مجاليها الإنسانية. فقد برهن العرب طوال قرون عن أصالة نادرة وعن روح خلاقة وعن استعداد للتكيف، فأبدعوا منهجا تجريبيا رصينا لم يكن للإنسانية عهد به وطوروا الاختصاص التقني وحرروا الفكر وعززوا شمولية الكشف العلمي بربط الماضي بالحاضر ودعم التبادل بين الشرق والغرب، في تسامح وموضوعية وإنكار للذات وتطلع عارم إلى التضلع من اللغات واستكناه مختلف الاتجاهات والنظريات والمذاهب والنظم والعادات لدى الأمم والشعوب، تفتيقا للفكر وتوسيعا للأفق.

 

(1/2361)

 

 

وبذلك شدوا بنيانا شامخا ما زال إلى الآن موئلا ومنبعا للفكر الإنساني النزيه.

فلنستعرض إذن ألوانا من الكشوف المغربية في مجالات الطب والكيمياء والصيدلة والعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية وغيرها، ثم بعض المجالي الاجتماعية والاقتصادية والفنية لنستشف مدى إسهام المغرب الأقصى في دعم الكيان العربي الإسلامي خاصة والإنساني عامة - فكرا وحضارة - بعناصر لا تزال غضة في منهجيتها وقوامها.

كان القرن الرابع في الأندلس هو عصر النهضة، تفتق فيه الفكر العربي سواء من حيث دراسة الفنون والتقنيات أو من حيث الاختراعات

 

(1/2362)

 

 

والكشوف العلمية(1) . وهكذا برز ابن جلجل بصفته أعظم طبيب في عصره عرب "مفردات" ديسقوريدس وزاد عليها الأدوية التي جهلها والتي كانت معروفة عند العرب، كما برز أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي صاحب كتاب "التعريف لمن عجز عن التأليف" الذي كان أعظم ممثل لفن الجراحة في المدرسة العربية(2) ؛ اعتمده واستند إلى بحوثه جميع مؤلفي الجراحة في القرون الوسطى. وكتابه يعد اللبنة الأولى في هذا العلم: إذ هو أولم ن ربط الشرايين ووصف عملية تفتيت حصى

__________

(1) لوكلير، تاريخ الطب العربي، ج 2، ص. 350.

(2) المرجع نفسه، ج 1، ص. 334.

 

(1/2363)

 

 

المثانة واستخرجها بتشريح جراحي وعالج الشلل واستعمل خيوط الحرير في رتق الجراحات. والظاهرة امتاز بها هذا الكتاب هي روحه التجريبية وتركيز النصوص على آلات أثبت صورها في كتاب هو أول تعبير للجراحة بصفتها علما(1) . ويرى لوكلير (2) أن المغرب كان أشد أقطار الإسلام عمقا من الناحية العلمية. يشهد بذلك - حسب القفطي(3)

__________

(1) المرجع نفسه، ج 1، ص. 456. ويوجد في المكتبة الوطنية بالرباط ضمن مجموع عدد 1427د جزء من هذا الكتاب يحتوي على 28 صورة للمكاوي وآلات التشريح.

(2) المرجع نفسه، ج 1، ص. 407.

(3) إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص. 85.

 

(1/2364)

 

 

- عدد الأطباء والصيادلة المغاربة الذين رافقوا المعز الفاطمي إلى مصر.

وكانت بفاس في القرن الرابع مدرسة طبية(1) . كما كان البرابرة قبل هذا العصر يستعملون الحقن بجراثيم الجدري لضمان حصانة المصاب(2) . على أن القرنين الخامس والسادس قد عرفا في المغرب الأقصى تحرر الفكر بصورة لم يسبق لها مثيل، كما قال لوكلير(3) . تشهد

__________

(1) الكانوني، شهيرات نساء المغرب (مخطوط)، نقلا عن "فن الأسنان بالمغرب الأقصى" لكاتب أوربي لم نستبن اسمه في المخطوطة.

(2) كودار، وصف المغرب وتاريخه، ج 1، ص. 239.

(3) المرجع نفسه، ج 2، ص. 72.

 

(1/2365)

 

 

بذلك رعاية البلاط المراكشي لأمثال ابن طفيل وابن باجة وابن رشد وبني زهر. وقد اتصل بهذا الفن علم الصيدلة وعلم العقاقير والفلاحة حيث يعتبر كتاب ابن العوام أبي زكرياء يحيى بن محمد عديم النظير في الأدب العربي(1) ، "لما يحتوي عليه من معارف تطبيقية ووثائق قديمة وثمينة"؛ بل هو أعظم ما أنتجه لا العرب وحدهم بل حتى العصور القديمة. "وقد كان الشريف الإدريسي السبتي من هذا الطراز، فطاف في آسيا وأوربا ووصف نباتات كل قطر وصفا أصيلا"(2) . وكتابه في

__________

(1) المرجع نفسه، ج 2، ص. 11 و110.

(2) المراكشي، الإعلام، ج 3، ص. 34.

 

(1/2366)

 

 

الأدوية مليء بالملاحظات الشخصية اقتبس منها ابن البيطار في مائتي موضع من كتابه في الأعشاب (لوكلير، ج 2، ص. 8)، واعتمد عليه وحده في ثلاثين موضعا (ص. 67)؛ كما اعتمده أستاذ ابن البيطار أبو العباس النبطي. وهو مع تلميذه أبرز العلماء النباتيين العرب الذين لم ينجب الشرق من يضاهيهم في هذه الآونة عدا فخر الدين الرازي. وقد استطاع الأندلس، بفضل

شبكة علمائه - كما يقول لوكلير (1)

__________

(1) المرجع نفسه، ج 2، ص. 72. وقد اعتمد ابن البيطار أيضا على عبد الله بن محمد بن صالح الكتامي الحريري النجار الذي كانت له حانوت بمراكش عام 583هـ (اللسان العربي، ج 6، ص. 1968). أما النبطي، فهو أحمد بن محمد بن مفرج المعروف بابن الرومية أو ابن العشاب. ولد بإشبيلية عام 561هـ. ودرس الأعشاب شخصيا دون اعتماد على ديسقوريدس وجالينوس. واقتبس منه تلميذه ابن البيطار ذوقه الخاص. وقد رحل إلى الشرق عام 613هـ أو 614هـ بعد ما درس أعشاب الأندلس والمغرب وصنف معجما للحشائش. وفاق أهل زمانه في معرفة النبات، وتوفي بإشبيلية عام 638هـ (المقري، نفح الطيب. ج 2، ص. 635). وذكر لوكلير بصدد ابن البيطار (مرجع مذكور، ج 2، ص. 225) أنه أعظم نباتيي العرب. وقد تنقل في جبال الشام صحبة رسام كان يصور له الأعشاب، وخلف لنا أعظم مجموعة في العلوم الطبيعية. وقد عينه الملك الأفضل في مصر رئيس عشابي القاهرة وقيل رئيس أطباء مصر (النفح، مصدر مذكور، ج 2، ص. 683). وكتابه "جامع المفردات" أكمل ما صنفه العرب في الطب يحتوي على ألفي وصفة للعقاقير. ترجمة لوكلير إلى الفرنسية. وقد كان النبطي - حسب "إحاطة" ابن الخطيب - إماما في الحديث حافظا ناقدا.

 

(1/2367)

 

 

-؛ أن يحمل راية الفلسفة والطب في العالم الإسلامي. وبفضل هذا الانبعاث العربي في الأندلس، صارت أوربا تنفض عنها أردية الركود وأصبح المسيحيون يتوافدون على طليطلة للارتشاف من معين العلم. وقد استنجد أسقف المدينة بعلماء العرب لعلاج الفقر اللاتيني. وإذ ذاك بدأت ترجمة مصنفات العرب العلمية، فنقل جيرار دوكريمون وحده من العربية إلى اللاتينية ستة وسبعين كتابا عربيا أو إغريقيا معربا. على أن حركة الترجمة بدأت في المغرب العربي منذ القرن الرابع. فهذا قسطنطين التونسي الصقلي قد أسس مدرسة سالرنا، وهي أول مدرسة من

 

(1/2368)

 

 

نوعها في أوربا كانت مبعث أنوار الطب الحديث في العالم الغربي شارك في التدريس بها الطبيب يونس العربي الفاسي ("اللسان العربي"، ج 5 - بحث الدكتور أحمد مكي). وقد ولد عام 400 بتونس وتوفي عام 475هـ. وظلت المخطوطات الطبية العربية التي حملها إلى سالرنة غذاء أوربا عدة قرون. وقد ترجم للاتينية أهم كتب الطب العربي كـ»ـزاد المسافر" لابن الجزار وكتب الرازي وإسحق بن سليمان الإسرائيلي، وألف نحوا من أربعة وعشرين كتابا منها "قانون الطب" في اثني عشر مجلدا و"قياتيكوم"(1) في

__________

(1) أو Viatique، ومعناه "زاد المسافر".

 

(1/2369)

 

 

الطب العام في سبعة أجزاء.

ونبغ في الشرق العربي في هذا العصر علماء أفذاذ تساوقت ابتكاراتهم مع زملائهم في الغرب منهم السويدي صاحب "التذكرة» المتوفى عام 691هـ، وابن أبي أصيبعة، وجمال الدين القفطي علي بن يوسف المصري (646هـ)، وعبد اللطيف البغدادي (629هـ) (حيث امتاز في وصف أعشاب مصر)، وابن النفيس المصري (687هـ) الذي كان أعظم أطباء عصره. ولعل مما ساعد على تطور الطب وما اتصل به من علوم سهر المنصور الموحدي على مصالح الأطباء وتنظيمه لمهنة الطب. وقد سبقه إلى ذلك الخليفة المقتدر الذي فرض على الأطباء تأدية

 

(1/2370)

 

 

امتحان تقني، فبلغ عدد المتخرجين ببغداد عام 319هـ ثمانية وستين طبيبا(1) . وقد أجري أول امتحان للصيادلة أيام المعتصم عام 221هـ.

وكانت التجربة هي الطريقة العادية عند الأطباء، حيث ظهر كتاب "التذكرة" - لأبي العلاء زهر بن زهر الأندلسي الذي كان والده أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر رئيس الطب ببغداد ثم بمصر والقيروان(2) . وهو كتاب ترجم إلى الفرنسية عام 1911م بعد أن تعددت ترجماته عشر مرات بين 1490 و1554م - بصفته مجموعة من الملاحظات سجلها

__________

(1) القفطي، مصدر مذكور، ص. 130.

(2) المقري، مصدر مذكور، ج 1، ص. 445.

 

(1/2371)

 

 

أبو العلاء لولده ابن زهر لتعريفه بالأدواء الغالبة بمراكش وبالأدوية المناسبة لها. ولأبي العلاء أيضا "مجريات" طبية جمعت بمراكش عام 526هـ يوجد مخطوط لها في الإسكوريال (رقم 844). ولعل ولده ابن زهر أبا مروان عبد الملك مؤلف كتابي "الاقتصاد" و"التيسير" قد بذ سابقيه، حيث اعتبر أعظم من ابن سينا ولا يعدله سوى الرازي في الشرق(1) . وكان لا يعالج إلا بعد الفحص الدقيق وجس النبض والنظر إلى قوارير البول لتحليله. وقد نهج

__________

(1) ذكر ابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" أن ابن رشد كان يفضل ابن زهر على غيره من أهل عصره.

 

(1/2372)

 

 

ابن زهر، خاصة في كتاب "التيسير"، أسلوبا جديدا في الحكمة القياسية مستخدما التمحيص العقلي للوصول إلى أحسن النتائج، فهو طبيب التجربة: يصف الدواء على غرار أطباء عصرنا ويباشر الصيدلة لتجربة الأدوية بنفسه. ولذلك توصل بفضل قياساته الطبية وتجربته الشخصية في البلاط المراكشي إلى الكشف عن أمراض جديدة لم تدرس قبله، كالأمراض الرئوية (التي منها تشريح القصبة في مرض الذبحة)؛ وكذلك التخصص في الجهاز الهضمي حيث استعمل الأنابيب المجوفة لتغذية المصابين بعسر البلع والحقن المغذية، واكتشف طفيلية الجرب وسماها صؤابة

 

(1/2373)

 

 

الجرب، وارتكز على الطبيعة لعلاج الأدواء(1) . وكان سر نجاحه هو تشبعه بروح العصر الحديث، حيث كان يتسم مثلا بنكران الذات؛ فينسى نفسه ويستغرق في مرضه. وقد عرضت عليه حالات خطيرة حاول أن يعيشها مستمدا من ذكرياته وتجاربه ومنطقه. وقد برر كودار(2) (Godard) هذه الميزة عند ابن زهر، فأكد أنه استعاض بالمنهج التجريبي والطريقة العقلية عن التقليد في ممارسة فن الطب. وكانت له عبقرية فذة تطورت بفضلها شعب ثلاث حاول توحيدها، وهي الصيدلة

__________

(1) غوستاف لوبون، حضارة العرب، الطبعة الفرنسية، ص. 530.

(2) تاريخ المغرب، ص. 452.

 

(1/2374)

 

 

والجراحة والطب العام. ولعل من النقص الملحوظ في عصرنا الحاضر تباعد هذه العناصر المتزايد بعضها عن بعض. أما الحفيد أبو بكر بن أبي مروان (596هـ)، فقد أضاف إلى تضلعه من الطب مشاركته في العلوم الإسلامية؛ حيث كان محدثا يحفظ "صحيح" البخاري بأسانيده(1) . ولم يكن في زمانه أعلم منه باللغة. وكان شاعرا يحفظ "ديوان ذي الرمة"، وهو ثلث لغة العرب(2) . وظاهرة المشاركة هذه توافرت في كثير من الأطباء كأبي جعفر بن هارون الترجالي تلميذ أبي بكر المعافري في علم الحديث

__________

(1) الأنيس المطرب، ج 2، ص. 180.

(2) ابن دحية، المطرب.

 

(1/2375)

 

 

والمتخصص في طب العيون وأبي يحيى هانئ بن الحسن اللخمي الغرناطي المشارك في الحديث والأصول والطب والذي(1) تتلمذ لابن فرتون بفاس. ومن الأطباء الذين كان لهم باع طويل في التجارب العلمية الوزير أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة شيخ ابن رشد المتوفى بفاس عام 533هـ(2) . وقد تعاون معه تلميذه أبو الحسن سفيان الأندلسي المتوفى عام 537هـ في تأليف "كتاب التجربتين"(3) . على أن ابن رشد نفسه ضرب أروع

__________

(1) ابن أبي أصيبعة، ج 2، ص. 75.

(2) ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ص. 335.

(3) ابن أبي أصيبعة، ج 2، ص. 63.

 

(1/2376)

 

 

مثل في المنهجية التجريبية، فاقترح

في شرحه لابن سينا ما يصفه الأطباء اليوم، وهو تبديل الهواء في الأمراض الرئوية مشيرا إلى جزيرة العرب وبلاد النوبة بصفتها مراكز شتوية(1) . وابن رشد هو أول من أشار إلى الدورة الدموية الكبرى وعللها في كتابه "الكليات" الذي استمد منه ويليام هارفي (William Harvy) معظم نظرياته. وقد سبقه ابن نفيس المصري إلى الكشف عن الدورة الدموية الصغرى أو الرئوية قبل الغربيين بثلاثة قرون(2) .

__________

(1) لوكلير، مرجع مذكور، ج 2، ص. 79.

(2) لوبون، مرجع مذكور، الطبعة الفرنسية، ص. 531.

 

(1/2377)

 

 

وهذه الروح العلمية الفياضة هي التي تمخض عنها ما أشار إليه مؤرخ فرنسي من ألد أعداء العرب هو رونان (Renan) في كتابه "Averroés et l’Averroisme" ["ابن رشد ومذهبه"] من اعتراف كريسطوف كولومب في رسالة تركها بعد موته بأن الذي أوحى إليه بوجود قارة جديدة وراء المحيط هو ابن رشد المغربي في كتابه "الكليات". على أن مجلة "نيوزويك" الأمريكية أكدت (في عدد أبريل 1960) أن العرب انطلقوا قبل سنة 1100م (أي قبل كريسطوف كولومب بأربعة قرون) من ميناء الدار البيضاء بالمغرب الأقصى، فرسوا في عدة مواضع على الساحل الأمريكي.

 

(1/2378)

 

 

وأكد هذه النظرية كثير من العلماء(1) .

أما المارستانات، وهي المستشفيات والمصحات، فقد وصف عبد الواحد المراكشي (2) - الذي عاش في بغداد - المستشفى الموحدي قائلا:

__________

(1) نشرة المعهد المصري 26 عام 1934، بحث بقلم ماكس مايرهوف، ص. 33. وقد أشار ابن النفيس إلى ذلك في "الكتاب الشامل في الطب" الذي كان يحتوي على ثلاثمائة مجلد أهدى منها المؤلف ثمانين مجلدا لمستشفى قلاوون.

(2) راجع الخليج العربي في تاريخه السياسي ونهضته الحديثة، ص. 13.

 

(1/2379)

 

 

... ... وبنى، أي المنصور الموحدي، بمراكش بيمارستانا ما أظن أنفي الدنيا مثله. وذلك أنه تخير ... ... ... ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه ... ... ... النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح . وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من ... ... ... جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياها كثيرة تدور على جميع البيوت، ... ... ... زيادة على أربع برك في وسط إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع ... ... ... الصوف والكتان والحرير

 

(1/2380)

 

 

والأديم وغيره بما يزيد على الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى ... ... ... له ثلاثين دينارا في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة خارجا عما جلب إليه من ... ... ... الأدوية، وأقام فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ... ... ... ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء. فإذا نقه المريض؛ فإن كان فقيرا، أمر له عند ... ... ... خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل؛ وإن كان غنيا، دفع له ماله... ولم يقصره على الفقراء ... ... ... دون الأغنياء بل كل من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج

 

(1/2381)

 

 

إلى أن يستريح أو ... ... ... ... يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى ... ولم يزل مستمرا ... ... ... على هذا إلى أن مات. ...

وذكر ميلي في كتابه "الموحدون" المؤلف عام 1923 (ص. 129) أن هذا المستشفى "لا يخلف وراءه مصحات أوربا المسيحية فحسب، بل تخجل منه حتى اليوم مستشفيات باريس".

ولا بدع إذا كان مستشفى الموحدين بهذه المثابة بالنسبة لأوربا. فقد قال ولتر في "مختصر التاريخ": "ازدهر علم الطب والتداوي عند العرب، على حين كان الأوروبيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه: إذ أن

 

(1/2382)

 

 

الكنيسة كانت قد حرمته عليهم وحصرت التداوي في زيارة الكنائس والاستشفاء بذخائر القديسين وبالتعاويذ والرقي التي كان يبيعها رجال الدين" إلى أن قال: "وكان الأوربيون يستنكفون من النظافة، لأنها تشبه الوضوء عند المسلمين".

وقد كان الأوربيون يضطرون إلى اللجوء للمستشفيات العربية. فهذا الملك شانجه توجه إلى قرطبة من أجل العلاج من مرض الاستسقاء (لوكلير، ج 2، ص. 351).

وبدأ أفول الحركة الفكرية في المغرب آخر الدولة المرينية بعد المرينية بعد سقوط غرناطة أواخر القرن العاشر الهجري وردود فعل الإسبان الانتقامية

 

(1/2383)

 

 

(Reconquista)، فلم ينبغ في البحث العلمي عدا رجال قلائل أمثال الوزير الغساني مؤلف كتاب "حديقة الأزهار" الذي نشر عنه الدكتور رينو(1) دراسة أكد فيها أن هذا الكتاب يمتاز بمنهاجه الواضح جدا في الوصف النباتي الذي يتسم غالبا بطابع الأصالة والطرافة مع محاولة مفيدة لترتيب يدخل عنصرا في وصف أعشاب المدرسة الصيدلية الشرقية. وقد ظل المغرب مع ذلك خلال العصور الأخيرة من تاريخه - بالرغم من احتلال البرتغال والإسبان لبعض مراسيه ومحاولة تدخل

__________

(1) المعجب، ص. 177؛ كتاب ميلي: Millet, Les Almohades, 1933, p. 129

 

(1/2384)

 

 

الأتراك في شؤونه - يواصل منهجه التجريبي على نطاق ضيق، حيث ظهرت أساليب(1) لمعالجة أنواع الرمد وتشريح العين

لإزالة غشاوتها وتخدير المرضى قبل العمليات الجراحية واستخدام وسائل الإيحاء والتنويم مع المهارة في طب الأسنان. وقد أعطانا الطبيب أحمد بن حمدون بن الحاج(2) المتوفى عام 1316هـ(3) للمرة الأولى في تاريخ المغرب تقسيما فنيا للأدوية؛ كما صنف الشريف العلمي الذي درس بالأسبطالية

__________

(1) نشرة معهد الدروس المغربية العليا، ج 18، ص. 195.

(2) راجع كتابنا: تاريخ الطب والأطباء بالمغرب، 1380/1960، ص. 72.

(3) رينو، ص. 8.

 

(1/2385)

 

 

الكبرى بالقاهرة عام 1291هـ كتاب "ضياء النبراس في حل مفردات الأنطاكي بلغة أهل فاس" (طبع عام 1318هـ) يحتوي على مفردات بربرية ولاتينية وإفرنجية مرادفة للمصطلحات الطبية العربية مع تخليل ذلك بالمصطلحات الحديثة كالتصعيد والتقطير ووصف العمليات العلمية، وهو كتاب متين التحليل يعتبر نقطة تحول في تاريخ الطب المغربي.

ولنضرب الآن مثلا آخر بشعبة من العلوم هي الرياضيات. فقد كان العرب أساتذة النهضة الأوربية في الحساب(1) . وقد فند سيديو (Sédillot)(2)

__________

(1) المراكشي، الإعلام، ج 2، ص. 246.

(2) كوتيي (Gautier) في كتابه: عادات المسلمين وأعرافهم، ص. 238.

 

(1/2386)

 

 

ما زعمه بعض المستشرقين من أن علماء العرب إنما اقتبسوا من الإغريق مشيرا إلى ما أبدعه الفكر العربي في هذا المجال مثل إدراج الخطوط المماسة للدائرة (tangentes) في الحسابات والاستعاضة عن الأساليب العتيقة بحلول مبسطة أصبحت أساسا في علم حساب المثلثات الحديث (trigonométrie).

وقد لاحظ العالم شال (Charles) أنه كان للعرب فضل التفكير في تطبيق الجبر على الهندسة. وتأكد ذلك بعد أن نشرت مؤلفات محمد بن موسى الخوارزمي منذ عام 1836م من طرف روزن (Rosen)، وكان بينها بحث في الجبر حلت مشاكله في المعادلات الثلاثية

 

(1/2387)

 

 

بطريق هندسية. ويقال إن الخوارزمي هذا لم يحل سوى المعادلات من الدرجة الثانية

(équation de 2e degré) وإن الذي حل معادلات الدرجة الثالثة هو عمر بن إبراهيم(1) . ولعل لفظتي ألغوريتم واللوغريتم مشتقتان من اسم الخوارزمي الذي يعتبر أقدم الرياضيين العرب، حيث عاش في عصر المأمون العباسي ونقلت كتبه في الجبر والمقابلة إلى اللاتينية. وقد أبدع العرب في علم المثلثات، نظرا لتطبيقاتها في علم الفلك.

__________

(1) لوكلير، مرجع مذكور، ج 1، ص. 320.

 

(1/2388)

 

 

وأسهم الغرب الإسلامي، أي المغرب الكبير والأندلس، في بلورة هذا الإشعاع العلمي. فظهر ابن حمزة المغربي في القرن الرابع واستعمل طرقا جديدة في اللغريتم، واشتهر في الأندلس أبو عبيدة مسلم بن أحمد ويحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة وأبو القاسم أصبغ بن السمح (له تآليف منها "المدخل إلى الهندسة في تفسير أقليدس" وكتاب كبير في الهندسة) وأبو القاسم بن الصفار وأبو الحسن الزهراوي (كان عالما بالعدد والطب والهندسة له كتاب شريف في المعاملات) وأبو الحكم عمر الكرماني (من الراسخين في العدد والهندسة) وأبو مسلم بن

 

(1/2389)

 

 

خلدون (كان متصرفا في الفلسفة والهندسة والنجوم والطب) وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني (كان بصيرا بالهندسة والنجوم) وعبد الله بن أحمد السرقسطي (ناقد في الهندسة والعدد) ومحمد بن الليث (بارع في العدد والهندسة) وأبو حي القرطبي (بصير بالهندسة رحل إلى مصر عام 442هـ) وأبو الوقشي الطليطلي (الهندسة) (النفح، ج 2، ص. 874).

وقد أحصينا في "معجم الرياضيين بالمغرب الأقصى"، الذي نشرناه عام 1385هـ / 1965م في مجلة "اللسان العربي" (العدد الثالث، ص. 134)، نحو من مائة وثلاثين من المهندسين والرياضيين وعلماء الهيئة

 

(1/2390)

 

 

المغاربة الذين برزوا في هذا القطاع العلمي الهام وخلفوا لنا تراثا رائعا أسهموا به في دعم شرح الحضارة والبحث العلمي في العالم. ومن بين هؤلاء:

1 - المهندس الحاج يعيش الذي بنى لعبد المؤمن ابن علي الموحدي مقصورة وضعت على حركات هندسية ترفع لخروجه وتنخفض لدخوله.

 

2 - المهندس عبيد الله بن يونس الذي استخرج مياه السقي بصنعة هندسية(1) .

3 - ابن الياسمين الذي ولد بفاس أواسط القرن السادس والخبير في الجبر والمقابلة.

__________

(1) الإدريسي، نزهة المشتاق، ص. 76 من الجزء المطبوع حول إفريقية والأندلس.

 

(1/2391)

 

 

4 - المهندس المعماري أبو عمران موسى بن حسن بن أبي شامة مصمم بعض الأجنحة في جامعة القرويين عام 599هـ.

5 - ابن البنا المراكشي (المتوفى عام 721هـ) صاحب "مقدمة إقليدس" و"مختصر الفلاحة" و"الأصول في الجبر والمقابلة" و"تلخيص في الحساب" شرحه ابن المجدي أحمد بن رجب بن طنبغا القاهري عام 850هـ واختصره ابن الهاشم القرافي المتوفي عام 815هـ.

6 - علي اليفرني المكناسي (734هـ)، وهو إمام الرياضيات في عصره(1) .

__________

(1) درة الحجال، ص. 441.

 

(1/2392)

 

 

7 - علي بن أحمد التلمساني صانع منجانة المدرسة العنانية بفاس عام 758هـ(1) .

8 - أمير المؤمنين في الحساب إبراهيم المصمودي، 912هـ (2) .

9 - الفلكي أحمد الفزاني الفاسي 920هـ(3) .

10 - محمد بن هلال إمام التعاليم في سبتة وشارح "المجسطي في الهيئة" (949هـ).

11 - ابن مشون محمد بن يوسف السبتي صاحب "الرجز في الجبر والمقابلة"(4) عام 989هـ.

__________

(1) ابن القاضي، جدوة الاقتباس، ص. 31.

(2) درة الحجال، ص. 107؛ وسلوة الأنفاس، ج 2، ص. 4.

(3) درة الحجال، كصدر مذكور، ص. 91.

(4) المراكشي، الإعلام، مصدر مذكور، ج 3، ص. 263.

 

(1/2393)

 

 

12 - السلطان أحمد المنصور الذهبي الذي كان يفك كل يوم شكلا من كتاب "أقليدس"(1) .

 

13 - شيخ جماعة الفنون بمراكش أحمد التقليتي الاختصاصي في الرياضيات والمساحات والهندسة، وهو من رجال القرن الحادي عشر.

14 - محمد بن محمد بن سليمان الروداني الفاسي (1094هـ) الخبير الأوحد في الرياضيات والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمساحة. وقد عاش في بغداد، فذاع صيته؛ واخترع آلة فلكية وصفها صاحب "نشر المثاني" (ص. 87).

__________

(1) درة حجال، مصدر مذكور، ص. 176؛ درة الحجال، ص. 51.

 

(1/2394)

 

 

15 - المنجم الرياضي محمد المسناوي مرينو (1207هـ) صاحب كتاب "تقدير فرض النفقات" في علم الاقتصاد الرياضي.

16 - الأستاذ المعطي مرينو (1223هـ) صاحب كتاب "كنز الأسرار تعديل الكواكب" وكتاب "أبعاد النيرات ورصده" وكتاب "المزاول".

17 - أحمد بن عبد الله التناني الصويري (1320هـ) صاحب المؤلفات العديدة في الجبر والمقابلة واللغاريتم، والذي حل أشكالا هندسية نقلها إلى الرياضيات. وكان رئيس الرياضيين والمهندسين ورئيس المدفعية في الجيش المغربي.

 

(1/2395)

 

 

وإذا اعتبرنا شعبة أخرى من العلوم التطبيقية كعلم الجغرافية، لاحظنا أن الخرائط العربية الأولى كانت عبارة عن خلاصة لما ورد عن بطليموس. وظل العالم طوال ألف عام عالة على هذا الجغرافي والفلكي اليوناني الذي هو من رجال القرن الثاني الميلادي حتى ظهر الشريف الإدريسي الذي وصفه كوتيي(1) بأنه أستاذ أوربا في الجغرافية، حيث ظل الغربيون يستمدون - أزيد من ثلاثة قرون - من خريطته العالمية. فكان أطول باعا من بطليموس وأكثر دقة في ملاحظاته وتقديراته، لأن

__________

(1) في كتابه عادات وأعراف المسلمين، مرجع مذكور عندما تعرض له.

 

(1/2396)

 

 

بطليموس أحصيت عليه في تقديره للمسافة الفاصلة بين طنجة والإسكندرية وحدها أغلاط بلغت ثمان عشرة درجة طولية، بينما تقل أغلاط تقديرات الإدريسي للأطوال ما بين طنجة وطرابلس الغرب عن درجة واحدة. وقد نبه الإدريسي على هذه الأغلاط.

ومعلوم أن الاقتصاد في كل أمة يعد قواما جوهريا في تطورها الحيوي. وقد أسهم العامل الاقتصادي في بلورة الحضارة المغربية منذ فجر الإسلام. فالأمة الغربية قد استقبلت الفاتح العربي محررا، ولا سيما أن العرب حملوا معهم إلى إفريقيا - كما يقول كوتيي - "حكومة نظامية مجهزة بجميع المقومات

 

(1/2397)

 

 

العسكرية والإدارية"، فكان في ذلك الخلاص من جبايات مرهقة فرضها الرومان الذين أحالوا الشمال الإفريقي إلى "مخزن محصولات" لإمداد روما. فكان الإمبراطور الروماني نفسه أكبر ملاك عقاري في المغرب الكبير. ومنذ أواخر القرن الثاني الهجري، انطلق الاقتصاد المغربي من عقاله؛ فانتظم وأصبح "منطقيا قارا" كما وصفه المؤرخ طيراس في "تاريخ المغرب"، وأمست عاصمته الإدريسية فاس مركزا اقتصاديا وفكريا رسم الخطوط الأولى للوحدة القومية والتخفيف من عوامل الانفصالية والتشتت القبلي، ولا سيما بعد أن تجمعت في العاصمة الجديدة

 

(1/2398)

 

 

ثمانمائة عائلة أندلسية هاجرت إليها (عام 202هـ / 818م) بعد وقعة الربض وقبلها ثلاثمائة أسرة قيروانية (198هـ). وقد شاهد المغرب أول عملية وطنية مستقلة عام 185هـ حيث تبلور الإشعاع الحضاري باستقرار أقوى (حتى في الصحراء) وتصاعد العمران وانبثاق مدن جديدة. وتعززت الفلاحة، التي كانت محور الاقتصاد، بأعمال الري الكبرى؛ وازدهرت الحركة التجارية فكانت سجلماسة الصحراوية مركزا للقوافل بين المغرب والبصرة وبغداد. وكانت الظاهرة الأساسية التي اتسم بها هذا العصر هي الطمأنينة والأمن، مما شجع ظهور البوادر الأولى

 

(1/2399)

 

 

لانتشار الضيع الزراعية. وما لبث هذا الاقتصاد أن تكيف، فاتسعت مصادره وموارده باتحاد الأندلس والمغرب. وهكذا، فعندما كشف عباس ابن فرناس الأندلسي - وهو أول طيار عربي، بالإضافة إلى الجوهري، استخدم آلة لامتطاء الأثير - طريقة جديدة لصنع الزجاج من الحجر، تكونت آنذاك مجموعة من الصناعات سبقت البندقية إلى كثير من الكشوف وغمرت العالم بأصناف المنجزات من أقداح وعلب وأنابيب وأوان كيماوية. وكانت المصانع تنفخ الزجاج وتفرغه وتنحته وتعزز بذلك فن الترصيع في دمشق والزجاج البلوري الرقيق الذي سبقت به مصر صناعات

 

(1/2400)

 

 

بروسيا وتشيكوسلوفاكيا أوائل هذا القرن.

وقد جعل الموحدون - كما يقول أندري جوليان في "تاريخ إفريقيا الشمالية" - حدا للفوضى المالية التي كان يتخبط فيها ملوك الطوائف؛ فظهر عنصر جديد هو التصنيع وأصبحت سبتة مركزا دوليا لإنتاج الورق يضاهيه جودة ورق شاطبة في الأندلس وسامرا في العراق. وكانت هذه المراكز تمد أوربا الشرقية والغربية. وقد عثر المستشرق كازيري في الإسكوريال على مخطوط عربي من ورق القطن يرجع تاريخه إلى عام 1009م (وهو هذا العصر بالذات) يدل على أن الورق المقصود كان من القطن. وقد سبق المغرب أوربا

 

(1/2401)

 

 

إلى صنعه. ومعروف أن العرب أول من صنع الكاغد من الخرق البالية (لوبون، "حضارة العرب"، ص. 519). وقد أصبحت في فاس وحدها أيام الموحدين 3094 مصنع للنسيج و47 للصابون و12 لتسبيك الحديد والنحاس و11 معملا للزجاج و400 لصنع الورق أو الكاغد(1) ، علاوة على الثروة المعدنية التي اتخذت موادها الأولية من حديد ونحاس وفضة وتوتياء وغيرها منطلقا لسلسلة مصانع انتشرت بسرعة في حواضر المغرب وبواديه، بالإضافة إلى مصانع السكر. فازدهرت المبادلات بين المغرب ودول أوربا، وخاصة موانئ بيزه وجنوة

__________

(1) الجزنائي، زهرة الآس، ص. 33.

 

(1/2402)

 

 

والبندقية ومرسيلية. وكان المسلمون آنذاك هم أول من نظم الأساليب التجارية طبقا لمقتضيات التجارة الدولية، كما يقول أندري جوليان الذي أكد أن الأسطول المغربي أصبح آنذاك أول أسطول في البحر الأبيض المتوسط.

ونفتح هنا قوسا صغيرة لنؤكد أن الروح القانونية نجدها متبلورة في مواقف المغرب الذي كان يقف دائما في صف الشعوب التواقة إلى التحرر كشعب الولايات المتحدة الذي كان المغرب أول دولة اعترفت باستقلاله في العالم أيام السلطان محمد بن عبد الله المحدث الفقيه السلفي (المتوفى عام 1204هـ) الذي كانت دول أوربية تدفع

 

(1/2403)

 

 

لأسطوله جزية سنوية، لحمايتها من القرصنة في البحر الأبيض المتوسط كما برهن عن روح دولية أكد المؤرخ والحقوقي الفرنسي الكبير جاك كايي أنه سبق بها ما عرفته أوربا في العصر الحاضر.

وكانت هذه الفترة التي استمرت أزيد من ثلاثة قرون أروع فترة في تاريخ وحدة المغرب العربي تفتقت خلالها معالم الحضارة ومراسم العمارة وبدائع الفن انضافت إلى قوة التخطيط الاجتماعي الذي تبلور في تأمين السبل الصحراوية والتفجر الديموغرافي وتكاثر المارستانات وتزايد

 

(1/2404)

 

 

المدارس والأحياء الجامعية وانطلاق من مصانع المراهم والأدهان والأكحال(1) . ولعل من أبرز مظاهر هذا لازدهار آخر أيام بني مرين القوة الشرائية للنقود، حيث لاحظ ابن بطوطة أنها كانت تعدل في المغرب ثلاثة أضعافها بمصر. وبالرغم من النكبات التي بدأت تترى على المغرب بعد نكبة "الفردوس المفقود"، فإن المنصور السعدي استطاع أواخر القرن العاشر الهجري في معركة "وادي المخازن" إيقاف غزو البرتغال للشواطئ المغربية مع تقليص النفوذ الاستعماري البرتغالي في البحر الهندي والخليج

__________

(1) عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص. 177.

 

(1/2405)

 

 

العربي كما كان أسطوله قبل ذلك رادعا للصليبيين في سواحل الشام وفلسطين. وصعقت أوربا بعد الهزيمة النكراء التي ألحقها المغرب بالبرتغال الذي فقد استقلاله من جراء هذه الضربة أزيد من ستين سنة، فصارت الدول الغربية تخطب ود السلطان السعدي واقترحت إنجلترا عليه التعاون لتأسيس كوندومنيوم الهند، ونفق الدينار الذهبي المغربي على الصعيد العالمي وتصاعد التصنيع، وخاصة تكرير السكر الذي أصبح البلاطان الفرنسي والإنجليزي يتنافسان في اقتنائه بصفته أجود ما ينتجه العالم. وبعث المغرب، تقوية لمبادلاته مع أوربا، عملاء

 

(1/2406)

 

 

للدعاية لمنتجاته كما شارك في المعارض الدولية كمعرض باريز عام 1285 هـ وحمى الصناعة الأهلية من المزاحمات الأجنبية. وبذلك برهن في شتى المجالات على تساوقه مع ما يستجد من معطيات الحضارة بأوربا. وقد عرف المغرب أنظمة اقتصادية واجتماعية سبقت الأحداث والكشوف الأوربية؛ فقد منحت الدولة مثلا القروض للدور التجارية لجلب المحاصيل أعوام الجفاف وبيعها بأثمان في متناول الشعب؛ كما كانت تتخذ كل الوسائل لإلغاء ما يزيد على الأعشار والزكوات من مكوس وجبايات تخفيفا لوطأتها على الشعب وعلى اقتصاديات البلاد. ولعل المغرب

 

(1/2407)

 

 

كان من أكثر الشعوب إيمانا بفعالية العمل بصفته رأس مال قبل ظهور نظرية كارل ماركس التي يعتقد أنصار الاشتراكية والشيوعية بأنها مكسب جديد للإنسانية. فقد أكد ابن خلدون في "تاريخـ"ـه(1) أن "الكسب هو قيمة الأعمال البشرية". فلذلك لاحظ ماسينيون في إحصاء قام به عام 1924 للصناعة المغربية(2) أن عدد رجال الحرف في المدن المغربية يعادل نصف عدد السكان؛ كما اعترف المؤرخون الأجانب بأن نظام الحناطي عندنا - وهو أشبه بما عرف

__________

(1) م 1، ق 3، طبعة بيروت، ص. 686 و709.

(2) النشرة الاقتصادية والاجتماعية المغربية، رقم 49-50.

 

(1/2408)

 

 

أخيرا في إيطاليا (système des corporations) - كان يعمل في إطار من الحرية الكاملة لم يفسد إلا باحتكاكه بنظريات أوربا. وقد امتاز الإنتاج الصناعي المغربي بجودة نادرة فتحت له منافذ في أوربا إلى آخر القرن الماضي. ويكفي دليلا على ذلك قطن المغرب الذي كان فيه نوعان معروفان في أوربا (سي - إيسلاند) لهما سدى حريري طويل من الطراز الأمريكي. وقد تساوق مع ازدهار التصنيع ازدهار الفلاحة حيث بلغت السوائم وحدها خمسين مليون رأس من الغنم والمعز وستة ملايين رأس من البقر(1) . ويرجع التفجر الديموغرافي

__________

(1) كودار، ص. 188.

 

(1/2409)

 

 

بالمغرب لقلة الوفيات ولارتفاع معدل الأعمار إلى ما بين 65 و70 سنة في الحواضر ومائة في الأطلس بفضل انتشار المارستانات والملاجئ الصحية وخلو المجتمع الإسلامي من أمراض العصر الناتجة عن الخمور أو الزنا مثل الأمراض التناسلية التي عرفت في المغرب بالأمراض الإسبانية أو الفرنسية.

أما في الحقل الجامعي، فقد احتفل المغرب منذ سنوات بذكرى مرور أحد عشر قرنا على تأسيس جامعة القرويين التي ما فتئ المؤرخون الغربيون يعتبرونها "أول مدرسة في الدنيا" لا تزال قائمة إلى الآن، كما اعتبروا مدينة فاس في إفريقيا أشبه بأثينا

 

(1/2410)

 

 

عاصمة الفكر بأوربا واعتبرها المشارقة أنفسهم وخاصة منهم العراقيين بغداد المغرب(1) ، أي عاصمة للغرب الإسلامي بالنسبة لدار السلام في حاضرة الخلافة. وهكذا امتاز المغرب بمدارسه الرائعة التي هي أحياء سكنية للطلبة كما امتاز بمعاهد تقنية في القرن الماضي كمدرسة المهندسين(2) ومدرسة المدفعة (بالجديدة) ومدرسة الفنون. وتعزز هذا الانبعاث الفكري بإيفاد بعثات من الطلبة إلى الخارج لاستكمال معارفهم العلمية والتقنية كما تعزز نتاج العقول بمطبعة

__________

(1) المراكشي، المعجب، مصدر مذكور.

(2) المجلة الآسيوية، المجلد 10، ص. 152.

 

(1/2411)

 

 

حجرية نشرت مئات المخطوطات العربية المختارة من بين آلاف المخطوطات النادرة المكدسة في المكتبات العامة والخاصة بالمغرب.

وإذا كان للشعوب والأمم مجال يجب الانصراف إليه تعزيزا للكيان الوطني ودعما للحضارة القومية، فهو هذه المجموعة من المجالات التي تستلزم تخطيطاتها الرصينة درجة عليا من التقدم الفكري والسمو الاجتماعي والتطور التقني بالإضافة إلى الكفاية الاقتصادية. ولذلك عمد الاستعمار - كما يقول أندري جوليان - إلى التعجيل بانهيار المغرب اقتصاديا للسيطرة عليه سياسيا، ففرضت فرنسا حمايتها عام 1912م عن طريق

 

(1/2412)

 

 

القروض والدبلوماسية المالية. ولذلك وجب أن تستفيد نهضتنا الجديدة من هذه العبرة، فتتلافى كل استرهان لمقوماتها وتوجه تخطيطها إلى دعم سياستها الوحدوية العربية في الإطار العالمي عن طريق تراثها الطبيعي. فلو أن العرب استطاعوا خلق وحدة اقتصادية حقيقية تحتجز الثروات وخاصة البترول وأرصدة البنوك ومختلف أوجه الاستثمار، لتوافر لدينا أكبر ضغط سياسي على الغرب الذي ما زال يستنزف قوانا الحيوية ويجرح كرامتنا بمكايده. ومن مظاهر حضارتنا الفكرية التي يجب أن ندأب متكاثفين شرقا وغربا على صونها ودعمها لربط الماضي 

 

بالحاضر، مكانة اللغة العربية التي كان نفوذها في العصور الوسطى بعيد المدى؛ حتى أن جانبا من أوربا الجنوبية كان يوقن بأنها هي الأداة الوحيدة لنقل العلوم والآداب كما يقول جورج ريفوار: "وقد انطلق المنهاج العلمي أول ما انطلق باللغة العربية ومن خلال العربية في الحضارة الأوربية". بهذا اعترف الأستاذ ماسينيون الذي أكد "أن اللغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر في الميدان الدولي وأن استمرار حياة اللغة العربية دوليا هو العنصر الجوهري للسلام بين الأمم في المستقبل". فلا يمكن إذن لأي نهضة عربية حديثة أن 

تكتمل دون أن تستعيد لغة الضاد مكانتها المرموقة في المحافل الدولية علميا وتقنيا وحضاريا، ولنقصر نظرنا على مثال واحد يبرز مدى إسهام المغرب العربي في دعم لغة الضاد. فهذا الشيخ مرتضى الزبيدي إمام أهل اللغة في القرن الثاني عشر يتتلمذ لأبي عبد لأبي عبد الله محمد بن الطيب الشرقي الفاسي (المتوفى عام 1170هـ) في أكبر موسوعة لغوية في العصر الحديث هي "تاج العروس من جواهر القاموس" كما يتتلمذ لمحمد الحسيني البليدي الجزائري ("المقولات العشر" للدكتور حقي). وقد كان للأستاذ المغربي أثر عميق في تكوين تلميذه 

المصري، حتى أنه لا يمر مشكل إلا واستند الزبيدي في حله إلى شيخه الذي كان اللغويون يصححون المعاجم من إملاءاته وتحليلاته كما فعل ابن القزاز البربري حيث صحت عليه اللغة في القرن الرابع الهجري مع صاعد العراقي. أضف إلى ذلك أن الفكر المغربي قد طعم المعجم العربي بطائفة من المصطلحات النابعة من مصادر الاشتقاق العربية الأصلية(1) والتي اكتملت بها مجالي الحضارة العربية في الإدارة والقضاء والشرطة

__________

(1) راجع بعضها في: دوزي، المستدرك على المعاجم العربية؛ وبعضها الآخر في كتابنا: تطور الفكر واللغة في المغرب الحديث.  

والاقتصاد والصناعة والفلاحة والاجتماع والعمران. وقد استعرضنا جوانب من هذه المظاهر في كتابنا "تطور الفكر واللغة في المغرب الحديث" الذي هو عبارة عن سلسلة محاضرات ألقيناها في القاهرة بإشراف معهد الدراسات العربية العليا. فعناصر التكامل هذه لا ينبغي أن تخلق في حضارتنا العربية ثنائية متنافرة الطرفين بل كيانا متساوق الأجزاء ينطلق من المفهوم العلمي العربي الخاص إلى المدرك العلمي الإنساني العام في تجاوب يحفظ للكيان العربي عالميته التي ظلت طابعه البارز طوال القرون الوسطى إلى العصر الحديث. وقد فجر الاستعمار بين الإخوة في الشرق والغرب هذه الثنائية الانفصالية التي ما زلنا نعاني من ويلاتها الأمرين في مجاذباتنا الهامشية التي تنسينا أحيانا عمق المشاكل المصيرية. وحتى في أدق مجالات المعرفة كان للمغرب النصيب المرموق فقد استطاع أن يسهم حتى في تكييف الفن المعماري العالمي بروائع ما زالت قائمة إلى الآن، حيث تجلى إبداع الموحدين منذ القرن الخامس في روعة وفخامة مرصد الخالدة أو الخيرالدة (Geralda) بإشبيلية، ومسجدي حسان بالرباط والكتبية بمراكش كما امتاز الفن المريني في القرن الثامن برفقة الأشكال وتشعب  الرسوم وتداخل التسطيرات والتوريقات والمقرنصات والترخيمات ونقوش الخشب والأدهان البديعة والشماسيات الملونة والنحاس المموه وترصيع المنارات والجدران بالزليجيات. وبالرغم من اتجاه الفن المعماري منذ القرن العاشر إلى هندسة الحصون والقلاع لمواجهة الغزو الاستعماري الأوربي، فقد ظل ينافس أوربا في التجديد، حيث لم يكن قصر «الرياض» بمكناس يقل روعة عن قصر "فرساي" بفرنسا. وهكذا تبلور في الفن المغربي طابع خاص أضفى على الحضارة في الشق الغربي للوطن العربي لونا جديدا شكل إحدى لبنات انبعاث الإنسانية الفكري منذ العصور الوسطى.

ومن هذه العجالة يتجلى أنه إذا كان المغرب العربي قد حقق تطورا رائعا في مجالات الفكر والحضارة المختلفة، فما ذلك إلا بفضل تساوق النشاطات العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين شقي العروبة؛ فأبلغ الروابط وأعمقها قد استوثق بين الشرق العربي والشمال الإفريقي والأندلس على يد رسل الفكر الذين كانوا يهاجرون زرافات ووحدانا في موجات غامرة كل عام للحج أو الدج. وكان لهذا التبادل مظاهر شتى تبلورت في وفرة الوافدين من علماء المشرق على ملوك المغرب حماة العلم والفكر أمثال المنصور السعدي(1) الذي احتضن بلاطه رجالات أفذاذا من الحرمين والقدس ومصر والشام والعراق والهند. وكان أفصح جواز يقدمه المواطن المغربي أو المشرقي في الحدود المطاطة هو إسلامه وعروبته؛ فكانا يستقضيان ويستفسران في الحواضر العربية الإسلامية شرقا وغربا دون ميز يتبوآن هنا وهناك المناصب السياسية والدبلوماسية والعلمية. فلم يكن للمواطنة الضيقة أي أثر في الحيلولة دون انبثاق هذا الشعور الفياض بالوحدة التلقائية

__________

(1) راجع بحثنا حول رسل الفكر بين الشرق العربي والمغرب العربي في مجلة اللسان العربي، العدد 5، 1387/1967. النابعة من وحدة الدين واللغة والتاريخ والمصير. وقد ظل أقطاب الفكر المغربي ينتجعون الشرق لاستتمام المعارف وتبادل الإجازات العلمية ووجوه النظر في مختلف المجالات التقنية باطراد ووثوق؛ كما عرف الشرق كيف يقدر في شخص زملائه في الغرب الإسلامي حرية الفكر ونزعة التجديد. ولعل ما لاحظه المقري وقبله ابن خلدون من فروق بين الشقين في الاتجاهات الفكرية والمناهج العقلية يرجع إلى انطباع الشرق بالعمق الكلاسيكي في ملكة العلوم واصطباغ الفكر المغربي بألوان من البحث جديدة تحت تأثير التفاعلات مع الغرب. ومن بين  المغاربة الذين كان لهم ضلع قوي في دعم هذا التبادل الثري بين شقي العروبة نجتزئ بالإشارة إلى بعض من عاشوا في العراق أمثال:

1 - جمال الدين محمد بن أبي بكر البغدادي. أصله من قصر كتامة. وهو صاحب "الوتريات" وقد ورد على مراكش عام 655هـ ثم للمرة الثانية عام 663هـ (المراكشي، الاعلام، ج 3، ص. 152).

2 - محمد ابن أحمد بن إبراهيم البغدادي الفاسي المتوفى بفاس عام 546هـ (ابن الأبار، تكملة الصلة، ج 2، ص. 193؛ ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 4).

  3 - أبو الحكم عبيد الله (أبو عبد الله) بن المظفر المريني المغربي كان طبيب المارستان بالعراق أيام السلطان محمود السلجوقي (وفيات الأعيان، ج 2، ص. 307؛ العماد الأصفهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، قسم المغرب، تونس، 1966، ص. 289).

4 - عبد الله المراكشي الهنتاتي جمال الدين فوض الله عمر البغدادي المعروف بالمجرد. توفي عام 795هـ (المراكشي، الإعلام، ج 6، ص. 102 مخطوط).

كما تتلمذ للغزالي صالح ابن حرزهم الفاسي (ابن قنفذ، أنس الفقير، ص. 12) وابن حنين الكناني المتوفى بفاس عام 569هـ (الجذوة، ص. 304 و322) وعبد

 

(1/2424)

 

 

القادر الأندلسي التطواني التبين المتوفى عام 566هـ (محمد داود، تاريخ تطوان، ج 1، ص. 74).

أما العراقيون بالمغرب، فقد ألفت في شأنهم المصنفات منها "العراقيون الحسينيون بالمغرب" لمحمد هاشم زيان العراقي (فهرس الفهارس، ج 1، ص. 246) و"الشيعة العراقية بالمغرب" لأحمد بن عبد الوهاب الوزير الغساني و"مطلع الأشراف من الشرفاء الواردين من العراق" لعبد السلام القادري.

كما شارك مغاربة في كفاح الشرق ضد الاستعمار، منهم:

 

(1/2425)

 

 

1 - يوسف بن دوناس الفندلاوي. استشهد في حرب الصليبيين في الشام عام 543هـ (معجم البلدان، ج 6، ص. 401).

2 - العباس بن أحمد الفاسي استشهد في الحروب الصليبية بالشام عام 595هـ (الجذوة، ص. 278).

3 - يوسف بن محمد بن عبد الله البلوي المالقي المتوفى عام 602هـ. غزا مع صلاح بالشام (تكملة ابن الأبار، ص. 737؛ ابن الزبير، صلة الصلة، ص. 217).

4 - محمد الجيلاني السباعي المراكشي حارب الفرنسيين بمصر (الجبرتي، عجائب الآثار، ج 3، ص. 44؛ المراكشي، الإعلام، ج 5، ص. 144).

 

(1/2426)

 

 

فهل يمكن لأي وحدة أن تقوم على غير هذه الدعامة من التكامل بين أجزاء العروبة؟ وهل يتأتى لنهضة عربية رصينة أن تنبثق في العصر الحديث دون الارتواء من هذا المعين الصافي الذي عكرته - ولا تزال - رواسب وذيول التخلف الناتج عن انفصال أجزاء الوطن العربي بعضها عن بعض ردحا طويلا من الزمن تحت ضغط مكايد الكائدين؟ وهناك مظهر آخر لحضارة المغرب يتجلى في رسالتها إلى إفريقيا وأوربا وأمريكا الجنوبية. فالمغرب يحتل موقعا ممتازا في القارة الإفريقية حيث يشرف على بحرين تركزت فيهما حيوية وحضارة. ولكن هذا الوضع المحظوظ في

 

(1/2427)

 

 

قلب العالم الغربي لم يفت في أعضاد روح المغرب الشرقية التي عززتها وشائج شتى وطبعها الإسلام والعروبة بميسمها النهائي.

إن المغرب الذي يتحلى منذ أزيد من ألف سنة بالحضارة العربية ما زال نقطة وصل بين عالمين ومحورا جوهريا للروابط الدولية بين الشرق والغرب.

ويقبض المغرب - بفضل طنجة التي كانت عاصمته الدبلوماسية - على مقاليد غربي المتوسط، بينما تشرف قناة السويس على شقه الشرقي. ولذلك فإن هذين الطرفين العربيين اللذين يشرفان على مركز يتسم بحساسية نادرة في الوضع الدولي الراهن لا بد أن يلعبا دورا مهما في حوض

 

(1/2428)

 

 

المتوسط الذي لا يمكن أن يتم شيء دون مساهمة - ترتكز على المساواة والسيادة - من طرف جميع الأقطار العربية التي تمتد حلقاتها من طنجة إلى دمشق على طول ثلاثة أخماس ضفاف المتوسط. تلك حقيقة ناصعة كان من المحتوم أن تفرض وجودها على الأفكار الغربية قبل اليوم.

وبلغ إشعاع الفكر العربي عن طريق المغرب أقاليم إفريقية شاسعة تمتد إلى تخوم النيجر جنوبا وحدود مصر شرقا؛ فكان المغرب محور ومصدر حيوية نابعة عن الاستقلال الذي كان يتمتع به. فلم تعد هناك دولة عربية مستقلة في إفريقيا غير المغرب بعد عام 1250م، حيث سقطت مصر

 

(1/2429)

 

 

نفسها تحت سيطرة الأتراك. فظل المغرب يواصل طوال ألف عام حمل مشعل الحضارة العربية بصفته ولدا بارا للشرق العربي الرائد. موقنا بأن الانتماء للشرق هو الميزة الجوهرية في

حضارتنا بل هو القوام الأساسي لكياننا، ولهذا شكل المغرب بصفته جزءا قائما من هذا الوطن العربي نقطة وصل مع أوربا وقنطرة إلى العالم الجديد، وذلك ضمن التأثير الذي تركته حضارتنا في الغرب والذي لم يكن لينصرم - ضمن تبادل موصول - لولا تلك الآفة الاستعمارية التي حولت من جراء مطامعها التوسعية مجرى تاريخنا. فلو أن المغرب والغرب ظلا مستقلين

 

(1/2430)

 

 

سياسيا الواحد عن الآخر، لأمكنهما أن يعززا تقاربهما في نطاق روابط حرة وتناسق قار؛ لأن التعاون لا يمكن أن يثمر إلا إذا جرى على أساس من المساواة وتبادل احترام السيادة والكيان. فحتى إذا سلمنا بما يزعمه بعض المؤرخين من وجود رواسب عاطفية ضد الأجنبي في نفوس المغاربة، فإن ذلك لم يكن ذاتيا وإنما هو شيء عارض تمخض عن طغيان المطامع والدسائس الأوربية في البلاد.

إن النفسية العربية التي تجمع بين النبل والأريحية لا تنفعل انفعالا سيئا إلا إزاء ما يمس كبريائها الوطني ويهددها في حريتها ورمز وجودها. ففكرة الحرية

 

(1/2431)

 

 

عند الرجل العربي ليس معناها الفردية الأنانية، وإنما هي توقان طبيعي نزيه لتحقيق الذاتية وحفظها.

فلهذا تبلورت مدنيتنا في إشعاع ثقافي ممتاز أكثر منها في نفوذ مادي. ومع ذلك، فإن قوة المغرب المادية ما فتئت سائدة في البحر المتوسط الذي كان رومانيا فأصبح طوال العصور الوسطى "بحرا عربيا" - كما يقول م. ماكس فنتيجو - بجزره وسواحله وأساطيله ونهضة تجارته، وأضحت لغة القرآن هي اللغة الدولية للتجارة والعلم.

وقد أكد الكاتب الفرنسي المقتدر أندري سيكفريد - عضو أكاديمية باريس - أن العرب غرسوا في البحر المتوسط حضارة

 

(1/2432)

 

 

يانعة، فطوروا الري وأدخلوا غراسات جديدة كالقطن والأرز وقصب السكر والحوامض (وبسببهم فقد البحر المتوسط طابعه المسيحي).

إن الإشعاع المادي للقوة المغربية في المتوسط هو آخر ما نفكر فيه لإبراز الرسالة التي اضطلعنا بها في هذا البحر ومع ذلك، فإن الأسطول الموحدي الذي كان يضم أربعمائة قطعة ما لبث أن أصبح أول أسطول في المتوسط (أندري جوليان). على أن المغرب قد تزعم العالم الإسلامي والعربي في هذا العصر؛ مما حدا بصلاح الدين - بطل الحروب الصليبية - إلى الاستنجاد بالأساطيل المغربية لإيقاف تقدم المسيحيين في طريق

 

(1/2433)

 

 

الشام. وما لبث هذا الأسطول أن ضم أزيد من ستمائة قطعة حربية أيام أبي الحسن المريني. وسيادة العرب في البحر المتوسط ظهرت بوادرها ولما يمر على انبثاق الإسلام بضعة عقود: فقد غزا معاوية بعض جزر المتوسط بألف وسبعمائة سفينة، ثم قامت الأوراش التونسية تعزز بإنتاجها الجديد قوة الشرق العربي البحرية حيث صنعت في بعض أيام ابن نصير وحده نحو مائة قطعة. وقد برهن المغاربة منذ القرن السادس الهجري عن حاسة استراتيجية مبكرة، حيث أدرك عبد المؤمن بن علي الموحدي أهمية جبل طارق الذي هو أحد مفاتيح المتوسط، فعمد إلى تحصينه

 

(1/2434)

 

 

وإحالته إلى قاعدة أمامية للدفاع عن إفريقيا والأندلس. وحتى في خصوص فكرة الجندي المجهول، نلاحظ وجود ما سمي في الأندلس بالشهيد الغريب (Le martyr inconnu ) في المخاضة التي بين حصن بالما (Palma del Rio) وهي الجرف (Al-Jarf) (الإدريسي، "النزهة"، ص. 208).

إن رسالة الحضارة المغربية الحق في البحر المتوسط تتجلى في مظهرين اثنين هما التأثير الاقتصادي والإشعاع الثقافي. على أن الدور الاقتصادي نفسه لم يكن في الواقع سوى نتيجة النفوذ الأدبي. فسياسة التسامح التي نهجها المغرب في أغلب عصوره قد ساهمت في توثيق

 

(1/2435)

 

 

الروابط بين المسلمين والمسيحيين حتى أصبحت المراسي المغربية في سواحل المتوسط مصدر نشاط فياض: فهي التي كانت الينبوع الأول للمبادلات مع بيزا وجنوة والبندقية ومرسيليا وغيرها من الموانئ.

وقد أكد مسيو ماكس فنتيجو مؤلف "Le miracle arabe" ["المعجزة العربية"] أن الحكومة الموحدية كانت من أشد الحكومات احتراما للحرية وأن الأندلس عرفت في عهدها عصرا ماجدا تألق فيه نجم المعارف والعلوم العربية التي سرى تيارها المنعش في جنبات أوربا. نعم، إن من مظاهر تلك المعجزة العربية تحقيق شعوب أوربا الغربية من إيطاليين

 

(1/2436)

 

 

وفرنسيين وألمان وإنجليز لذلك الانقلاب الفكري العظيم الذي تفتق عن عصر النهضة. وقد سبق لغوستاف لوبون أن قال نقلا عن العالم الإيطالي ليبري (Libri): "لولا العرب، لتأخر انبعاث الآداب في أوربا عدة قرون".

نعم، لم يتصل الأوربيون بالعلوم العربية إلا عن طريق إسبانيا المسلمة التي برهن فيها تنافس العناصر العربية والمسيحية عما للثقافة العربية من تفوق غير منازع على الثقافة اللاتينية. وما لبث هذا الإشعاع العربي أن غمر شعوب الغرب، فبلغ كبريات العواصم ونشل مدن بيزا وبولوني ومونبيليي وسلامانك وأفنيون وباريس من

 

(1/2437)

 

 

وحشتها اللاتينية، حيث فتح أمامها مجال الفكر والحياة الثقافية كما قال فنتيجو. وبالرغم من انهزام الموحدين السياسي وعودة الأندلس إلى حظيرة المسيحية، ظل نفوذ الحضارة العربية يتزايد في نظر الغربيين حتى صارت باريس نفسها - التي أسس جامعتها الملك فيليب أوغست على أثر عودته من الشرق - تستمد من المغرب والشرق كثيرا من كشوفها.

والذي يزيد هذه الظاهرة غرابة أن الفتوح العربية لم تكن حركة توسيعية ولا حربا صليبية ضد المسيحية، وإنما كانت رسالة تمدينية لا تهدف إلى أي لون من ألوان الإدماج. ومن مظاهر تسامح ملوك

 

(1/2438)

 

 

العرب ونزاهة وجهتهم أن جوهن ملك إنجلترا عرض عام 1199 على آخر ملوك الطوائف، وهو محمد الناصر، أن يحميه من البابا في مقابل جزية سنوية واعتناق الإسلام من طرف إنجلترا ملكا وشعبا، ولكن الملك العربي رفض هذا العرض؛ لأن أريحيته أبت عليه استغلال الضائقة السياسية التي كان الإنجليز يتخبطون فيها لحملهم على اعتناق الإسلام.

أليس إذن من الغريب أن لا يتجلى أثر الحضارة العربية في ذهن الأوربي المتوسط إلا في فتوح أوقف تيارها شارل مارتيل في بلاط الشهداء؟

 

(1/2439)

 

 

ومنذ القرن السادس عشر، أمكن الحضارة المغربية التي كانت إلى ذلك التاريخ منحصرة في البحر المتوسط أن تدخل إلى أمريكا الجنوبية بواسطة الغزاة البرتغاليين الذين اكتسحوا إذ ذاك العالم الجديد. فقد تلقت البرازيل مثلا طوال ثلاثة قرون متوالية تأثير المدنية الأندلسية؛ فاتسمت جميع مظاهر الحياة الاجتماعية الأمريكية بطابع مغربي ينمو ويضعف حسب الأصقاع. فتقنعت المرأة البرازيلية على طريقة زميلتها المغربية وكيفت أسلوب حياتها كما فعلت المرأة الصقلية المسيحية - فيما حكاه الرحالة ابن جبير - تكييفا يحذو حذو النعل ما

 

(1/2440)

 

 

عهد في الأندلسيات والمغربيات. نعم، أصبح الشيء الكثير في البرازيل صورة لما كان عليه مجتمعنا في العصور الوسطى من أناقة النساء الأرستقراطيات في الحواضر واتخاذهن الطنافس الوثيرة للجلوس بدل المقاعد الخشبية، إلى غير ذلك من طرائق الحياة الفردية ومناهج الفلاحة والغراسة في البادية. فبالرغم من اختلاف الطقس، استخدم الفلاح الأمريكي أجهزة الفلاحة المغربية وأساليبها وانتشر استخدام الطواحين الهوائية في مجموع أنحاء أمريكا الجنوبية مع جميع ما ينطوي عليه نظام الري عندنا (السواقي والآبار، إلخ). وقد نقل المعمرون

 

(1/2441)

 

 

البرتغاليون إلى أمريكا جميع ما أنجزه المغاربة في القسم الجنوبي من الأندلس من مصانع السكر والقطن إلى مزارع الحوامض ودودة القز (كانت 3060 قرية أندلسية تتعاطى تربية دودة القز). على أن اللغة الإسبانية الأمريكية تنم عن الآثار التي تركتها حضارتنا في الميدان الثقافي والاقتصادي والاجتماعي بأمريكا. فالاصطلاح الأمريكي في المياه والسقي والري معظمه عربي، وكثير من الأزهار والنباتات العطرية ما زالت تحمل في إسبانيا وأمريكا أسماء عربية. أضف إلى ذلك ما يسمى "مودة" النساء من أسماء الحلي والمصوغات.

 

(1/2442)

 

 

والشبه وثيق بين المغرب وأمريكا الجنوبية في ميدان الهندسة المعمارية، حيث لا تختلف في البلدين أساليب البناء في الكنائس والأديرة والمنازل والحمامات. وقد تأثر الاصطلاح الأمريكي أيضا بالمفردات العربية.

ويضيق المجال عن تعداد المناحي التي تجلت فيها آثار الحضارة المغربية والأندلسية؛ فحتى أساليب الطبخ وأسماء العائلات لا تختلف في أمريكا عنها في المغرب. ووحدة أصول العائلات العربية تفسر لنا نجاح الهجرة العربية إلى أمريكا. ورسالتنا الحضارية أصبحت في الظروف الدولية الراهنة أشد واقعية من أي وقت وأبرز عنصر يجب

 

(1/2443)

 

 

أن تنطلق منه العناصر الحضارية الأخرى عند إخواننا في الشرق لبناء نهضتنا الحديثة.

 

(1/2444)

 

 

الترجمة بين العربية والإسبانية

الدكتور الحسين بوزينب

كلية الآداب - الرباط

... إن الحاجة الملحة إلى المعرفة في أوروبا القرون الوسطى وتفوق الثقافة العربية آنذاك جعل المحتكرين لغذاء العقل في إسبانيا منذ العقد الثالث من القرن الثاني عشر الميلادي يقومون بنشاط حثيث لتحويل كنوز الثقافة العربية إلى خزائنهم . نعم ، أقول المحتكرين ، لأن ما بمكن أن نسميه بثقافة الكتب كان مقتصرا أو يكاد ، على طبقة رجال الدين النصارى وعلى اللغة اللاتينية . ويمكن اعتبار حركة الترجمة هذه ، لما شملته من حقول المعرفة ، وبدون

 

(1/2445)

 

 

مبالغة ، الأساس الذي سيشيد عليه ما سمي بالنهضة الأوروبية .

... إنني اخترت التطرق إلى هذا الموضوع لسببين إثنين ، أولهما تاريخي والثاني تربوي ومنهجي .

1 - الجانب التاريخي

... أجل فكلنا سمع عن ترجمة التراث العربي في إسبانيا ، ولكن الكثير منا قد يجهل التنظيم الذي كانت ترتكز عليه هذه الترجمة منذ القرن الثاني عشر الميلادي . فهده العملية التحويلية لم تكن تتم بعشوائية ، بل كانت منظمة ومضبوطة ، لا تسند إلا للأخصائيين وتنجزها طقوم في عدة أطوار .

 

(1/2446)

 

 

... إن تطور الترجمة في إسبانيا من العربية إلى اللاتينية أو إلى الإسبانية يمتد عبر عدة قرون يمكن أن ترسم نقطة انطلاقه في الثلث الأول من القرن الثاني عشر الميلادي ونقطة اختفائه مع تهجير المورسكيين في آخر العقد الأول من القرن السابع عشر الميلادي . ويمكن أن نبرز من بين المراحل التي قطعتها الترجمة من العربية ثلاث مراحل رئيسية :

...

... أ - مرحلة المطران Raimundo الممتدة بين 1130 م - 1187 م . أي ما يناهز ثلث قرن بعد موته ( 1152 م ) .

... ب - مرحلة الملك Alfonso الحكيم من 1252 - 1277 م .

 

(1/2447)

 

 

... ج - مرحلة المورسكين وتتجلى خصوصا في القرن السادس عشر الميلادي .

... أ - إن من أبرز مشجعي الترجمة من العربية إلى اللاتينية في قشتالة القرن 12 م ، نجد مطران طليطلة Raimundo الفرنسي الأصل ، الذي يسعى إلى الحفاظ على عظمة طليطلة بالعمل الدأوب على شتى الواجهات الدينية والسياسية والعمرانية والثقافية . وقد اعتبر في هذا الميدان الأخير ، من كبار حماة الآداب في القرن 12 إلى 14 ، وإليه يعزى خلق ما يسمى بمدرسة طليطلة للترجمة . وقد اتجه عمله الثقافي بالخصوص إلى تشجيع نقل الفلسفة العربية إلى اللاتينية ،

 

(1/2448)

 

 

كما شجع على إرساء مدرسة للدراسات العربية - اللاتينية بتوسط اليهود ، خصوصا و أنه وجد في طليطلة جملة من المعطيات ساعدته على تحقيق أهدافه : كوجود جماعة يهودية تعرف العربية ومسيحيين مستعربين ، زد على ذلك توفره على مكتبة مهمة .

... ومن الكتب التي ترجمت خلال هذه الحقبة : " كتاب الشفا " لابن سينا و " ينبوع الحياة " لابن غبيرول و " مقاصد الفلاسفة " للغزالي وكتاب " إحصاء العلوم " للفرابي وكتاب " المدخل إلى صناعة أحكام النجوم " للقابسي و " رسالة في العقل " للفرابي و"المقاصد " للغزالي ... وكتنب أخرى كثيرة

 

(1/2449)

 

 

للخوارزمي والمجريطي والكندي والغزالي وابن سينا وقوسطا بن لوقا وجابر بن حيان والرازي وابن الوافد ... إلخ ، في الرياضيات والتنجيم والفلك والطب والفلسفة ...إلخ (1) .

... بعد المرحلة التي تحمل اسم المطران Raimundo ، تأتي فترة انتقالية ستدوم ما يقارب القرن من الزمن ، ستضعف فيها الترجمة إلى اللاتينية ضعفا كبيرا في طليطلة

__________

(1) انظر كتاب : José San Gil , La Escuela de Traductores de Toledo , Tolido , Institudo Provincial Investigaciones y Estidios Toledanos , Diputacion Provincial , 1985 , PP. 34 y SS.

 

(1/2450)

 

 

وسيبدأ استعمال اللغة الإسبانية العامية كمرحلة أخيرة في الترجمة ، ذلك الاستعمال الذي سيعرف نموا وازدهارا مع Alfonso العاشر ، الملك الحكيم .

... وقد كانت الترجمة في المراحل ما قبل الملك الحكيم عملية ثنائية يقوم بها متخصصان ، أحدهما في العربية والآخر في اللاتينية . كان يتكفل بالجانب الأول يهودي أو مستعرب ، يحول النص العربي إلى اللغة الرومانسية . ثم كان هناك من جانب ثاني مسيحي خبير في اللاتينية يحول النص الرومنسي إلى هذه اللغة .

 

(1/2451)

 

 

... ب - أما مرحلة الملك الحكيم ، والتي تمتد بين 1252 و 1277 م ، فهي مرحلة ذات أهمية قسوى بالنسبة للكيان الثقافي الإسباني نفسه . فإذا كانت مرحلة المطران Raimundo قد لعبت على المستوى الأوروبي دورا إشعائيا ، ولو منحصرا في طبقة رجال الدين الذين كانوا يعرفون اللاتينية ، فإن مرحلة Alfonso العاشر ستكسر الحاجز الذي كان يمنع سائر الناس في إسبانيا من الدخول إلى عالم المعرفة ، وذلك يحعل الإسبانية تتكلم كذلك لغة العلم .

 

(1/2452)

 

 

... وقد سار الملك الحكيم في الترجمات التي أشرف عليها على نفس النهج الذي رسمه المطران Raimundo ، وكان يحرس شخصيا على إضفاء الدقة والوفاء على ماكان يحول من علوم إلى لغته . فهكذا نجد بجانب الخبيرين في كل من العربية والرومنسية ، منقح مفسر ومبوب يساعدون المترجمين . و إذا كان النص سيترجم كذلك إلى اللاتينية أو الفرنسية ، كان يضاف خبيران في هاتين اللغتين . وكان االملك الحكيم يرلجع بنفسه الترجمة الأخيرة . وقد أعطى Alfonso العاشر أهمية لكتب الفلك والتنجيم ولم يبال بكتب الفلسفة كما كان يفعل المطران

 

(1/2453)

 

 

Raimundo .

... ومن الكتب المترجمة مع Alfonso العاشر : كتاب " كليلة ودمنة " وكتاب " السندباد" و " العمل بالصحيفة الزيغية " للزرقلي وكتاب " البارع في أحكام النجوم " لأبي الحسن علي بن أبي الرجال وكتاب " الكواكب الثابتة المصور " لعبد الرحمن الصوفي وكتاب " المعراج " والذي ترجم كذلك إلى الفرنسية سنة 1964 وكتاب " في هيئة العالم " لأبي علي بن الهيثم ... إلخ .

... قببل التطرق إلى مرحلة الموريسكين ، ارتأينا التوقف عند عيسى بن جابر والراهب Juan de Segovia في أواسط القرن 15 م للتحدث على الترجمة الإسبانية

 

(1/2454)

 

 

للقرآن التي قام بها عيسى بن جابر ، نظرا للأهمية التي ستكون لهذه الترجمة لدى المورسكيين ، ونظرا كذلك إلى ما أحيطت به من اهتمام وعناية لإنجازها .

... لقد قلنا أن الإمام والتخصص كانا من مميزات المترجمين ، وهذا يدلنا على الوعي بأهمية هذا الجانب في الترجمة . فغياب التخصص يحدث خللا عميقا في عملية نقل المعلومات كما يشوهها . فهذا السبب جعل أحد الرهبان وهو Juan de Segovia ( 1398 - 1458 م ) يشكك في الترجمات القرآنية الموجودة في عصره ويتعاقد مع أحد الفقهاء المسلمين المعروفين آنذاك في شقوبية ليساعده على

 

(1/2455)

 

 

ترجمة القرآن ترجمة وفية ، لأنه كان يقول بأن " المجادلة مع المسلمين بتلفيق أشياء مزيفة لهم ، يضعف من قوة دلائلنا ، لأنهم ( أي المسلمين ) سيظنون بحق أننا نتصرف بنفس الطريقة عندما نعرض عليهم ديننا المقدس " (1) . وهذا الراهب كان مقتنعا بأن اكتساب معرفة حقيقية حول البنية الدينية للعالم الإسلامي يستوجب ، كخطوة أولى ، دراسة معمقة للنص القرآني من

__________

(1) Dario Cabanelas Rodriguez , Juan de Segovia y el Problema islamico , Madrid , Univesidad de Madrid , Facultad de Filosofia y Lettras , 1957 , P . 137 .

 

(1/2456)

 

 

جميع الجهات ، الشيء الذي يتطلب بدوره تمكنا جيدا من اللغة العربية أو التوفر على ترجمة قرآنية وفية و أمنية (1) . وقد كان يتطلع بشغف كبير إلى الجواب عن تساؤلات كانت تشغله باستمرار ك : 1 - ما هو السبب الحقيقي الذي جعل محمدا يستقطب أتباعا كثيرين في بداية رسالته ؟ و 2 - لماذا حظي الدين الجديد بكل ذلك الادزهار المادي ؟ 3 - ماهي نقط الاتفاق ونقط الاختلاف بين الكتاب المقدس و القرآن ؟ و4 - ما هي أنجع الوسائل لحل المشكل الإسلامي ؟ (2) .

__________

(1) المرجع السابق ، ص . 128 .

(2) المرجع السابق ، ص .132 .

 

(1/2457)

 

 

... إن الراهب Juan de Segovia بعد أن اقتنع بأن أهم ترجمة موجودة في ذلك الوقت للقرآن ، وهي تلك الترجمة اللاتينية التي أنجزها Roberto de Ketene ( 1143 م ) لم تكن تشفي غليله للجواب على تساؤلاته المذكورة ، وبعدما تبين له التشويه الذي لحق بالكتابات حول الإسلام التي اعتمدت هذه الترجمة ، رأي ضرورة إيجاد ترجمة جديدة تتلافى عيوب الترجمات

التي كانت توجد في ذلك الوقت ، فتعاقد مع الفقيه الشيقوبي عيسى بن جابر الذي سيصاحب الراهب إلى دير Aiton بمطقة Savoie بفرنسا ليقوم بإنجاز ترجمة قرآنية إلى الإسبانية تكون

 

(1/2458)

 

 

مطابقة أكثر ما يمكن مع النص العربي ، ولو بدون شروح ولا هوامش ، وشرح الفقرات الغامضة من الكتاب مباشرة للراهب . هذا العمل سيستغرق مدة أربعة أشهر سيكتب فيها عيسى بن جابر النص العربي في الشهر الأول وسيشكله وفي الثالث سيكتب الترجمة الإسبانية بخط يده وفي الرابع سيقابل عيسى بن جابر والراهب Juan De Segovia

النصين : سينظر عيسى النص العربي والراهب النص الإسباني.

بعد الانتهاء من الترجمة إلى الإسبانية، رأى الراهب الشقوبي أن هذا العمل سيبقى مقتصرا على أقلية من العلماء الذين يعرفون الإسبانية، ولتسهيل الإطلاع

 

(1/2459)

 

 

عليه ممن لا يعرف هذه اللغة، كان عليه أن يضع ترجمة إلى اللاتينية - لغة عامة العلماء الأوروبيين - هذه الترجمة أنجزها بنفسه بعدما يئس من البحث عن مترجم يتقن العربية واللاتينية ليتفادى المرور عبر جسر الإسبانية، وحتى يتمكن من مقارنة ترجمتين مستقلتين من اللغة العربية مباشرة.

وبهذه الطريقة أنجزت أول ترجمة إسبانية - لاتينية للقرآن ستعمدها كأساس كل التفاسير القرآنية التي ظهرت في إسبانيا بعد 1465 (1)

__________

(1) Consuelo Lopéz, The Qur’àn in sixeteenth century : - Six Morisco Versions of Sura 79, London, Tamesis Books Limited, 1982, p : 14.

 

(1/2460)

 

 

.

ج - أما ثالث مرحلة ارتأينا الحديث عنها هي المرحلة الموريسكية التي تدوم أزيد من قرن من الزمن، ستظهر فيها الترجمة من العربية إلى الإسبانية متسمة بسمات تختلف تماما عن تلك التي رأيناها في المرحلتين السابقتين.فإذا كانت الترجمة من العربية إلى الإسبانية أيام Alfonso الحكيم قد أملتها حاجة الإسبان الماسة إلى الاستفادة مما أنتجه الفكر العربي الذي عرف تفوقا على نظيره الإسباني في العصور الوسطى، فإننا سنجد اللجوء إلى الترجمة في القرنين 16 و 17، - كذلك في العربية إلى الإسبانية - تمليها حاجة آخر مسلمي

 

(1/2461)

 

 

إسبانيا إلى فهم دينهم وجزء من تراثهم الذي يتعذر عنهم التوصل إليه بلغة أجدادهم، فأغلب هؤلاء المسلمين المؤسينين كانت قد فقد العربية وأصبحت لغتهم في التخاطب هي اللغة الإسبانية. لذلك سنرى كيف تطورت بينهم الترجمة لنقل بعض الكتابات الدينية والأدبية التي كانوا في حاجة إليها للإبقاء على دين الإسلام.

أما الظروف التي تتم فيها الترجمات الآن، فتختلف تماما عن تلك التي رأيناها زمن Alfonso العاشر. فالفقهاء المسلمون الذين استمروا في إذكاء روح الإسلام في إسبانيا بعد سقوط غرناطة، كان مستواهم العلمي قد نزل كصيرا

 

(1/2462)

 

 

بالمقارنة مع ذلك الذي كان لمن سبقهم من الفقهاء على هذه الأرض وكذلك مستواهم اللغوي كان قد تراجع كثيرا. ثم إن الظروف الحياتية عامة لم تكن تساعدهم حتى يطوروا تعليما عربيا وإسلاميا. فكما نعرف جميعا فإن الكنيسة ومحاكم التفتيش Inquisicion كانت تنزل أشد العقاب بمن وجدت في حوزته كتابا عربيا، وكان أكبر قسط من الاضطهاد ينزل بالفقهاء. فظروف العمل إذا، لم تكن تسمح " بالكماليات" أي بتنقيح الأسلوب واختيار الخطاطين ...إلخ. إننا لا نعرف بالضبط هل كان هناك دائما عمل جماعي لإنجاز الترجمات الموريسكية. لقد استطعنا

 

(1/2463)

 

 

بتحليل بعض الهفوات التي سقط فيها صاحب إحدى المخطوطات الأعجمية الموريسكية، أن نكتشف وجود عدة أشخاص تعاونوا في ترجمة ذلك المخطوط (1)، لكن لا يمكن أن نجزم أن هذا كان أمرا معمما، خصوصا وأن أغلب المخطوطات الأعجمية والموريسكية لا تبين اسم كاتبها أو مترجمها أو ناسخها،

__________

(1) يتعلق الأمر بالمخطوط الأعجمي للمكتبة الوطنية بمدريد رقم 5267. أنظر التحليل الذي قدمناه في

« Alguans observactions sobre la traduction en tectos aliamidos in Homenje a A Galmés de Fuentes, vol III, Madrid, Ed, Gredos, 1987, p.613 y ss.

 

(1/2464)

 

 

كما لا تأتي بمعلومات عن طريقة ومكان إنجازها إلا نادرا.

أما المادة المترجمة فتكونها كما قلنا سابقا تلك العناصر التي كان الموريسكي في حاجة إليها لحياته الدينية وكذلك الدنيوية. فبجانب القرآن وكتب الفقه والحديث، نجد قصصا وحكايات كتلك التي تروي بطوليات علي بن أبي طالب، وقصص الأنبياء والوصايا والتنبؤات...إلخ.

أما الترجمة العسكية، أي من الإسبانية إلى العربية، فباستثناء بعض الكتابات الدينية ك: Doctina Cristiana ل Martin Ayala التي ترجمت إلى اللغة العامية بهدف تلقين الدين المسيحي للمسلمين المنصين، لم

 

(1/2465)

 

 

يعرف الاتجاه : إسبانية ... ... عربية نقلا يذكر.

2- الجانب التربوي - المنهجي :

من الدواعي التي جعلتني أختار الكلام على الترجمة في إسبانيا خلال القرنين 12 - 13 ثم مع الموريسكيين، الأهمية المنهجية والتربوية التي تكتسيخا النصوص المذكورة بالنسبة لتدريس الترجمة بين العربية والإسبانية. إن هذه النصوص تكون مادة خامة وغزيرة لم تستغل استغلالا كافيا بعد لدراسة نتائج التقاء اللغتين المذكورتين. فبالرغم من مرور القرون على وجود هذه النصوص المترجمة، فإن عددا كبيرا من التداخلات والتقاطعات اللغوية التي حدثت

 

(1/2466)

 

 

قديما، لا زالت تحدث في يومنا هذا.

إن طبيعة المترجمين أيام Alfonso و Riamundo العاشر فرضت إدخال عناصر لغوية جديدة على الإسبنانية أغنتها كثيرا. فالجانب اليهودي المسؤول عن قراءة النص العربي، كان في وضع بين العبرية والعربية يجعله - من جهة - يفهم النص العربي فهما لا يخلو من تدخل ثقافته العبرية، ثم إن إسبانيته، كإسبانية سائر الأقليات التي كانت تعيش في الأندلس ، - من جهة أخرى - كانت لها مميزاتها الخاصة(1)

__________

(1) Gonzolo Menéndez Pidal, « Como trabajaron las escuelas alfonsies », in Nueva Revista de Filologia Hispanica, Ano V, N° 4,P .367 :

"يصبح من الضروري عندما يكون المترجم يهوديا أن يساعده مسيحي في تصحيح الأسلوب نظرا إلى أن اللغة الرومنسية المتداولة بين اليهود، كانت لهجة جد خاصة ومهجورة تستغربها آذان القشتاليين".

 

(1/2467)

 

 

. زيادة على أن العربية التي كانت قد خطت خطوات جبارة في ميدان العلم، امتلكت من الميكانيزمات التعبيرية مالم يكن لدى لغة حديثة العهد بعالم المعرفة كالإسبانية. لذلك سنجد أن هذه الأخيرة استفادت استفادة كبيرة من التقائها بالعربية.

فمن الخصائص اللغوية المستوحاة من العربية (1) ، نجد استعمال الملاحق للتعبير على أسماء مجردة مثل : Longura - Longueza - Altura - Alteza - Gordura - Gordeza... إلخ. واستعمال المتكلم والمخاطب والغائب المجهولين :

__________

(1) José San Gil، المرجع المذكور، ص.89 وما بعدها.

 

(1/2468)

 

 

- Idespués Desto dixeron cuando esto quissieres fazer

- Quando esto quissiéramos fazer

استعمال الضمير المتصل المحشو : - de saber la anchura dell orient del sol et de su occiddent .

والبدل : ... ... ... ... ... - delos annos romanos et de sos mess

والوصل : ... ... ... ... ... - E diza el que fizo fizo ndedech

... الخ. زيادة على العدد الكبير من المصطلحات التي أخذتها من العربية والتي لا يزال بعضها مستعملا إلى يومنا هذا مثل : Xarope - Caliifa - Aduana - Algodon - alfaqueque ...إلخ(1)

__________

(1) أنظر كتاب : K. Eero, Los arabismes del espanol en el siglo XIII, Helsiniki, Studia Oreintalia, 1991, 331. PP.

وكذلك : A.R. Nykl, Glosarion de voces de origen arabe y persa en las traductions hechas por orden del rey don Alfonso el Sabio, Universided de Wisconsin, 1957.

 

(1/2469)

 

 

.

من الملاحظ أن الجوانب اللغوية الإسبانية التي تأثرت بالعربية أيام Alfonso العاشر ستتأثر كذلك مع الترجمة الموريسكية. فكل التداخلات البنوية المذكورة سابقا مثلا، سنجدها تتكرر في الأدب الأعجمي المورسكي، وحتى جانب المصطلحات سيعرف نفس النتيجة. إلا أن الأسباب التي دفعت المورسكيين إلى استعمال المصطلح العربي الإسلامي لا يمكن تعليلها بغياب المرادف في الإسبانية وإنما هو ناتج عن إرادة تمييز المصطلح المسيحي من المصطلح الإسلامي، لربطهم بين الدين واللغة.

 

(1/2470)

 

 

وبالنسبة لمرحلة Alfonso الحكيم نجد جديدا عند المورسكيين في خلق كلمات كثيرة تحت تأثير قوالب عربية كفعل وأفعل مثلا : Amuchecer تحت تأثير أكثر؛ تحت تأثير قلل؛ Averdadecer تحت تأثير أيقن ...إلخ. وتكييف كلمات عربية مع قوالب إسبانية :

خلق Haleqar . محى Amahar . سجد Sajdeatr...إلخ. أو تحويل معنى الكلمة العربية إلى كلمة إسبانية مثل Comanero ( = صديق - زميل ) ( = تبع - تلى ) بمعنى قرأ القرآن ...إلخ.

ولكن يجدر القول بأن أغلب الصيغ الموريسكية قد اندثرت بعد تهجيرهم، ونادرة هي الكلمات التي يمكن أن نعثر

 

(1/2471)

 

 

عليها وهي من بنائهم.

...

... إن العلاقة التي قامت بين العربية والإسبانية عن طريق الترجمة في القرن الثالث عشر بالخصوص، لم تكن لتتثبت بدون أن تؤثر في الجانب المترجم إليه، أي الإسبانية . فالعربية في هذا القرن كانت قد قطعت أشواطا كثيرة في ميدان العلم والأدب، صقلت في بنيتها ولائمتها للتعبير العلمي والأدبي. كما كانت قد هيأت وطورت مفرداتها ومصطلحاتها الخاصة بكل ميدان من ميادين المعرفة حيث أبناؤها كانوا هم أصحاب السيادة. بينما الإسبانية القشتالية، التي لم تكن تسمح لها اللاتينية بالارتقاء إلى الأدراج

 

(1/2472)

 

 

العلمية والأدبية، فبالطبع، كانت تفتقر إلى كثير من أدوات الحياة العلمية التي ستكتسبها شيئا فشيئا بفضل احتكاكها بالعربية التي بينت لها مواضع النقص لتسدها. وكذلك بفضل الملك الحكيم الذي أدرك أن انتشار الثقافة لا يمكن أن يتم إلا باستعمال لغة الشعب، فهذا الملك كان يتعامل مع اللغة تعاملا بيداغوجيا يأخذ فيه بعين الإعتبار إمكانيات الفهم عند قرائه، الشيء الذي يفسر أغلب إبداعاته (1). ففي ما يخص المصطلحات، كان يبحث على

__________

(1) Aafeal Lapesa, Historia de la lengua espanola, Madrid, Ed, Gresos, 1981, P . 245.

 

(1/2473)

 

 

التعبير الرومنسي للمفاهيم العلمية والمفاهيم التي ترجع إلى فترات تاريخية قديمة والتي لم تكن تتوفر عليها آنذاك إلا اللغات المتطورة والمصقولة كالعربية واللاتينية، وهكذا نجد أن عمل هذا الملك استطاع أن يهيئ اللغة القشتالية للتعبير التعليمي. زد على كل هذا، الدور الذي بدون شك، لعبه اليهود، الذين لم يكونوا ينظرون بعين العطف إلى اللغة اللاتينية لغة طقوس دين المسيحيين - حسب Ragael Lapesa (1) .

__________

(1) أنظر كتابه السالف الذكر ، ص.237.

 

(1/2474)

 

 

وهكذا فإن فضل العربية على الإسبانية في تطورها، فضل مزدوج : فمن جهة نجد الجانب المادي الذي يكمن في الألفاظ والمصطلحات والأنساق البنيوية العربية؛ ومن جهة أخرى، كانت العربية بمثابة الحافز الذي جعل الإسبانية تبحث عن صيغ وأدوات تمكنها من التعبير عن مفاهيم جديدة. فالعربية إذا كانت كتلك المرآة التي أظهرت للإسبانية جوانب نقصها فعملت على تدراكها.

إذا كان الجانب اللفظي العربي يبرز بسهولة في النصوص الإسبانية، فإن الجانب النحوي والصرفي يحتاج لإظهاره إلى دراسة دقيقة تعتمد مقارنة نصوص إسبانية تنتمي إلى عدة

 

(1/2475)

 

 

حقب ومستويات، مع أصولها العربية. ولو أن هناك مستويات لا يحتاج إبرازها إلى اللجوء إلى المقارنة. و من المظاهر التي يمكن أن تكون العربية قد أثرت فيها على الإسبانية مثلا، تتابع الكلمات. فالعربية اعتادت على الابتداء بالفعل وإتباعه الفاعل ثم المفعول، وهذا النظام هو نفسه المتبع في الإسبانية والبرتغالية في أغلب الأحيان خلافا لم يحدث في باقي اللغات الرومنسية. وقد سجلت في هذا المجال إمكانية تأثير سامي (1) . ولكن هذا الجانب يحتاج لتوضيحه إلى دراسة عميقة.

__________

(1) أنظر R. Lopesa، المرجع السابق، ص.125-153.

 

(1/2476)

 

 

والتأثيرات النحوية والبنيوية العربية في الإسبانية، رغم معرفتها لبعض الدراسات، فلا زالت تحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل حتى يكشف النقاب عن أكبر عدد ممكن من المكانزمات التي تدخل في هذا التأثير.

ومن الأبحاث التي أنجزت في هذا الصدد حول النصوص القديمة تخص بالذكر كتاب الأستاذ A. Galmés : " التأثيرات الصرفية والأسلوبية العربية في النثر القشتالي للعصور الوسطى " (1) . وهذا الكتاب قد اتخذ كمادة للبحث فصل " الطبيب برزبويه" من كتاب

__________

(1) من مشورات الأكاديمية الملكية الإسبانية للغة، R.A.E.L. ، مدريد، 1956.

 

(1/2477)

 

 

" كلية ودمنة" الذي ترجمه Alfosno العاشر عندما كان أميرا، وهي من الترجمات التي مرت بعد ذلك إلى اللاتينية سنة 1251 (1) . وزيادة على هذا الكتاب، فإن الأستاذ A. Galmés وبعض طلبته في جامعة Oviedo بإسبانيا درسوا هذا الجانب من خلال نصوص الأدب الأعجمي المورسكي.

إن التجربة التي عاشتها الترجمة من العربية إلى الإسبانية منذ القرون الوسطى يجب الاستفادة منها لتوضيح مواضع الخلل عند المترجم المتأثر بالعربية، خصوصا وأننا لا حظنا أن نتائج الالتقاء بين البنيتين

__________

(1) أنظر كتاب A. Galmés المشار إليه سابقا، ص.228.

 

(1/2478)

 

 

العربية والإسبانية، لا تختلف رغم اختلاف العصور. فدراسة السلوك اللغوي من خلال هذه النصوص سيسهل على مدرسي الدارسون الحاليون لهذه المادة. ولكن هذا ليس كافيا، لأن وضع اللغتين قد عرف تحولا كبيرا منذ القرن الثاني عشر إلى اليوم. فإذا كنا قد أبرزنا تفوقا آنذاك للعربية على الإسبانية في وسائل التعبير، فلا يمكن لنا اليوم أن نردد نفس الكلام، خصوصا فيما يرجع إلى تركيب الكلمة في كل من اللغتين، ذلك التركيب الذي عرف تطورا كبيرا في الإسبانية وركودا في العربية :

 

(1/2479)

 

 

فالكلمة العربية تنبني على هيكل أساسي يسمى بالأصل ويتكون من ثلاثة حروف في أغلب الأحيان، تتضمن الفكرة الأساسية. وهذا الأصل يتشكل في عدة قوالب بإضافة بعض الأجزاء المحددة التي تكتسي مدلولات معينة في أول ووسط و آخر الكلمة [ ا - و -ي - ت، في وسط الكلمة : ـة، ءا - ءاء - ءان - ئيء- وت ، في آخر الكلمة : ءَ - ءُ - ءِ - تَ - تُ - مِ - م ... َ - مُ - يَ - يُ - ءَنّ - ءِنّ - ءُنْ - أَسْتَ - إِسْتَ - أُسْتَ ، في أول الكلمة] (1) . وهذه

__________

(1) انظر : .F.Corriente , Gramético Arabe , Madrid , I.H.A.C , 1984 , P :54

 

(1/2480)

 

 

الجزئيات محدودة في العدد والوظيفة : 26 من حيث العدد وأما من حيث الوظيفة فهي نحوية أكثر منها معجمية.

أما الكلمة الإسبانية فتميز أصلا يحمل الفكرة الأساسية، وأجزاء نحوية ومعجمية في أول و آخر هذا الأصل ( سوابق وملاحق) ، غير أن عدد حروف الأصل - عكس العربية - غير قار. كما أن أدوات السبق والإلحاق الإسبانية ذات الوظيفة المعجمية ، علاوة على كثرتها ، فهي تكون إطارا لغويا مفتوحا يستطيع استقبال أدوات جديدة .

واعتماد الإسبانية في بداية الأمر - كسائر اللغات الغربية - على كلمات إغريقية

 

(1/2481)

 

 

ولاتينية حرفتها بعض الشيء أو تركتها كما هي ، ثم ألحقتها بأول كلماتها للتعبير على معنى جديد أضافته إلى القديم ، أكسبها مرونة سهلت عليها الاستجابة للمتطلبات اللغوية من كلمات ومصطلحات .

... ... وفيما يلي بعض الأمثلة تخص السبق :

... ... من الإغريقية :

... ... ... ... asexual - amoral - apolitico : ... ... a

... ... ... - antitanque - antibiotico : anti ... ...

... ... ... - autodeterminacion - antomovil : auto ...

... ... ... - hipercriticz - hipertension : hyper

 

(1/2482)

 

 

... ... ... - neolatino - neograatica : neo ...

... من اللاتينية :

... ... ... ... ... ... Anteproyecto - anteguerra : ante

... ... ... ... ... ... Bidimensional - bicéfolo : Bis

... ... ... ... ... ... Coopositor - codiirector : cum

... ... ... ... ... ... Despreciar - devengar : de

... ... ... ... ... ... Extrarritorial - extraterrestre : ex

... ... ... ... ... ... Postpalatal - postguerra : poste

...إلخ.

 

(1/2483)

 

 

... أما فيما يخص الإلحاق، فنجد أن الكلمة الإسبانية تستطيع أن تلحق في آخرها، زيادة عن الجزء التصريفي والإعرابي، جزءا يدقق المعنى الذي يحمله الجذر أو الجزء + جزء السبق، أو يضيف معنى آخر أو تخصصا الجذر أو الجذر + جزء السبق. فنجد مثلا أن للتصغير عدة ملاحق منها : ( pequénao - : ajo و ito pequenito) في الأول معنى ودي أو عاطفي وفي الثاني معنى احتقاري. وللكلمتين cantante و cantador معنى "مغني" غير أن الأولى تخصص لمغني الأوبيرا مثلا، بينما الثانية، كذلك لمغني، ولكن للأغاني الأندلسية. والكلمات ( habdalor

 

(1/2484)

 

 

- hablante - hablista - hablantin - hablanchin) هو المتكلم ( hablante) هو المتكلم و ( hablador) هو الثرثار والمهدار والفضولي و ( hablantin ) و ( hablantin) هو الذي يقول أشياء لم يكن عليه أن يقولها و ( hablista) هو الشخص الذي يمتاز بصفاء وأناقة لغته. و ( furbolista) و ( fubolero) كلاهما يعني " لاعب كرة القدم" ولكن في الكلمة الأولى معنى إيجابي أي لاعب كرة القدم العادي، بينما في الثانية معنى سلبي، ويقصد بها الشخص الذي يمارس لعب كرة القدم بعشوائية وغياب كل روح فنية.

 

(1/2485)

 

 

... أما الملاحق الإسبنانية ذات الوظيفة النحوية فتكون، بالطبع، حلقة مغلقة، لأن كل ماهو نحوي، ينتمي إلى القسم القار من البنية اللغوية، ولكن عددها يفوق بكثير العدد الموجود في العربية. وما علينا إلا أن نقارن عدد الأزمنة الفعلية في كلا اللغتين لندرك الفرق.

الكلمة أو آخرها،لم تنم هذه الإمكانية. ففي العربية نجد كلمات مثل استغاث، واستمر واستفحل...التي تضيف في أولها المقطع ولها المقطع إست الذي يدل تارة على "طلب" وتارة أخرى على ما يسمى في الإسبانية ب reflexividad ( = الإنعكاس). ولكن هذه الأجزاء قليلة جدا

 

(1/2486)

 

 

وتكاد تقتصر على وطيفة نحوية، إن لم تقل على الوظيفة النحوية المذكورة.

... ومن الآثار التي يتركها التباين في تركيب الكلمات بين اللغتين، ذلك الموقف غير المكثرت للمعرب بقيمة الفرق بين أجزاء السبق والإلحاق الإسبانية والحيرة أمام تعدد الإمكانيات الإسبانية، في حالة الانطلاق من العربية إلى الإسبانية في الترجمة.

إنني أقصد بعدم الاكثرات هنا، الخلط بين كلمتين أو كلمات تنتمي إلى نفس الأصل، أو مكونة من حروف متشابهة، مع حمل أجزاء سبق و / أو إلحاق مختلفة؛ أو إحداها تحمل الجزء المعني بالأمر والأخرى لا تحمله.

 

(1/2487)

 

 

وفيما يلي أمثلة أخذتها من تموين على الترجمة من العربية قمت به داخل القسم. وأريد التنبيه إلى أن هذه التداخلات تتكرر مرارا ولا تقتصر علىطالب واحد :

الكلمة العربية ... ... ... ترجمة الطلبة إلى الإسبانية ... ... الترجمة الصحيحة

واجه ... ... ... ... affontar - confrontar - enfrentar ... ... ... afrontar

الجريمة ... ... ... ... transgresion ( تحت تأثير (agresion ... ... ... crimen

المملكة ... ... ... ... reinado ... ... ... ... ... ... ... reino ...

 

(1/2488)

 

 

المدني ... ... ... ... civico ... ... ... ... ... ... ... civil ...

أجدادنا السالفون ... antecedentes ... ... ... ... ... ... antepasados

أسس fundir (1)

__________

(1) هذا المثال الأخير هو خلط وقع فيه أحمد هيكل عندما كان مديرا للمعهد المصري بمدريد. ففي مناسبة تكريمية للمستشرق الإسباني الكبير Enilio في المعهد المذكور، ألقى أحمد هيكل خطابا يذكر فيه بفضائل المستشرق Garcia Gomez على الدراسات العربية في إسبانيا ومن بين قال : " U.d .D. Emillio ha fundido et arabismo espano " أي بالحرف : "إنك يا سيدي إميليو قد ذويت ( بمعنى حطمت نهائيا) حركة الاستعراب الإسباني". بالطبع، لم يكن هذا قصده، ولكن الخلط بين ( fundir) و ( fundar) جعله ينطق بما لم يكن ينوي، ويعطي هكذا، لخصوم المستشرق المذكور درة مغروسة سيحتفظون بها في تاريخ الاستشراق الإسباني.

 

(1/2489)

 

 

fundar

... إن تجربتي في تدريس الإسبانية، وخصوصا مادة الترجمة، بينت لي أن الشخص المتأثر بالعربية يركز اهتمامه على نواة الكلمة أو ما يمكن أن يفهمه كنواة للكلمة، والتي غالبا ما تتطابق مع الأصل. أي أن يستحوذ على عقله في مجموعة من الكلمات المتشابهة كالتي قدمناها في المثال الأول ونذكر بها مرة ثانية :

( afrontar - confrontar - enfrenter - afrentar) ، هي النواة الصامتية ( FRNT) ، وأما السوابق on - en - a ، وحتى الصوائت الداخلية، فتأتي في درجة ثانية، ولا يعيرها اهتماما كبيرا. وقد لاحظت أن هذه الظاهرة،

 

(1/2490)

 

 

أي ظاهرة الارتكاز على ما سميناه بالنواة على حساب باقي أجزاء الكلمة، تنعكس في النطق بالألفاظ الإسبانية والفرنسية التي دخلت العربية الدارجة، بحيث تصل إلى درجة إلغاء السوابق نهائيا :

إسبانية ... ... ... posito ... ... من ... ... deposito

إسبانية ... ... ... stansia ... ... من ... ... instancia ...

إسبانية ... ... ... gratter ... ... من ... ... degrader ...إلخ.

... وهناك أثر آخر للفرق في تركيب الكلمات بين العربية والإسبانية يبرز عند الترجمة من الإسبانية إلى العربية. وهذا الأثر يكمن في صعوبة ضبط

 

(1/2491)

 

 

العربية للمعنى المدقق في الإسبانية بملحق معين. فمثلا أمام الصيغ الإسبانية الآتية :

1 ) partidos nacionalistas ... - - partidos nacilnales

2) accinon colonail ... ... accion colonisalista

... سيجد المترجم نفسه مضطرا في كل مرة إلى اللجوء إلى الترجمة التفسيرية في محاولة للبقاء وفيا للنص الإسباني. وقد تخون العبارة الإسبانية مترجمها إذا لم يستحضر مقابلاتها في هذه اللغة. فالعبارة : « partidos nacionales » لا يمكن أن تترجم ب "الأحزاب الوطنية" دون السقوط في التباس مع : « partidos nacionales » ، لأن

 

(1/2492)

 

 

الكلمة العربية "وطني" تجمع بين المعنيين: السياسي والجغرافي، اللذين للصيغتين الإسبانيين. وقد يحدث نفس الشيء إذا أردنا أن نترجم عبارة : accion colonial فهل سيمكننا أن نقول : " عمل استعماري" دون أن نسقط في مغالطة مع ما يفهم من accin colonisalista ؟

وعند الانطلاق من العربية، كثيرا ما نحتاج إلى تحريات خارج النص، - وذلك في حالة انتباهنا إلى إمكانية المغالطة - لفهم معنى هذا الأخير، أقول " في حالة انتباهنا"، لأن في حالات كثيرة لا يمنحنا النص العربي بإمكانية إدراك قصد صاحبه. وقد نترجم ما لم يقصد بدون أن

 

(1/2493)

 

 

نشعر بهذا. فبعارة "الأحزاب الوطنية" مثلا، في جملة كالآتية : "عارضت الأحزاب الوطنية مشروع الحكومة" نحتاج إلى التحريات الخارجية لنفهم بالضبط ما مقصود صاحب النص : هل الأحزاب المنتمية إلى الوطن أي nacionales ؟ أم تلك التي اتخذت من الوطنية إيديولوجية لها nacionalistas ؟.

... وكخاتمة أخيرة أتساءل : إذا كانت العربية قد مثلت مرآة أظهرت للإسبانية جوانب نقصها فعملت هذه الأخيرة على تفاديها؛ وإذا كان المورسكيون قد طوروا لغتهم الإسبانية بالاعتماد على غنى العربية آنذاك، فكيف نستطيع نحن اليوم أن نعطي للعربية

 

(1/2494)

 

 

مرونة بنيوية أكبر تسمح لها، انطلاقا من عناصر قليلة، خلق ما نحتاج إليه من مصطلحات وعبارات، لأن مشكل العربية في رأيي المتواضع، خصوصا فيما يرجع إلى خلق المصطلحات، مشكل مرونة بنيوية. ثم إنني أود أن أؤكد مرة أخرى على مسألة غالبا ما تبدو تافهة رغم أن أهميتها في الحقيقة بالغة؛ وهي أن كل حرف أضيف إلى الكلمة في اللغات الغربية إلا وكان وراءه سبب. فيجب علينا أن نتساءل دائما لماذا أضيف ذلك الحرف، وأن نثبت من معنى كل كلمة بالنسبة لباقي أعضاء مجموعتها الصغيرة والكبيرة.

 

(1/2495)

 

 

التصريحات الفرنسية الموالية للصهيونية (1917 - 1918)

... ... ... ...

الدكتور أبو القاسم سعد الله

الجامعة الجزائرية - الجزائر

 

إلى الآن لا يعرف إلا القلائل أن فرنسا وعدت الصهاينة بوطن قومي قبل أن تعدهم به بريطانيا . فالمشهور هو فقط وعد أو تصريح بلفور A.J. Balfour الإنجليزي، وليس وعد أو تصريح جول كامبون (J.Cambon) وبيشون (S.Pichon) الفرنسيين. والتي فتحت للباحثين بعد خمسين سنة على أحداثها. هذا البحث قاد إلى الكشف عن الوعود الفرنسية للصهاينة بتعاطف فرنسا مع إنشاء المستوطنات اليهودية وبعث الدولة

 

(1/2496)

 

 

العبرية في فلسطين. وقد كشف البحث أيضا عن التنسيق بين الحركة الصهيونية من جهة، وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، بل عن التآمر بين الحلفاء ويهود العالم خلال سنتي 1917 و1918 على مستقبل بلاد العرب والإسلام.

ونحن لم نرجع إلى الوثائق الفرنسية المذكورة بصفة مباشرة، ولكننا اطلعنا بالخصوص على بحث إيدي كوفمان(1)

__________

(1) اعتمدنا على عدة مراجع، وبالأخص بحث إيدي كوفمان (Edy Kaufman) » التصريحات الفرنسية الموالية للصهيونية سنة 1917-1918«، في مجلة دراسات الشرق الأوسط (Middele Easter Studies)، المجلد 15، عدد 3، أكتوبر 1997، صص. 374-407. أما فيما يتعلق بأوضاع المشرق العربي عموما، فهناك الكثير من الكتب والأبحاث والمذكرات، ولم نر ضرورة لذكرها هنا.

 

(1/2497)

 

 

الذي رجع إليها ودرسها بدقة واستخرج منها وجهة النظر الفرنسية والبريطانية والصهيونية خلال التاريخ المذكور. وقد انطلق الباحث من فكرة قد تبدو جديدة إلى

حد كبير، وهي أن وعد بلفور قد جاء بعد وعد كامبون الفرنسي، وأن بريطانيا كانت حريصة على الحصول من فرنسا على ذلك الوعد للحركة الصهيونية لأن المصلحة البريطانية تقتضي إبعاد فرنسا عن فلسطين. وأن بريطانيا هي التي أغرقت ونسقت مع الصهاينة على أن تكون هي صاحبة السيادة على فرنسا وليس فرنسا على فلسطين.

 

(1/2498)

 

 

ومن أجل ذلك قام مارك سايكس (M. Sykes)، المفاوض الإنكليزي بالعمل مع جورج بيكو (G. Picot) المفاوض الفرنسي، على تقسيم فلسطين بين بريطانيا وفرنسا، وكسر الطموح الفرنسي القائم على الاِدعاء التاريخي والنفوذ الروحي في جعل فلسطين فرنسية فقط. والخطوة الثانية التي خطاها سايكس هي جعل حصة بريطانيا في التقسيم أكبر بكثير من الحصة الفرنسية. أما الخطوة الثالثة، فهي استعمال الضغط الصهيوني على فرنسا لكي تصدر تصريحا لصالح الصهيونية في فلسطين. وأما الخطوة الأخيرة، فهي ضمان السيادة البريطانية على فلسطين باقتناع

 

(1/2499)

 

 

اليهود عموما والصهيونية بالخصوص بأن ذلك أفضل لها من السيادة الفرنسية عليها. وبعد التحضير لكل ذلك، صدر وعد بلفور المعروف.

ويرجع المخطط في الأساس إلى الموقف من الدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا وإلى تقسيم المشرق العربي بين الحلفاء بما فيهم بريطانيا وفرنسا وروسيا. ومنذ 1916، فاوض الحلفاء بعدة أفواه وكتبوا عدة اتفاقات ظلت سرية وكانت في جوهرها متناقضة. ويهمنا من ذلك كله محادثات الشريف حسين / ماكماهون، واتفاق سايكس / بيكو والوعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد كان هذا

 

(1/2500)

 

 

الوعد مقتصرا على وزارة الخارجية البريطانية، ولكنه أصبح الآن وعدا مزدوجا بعد إضافة تصريح وزارة الخارجية الفرنسية أيضا إليه والذي كان في الواقع سابقا للتصريح البريطاني.

ونص اتفاق سايكس/ بيكو سنة 1916 على تقسيم فلسطين بين فرنسا وبريطانيا. ولنتذكر أن فلسطين عندئذ كانت جغرافيا جزءا من سورية الكبرى وبلاد الشام. وبناء على الاتفاق المذكور، فإن شمال بحيرة طبرية كان سيدخل في حكم الفرنسيين (وكذلك سورية ولبنان). وأما عكا ويافا وجزء من شرق الأردن وصحراء النقب، على خط يمتد من رفح إلى شمال البحر

 

(1/2501)

 

 

الميت، فقد كان سيدخل في حكم الإنكليز. ومع ذلك، شعر كل طرف بأنه لم يحقق مرغوبه كاملا. فالإِنكَليز اعتبروا مفاوضهم سايكس معتدلا نحو المطالب الفرنسية. ومن جهة أخرى، اعتبر الفرنسيون ما حصلوا عليه أقل من آمالهم، لأنهم كانوا يطمعون في حكم الأماكن المقدسة التي قالوا أن الباب العالي والدول الأوروبية قد اعترفت لهم سابقا بحمايتها.

وتنفيذا لاتفاق سايكس/بيكو المذكور عزم الإِنكَليز على مهاجمة العثمانيين في فلسطين في يناير عام 1917. وانطلقوا من العريش. حاول الفرنسيون ثنيهم لعدم وجود قوات فرنسية في هذا

 

(1/2502)

 

 

الهجوم. كان الفرنسيون يخشون أن يبقوا خارج فلسطين ويؤول أمرها كله للإِنكَليز إذا لم تكن لهم مشاركة في الحرب هناك، وبذلك تضيع آمالهم ويضيع حقهم في أية مفاوضات بشأن فلسطين. ثم حاول الفرنسيون أن يشتركوا بقوة رمزية لتحقيق الغرض المذكور، فرفض الإِنكَليز اشتراكهم في أول الأمر ثم وافقوا بشرط ألا تتعدى القوة الفرنسية 2800 جندي. ثم جرى الخلاف بينهم حول رتبة قائد هذه القوة. ففرنسا عينت قائدا لها برتبة جنرال، فرفض الإِنكَليز ذلك حتى لا يكون في نفس رتبة القائد الإِنكَليزي، وكان على فرنسا أن تكتفي بتعيين

 

(1/2503)

 

 

القائد برتبة عقيد.

عين الفرنسيون ثلاث فرق جزائرية ضمن القوة المذكورة، وكانت مهمة هذه الفرق هي الإشراف على السكة الحديدية بين يافا والقدس، وحراسة المؤسسات الفرنسية في فلسطين، وكذلك حراسة الأماكن المقدسة التي كان يعترف لفرنسا بحمايتها في السابق. وبينما هاجم الإِنكليز من غزة في 31 أكتوبر 1917 ووصلوا إلى يافا في 19 نوفمبر، ظلت الفرق الفرنسية في خان يونس، شمال سينا، ولم تتحرك تقريبا. وذلك هو ما جعل موقف فرنسا العسكري ضعيفا وجعل دبلوماسييها في موقف لا يطلبون معه الكثير حول فلسطين حين جاء وقت توزيع

 

(1/2504)

 

 

الغنائم.

كان جورج بيكو هو الخبير والدبلوماسي الذي عُيّن محافظا في المناطق المحتلة من فلسطين وسورية. وكان يستعد للتوجه إلى القاهرة عندما طلب منه زميله الإِنكليزي، سايكس أن يزور لندن بصفة مستعجلة قبل القاهرة. وكان سايكس قد خطط للقاء مباشر يتم بين بيكو والزعماء الصهاينة في لندن. ذلك أن سايكس كان مقتنعا بأن أي اعتراض يصدر من أية جهة حول خطة

بريطانيا في فلسطين، من العرب أو من الإيطاليين أو من الروس، لا يمكن أن يكون في درجة الخطورة التي يمثلها اعتراض فرنسا على الخطة. فكان ضمان موافقة فرنسا أمرا

 

(1/2505)

 

 

ضروريا في نظر سايكس.

وفي 8 فبراير 1917 التقى بيكو والزعيم الصهيوني نحوم سوكولو N.Sokolow(1) في لندن. فقد قدم سايكس زميله الفرنسي بيكو إلى سوكولو ثم انسحب. وتركهما وحدهما للدخول في المحادثات. وكان سايكس قد اتفق مع سوكولو قبل ذلك

__________

(1) كان سوكولو (سوكولوف) عضوا رئيسيا في المنظمة الصهيونية العالمية المتمركزة في كولون (ألمانيا). وقد لعبت دورا في التأثير على حركة الاِنقلاب العثماني. انظر ترجمتنا لبحث الأستاذ روبيرت أولسون (R.Olson) (جامعة كونتاكي) في كتابنا » في الجدل الثقافي«، دار المعارف، تونس، 1990.

 

(1/2506)

 

 

على أن يُقنع بيكو بأن الصهاينة يفضلون السيادة البريطانية على فلسطين وليس الفرنسية. وهكذا أثار سوكولو هذه النقطة مع بيكو بكل صراحة، فأجابه بيكو بأن لفرنسا آمالها في فلسطين ولا يمكنها أن تتخلى عنها، بل أخبره أن 95% من الشعب الفرنسي يفضلون إلحاق (كذا) فلسطين بفرنسا. وكان سوكولو عازما على السفر إلى فرنسا، في اليوم التالي لنفس الغرض، فطلب منه بيكو ألا يثير مسألة الصهيونية في فرنسا خلال الاِجتماع لأن معظم يهود فرنسا معارضون للصهيونية، ولأن الشعور الفرنسي نحو فلسطين شعورْ قويّ. ومن جهته وعده بيكو

 

(1/2507)

 

 

بإخطار الحكومة الفرنسية بالموضوع بطريقة متعاطفة مع المطلب الصهيوني.

وقد بقيت مسألة السيادة على فلسطين مسألة حساسة بين فرنسا وبريطانيا. فاقترح سايكس ذات مرة اسم أمريكا لكي تكون هي الحامية المحايدة لفلسطين. وكان ذلك قبل دخول أمريكا الحرب طبعاً. ولكن الفرنسيين رفضوا الاقتراح بحذر. ثمّ إن سايكس قد تراجع أيضا عن رأيه. وفي اجتماع عقد بباريس بين سايكس وبيكو وسوكولو وممثل الأرمن، طرح سوكولو الموضوع على بيكو بطريقة مبسطة قائلا: إن موقف الصهاينة حول السيادة هو موقف طفل يُسأل: هل يحب أمه أكثر من أبيه

 

(1/2508)

 

 

(يعني بريطانيا أو فرنسا)، ولذلك اقترح سوكولو أن تبقى المسألة بين الحكومتين. وكان واضحا أن سايكس يستعمل الصهاينة ذريعة لتنفيذ المخطط البريطاني في فلسطين.

وبدأ سايكس ضغوطه في الحصول من الفرنسيين على وعد بالتعاطف مع الآمال الصهيونية قبل مغادرة بيكو إلى القاهرة. وكانت وجهة نظر سوكولو أن بيكو كان حجر عثرة في الطريق لأنه (بيكو) كان يفضل أن تكون السيادة فرنسية على فلسطين مع الاِعتراف بالآمال الصهيونية. وكان وضع الصهيونية في فرنسا مختلفا عنه في بريطانيا. فهناك خلاف بين المنظمات الصهيونية في فرنسا من

 

(1/2509)

 

 

جهة، وبينها وبين نفس المنظمات في بريطانيا. وبالإضافة إلى التنافس، كانت الصهيونية في فرنسا معظمها من اليهود المهاجرين من شرق أوروبا. ولم يكن لهم نفوذ سياسي واقتصادي، وكان وضعهم الاِجتماعي مهزوزا(1). وابتداءً من سنة 1917 أسس بعض الشباب اليهود في فرنسا (مثل روجي ليفي [R.Levy] وأندري سبير [A.Spire])

__________

(1) عاشت فرنسا في الثمانينات من القرن الماضي أزمة حادة تعرف بأزمة الضابط اليهودي دريفوس (Dreyfus). وفي آخر القرن وقعت الأحداث المضادة للسامية في الجزائر بين الفرنسيين واليهود، بقيادة ماكس ريجس (M.Regis).

 

(1/2510)

 

 

منظمة باسم »جامعة أصدقاء الصهاينة« Ligue des Amis du Sionisme ) أخذت تجتذب إليها الأساتذة والشخصيات اليسارية.

وقبل إعطاء رأي فرنسا، اقترح بيكو على سوكولو أن يجتمع -أي سوكولو- بزعماء اليهود في فرنسا وفي مقدمتهم بعض أعضاء الرابطة الإسرائيلية العالمية، (1) قبل أن يعلن بيكو رأيه في التعاطف مع آمال الصهيونية. ومن جهة أخرى، كان بيكو يعرف أن رأي البارون ايدمونْ

__________

(1) تأسست سنة 1860 ، وقد تولى أدولف كريميو A.Cremieux)) رئاستها فترة، وهو صاحب قرار تجنيس يهود الجزائر جماعيا سنة 1870، وبعد أن صار وزيرا للعدل.

 

(1/2511)

 

 

روتشيلد (Ed. de Rotchild) له أهمية خاصة في هذا الموضوع، فقرر أن يدخله في المفاوضات أيضا بين الحكومة الفرنسية وممثلي الحركة الصهيونية الأجانب (غير الفرنسيين)، وذلك قبل إصدار أية تصريحات لصالح الصهيونية. لقد كان رأي البارون مهما جدا لأنه أولا سيعبر للحكومة عن اتفاق ورضى الجماعة اليهودية الرسمية للزعماء نحو الأهداف الصهيونية، وثانيا لأن وجهة نظره نحو الحركة الصهيونية ستجر العديد من العناصر المعادية لهذه الحركة بين اليهود الفرنسيين.

 

(1/2512)

 

 

وهكذا حصل الاِجتماع مع البارون روتشيلد في أبريل 1917. الاِجتماع الأول كان مع الزعماء الفرنسيين المسيرين للسياسة الخارجية عندئذ، وعلى رأسهم ليون بورجوا (L.Bourgeois) وجول كامبون(1)

__________

(1) جون كامبون سبق له أن كان حاكما عاما للجزائر بين 1892 و1897، ثم عين سفيرا لبلاده في واشنطن، قبل أن يتولى مسؤوليات أخرى، ومنها كاتب عام وزارة الخارجية حيث أصدر التصريح الفرنسي الموالي للصهيونية الذي نحن بصدده سنة 1917. انظر جول كامبون، حكومة الجزائر، 1918. أما أخوه بول كامبون، فقد سبق له أن كان المقيم العام في تونس ثمّ عين سفيرا لبلاده في لندن حيث كان سنة 1917.

 

(1/2513)

 

 

. والاِجتماع الثاني حصل مع البارون وسوكولو وكذلك مع العناصر النشطة من »الرابطة الإسرائيلية العالمية« وكان الاِجتماعان منفصلين.

لقد كان جول كامبون هو الكاتب العام (الوكيل) لوزارة الخارجية الفرنسية (الكي دورزي) Quai d’Orsay وكان أخوه بول كامبون سفيرا في بريطانيا. وفي 8 أبريل، اجتمع بهما سوكولو، وحضر الاِجتماع جورج بيكو وكذلك دي مارجري (De Margerie) مدير قسم الشؤون السياسية في وزارة الخارجية. ودار النقاش حول العواقب التي قد تنتج عن تصريح فرنسي يتعاطف مع آمال الصهيونية، ولا سيما العواقب بالنسبة

 

(1/2514)

 

 

للجهات اليهودية في أمريكا وروسيا. واتفقوا على أنه سيكون للتصريح نتائج إيجابية وفوائد لصالح الحرب والحلفاء. واتفقوا كذلك على أن ترسل في نهاية الاِجتماع، برقية بهذا المعنى إلى الدكتور تشيلونوف (Dr.Tchlenov) (روسيا) وجستس برندس (J.Branderis) (أمريكا)، وهما رئيسا المنظمتين الصهيونيتين على التوالي في بلديهما. وقد وقع سوكولو البرقية، ولكنها مرت عبر قنوات وزارة الخارجية الفرنسية. وجاء في البرقية ما معناه: أن نتائج إيجابية لمفاوضات لندن وباريس (and Paris) قد رحبت بها هنا وزارة خارجيتنا، وأن لي ثقة

 

(1/2515)

 

 

كاملة في أن النصر (للحلفاء) سيحقق آمالنا الصهيونية الفلسطينية. ونلاحظ أن الفرنسيين قد تركوا عبارة (وباريس) بارزة في البرقية تأكيدا على تدخُّل فرنسا في الموضوع (ص. 378).

وبعد باريس سعى سوكولو أيضا للحصول على نفس التصريح من إيطاليا وعلى دعمها لآمال الصهيونية في فلسطين.

 

تصريح جول كامبون (جوان) 1917:

سبقت هذا التصريح عدة تمهيدات واتصالات بين الزعماء الفرنسيين واليهود. فمن القاهرة أرسل بيكو برقية إلى الخارجية الفرنسية مؤكدا فيها إصدار تصريح فرنسي يتعاطف مع آمال الصهيونية. وقد بنى بيكو رأيه على عدة

 

(1/2516)

 

 

اعتبارات منها أنه فهم أن الصهاينة سيتركون موضوع السيادة على فلسطين للحلفاء، وأن سوكولو اعترف له بأن الأماكن المقدسة ستعرف وضعا خاصا، وأن الاِستيطان (الاِستعمار Settlement) اليهودي لن يشمل هذه الأماكن المقدسة.

كما أن جول كامبون ودي مارجوري والبارون روتشيلد، وكذلك سيلفان ليفي وهو من »الرابطة الإسرائيلية العالمية« عقدوا عدة اجتماعات. وقد عبّر سيلفان ليفي أثناءها بأنه » من الطبيعي أن اليهود الفرنسيين غير صهيونيين، ولكنهم يعترفون، بكل سرور، بأهمية وقيمة الحركة الصهيونية« (ص. 381).

 

(1/2517)

 

 

ومن جهة أخرى، حرر جول كامبون نفسه مذكرة عن طبيعة اليهود والصهيونية. وقد عبر فيها عن أنه في صالح الاِعتراف بموضع (Place (لتجمّع Groupement) اليهود في فلسطين، إلى جانب الجنسيات الأخرى (Nationalités) الموجودة فيها.

إن الدافع المباشر لتصريح كامبون هو الاِستعجال بإصدار بيان مكتوب معبر عن الوقوف إلى جانب آمال الصهيونية لكي يحصل التعاطف مع الجماهير اليهودية في روسيا المعارضة لحكومة القيصر المستبدة، وهي حكومة عضو في الوفاق الثلاثي (Triple Alliance). وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك عاملين آخرين متصلين

 

(1/2518)

 

 

بالموضوع، الأول هو خطر ألمانيا التي قد تحصل على دعم الصهيونية لوجود قرار سريع كان بصدد التحضير في برلين يعلن عن دعم ألمانيا للمشروع الصهيوني في فلسطين تحت الحماية الألمانية. والثاني هو رغبة كامبون في تجنيد ما يعتبره جماعة يهودية قوية في أمريكا لصالح الحلفاء والتأثير بها على حكومتهم لتقف إلى جانب التحالف مع بريطانيا وفرنسا. وقد كان كامبون سفيرا لبلاده في واشنطن ويعرف مدى النفوذ اليهودي هناك.

 

وقد راجت إشاعات واردة من بعض العواصم الأوروبية مثل لاهاي وكوبنهاكَن، وهي أن ألمانيا كانت تستعد لإصدار

 

(1/2519)

 

 

إعلان في صالح إقامة جمهورية يهودية في فلسطين. ومن ذلك خشية الفرنسيين من وقوع تفاهم أمريكي/ ألماني مع تركيا (طلعت باشا)، يدعم المطامع الصهيونية في مقابل تعويضات مالية من الدوائر الصهيونية وتخلي تركيا عن حكم فلسطين(1). كما أن كامبون كان يرى أنه رغم إعلان أمريكا الحرب على ألمانيا في 6 أبريل 1917 فإنها لم ترم بكل ثقلها في الحرب، وأن دور اليهود في أمريكا ضروري لدعم الحرب

__________

(1) عن العلاقة المالية والاِرتباط بين زعماء تركيا والحركة الصهيونية عندئذ، انظر البحث الذي ترجمناه (في »الجدل الثقافي«) مرجع سابق.

 

(1/2520)

 

 

والحلفاء.

إن تصريح كامبون جاء في شكل رسالة إلى سوكولو بتاريخ 4 جوان (حزيران) 1917، ومحتواه هو ما يلي: » إنك تقدر أنه إذا سمحت الظروف وتحقق استقلال الأماكن المقدسة، فإنه سيكون من الإنصاف إذا ساهمنا من خلال حماية دول الحلفاء، في إحياء الجنسية اليهودية على أرضها حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة خلت. إن الحكومة الفرنسية التي شاركت في الحرب الحاضرة للدفاع عن الشعوب المعتدى عليها ظلما والتي تواصل المعركة لتحقيق انتصار الحق على القوة، لا تستطيع سوى أن تشهد بتعاطفها مع قضيتكم التي يرتبط

 

(1/2521)

 

 

انتصارها بانتصار الحلفاء« (1) (ص. 384).

وقد تأثر سوكولو بهذا التصريح. وأرسل إلى كامبون خطابا مؤثرا معترفا بأهمية التصريح ومعتبرا إياه انتصارا معنويا كبيرا. أما حاييم وايزمان (H.Weizmann) ، زميل سوكولو، فقد خالفه في ذلك لأنه كان يخشى من أن الفرنسيين قد يستعملون تفاهمهم مع الصهاينة لأغراضهم

__________

(1) تصريح جول كامبون، وزارة الخارجية الفرنسية، المسألة اليهودية، باريس، الأرشيف السياسي، حرب 1914-1918،

صص. 44-45. من الكتابة العامة لوزارة الخارجية إلى السيد ناحوم سوكولو، 4 جوان 1917. انظر الملحق الأول.

 

(1/2522)

 

 

الخاصة، أي للمشاركة مع الإِنكَليز في فلسطين.

ومهما كان الأمر، فقد بقى التصريح الفرنسي غير منشور، ولم يجز توزيعه إلا داخليا فقط وعبر السفارات. والمفترض أنه قد نشر بين الدوائر اليهودية المؤثرة. غير أنه يُلاحظ في هذا

الصدد أنه لا الفرنسيون ولا الصهاينة قد نشروا محتوى التصريح علنيا لأسباب تتعلق بكل منهم.

والنتيجة هي أن التصريح الفرنسي قد شجع على إصدار تصريح (وَعْد) بلفور الذي جاء بعده زمنياً، وأنه قد صدر عن حكومة كانت تعتبر منافسة لبريطانيا في فلسطين. وقد أعطى التصريح الفرنسي أيضا لسايكس الفرصة

 

(1/2523)

 

 

المنتظرة للضغط على أعضاء الحكومة البريطانية وعلى من كانوا معارضين للآمال الصهيونية. ومن ثمة أصبح سايكس قادراً على إثارة موضوع » التصريح البريطاني« على أنه مجرد » مصلحة قومية «(1).

 

تصريح وزير الخارجية بيشون (14 فبراير 1918)

ظلت الاِتصالات بين الأطراف جارية لتحقيق كل طرف ما يراه في صالحه من غنيمة الاِنتصار في الشرق الأدنى وفي أوروبا. وبعد تصريح اللورد بلفور، وزير الخارجية الإِنكَليزي،

__________

(1) تصريح اللورد بلفور إلى اللورد روتشيلد، المتحف البريطاني، مخطوط 41178، فوليو رقم 1، 3 الثاني من نوفمبر 1917.

 

(1/2524)

 

 

جاء دور تصريح ستيفان بيشون وزير الخارجية الفرنسي. وهو بالطبع تأكيد لتصريح كامبون السابق.

وهناك تطورات جعلت تصريح بيشون ضروريا. فزعماء الصهيونية في فرنسا أصبحوا يلحون على الحكومة الفرنسية في تأييد التصريح البريطاني الذي تضمن عبارة » الوطن القومي« لليهود. كما أن رئيس الحكومة السابق ريبو (Ribot) قد ترك مكانه لجورج كليمنصو (G.Clemenceau) 17 نوفمبر 1917. وفي ديسمبر استولت القوات البريطانية على بيت المقدس فأعلن الصهاينة الفرنسيون ترحيبهم بذلك دون الإشارة إلى اسم فرنسا. ثم إن مؤتمرا صهيونيا كبيرا كان

 

(1/2525)

 

 

على وشك الاِنعقاد في أمريكا. وكان من المقرر أن تحضره شخصيات صهيونية من روسيا وبريطانيا. وألف الصهاينة أيضا لجنة تضم ممثلين عن يهود أمريكا وروسيا وبريطانيا لتتوجه إلى فلسطين للتحضير لما وعد به بلفور وهو إقامة » الوطن القومي اليهودي«. وليس في هذه اللجنة ممثل يهودي من أصل فرنسي.

كل ذلك جعل المسألة أمام كليمنصو ووزير خارجيته بيشون تحتاج إلى إعلان موقف. جاء سوكولو إلى باريس من جديد في يناير 1918. وكان عليه أن يعلن للفرنسيين أن الحركة الصهيونية ليس لها نية في إقامة » دولة يهودية« في فلسطين وإنما لها

 

(1/2526)

 

 

نية إنشاء وطن قومي يهودي (Foyer National Juif). وجاءت دعوة سوكولو إلى باريس هذه المرة من السيد غو (Gout) بإيعاز من مارك سايكس. وكان غو هو المتولي عندئذ قسم آسيا بوزارة الخارجية الفرنسية، كما أنه قد تولى المسألة الصهيونية في باريس في غياب بيكو الذي أُرسل إلى فلسطين. وأثناء اللقاء بين الفرنسيين وسوكولو، كان على هذا أن يقنعهم بضرورة مشاركة عضو يهودي من أصل فرنسي في اللجنة الصهيونية المتوجهة إلى فلسطين.

 

(1/2527)

 

 

وبتقديم خاص من غو، استقبل الوزير بيشون الزعيم الصهيوني سوكولو في 9 فبراير. وعبّر له بيشون عن استعداده لإصدار بيان صحفي يؤكد التفاهم الموجود بين الإِنكَليز والفرنسيين حول المسألة الصهيونية. وبعد أن رجع سوكولو إلى غرفته في الفندق، كتب إلى غو يشكره على إعداد اللقاء مع وزير ا لخارجية ويؤكد أن إصدار بيان » واضح العبارة« يجب أن يكون هو نقطة الاِنطلاق للدعاية الفرنسية بين الملايين من إخوانه في الدين (اليهود) بالولايات المتحدة الأمريكية.

 

(1/2528)

 

 

وهناك أيضا دور تارديو (Tardieu)، المحافظ السامي الفرنسي في نيويورك، في إصدار التصريح الفرنسي الثاني الموالي للصهيونية. فقد كان تارديو مبقيا على العلاقات مع زعماء هذه الحركة في نيويورك، ولا سيما مع برندس، وفي مراسلاته مع وزارة خارجية بلاده كان تارديو يستعمل مختلف الحجج لإصدار تصريح جديد. وكان يبين النفوذ المالي والسياسي لليهود في نيويورك وكون زعمائهم يؤيدون الاِستعمار (Colonisation) اليهودي في فلسطين. وذهب تارديو إلى حد الاِقتراح بنقل جماعة من اليهود كانوا يعيشون في كانيا (كورسيكا) إلى فلسطين،

 

(1/2529)

 

 

لأن نقلهم تحت العلم الفرنسي إلى هناك يُعدُّ إشارة فرنسية جيّدة نحو اليهود عموما.

في اللقاء الذي جمع بيشون بسوكولو يوم 9 فبراير لم يرض سوكولو بعبارة المستوطنة (Settlement) اليهودية في فلسطين التي وردت على لسان بيشون، وطلب عبارة واضحة من الفرنسيين تتماشى مع الآمال الصهيونية. وبعد التأمل والتروي خلال بضعة أيام، طلب سوكولو مجددا تغيير التعبير » المستوطنة« إلخ. السابق واستبداله بالعبارة التي وردت في التصريح البريطاني، وهي » وطن قومي يهودي«. وبرر سوكولو ذلك بأهمية التصريح والتعبير لدى اليهود

 

(1/2530)

 

 

الأمريكيين. كما أن رسالة سوكولو تضمنت اقتراحاً بتعيين وفد فرنسي ينضم إلى الوفد (اللجنة) الصهيوني المتوجه إلى فلسطين، على أن يتمتع الوفد بثقة حكومته.

وقد استجاب بيشون لهذا الطلب وأصدر يوم 14 فبراير تصريحا أكد فيه الموقف الفرنسي واستعمل فيه تعبير » الوطن القومي« (Foyer National) الذي طلب منه سوكولو، وجاء تصريح بيشون، في صيغة رسالة موجهة إلى سوكولو، معلناً له فيها أن بياناً صحفياً قد صدر عن الحكومة الفرنسية بالمعنى المذكور. وها هو نص بيشون:

 

(1/2531)

 

 

»كما اتفقنا عليه خلال محادثاتنا يوم السبت التاسع من هذا الشهر، فإن حكومة الجمهورية (الفرنسية)، بالنظر إلى تحديد وجهة نظرها نحو الآمال الصهيونية العازمة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد نشرت مذكرة في الصحافة. وإني إذ أقدم إليك هذا النص، فإني أغتنم الفرصة لتهنئتكم على إخلاصكم المتفاني الذي تابعتم به إنجاز آمال إخوانكم في الدين، ثم لأشكركم على الحماس الذي أظهرتموه لتقديم مشاعر التعاطف التي لقيتها جهودكم في بلدان الوفاق، وبالخصوص في فرنسا« (1)

__________

(1) تصريح ستيفان بيشون، وزارة الخارجية في باريس، الأرشيف السياسي، حرب 1914-1918. المسألة اليهودية، م 5، ص. 19، من س.

بيشون إلى ن. سوكولو، 14 فبراير 1918. انظر الملحق الثاني .

 

(1/2532)

 

 

. (ص. 391).

وفي يوم 16 فبراير أبرقت » الإِتحادية الصهيونية الفرنسية« (French Zionist Federation) معلنة إلى الزعماء الصهيونيين في موسكو وبتروكراد والأوديسة، وروما ولاهاي ونيويورك وكوبنهاكَن، والقاهرة عن الاِتفاق التام بين فرنسا وإنكلترا حول مسألة (فلسطين اليهودية)«، وداعية إياهم إلى تنظيم مظاهرات الدعم والتعبير عن الإِعتراف بالجميل للحكومة الفرنسية.

وكانت السياسة الصهيونية العامة تتمركز في الحصول على موافقة الدول المتحالفة الأخرى على وعد بلفور. ولذلك كان سوكولو مصرا على أن تصدر الحكومة الإيطالية

 

(1/2533)

 

 

أيضا تصريحا مماثلا لتصريح بيشون.

أما بيكو، فقد ترك على الهامش من هذه التطورات. فلم يعلم عن تصريح بيشون إلا من خلال المصادر الإِنكَليزية في المشرق. وهكذا وجد نفسه غريباً أمام تصريح 9 ثم 14 فبراير 1918 المساند للصهيونية. وقد اندهش من أن حكومته لم تصدر تصريحا لصالح العرب كما كان يرغب. وشكا إلى حكومته من كونها لم تستشره قبل تصريح بيشون، وحذرها من ردود الفعل في سورية ولبنان. وقد كان بيكو يريد تحضير الرأي العام في سورية ولبنان للاِنتداب الفرنسي.

 

(1/2534)

 

 

لكن بيكو تلقى من حكومته نُسخا فقط من الوثائق التي أرسلتها وزارة الخارجية إلى المحافظ السامي الفرنسي في نيويورك (وهو تارديو)، وهي الوثائق التي تلح على الأثر الإيجابي لتصريح بيشون على يهود أمريكا. وطلبت الوزارة من بيكو أن يعمل على إفهام السكان، يهودا وغير يهود (كذا) من أن الحكم الذي سينشأ هناك بعد الحرب لن يكون في صالح طرف على حساب طرف آخر، وأن الوئام بين جميع العناصر هو الشرط الضروري في تمتع الجميع بالتقدم والرخاء بعد الحرب.

 

(1/2535)

 

 

أما تارديو، فقد أرسل برقية يوم 9 فبراير من نيويورك جاء فيها أن وزير الداخلية الألماني قد استقبل وفداً صهيونياً ووعدهم بإقامة سلطة حكم ذاتي (Autonomy) في فلسطين. وكان هدف برقية تارديو هو التعجيل بإصدار الحكومة الفرنسية تصريحا مواليا للصهيونية. وبعد أيام من تصريح بيشون، أخبر تارديو عن فرحة يهود أمريكا بالتصريح الفرنسي، وعن شكر فرنسا الذي عبرت عنه مختلف افتتاحيات الجرائد اليهودية بأمريكا.

وفي اليوم التالي لتصريح بيشون (أي يوم 15 فبراير 1918)، جاء الإعلان عن اتفاق الحكومتين الفرنسية والبريطانية حول

 

(1/2536)

 

 

الوضع المحفوظ للصهيونية في فلسطين. فكلتاهما تعترف بمنشأة (Establishment) يهودية في فلسطين، مع تمكين اليهود من حكم ذاتي إداري في إطار دولة عالمية (International State) ستنشأ في هذه البلاد (فلسطين). ولعل استعمال تعبير » المنشأة اليهودية« جاء من موقف وزارة الخارجية الفرنسية التي تريد أن تقف موقفا وسطا بين طالبي الحد الأقصى وهو إقامة دولة يهودية وخصوم هذه الفكرة.

لقد كان هناك بعض ردود الفعل على الموقف الفرنسي من الصهيونية. فدوائر الكاثوليك والاِستشراق وبعض العرب تحركوا ولكن لم يكن لهم فعالية. كما

 

(1/2537)

 

 

كانت هناك اللجنة المركزية السورية في باريس، ولكن موقفها كان غير فعال أيضا، ومعظم العرب المتواجدين في فرنسا عندئذ كانوا من المسيحيين السوريين، ويرأسهم شكري غانم، وكانت فرنسا هي التي تدفع إليهم الأموال. ولذلك كان مطلبهم يتمثل في قطع سورية عن الدولة العثمانية ووضعها تحت حكم فرنسي. وكانوا على صلة ببعض العرب الآخرين في الخارج. غير أن أنصارهم في سورية نفسها كانوا قلة. ولم يكن لهم أي أثر على فصل فلسطين عن سورية وإقامة الوطن القومي فيها لليهود، كما لم يكن لهم أي أثر في معارضة الفكرة بعد ذلك.

 

(1/2538)

 

 

وهكذا تبين أن سنة 1917 كانت حاسمة ليس لأن بلفور والإِنكَليز وعدوا الصهاينة بالوطن القومي لليهود في فلسطين، بل لأن الفرنسيين قد فعلوا ذلك أيضا. وقد لاحظنا أن تصريح كامبون جاء قبل تصريح بلفور. كما أن تصريح بيشون وموافقة الفرنسيين على الوطن القومي اليهودي قد جاءت في بداية 1918 على عهد وزارة جورج كليمنصو. ويبدو أن ثلاثين سنة من الاِنتداب البريطاني على فلسطين قد جعل الناس ينسون دور الدول الأخرى، مثل فرنسا وألمانيا وتركيا في المنطقة. فهل كان التصريح الفرنسي مختلفا في المحتوى عن التصريح الإِنكَليزي؟

 

(1/2539)

 

 

أو هل أن الصهاينة لم يروا فيه إنجازا كبيرا أو هو أقل أهمية في نظرهم من التصريح البريطاني؟ وقد انتهى الكاتب إيدي كوفمان إلى أن الذي جعل بلفور يصدر تصريحه هو عزيمة بريطانيا على امتلاك فلسطين وليس نتيجة للضغط الصهيوني. إن هناك عدة دراسات لتصريح بلفور، مثل دراسة ليونارد شتاين (L.Stein) ثمّ دراسة فيرتي (Mayir Verete) الذي أعطى التصريح تفسيرا جديدا ورأى أن التصريح الفرنسي الرسمي لصالح الصهيونية هو الذي ساهم في إصدار التصريح البريطاني المعروف بوعد بلفور. وها هي مقالة إيدي كوفمان تعمق هذا التفسير بناء

 

(1/2540)

 

 

على الوثائق الفرنسية التي افتتحت حديثا أمام الباحثين(1). أما الخاسرون في هذه التطورات كلها فهم العرب، والمسلمون.

Selected Bibliography

 

Ageron, Charles-Robert, les Algériens Musulmans et la France, Vol.

1-2, P.U.F., Paris, 1968.

__________

(1) ناقش موضوع الصهيونية الحلفاء، ولاسيما بريطانيا وفرنسا، إيلي كدوري (E.Keddourie) »المذكرات العربية الباحثية ودراسات أخرى«، لندن، 1974، صص. 236-242، وتعرض أيضا لرأي فيربتي وشتاين.

 

(1/2541)

 

 

Andrew, F.Fern, The Holy Land Under Mandate, Vol. 1, Hyperion Press, Westport, Conn., 1976.

Cambon, Jules, Gouvernement de l’Algérie, Alger, 1918.

Geddes, Charles L., A Documentary History of the Arab-Israeli conflict, Praeger, New York, 1991.

Gorny, Yosef, Zionism And The Arabs, 1882-1948, A Study of Ideology, Clarendon Press, Oxford, 1987.

John, Robert and Hadawi, Sami, The Palestine Diary, Vol 1-2, New World Press, New York, 1971.

 

(1/2542)

 

 

Kaufman, Edy, « The French Pro-Zionist Declarations of 1917-1918 », Middle Eastern Studies, 15, no. 3, October 1979.

Khaldi, Walid. Ed., From Haven To Conquest, 2 Printing, Washington, The Institute For Palestine Studies, 1987.

Rizk, Edward, Trans., The Palestine Question, The Institute for Palestine Studies, Beirut, 1968.

 

الملحق الأول

تصريح جول كامبون (Jules Cambon)

إنك تقدر أنه إذا حتمت الظروف وتأكد استقلال الأماكن المقدسة، فإنه سيكون من العدل والإنصاف أن نساهم، من خلال الدول المتحالفة، في

 

(1/2543)

 

 

إحياء الجنسية (Nationality) اليهودية على أرضها (On ones land) الخاصة بها حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة خلت.

إن الحكومة الفرنسية التي اشتركت في الحرب الحاضرة للدفاع عن الشعوب التي تعرضت للاعتداء الظالم، والتي تواصل المعركة لضمان انتصار الحق على القوة، لا يمكنها إلا أن تبرهن على تعاطفها مع قضيتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء.

Jules Cambon جول كامبون

Ministère des Affaires Etrangères, Paris, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, pp. 44-45.

 

(1/2544)

 

 

الأمين العام لوزارة الخارجية إلى السيد ناحوم سوكولو (N.Sokolow.).

 

الملحق الثاني

تصريح ستيفان بيشون (Stephen Pichon)

كما اتفق عليه أثناء حديثنا يوم السبت التاسع من هذا الشهر، فإن حكومة الجمهورية [الفرنسية]، بالنظر إلى تحديد وجهتها من الآمال الصهيونية العازمة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، قد نشرت مذكرة في الصحافة.

وفي الوقت الذي أرسل إليكم هذا النص، فإني أغتنم الفرصة لأهنئكم على إخلاصكم المتفاني الذي واصلتم به سعيكم لتحقيق رغبات إخوانكم في الدين (Co-religionistes) وأشكركم على غيرتكم التي

 

(1/2545)

 

 

أبديتم بها مشاعر العطف التي حظيت بها في بلدان الوفاق وبالأخص في فرنسا.

(Stephen Pichon) ستيفان بيشون

Ministère des Affaires Etrangères, Paris, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, Vol. 5, p.19,

من س. بيشون إلى ن. سوكولو، 14 فبراير 1918.

أثناء استقبال حظي به السيد سوكولو من قبل بيشون، وزير الخارجية، أعلن بيشون باسم الحكومة الفرنسية، أن هناك تفاهما كاملا بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية فيما يتعلق بمسألة الاستيطان اليهودي في فلسطين.

 

(1/2546)

 

 

Ministère des Affaires Etrangères, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, Vol. 5, p. 144, February 9, 1918. Communiqué destiné à la presse.

 

(1/2547)

 

 

التصريحات الفرنسية الموالية للصهيونية(1917 - 1918)

... ... ... ...

الدكتور أبو القاسم سعد الله

الجامعة الجزائرية - الجزائر

 

إلى الآن لا يعرف إلا القلائل أن فرنسا وعدت الصهاينة بوطن قومي قبل أن تعدهم به بريطانيا . فالمشهور هو فقط وعد أو تصريح بلفور A.J. Balfour الإنجليزي، وليس وعد أو تصريح جول كامبون (J.Cambon) وبيشون (S.Pichon) الفرنسيين. والتي فتحت للباحثين بعد خمسين سنة على أحداثها. هذا البحث قاد إلى الكشف عن الوعود الفرنسية للصهاينة بتعاطف فرنسا مع إنشاء المستوطنات اليهودية وبعث الدولة

 

(1/2548)

 

 

العبرية في فلسطين. وقد كشف البحث أيضا عن التنسيق بين الحركة الصهيونية من جهة، وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، بل عن التآمر بين الحلفاء ويهود العالم خلال سنتي 1917 و1918 على مستقبل بلاد العرب والإسلام.

ونحن لم نرجع إلى الوثائق الفرنسية المذكورة بصفة مباشرة، ولكننا اطلعنا بالخصوص على بحث إيدي كوفمان(1)

__________

(1) اعتمدنا على عدة مراجع، وبالأخص بحث إيدي كوفمان (Edy Kaufman) » التصريحات الفرنسية الموالية للصهيونية سنة 1917-1918«، في مجلة دراسات الشرق الأوسط (Middele Easter Studies)، المجلد 15، عدد 3، أكتوبر 1997، صص. 374-407. أما فيما يتعلق بأوضاع المشرق العربي عموما، فهناك الكثير من الكتب والأبحاث والمذكرات، ولم نر ضرورة لذكرها هنا.

 

(1/2549)

 

 

الذي رجع إليها ودرسها بدقة واستخرج منها وجهة النظر الفرنسية والبريطانية والصهيونية خلال التاريخ المذكور. وقد انطلق الباحث من فكرة قد تبدو جديدة إلى

حد كبير، وهي أن وعد بلفور قد جاء بعد وعد كامبون الفرنسي، وأن بريطانيا كانت حريصة على الحصول من فرنسا على ذلك الوعد للحركة الصهيونية لأن المصلحة البريطانية تقتضي إبعاد فرنسا عن فلسطين. وأن بريطانيا هي التي أغرقت ونسقت مع الصهاينة على أن تكون هي صاحبة السيادة على فرنسا وليس فرنسا على فلسطين.

 

(1/2550)

 

 

ومن أجل ذلك قام مارك سايكس (M. Sykes)، المفاوض الإنكليزي بالعمل مع جورج بيكو (G. Picot) المفاوض الفرنسي، على تقسيم فلسطين بين بريطانيا وفرنسا، وكسر الطموح الفرنسي القائم على الاِدعاء التاريخي والنفوذ الروحي في جعل فلسطين فرنسية فقط. والخطوة الثانية التي خطاها سايكس هي جعل حصة بريطانيا في التقسيم أكبر بكثير من الحصة الفرنسية. أما الخطوة الثالثة، فهي استعمال الضغط الصهيوني على فرنسا لكي تصدر تصريحا لصالح الصهيونية في فلسطين. وأما الخطوة الأخيرة، فهي ضمان السيادة البريطانية على فلسطين باقتناع

 

(1/2551)

 

 

اليهود عموما والصهيونية بالخصوص بأن ذلك أفضل لها من السيادة الفرنسية عليها. وبعد التحضير لكل ذلك، صدر وعد بلفور المعروف.

ويرجع المخطط في الأساس إلى الموقف من الدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا وإلى تقسيم المشرق العربي بين الحلفاء بما فيهم بريطانيا وفرنسا وروسيا. ومنذ 1916، فاوض الحلفاء بعدة أفواه وكتبوا عدة اتفاقات ظلت سرية وكانت في جوهرها متناقضة. ويهمنا من ذلك كله محادثات الشريف حسين / ماكماهون، واتفاق سايكس / بيكو والوعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد كان هذا

 

(1/2552)

 

 

الوعد مقتصرا على وزارة الخارجية البريطانية، ولكنه أصبح الآن وعدا مزدوجا بعد إضافة تصريح وزارة الخارجية الفرنسية أيضا إليه والذي كان في الواقع سابقا للتصريح البريطاني.

ونص اتفاق سايكس/ بيكو سنة 1916 على تقسيم فلسطين بين فرنسا وبريطانيا. ولنتذكر أن فلسطين عندئذ كانت جغرافيا جزءا من سورية الكبرى وبلاد الشام. وبناء على الاتفاق المذكور، فإن شمال بحيرة طبرية كان سيدخل في حكم الفرنسيين (وكذلك سورية ولبنان). وأما عكا ويافا وجزء من شرق الأردن وصحراء النقب، على خط يمتد من رفح إلى شمال البحر

 

(1/2553)

 

 

الميت، فقد كان سيدخل في حكم الإنكليز. ومع ذلك، شعر كل طرف بأنه لم يحقق مرغوبه كاملا. فالإِنكَليز اعتبروا مفاوضهم سايكس معتدلا نحو المطالب الفرنسية. ومن جهة أخرى، اعتبر الفرنسيون ما حصلوا عليه أقل من آمالهم، لأنهم كانوا يطمعون في حكم الأماكن المقدسة التي قالوا أن الباب العالي والدول الأوروبية قد اعترفت لهم سابقا بحمايتها.

وتنفيذا لاتفاق سايكس/بيكو المذكور عزم الإِنكَليز على مهاجمة العثمانيين في فلسطين في يناير عام 1917. وانطلقوا من العريش. حاول الفرنسيون ثنيهم لعدم وجود قوات فرنسية في هذا

 

(1/2554)

 

 

الهجوم. كان الفرنسيون يخشون أن يبقوا خارج فلسطين ويؤول أمرها كله للإِنكَليز إذا لم تكن لهم مشاركة في الحرب هناك، وبذلك تضيع آمالهم ويضيع حقهم في أية مفاوضات بشأن فلسطين. ثم حاول الفرنسيون أن يشتركوا بقوة رمزية لتحقيق الغرض المذكور، فرفض الإِنكَليز اشتراكهم في أول الأمر ثم وافقوا بشرط ألا تتعدى القوة الفرنسية 2800 جندي. ثم جرى الخلاف بينهم حول رتبة قائد هذه القوة. ففرنسا عينت قائدا لها برتبة جنرال، فرفض الإِنكَليز ذلك حتى لا يكون في نفس رتبة القائد الإِنكَليزي، وكان على فرنسا أن تكتفي بتعيين

 

(1/2555)

 

 

القائد برتبة عقيد.

عين الفرنسيون ثلاث فرق جزائرية ضمن القوة المذكورة، وكانت مهمة هذه الفرق هي الإشراف على السكة الحديدية بين يافا والقدس، وحراسة المؤسسات الفرنسية في فلسطين، وكذلك حراسة الأماكن المقدسة التي كان يعترف لفرنسا بحمايتها في السابق. وبينما هاجم الإِنكليز من غزة في 31 أكتوبر 1917 ووصلوا إلى يافا في 19 نوفمبر، ظلت الفرق الفرنسية في خان يونس، شمال سينا، ولم تتحرك تقريبا. وذلك هو ما جعل موقف فرنسا العسكري ضعيفا وجعل دبلوماسييها في موقف لا يطلبون معه الكثير حول فلسطين حين جاء وقت توزيع

 

(1/2556)

 

 

الغنائم.

كان جورج بيكو هو الخبير والدبلوماسي الذي عُيّن محافظا في المناطق المحتلة من فلسطين وسورية. وكان يستعد للتوجه إلى القاهرة عندما طلب منه زميله الإِنكليزي، سايكس أن يزور لندن بصفة مستعجلة قبل القاهرة. وكان سايكس قد خطط للقاء مباشر يتم بين بيكو والزعماء الصهاينة في لندن. ذلك أن سايكس كان مقتنعا بأن أي اعتراض يصدر من أية جهة حول خطة

بريطانيا في فلسطين، من العرب أو من الإيطاليين أو من الروس، لا يمكن أن يكون في درجة الخطورة التي يمثلها اعتراض فرنسا على الخطة. فكان ضمان موافقة فرنسا أمرا

 

(1/2557)

 

 

ضروريا في نظر سايكس.

وفي 8 فبراير 1917 التقى بيكو والزعيم الصهيوني نحوم سوكولو N.Sokolow(1) في لندن. فقد قدم سايكس زميله الفرنسي بيكو إلى سوكولو ثم انسحب. وتركهما وحدهما للدخول في المحادثات. وكان سايكس قد اتفق مع سوكولو قبل ذلك

__________

(1) كان سوكولو (سوكولوف) عضوا رئيسيا في المنظمة الصهيونية العالمية المتمركزة في كولون (ألمانيا). وقد لعبت دورا في التأثير على حركة الاِنقلاب العثماني. انظر ترجمتنا لبحث الأستاذ روبيرت أولسون (R.Olson) (جامعة كونتاكي) في كتابنا » في الجدل الثقافي«، دار المعارف، تونس، 1990.

 

(1/2558)

 

 

على أن يُقنع بيكو بأن الصهاينة يفضلون السيادة البريطانية على فلسطين وليس الفرنسية. وهكذا أثار سوكولو هذه النقطة مع بيكو بكل صراحة، فأجابه بيكو بأن لفرنسا آمالها في فلسطين ولا يمكنها أن تتخلى عنها، بل أخبره أن 95% من الشعب الفرنسي يفضلون إلحاق (كذا) فلسطين بفرنسا. وكان سوكولو عازما على السفر إلى فرنسا، في اليوم التالي لنفس الغرض، فطلب منه بيكو ألا يثير مسألة الصهيونية في فرنسا خلال الاِجتماع لأن معظم يهود فرنسا معارضون للصهيونية، ولأن الشعور الفرنسي نحو فلسطين شعورْ قويّ. ومن جهته وعده بيكو

 

(1/2559)

 

 

بإخطار الحكومة الفرنسية بالموضوع بطريقة متعاطفة مع المطلب الصهيوني.

وقد بقيت مسألة السيادة على فلسطين مسألة حساسة بين فرنسا وبريطانيا. فاقترح سايكس ذات مرة اسم أمريكا لكي تكون هي الحامية المحايدة لفلسطين. وكان ذلك قبل دخول أمريكا الحرب طبعاً. ولكن الفرنسيين رفضوا الاقتراح بحذر. ثمّ إن سايكس قد تراجع أيضا عن رأيه. وفي اجتماع عقد بباريس بين سايكس وبيكو وسوكولو وممثل الأرمن، طرح سوكولو الموضوع على بيكو بطريقة مبسطة قائلا: إن موقف الصهاينة حول السيادة هو موقف طفل يُسأل: هل يحب أمه أكثر من أبيه

 

(1/2560)

 

 

(يعني بريطانيا أو فرنسا)، ولذلك اقترح سوكولو أن تبقى المسألة بين الحكومتين. وكان واضحا أن سايكس يستعمل الصهاينة ذريعة لتنفيذ المخطط البريطاني في فلسطين.

وبدأ سايكس ضغوطه في الحصول من الفرنسيين على وعد بالتعاطف مع الآمال الصهيونية قبل مغادرة بيكو إلى القاهرة. وكانت وجهة نظر سوكولو أن بيكو كان حجر عثرة في الطريق لأنه (بيكو) كان يفضل أن تكون السيادة فرنسية على فلسطين مع الاِعتراف بالآمال الصهيونية. وكان وضع الصهيونية في فرنسا مختلفا عنه في بريطانيا. فهناك خلاف بين المنظمات الصهيونية في فرنسا من

 

(1/2561)

 

 

جهة، وبينها وبين نفس المنظمات في بريطانيا. وبالإضافة إلى التنافس، كانت الصهيونية في فرنسا معظمها من اليهود المهاجرين من شرق أوروبا. ولم يكن لهم نفوذ سياسي واقتصادي، وكان وضعهم الاِجتماعي مهزوزا(1). وابتداءً من سنة 1917 أسس بعض الشباب اليهود في فرنسا (مثل روجي ليفي [R.Levy] وأندري سبير [A.Spire])

__________

(1) عاشت فرنسا في الثمانينات من القرن الماضي أزمة حادة تعرف بأزمة الضابط اليهودي دريفوس (Dreyfus). وفي آخر القرن وقعت الأحداث المضادة للسامية في الجزائر بين الفرنسيين واليهود، بقيادة ماكس ريجس (M.Regis). ==

ج4. مجلة التاريخ العربي

 

منظمة باسم »جامعة أصدقاء الصهاينة« Ligue des Amis du Sionisme ) أخذت تجتذب إليها الأساتذة والشخصيات اليسارية.

وقبل إعطاء رأي فرنسا، اقترح بيكو على سوكولو أن يجتمع -أي سوكولو- بزعماء اليهود في فرنسا وفي مقدمتهم بعض أعضاء الرابطة الإسرائيلية العالمية، (1) قبل أن يعلن بيكو رأيه في التعاطف مع آمال الصهيونية. ومن جهة أخرى، كان بيكو يعرف أن رأي البارون ايدمونْ

__________

(1) تأسست سنة 1860 ، وقد تولى أدولف كريميو A.Cremieux)) رئاستها فترة، وهو صاحب قرار تجنيس يهود الجزائر جماعيا سنة 1870، وبعد أن صار وزيرا للعدل.

 

(1/2563)

 

 

روتشيلد (Ed. de Rotchild) له أهمية خاصة في هذا الموضوع، فقرر أن يدخله في المفاوضات أيضا بين الحكومة الفرنسية وممثلي الحركة الصهيونية الأجانب (غير الفرنسيين)، وذلك قبل إصدار أية تصريحات لصالح الصهيونية. لقد كان رأي البارون مهما جدا لأنه أولا سيعبر للحكومة عن اتفاق ورضى الجماعة اليهودية الرسمية للزعماء نحو الأهداف الصهيونية، وثانيا لأن وجهة نظره نحو الحركة الصهيونية ستجر العديد من العناصر المعادية لهذه الحركة بين اليهود الفرنسيين.

 

(1/2564)

 

 

وهكذا حصل الاِجتماع مع البارون روتشيلد في أبريل 1917. الاِجتماع الأول كان مع الزعماء الفرنسيين المسيرين للسياسة الخارجية عندئذ، وعلى رأسهم ليون بورجوا (L.Bourgeois) وجول كامبون(1)

__________

(1) جون كامبون سبق له أن كان حاكما عاما للجزائر بين 1892 و1897، ثم عين سفيرا لبلاده في واشنطن، قبل أن يتولى مسؤوليات أخرى، ومنها كاتب عام وزارة الخارجية حيث أصدر التصريح الفرنسي الموالي للصهيونية الذي نحن بصدده سنة 1917. انظر جول كامبون، حكومة الجزائر، 1918. أما أخوه بول كامبون، فقد سبق له أن كان المقيم العام في تونس ثمّ عين سفيرا لبلاده في لندن حيث كان سنة 1917.

 

(1/2565)

 

 

. والاِجتماع الثاني حصل مع البارون وسوكولو وكذلك مع العناصر النشطة من »الرابطة الإسرائيلية العالمية« وكان الاِجتماعان منفصلين.

لقد كان جول كامبون هو الكاتب العام (الوكيل) لوزارة الخارجية الفرنسية (الكي دورزي) Quai d’Orsay وكان أخوه بول كامبون سفيرا في بريطانيا. وفي 8 أبريل، اجتمع بهما سوكولو، وحضر الاِجتماع جورج بيكو وكذلك دي مارجري (De Margerie) مدير قسم الشؤون السياسية في وزارة الخارجية. ودار النقاش حول العواقب التي قد تنتج عن تصريح فرنسي يتعاطف مع آمال الصهيونية، ولا سيما العواقب بالنسبة

 

(1/2566)

 

 

للجهات اليهودية في أمريكا وروسيا. واتفقوا على أنه سيكون للتصريح نتائج إيجابية وفوائد لصالح الحرب والحلفاء. واتفقوا كذلك على أن ترسل في نهاية الاِجتماع، برقية بهذا المعنى إلى الدكتور تشيلونوف (Dr.Tchlenov) (روسيا) وجستس برندس (J.Branderis) (أمريكا)، وهما رئيسا المنظمتين الصهيونيتين على التوالي في بلديهما. وقد وقع سوكولو البرقية، ولكنها مرت عبر قنوات وزارة الخارجية الفرنسية. وجاء في البرقية ما معناه: أن نتائج إيجابية لمفاوضات لندن وباريس (and Paris) قد رحبت بها هنا وزارة خارجيتنا، وأن لي ثقة

 

(1/2567)

 

 

كاملة في أن النصر (للحلفاء) سيحقق آمالنا الصهيونية الفلسطينية. ونلاحظ أن الفرنسيين قد تركوا عبارة (وباريس) بارزة في البرقية تأكيدا على تدخُّل فرنسا في الموضوع (ص. 378).

وبعد باريس سعى سوكولو أيضا للحصول على نفس التصريح من إيطاليا وعلى دعمها لآمال الصهيونية في فلسطين.

 

تصريح جول كامبون (جوان) 1917:

سبقت هذا التصريح عدة تمهيدات واتصالات بين الزعماء الفرنسيين واليهود. فمن القاهرة أرسل بيكو برقية إلى الخارجية الفرنسية مؤكدا فيها إصدار تصريح فرنسي يتعاطف مع آمال الصهيونية. وقد بنى بيكو رأيه على عدة

 

(1/2568)

 

 

اعتبارات منها أنه فهم أن الصهاينة سيتركون موضوع السيادة على فلسطين للحلفاء، وأن سوكولو اعترف له بأن الأماكن المقدسة ستعرف وضعا خاصا، وأن الاِستيطان (الاِستعمار Settlement) اليهودي لن يشمل هذه الأماكن المقدسة.

كما أن جول كامبون ودي مارجوري والبارون روتشيلد، وكذلك سيلفان ليفي وهو من »الرابطة الإسرائيلية العالمية« عقدوا عدة اجتماعات. وقد عبّر سيلفان ليفي أثناءها بأنه » من الطبيعي أن اليهود الفرنسيين غير صهيونيين، ولكنهم يعترفون، بكل سرور، بأهمية وقيمة الحركة الصهيونية« (ص. 381).

 

(1/2569)

 

 

ومن جهة أخرى، حرر جول كامبون نفسه مذكرة عن طبيعة اليهود والصهيونية. وقد عبر فيها عن أنه في صالح الاِعتراف بموضع (Place (لتجمّع Groupement) اليهود في فلسطين، إلى جانب الجنسيات الأخرى (Nationalités) الموجودة فيها.

إن الدافع المباشر لتصريح كامبون هو الاِستعجال بإصدار بيان مكتوب معبر عن الوقوف إلى جانب آمال الصهيونية لكي يحصل التعاطف مع الجماهير اليهودية في روسيا المعارضة لحكومة القيصر المستبدة، وهي حكومة عضو في الوفاق الثلاثي (Triple Alliance). وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك عاملين آخرين متصلين

 

(1/2570)

 

 

بالموضوع، الأول هو خطر ألمانيا التي قد تحصل على دعم الصهيونية لوجود قرار سريع كان بصدد التحضير في برلين يعلن عن دعم ألمانيا للمشروع الصهيوني في فلسطين تحت الحماية الألمانية. والثاني هو رغبة كامبون في تجنيد ما يعتبره جماعة يهودية قوية في أمريكا لصالح الحلفاء والتأثير بها على حكومتهم لتقف إلى جانب التحالف مع بريطانيا وفرنسا. وقد كان كامبون سفيرا لبلاده في واشنطن ويعرف مدى النفوذ اليهودي هناك.

 

وقد راجت إشاعات واردة من بعض العواصم الأوروبية مثل لاهاي وكوبنهاكَن، وهي أن ألمانيا كانت تستعد لإصدار

 

(1/2571)

 

 

إعلان في صالح إقامة جمهورية يهودية في فلسطين. ومن ذلك خشية الفرنسيين من وقوع تفاهم أمريكي/ ألماني مع تركيا (طلعت باشا)، يدعم المطامع الصهيونية في مقابل تعويضات مالية من الدوائر الصهيونية وتخلي تركيا عن حكم فلسطين(1). كما أن كامبون كان يرى أنه رغم إعلان أمريكا الحرب على ألمانيا في 6 أبريل 1917 فإنها لم ترم بكل ثقلها في الحرب، وأن دور اليهود في أمريكا ضروري لدعم الحرب

__________

(1) عن العلاقة المالية والاِرتباط بين زعماء تركيا والحركة الصهيونية عندئذ، انظر البحث الذي ترجمناه (في »الجدل الثقافي«) مرجع سابق.

 

(1/2572)

 

 

والحلفاء.

إن تصريح كامبون جاء في شكل رسالة إلى سوكولو بتاريخ 4 جوان (حزيران) 1917، ومحتواه هو ما يلي: » إنك تقدر أنه إذا سمحت الظروف وتحقق استقلال الأماكن المقدسة، فإنه سيكون من الإنصاف إذا ساهمنا من خلال حماية دول الحلفاء، في إحياء الجنسية اليهودية على أرضها حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة خلت. إن الحكومة الفرنسية التي شاركت في الحرب الحاضرة للدفاع عن الشعوب المعتدى عليها ظلما والتي تواصل المعركة لتحقيق انتصار الحق على القوة، لا تستطيع سوى أن تشهد بتعاطفها مع قضيتكم التي يرتبط

 

(1/2573)

 

 

انتصارها بانتصار الحلفاء« (1) (ص. 384).

وقد تأثر سوكولو بهذا التصريح. وأرسل إلى كامبون خطابا مؤثرا معترفا بأهمية التصريح ومعتبرا إياه انتصارا معنويا كبيرا. أما حاييم وايزمان (H.Weizmann) ، زميل سوكولو، فقد خالفه في ذلك لأنه كان يخشى من أن الفرنسيين قد يستعملون تفاهمهم مع الصهاينة لأغراضهم

__________

(1) تصريح جول كامبون، وزارة الخارجية الفرنسية، المسألة اليهودية، باريس، الأرشيف السياسي، حرب 1914-1918،

صص. 44-45. من الكتابة العامة لوزارة الخارجية إلى السيد ناحوم سوكولو، 4 جوان 1917. انظر الملحق الأول.

 

(1/2574)

 

 

الخاصة، أي للمشاركة مع الإِنكَليز في فلسطين.

ومهما كان الأمر، فقد بقى التصريح الفرنسي غير منشور، ولم يجز توزيعه إلا داخليا فقط وعبر السفارات. والمفترض أنه قد نشر بين الدوائر اليهودية المؤثرة. غير أنه يُلاحظ في هذا

الصدد أنه لا الفرنسيون ولا الصهاينة قد نشروا محتوى التصريح علنيا لأسباب تتعلق بكل منهم.

والنتيجة هي أن التصريح الفرنسي قد شجع على إصدار تصريح (وَعْد) بلفور الذي جاء بعده زمنياً، وأنه قد صدر عن حكومة كانت تعتبر منافسة لبريطانيا في فلسطين. وقد أعطى التصريح الفرنسي أيضا لسايكس الفرصة

 

(1/2575)

 

 

المنتظرة للضغط على أعضاء الحكومة البريطانية وعلى من كانوا معارضين للآمال الصهيونية. ومن ثمة أصبح سايكس قادراً على إثارة موضوع » التصريح البريطاني« على أنه مجرد » مصلحة قومية «(1).

 

تصريح وزير الخارجية بيشون (14 فبراير 1918)

ظلت الاِتصالات بين الأطراف جارية لتحقيق كل طرف ما يراه في صالحه من غنيمة الاِنتصار في الشرق الأدنى وفي أوروبا. وبعد تصريح اللورد بلفور، وزير الخارجية الإِنكَليزي،

__________

(1) تصريح اللورد بلفور إلى اللورد روتشيلد، المتحف البريطاني، مخطوط 41178، فوليو رقم 1، 3 الثاني من نوفمبر 1917.

 

(1/2576)

 

 

جاء دور تصريح ستيفان بيشون وزير الخارجية الفرنسي. وهو بالطبع تأكيد لتصريح كامبون السابق.

وهناك تطورات جعلت تصريح بيشون ضروريا. فزعماء الصهيونية في فرنسا أصبحوا يلحون على الحكومة الفرنسية في تأييد التصريح البريطاني الذي تضمن عبارة » الوطن القومي« لليهود. كما أن رئيس الحكومة السابق ريبو (Ribot) قد ترك مكانه لجورج كليمنصو (G.Clemenceau) 17 نوفمبر 1917. وفي ديسمبر استولت القوات البريطانية على بيت المقدس فأعلن الصهاينة الفرنسيون ترحيبهم بذلك دون الإشارة إلى اسم فرنسا. ثم إن مؤتمرا صهيونيا كبيرا كان

 

(1/2577)

 

 

على وشك الاِنعقاد في أمريكا. وكان من المقرر أن تحضره شخصيات صهيونية من روسيا وبريطانيا. وألف الصهاينة أيضا لجنة تضم ممثلين عن يهود أمريكا وروسيا وبريطانيا لتتوجه إلى فلسطين للتحضير لما وعد به بلفور وهو إقامة » الوطن القومي اليهودي«. وليس في هذه اللجنة ممثل يهودي من أصل فرنسي.

كل ذلك جعل المسألة أمام كليمنصو ووزير خارجيته بيشون تحتاج إلى إعلان موقف. جاء سوكولو إلى باريس من جديد في يناير 1918. وكان عليه أن يعلن للفرنسيين أن الحركة الصهيونية ليس لها نية في إقامة » دولة يهودية« في فلسطين وإنما لها

 

(1/2578)

 

 

نية إنشاء وطن قومي يهودي (Foyer National Juif). وجاءت دعوة سوكولو إلى باريس هذه المرة من السيد غو (Gout) بإيعاز من مارك سايكس. وكان غو هو المتولي عندئذ قسم آسيا بوزارة الخارجية الفرنسية، كما أنه قد تولى المسألة الصهيونية في باريس في غياب بيكو الذي أُرسل إلى فلسطين. وأثناء اللقاء بين الفرنسيين وسوكولو، كان على هذا أن يقنعهم بضرورة مشاركة عضو يهودي من أصل فرنسي في اللجنة الصهيونية المتوجهة إلى فلسطين.

 

(1/2579)

 

 

وبتقديم خاص من غو، استقبل الوزير بيشون الزعيم الصهيوني سوكولو في 9 فبراير. وعبّر له بيشون عن استعداده لإصدار بيان صحفي يؤكد التفاهم الموجود بين الإِنكَليز والفرنسيين حول المسألة الصهيونية. وبعد أن رجع سوكولو إلى غرفته في الفندق، كتب إلى غو يشكره على إعداد اللقاء مع وزير ا لخارجية ويؤكد أن إصدار بيان » واضح العبارة« يجب أن يكون هو نقطة الاِنطلاق للدعاية الفرنسية بين الملايين من إخوانه في الدين (اليهود) بالولايات المتحدة الأمريكية.

 

(1/2580)

 

 

وهناك أيضا دور تارديو (Tardieu)، المحافظ السامي الفرنسي في نيويورك، في إصدار التصريح الفرنسي الثاني الموالي للصهيونية. فقد كان تارديو مبقيا على العلاقات مع زعماء هذه الحركة في نيويورك، ولا سيما مع برندس، وفي مراسلاته مع وزارة خارجية بلاده كان تارديو يستعمل مختلف الحجج لإصدار تصريح جديد. وكان يبين النفوذ المالي والسياسي لليهود في نيويورك وكون زعمائهم يؤيدون الاِستعمار (Colonisation) اليهودي في فلسطين. وذهب تارديو إلى حد الاِقتراح بنقل جماعة من اليهود كانوا يعيشون في كانيا (كورسيكا) إلى فلسطين،

 

(1/2581)

 

 

لأن نقلهم تحت العلم الفرنسي إلى هناك يُعدُّ إشارة فرنسية جيّدة نحو اليهود عموما.

في اللقاء الذي جمع بيشون بسوكولو يوم 9 فبراير لم يرض سوكولو بعبارة المستوطنة (Settlement) اليهودية في فلسطين التي وردت على لسان بيشون، وطلب عبارة واضحة من الفرنسيين تتماشى مع الآمال الصهيونية. وبعد التأمل والتروي خلال بضعة أيام، طلب سوكولو مجددا تغيير التعبير » المستوطنة« إلخ. السابق واستبداله بالعبارة التي وردت في التصريح البريطاني، وهي » وطن قومي يهودي«. وبرر سوكولو ذلك بأهمية التصريح والتعبير لدى اليهود

 

(1/2582)

 

 

الأمريكيين. كما أن رسالة سوكولو تضمنت اقتراحاً بتعيين وفد فرنسي ينضم إلى الوفد (اللجنة) الصهيوني المتوجه إلى فلسطين، على أن يتمتع الوفد بثقة حكومته.

وقد استجاب بيشون لهذا الطلب وأصدر يوم 14 فبراير تصريحا أكد فيه الموقف الفرنسي واستعمل فيه تعبير » الوطن القومي« (Foyer National) الذي طلب منه سوكولو، وجاء تصريح بيشون، في صيغة رسالة موجهة إلى سوكولو، معلناً له فيها أن بياناً صحفياً قد صدر عن الحكومة الفرنسية بالمعنى المذكور. وها هو نص بيشون:

 

(1/2583)

 

 

»كما اتفقنا عليه خلال محادثاتنا يوم السبت التاسع من هذا الشهر، فإن حكومة الجمهورية (الفرنسية)، بالنظر إلى تحديد وجهة نظرها نحو الآمال الصهيونية العازمة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد نشرت مذكرة في الصحافة. وإني إذ أقدم إليك هذا النص، فإني أغتنم الفرصة لتهنئتكم على إخلاصكم المتفاني الذي تابعتم به إنجاز آمال إخوانكم في الدين، ثم لأشكركم على الحماس الذي أظهرتموه لتقديم مشاعر التعاطف التي لقيتها جهودكم في بلدان الوفاق، وبالخصوص في فرنسا« (1)

__________

(1) تصريح ستيفان بيشون، وزارة الخارجية في باريس، الأرشيف السياسي، حرب 1914-1918. المسألة اليهودية، م 5، ص. 19، من س.

بيشون إلى ن. سوكولو، 14 فبراير 1918. انظر الملحق الثاني .

 

(1/2584)

 

 

. (ص. 391).

وفي يوم 16 فبراير أبرقت » الإِتحادية الصهيونية الفرنسية« (French Zionist Federation) معلنة إلى الزعماء الصهيونيين في موسكو وبتروكراد والأوديسة، وروما ولاهاي ونيويورك وكوبنهاكَن، والقاهرة عن الاِتفاق التام بين فرنسا وإنكلترا حول مسألة (فلسطين اليهودية)«، وداعية إياهم إلى تنظيم مظاهرات الدعم والتعبير عن الإِعتراف بالجميل للحكومة الفرنسية.

وكانت السياسة الصهيونية العامة تتمركز في الحصول على موافقة الدول المتحالفة الأخرى على وعد بلفور. ولذلك كان سوكولو مصرا على أن تصدر الحكومة الإيطالية

 

(1/2585)

 

 

أيضا تصريحا مماثلا لتصريح بيشون.

أما بيكو، فقد ترك على الهامش من هذه التطورات. فلم يعلم عن تصريح بيشون إلا من خلال المصادر الإِنكَليزية في المشرق. وهكذا وجد نفسه غريباً أمام تصريح 9 ثم 14 فبراير 1918 المساند للصهيونية. وقد اندهش من أن حكومته لم تصدر تصريحا لصالح العرب كما كان يرغب. وشكا إلى حكومته من كونها لم تستشره قبل تصريح بيشون، وحذرها من ردود الفعل في سورية ولبنان. وقد كان بيكو يريد تحضير الرأي العام في سورية ولبنان للاِنتداب الفرنسي.

 

(1/2586)

 

 

لكن بيكو تلقى من حكومته نُسخا فقط من الوثائق التي أرسلتها وزارة الخارجية إلى المحافظ السامي الفرنسي في نيويورك (وهو تارديو)، وهي الوثائق التي تلح على الأثر الإيجابي لتصريح بيشون على يهود أمريكا. وطلبت الوزارة من بيكو أن يعمل على إفهام السكان، يهودا وغير يهود (كذا) من أن الحكم الذي سينشأ هناك بعد الحرب لن يكون في صالح طرف على حساب طرف آخر، وأن الوئام بين جميع العناصر هو الشرط الضروري في تمتع الجميع بالتقدم والرخاء بعد الحرب.

 

(1/2587)

 

 

أما تارديو، فقد أرسل برقية يوم 9 فبراير من نيويورك جاء فيها أن وزير الداخلية الألماني قد استقبل وفداً صهيونياً ووعدهم بإقامة سلطة حكم ذاتي (Autonomy) في فلسطين. وكان هدف برقية تارديو هو التعجيل بإصدار الحكومة الفرنسية تصريحا مواليا للصهيونية. وبعد أيام من تصريح بيشون، أخبر تارديو عن فرحة يهود أمريكا بالتصريح الفرنسي، وعن شكر فرنسا الذي عبرت عنه مختلف افتتاحيات الجرائد اليهودية بأمريكا.

وفي اليوم التالي لتصريح بيشون (أي يوم 15 فبراير 1918)، جاء الإعلان عن اتفاق الحكومتين الفرنسية والبريطانية حول

 

(1/2588)

 

 

الوضع المحفوظ للصهيونية في فلسطين. فكلتاهما تعترف بمنشأة (Establishment) يهودية في فلسطين، مع تمكين اليهود من حكم ذاتي إداري في إطار دولة عالمية (International State) ستنشأ في هذه البلاد (فلسطين). ولعل استعمال تعبير » المنشأة اليهودية« جاء من موقف وزارة الخارجية الفرنسية التي تريد أن تقف موقفا وسطا بين طالبي الحد الأقصى وهو إقامة دولة يهودية وخصوم هذه الفكرة.

لقد كان هناك بعض ردود الفعل على الموقف الفرنسي من الصهيونية. فدوائر الكاثوليك والاِستشراق وبعض العرب تحركوا ولكن لم يكن لهم فعالية. كما

 

(1/2589)

 

 

كانت هناك اللجنة المركزية السورية في باريس، ولكن موقفها كان غير فعال أيضا، ومعظم العرب المتواجدين في فرنسا عندئذ كانوا من المسيحيين السوريين، ويرأسهم شكري غانم، وكانت فرنسا هي التي تدفع إليهم الأموال. ولذلك كان مطلبهم يتمثل في قطع سورية عن الدولة العثمانية ووضعها تحت حكم فرنسي. وكانوا على صلة ببعض العرب الآخرين في الخارج. غير أن أنصارهم في سورية نفسها كانوا قلة. ولم يكن لهم أي أثر على فصل فلسطين عن سورية وإقامة الوطن القومي فيها لليهود، كما لم يكن لهم أي أثر في معارضة الفكرة بعد ذلك.

 

(1/2590)

 

 

وهكذا تبين أن سنة 1917 كانت حاسمة ليس لأن بلفور والإِنكَليز وعدوا الصهاينة بالوطن القومي لليهود في فلسطين، بل لأن الفرنسيين قد فعلوا ذلك أيضا. وقد لاحظنا أن تصريح كامبون جاء قبل تصريح بلفور. كما أن تصريح بيشون وموافقة الفرنسيين على الوطن القومي اليهودي قد جاءت في بداية 1918 على عهد وزارة جورج كليمنصو. ويبدو أن ثلاثين سنة من الاِنتداب البريطاني على فلسطين قد جعل الناس ينسون دور الدول الأخرى، مثل فرنسا وألمانيا وتركيا في المنطقة. فهل كان التصريح الفرنسي مختلفا في المحتوى عن التصريح الإِنكَليزي؟

 

(1/2591)

 

 

أو هل أن الصهاينة لم يروا فيه إنجازا كبيرا أو هو أقل أهمية في نظرهم من التصريح البريطاني؟ وقد انتهى الكاتب إيدي كوفمان إلى أن الذي جعل بلفور يصدر تصريحه هو عزيمة بريطانيا على امتلاك فلسطين وليس نتيجة للضغط الصهيوني. إن هناك عدة دراسات لتصريح بلفور، مثل دراسة ليونارد شتاين (L.Stein) ثمّ دراسة فيرتي (Mayir Verete) الذي أعطى التصريح تفسيرا جديدا ورأى أن التصريح الفرنسي الرسمي لصالح الصهيونية هو الذي ساهم في إصدار التصريح البريطاني المعروف بوعد بلفور. وها هي مقالة إيدي كوفمان تعمق هذا التفسير بناء

 

(1/2592)

 

 

على الوثائق الفرنسية التي افتتحت حديثا أمام الباحثين(1). أما الخاسرون في هذه التطورات كلها فهم العرب، والمسلمون.

Selected Bibliography

 

Ageron, Charles-Robert, les Algériens Musulmans et la France, Vol.

1-2, P.U.F., Paris, 1968.

__________

(1) ناقش موضوع الصهيونية الحلفاء، ولاسيما بريطانيا وفرنسا، إيلي كدوري (E.Keddourie) »المذكرات العربية الباحثية ودراسات أخرى«، لندن، 1974، صص. 236-242، وتعرض أيضا لرأي فيربتي وشتاين.

 

(1/2593)

 

 

Andrew, F.Fern, The Holy Land Under Mandate, Vol. 1, Hyperion Press, Westport, Conn., 1976.

Cambon, Jules, Gouvernement de l’Algérie, Alger, 1918.

Geddes, Charles L., A Documentary History of the Arab-Israeli conflict, Praeger, New York, 1991.

Gorny, Yosef, Zionism And The Arabs, 1882-1948, A Study of Ideology, Clarendon Press, Oxford, 1987.

John, Robert and Hadawi, Sami, The Palestine Diary, Vol 1-2, New World Press, New York, 1971.

 

(1/2594)

 

 

Kaufman, Edy, « The French Pro-Zionist Declarations of 1917-1918 », Middle Eastern Studies, 15, no. 3, October 1979.

Khaldi, Walid. Ed., From Haven To Conquest, 2 Printing, Washington, The Institute For Palestine Studies, 1987.

Rizk, Edward, Trans., The Palestine Question, The Institute for Palestine Studies, Beirut, 1968.

 

الملحق الأول

تصريح جول كامبون (Jules Cambon)

إنك تقدر أنه إذا حتمت الظروف وتأكد استقلال الأماكن المقدسة، فإنه سيكون من العدل والإنصاف أن نساهم، من خلال الدول المتحالفة، في

 

(1/2595)

 

 

إحياء الجنسية (Nationality) اليهودية على أرضها (On ones land) الخاصة بها حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة خلت.

إن الحكومة الفرنسية التي اشتركت في الحرب الحاضرة للدفاع عن الشعوب التي تعرضت للاعتداء الظالم، والتي تواصل المعركة لضمان انتصار الحق على القوة، لا يمكنها إلا أن تبرهن على تعاطفها مع قضيتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء.

Jules Cambon جول كامبون

Ministère des Affaires Etrangères, Paris, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, pp. 44-45.

 

(1/2596)

 

 

الأمين العام لوزارة الخارجية إلى السيد ناحوم سوكولو (N.Sokolow.).

 

الملحق الثاني

تصريح ستيفان بيشون (Stephen Pichon)

كما اتفق عليه أثناء حديثنا يوم السبت التاسع من هذا الشهر، فإن حكومة الجمهورية [الفرنسية]، بالنظر إلى تحديد وجهتها من الآمال الصهيونية العازمة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، قد نشرت مذكرة في الصحافة.

وفي الوقت الذي أرسل إليكم هذا النص، فإني أغتنم الفرصة لأهنئكم على إخلاصكم المتفاني الذي واصلتم به سعيكم لتحقيق رغبات إخوانكم في الدين (Co-religionistes) وأشكركم على غيرتكم التي

 

(1/2597)

 

 

أبديتم بها مشاعر العطف التي حظيت بها في بلدان الوفاق وبالأخص في فرنسا.

(Stephen Pichon) ستيفان بيشون

Ministère des Affaires Etrangères, Paris, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, Vol. 5, p.19,

من س. بيشون إلى ن. سوكولو، 14 فبراير 1918.

أثناء استقبال حظي به السيد سوكولو من قبل بيشون، وزير الخارجية، أعلن بيشون باسم الحكومة الفرنسية، أن هناك تفاهما كاملا بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية فيما يتعلق بمسألة الاستيطان اليهودي في فلسطين.

 

(1/2598)

 

 

Ministère des Affaires Etrangères, Archives Politiques, Guerre 1914-1918, Question juive, Vol. 5, p. 144, February 9, 1918. Communiqué destiné à la presse.

 

(1/2599)

 

 

التعليم بجامع الزيتونة وبمدارس العلم في العهد الحفصي

 

... ... ... ... ... الدكتور محمد الباجي بن مامي

... ... ... ... المعهد الوطني للتراث ـ تونس

... ... ... ... ... ... ...

... بودّي الإشارة ـ قبل كلّ شيء ـ إلى أنني لن أتطرق إلى النواحي المعمارية أو الفنية التي يمتاز بها الجامع الأعظم أو مدارس مدينة تونس، بل سأركز هذا البحث على الناحية التعليمية وعلى مناهج التعليم وطريقة التدريس ومحتوى برامج التعليم بصفة عامّة.

 

(1/2600)

 

 

... وكلّ منا يعلم أن العلم والتدريس ارتبطا منذ العصور الأولى بالدين. لذلك وجدت منذ البداية مواضع لدراسة القرآن والحديث. وكان هذا التدريس قائماً في أول الأمر بالمساجد: إذ لم تكن محل عبادة فقط، بل كانت النّواة الأولى للمدرسة، تلقن فيها القراءة والكتابة والعلوم الدينية واللغوية وغيرها... وكان للعديد من الفقهاء حلقات بها. ويطلق على هؤلاء لقب »أهل العلم«. ففي العهد الأموي كانت المساجد مفتوحة لكل من يأنس في نفسه القدرة على التدريس، وكان الاستماع إلى الدرس مباحاً لكل من يرغب فيه. ولم يكن المدرس مجبراً

 

(1/2601)

 

 

على تدريس موضوع معين، بل كان دوره إبلاغ ما يعرف ثم إذا أمكن له علمه الإفتاء(1)، وهو ما نتوقع أنه حصل بجامع الزيتونة منذ القرون الإسلامية الأولى.

 

... ولا ريب في أن التدريس في القرون الأولى لم يكن يتناول بالبحث مؤلفات معينة، ولم يكن كذلك على ترتيب خاص في كيفية الإقراء. وقد روى القاضي عياض عن مالك بن أنس أنه: »لم ندرك أحداً من أهل بلدنا، ولا من مضى يكتب«. فقيل له: »كيف نصنع؟ « قال:

__________

(1) انظر الأمثلة التي أوردها الدكتور حسين أمين في كتابه: المدرسة المستنصرية، بغداد، مطبعة شفيق، 1960، صص. 12 ـ 13.

 

(1/2602)

 

 

»تحفظون كما حفظوا وتعملون كما عملوا حتى تنوّر قلوبكم فيغنيكم عن الكتابة« (1). وكان العالم أو الفقيه في هذه الفترة الأولى من الإسلام يدرّس في أغلب الأحيان دون أجر، الأمر الذي أدّى إلى عدم تدخل السلط الحاكمة في أمور التدريس(2).

 

طريقة التدريس

__________

(1) راجع محمد الحشايشي، تاريخ جامع الزيتونة، تقديم الجيلاني بن الحاج يحيى، تونس، 1974، ص. 39.

(2) يمدّنا محمد أسعد طلس بفكرة واضحة حول هذا الموضوع في كتابه: التربية والتعليم في الإسلام، بيروت، دار العلم للملايين، 1957، ص. 150

 

(1/2603)

 

 

... وبعد قدر أدنى من التعلّم بالكتاتيب، يلتحق التلميذ، بأماكن أخرى يواصل فيها دراسته(1). وعند ارتياده للمسجد، ينظّم الدّارس وله من العمر ما يسمح له بالالتحاق بحلقات

__________

(1) لدينا العديد من المصادر التي تحدّثت عن موضوع تعليم الصبيان. وبالطبع من أهمها كتاب محمد بن سحنون، كتاب آداب المعلّمين، تحقيق ح. ح. عبد الوهاب، تونس، 1931؛ وكتاب ابن الجزار، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق وتقديم محمد الحبيب الهيلة، تونس، 1968؛ وكذلك: أبو علي بن محمد بن خلف القابسي، الرسالة المفصّلة لأحوال المعلمين والمتعلمين.

 

(1/2604)

 

 

التدريس، وهي ما نعبر عنها بمرحلة التعليم الثانوي في أيامنا، ويمكن اعتبارها مرحلة انتقالية بين الكتّاب وبين الانتساب إلى حلقات مشاهير الشيوخ. ويمدنا أبو عبد الله الرصاع في "الفهرست" بمثال يشير فيه إلى المستويات المتفاوتة التي كانت عليها الحلقات(1). كما نجد نصّاً لابن خلدون يرى فيه أنه: »إنما يكون تلقين العلوم مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً... وهو يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك«(2)

__________

(1) انظر: الرصّاع، الفهرست، ص. 182.

(2) راجع: عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، صص. 1002 ـ 1003.

 

(1/2605)

 

 

.

 

طريقة التعليم بالجامع الأعظم والمدارس

... يبدو أنه كان للتعليم بالجامع الأعظم خلال الفترة الحفصية حرية شبه مطلقة فيستطيع الطالب القدوم في أي وقت، ولا يجبر على الانتساب إلى حلقة دون أخرى، وهو ليس مجبراً على التقيّد بأحد الشيوخ، لذلك يستطيع أن ينتقل من حلقة إلى أخرى، أو كذلك يمكن له أن يلازم شيخاً واحداً (1). وهذا مخالف تماماً لما يقع في المدرسة: فالطالب الساكن بها مجبر على الحضور في وقت معين ولا يغادر الدرس إلا عند انتهاء الشيخ من

__________

(1) ومن الأمثلة ملازمة البرزلي لشيخه ابن عرفة مدة أربعين سنة.

 

(1/2606)

 

 

إلقائه، وليس له أن يختار شيخه بعكس ما يقع في الجامع الأعظم، إذ كانت المدارس نظامية، ولكل منها ناظر أو شيخ يراقب كل ما يحصل فيها. وقد عثرنا في تحابيس بعض المدارس التي وصلتنا اشتراط المؤسس الحضور الوجوبي للطالب (1).

__________

(1) لم تصلنا تحابيس مدارس الفترة الحفصية، بينما اطلعنا على العديد منها التي ترجع إلى الفترة المرادية أو الحسينية، ونحن نتوقع أن الأمر نفسه حصل خلال الفترة الحفصية فيما يتعلق بحضور الطلاب.

 

(1/2607)

 

 

... ونتج عن هذا تكاثر عدد الطلبة في الجامع الأعظم، بينما كان عدد الطلبة في المدارس محدوداً لا يمكن أن يتجاوز رقماً معيناً. ففي أكثر الأحيان يحدد منشئ المدرسة عدد الطلاب الذين يسمح لهم بالإقامة فيها، وهو يكون في غالب الوقت موافقاً لعدد غرفها. ومن الطبيعي جداً أنه عندما تكون لشيخ المدرسة شهرة كبيرة يزداد عدد الطلبة القادمين من خارجها. ولذلك يتجاوز عدد الدّارسين في بعض المدارس بكثير عدد القاطنين بها. وهكذا لم يكن سكان المدرسة ينتفعون بالتعليم فيها فحسب، بل كان دخولها وتلقي الدروس بها ممكناً أيضاً

 

(1/2608)

 

 

لمن لا يقطن فيها، وفي بعض الأحيان يخيّر بعض أصيلي تونس أخذ الدروس عن شيخ مدرسة على الاتجاه إلى الزيتونة، نظراً للمستوى العلمي الهام الذي يتمتع به شيخ تلك المدرسة. وعندما يكون المدرس مشتهراً، يأتيه الطلاب حتى من خارج إفريقية (1).

... ولم تمدنا المصادر بتاريخ بداية التعليم في جامع الزيتونة، ولا نعلم أيضاً متى أصبح هذا التعليم منظّماً. وأول نص يشير إلى التدريس بجامع الزيتونة يعود إلى سنة 603 هـ/ 1206 م (2)

__________

(1) الفهرست، المرجع السابق، ص. 188.

(2) وهو ما يؤكده الشيخ محمد البشير النيفر في مقاله: »تاريخ الحركة العلمية بجامع الزيتونة«، المجلة الزيتونية، ج 10، سنة 1936، ص. 553.

 

(1/2609)

 

 

. إلا أننا نرجّح أن تكون الزيتونة قد أدّت دوراً فعلياً منذ تأسيسها كما كان شأن المساجد الجامعة سواء كان بإفريقية أو في المشرق الإسلامي (1). ويذكر أبو العرب تسعة من بين أهم أهل العلم والفضل بتونس (تراجم من عدد 106 إلى 114)، وهو ما يدفعنا إلى احتمال أنهم كانوا درّسوا بالجامع الأعظم(2). غير أن إشارات المصادر تعوزنا فيما يتعلق بالقرون الخمسة الأولى من تاريخ هذا الجامع.

__________

(1) فقد جرت العادة منذ الفترات الأولى للإسلام أن يتخذ من جامع كل مدينة مركز للتعليم.

(2) أبو العرب، طبقات، صص. 212 ـ 226.

 

(1/2610)

 

 

... وبالطبع، فإن ارتباط الجامع الأعظم، عضوي بمدارس العلم بتونس، إذ كان العديد من الطلبة بعد دراستهم بإحدى المدارس يواصلون تلقّي العلم في هذا الجامع؛ كما نلاحظ أن العديد من العلماء وموظفي الجامع، من أئمة وقضاة ومفتين، يعيّنون شيوخاً في بعض المدارس(1)

__________

(1) يكفي أن نذكر أمثلة ابن برّاء التنّوخي المهدوي، وأبي الفضل أبي القاسم بن عبد الرفيع المشهور بابن زيتون، وأبي حفص بن قداح وأبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرفيع الربعي وابن عبد السلام وابن عرفة والبزلي واب عبد الستار والغبريني والرصاع، وكذلك أبو الفضل قاسم القسنطيني والشيخ البحيري وأبو العباس أحمد القلشاني... وغيرهم كثير.

 

(1/2611)

 

 

أو العكس بالعكس. فبعض الشيوخ يقضون العديد من السنين للتعليم في إحدى المدارس، وقد تتوّج حياتهم العلمية بتولّي خطّة الإمامة أو الإفتاء بالزيتونة. لكن من المرجّح أن الجامع كان يمثل منطلق المدرسين؛ فعندما ينال الشهرة الواسعة في رحاب الجامع، يمكن أن يحصل على منصب في إحدى المدارس التي تضمن له دخلاً محترماً.

... وقد كانت انطلاقة المدارس بمدينة تونس مقترنة بإنشاء الدولة الحفصية. فأول المدارس ـ وهي الشمّاعية ـ أنشأها أبو زكرياء الأول (وكان ذلك حوالي سنة 635 هـ/ 1237 م). وأسباب تأسيس هذه المدرسة عديدة.

 

(1/2612)

 

 

وقد اتفق جميع المؤرخين على أن إنشاءها إنّما كان أساساً لنشر المذهب الموحدي. لكن يبدو أن الغرض من إنشاء هذه المدرسة لم يكن مذهبياً فقط؛ فقد كان أبو زكرياء يرمي من وراء تأسيسه للشمّاعية إلى تكوين موظفين أكفاء وأطر مخلصين وأمناء لخدمته وخدمة دولته. هذا بالطبع، إضافة إلى عدة عوامل أخرى دفعت بأبي زكريا الأول إلى بناء هذه المدرسة، منها: التأثيرات المشرقية على تونس، إذ سكن العديد من التونسيين الذين ذهبوا للحج أو للدراسة بمصر أو بالشام، إلخ. في المدارس. وربما كان لهم تأثير مباشر أو غير مباشر في إدخال

 

(1/2613)

 

 

هذا النوع من المؤسسات التعليمية إلى تونس. ولتفسير إدخال المدارس إلى تونس، يجب معرفة الفترة الزمنية التي شيدت فيها، ومعرفة شخصية أبي زكرياء الأول الذي تصفه المصادر بالتقوى ومحبّة العلم.

... ويمكن أن نقول إن أبا زكرياء نحا منحى السلاطين والملوك العظام، فبنى وشيّد حتى يعطي مظهراً عظيماً لعاصمته وكامل بلاده. وهكذا كان حريصاً على أن يجعل عاصمة ملكه قبلة لرواد العلم.

... وقد تكون زيادة عدد السكان والتطور العمراني لمدينة تونس أحدَ الأسباب التي دفعت الأمير أبا زكرياء إلى بناء هذه المدرسة. فخلافاً

 

(1/2614)

 

 

للتراجع الديمغرافي العام الذي شهدته إفريقية في تلك الفترة، يبدو أنّ عاصمة الحفصيين كان لها تطور غير مواز لهذا النسق؛ إذ ازداد عدد سكانها نتيجة لنزوح سكان البادية الفارّين من الاضطرابات التي كانت تعيشها الأرياف والقرى بعد أن سيطر عليها الأعراب.

... ومع مجيء الموحدين إلى تونس، وفدت جموع من سكان المغرب الأقصى من بينهم العائلة المؤسسة للدولة الحفصية، واستقرّوا بدورهم في مدينة تونس. ولا شك في أن التطور الديمغرافي الداخلي، والهجرات الخارجية، زادت في أعداد طلاّب العلم، فظهرت حاجة إلى إيجاد أماكن أخرى

 

(1/2615)

 

 

تلقى فيها الدروس. وقد واكب ذلك مجيء عدد من المشايخ الأندلسيين ممن كان لهم الكفاءة العلمية اللازمة، وهو ما وفّر أطراً أكفاء للمؤسسات التعليمية المستحدثة. ونذكر من بين هؤلاء ابن الأبار صاحب "الحلّة السيراء"، وكذلك ابن سيد الناس اليعمري، وأحمد القرشي الغرناطي...

... ومن الملاحظ أن المدرسة لعبت دوراً هاماً في بثّ العلم بين الطبقات الفقيرة، وفتحت لهم باب الوظائف السامية، نتيجة توفير السكن للغرباء منهم، وهو ما لم يكن يستطيع المسجد الجامع القيام به. وربما مثل هذا الفارقَ الأساسيَّ بين الجامع والمدرسة.

 

(1/2616)

 

 

وقد أنشأ السلاطين وكبار رجالات الدولة العديد من المدارس، كما شاركت بعض نساء الأمراء الحفصيين في بث العلم وفي بناء المدارس(1). لكن هذا لا يعني أن تأسيس المدارس وبناءها كان موقوفاً على هؤلاء فحسب؛ فهناك أيضاً بعض الأشخاص من ذوي الجاه والنفوذ وبعض الأخيار الذين شاركوا في هذا العمل، خاصة منهم بعض الأولياء والصالحين(2)

__________

(1) بنت الأميرة عطف مدرسة التوفيق في أواسط القرن 7 هـ/ 13 م؛ كما أسست الأميرة فاطمة المدرسة العنقية سنة 742 هـ/ 1341 م.

(2) لدينا مثال المدرسة المرجانية والمدرسة المغربية والمدرسة الجاسوسية... التي أدى كل منها دور زاوية ومدرسة في آن واحد.

 

(1/2617)

 

 

. هذا، إضافة إلى بعض العلماء (كابن عصفور) وحتى القواد، الذين ساهموا في هذا العمل الجليل(1). لكن أهم المدارس من حيث المساحة ومن حيث الثراء المعماري والفني، وكذلك أهمية المدرسين فيها هي التي أسسها السلاطين والأمراء. وهكذا يمكن أن نقسّم المدارس إلى صنفين:

... ـ صنف أول »رسمي«، وهو يشمل المدارس التي أسسها السلاطين والأمراء والتي كان يتصرف فيها ويشرف عليها بصورة مباشرة: النظام الحاكم.

__________

(1) مثال ذلك القائد نبيل أبو قطاية والقائد مراد...

 

(1/2618)

 

 

... ـ وصنف ثان يشتمل على المدارس التي أسسها الخواص. والمعلومات المتصلة بالنوع الأول التي أتت بها المصادر أثرى بكثير من الصنف الثاني. لذلك، فإذا أشرنا إلى معلومات حول المدارس، فهي تهم في غالب الحالات القسم الأول منها.

... وكان أول ما قام به أبو زكرياء الحفصي، عند إنشائه لأول مدرسة بتونس، التدخل في شؤون المدرسة التي أسسها. وقد تواصل هذا الأمر مع من خلفه وكررت الأنظمة تدخلها في شؤون الدراسة.

 

المدرّسون

 

(1/2619)

 

 

... ومن الواضح أن تدخل النظام الحاكم كان خاصة على مستوى المدرسين الذين يقع تعيينهم من قبله، فيدفعون لهم أجوراً سخيّة، وهم في واقع الأمر مأمورون من قبل الحكومة، تعيّنهم أو تعزلهم من مناصبهم متى شاءت (مثلما قامت به الأميرة فاطمة مع ابن عبد السلام الذي طردته من منصبه بالمدرسة العنقية).

... لكن بطبيعة الحال، وجد بعض المدرسين الذين لم ينطبق عليهم هذا الواقع. فابن عرفة ثمّ البرزلي مثلاً كانا من القوة بمكان، حتى أنه لا يمكن لنا أن نتوقع تدخل السلطان في شؤونهما أو في المواد التي كانا يدرسانها. ومن

 

(1/2620)

 

 

الواضح أن العديد من المدرسين حصلوا على مكانة محترمة في المجتمع، فالسلاطين الحفصيون بصفة عامة عظموا العلماء واحترموهم، وتودّدوا إليهم لدرايتهم بالمكانة التي يتمتعون بها في نفوس الطبقات الشعبية، إذ كانت مهنة التدريس تجلب لصاحبها الاحترام والتبجيل. ولهذا نال المدرسون في غالب الأحيان مكانة مرموقة لدى الجميع، خصوصاً إذا علمنا أن الكثير منهم تحصلوا على مناصب أخرى هامة، دينية وسياسيّة. إذ أنّ الأشخاص الذين تولوا مهام الإفتاء والإمامة بالجامع الأعظم، درسوا في آن واحد بالعديد من المدارس. فمهنة التدريس

 

(1/2621)

 

 

إذن هامة، ويستطيع صاحبها الارتقاء عن طريقها إلى مراتب عليها. ولهذا تهافت العلماء على مناصب التدريس بالمدارس. فتعيين عالم بمدرسة يعدّ فخراً له، وهو أيضاً منصب يدرّ على صاحبه من الأموال المحبّسة على المدرسة ما يكفيه وعائلته. فعندما يتحصل عالم على هذه المهنة، ويسهر في آن واحد على أوقاف المدرسة، يستطيع أن يتصرّف آنذاك في مداخيلها ببعض الحرية، وهو ـ بالطبع ـ عكس ما يقع للمدرسين في الجامع الأعظم الذين يتمتع بعضهم بمراتب قارة(1)

__________

(1) يفيدنا البرزلي أنه توجد مراقبة من قبل إمام الزيتونة لجميع الموكلين على أحباس المدارس (البرزلي، النوازل، ج 4، ورقة 69 أ). فابن عرفة بصفته إمام الزيتونة كان يشرف على جميع نظّار الأحباس، ولدينا اسم ابن عصفور الذي عُوّض فيما بعد بمحمد البيدموري ناظراً للأحباس (انظر: الزركشي، تاريخ الدولتين، ص. 150).

 

(1/2622)

 

 

. ويفيدنا الشيخ الرماح أن شيخ الشمّاعية (وهو أبو القاسم ابن زيتون آنذاك) تصرف في أموال حبسها كما شاء. ونرى أيضاً أن البرزلي تصرف في الأموال التي أدرّتها أحباس مدرسة ابن تافراكين بصورة تكاد تكون حرة(1).

 

الحالة المادية للمدرّسين

... يرى ابن خلدون أن القائمين بمهمة القضاء والإفتاء والتدريس والإمامة والخطابة ونحو ذلك: »لا تعظم ثروتهم في الغالب، ويهتم بإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما له من النظر في المصالح، فيقيم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة

__________

(1) البرزلي، النوازل، ج 4، ورقة 35 ب 2 وورقة 61 ب.

 

(1/2623)

 

 

إليهم، فلا يصح من قسمهم إلا القليل، فلذلك لا تعظم ثروتهم«(1). وهذا ينطبق فعلاً على من له مرتب فقط بالجامع الأعظم، ولدينا أمثلة لمدرسين عظمت ثروتهم، لكن نمو ثروتهم كان في غالب الأحيان نتيجة لتصرفهم في أحباس مدارس أو لانتمائهم لسلك القضاء أو الإفتاء وغيرها من الأعمال الهامة أكثر من انتمائهم إلى ميدان التدريس فقط. ويحاول بعض الأساتذة إيجاد مداخيل إضافية من خلال أعمال تدرّ عليهم المال الكافي مثل تعاطي مهنة شاهد عدل أو تاجر، أو فلاّح كابن عبد الستار. أما

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، صص. 709 ـ 710.

 

(1/2624)

 

 

المدرسون الذين كانوا يتعاطون في آن واحد مهنة القضاء أو الإفتاء، فحالتهم المادية كانت أحسن من الشيوخ الآخرين؛ إذ كانوا يتمتعون بمرتبين (1). ويذكر ابن الشماع أن أبا عمرو عثمان كان يهدي الشيوخ بعض المال، خصوصاً عند سفره بالمحلة وفي الأعياد (2). ونرى أنه خلال هذه الفترة الحفصية عرف بعض المدرسين بثرواتهم الهامة، من بينهم ابن عرفة الذي أحصيت تركته عند وفاته، وذلك بسبب

__________

(1) كان يتقاضى ابن عرفة مرتباً عن جامع الزيتونة، ومرتباً آخر على تدريسه بالمدرسة التوفيقية.

(2) انظر ابن الشمّاع، الأدلّة، ص. 155.

 

(1/2625)

 

 

وقفية ترك فيها ثلث أرزاقه حبساً على الكعبة، وكذلك القاضي ابن زيتون الذي تولى المدرسة الشماعية، إذ نعلم أن ثروته كانت ذات بال (1). كما كان لبعض أفراد عائلة القلشاني وعائلة الرصاع أملاك شاسعة؛ إلا أن هذه الأمثلة للمدرسين الأثرياء لا تعدو أن تكون قليلة بالنسبة لعدد المدرسين الآخرين.

... ومما يلاحظ أن المدارس ارتبطت بمذاهب فقهية معينة، وفي تونس اتبعت كل المدارس خلال العهد الحفصي المذهب المالكي الذي لعب دوراً هاماً في كيفية سبر

__________

(1) يصف ابن رشيد القاضي ابن زيتون بسعة الرزق (مقدمة "السنن"، ص. 26).

 

(1/2626)

 

 

الدروس أو في اختيار المدرسين وخاصة في اختيار مواد التدريس. فطيلة الفترة الحفصية كان الشيخ لا يدرس إلا المؤلفات المالكية. وهكذا لم تتبنّ تونس المذاهب الأخرى، ولم تدرس من الكتب المؤلفة في المذهبين الحنبلي والشافعي إلا القليل النادر.

 

طريقة التعليم

... كان الدرس والصلاة بالمدرسة يحصلان في المكان نفسه، ألا وهو المسجد. وكان الطلبة في الجامع أو في مسجد المدرسة »يتحلّقون« أي ينتظمون في شبه حلقة حول شيوخهم. ولذلك سمّي الدرس حلقة. واتفقت جميع المصادر على أنه غالباً ما كان ظهر الشيخ مستنداً إلى حائط أو

 

(1/2627)

 

 

إلى عمود من أعمدة المسجد. فيذكر أبو عبد الله الرصاع أنه حضر درساً لأبي حفص عمر القلشاني بالمدرسة العنقية. فسأل شيخه يعقوب المصمودي عن طريقة تدريس أبي حفص عمر فقال: »ولا أدركت مشائخي يستندون إلى حائط، بل يستقبلون القبلة في المسجد، ويجلس الطلبة معهم يميناً وشمالاً«(1). وهكذا نرى أن طرق الجلوس تختلف من شيخ إلى آخر. كما بلغنا نصّ للونشريسي حول كيفية جلوس الأستاذ، فيقول: »قد كان من هدي العلماء في قعودهم أن يجتمع أحدهم، ويضع مرفقيه على ركبتيه، ومنهم من كان يقعد على قدميه

__________

(1) انظر: الفهرست، ص. 130.

 

(1/2628)

 

 

ويضع مرفقيه على ركبتيه وكذلك كانت شمائل كل من تكلّم في هذا العلم قبل أن تظهر الكراسي«(1). فالجلوس إذن أصبح حسب الونشريسي انطلاقاً من القرن الحادي عشر للهجرة/ الخامس عشر للميلاد يقع على الكراسي. غير أننا لا نستطيع أن نجزم بانتشار هذه الكراسي، وهل كانت مستعملة بالمدارس أو بالجامع الأعظم. أما خلال الفترة الحسينية، فأغلب المصادر تشير إلى جلوس الشيخ في المحراب(2). ونحن نرجّح أن جلوس الشيخ في

__________

(1) ورد النص في "الفهرست"، ص. 133.

(2) وصلتنا العديد من الأمثلة في الذيل لحسين خوجة وغيرها من المصنفات.

 

(1/2629)

 

 

مسجد المدرسة يحصل غالباً في المحراب حتى خلال العهد الحفصي، نتيجة لأن العديد من المساجد بمدارس تونس لا تحتوي على أعمدة، مثل المدرسة الشمّاعية والمدرسة العنقية وغيرها... وقد مدّتنا بعض المصادر بمعلومات حول جلوس الشيخ بالجامع الأعظم، واستناد كل واحد منهم إلى أحد الأعمدة. وما زال البعض يشير إلى العمود الذي كان يستند إليه الشيخ ابن عرفة.

... ويحرص كل طالب على أن يجلس على مقربة من الشيخ سواء كان ذلك في الجامع الأعظم أو بالمدارس، لكن لا يتم جلوسهم في الحلقة دون ترتيب، بل كان لكل منهم مكان يجلس فيه،

 

(1/2630)

 

 

ولا يتعدى المكان الذي هو أهل له، فسنّ الطالب وأقدميته في الجلوس للشيخ، ومستواه العلمي عناصر أساسية في تعيين مكان جلوسه. أما الطلبة المبتدئون، فيكون جلوسهم في آخر الصفوف احتراماً للطلبة المتقدّمين في السن(1). وعندما يبرز أحدهم، يقربه الأستاذ ويجلسه بجانبه(2).

 

كيفية إلقاء الدرس وأخذ العلم

__________

(1) فقد حدّث أبو عبد الله الزنديوي الرصّاع، بأنه عند قدومه إلى مدينة تونس جلس خلف الطلبة الآخرين (الرصاع، الفهرست، ص. 182).

(2) وهو ما حصل مثلاً لابن رشيد (راجع: السنن الأبين، صص. 49 ـ 50).

 

(1/2631)

 

 

... وتختلف طرق التدريس باختلاف العصور، فإذا كانت الفترة مدة ازدهار وانتعاش علمي، نجد بها شيوخاً أجلاء لهم مستوى علمي رفيع. عند ذلك، يستطيع الأستاذ أن يلقي درساً يشتمل على شرح وتوضيح وتفسير الفقرات التي غمضت من المصنف الذي هو بصدد قراءته.

... ومن أحسن الأمثلة التي تعطينا فكرة واضحة عن هذه الطريقة في التعليم مثال ابن عرفة. فيذكر الأبي أن هذا العالم الجليل يقول:

 

... إنما تدخل التآليف في ذلك إذا اشتملت على فائدة زائدة، وإلاّ فذلك تخسير للكاغذ. ويعني بالفائدة الزائدة »على ما في الكتب السابقة عليه«.

 

(1/2632)

 

 

وأما إذا لم يشتمل التأليف إلاّ على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه إنه مخسّر للكاغذ. وهكذا يقول في حضور مجالس التدريس، وإنه إذا لم يكن في مجالس الدرس التقاط زائدة من الشيخ، فلا فائدة في حضور مجلسه، بل الأولى لمن حصلت له معرفة في الاصطلاح، والقدرة على فهم ما في الكتب أن ينقطع بنفسه ويلازم النظر، وضمّن في ذلك أبياتاً هي:

 

إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة

وعَزْوِ غريب النقل أو حلّ مقفل

فسعك دع وانظر لنفسك واجتهد

 

بتقرير إيضاح لمشكل صورة

أو إشكال أدته نتيجة فكرة

ولا تتركنْ فالترك أقبح خلّة

 

(1/2633)

 

 

... ولقد كنت أقيّد من زوائد إلقائه... نحو الورقتين كل يوم مما ليس في كتاب (1).

 

... أما في عصور الاضطرابات والانحطاط الثقافي، فكان المدرس يكتفي بقراءة الكتاب وبتقديم بعض الشروح والحواشي التي ألّفت عليه، وهي طريقة النقل. ومن بين طرق التعليم التي عرفت في كامل أرجاء العالم الإسلامي: الإملاء(2)

__________

(1) نقل هذا النصّ والأبيات: الأبيّ، إكمال الأكمال، القاهرة، 1928، ج 1، صص. 346 ـ 347؛ كما نقله المقري في :أزهار، ج 3، ص. 36.

(2) انظر مثلاً: رحلة العبدري، ص. 139 و ص. 142. وحول طريقة الإملاء بالمشرق، انظر: الدكتور حسين أمين، المدرسة المستنصرية، صص. 83 ـ 86.

 

(1/2634)

 

 

. ويكون الإملاء بطيئاً حتى يتمكن الطالب من كتابة كل ما يمليه الشيخ(1).

... وإذا كان المستوى العلمي للشيخ محترماً، كان بإمكانه ـ عند الانتهاء من إملاء كل فقرة ـ أن يشرحها، ويدون الطالب كذلك هذه الشروح على هامش الأوراق التي كتبت عليها الأصول. وإذا

__________

(1) كان الطالب يولي أهمية بالغة للتقييد على شيوخه. ويفيدنا الرصاع أن أبا عبد الله محمد الواصلي كان من تلاميذ الشيخ ابن حفص عمر القلشاني، وكان يبدي أسفه وندمه لقلة تقييده عن شيخه، لأنه كان يظن أن عمره سيطول حتى يستفيد منه كثيراً (راجع: الفهرست، ص. 188).

 

(1/2635)

 

 

ما انتهى الشيخ من إملاء الموضوع الذي هو بصدد درسه، فإنه يعيد قراءته له، أو يكلف أحد الطلبة بإعادة القراءة حتى يصحّح الأخطاء. ويقع بعد ذلك نقاش في الموضوع، وهذه الطريقة هي المعروفة بالإلقاء(1).

... ويدلنا ابن خلدون على بعض طرق التعليم الموجودة آنذاك والتي لا يحبّذها، فيقول:

... ولقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من

__________

(1) انظر مثلاً: ابن ناجي، معالم الإيمان، ج 3، ص. 79 و 117؛ وابن فرحون، الديباج، ص. 136.

 

(1/2636)

 

 

العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مراناً على التعليم، وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في ميادينها (1).

 

... لكن الطريقة الأخرى للتعليم المنتشرة في العهد الحفصي تتمثل في أن يكلّف الشيخ طالباً بالقراءة ويقوم هو بالشرح، إذ عندما تتوافر الإمكانات المادية لطالب ما، فإنه يشتري نسخة من الكتاب الذي يدرّسه آنذاك (2). فيقرأه قبل أن يلقيه

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، ص. 1003.

(2) انظر ما حصل للعبدري مع أبي العباس الغمّاز في: الرحلة، ص. 240.

 

(1/2637)

 

 

المدرس ويستطيع إذ ذاك أن يقرأ الكتاب في حضرة الشيخ. ويمكن أن يتناوب القراءة مع الشيخ أو طالب آخر. وقد وصلتنا العديد من الأمثلة حول هذه الطريقة التي قال عنها القاضي عياض: »لا خلاف أنها رواية صحيحة«، وهي عنده النوع الثاني من أنواع أخذ الرواية(1). ويمدنا العبدري بمثال حول مناوبة الشيخ الغمّاز القراءة(2).

__________

(1) عياض، الإلماع، ص. 70 وما بعدها.

(2) انظر: رحلة العبدري، ص. 241؛ وراجع أيضاً: الفهرست، ص. 154 و ص. 182.

 

(1/2638)

 

 

... واتّسم القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد بحفظ الطالب لكل ما يدرسه على شيخه(1). ويرى ابن خلدون أن:

... أيسر طرق هذه الملكة ـ أي التعليم ـ فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها، ويحصل مرماها، فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة،

__________

(1) يعلمنا الرصاع أنه عند قدومه إلى تونس حضر للقراءة على مؤدب، فأمره بحفظ "الشاطبتين"، وحفظ "رسالة" ابن أبي زيد (الفهرست، ص. 56).

 

(1/2639)

 

 

فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم (1).

 

... هكذا أصبح التعليم إذن مبنيّاً على حفظ الطالب لما سجله من شرح أستاذه وما أملى عليه أو ما ورد في متون الكتب التي استطاع أن يحصل عليها. وفي بعض الأحيان يتولى إعانة الشيخ أحد طلبته، ويلقب عندئذ بالمعيد(2)، وهو من يعيد على الطلبة ما ألقاه

__________

(1) ابن خلدون، المرجع السابق، ص. 780.

(2) لفظ »المعيد«، هو المستعمل في الأندلس والمغرب، بينما يطلق عليه في المشرق لفظ »المكرّر« (انظر: الفهرست، ص. 158؛ وراجع: ناجي معروف، علماء النظاميات، ص. 249).

 

(1/2640)

 

 

المدرس عليهم ليحسنوا فهمه، فهو دون الشيخ مرتبة، وأعظم درجة من الطلبة، ويطلق عليه في المشرق لفظ »المكرر«، ويبدأ عمله عندما ينتهي عمل المدرس، ويتمثل في شرح النقاط الغامضة من الدرس، وارتبطت وظيفته غالباً بالمدارس، والسبب في ذلك أن المدرسة جمعت طلاباً متفاوتي المستويات، فاحتيج إلى المعيد ليساعد المتخلفين حتى يتمكنوا من مسايرة الآخرين. أما في جامع الزيتونة، فكان الطالب إذا ما لاحظ تخلفه عن الآخرين، تحول إلى حلقة أخرى تكون في مستوى فهمه(1). إلا أن المصادر لا

__________

(1) راجع الرصّاع، الفهرست، صص. 181 ـ 182.

 

(1/2641)

 

 

تشير إلى وجود هاته الخطة إلا نادراً(1).

... ومما يلاحظ أيضاً أنه بداية من العصر الحفصي استغنى الشيوخ عن أمّهات الكتب، واكتفوا بالتلاخيص وبالشروح التي وردت عليها. وهذا ما يستنتج من

__________

(1) يذكر الرصاع أن ابن عقاب عيّنه معيداً له بالمدرسة المنتصرية: الفهرست، ص. 158؛ ويذكر الرماح أن الطلبة كلّموا الشيخ أن يعيّن لهم واحداً يقرؤون عليه "دول الميعاد"، فقال: »انظروا، "فذكرت عنده"، فقال: "اقرءوا عليه". فصاروا يقرءون لي دولهم، فنذكر لهم ما نعرفه من الأقوال« (راجع ابن ناجي، معالم الإيمان، ج 4، ص. 111).

 

(1/2642)

 

 

أسماء الكتب التي درّست خلال القرون السابع والثامن والتاسع للهجرة، وهو ما يؤكده أيضاً ابن خلدون. وفي رأيه أن هذا »فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل«(1). إلا أن هذا الركود الذي اتسمت به الفترات لم تمنع من وجود شيوخ متضلعين من مواد علمية معينة، فقبلوا النقاش مع طلبتهم، وحاولوا أن يعطوا دروسهم أكثر حيوية، وقد وردت في هذا المعنى العديد من الأمثلة(2)

__________

(1) راجع: ابن خلدون، المقدمة، ص. 1001.

(2) راجع مثلاً: الفهرست، ص. 112 و ص. 148 و ص. 151؛ وانظر العبدري، الرحلة، ص. 240؛ وابن ناجي، معالم الإيمان، ج 3، ص. 79 و117.

 

(1/2643)

 

 

، لكن الشيخ ليس مجبراً على الإجابة على أسئلة الطلبة في اليوم نفسه، بل هناك من يتثبّت في الجواب. فيفيدنا الرصاع مثلاً أنّ البرزلي، »مثل العديد من العلماء، عندما يسأله طالب عن مسألة، لا يجيبه إلا بعد أن يتثبّت في الموضوع«(1).

... وكان لبعض المدرّسين فكرة واضحة عن الطريقة التي كان يجب على المدرس اتباعها. فهذا عبد الرحمان بن خلدون، وهو الشيخ الذي تولى التدريس بالعديد من الأماكن، يبدي رأيه في طرق التعليم الموجودة في النصف الثاني للقرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد.

__________

(1) الرصّاع، الفهرست، ص. 62.

 

(1/2644)

 

 

فهو يرى أن:

 

... تلقين العلوم للمتعلّمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن. وعند ذلك، يحصل له ملكة في ذلك العلم؛ إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى فن الأول ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما

 

(1/2645)

 

 

هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شك، فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا مغلقاً إلا وضحه وفتح مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته (1)

__________

(1) راجع المقدمة، صص. 1002 ـ 1003. لكننا نتساءل هل حصل تطبيق هاته الآراء في الجامع الأعظم أو في المدارس، أو بقيت في حدود النظريات. ومهما كان الأمر، فإن تطبيقها يبدو صعباً نوعاً ما إلا على قلّة من الشيوخ. انظر مثلاً كيفية تدريس الشيخ عبد العزيز العبدوسي خلال سنة 817 هـ/ 1415 م (راجع: التنبكتي، "نيل الابتهاج"، ص. 180؛ و الزركشي، تاريخ الدولتين، ص. 130).

 

(1/2646)

 

 

.

... ولدينا أمثلة عديدة على اجتهاد الشيوخ. من ذلك مثلاً ما يفيدنا به الغبريني عن كيفية تدريس أحمد بن عيسى بن عبد الرحمن الغمازي(1) المتوفى سنة 682 هـ/ 1283 م الذي

 

... يكثر البحث وتحتد القرائح ويجيء بالمسألة الخلافية، فيرتضي أحد وجهيها، فيبحث فيه إلى أن يظهر الرّجحان ويقع التسليم، ثم يأخذ الطرف الآخر ويلزم أصحابه ما كان هو يناظر عليه. فلا يزال إلى أن يظهر الرّجحان في ذلك الطرف، ويقع التسليم أيضاً، وهذا من حدّة فكره وجودة نظره (2)

__________

(1) توفي هذا الشيخ بتونس سنة 682 هـ/ 1283 م.

(2) انظر الغبريني: عنوان الدراية، ص. 112.

 

(1/2647)

 

 

.

ولدينا مثال آخر لشيخ يتّبع طريقة تحتوي على مجهود خاص في التعليم. فعندما يدرّس علي بن مخلوف الراشدي (المتوفى سنة 857 هـ/ 1435 م) "مختصر ابن الحاجب"، »يوضح المسألة أولاً حتى يفهمها الجميع، ثم يتّسع في نقل كلام الشرّاح مع البحث، ثم ينقل كلام الأمهات«(1).

... ومما نلاحظه أن طريقة التعليم في المدارس وفي الجامع الأعظم متماثلة تقريباً. لكن من المحتمل أن تكون قد وجدت بعض الفوارق الجزئية التي جعلت لكل منها هيكله الخاص، وشخصية مختلفة عن شخصية الآخر. وهذه الفوارق لا

__________

(1) راجع ابن مريم: البستان، ص. 74.

 

(1/2648)

 

 

تتمثل في محتوى الدروس، فقد كانت واحدة سواء في المدارس أو في الجامع الأعظم، وإنما تتمثل أساساً في الطريقة التي يلقي بها الأستاذ درسه، وخاصة في المستوى العلمي لهذا الشيخ. فمن خلال أسماء أساتذة بعض المدارس، نلاحظ أن جلهم يعدون من أشهر علماء عصرهم. فلا يعيّن بهذه المدارس إلا أهمّ الشيوخ وأكثرهم علماً. وهنا نستطيع أن نقسم المدارس إلى صنفين: مدارس هامة وهي التي أنشأها بعض أفراد العائلة المالكة، كالشمّاعية والعنقية والتوفيقية والمنتصرية والمعرضية. وفي هذه المدارس عين النظام الحاكم أهم الشيوخ. أما

 

(1/2649)

 

 

المدارس الأخرى، فهي أقل أهمية. ولا نعثر على شيوخ هامين درّسوا بها. أما الجامع الأعظم، فمن الواضح أنه درّس به علماء أجلاء وآخرون أقل مستوى. ولذلك، فإن الرأي القائل بأن المدرسة كانت تمثل طوراً من التعليم »الثانوي« بينما يمثل التعليم بالزيتونة، مستوى عالياً، لا يرتكز على معطيات دقيقة وعلمية، إذ أنه من الواضح أن مدارس كالشماعية والعنقية والمنتصرية مثلت طوراً من التعليم يضاهي مستوى أهم الجامعات العلمية. لكن من الملاحظ أن طريقة التعليم في مدارس مدينة تونس لم تعرف تطوراً يذكر، إذ لا نجد فوارق شاسعة

 

(1/2650)

 

 

بين ما كان عليه الحال في الفترة الحفصية وما أصبح عليه في العهد الحسني؛ إذ تواصل التعليم على النسق نفسه، فقد اعتمدت الدراسة خصوصاً على إملاء الشيوخ وحفظ الطلبة.

 

الإجازة

... كما أنه من الثابت أنه لم تكن تحصل امتحانات لمنح الطالب شهادة يتخرج بها. فالطريقة كانت أبسط بكثير من طرق عصرنا هذا. فبعد أن يدرس الطالب على شيخه كتاباً أو عدّة كتب يمنحه إجازة، وهي الطريقة التي كانت متّبعة في كل الحالات. وقد تهافت الطلبة على استجازة العلماء المشاهير والشيوخ الكبار، إذ كان الجميع يعتبرون دراسة الطالب للكتاب

 

(1/2651)

 

 

بنفسه من غير سماع على شيخ خطأ كبيراً. وتكون الإجازة في أكثر الأحيان خطية، يذكر فيها اسم الطالب الملتمس للإجازة، واسم المدرس الذي منحها إياه، ويذكر المجيز أيضاً المصنفات التي أخذها الطالب عنه، والتي يسمح له بتدريسها، كما تكون في بعض الأحيان مشافهة وإذناً باللفظ(1)، ويذكر في أغلب الأحيان كل طالب أنه أخذ عن شيخه كثيراً من المؤلفات ويكتبها مفصلة(2)

__________

(1) انظر: رحلة القلصادي، ص. 116؛ وكذلك الرصاع: الفهرست، ص. 93، ويعدّها عياض بالمرتبة الخامسة في سلم الإجازات (الإلماع، ص. 88).

(2) راجع مثلاً: رحلة القلصادي، ص. 118؛ والعبدري، الرحلة، ص. 52؛ وكذلك الفهرست، ص. 93.

 

(1/2652)

 

 

أو يذكر أنه تحصّل على إجازة عامة، تشتمل على جميع الكتب التي أخذها عن المدرس، دون ذكرها تفصيلاً(1).

... ونتيجة لتهافت الجميع على الإجازات من الشيوخ البارزين، أصبح هؤلاء يجيزون قبل وفاتهم علماء عصرهم وجل من يطلب منهم ذلك. ولدينا نموذج من هذا الصنف من الإجازات هو أبو الفضل التيجاني الذي استجاز

__________

(1) من بينها مثلاً إجازة ابن عرفة لابن حجر العسقلاني (انظر: السخاوي، ج 9، ص. 290)؛ وكذلك إجازة الوادي آشي لابن خلدون (ابن خلدون، التعريف...، صص. 18 ـ 19)؛ وكذلك إجازة ابن دقيق للعبدري (الرحلة، ص. 139).

 

(1/2653)

 

 

أعلاماً من سبتة، وكان ذلك بواسطة ابن رشيد الفهري(1). ووصلت العملية إلى أن البعض أصبح يطلب إجازة له ولأبنائه(2).

__________

(1) انظر: »مقدمة« السنن الأبين، ص. 55. وكتب التجاني هذه الاستجازة في قصيدة يقول فيها:

 

أيها السادة الأباعد عنّا

صلتي غائب السؤال مجابا

لم يحصل لنا حقيقة علم

 

اقبسونا من نوركم بالإجازه

فأجيبوا لكي يجوزوا مجازه

فبربكم ابعثوا إلينا إجازه

 

(2) من بين من حصل على هذا النوع من الإجازة: العبدري الحيحي الذي طلبها لابنه (راجع: الرحلة، ص. 139).

 

(1/2654)

 

 

... إلا أنه يوجد بعض العلماء الذين لم يتهافتوا على الإجازات. فهذا الشيخ تاج الدين الغرافي الذي التقى به ابن رشيد بالإسكندرية رفض أن يمنحه إجازة. فقد كان »ولوعه بالسماع أكثر وأحب إليه من طلب الإجازة والحصول عليها«(1).

__________

(1) ابن رشيد الفهري، السنن الأبين، مقدمة الدكتور محمد الحبيب بالخوجة، ص. 42. وقد أنشد في هذا المعنى:

...

علم الحديث فضيلة تحصيلها

فإذا أردت حصولها بإجازة

 

بالسعي والتطواف في الأمصار

فقد استعضت الصفر بالدينار

 

(1/2655)

 

 

... وتمنح الإجازة شعراً أو نثراً. فمن بين الإجازات التي منحت نظماً القصيدة التي أجاز بها الرصاع أحد طلبته وذلك بالمدرسة الشمّاعية(1).

... كما لدينا أمثلة عديدة في ذكر أسانيد بعض شيوخ الجامع الأعظم؛ وكذلك بالمدارس، ويطول سردها(2)

__________

(1) راجع: فهرست الرصاع، ص. 218.

(2) انظر مثلاً الغبريني، عنوان الدراية، ص ص. 143 ـ 144؛ ورحلة القلصادي، ص. 116؛ ولدينا أيضاً مثال أحمد بن مرزوق التلمساني الذي حصل على الإجازة مشافهة من أبي إسحاق إبراهيم الشامي (الرصاع، الفهرست، صص. 92 ــ 93؛ وراجع المصدر نفسه، من ص. 94 إلى ص. 105).

 

(1/2656)

 

 

.

 

المواد الدراسية والكتب المدرّسة

... ولضبط قائمة الكتب والمصنّفات التي درّست، يمكن الاعتماد على أربعة أصناف من المعلومات:

 

يأتي ذكر الكتاب ضمن مواد التدريس في مدرسة معيّنة أو بالزيتونة.

ذكر الشيخ الذي درّس الكتاب، والمعروف لدينا بتدريسه في الزيتونة أو في مدرسة أو عدة مدارس.

ذكر الطالب الذي درس الكتاب، والذي نعلم أنه درس بالزيتونة أو أنه سكن ودرس بإحدى المدارس.

تواصل تدريس هذا الكتاب عبر العصور، ومن دون انقطاع.

 

علوم القرآن والقراءات

 

(1/2657)

 

 

... وقد اتبعت في الزيتونة وفي جل المدارس بمدينة تونس خلال العهد الحفصي طريقة الإقراء بالسبع وبصورة أقل الإقراء بالعشر(1)

__________

(1) نذكر من بينها:

... الطالب ... ... المدرّس

... خالد البلوي ... أبو عبد الله بن بدال (بالسبع) (رحلة البلوي، ورقة 17 أ.).

... عبد الله بن عرفة ... ابن عبد السلام (القراءات بالعشر) (الرصاع، الفهرست، ص. 78).

... عبد الرحمن بن خلدون ... ابن برّاء التنّوخي (بالسبع) (العبر، ج 7، ص. 1131).

... البرزلي ... ... ابن مرزوق (بالسبع) (الفهرست، ص. 57).

 

... وراجع كذلك: ابن ناجي، المرجع السابق، ج 4، ص. 3.

 

(1/2658)

 

 

. ولدينا أمثلة عديدة وردت في المصادر عن القراء بالسبع والعشر(1).

... ويمكن بالطبع أن يقرأ القرآن بالإفراد، أي أن يتلى كلّه، أو جزء برواية أحد القراء بالسبع أو بالعشر. ويمكن أن يقرأ القرآن جمعاً، أي بجمع القارئ بين روايتين أو أكثر من هذه الروايات، ويسمى آنذاك بالجمع الكبير إن استوفى القارئ سبع قراءات أو أكثر. وإن لم يقرأها بالقراءات السبع، سمي بالجمع الصغير(2)

__________

(1) بخصوص ترجمة القراء العشرة، راجع: عبد الباقي الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، الجامعة الأزهرية، القاهرة، 1954، ص ص. 449 ـ 457.

(2) مثال ذلك: قرأ البرزلي على الشبيبي البلوي، وهو »جمع كبير« (الفهرست، ص. 76).

 

(1/2659)

 

 

. ويبدو أن التونسيين بصفة عامة اتّبعوا روية نافع في القراءة(1). وتوجد عليها روايتان هامتان لورش وقالون، وعليهما اعتمد القراء بتونس(2)

__________

(1) فقد قرأ البلوي القرآن بقراءة نافع (رحلة البلوي، ورقة 161 أ). لكن قرأ ابن البراء أيضاً بقراءة أبي محمد يعقوب الحضرمي (المصدر نفسه، ورقة 18 أ)؛ وقرأ البلوي كذلك على ابن بدّال برواية ابن العلا (المصدر نفسه).

(2) بخصوص القراءات، راجع ابن خلدون، المقدمة، صص. 789 ـ 795؛ والزرقاني، مناهل العرفان، ج 1، صص. 405 ـ 495؛ وكذلك:

 

« Al Koran », in Encyclopedi de l’Islam, T. III, pp. 1125-1139.

 

(1/2660)

 

 

.

... وكتب العديد من المؤلفين في القراءات، وأهمّهم أبو عمرو الداني. إذ ذكر ابن خلدون أنه لم يزل القراء يتداولون هذه القراءات إلى »أن ظهر أبو عمرو الدّاني، وبلغ الغاية في هذا العلم، ووقفت عليه معرفة القراءات وانتهت إلى روايته وأسانيدها، وتعدّدت تآليفه فيها وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب "التيسير" له« (1). وقد ذكرت بعض المصادر أسماء شيوخ درسوا هذا المصنّف وبعض الطلبة الذين أخذوه عنهم(2)

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، ص. 790.

(2) انظر خاصة: »مقدمة« السنن الأبين، للدكتور محمد الحبيب بلخوجة، ص. 32؛ وكذلك: رحلة العبدري، الذي ذكره عدة مرات في ص. 44 وص. 241 وص. 243 وص 244، إلخ.؛ وانظر: القلصادي، المرجع السابق، ص. 122؛ والرصاع، المرجع السابق، ص. 84؛ ورحلة البلوي: ورقة 18 أ؛ كما أخذه التنبكتي على ابن عقاب (السراج، الحلل، ج 1، قسم 3، ص. 691).

 

(1/2661)

 

 

. كما اعتمد الشيوخ أيضاً على "الشاطبية الكبرى"(1)، وهي قصيدة متكونة من 173 بيت. وذكر ابن خلدون أنه »عني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلّمين، وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس« (2)، وتواصلت قراءتها من غير انقطاع، إذ مثلت المرجع في القراءات. أما

__________

(1) وهي: حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني، للشيخ أبي محمد بن القاسن بن فيّرة بن خلف بن أحمد الرعيني الأندلسي الشاطبي الضرير، المتوفى بالقاهرة (538 هـ/ 1144 م ـ 590 هـ/ 1194 م).

(2) المقدمة، المرجع السابق، صص. 791 ـ 792.

 

(1/2662)

 

 

المصادر التي ذكرت أنها درست، فهي

عديدة(1)

__________

(1) نورد من بين الأمثلة: القلصادي الذي درسها في المنتصرية على ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 122)، وأخذها العبدري على ابن جعفر اللبلي وعلى الوادي آشي (رحلة العبدري، ص. 44 وص. 265)، وقرأها ابن خلدون على ابن برّال (العبر، ج 7، صص. 1134 ـ 1135)، وأخذها البرزلي على ابن عرفة وعلى ابن مرزوق (فهرست الرصاع، ص. 84 وص. 90) الذي أخذها عنه الرصاع بدوره، وقرأها أيضاً على محمد بن أبي بكر (المصدر نفسه، ص. 60 وص. 117) وعليها عدة شروح وتفاسير من بينها "الدّرر اللوامع" التي درّست بدورها في تونس.

 

(1/2663)

 

 

. وللشاطبي نفسه قصيدة أخرى درست ووجدت حظوة لدى الشيوخ والطلبة، وهي "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد" في رسم المصحف. وقد درست من غير انقطاع طوال الفترة الحفصية(1)

__________

(1) فقد درسها القلصادي على ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 122) والعبدري على الوادي آشي (رحلة العبدري، ص. 265) وابن خلدون على ابن برّال (العبر، ج 7، ص. 1134) وأخذها كذلك البزلي على ابن مرزوق (الفهرست، ص. 57) وبدوره درسها عليه الرصاع (المصدر نفسه، ص. 60) وأخذها البلوي عن ابن برّال (رحلة البلوي، ورقة 18 أ). ويبدو أنه تمّ الاستغناء عن هذه القصيدة أو على الأقل الفتور في تدريسها؛ إذ لا نجد لها ذكراً خلال الفترة الحسينية. ويفيدنا ابن خلدون أن الخراز المغربي نظم أرجوزة اقتصر الناس على حفظها وهجروا بها كتب أبي عمرو الشاطبي في الرسم (المقدمة، ص. 792).

 

(1/2664)

 

 

. كما درست "القصيدة الحصرية" في قراءة نافع والتي انقطع ذكرها في أواخر القرن التاسع للهجرة/ الخامس عشر للميلاد(1)، لكن وجد شرحها لمحمد الخراز أكثر نجاحاً، وعنوانها "سلوة الأنفاس" وتواصل درسها إلى القرن الحالي(2).

 

تفسير القرآن

... كما نالت التفاسير القرآنية عناية خاصة من قبل الشيوخ والطلبة(3)

__________

(1) درّسها ابن حبيش: راجع »مقدمة « السنن الأبين، ص. 32.

(2) ذكر ذلك الحشايشي في: تاريخ جامع الزيتونة، ص. 46.

(3) بخصوص تفسير القرآن، راجع ابن خلدون، صص. 792 ـ 795؛ ويمدنا حاجي خليفة بمفهوم علم التفسير في:كشف الظنون، صص. 427 ـ 436؛ وراجع الزرقاني، المرجع السابق، ج 1، صص. 405 ـ 452.

 

(1/2665)

 

 

. ومن أهم مصنفات هذا الفن التي اعتمد عليها في التدريس بالجامع الأعظم وبمدارس العلم، نجد تفسير ابن عطية. ويذكر ابن خلدون أن هذا المؤلف »لخّص التفاسير كلها، وتحرّى ما هو أقرب إلى الصحّة منها، ووضع كل ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس«(1). وتوجد بعض الإشارات إلى تدريسه خلال الفترة الحفصية(2). ومن الراجح أنه لم يتواصل تدريسه بعد ذلك.

__________

(1) المقدمة، المرجع السابق، ص. 794.

(2) انظر خاصة »مقدمة« السنن الأبين، ص. 32؛ وراجع مصنف الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص. 81.

 

(1/2666)

 

 

... كما لدينا أيضاً كتاب آخر من الأهمية بمكان وهو: "الكشاف عن حقائق التنزيل" للزمخشري، وهو ربما كان من أهم المصنفات التي اعتمد عليها، إذ يعلمنا ابن خلدون »أنه من أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن، كتاب "الكشاف" للزمخشري، وهو معتزلي في العقائد. ولذلك صار للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة«(1). لكن انتماء الزمخشري إلى المعتزلة لم يمنع مؤلفه من أخذ شهرة فائقة لدى الأوساط المتعلمة، ودرّس من غير انقطاع (2)

__________

(1) المقدمة، ص. 795.

(2) فدرسه مثلاًً البرزلي على ابن عرفة (الفهرست، ص. 48).

 

(1/2667)

 

 

. وأدخل شرحه لشرف الدين الطيبي العراقي في بداية النصف الثاني للقرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد. كما اعتمد المدرسون أيضاً على تفسير الفخر الرّازي ـ المعروف بانتمائه للمذهب الشافعي ـ، "الأسامي والغايات في شرح الآيات البيّنات"؛ وكذلك: "مفاتيح الغيب". ويرجع الفضل في إدخال مصنفات الفخر الرازي إلى القاضي ابن زيتون، وذلك في أواخر القرن السابع للهجرة/ الثالث عشر للميلاد. وقد أقرأ "المفاتيح" بشرح السراج الأرموي(1)

__________

(1) الذي درّس بعدّة أماكن خاصة بالجامع الأعظم وبالمدرسة الشمّاعية (انظر الغبريني، عنوان الدراية ، ص. 114؛ وكذلك ابن فرحون، الديباج، ص. 99؛ والشيخ الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب، صص. 81 ـ 82).

 

(1/2668)

 

 

.

... ولدينا كذلك تفسير القاضي البيضاوي، وهو: "أنوار التنزيل وأسرار التأويل في التفسير" لخّص فيه صاحبه من "الكشاف" ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ومن "التفسير الكبير" ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن "تفسير الراغب"، ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق (1).

... كما نلاحظ وجود بعض المصنفات الأخرى التي لم تدرّس بصفة منتظمة أو درّست لمدة وجيزة، مثل "تفسير ابن حيّان" (2)

__________

(1) قرأه ابن عقاب على ابن العباس المغامي (الفهرست، ص. 165)؛ ودرسه الرصاع على أبي العباس القسنطيني (المصدر نفسه، صص. 136).

(2) ذكره الرصاع عندما درسه على ابن عقاب (الفهرست، ص. 151).

 

(1/2669)

 

 

.

 

علوم الحديث

... من الفنون الهامة الأخرى التي درست بانتظام، وكان إقبال الطلبة عليها واضحاً وجليّاً، علم الحديث. ومن أهم كتب الحديث المدروسة: "موطأ مالك". ومن الطبيعي أن يكون الاعتماد مباشرة على مصنفه، إذ اتبع أهل إفريقية مذهبه(1). ويعلمنا ابن خلدون أن »"الموطأ" من أصول السنن والحديث وأمهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وآثاره يرجع الكثير من

__________

(1) بدأ تدريسه مبكّراً، ودرّسه علي بن زياد بعد رجوعه إلى تونس (انظر: أبو العرب، طبقات علماء إفريقية، ص. 251).

 

(1/2670)

 

 

فقهه«(1). ويذكر أيضاً أن الناس اقتصروا في دراسته على رواية يحيى بن يحيى، ويؤكد أنه »هجرت الروايات الأخرى، ودرست الموطآت الأخرى إلاّ موطأ يحيى بن يحيى. فبروايته أخذ الناس لهذا الكتاب شرقاً وغرباً«(2)، وهو ما يوافق ما أتت به المصادر الأخرى. فالعديد من الشيوخ درّسوا "الموطأ" برواية يحيى بن يحيى. ويكاد لا يخلو مصدر من ذكر تدريس هذا الكتاب في مدينة تونس (3)

__________

(1) العبر، المصدر السابق، ج 7، ص. 1112.

(2) المصدر نفسه.

(3) راجع: رحلة القلصادي، ص. 44؛ وراجع: رحلة البلوي، ورقة 21 أ؛ وفهرست الرصاع، ص. 57، 60، 84، 154، والعبدري، المرجع السابق، ص. 44 وص. 266؛ القلصادي، المرجع السابق، ص. 121، وابن خلدون، المرجع السابق، ج 7، ص. 1123، إلخ.

 

(1/2671)

 

 

.

... وبالطبع، من أهم المصنفات على الإطلاق التي درست هي: "الجامع الصحيح" المشهور بـ"ـصحيح البخاري" (1). وكان الإقبال كبيراً على هذا

المؤلف(2)

__________

(1) أول من أدخله إلى إفريقية: هو أبو الحسن القابسي.

(2) والأمثلة لتدريسه بالجامع الأعظم وبمدارس العلم لا تحصى كثرة. فقد ذكر في أغلب المصادر عدد هام من الشيوخ الذين درّسوه أو الطلبة الذين درسوه، ويمكن مثلاً مراجعة الرصاع الذي يذكر بعض أسانيد ابن عرفة في "صحيح البخاري"، ص. 93؛ وكذلك رحلة القلصادي، ص. 116؛ وراجع العبدري، ص. 241 و245 و365؛ وانظر: المؤنس، »فصل في تعظيم البخاري من قبل أهل الحضرة«، ص. 318.

 

(1/2672)

 

 

، وكذلك "صحيح مسلم" لكونهما أصحّ الدواوين وأجمعها. كما يرى ابن خلدون أن الناس استصعبوا شرح البخاري، ولذلك شارحوه بإفريقية قلّة (1). ويبدو أن لهذا السبب فضّل علماء الزيتونة وغيرهم في العهد الحفصي، "صحيح مسلم"(2) على "صحيح البخاري". ويذكر ابن

__________

(1) المقدمة، المرجع السابق، ص. 800.

(2) ذكرته أغلب المصادر وقرأه جمع غفير من الطلبة على مرّ القرون. ففي غالب الأحيان، عندما يذكر مصدر ما أن شيخاً من الشيوخ درّس "صحيح البخاري"، يذكر "صحيح مسلم" أيضاً، وفي بعض الأحيان يستغني عن ذكرهما ويقول: "الصحيحين".

 

(1/2673)

 

 

خلدون أنه »قد كثرت عناية علماء المغرب به، وأكبّوا عليه، وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري«(1). وعلى هذه المصنفات الثلاثة "الموطأ" والبخاري ومسلم، وجدت الكثير من الشروح والحواشي التي درّست هي أيضاً. فدرّس مثلاً كتاب أبي عبد الله الحاكم الشافعي المذهب "المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين" جمع فيه بين صحيح مسلم وصحيح البخاري (2)؛ لكن يبدو أن تدريسه قد انقطع في أواسط الفترة الحفصية، إذ لا نجد له

__________

(1) ابن خلدون، االمرجع السابق، ص. 801.

(2) وقد أخذه ابن رشيد عن ابن زيتون، راجع »مقدمة« السنن، ص. 28.

 

(1/2674)

 

 

ذكراً في المصادر بعد هذه الفترة.

... وبخصوص "الموطإ"، لدينا "التقصّي لأحاديث الموطإ" لابن عبد البر، وهو من أهم شروح "الموطأ" التي درّست في العهد الحفصي (1). أما "صحيح مسلم"، فعليه "إكمال اكمال

__________

(1) قرأه ابن رشيد على ابن زيتون (السنن، ص. 27)؛ وكذلك ابن خلدون على ابن برال (العبر، ج 7، ص. 1133)؛ و لابن عبد البرنفسه كتاب: "التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد" (راجع: الفهرس"، ص. 58)؛ ولخّصه في كتاب آخر هو: "الاستذكار لمذاهب أئمة الأمصار وفيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار" ودرّس كليهما.

 

(1/2675)

 

 

المعلم" للآبي (1) (وتواصل تدريسه إلى أواسط القرن الحالي). لكن بالطبع درست كتب أخرى في الحديث، خصوصاً منها بقية الصحاح الستة (2).

__________

(1) قرأه الرصاع على ابن عقاب (انظر: الرصّاع، الفهرست، ص. 151).

(2) "سنن الترمذي" درّسه ابن حبيش (مقدمة السنن، ص. 30)، ودرسه العبدري (الرحلة، ص. 241). أما "سنن" أبي داود، فقد درّسه أبو العباس الغماز (العبدري، المرجع السابق، ص. 241)؛ ودرسه ابن حبيش »)مقدمة« السنن، ص. 32)؛ كما ذكره الرصاع (المرجع السابق، ص. 97).

 

(1/2676)

 

 

... ومن أهم الكتب الحديثية الأخرى التي اعتمد عليها في التدريس: "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" للقاضي عياض. وقد بلغت شهرته بتونس شأواً لم يبلغه إلا "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، وحبّس السلطان أبو فارس عبد العزيز أوقافاً كي يقرأ "الشفا" و"الصحيحان" بالجامع الأعظم كل يوم جمعة (1). ومن بين المصنفات الهامة الأخرى في مصطلح الحديث "علوم الحديث" لابن الصلاح، ولا نعلم

__________

(1) الزركشي، الدولتين، ص. 116؛ وذكره الرصاع في العديد من المرات، المرجع السابق، ص. 57، 60، 84، 90)؛ وقرأه القلصادي (الرحلة، ص. 121).

 

(1/2677)

 

 

بالتدقيق تاريخ دخوله إلى تونس، لكن درّسه ابن عبد السلام(1). كما اعتمد المدرسون أيضاً على مؤلف الترمذي: "الشمائل النبوية والخصال المصطفوية". ونظراً لأهميته، ذكرته المصادر العديد من المرّات، وتواصل تدريسه إلى أيامنا هذه (2). كما اعتمد

__________

(1) أخذه البرزلي عن ابن مرزوق (الرصاع، المرجع السابق، ص. 57)؛ وذكره ابن عاشور (أليس الصبح بقريب، ص. 81).

(2) ذكره العبدري، المرجع السابق، ص. 43؛ وذكر الرصاع سند ابن عرفة فيه (الفهرست، ص. 105)؛ وانظر »مقدمة« السنن، ص. 32؛ والحشايشي، تاريخ جامع الزيتونة، ص. 46.

 

(1/2678)

 

 

المدرسون أيضاً على "الأحكام الكبرى" و"الأحكام الصغرى" لعبد الحق الإشبيلي، ويبدو أنهما لم يدرّسا إلاّ خلال الفترة الحفصية (1).

... ومن بين المصنفات الأخرى: "عمدة الأحكام في سيّد الأنام" للجاماعيلي الحنبلي، وقد دام تدريسه فترة طويلة (2). أما في السيرة النبوية، فاعتمد المدرسون على مصنفين نالا شهرة واسعة:

__________

(1) انظر الرصاع الذي ذكر سند ابن عرفة في هذين المصنفين (الفهرست، ص. 105).

(2) ذكره الرصاع في "الفهرست"، ص. 90؛ ومدّنا بسند ابن عرفة، الفهرست، ص. 105. راجع كذلك القلصادي، المرجع السابق، ص. 122.

 

(1/2679)

 

 

أولهما "السيرة النبوية" لابن إسحاق، وهذا الكتاب لم يصلنا؛ والثاني هو "سيرة ابن هشام"، وهو تهذيب للكتاب الأول(1)، ودرست كذلك العديد من كتب الأربعين الحديثية (2)

__________

(1) من بين من درسه ابن حبيش (»مقدمة« السنن، ص. 32)؛ وانظر العبدري، المرجع السابق، ص. 182.

(2) من بينها: "كتاب الأربعين المخصوصة بالتعيين لرواية سيد المرسلين عن رب العالمين"، لأبي الحسن المقدسي التي درّست في العصر الحفصي: ذكره العبدري عندما درسه على أبي العباس البطرني (رحلة العبدري، ص. 257)؛ وقرأها ابن حبيش (»مقدمة« السنن الأبين، ص. 32)؛ ودرسها القلصادي على ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 122)؛ ومن بينها أيضاً "الأربعين النووية"؛ وكذلك "الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين" لأبي الفتوح الطائي؛ و"الأربعين" للفراوي وغيرها. (انظر »مقدمة« السنن، ص. 72 و28 و32).

 

(1/2680)

 

 

.

... واهتم المدرسون والطلبة بقراءة بعض القصائد في مدح الرسول، وهي تقرأ تبرّكاً أكثر منها للدراسة والاستفادة، ومن أهمها "البردة" للبوصيري الشافعي المذهب، وعليها الكثير من الشروح والتخميسات (1). وللبوصيري نفسه: "الهمزية في المدائح النبوية" (2)

__________

(1) ذكرها ابن خلدون (في "العبر"، ج 7، ص. 694)؛ وكذلك الرصّاع (في "الفهرست"، ص. 90 و122 و141 و215). وأكد الحشايشي مواصلة تدريسها خلال القرن الحالي بالجامع الأعظم: "تاريخ جامع الزيتونة"، ص. 46.

(2) سماها "أم القرى"، وتواصل تدريسها إلى القرن الحالي، وذكرت في العديد من المصادر خاصة خلال الفترة الحسينية.

 

(1/2681)

 

 

، ومن القصائد الأخرى "الشقراطسية". وقد نقلها العبدري في "رحلتـ"ـه، وذكر أنه »أولع الناس بها كل الولوع واستحسنوا من محاسنها كل مفرق ومجموع وعنوا بها شرحاً وتخميساً(1). وقد أخذت مكانها "البردة" خلال الفترة الحسينية«(2).

 

فروع الفقه

__________

(1) رحلة العبدري، ص. 45 ـ 49. وقد درسها هو بنفسه (ص. 215) كما ذكرها القلصادي (ص. 122).

(2) هذا ما يؤكده برونشفيك. (انظر: Brunschvig., « Les Hafsides », T. II, p. 450).

 

(1/2682)

 

 

... اهتم التونسيون أيما اهتمام بالفقه، ويبدو أن الفروع مثلت أهم المواد التي كانت درّست وتناولها العلماء بالبحث. لهذا تكاثر عدد الفقهاء بتونس. والمصنفات التي درّست في هذا الفن كثيرة جداً، سنقتصر على ذكر أهمها. وكما ذكرنا بعد، فقد درست خلال الفترة الحفصية مصنفات في الفقه المالكي، إلا ما قلّ وندر من المصنفات المؤلّفة على المذاهب الأخرى. واعتنى المدرسون اعتناءً خاصاً بـ"ـالمدونة الكبرى في فروع المالكية" للإمام سحنون. وبما أن رواية سحنون هي التي عوّل عليها، فهي اشتهرت باسمه(1)

__________

(1) عن كيفية دراسة سحنون على أبي القاسم، وتخيير أهل إفريقية لـ"مدوّنة" سحنون على "الأسدية" (انظر مقدمة ابن خلدون، ص ص. 811 ـ 812).

 

(1/2683)

 

 

. ويدرس "المدونة" الطلبة المتقدّمون علمياً والمستعدون أكثر من غيرهم لفهمها والتعمق فيها، فهي ليست في متناول الجميع. واهتم بشرح كتاب سحنون الكثير من الفقهاء، خصوصاً منهم ابن يونس، وأضاف إلى "شرح المدوّنة" غيرها من الأمهات. وهو من أهم الشروح التي عوّل عليها في الفترة الأولى للحكم الحفصي(1).

__________

(1) من بين من درّس "المدونة" بشرح ابن يونس: ابن عقاب والغبريني (الرصاع، المرجع السابق، ص. 151). ولما سأل والد الرصاع الشيخ ابن عقاب عن أي كتاب يلازمه، نصحه بـ"ـالمدوّنة" بشرح ابن يونس (المصدر نفسه، ص. 148).

 

(1/2684)

 

 

أما أهم الشروح على " المدونة"، فهو للبرادعي القيرواني الذي ألف "التهذيب في اختصار المدونة" وتواصل تدريسه فترة طويلة(1)

__________

(1) قائمة الذين درسوه طويلة جداً، نذكر من بينهم القلصادي على أحمد القلشاني (القلصادي، المرجع السابق، ص. 116) وعلى ابن عقاب (المصدر نفسه، ص. 128)؛ والبرزلي على ابن مرزوق وعلى محمد الشبيني وعلى ابن عرفة (الرصاع، المصدر السابق، ص. 54 و57)؛ وأخذه الرصاع على القلشاني (المصدر نفسه، ص. 183)؛ ودرسه الرصاع بدوره (ص. 215)؛ وانظر كذلك ابن فرحون، ص. 78؛ وراجع ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص. 92.

 

(1/2685)

 

 

.

... كما نذكر من بين من اختصر "المدونة" عبد الله بن أبي زيد صاحب "الرسالة" في الفقه المالكي التي وجدت صدى كبيراً بين الطبقات المثقفة، إذ تواصل تدريسها دون انقطاع. وأول ما يبدأ الطالب بقراءته في مادة الفقه هذا المصنف الهام(1)

__________

(1) ومن بين من درّس "الرسالة" أبو علي بن مخلوف الراشدي المتوفى سنة 857 هـ/ 1470 م، وكان يستخرج منها فقه "مختصر" ابن الحاجب و"مدونة" سحنون (انظر: الفهرست، ص. 44) ودرسها أيضاً ابن حبيش (»مقدمة« السنن، ص. 32)؛وأخذها القلصادي في عدة مناسبات (ص. 58، 59، 122، 151)؛ ودرسها الرصاع على أبي العباس احمد القلشاني الذي شرحها في كتاب سماه: "تحرير المقالة في شرح الرسالة" (الفهرست، ص. 184).

 

(1/2686)

 

 

.

... كما اهتم الفقهاء بـ"ـالمختصر الفقهي" لابن الحاجب الذي لقي رواجاً كبيراً بين طلبة المدارس والزيتونة، وهو من المصنفات التي درست بغير انقطاع(1)

__________

(1) أدخل "مختصر" ابن الحاجب ناصر الدين المشدلي إلى بجاية ثم انتشر في إفريقية وأخذه القلصادي عن القلشاني (القلصادي، المصدر السابق، ص. 116)؛ وعن ابن عقاب (المصدر نفسه، ص. 121)؛ وذكره الرصاع في عدة مواضع، ومن بين من درسه: ابن عرفة والبرزلي والقلشاني والرصاع وغيرهم... كما درسه خالد البلوي عن ابن عبد السلام (رحلة البلوي، ورقة 21 أ)؛ وذكره العبدري، المصدر السابق، ص. 102؛ وذكره ابن فرحون، الديباج، ص. 30 و87؛ وذكر الحشايشي تدريسه في الزيتونة خلال القرن الحالي (تاريخ جامع الزيتونة، ص. 45).

 

(1/2687)

 

 

، ومثل مع "رسالة" ابن أبي زيد المؤلَّفَيْن اللذين استطاعا البقاء على أهميتهما بعد دخول "مختصر الشيخ خليل". ويبدو أن الشرح الوحيد لـ"ـمختصر" ابن الحاجب الذي درس في مدينة تونس للرهوني(1). لكن بعد مدة من انتشار "جامع الأمهات"، أتى دور مؤلف آخر بلغ أهمية قصوى: إذ اعتمد كل الشيوخ عليه، وهو "مختصر خليل" في فروع الفقه المالكي. فبداية من القرن التاسع للهجرة/ والخامس عشر للميلاد، بدأت شهرة هذا "المختصر"، أخذ بذلك المنصب الأول، ولم يزاحمه في مكانته هذه إلا

__________

(1) درسه الرصاع عن الواصلي (الفهرست، ص. 191).

 

(1/2688)

 

 

"مختصر ابن الحاجب" و"رسالة" ابن أبي زيد ونستطيع أن نقارن "مختصر خليل" في الفقه من حيث الأهمية بـ"ـصحيح البخاري" في الحديث. كما اهتم العلماء في الفترة الحفصية أيضاً بكتاب ابن الجلاب: "التفريع في الفروع". فعادة بعد دراسة "رسالة" ابن أبي زيد، يمر الطالب مباشرة لقراءة هذا المصنف(1)

__________

(1) قرأه البرزلي على ابن عرفة (الرصاع، المصدر السابق، ص. 84)؛ وعلى أبي محمد الشبيني (المصدر نفسه، ص. 57)؛ ودرسه الرصاع على ابن عقاب وعلى أحمد القلشاني، ثم درّسه بنفسه (المصدر نفسه، ص. 153، 183، 215)؛ ودرسه كذلك على ابن الزيّات الأندلسي (مخلوف، المصدر السابق، ج 1، ص. 226، عدد 811)، كما أخذه القلصادي عن ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 121).

 

(1/2689)

 

 

. كما اعتنى العلماء أيضاً بكتاب "التلقين في الفروع" للقاضي عبد الوهاب، وهو تلميذ ابن الجلاب؛ إلا أن دراسته تتواصل بعد الفترة الحفصية، وقس على ذلك شرح "التلقين للمازري". واهتم كذلك المدرسون بـ"ـحدود" ابن عرفة. أما "المختصر في الفقه" للشيخ نفسه، فقد عرف انتشاراً كبيراً بين الفقهاء(1). ووجدت بعض مصنفات الباجي الذهبي ـ أصيل قرطبة ـ شيئاً من إقبال الطلبة،

__________

(1) ودرسه القلصادي على ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 121) وأخذه الرصاع عن أبي الفضل المعلقي (الفهرست، ص. 191)، ثم درسه بنفسه (المصدر نفسه، ص. 215).

 

(1/2690)

 

 

خصوصاً منها: "فصول الأحكام وبيان ما مضى به العمل عند الفقهاء والحكّام" وكذلك "الوثائق المتيطية"، وهي "النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام" الذي درّس خلال الفترة الحفصية فقط.

 

أصول الفقه

... وهنا نلاحظ أنه بالرغم من الأهمية التي بلغتها الأصول، فهي لم تصل إلى أهمية الفروع. ويرى ابن خلدون أن أحسن ما كتب في أصول الفقه هو: "فوائد البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين(1)، ودرّس أيضاً شرحه للإمام

__________

(1) من بين من درّسه: أبو محمد بن عبد الحميد بن أبي البركات بن أبي الدنيا (رحلة التجاني، ص. 257).

 

(1/2691)

 

 

المازري الذي سماه "إيضاح المحصول من برهان الأصول". ومن أهم مصنفات أصول الفقه التي تناولها الشيوخ بالبحث: "المستصفى" للغزالي، فهو من المصنفات التي يعتبرها ابن خلدون هامة جداً(1).

... ومن المؤلفات الهامة الأخرى: "المحصول في أصول الفقه"، وهو تلخيص الرازي للـ "ـبرهان" لإمام الحرمين

__________

(1) راجع: المقدمة، ص. 821، ودرّسه ابن أبي الدنيا (رحلة التجاني، ص. 256)؛ وأخذه القلصادي عن ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 122)؛ كما أقرأه أيضاً ابن حبيش (»مقدمة« السّنن، ص. 32)؛ وراجع ابن عاشور، أليس الصبح...، ص. 81.

 

(1/2692)

 

 

و"المستصفى" للغزالي وكذلك "العهد" لعبد الجبّار، وشرحه "المعتمد" لأبي الحسن البصري. ويعتبر ابن خلدون "المحصول" من أحسن ما صنّف في أصول الفقه(1) وشرحه القرافي في كتاب سماه: "تنقيح الفصول في الأصول" وتواصل تدريسه إلى القرن الحالي بجامع الزيتونة(2)

__________

(1) ابن خلدون، المرجع السابق، ص. 822.

(2) راجع: المقدمة، ص. 822؛ وأخذه القلصادي عن أحمد المنستيري (رحلة القلصادي، ص. 117)؛ وذكره ابن فرحون، ص. 80 و83؛ ودرسه القلصادي أيضاً على ابن عقاب (رحلة القلصادي، ص. 122)؛ وانظر الحشايشي، تاريخ جامع الزيتونة، ص. 46.

 

(1/2693)

 

 

. كما لخّص البيضاوي هو أيضاً "محصول" الرازي في كتاب سماه "منهاج الأصول إلى علم الأصول"(1). أما الآمدي الحنبلي، فقد لخص المصنفات نفسها التي لخصها الرازي في كتاب "أحكام الأحكام في أصول الأحكام"(2)، ولخص هذا المصنف أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف "بـ"ـالمختصر الكبير"، وهو "منتهى السّول والأمل في علمي الأصول والجدل"، ثم اختصره في كتاب آخر هو الذي درس في تونس سماه: "مختصر منتهى السّول".

__________

(1) أخذه القلصادي عن ابن عقاب (الرحلة، ص. 122).

(2) انظر: المقدمة، ص. 821؛ والقلصادي، المصدر نفسه، ص. 122.

 

(1/2694)

 

 

بلغ هذا الكتاب أهمية كبرى حتى أن ابن خلدون يؤكد تداوله بين طلبة العلم، واعتناء أهل المشرق والمغرب بمطالعته وشرحه(1). ومما يؤكد هذا الاهتمام مواصلة تدريسه إلى أواسط هذا القرن بالزيتونة(2)

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، ص. 822.

(2) الحشايشي، المرجع نفسه، ص. 45؛ ودرسه ابن عرفة (الرصاع، المصدر السابق، ص. 57)؛ وكذلك أبو القاسم القسنطيني (المصدر نفسه، ص. 191)؛ وأخذه الرصاع عن أبي يوسف يعقوب (ص. 130)؛ كما درّسه بدوره الرصاع (ص. 215)؛ وقرأه القلصادي على أحمد المنستيري (الرحلة، ص. 117)؛ وذكر ابن فرحون (ص. 80) الشيء نفسه؛ كما أقرأه الونشريسي (المصدر نفسه، ص. 87).

 

(1/2695)

 

 

، كما درس في الفترة الحفصية شرح الرهوني لـ"مختصر ابن الحاجب" الأصلي(1)؛ إذ انفرد الرهوني آنذاك بهذا الشرح والتحقيق.

... كما درس كتاب "أبكار الأفكار" للآمدي(2)... تبدو إذن قائمة المصنفات في أصول الفقه التي درست في الجامع الأعظم وفي مدارس المدينة خلال العهد الحفصي ضخمة نوعاً ما، إذ نجد بعض المؤلفات الأخرى التي نالت شيئاً من الحظوة لدى المدرسين قد تفاوت الاهتمام بها حسب أهميتها. ومن

__________

(1) من بين من درّسه محمد الواصلي (انظر الرصاع، المصدر نفسه، ص. 191).

(2) راجع ابن عاشور: أليس الصبح بقريب، ص. 81.

 

(1/2696)

 

 

أهمّ هذه المصنفات: "جامع الجوامع" للسبكي(1). كما لدينا شرح ابن التلمساني للـ"ـمعالم في أصول الفقه" لفخر الدين الرازي. وبالرغم من أن الأصل لم يدرس، فقد درس الشرح الذي لم يقرأ إلا خلال الفترة الحفصية(2). انطلاقاً من هذه المؤلفات التي درست في الفقه

__________

(1) درسه القلصادي على ابن عقاب (القلصادي، المصدر السابق، ص. 122)؛ ويذكره ابن فرحون وغيره، وتواصل تدريسه في الزيتونة إلى القرن الحالي (انظر الحشايشي، ص. 45).

(2) أخذه القلصادي عن المنستيري (رحلة القلصادي، ص. 116)؛ وانظر الرصاع، المصدر نفسه، ص. 216.

 

(1/2697)

 

 

وأصوله، يمكن استنتاج أن المدرّسين والطلبة اهتموا أكثر بالشروح والتلاخيص من الأمهات نفسها.

...

علم الكلام

... إلى جانب المحدثين والفقهاء، وجد أصحاب علم الكلام؛ وسمي أيضاً بعلم التوحيد، لأنه يقوم على القول بالتوحيد المحض للخالق، ونفي الصفات عنه، ويطلق عليه أيضاً اسم أصول الدين، لأنه يبحث في أصل العقائد: مثل إثبات وجود الله ومسائل القضاء والقدر(1). ومن أهم ما درس في هذا الفن كتاب: "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول

__________

(1) كان اهتمام المشارقة أكثر من إفريقية بهذا الفن نتيجة تعدد المذاهب لديهم.

 

(1/2698)

 

 

الاعتقاد" لإمام الحرمين، وهو تلخيص لكتابه الأول "التأمل". يذكر ابن خلدون أن الناس اتخذوه إماماً لعقائدهم، وذلك نتيجة للأهمية التي بلغها بين العامة، إذ كان أول الكتب الهامة التي ألفت في فن علم الكلام والردّ على المعتزلة(1). ويبدو

__________

(1) درّسه ابن أبي الدنيا (رحلة التجاني، ص. 257)؛ وأخذه البرزلي عن ابن عرفة (الرصاع، المصدر نفسه، ص. 85)؛ وقرأه الرصاع على عدة شيوخ (الفهرست، ص. 130، 188، 191)؛ كما أخذه أحد المغاربة ـ وهو أبو العباس أحمد الماكري ـ عن أبي حفص القلشاني بمدرسة ابن حكيم (الفهرست، ص. 192).

 

(1/2699)

 

 

أن علم الكلام نال حظوة كبرى خلال الفترة الحسينية.

... ونحن نلاحظ من خلال عدد المصنفات التي درّست في علم الكلام أن هذا الفن لم يبلغ الأهمية التي وصلها الفقه أو الحديث أو علم القرآن، ويدعم الملاحظة ما يذكره ابن خلدون الذي يرى أن علم الكلام غير ضروري(1).

 

علم النحو

... درست العديد من المصنفات في هذا العلم، إذ مثّل هذا الفن مادة أساسية اعتمد عليها كل طالب لتحصيل ملكة اللغة العربية،

__________

(1) المقدمة، صص. 826 ـ 842؛ وراجع الطاهر المعموري، جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهدين الحفصي والتركي، تونس، 1980.

 

(1/2700)

 

 

والتمكن منها. ومن أهم ما درّس من بين مصنفات النحو: "ألفية ابن مالك" التي أطلق عليها "الخلاصة"، ودرّست في عدة مواضع بداية من الفترة الحفصية دون انقطاع(1).

... ويبدو أن الشيوخ خيّروا هذا المصنف على غيره. فجل الطلبة كانوا يحفظونه عن ظهر قلب. ولخّص ابن مالك "الألفية" في كتاب سماه

__________

(1) أخذها البرزلي عن الشيخ الرملي (الرصاع، المصدر نفسه، ص. 122)؛ وقرأها محمد الزنديوي علي الوانوغي (المصدر نفسه، ص. 181)؛ ودرسها القلصادي على المنستيري (القلصادي، المصدر نفسه، ص. 117؛ وابن فرحون، المصدر نفسه، ص. 80).

 

(1/2701)

 

 

"الكافية الشافية في النحو". أما الشروح التي وضعت على "الألفية"، فتعد بالعشرات، ودرس بعضها في الزيتونة والمدارس على حد سواء. وألّف ابن مالك أيضاً "لامية الأفعال"؛ إلا أنها لم تجد النجاح نفسه الذي وجدته "الألفية".

... اشتهرت أيضاً مصنفات ابن الحاجب، خصوصاً منها "الكافية في النحو". ويذكر حاجي خليفة أنها: »مختصرة وشهيرة جداً، وهي دستور هذا الفن، إذ بها تعرف أكثر مسائله«(1). وربما يفسر هذا سبب

__________

(1) راجع حاجي خليفة، كشف الظنون، ج 2، ص. 1370 و1376؛ وانظر كذلك: ابن العماد، شذرات الذهب، ج 5، ص. 234.

 

(1/2702)

 

 

اهتمام المدرسين بها، ويبدو أن أهميتها ضاهت اعتماد المدرسين على "الألفية" (1).

... إضافة إلى هذين المصنفين، وجد كتاب آخر عناية خاصة من قبل المدرّسين وهو "مغني اللّبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام. ولمعرفة أهمية هذا المصنف، تكفينا شهادة ابن خلدون الذي يبدي إعجابه ويذكر أنه »وصل إلينا بالمغرب هذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى ابن هشام، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذق ما في

__________

(1) درسها أبو عبد الله محمد الزنديوي على الوانوغي (الرصاع، الفهرست، ص.181).

 

(1/2703)

 

 

الصناعة من المتكرّر في أكثر أبوابها وسماه بـ"ـالمغني في الإعراب"(1). ولهذا درّس هذا المصنف من غير انقطاع بداية من القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد(2).

... أما كتاب "الجمل الكبرى في النحو" للزجاجي، فيرى حاجي خليفة أنه نافع ومفيد لولا طوله بكثرة الأمثلة. لهذا كان اهتمام المدرسين به

__________

(1) ابن خلدون، المرجع السابق، صص. 1027 ـ 1028.

(2) أخذه العبدري عن أبي محمد عبد الله الخلاصي الأندلسي (الرحلة، ص. 245)؛ كما ذكر الحشايشي أنه تواصل تدريسه في القرن الحالي (الحشايشي، المصدر السابق، ص. 45).

 

(1/2704)

 

 

محدوداً. كما اشتهرت "المقدمة الآجرومية" في النحو لابن آجرّوم. وقد وجد من قبله "المقرب في النحو" لابن عصفور اهتماماً كبيراً من قبل المدرسين في الفترة الحفصية(1). كما لم ينس كتاب سيبويه(2)، ويبدو أنه درس أكثر خلال الفترة الحفصية الأولى، إذ يذكر الرصاع أنه لم

__________

(1) أخذه العبدري عن أبي علي الطبلي (الرحلة، ص. 38)؛ ودرسه المدغري (الرصاع، المصدر السابق، ص. 182)؛ وأخذه القلصادي عن المنستيري ( القلصادي، المصدر السابق، ص. 117؛ وابن فرحون، المصدر السابق، ص. 80).

(2) راجع ابن خلدون، المصدر السابق، ص. 1027.

 

(1/2705)

 

 

يدرك بتونس من يقرئ سيبويه ولا يذكرون ذلك عن أشياخهم ـ يعني أساتذته. ويقال آخر من يقرأه بالحضرة الشيخُ أبو العباس أحمد القصّار، الذي كان حيّاً سنة 790 هـ/ 1388 م(1)؛ كما درّس "الفصل" للزمخشري، فيذكر برونشفيك أنه خيّر على "كتاب" سيبويه(2). ودرّست أيضاً قصيدة "أم الفرج" لابن النحوي، وتدعى أيضاً "المنفرجة"، ودرّست طوال الفترة الحفصية؛ إلا أنه من المرجح أنه استغني عنها بعد ذلك(3)

__________

(1) الرصاع، المصدر السابق، ص. 140.

(2) راجع: Brunschvig, « Les Hafsides », T. II, p. 366.

(3) أخذها العبدري عن أبي هريرة (العبدري، المرجع السابق، ص. 52)؛ كما درّس الشيخ نفسه تخميس أبي عبد الله المصري عليها (المصدر نفسه)؛ ودرسها الرصاع (الفهرست، ص. 215).

 

(1/2706)

 

 

.

... من خلال هذه اللمحة الخاطفة عن المصنفات في النحو، نرى أن هذا الفن وجد هو أيضاً اهتماماً كبيراً من قبل الأساتذة والطلبة؛ فهو أساس اللغة، ولهذا كان من أهم الفنون المدرّسة في الجامع الأعظم وكذلك بالمدارس.

 

علم الصرف

... نلاحظ أنه لم تدرّس إلا مؤلفات قليلة جداً في هذا الفن، واعتمد خصوصاً كتاب ابن الحاجب "الشافية في الصرف"، وهي مقدمة مشهورة درّست في عدة أماكن(1). إلا أننا نتساءل إن لم تكن قد درّست بعض المصنفات الأخرى في الصرف،

__________

(1) أخذها مثلاً البرزلي عن ابن عرفة (الرصاع، المصدر السابق، ص. 87).

 

(1/2707)

 

 

فمن الغريب أنه لم يدرس في هذا الفن الهام إلا كتاب واحد، إذ لم أعثر على مصنفات أخرى درست في العهد الحفصي. أما العلوم الأخرى، فلاقت انتشاراً أقل، ومن بينها:

 

علم الفرائض

... يذكر ابن خلدون أن أشهر المصنفات عند المالكية هو مختصر ابن القاسم الحوفي الإشبيلي. وفعلاً، فقد درّس هذا المصنف طوال الفترة الحفصية(1) وهو

__________

(1) درسه الرصاع على أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (الرصاع، المصدر السابق، ص. 117)؛ وعلى ابن عقاب (المصدر نفسه، ص. 151)؛ وأخذه القلصادي بدوره عن ابن عقاب (القلصادي، المصدر السابق، ص. 121).

 

(1/2708)

 

 

المقتبس في التدريس أيام ابن عرفة؛ كما درست "الرحبية في الفرائض"، وهي أرجوزة مسماة "غنية الباحث". أما الحصّار في الفرائض، فيبدو أنه لم يدرس إلا خلال الفترة الحفصية(1).

 

الأدب

... أهم الكتب التي اعتنى بها العلماء في هذا الفن: "مقامات الحريري"، وهي من بين المصنفات التي درست بغير انقطاع(2)

__________

(1) درسه الرصاع على أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (الرصاع، المصدر السابق، ص. 117)؛ وأخذه كذلك القلصادي عن أبي عقاب (القلصادي، المصدر السابق، ص. 122).

(2) درسها على ابن عبد البر التنوخي (الزركشي، تاريخ الدولتين، ص. 111)؛ وأخذها العبدري عن التجاني (العبدري، المصدر السابق، ص. 257)؛ وذكر الحشايشي أنها كانت تدرّس بالجامع الأعظم خلال هذا القرن (ص. 46).

 

(1/2709)

 

 

؛ كما درست بعض المصنفات الأخرى(1)، إلا أنها لم تكن بانتظام أو درست في فترة وجيزة جداً، إذ كان المدرسون يعدّون الآداب مضيعة للوقت.

 

التاريخ

... لم يجد علم التاريخ حظاً وافراً بين المتعلمين، فهو ـ عند الشيوخ ـ كالأدب لا تحصل منه إلا فائدة قليلة جداً، ولذلك لم تدرس منه إلا مصنفات قليلة، من بينها

__________

(1) مثلاً: "المجمل" لابن الحسن أحمد بن فارس بن زكرياء الذي درسه العبدري (الرحلة، ص. 245)؛ ودرسه خالد البلوي عند رجوعه من السفر ومروره بتونس في المدرسة الشمّاعية (رحلة البلوي، المصدر السابق، ورقة 160 أ).

 

(1/2710)

 

 

"الصلة" لابن بشكوال(1).

 

البلاغة

... اشتهر في هذا الفن "مختصر السعد التفتزاني" على "تلخيص المفتاح" للقزويني. و"المفتاح" هو كتاب السكّاكي. وقد دخل هذا "المختصر" إلى تونس خلال القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد ودرسه ابن عرفة(2). غير أن هذا الفن لاقى رواجاً أكبر في الفترة الحسينية.

 

الجدل

__________

(1) درسه العبدري على أبي الحسن علي بن محمد التجيبي المرسي (رحلة العبدري، المصدر السابق، ص. 257).

(2) انظر ابن عاشور، أليس الصبح بقريب، ص. 91.

 

(1/2711)

 

 

... وهو أيضاً علم لم يجد انتشاراً واسعاً بين الطبقات المتعلمة. فيذكر ابن خلدون: »وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار«(1). أما أهم الكتب التي درّست فيه، فهو: "المقترح في المصطلح للتقي المقترح"(2).

... أما العلوم العقلية، فمن أهم ما يجب ملاحظته أنها لم تدرس إلا نادراً بالجامع الأعظم وبمدارس الحضرة.

 

المنطق

__________

(1) ابن خلدون، المرجع السابق، ص, 825.

(2) أخذه الرصاع عن أبي يوسف يعقوب، الفهرست، ص. 132.

 

(1/2712)

 

 

... حسب ما يمكن استنتاجه، فإنه العلم الوحيد الذي كان له بعض الحظ. فقد أصبح المنطق أحد العلوم التي تؤخذ من المشرق، حينما يرتحل إليه التونسيون لطلب العلم. ودخل هذا الفن إلى تونس عن طريق هؤلاء الطلبة، وخصوصاً منهم الذين درسوا بمصر، ومن بينهم القاضي ابن زيتون.

... لكن يبدو أنه بدأ التغافل عن هذا العلم بداية من القرن التاسع للهجرة/ الخامس عشر للميلاد؛ إذ يذكر الرصاع أن علم المنطق قليل شيوخه، إذ أراد دراسة المنطق، فلم يجد أي شيخ يأخذ عنه(1). ومن أهم ما درس في هذا الفن

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 126.

 

(1/2713)

 

 

"الجمل" للخونجي، ويبدو أنه تواصل تدريس هذا المصنف طوال الفترة الحفصية بانتظام(1).

... أما "مختصر المنطق" لابن عرفة، فقد درّس على فترة طويلة المدى. وتضلع ابن عرفة من المنطق ناتج عن دراسته لهذا

__________

(1) أخذه الرصاع عن ابن عرفة (الفهرست، ص. 57)؛ وعن أبي يوسف يعقوب (المصدر نفسه، ص. 130)؛ وعن ابن عقاب (المصدر نفسه، ص. 154)؛ ودرسه أبو عبد الله محمد المدغري (المصدر نفسه، ص. 182)؛ ودرَّسه محمد المنستيري (رحلة القلصادي، ص. 117)؛ كما ذكره ابن فرحون، ص. 80؛ وأخذه أيضاً القلصادي عن ابن عقاب (الرحلة، ص. 121).

 

(1/2714)

 

 

الفن على ابن الحبّاب تلميذ ابن زيتون(1)، كما اهتم العلماء بـ "مختصر المنطق" للسنوسي، إلخ. من المصنفات. هكذا إذن وبالرغم من المعارضة التي وجدها علم المنطق، فقد درّس في العديد من الأماكن بمدينة تونس.

 

الطب

... أوردت المصادر أسماء بعض الأطباء. إلا أن أغلبهم عالجوا الأمراء والخلفاء. والغالب على الظن أن تدريس الطب في المدارس لم يوجد إلا في القليل النادر. وإذا وجد ذلك، فهو ناتج عن معرفة أحد الشيوخ الذين تولوا الدراسة بمدرسة

__________

(1) نعلم مثلاً أن ابن عقاب درّسه في الفترة الحفصية (رحلة القلصادي، ص. 122).

 

(1/2715)

 

 

ما بهذا الفن، فهو علم يتوارث أباً عن جدّ. وأكثر الأطباء الذين باشروا مهنتهم بتونس أصيلو الأندلس أو صقلية. ومن بين من درسه القاضي ابن عبد السلام، كما درس ابن عرفة على ابن اندراس، ونجد بعض الأطباء من أصيلي تونس، وأهمهم القاضي محمد الزندي الذي داوى السلطان أبا عمرو عثمان؛ وكذلك الطبيب الفقيه المدرّس عمر بن محمد القلشاني تلميذ أبي سعيد الصقلي؛ وكذلك ابن عقاب الذي درس على أحمد الصقلي. كما أخذ القلصادي عن أبي عبد الله محمد الدهان »الذي كان طبيباً ماهراً« (1)، ودرس

__________

(1) القلصادي، المصدر نفسه، ص. 117.

 

(1/2716)

 

 

الرصاع على القاضي أبي القاسم القسنطيني مادة الطب(1) وأخذها أيضاً عن ابن عقاب الذي كان »عارفاً بالطب« (2). ومن بين هاته الأسماء، نجد أشخاصاً درّسوا أو درسوا بإحدى المدارس أو بالعديد منها. فمن المحتمل أن أحدهم أو بعضهم درّس الطب في مدرسة ما... إلا أنه من الواضح أنه لم يتم تدريس هذه المادة بالجامع الأعظم طوال الفترة الحفصية(3)

__________

(1) الرصاع، المصدر السابق، ص. 152.

(2) المصدر نفسه، ص. 145.

(3) تحمل بعض شواهد القبور الراجعة إلى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، أسماء العديد من الأطباء الذين توارثوا المهنة أباً عن جدّ، ويوجد بعضها بمتحف سيدي قاسم الجليزي وجمّع البعض الآخر في فضاء داخل سور القصبة.

 

(1/2717)

 

 

.

 

علم الحساب

... وجد هذا الفن انتشاراً أكثر من بعض العلوم العقلية الأخرى، وذلك نظراً لحاجة الناس إليه في العديد من العمليات التجارية وفي القضاء والميراث... لهذا درّس في بعض الأماكن. والغالب على الظن أنه درس أيضاً في مدارس مدينة تونس، إذ اهتم العديد من العلماء الذين تولّوا مشيخة بعض المدارس بعلم الحساب(1)

__________

(1) من بينهم الرصاع الذي أخذه عن البرزلي وعن أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، وعن ابن عقاب (الرصاع، المصدر السابق، ص. 108 و118 و145)، ولازم البرزلي أبا محمد الشبيني طوال إحدى عشرة سنة وأخذ عليه الحساب. ودرّس أبو عبد الله محمد الوانوغي الحساب على ابن خلدون، كما درس ابن عرفة المادة نفسها على ابن الحباب... إلا أننا نتصور تدريس هذا العلم بالجامع الأعظم خلال هذه الفترة.

 

(1/2718)

 

 

.

... ووجدت الهندسة والجبر شيئاً من اهتمام المدرسين. فقد درس كتاب ابن البناء في الجبر والهندسة؛ وكذلك "الياسمينة في الجبر والمقابلة" لابن الياسمين، وهي أرجوزة درّست في الفترة الحفصية.

... واهتم بعض الشيوخ بالتنجيم، فدرسه الرصاع على ابن عقاب، وأخذه البرزلي عن أبي محمد الشيبي؛ إلا أنه من المستبعد أن يكون قد درّس في المدارس.

 

الخاتمة

... وخلاصة القول إنه من خلال هذا الفصل المخصص للمواد الدراسية والمصنفات المدرسة في الجامع الأعظم ومدارس مدينة تونس، نلاحظ اهتمام المدرّسين والطلبة ببعض المواد دون

 

(1/2719)

 

 

الأخرى. فعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام والنحو وجدت انتشاراً لم تجده فنون أخرى كالفلسفة والمنطق والجدل والتاريخ وعلم الفرائض.

... أما العلوم الصحيحة، فإنها ـ كما رأينا ـ لم تلق من العلماء والطلبة إلا اهتماماً محدوداً جداً. وهكذا فهنالك كتب عديدة اعتني بها في كل فنّ من الفنون المدرّسة، منها التي تواصل تعليمها بداية من الفترة الحفصية ـ أو من قبلها إلى يومنا هذا ـ، ومنها التي انقطعت دراستها، وأخرى أضيفت إلى المؤلّفات المعتنى بها، وذلك إما في أواسط الفترة الحفصية أو في نهايتها. لهذا

 

(1/2720)

 

 

يمكن التأكيد أنه لم يوجد قط جمود في محتوى التعليم، ويدل التغيير في عناوين المصنفات المدرسة على شيء من الحركية في صلب مواد التعليم وفي محتواها عبر العصور.

 

(1/2721)

 

 

التنافس البحري في البحر المتوسط في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر

 

الدكتور محمد محمود السروجي

كلية الىداب - جامعة الأسكندرية

 

... كانت فرنسا من أسبق الدول الأروبية التي عقدت معاهدة الامتيازات مع الدولة العثمانية في عام 1535، وذلك لتدعيم مصالحها الاقتصادية في ممتلكات تلك الدولة. ففرنسا لم تنس ذكرياتها ومصالحها في البحر المتوسط منذ أيام الحروب الصليبية، وتجددا تلك المصالح بحملة نابوليون بونابارت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، تلك الحملة التي أضرت بالمصالح البريطانية في شرق البحر المتوسط.

 

(1/2722)

 

 

بالإضافة إلى محاولة بونابرت إثارة القوى المحلية بالمشرق العربي ضد بريطانيا.

لهذا عملت بريطانيا جاهدة على تحطيم الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية في عام 1798م وعلى إخراج الفرنسيين من مصر، وفي الوقت نفسه على عدم وقوعها مرة ثانية في يد أية دولة أجنبية قوية، أو قيام حكم محلي بها يستطيع أن يلحق الضرر بالمصالح البريطانية في تلك المنطقة. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.

... وعندما نجح محمد علي في إقامة نظام حكم قوي ومستقر في مصر لايتفق مع مصالحها عملت على القضاء عليه وعلى تحجيمه. وحينما أنزلت فرنسا

 

(1/2723)

 

 

بعض قواتها بالشام إثر مذابح عام 1860، بحجة حماية أرواح المسيحيين، راقبت بريطانيا هذا العمل بقلق شديد، ولم يهدأ لها بال إلا بعد أن سحبت فرنسا قواتها من تلك البلاد. كما أنها عارضت بشدة ضم حكم جزيرة كريت إلى مصر في عام 1866 بعد أن تمكنت من إخماد ثورتها ضد العثمانيين، والسبب في ذلك أنها خشيت أن بمتد نفوذ فرنسا إلى الجزيرة، نظرا للتقارب الواضح بين فرنسا ومصر في ذلك الوقت(1) .

__________

(1) محمد محدود السروجي، مصر والمسألة الشرقية، الإسكندرية، 1966، صص. 31، 118.

 

(1/2724)

 

 

... حرصت بريطانيا على تفوق نفوذها في الدولة العثمانية على نفوذ أية دولة أخرى، ومن ثم انتهجت سياسة المحافظة على ممتلكات تلك الدولة، ورفض تقسيمها بين الدول الأوربية الطامعة، لما تحققه تلك السياسة من تدعيم للمصالح البريطانية. فسياسة المحافظة على كيان الدولة العثمانية التي امتدت طوال الثلاثة الأرباع الأولى للقرن التاسع عشر تمثل حجز الزاوية في سياسة بريطانيا إزاء تلك الدولة. فمنع الروس من السيطرة على المضايق والوصول إلى مياه البحر المتوسط الدفيئة تمثل الاستراتيجية البريطانية قبل فتح قناة

 

(1/2725)

 

 

السويس(1) .

... واعتبرت آسيا الصغرى - في نظر سياسة بريطانيا - خط الدفاع الأول عن الطريق المؤدية إلى الهند. ولذا فهم يرون أن احتلالهم مصر، إذا ما قسمت ممتلكات الدولة العثمانية، ليعادل احتلال الروس للاستانة وسيطرتهم على المضايق(2) .

... وعندما اندلعت حرب القرم في منتصف القرن التاسع عشر، أدرك الأنجليز

__________

(1) رينوكان، تاريخ العلاقات الدولية، ص. 332.

(2) Seaton- Watson, Disrali,Gladston and the Eastern Question, London 1935, p. 109.

 

(1/2726)

 

 

-رغم كونها حربا برية - أهمية القوة البحرية والتفوق البحري وقتذاك، إذ لولاها لما استطاعت بريطانيا نجدة الدولة العثمانية، ولا المحافظة على كيانها.

... وإذا كان تفوق البحرية البريطانية على البحرية الفرنسية قد بدا واضحا خلال الحملة الفرنسية على مصر، فإنه قد تعرض للاهتزاز بعد ذلك. فمنذ تسوية فينا عام 1815، أصيبت البحرية البريطانية بشيء من الإهمال، نتيجة لشعور بريطانيا بنشوة النصر على فرنسا من جهة، ولاطمئنانها على مركزها البحري من جهة أخرى، ولاعتقادها بضعف قوة منافستها فرنسا من ناحية ثالثة.

 

(1/2727)

 

 

... طال أمد هذا الإهمال، إذ امتد أكثر من أربعين عاما، حينما أفاقت بريطانيا من غفلتها في عام 1859، وأدركت خطورة مركزها البحري بعدما وجدت فرنسا في عهد نابليون الثالث (1848 - 1870) تبنى أسطولا جديدا من السفن البحرية المصنوعة من الحديد فأسرعت في الفترة فيما بين عامي 1859 و 1869 وهو عام افتتاح قناة السويس، إلى إعادة إنشاء بحريتها من جديد لمواجهة التهديد البحري الخطير من قبل فرنسا.

... كان هذا هو مقف الدولتين البحريتين بريطانيا وفرنسا قبل شق قناة السويس، وهو موقف اتسم بالمنافسة بينهما، نظرا لمحاولة

 

(1/2728)

 

 

كل منها الاحتفاظ بقوة بحرية كبيرة في البحر المتوسط. وستزداد تلك المنافسة - دون شك - بعد افتتاح القناة، وذلك لازدياد أهمية الدور الذي يلعبه هذا البحر في المجال السياسي والاقتصادي. لاسيما فقد صاحب إنشاء القناة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتطور هائل في بناء السفن الحربية، من حيث استخدام الحديد والصلب بدلا من الخشب، فمن حيث تزويدها بمدافع أكثر قوة، وأبعد مدى، ومن حيث الخطط والتكتيكات الحربية.

 

(1/2729)

 

 

... هذا فضلا عن ظهور أنواع جديدة من السفن الحربية، مثل قوارب الطوربيد وغيرها، بحيث يمكننا القول بأنه قد حدثت ثورة في فن بناء السفن، جعلت من الأساطيل الحربية قوة خطيرة في الدفاع والهجوم.

... ومن العوامل التي ساعدت على زيادة الاهتمام بالشؤون البحرية انتماء كثيرين من رجال البحرية والجيش والسياسة إلى المؤسسات الصناعية المتعلقة بصناعة السفن، وإسهامهم في إدارتها.ويبدوا هذا واضحا بصفة خاصة في بريطانيا، إذ سنجد في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين عددا من رجال البحرية يسهمون في

 

(1/2730)

 

 

شركة فيكرز (Vickers)، وعددا آخر من رجال السياسة مثل سولسبري (Salisbury)، وبرايس (brice)، ودفنشر، ولانزدون (Lansdoun) يسهمون في شركة أرمسترنج (Armstrong) أكبر شركات صنع الأسلحة.

... وقد عبر فيشر (fisher) وهو من أكبر رجال البحرية الإنجليزية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من تطوير السلاح البحري الإنجليزي بما يتلاءم مع طبيعة العصر، بأنه ليس من الأمور الملحة فحسب، ولكنه مسألة حياة أو موت بالنسبة لبريطانيا. فهي كدولة تعتمد في حياتها وقوتها على التجارة، يصبح هذا الأمر بالنسبة لها مسألة

 

(1/2731)

 

 

حياة أو موت. فمن الممكن لو أستطاعت دولة أوربية أن تنتزع منها السيادة البحرية أن تميتها جوعا. ومن ثم نشأ الاعتقاد في بريطانيا "بأن بالأسطول تستطيع بريطانيا أن تبقى أو تسقط". ومن هنا جاء الاهتمام بالبحرية البريطانية، فهي في نظر البريطانيين القوة المدافعة الأولى عن الإمبراطورية، ويأتي الجيش في المرتبة الثانية. ولكن لاغنى لأحدهما عن الآخر. ومن ثم فهم يقولون "بأن البحرية كالدرع الواقي، وأما الجيش فهو كالرمح الضارب".

 

(1/2732)

 

 

... ويتطلب الاهتمام بالبحرية بناء سفن جديدة متطورة، وتدريب رجال البحرية التدريب الائق، وإعداد القواعد البحرية، واعتناق مبدإ حرية البحار . وهذه الأمور كلها لاتستطيع بريطانيا القيام بها دون الدخول في منافسات مع الدول البحرية الأخرى.

... إستمرت حركة بناء وتجديد الأسطول البريطاني تجري على قدم وساق إلى أن تولى جلاد ستون (1809 - 1898) وزارته الأولى، فنظر لاعتناقه سياسة ضغط النفقات العامة، وخاصة في البحرية أن تضاءلت تلك الحركة بصورة لم يقبلها الرأي العام الإنجليزي.

 

(1/2733)

 

 

... ويرجع السبب في ضعف نفقات الأسطول - على الأرجح - تجربة الحرب البروسية الفرنسية 1870، فعلى الرغم من تفوق البحرية الفرنسية على البحرية البروسية، ونجاح الأسطول الفرنسي في محاصرة الشواطئ الألمانية في تلك الحرب ، إلا أن تفوق الجيش البروسي على الجيش الفرنسي قد اكتسب بروسيا الحرب. هذا فضلا عن سياسة العزلة وعدم التوسع التي انتهجتها تلك الوزارة.

... وترتب على ذلك أنه في عام 1869، سنة افتتاح القناة، لم يكن نفوذ بريطانيا في البحر المتوسط متفوقا على نفوذ فرنسا، فأسطول فرنسا أحدث، وربما كان أقوى من

 

(1/2734)

 

 

الأسطول الإنجليزي، ويستند على قاعدة طولون البحرية(1) التي لايوجد لها نظير لدى بريطانيا في هذا البحر، فمالطة وجبل طارق لم تكن قواعد بحرية بمعنى الكلمة، وإن كانت بريطانيا قد أدركت خطورة موقع جزيرة مالطة بعد فتح قناة السويس، فقامت بتوسيع مينائها، لاستيعاب السفن المارة بالبحر المتوسط(2) .

... كذلك كان لدى فرنسا من القوات الكثيرة العدد في الجزائر ما يجعل اسهما محترما في شاطئ البحر المتوسط الجنوبي، وأصبح

__________

(1) Marder, British naval policy (1880-1905), p. 145.

(2) laferla, British Malta, vol I,p. 240.

 

(1/2735)

 

 

لاسمها دوي كبير بعد افتتاح قناة السويس. فالقناة مشروع قومي فرنسي، وستكون نقطة ارتكاز للنفوذ الفرنسي في شرق هذا البحر.

... ولكن كان يحد من نفوذ فرنسا نمو قوة ألمانيا الحربية على الضفة الشرقية لنهر الراين، وازداد قلق فرنسا واضطرابها من اندحار قوات النمسا في موقعة سادوقا في عام 1866 أمام قوات بروسيا، ووقوف الروسيا موقف العطف على الآمال الألمانية. كل ذلك لم يجعل فرنسا في مركز يسمح لها بتحدي قوة بريطانيا في البحر المتوسط أو إثارة شكوكها في ذلك الوقت. فبريطانيا حتى عام 1878كانت مطمئنة على قوتها

 

(1/2736)

 

 

البحرية في هذا البحر، خصوصا وأن منافسة فرنسا لها قد ضعفت بعد كارثة سيدان 1870. هذا فضلا عن انشغال فرنسا في إعادة بناء جيشها . وقد استمر هذا العمل حتى عام 1880.

... توطد نفوذ بريطانيا في البحر المتوسط بعامة(1) ، وفي شرقية بخاصة بعد نجاح دزريلي (disraeli) (1804 - 1881) من شراء أسهم مصر في قناة السويس في عام 1875 وحرمان فرنسا منها. ولقد أدركت الدولة الأوربية عظم الصفقة، فاعتبرها ليوبولد الثاني (LIOPOLD II) (1875 - 1909) ملك

__________

(1) Hallberg, The Suez Canal, its history and diplomatic importance, p. 249.

 

(1/2737)

 

 

بلجيكا كأعظم حادث في السياسة الحديثة. كما أنها أثلجت صدر المستشار الألماني بسمرك (1815 - 1898)، لأنها أضافت إذلالا جديدا لفرنسا فوق إذلال سيدان.

... أدرك دزريلي نفسه أهمية هذا العمل الذي قام به لتدعيم المصالح البريطانية في مصر، فكتب للملكة فيكتوريا يقول : "إن الفرنسيين غلبوا على أمرهم، ولقد قدم دلسبس عرضا مغريا للخديو، ولو نجح لأصبحت القناة ملكا لفرنسا، ولأغلقتها أمام بريطانيا".

... بل لقد نالت تلك الصفقة إعجاب المعارضين للحكومة الإنجليزية، من أمثال هارنجتون، وهو من زعماء حزب الأحرار، وعبر عن

 

(1/2738)

 

 

إعجابه هذا بقوله بأن حقوق سيادة الخديو على قناة قد انتقلت إلى يد بريطانيا.

... أثبتت هذه الصفقة -بما لايدع مجالا للشك - أن بريطانيا قد هجرت نهائيا سياسة العزلة والسلبية التي انتهجها جلادستون في وزارته الأولى السابقة على وزارة دزريلي، وأصبحت تؤمن بضرورة اتباع سياسة خارجية قوية، ستؤدي في السنوات التي أعقبت عام 1878 إلى احتلال مصر، والتصميم على البقاء فيها، وتقسيم إفريقية، والإشراف على مناطق كثيرة في آسيا.

 

(1/2739)

 

 

... لقد وعت فرنسا عظم الخسارة لضياع تلك الأسهم، ولانتقالها إلى يد منافستا بريطانيا، وأدركت المغزى الحقيقي من وراء من وراء استحواذ بريطانيا على هذه الأسهم، وهو لايخرج عن أحد أمرين : التمهيد لاحتلال مصر، أو على الأقل التدخل في شؤونها المالية، لاسيما وأن الأمر الأول ينال تأييد وموافقة المستشار الألماني بسمرك.

... اما بالنسبة لأثر هذه الصفقة على مصر، فمما لاشك فيه كانت وبالاعليها فرغم أن القناة مصرية، وتسير في أرض مصرية، وأنها قامت على أكتاف تسخير العمال والفلاحين المصريين، وإهدار حقوقهم، وحرمان

 

(1/2740)

 

 

الزراعة منهم مدة طويلة. كل هذا في مقابل لاشيء، بل لقد أصبحت القناة منذ عام 1875 كارثة عليها وعلى مستقبلها قرابة ثلاثة أرباع القرن.

... لقد جعلت القناة لمصر مركز استراتيجيا خاصا(1) في الشرق الأدنى، فجبل طارق، ومالطة، وقبرص،ومصر هي قواعد البحرية الحصينة للأسطول البريطاني في البحر المتوسط من أجل السيادة والسيطرة على هذا البحر . وتعتبر مصر -والإسكندرية بصفة خاصة - أهم حلقة في هذه السلسلة من القواعد، ومصدر خطر شديد على الإمبراطورية البريطانية إذا

__________

(1) Silva. A.a, The expandion of Egypt, pp. 101,2

 

(1/2741)

 

 

ماتعرضت لغزو خارجي .

... وقد أثر هذا المركز الأستراتيجي لمصر اهتمام الدول الأستعمارية، إلى الحد الذي ضحت هذه الدول بمصالح مصر ونموها واستقلالها في سبيل الإشلراف عليه والتحكم فيه. وهذا الأهتمام من جانب ابريطانيا والدول الأخرى بمركز مصر، يشبه إلى حد ما اهتمام ابريطانيا بالعراق لوقوعه على رأس الخلج العربي، وعلى الطريق المؤدية إلى الهند التي كانت توليه ابريطانيا حتى عام 1880 أهمية أعظم من أهمية السويس. وذلك لأن ذزريلي كان حتى ذلك التاريخ يرى أن آسيا الصغرى هي التي تشرف على الطريق إلى الهند وليست

 

(1/2742)

 

 

مصر، ولا قناة السويس. ومن هنا جاءت أهمية العراق بالنسبة لبريطانيا .

... وترتب على عدم إدراك ذزريلي لعظم أهمية القناة في المواصلات العالمية حتى عام 1880، أنه لم يوجه اهتماما كبيرا لعروض المستشار الألماني بسمرك خلال الأزمة الروسية التركية (7 - 1878)، بأن يأخذ مصر، في مقابل سيطرة الروس على شرق البلقان. كما أن دزريلي و زملاءه الوزاراء لم يصغوا لنوبار باشا حين ذهب إلى لندن يطلب بسط حماية ابريطانيا على مصر، وأهملوه إلى حد مخاطبته لسفير ألماني في لندن قائلا : " إن الأسد البريطاني سيغرق في نومه، وأن

 

(1/2743)

 

 

أظفاره ستسرق منه دون أن يستقيظ".

... ورغم أن حكومة المحافظين في بريطانيا كانت تدرك أهمية مصر لبريطانيا، وبأنها ستحتلها في يوم ما قرب أم بعد، إلا أنها خشيت في ذلك الوقت أن تفقد صداقة فرنسا إذا ما أقدمت على احتلالها، لاسيما وأنها كانت في عزلة سياسة تحتم عليها المحافظة على هذه الصداقة .

... وبمجيء سولسبري (1830 - 1903) إلى الوزارة الخارجية الإنجليزية خلفا لدربي في وزارة المحافظين، أن بدأ تغير جوهري في السياسة الخارجية الإنجليزية إزاء الدولة العثمانية، فقد غادر نهائيا السياسة التقليدية الرامية إلى

 

(1/2744)

 

 

المحافظة على كيان تلك الدولة، واتجه إلى الأخد بوجهة نظر بسمرك والتي تهدف إلى تقسيم الممتلكات العثمانية، على أن تكون مصر من نصيب بريطانيا .ولاكنه استعاض عن احتلال مصر وقناة السويس باحتلال جزيرة قبرص في 1878، وتمتاز بإشرافها على آسيا الصغرى وقناة السويسمعا(1)

... ولايهمنا هنا الدخول في تفصيلات المسألة الشرقية، واضطراب العلاقات الروسية العثمانية إلى حد إعلان الحرب(7 - 1878)، إلا بقدر ماتثيره من تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وهل سيتم هذا دون حرب أم

__________

(1) Stamp. D. A, Commercial geography, pp. 245, 6.

 

(1/2745)

 

 

بحرب، وهل ستدخل بريطانيا الحرب ضد روسيا دفاعا عن مصالحها في منطقة الشرق الأذنى ؟

... على إي حال حاولت ابريطانيا جاهدة في التسوية التي تمت بمؤتمر برلين 1878 ألا تمس الموقف كثيرا في البحر المتوسط، وقفت بريطانيا وفرنسا أما التقدم الروسيا إلى هذا البحر، ولكن كان هذا على حساب ازدياد ضعف الدولة العثمانية .

... وأثناء انعقاد المؤتمر، وخارج قاعاته تمت مقابلات بين سولسبري وزير خارجية بريطانيا، ووادنجتون(wadington) وزير خارجية فرنسا، والمستشار الألماني بسمرك، نتيجة ثورة الوزير الفرنسي حينما علم بنبأ

 

(1/2746)

 

 

الإتفاقية السرية التي فردتها بريطانيا على السلطان العثماني والتي انتزعت بموجبها جزيرة قبرص وسيطرتها بالتالي على شرق البحر المتوسط القناة السويس. وقد استبد بالوزير الفرنسي الغضب إلى حد تهديده بمغادرة برلين وعدم الاشتراك في المؤتمر.

... كان بسمرك وسولسبري على استعداد لاسترضاء وزير الخارجية الفرنسية، وعلى استعداد أيضا للمساومة، طالما كان في ذلك تحقيق وجهة النظر الألمانية في تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية التي تجد تأييدا من وزير الخارجيةالإنجليزية وقتذاك، فأبديا موافقتهما على مطامع الفرنسيين في

 

(1/2747)

 

 

تونس، في مقابل الاعتراق بالوضع الجديد في شرق البحر المتوسط . كان هذا كافيا - من جهة نظر الوزير الفرنسي - لإعادة التوازن الذي اختل في البحر المتوسط باحتلال البريطانيين قبرص . وهذا يدلنا على مدى اهتمام فرنسا بمركزها في هذا البحر(1) .

... وفي ربيع 1881 فرض الفرنسيون حمايتهم على تونس بالقوة المسلحة، وأصبحوا من هذا الموقع الاستراتيجي الجديد يشطرون البحر المتوسط إلى شطرين. وعندما أدركت بريطانيا خطورة هذه الحقيقة بعد فوات الأوان، حاولت أن

__________

(1) Renovin. p, La politique d’expansion imperialiste, p. 11.

 

(1/2748)

 

 

تقلل من خطر الوجود الفرنسي في تونس على المصالح البريطانية في هذا البحر إلى حد ما، وذلك عن طريق أخذ وعد من الفرنسيين بألا ينشئوا قاعدة حربية بحرية في هذا المكان. ومع ذلك فقد شعرت بأن هذا الوعد لن يكون له قيمة كبيرة . ومن ثم فقد صممت على ألا تقع مصر إلا في يدها وحدها، تعويضا لها عن صفقة تونس.

... وحينما تأزمت الأمور في مصر بقيام الثورة العرابية عام 1882، طلبت بريطانيا من فرنسا وإطاليا الاشتراك معها في احتلال قناة السويس، وفي إخماد الثورة، كان جلادسون رئيس الوزارة البريطانية وقتئذ واثقا تمام الثقة

 

(1/2749)

 

 

من تقاعس الدولتين، فالبرلمان الفرنسي لن يسمح لحكومته بأن تدخل في مغامرة عسكرية جديدة ولم يمر أكثر من عام على احتلال تونس. أما من ناحية إيطاليا، فإن حكومتها لم تكن تستطيع أن تتحرك دون أن تتلقى الإشارة من برلين، ولم تكن برلين راغبة في التدخل. فعروض جلادستون إذن كانت عروض مجاملة ليس إلا.

... وعندما تحرجت الأمور في مصر، واستدعى اجتماع مؤتمر الآستانة 1882 لمناقشة الموقف، رأت بريطانيا ألا يصبح المؤتمر عائقا دون تحقيق ما تسعى إليه،ألا وهو احتلال مصر، فاشتركت في جلساته ومناقشاته، ولكنها قررت عدم التقيد

 

(1/2750)

 

 

بما يسفر عنه من قرارات لاتتفق مع المصالح البريطانية. فاهتمامها كان مركزا على مصر في المقام الأول، فراقبت تحركات المصريين، واعتبرت تحصين بلادهم عملا عدائيا موجها للسفن الحربية الإنجليزية الراسية في ميناء الإسكندرية وقامت القوات البريطانية باحتلالها.

... حاولت بريطانيا أن تصور هذا العمل على أنه خدمة للمصالح الأوربية، فحينما وجد سفير بريطانيا في روما شيئا من الضيق والقلق يجتاح إيطاليا، أعلن "أنه يجب على دول أوربا أن تشكر هذه الظروف، وأن تحمد الحكومة الأنجليزية على اتخاذ خطوات من شأنها رفعة مركز

 

(1/2751)

 

 

أوربا في الشرق الأدنى".

... كان حل المسإلة المصرية -كما فهمته بريطانيا - هو في احتلال قناة السويس، واتخاذها قاعدة لتحركاتها العسكرية في زحفها نحو العاصمة. ولم تعر بريطانيا احتجاجات شركة القناة أدنى اهتمام، بل وأنذرت الحكومة الفرنسية حينما وجدت بعض العراقيل من جانب دي لسبس.وينجاح الغزو البريطاني لمصر، استطاعت بريطانيا أن تعيد التوازن الدولي في البحر المتوسط، وكذلك الإشراف على قناة السويس. وحتى عام 1884 كان النفوذ البريطاني متفوقا في البحر المتوسط. ولكن كان يثير قلق بريطانيا نمو الأسطول الفرنسي

 

(1/2752)

 

 

بسرعة كبيرة. هذا فضلا عن احتمال انضمام دولة بحرية أخرى مثل ألمانيا إلى جانب فرنسا . ولو تم ذلك لأصبح موقف بريطانيا جد خطير، لأن قوة الدولتين البحرية تفوق قوة بريطانيا في هذا البحر.

... لم تنظر بريطانيا بعين الارتياح إلى نمو قوة دول أوربا البحرية مثل الروسيا، وأيطاليا، وألمانيا، وخصوصا الدولة الأخيرة التي اتخذت من تقوية بحريتها سياسة مقررة، بعد أن عزنت على الدخول في مضمار الاستعمار. فهذه الدولة مجتمعة تستطيع أن تهدد مصالح بريطانيا في البحر المتوسط بعامة. وفي مصر بخاصة . وهذا هو سر تسليم بريطانيا

 

(1/2753)

 

 

بمطالب ألمانيا وفرنسا الاستعمارية، وتسوية المسألة المالية في مصر بطريقة ترضي فرنسا، بل وفي الاستجابة إلى مطلب فرنسا بتحديد مركز قناة السويس في معاهدة دولية.

... ونظرا لاستعمار توتر العلاقات بين بريطانيا وفرنسا بشأن مصر من ناحية،وبين بريطانيا وألمانيا بخصوص المسائل الاستعمارية، أن زاد الخطر على بريطانيا، وطالب الرأي العام البريطاني حكومته مضرورة زيادة الاعتمادات البحرية اللازمة لإيجاد أسطول بحري كبير. خصوصا وأن تقارير رجال البحرية الأنجليزية أوضحت أن الأسطول البريطاني في البحر المتوسط غير مستعد

 

(1/2754)

 

 

وغيركاف لمواجهة أي خطر مفاجيء من جانب فرنسا. وزاد الموقف خطورة مطالبة الرأي العام الفرنسي حطكومته بضرورة عقد تحالف مع روسيا.

... وحتى عام 1888 ظل أسطول فرنسا في البحر المتوسط متفوقا على الأسطول الإنجليزي، وأصبحت طولون أعظم ترسانة، وأقوى قاعدة للعمليات البحرية في هذا البحر. كما كان الأسطول الفرنسي على أهب الاستعداد دائما للحرب . ولم تكن قوة الأسطول الفرنسي تفزع بريطانيا وحدها، بل كانت تخفيف إيطاليا أيضا . إذ كان الإيطاليون يعتقدون بأن أسطولهم لن يستطيع الصمود أمام الأسطول الفرنسي أكثر من ثمان

 

(1/2755)

 

 

وأربعين ساعة.

... لقد صاحب اهتمام بريطانيا بتقوية بحريتها، زيادة اهتمام بالبحر المتوسط، فمصالحها ليست استرابيجية فحسب، وإنما اقتصادية وسياسية كذلك. فعبر قناة السويس تمر 16( من وارداتها، و 21( من صادراتها، وفقدان هذه التجارة أو تعطيها خسارة كبيرة.

... وهناك مسألة على جانب عظيم من الأهمية، ألا وهي سلامة المواصلات الأمبراطورية، وممتلكات بريطانيا في البحر المتوسط، في جبل طارق، ومالطة، وقبرص، ومصر، ومصالحها التي تدعيها في قناة السويس. فأصبح البحر الأحمر الطريق الرئيسية التجارة البريطانيا. وكلما

 

(1/2756)

 

 

تعاقبت السنون تكشف بريطانيا ازدياد أهميته.فالحرب الصينية اليابانية (1894 - 1895) وجهت الاهتمام إلى الصين كأهم أسواق المستقبل، وبالتالي توجه الاهتمام إلى الطريق المؤدية إليها، ألا وهي طريق البحر المتوسط.

... أدركت بريطانيا أيضا أن بالقوة البحرية في ذلك البحر تستطيع إقناع دول التحالف الثلاثي (الروسيا والنمسا وأيطاليا) من 1879 - 1882، ولا سيما إيطاليا بالوقوف إلى جانبها . فبالقوة البحرية يمكن لبريطانيا أن تنال احترام الدول المطلة على البحر المتوسط، باستثناء فرنسا بطبيعة الحال. كما أن بريطانيا كانت

 

(1/2757)

 

 

ترى في قوة بحريتها في هذا البحر خير ضمان لعدم قيام حرب أوربية في غير صالحها.

... ومن الناحية الاستراتيجية، فوجود الأسطول البريطاني يجب أن يكون حيث يوجد العدولبريطانيا، وليس هماك عدو لها سوى فرنسا في الدرجة الأولى، وروسيا في الدرجة الثانية. وبما أن فرنسا تحتفظ بمعظم قواتها البحرية في البحر المتوسط، فوجود أسطول بريطاني قوي في مواجهتها أمر ضروري. كما أن نجاح بريطانيا في اقتحام البحر الأسود في حرب القرم (1853 - 1856) يذكر روسيا دائما بقوة بريطانيا كدولة بحرية عظمى.

 

(1/2758)

 

 

... وهناك ما هو أسمى من المصالح الاقتصدية والسياسية، ألا وهي هيبة بريطانيا وسمعتها اللتان اكتسبتهما منذ مائتي عام، لابد من المحافظة عليهما ، مهما كلفها ذلك من تضحيات . واعتبرت بريطانيا أن العمل على إضعاف قوتها البحرية أو إخراجها من هذا البحر يعد بمثابة "إلقاء عود ثقاب مشتعل في برميل بارود أوربا"(1) .

... وفي الجانب الآخر نرى نمو موكز فرنسا في البحر المتوسط يسير سيرا مطردا، ففرنسا لها مصالح مهمة في هذا البحر بعد استيلائها على الجزائر،

__________

(1) Mander. I, Great Britain or Little England? , Boston, 1964

 

(1/2759)

 

 

ونمو نفوذها في سوريا، وبعد فرض حمايتها على تونس، وبعد انشائها لإمبراطوريتها الاستعمارية الشرقية في مدغشقر والهند الصينية. بل إن روسيا قنصل فرنسا في تونس كان يعتبر البحر المتوسط بحيرة فرنسية(1).

... فمصالح فرنسا الإمبراطورية ، والتنازع مع بريطانيا بشأن الجلاء عن مصر وتأزم العلاقات بينها وبين إيطاليا ، كل هذه الأمور جعلت فرنسا تركز نشاطها حول تدعيم قوتها في البحر المتوسط ، وتركز معظم سفنها الحربية الكبرى في قاعدة طولون، وخصوصا بعد أن

__________

(1) Safuat. M, Tunis and rhe Great Powers, Alex, 1843, p. 11.

 

(1/2760)

 

 

اطمأنت إلى تحديد مركز قناة السويس في معاهدة القسطنطينية 1888.

... وفي مواجهة هذا الإجراء من جانب فرنسا قررت الإمبريالية البريطانية أن ينضم أسطول القنال الإنجليزي إلىالأسطول الإنجليزي في البحر المتوسط لتعزيزه وقت الخطر . ولكنها مع ذلك لاتصل قوتها حتى عام 1891 مساوية لقوة الأسطول الفرنسي في ميناء طولون.

... ولما وجدت بريطانيا ألا قبل لها على مجاراة فرنسا في قوة بحريتها في هذا البحر تركت سياسة التفوق البحري إلى حين، ولم يكن ذلك لقصور مادي أو فني، ولكن لعدم وجود قواعد بحرية كبيرة صالحة لرسو الأعداد

 

(1/2761)

 

 

الكبيرة من السفن مثل مالدى فرنسا. فجبل طارق ليس فيها الميناء المناسب، ولا بحتمل عتادا حربيا كبيرا، ولا أسبانيا لبريطانيا.

... ولذا وجدت بريطانيا أخيرا أن من الخير لأسطولها ألا يلتجئ إلى جبل طارق في حالة حرب مع فرنسا، إذ يستطيع أسطول طولون المتفرق أن بحاصره وأن يكسر شوكته. بل عليه أن يغادر البحر المتوسط طالبا للنجاة. ولكن تنفيذ هذا القرار محفوف بالمخاطر، إذ أن هروبه سيهبط باسم بريطانيا ، ولا يحفظ ما لها من مركز كبير في العالم.

 

(1/2762)

 

 

... ثم هناك مشكلة بنزرت (بيزرته) وهو ميناء يشرف على جزءي البحر المتوسط الشرقي والغربي، ويتسع هذا الميناء التونسي لأكثر من أسطول، ويصلح قاعدة هائلة للعمليات الحربيةالبحرية. ولكن فرنسا حتى عام 1890 لم يكن لها قاعدة بحرية واحدة في شمال إفريقية، لأنها التزمت حتى ذلك الوقت بالوعد الذي قطعته على تفسها لبريطانيا بعدم إنشاء القاعدة البحرية في هذا الميناء الكبير، لأن إنشاء مثل تلك القاعدة البحرية سيقلب ميزان القوى البحرية في البحر المتوسط لصالح فرنسا ، وفيه تهديد لإيطاليا في الوقت نفسه .

 

(1/2763)

 

 

... وخطورة إقامة بلك القاعدة في بنزرت كبيرة على المواصلات والتجارة البريطانية عبر البحر المتوسط. وإن كان البعض يرى في إنشاء تلك القاعدة تقسيم لقوى الأسطول الفرنسي بينها وبين طولون.

... وفي منتصف عام 1895 افتتحت قاعدة بنزرت -لاكقاعدة كبيرة - ولكن كرد من جانب فرنسا على افتتاح قناة كيل(1894) التي ربطت بحر البلطيق ببحر الشمال، عند ئذ تتحقق مخاوف بريطانيا،وأدركت أن وعد فرنسا لم يكن إلا من قبيل التمويه . وازداد ضطراب بريطانيا عندما علمت بنبإ زيادة قوة الأسطول الروسي في البحر الأسود، وما ينطوي عليه

 

(1/2764)

 

 

هذا العمل من تهديد للآستانة، وما سيلقيه هذا التهديد من أعباء جديدة على الأسطول الإنجليزي في البحر المتوسط، لاسيما وأن احتمال اجتماع الأسطولين الفرنسي والروسي ضد الأسطول الإنجليزي أمر محتمل الوقوع، بعد أن أصبح التحالف الفرنسي الروسي حقيقة غير خافية على بريطانيا.

... طالب الرأي العام البريطاني بإلحاح شديد بضرورة زيادة الاعتمادات المخصصة للبحرية لمواجهة هذا الموقف. وقد وافق أعضاء وزارة جلادستون على ذلك ، إلا جلادستون نفسه الذي انسحب من الوزارة ومن الحياة السياسيةكلية .

 

(1/2765)

 

 

... لقد شغلت مسألة مرور السفن التجارية الإنجليزية في البحر المتوسط في حالة حدوث حرب مع فرنسا أذهان السادة الإنجليز، فوجود موانئ في تونس والجزائر ومراكز قوارب الطوربيد في يد فرنسا يجعل هذا الأمر في غاية الخطورة . وخيل لهؤلاء السادة أن الفرنسيين قد يتمكنون من إغلاق القناة . وإذا ما تم ذلك فليس أمام الإنجليز إلا ترك هذه الطرق كلية.

... زادت هموم الأنجليز في عام 1895 على وجه الخصوص ، فقد عانوا من أزمات عديدة في أماكن مختلفة من العالم ، بعضها يتعلق بالدولة العثمانية - وهذا ما يعنينا في هذا البحث -

 

(1/2766)

 

 

والآخر يختص بفنزويلا، وإفريقية الجنوبية.

... ففيما يتعلق بالدولة العثمانية فقد استطاع الروس السيطرة التامة على البحر الأسود، ومدوا نشاطهم جنوب الشرق الأقصى، حيث عقدوا مع الصين معاهدة تنازل لهم بمقتضاها عن ميناء بورت آرثر لاتخاذه قاعدة بحرية تشرف على مدخل بكين، وكان ذلك يمثل خطرا هائلا على المصالح البريطانية في تلك المنطقة.

... أما في جنوب إفريقيا فكانت تعطف على مطالب البوير، وتؤيد استقلالهم، وفكرت هي وفرنسا وروسيا التدخل لصالحهم ضد بريطانيا، وقد كانت بريطانيا تعتمد على صداقة إيطاليا - رغم عدم

 

(1/2767)

 

 

ثقتها في كفاية رجال البحرية الإيطالية، إلا أن فشلها في موقعة عدوة أمام الأحباش، جعل الاعتماد عليها أمرا غير محسوب. ولذا كان على بريطانيا - أمام كل تلك الصعاب - ويأتي على رأسها عزلتها السياسية التي تكاد تكدون تامة - ألا تعتمد إلا على نفسها وحدها - وقد نفذت هذه السياسة الجديدة في برنامج 6 - 1897 البحري الذي يجعل قوتها البحرية في مستوى أقوى قوتين بحريتين.

... كانت عتمادات البحرية الإنجليزية حاسمة في تقرير مصير البحر المتوسط، فلقد فصلت في مصير مصر بعد أن تحرجت الأمور بين بريطانيا وفرنسا إلى أن بلغت

 

(1/2768)

 

 

ذروتها في أزمة فاشودة 1898. فكان اللقاء بين كتشنر(KITCHENER) قائد القوة المصرية، ومارشان (MARCHANT) قائد القوة الفرنسية في 19 سبتمبر 1898 هو نهاية المنافسة الحامية بين بريطانيا وفرنسا طوال ثلاثين عاما تقريبا. وحين رفضت بريطانيا المفاوضة في أول الأمر، وتحرجت الأمور بين الدولتين ، وضعت الحكومة الفرنسية أسطول طولون على أهبة الاستعداد . وكان الرأي العام الأنجليزي متحمسا للحرب لأنه كا مؤمنا بعد التعزيزات البريطانية الأخيرة، من إحراز نصر على فرنسا يضاهي نصرهم في الطرف الأغر. ففي البحر المتوسط

 

(1/2769)

 

 

-الميدان الحربي الأول - كان لدى بريطانيا ما حمولته من السفن الحربية 450, 239 طن، بينما لم يكن لدى فرنسا سوى 170,085طن.

... بدأت بريطانيا تركز أسطولها في المناطق الحساسة ، فراقبت حركات الأسطول الفرنسي، وأرسلت أسطول القنال الإنجليز إلى قرب جبل طارق، وأسطول البحر المتوسط إلى جزيرة كورفو للمحافظة على مصر والقناة، وأسطول الشرق الأقصى إلى هنج كنج.

... ومما زاد من حرج مركز فرنسا، ومن إدلالها أن حليفتها روسيا رفضت تقديم أية مساعدة ولم بكن في واقع الأمر تستطيع ذلك، فأسطول بحر البلطيق حبيس في مياهه

 

(1/2770)

 

 

المتجمدة، وأسطول البحر المتوسط لم يكن على أهبة الاستعداد للحرب ، كما لم يكن لروسيا مصلحة في أن تزج بنفسها عل حرب مع بريطانيا من أجل مطامع استعمارية فرنسية.

... عزمت بريطانيا علىضرب كل موانئ فرنسا، وعلى إخراج الأسطول الفرنسي إلى عرض البحر حامية، وأدرك الفرنسيون خطورة موقفهم، فاتخدوا موقف الدفاع دون الهجوم، خصوصا وأن الحكومة الفرنسية كانت تعاني من متاعب داخلية.

... أما من ناحية الحكومة البريطانية، فكان عدد من أعضائها يرون انتهاز هذه الفرصة للتخلص نهائيا من فرنسا كمنافس عنيد. ولكن هذا الفريق لم

 

(1/2771)

 

 

يجد تأييدا كافيا، خصوصا بعد أن أعلنت فرنسا بأنها ستنسحب من فاشودة. وبذلك تنتهي الأزمة.

... بعد انتهاء الأزمة البريطانية الفرنسية، حاولت فرنسا التحول نحو دول التحالف العثماني، وبالفعل أخذت تتقرب من ألمانيا، ولكن مسألة الألزاس واللورين كانت عائقا دون إقامة تفاهم بين الدولتين لمدة طويلة. كذلك حاولت فرنسا تحسين علاقاتها بإيطاليا، وحثها على زيادة قواتها البحرية حتى تستطيع الدولتان السيطرة على البحر المتوسط. ولكن إيطاليا، لم تكن مستعدة للتضحية بعلاقاتها الودية مع بريطانيا من أجل فرنسا.

 

(1/2772)

 

 

... كانت أزمة فاشودة درسا قاسيا وعته فرنسا بعمق، وعرفت مدى أثر القوة البحرية، وأدركت في الوقت نفسه أنها لاتستطيع أن تحاري بريطانيا في الحركة بناء السفن، وخاصة الكبيرة منها . وبالتالي أيقنت بأن المنافسة مع بريطانيا يجب أن تهدأ، وأن تتنتهي إلى غير رجعة. وبانتهاء الخطر الفرنسي على بريطانيا ومصر، استقرت الأمور في البحر المتوسط إلى حين.

... وحل محل التنافس الفرنسي بالنسبة لبريطانيا التنافس الألماني. فإذا حدث واستطاعت ألمانيا التفاهم مع فرنسا لنال بريطانيا الخسران المبين...وخاصةإذا مالت الروسيا إلى

 

(1/2773)

 

 

مثل ذلك التفاهم. ولذا أسرعت بريطانيا بعقد حلف مع اليابان لتدعيم مركزها في منطقة الشرق الأقصى. كما عملت في الوقت نفسه على إصلاح ذات البين مع فرنسا، كي تطمئن على سلامة مرور تجارتها أمام الشاطئ الإفريقي الشمالي.

... ورأت بريطانيا أن خير حل يمكن الوصول إليه لتسوية مشكلاتها مع فرنسا أن تتنازل لها عن حقوق لاتملكها في مراكش، في مقابل تنازل فرنسا لها عن حقوق بملكها في مصر بمقتضى الاحتلال. وكانت فرنسا مستعدة لقبول مبدأ التعويض. وبالفعل دارت المفاوضات في لندن بين اللورد لانزدون( lansdown) وزير الخارجية

 

(1/2774)

 

 

البريطانية وبين سفير فرنسا في بريطانيا. وكانت فرنسا مترددة في أول الأمر لإدراكها أن بريطانيا ستتنازل لها عن حقوق لاتملكها، في مقابل حقوق تمتلكها انتلاكا حقيقيا. ولكنها اقتنعت أخيرا بأن حقوق فرنسا في مصر - مهما كانت أحقيتها فيها - فقد تلاشت وعفى عليها الزمن، وأن من الأفضل لها أن تتطلع إلى اكتساب حقوق جديدة في بلاد أخرى على البحر المتوسط نفسه.

... وطالت المفاوضات بين الطرفين بسبب رفض فرسا التسليم ببقاء الإنجليز في مصر لأجل غير محدود، وتمسك الإنجليز بأن تتنا زل فرنسا عن مطالبة بريطانيا بالجلاء عن

 

(1/2775)

 

 

مصر، وحسم الموقف بتوقيع الاتفاق الودي بين الدولتين في ربيع عام 1904، وفيه تركت فرنسا لبريطانيا حرية التصرف في مراكش. وبهذا الاتفاق اطمأنت بريطانيا على مركزها في مصر، وإلى تفوقها في البحر المتوسط، وقررت أن تكون الاسكندرية أهم قاعدة في البحر المتوسط للأسطول البريطاني.

... وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الأتفاق - وإن كان قد وضع حدا فاصلا للمعارضة الأوروبية للاحتلال البريطاني لمصر، إلا أنه لم يغير من مركز مصر السياسي، ففرنسا لاتستطيع لأن تعطي ما ليس حقا لها . ثم إن بريطانيا نفسها وافقت على عدم تغير

 

(1/2776)

 

 

مركز مصر، فهي لم تضم مصر إلى ممتلكاتها ، بل لقد اعترفت بأن كل ما لها في مصر هو حماية فعلية مستورة ومؤقتة. ولكن الاتفاق لم يلق اليأس في قلوب المصريين، فلم يعترف المصريون بالوضع الجديد، وازدادوا إيمانا بحقوقهم ، واستمساكا باستقلالهم معتمدين على أنفسهم أولا وأخيرا.

 

(1/2777)

 

 

التنوع المجالي؛ حتمية إعداد التراب من أجل التكامل بين الجهات في المغرب

 

... ... ... ... ... الدكتور عبد الله العوينة

... ... ... ... ... كرسي البيئة والتنمية المستديمة

... ... ... ... ... ... كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط

 

ملخص

 

... يعرف المغرب تنمية أكيدة، تتضح على واجهات عدة وفي قطاعات متنوعة. إلا أن اختلال التوازن بين جهات البلاد، نتيجة التمركز المفرط للأنشطة والسكان في المحور الأطلنتي الساحلي، وما يقابله من التهميش الذي يصيب مناطق عدة، كالمجالات الجبلية والسهوب الشرقية، يطرح

 

(1/2778)

 

 

إشكالية تماسك النسيج الاجتماعي والمجالي.

... وفي الوقت نفسه تطرح في هذه المناطق المهمشة إشكالية الضغط المفرط على الموارد الطبيعية، بينما تعيش المجالات المركزية التي تستقبل الفلاحات العصرية والصناعة وحركة التمدن، إشكالية تلويث البيئة.

... لذا، فإن اعتبار لزوم تأهيل كل المجالات، بدمج مختلف القطاعات الاقتصادية، ومعالجة الاختلالات الترابية، والجواب عن كل مشاكل البيئة في تنوعها، وتفعيل الخصوصيات الثقافية ـ كل هذا يمثل السبيل الوحيد لبلوغ تنمية مستديمة حقيقية، ضمن التوازن والتلاحم الضروريين، في إطار

 

(1/2779)

 

 

من التكامل والتعاون.

 

مقدمة

... يهدف إعداد التراب إلى الرفع من القدرة التنافسية لبعض المجالات التي ظلت مهمشة، وذلك عن طريق تنمية مواردها وتحسين ظروف العيش بها، رغبة في تقليل الفوارق بين المجالات الجغرافية ومكونات المجتمع. ويتماشى هدف الرفع من المستوى الإنتاجي مع مراعاة الاستدامة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بحضور البعدين الاجتماعي والبيئي.

... ذلك بأن الاستدامة والاستمرارية تشمل أبعاداً متعددة. فضمنها أساساً بعد اقتصادي يتمثل في النماء والإنتاج، وهو هدف صار صعب التحقيق من دون الجمع بين تشجيع هام

 

(1/2780)

 

 

للاستثمار الخاص ومع مراعاة استمرار حضور قوي للدولة. وضمنها يحتل البعد الاجتماعي موقعاً أساسياً، لأن التقليل من الفوارق الاجتماعية يضمن تحقيق التوافق والتعاضد. والبعد الثقافي ضمان للتنوع. أما تطوير الموارد الطبيعية والحد من استهلاكها المفرط والحفاظ على الأوساط البيئية وعلى التنوع الإيكولوجي، فهي أبعاد أساسية لضمان النشاط البشري. إلا أن كل هذا لا يمكن أن يضمن الاستدامة الفعلية إذا لم يتحقق داخل البلد الإعداد المجالي المتمثل في نوع من التوازن بين الجهات والأوساط، وفي تقليل الفوارق بين السهول

 

(1/2781)

 

 

المنتجة الخصبة والصحاري القاحلة والجبال الوعرة، وبين الأرياف والمدن، وبين الأحياء المركزية في هذه الأخيرة والأحياء الهامشية. بهذا التوافق والتوازن تضمن شروط النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية.

... أما مستويات إعداد التراب، فهي متعددة: فهناك مستوى التقسيمات الإدارية إلى جهات وأقاليم، وهو تقسيم يراعي في الوقت نفسه خصوصيات الطبيعة والتوزيع السكاني والعلاقات التاريخية وآفاق التطوير المجالي.

 

(1/2782)

 

 

... وهناك مستويات الإعداد المتكيفة مع طبيعة المشاريع والقطاعات، من أقاليم فلاحية أو سياحية أو صناعية. وما دام الإعداد مرتبطاً أساساً بالمشاريع، فإن هذا المستوى يعتبر إطاراً لتصور مستقبل المجالات الجغرافية ولتخصيص التدخلات المتعلقة بها.

... ولضمان نجاح سياسة الإعداد هاته، هناك العديد من الأدوات القادرة على توجيه المشاريع والاستثمارات، من أهمها الحوافز الجبائية والمؤسساتية والمخططات التوجيهية. لكن إرساء الديمقراطية المحلية الفعلية يمثل أجدى سبيل لبلوغ هذا الهدف، إذا ما عممت لجن مؤسساتية للتشاور

 

(1/2783)

 

 

تضمن التوافق على مشروع مجتمعي يضمن التوازن والنماء. وهنا تظهر أهمية التشاور الوطني، عبر إقامة حوار بين المتدخلين والمهتمين على عدة أصعدة، لبلوغ تحضير ميثاق وطني موحد، يطرح القواعد الأساسية والاختيارات الكبرى والأولويات ويتصور الأدوات من أجل بلوغ الأهداف الكبرى المخططة.

... في هذه المحاولة، سنسلك خطتين:

... ـ الأولى: قطاعية، تهتم بالسياسة الفلاحية وضرورة تنطيقها وأقلمتها من أجل الوصول إلى النجاعة الإنتاجية الضرورية.

 

(1/2784)

 

 

... ـ الثانية: مجالية، تبين حتمية تنمية أحد الأوساط الهامة، وهو الوسط الجبلي، لضمان تكامل وتعاضد مع السهول النامي.

...

1 ـ التناول المجالي لسياسة التنمية الفلاحية: التنطيق الفلاحي

... لقد عبر المغرب عن توجه مستقبلي نحو نظام الجهوية، وانطلق في تطبيق أسس اللامركزية التي تمثل إحدى أولويات البرنامج الحكومي. كما عبر عن ضرورة البحث عن توازن مجالي مبني على إعداد محكم للتراب. لذا أصبحت السياسات القطاعية المتعلقة بالفلاحة والتنمية القروية ملزمة بأن تنحو نحو الأقلمة والتنوع، على أساس تقسيمات ترابية تخضع

 

(1/2785)

 

 

لمنطق خاص وتتفاعل في إطار سياسة أشمل مع التقسيمات الأخرى التي تخضع لمسببات اقتصادية أو ديموغرافية أو سياسية. وتسمح المقاربة المجالية للفلاحة بتصور تدخلات وتخطيطات متكيفة مع تنوع الواقع المجالي، أي مع معايير طبيعية وبشرية محددة، ومع الوضع الحالي للموارد، آفاق تنميتها.

... ولتحديد استراتيجية للتنمية الفلاحية، من الواجب التكيف مع تنوع الاستراتيجيات المحلية التي تنبني أساساً على معايير تحددها الإمكانات والعوائق الطبيعية، لكنها ترتبط كذلك بأنظمة الإنتاج الفلاحي وبالمحيط البشري.

 

(1/2786)

 

 

... وتختلف هذه المعطيات حسب الأقاليم، الأمر الذي يعطي إمكانات إنتاج متفاوتة. كما أن آفاق التطوير، وإمكانات الرفع من الإنتاج وتحسين ظروفه، لا تتساوى من إقليم لآخر. فكل منطقة فلاحية تحتوي على ظروف معينة، تسمح لها بتوجه خاص بها. ولذا، فالخيارات التقنية ليست واحدة. بل من اللازم القيام بها على أساس إقليمي؛ كذلك من اللازم تكييف قانون الاستثمارات الفلاحية مع الحاجيات والاختيارات الإقليمية.

... وتمثل المقاربة المجالية للفلاحة طرحاً آخر للإشكالية الترابية، ينطلق من إمكانات كل مجال على المستوى الفلاحي

 

(1/2787)

 

 

ومن الأنظمة الفلاحية التي طوّرها الإنسان داخل هذه المجالات. وينفتح على آفاق تنمية فلاحة هذه المجالات، وذلك بسن سياسة فلاحية متكيفة من جهة ومندمجة من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، تسمح هذه المقاربة بالوصول إلى الإدماج، وذلك يجعل كل مجال يستقبل البرمجة التي تحددها كل القطاعات الفلاحية، ويدمجها بعضها مع بعض في تصور شمولي توجيهي، يعطي لكل قطاع حقه ويؤسس لخلق ظروف من التكامل بين القطاعات.

... والأكيد أن فلاحة المغرب متنوعة، بل تتسم بالتمايز على مقاييس عدة:

 

(1/2788)

 

 

... ـ فهناك التمايز الواسع الآفاق، على مستوى مجموعات كبرى، يحسم في تحديدها عاملان: العامل الطبيعي المرتبط بظروفها المناخية والتضاريسية والأحيائية، والعامل الفلاحي الذي يتمثل في الأنظمة الزراعية الغالبة في كل مجال، والتي تعتبر نتاجاً لتفاعل الإنسان عبر الأجيال المتتالية، ولتكيفات متلاحقة مع وسط بيئي ما. هذه المجموعات الكبرى عددها محدود ومساحة كل واحدة منها كبيرة، والتنوع الداخلي ضمنها مهم. ولذا، فإنه من الصعب اعتبارها المقياس الصالح لتخطيط توجهات متميزة للسياسة الفلاحية.

 

(1/2789)

 

 

... ـ وهناك التمايز الدقيق، الذي يمثل الواقع المعيش الجلي في الميدان والعميق لما يحتويه من حمولة سوسيولوجية. وهو التمايز بين الوحدات الفلاحية الصغرى. ويعتبر هذا المقياس مقياس الإدماج الفعلي؛ إذ تتسم هذه الوحدات بانسجام داخلي كبير، يراعي الظروف الطبيعية والنظم الفلاحية معاً.

... لكن المقاربة المجالية تحتاج إلى مقياس وسيط بين مقياس المجموعات الكبرى الإيكولوجية والوحدات الصغرى الفلاحية. ذلك بأن الغاية ليست البحث عن تقسيم مجالي يندرج ضمن وحدات »متخصصة«، وإنما الغاية هي البحث عن الاندماج. وهذا يتطلب

 

(1/2790)

 

 

العمل بمقياس مجالي متوسط، في إطار وحدات تتبناها كل القطاعات الفلاحية، ويحدد كل قطاع استراتيجيته دون إغفال هذا البعد الأساسي، لأنه يسمح بتلاقي وتوافق مختلف الاستراتيجيات القطاعية على أرض الواقع.

... تمثل المجموعات الإيكولوجية ـ الفلاحية المستوى الأول لتنطيق الفلاحة، لأنه يقسم البلاد إلى نطاقات كبرى أو مجموعات إيكولوجية ـ فلاحية. وهي المجالات المعهودة والمبنية على أساس تركيب خرائط معدة للمؤشرات الطبيعية والبشرية، تلك التقسيمات التي كانت القاعدة في تصور مجموعة من السياسات الفلاحية الكبرى.

 

(1/2791)

 

 

... ـ تتحدد الجبال بمؤهلاتها الغابوية والرعوية، إضافة إلى إمكانات إنتاج مواد فلاحية خاصة وذات قيمة عالية. وترتبط هذه المؤهلات بطبيعة الجبال، التي تتميز بارتفاع مقادير وتيرة التهاطل، مقارنة مع السهول المجاورة، وبوفرة المياه. كما ترتبط بتراكم حضاري في عدد من المجالات الجبلية سمح بتكوين رصيد من التقنيات والمهارات التي تمثل تراثاً لا يعوض. لكل هذه الأسباب، فإن الاستراتيجية الفلاحية الخاصة بهذا النطاق تنبني على هدفين متكاملين: تكثيف الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية في المواقع الأكثر مؤهلات، والعمل

 

(1/2792)

 

 

على الحفاظ على البيئة وإعادة تأهيل الموارد في كل المواقع الأخرى، حيث تزداد الحساسية والهشاشة.

... ـ تمثل السهول والتلال شبه الرطبة والتي تتلقى تساقطات كافية لإنتاج بوري منتظم، مناطق محظوظة، لأنها في الوقت نفسه تحتوي على أتربة خصبة أو قابلة للتحسين. هذا المجال، بالرغم من تجانسه الطبيعي، يعرف تمايزاً في التاريخ الفلاحي، إذ يتم فيه التفريق بين أراضي قديمة الاستيطان والاستغلال (مثال تلال مقدمة الريف) وأخرى ظلت مجال تنقل للرعاة إلى بداية هذا القرن (مثال الغرب ومنطقة زعير). إلا أن ما ميز القرن

 

(1/2793)

 

 

العشرين هو المجهود الهام الذي عرفته هذه المناطق من أجل تهيئتها واستغلال مواردها وتطوير الإنتاج بها. وهذا ما يفسر الكثافات البشرية العالية في أرياف هذه المناطق. كما أن هذه المجالات تتمركز بها أكبر مدن المغرب. لذا لا يجب إغفال الدور الكبير الذي تؤديه هذه الحواضر في علاقاتها بفلاحات هذا النطاق. وتنبني السياسة الفلاحية في هذا النطاق على تطوير الفلاحة البورية وتنويع المنتوج والرفع من المردود، لكنها لم تغفل الدور الذي يلعبه السقي في التكثيف والتنويع، استجابة لمتطلبات التجمعات الحضرية الكبرى.

 

(1/2794)

 

 

... ـ تغطي السهول والهضاب شبه الجافة والجافة مجالات واسعة في المغرب الأطلنتي والمغرب الشرقي. إلا أن التدرج في ظروف المناخ (من شبه الجاف إلى الجاف) وفي وفرة المياه وإمكانات تحويلها، وفي طرق تكيف المجموعات البشرية مع الظروف الطبيعية ـ كل هذا سمح بالتفريق بين ثلاثة أنواع من المجموعات الإيكولوجية الفلاحية داخل هذا النطاق الواسع.

... ـ مجموعة الهضاب شبه الجافة تمثل أراضي تتلقى أقل من 400 مم (بل أقل من 350 في كثير من أجزائها)، إضافة إلى تفاوت سنوي مرتفع. وهي مجالات تربتها محدودة، بسبب بروز القاعدة

 

(1/2795)

 

 

الصخرية في الكثير من السطوح. لذا، فإن الرقعة الزراعية تنحصر في بعض المساحات الخاصة، مع محدودية كبرى للموارد المائية.

... ـ مجموعة الهضاب والسهول السهوبية أكثر جفافاً من المجموعة السابقة (أمطار بين 100 و300 مم)، إضافة إلى وضع قاري يرفع من حرارة الصيف، ويجعل من برودة الشتاء عائقاً إضافياً.

... في هاتين المجموعتين، تحتل الزراعة بعض المواقع، وتنمو محلياً بسبب تمديد الري. لكن الاستراتيجية التنموية تعتمد أساساً على تطوير الرعي بأشكال مختلفة حسب الظروف، مع البحث عن إدماج الزراعات في هذا السياق، لتكون

 

(1/2796)

 

 

منسجمة مع الهدف الرعوي الأساسي.

... ـ وتنفرد داخل هذا النطاق الجاف ونصف الجاف، مجموعة من المناطق لها الخاصيات المناخية نفسها، وهي ضعف التهاطلات السنوية وارتفاع التفاوت السنوي. لكنها تتميز بظرفين هامين سمحا بإقلاع الفلاحة فيها، ألا وهما: امتداد المساحات الزراعية الخصبة التربة من جهة، وتوافر إمكانات مائية عبر تحويل مياه أنهار كبرى من جهة ثانية. هذا التظافر كان الأساس في تطوير فلاحي خلق في مجالات جافة، قطاعات سقوية ممتدة، متنوعة المنتوج ومرتفعة الإنتاج. ويمثل انتظام المورد المائي تأميناً يسمح

 

(1/2797)

 

 

بتصور استراتيجيات زراعية ورعوية أكثر تكيفاً مع حاجيات الأسواق.

... ـ المناطق الجنوبية مجال فلاحي تنبني استراتيجية تطويره على تنمية الموارد الرعوية والحماية من التصحر من جهة، وعلى تقوية منتوج الواحات من جهة ثانية. لذا كان من اللازم التفريق بين المناطق القريبة من الصحراوية والصحراوية، حيث تمتد الواحات على رقعة واسعة، سامحة بخلق رصيد زراعي وكثافات بشرية هائلة في مراكز تتمحور حول الأودية الأطلسية، ومناطق صحراوية أخرى تتباعد فيها الواحات وتقل امتداداً بسبب ندرة الموارد.

 

(1/2798)

 

 

... هذا التحديد السريع للنطاقات الفلاحية يبين بكل وضوح تنوع الواقع الفلاحي وضرورة اندراج السياسة الفلاحية تبعاً للظروف الطبيعية ووفرة الموارد وإمكانات تطوير هذه الموارد.

... إلا أن مقياس النطاقات لا يمثل الحجم الفعال لتوجيه السياسة الفلاحية، لأن النطاقات تخرج كلياً عن الحدود الجهوية وتتخطاها. فالنطاق الجبلي موجود من شمال المغرب إلى جنوبه، والسهول ذات الإمكانات السقوية العالية موجودة على الواجهتين الأطلنتية والمتوسطية. لذا كان من الواجب تصور وحدات من حجم أقل، لها وحدة جغرافية من حيث الموقع،

 

(1/2799)

 

 

تتميز بالاستمرارية من حيث المجال وتتسم بمؤهلات متجانسة نسبياً.

... أما التحديد الإقليمي للوحدات المجالية ـ الفلاحية، فهو ينبني أولاً وأساساً على مفهوم جغرافي، وهو مفهوم الإقليم المتصف بمجموعة من الأوصاف العامة، تشخصه عن الأقاليم المجاورة، وتتآلف حول مفهوم »المؤهلات الغالبة«. والمعول أن تحدد السياسات المتكيفة مع هذه المؤهلات الأساسية لكل وحدة.

... الهدف الأول من هذا التقسيم هو الإدماج الأفقي للسياسة الفلاحية للاستجابة للحاجيات المرتبطة بعضها ببعض فيما بين القطاعات المختلفة، داخل كل إقليم. ذلك

 

(1/2800)

 

 

بأن النظام الإنتاجي هو حصيلة لقطاعات متعددة ولا يمكن تصورها معزولة بعضها عن بعض.

... الهدف الثاني هو التكيف مع تنوع الظروف الإقليمية، باعتبار الإمكانات والعوائق وباعتبار نظام الإنتاج، وذلك بتصور اختيارات تكنولوجية متنوعة، وبنيات تأطير وتوجيه متكيفة مع الطلب والحاجيات، وقوانين استثمار تسمح بتشجيع المؤهلات الغالبة والاختيارات الأساسية.

... والهدف الثالث هو الاندماج داخل السياسة العامة، التي ترمي إلى اللامركزية الجهوية، بسن ميكنزمات جديدة للبرمجة تتم في إطار الجهات وفي توزيع حقيقي للمسؤوليات.

...

 

(1/2801)

 

 

2 ـ المجالات الجبلية: تهميش اقتصادي وتدهور بيئي

... لقد أدت الجبال في شمال إفريقيا دوراً أساسياً على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهي تمثل الآن ذخيرة بيولوجية وتراثاً اجتماعياً، من المستعجل تنميته قصد تخطي أشكال الانزواء الذي صار يعيشه المجال الجبلي منذ الحماية الأوروبية.

... وتحتوي الجبال على تنوع هائل في أشكال استعمال التربة والثروات، وغالباً على كثافة في الاستيطان والاستغلال، مع تكيفات عجيبة إزاء متطلبات البيئة وحدودها. وقد ساد هذا الوضع قبل الحماية مع توازنات بيئية حصل عليها

 

(1/2802)

 

 

الإنسان بفضل استصلاحات متقنة. إلا أن هذا التوازن هش، تهدده باستمرار كل الطوارئ التي تنتج عن تحولات عنيفة هي نفسها متزنة، تراعي هشاشة البيئة. فقد كان هذا الاقتصاد يعتبر اقتصاد قلة، ينبني على الاستهلاك الذاتي للثروات المحلية، وعلى بعض المداخيل الخارجية. ومن بين هذه المداخيل الخارجية تجارة صغرى مع المجالات السهلية المجاورة.

... فالمجال الجبلي مجال طبعه الإنسان بطابع خاص بفضل مجهودات متواصلة تهدف إلى التحكم في القوى الطبيعية وإلى تدبير متزن للموارد. ولذا من الممكن الحديث عن حضارة زراعية ورعوية تخطت

 

(1/2803)

 

 

الصعوبات البيئية واعتمدت أساساً على المورد البشري، أي على إبداعية وروح خلاقة تمكنت من ابتكار الحلول الملائمة، وتنظيم اجتماعي محكم، به تقنين داخلي واتفاقات شفوية هدفها استمرار النشاط وتواصل الاستغلال.

... وتعيش هذه الحضارة اليوم أزمة تهميش، يتمثل أحد مظاهرها في تدهور الموارد والاتكال على الموارد الخارجية إضافة إلى الهجرة.

... وقد سعت عدة تجارب إلى حل معضلة الجبال دون أن تنجح في ذلك.

... يعتمد النظام التقليدي على حرية ولوج الموارد الطبيعية واستغلال جزء منها، مع تقنين جماعي لهذا الولوج. وأتت

 

(1/2804)

 

 

قوانين الغابة بعد التعمير الأوربي لاقتطاع المجال الغابوي من المساحة الجماعية مع ضبط إمكانات استغلالها؛ كما عمل التعمير على الحد من مجال تحرك القبائل، وذلك بالاستيلاء على أجواء الأراضي التي كانت تمثل أراضي تكميلية.

... وبينما ألحت المشاريع الأولى للإعداد على هدف الحدّ من التدهور، صارت الأهداف الإنمائية في المقدمة ابتداء من الثمانينيّات؛ كما أن محاولة احتواء التعقيد الملاحظ في الأوضاع السوسيولوجية وإشراك السكان في مشاريع التهيئة مثلت تقدماً كبيراً، وأصبحت أهداف الرفع من الإنتاج عن طريق سن تقنيات

 

(1/2805)

 

 

جديدة تثير انتباه السكان وتضمن اهتمامهم.

... وقد كان النظام الجماعي هو السر في نجاح هذا الاستغلال المتزن للثروات حيث يسمح التقنين، المبني على تقاليد ومعاهدات شفوية غابرة في القدم، بوضع المنهاج المتقن الذي يسير عليه استعمال الثروات المتوافرة. كما ترتكز الحضارة الزراعية والرعوية الجبلية على الثروات البشرية، أي على إبداعية السكان وروحهم الخلاقة.

... ويلاحظ الآن أن هذا التوازن الهش قد تم تحطيمه، حيث تعرف جبال شمال إفريقيا مرحلة تراجع سريع تتضح على مستويات عدة: فالغابة صارت لا تغطي إلا بقعاً محدودة

 

(1/2806)

 

 

يتقلص مجالها بسرعة مهولة، وآليات الانجراف تقتلع التربة وتحفر في الركائز الصخرية؛ بينما صارت مياه الأنهار محملة بالأطنان من المواد الفتاتية التي تتراكم في السافلة عند قدم الجبال أو في بحيرات السدود، مهددة بذلك إمكانات الزراعة والثروات المائية القابلة للتعبئة. هذه الأزمة الحالية لها خلفيات اقتصادية واضحة. ومن العسير استصلاح المجال الجبلي من جهة، ومجال سهول قدم الجبال من جهة أخرى، دون التفكير في ظروف هذه الأزمة ودون وجود حلول ملائمة لها.

 

(1/2807)

 

 

... وينشأ عن التدهور التدريجي لظروف البيئة فقدان لا رجعة فيه لعدد من الثروات يمكن أن تعتبر صعبة التجديد. والجبل محكوم عليه بأن يصبح غير قادر على منح التغذية الكافية لسكانه، خاصة وأن هؤلاء يعرفون تزايداً ديمغرافياً هاماً. فهل صار الجبل محكوماً عليه بأن يطرد سكانه ليصبح فارغاً بسبب تضاؤل الإمكانات؟

... لقد كانت هذه التهديدات السبب في الإحساس الذي أعرب عنه المسؤولون بضرورة استصلاح المجالات الجبلية، لبلوغ الهدفين:

 

(1/2808)

 

 

ـ هدف وقاية السافلات، أي العمل على توفير الظروف لخزن أكبر الكميات الممكنة من الماء، خاصة وأن بعض بحيرات السدود بدأت تشكو من مشكلة التحول والنقص من إمكانات التخزين.

ـ هدف وقاية العاليات، أي العمل على الحفاظ على أتربة السفوح من الضياع، وعلى الإمكانات الإنتاجية لهذه الأراضي المنحدرة، بل تقويم مسلسل التدهور وفي الوقت نفسه تحسين ظروف عيش السكان بضمان إنتاجية عالية أكثر.

... وفي هذا الإطار تم القيام بالعديد من التجارب الإنمائية والاستصلاحية بمساعدة منظمات دولية، وخاصة منها منظمة التغذية والزراعة

 

(1/2809)

 

 

والبنك الدولي. لكن يمكن القول، بعد 30 سنة من التجارب، إن انجراف التربة في الجبال لم يُتحَكَّم فيه بعدُ بل ما زالت آثاره في تفاقم وتهديداته في تزايد.

... يعزى هذا إلى أن مشاريع استصلاح الأحواض التصريفية الجبلية كان الهدف الأول منها التقليل من عامل الانجراف لحماية السافلة، وخاصة التجهيزات المائية والكهربائية، ولم تهدف أساساً إلى التنمية الإقليمية المتوازية للجبل. وظلت جل الاستثمارات الرسمية موجهة للتجهيز المائي، بينما بقيت المرتفعات الجبلية مهمشة ومنزوية. ومنذ أن ظهرت بوادر النقص في إمكانات

 

(1/2810)

 

 

التغذية المائية على المستوى الوطني، بدأ الإحساس بلزوم الاهتمام بالمجالات الهامشية.

... من جهة أخرى، يجب الإشارة إلى أن سياسة استصلاح الجبل تمت في إطار عام غير محكم، حيث كان هذا المجهود التنموي في تناقض نسبي مع التوجهات والاختيارات الأساسية للاقتصاد.

... فمثلاً، لم يكن من الممكن التقليل من اقتلاع الخشب للوقود، ما دام الغاز خاضعاً لضرائب باهظة تجعل استعماله مستحيلاً على ساكني الجبل الذين ليست لهم إمكانات مالية. أما الزراعة الجبلية التي تكون مداخيل أساسية لسكان المرتفعات، فإن تنميتها عن طريق

 

(1/2811)

 

 

تكثيفها في مجالات ضعيفة متكيفة تكون مستحيلة إذا لم تستخدم المياه لسقيها، بينما نجد كل الثروات المائية تسخر لتغذية السافلة؛ ولا يمكن تكثيف هذه الزراعة إلا إذا تم الحد من منافسة زراعية السهول لها.

... ومن ثم تبقى مختلف الحلول المقترحة على فلاحي المجالات الجبلية بهدف توقيف الاستغلال الجائر للثروات والحد من التعرية حلولاً غير مرضية حتى الآن. فغرس أشجار الزيتون لا يمكن نشره على مجالات واسعة، ما دامت أثمان بيع زيت الزيتون لا تستفيد من المساعدة التي تحظى بها الزيوت الأخرى. والتدجين للحد من تنقل

 

(1/2812)

 

 

الماشية على السفوح يتطلب ـ بالضرورة ـ التوفر الكافي على مواد علفية وبثمن مناسب. ولذا نلاحظ أن الجبل عادة ما لا يبدي تقبله لهذه الحلول المقترحة.

... هذه الحلول عادة ما تقترحها وتنفذها إدارة المياه والغابات، بينما السلطات المحلية لا تعتبر إلا أداة اتصال. أما المؤسسات التقليدية الجماعية والتي ما زالت فعالة في العديد من جهات الأطلس، فهي لا تعتبر شريكاً أبداً، بينما تعرف أنها هي التي كانت تشرف على استغلال الثروات الطبيعية في الماضي، وذلك بتطبيقها لنظام عقوبات لكل ما يخالف هذه القواعد.

 

(1/2813)

 

 

... ويكمن الحل الحقيقي في استصلاح شمولي يضم التدابير المتخذة في السافلة لحماية الخزانات المائية والتدابير الخاصة بالعالية، والتي يجب أن تهدف في الوقت نفسه إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسكان الجبل، وإلى الحدّ من عمليات انجراف التربة. فلا يمكن أن تتخيل نجاحاً للسياسة الوقائية من الانجراف في غياب مساهمة فعالة للسكان؛ ومساهمة هؤلاء لا يمكن ضمانها إذا ما غاب إحساسهم بأن التدخلات هي في صالحهم المباشر.

 

(1/2814)

 

 

... إن استصلاح المرتفعات الجبلية ووقاية أراضيها من خطر الانجراف يقتضي عدداً من التدابير والظروف:

... ـ مساهمة السكان. ولهذا الغرض، لابد من تكييف الإطار المؤسساتي الذي تتم من خلاله التدخلات؛ وذلك يجعلها تصدر عن إطار تنظيمي إقليمي أو محلي، وبتقوية المؤسسات التمثيلية للجماعات المحلية.

... ـ اهتمام السكان بهذه السياسة رهين بارتباط التدخلات الرامية إلى الحد من التعرية بمجهود تنموي حقيقي وتحسين فعلي لمستوى عيش السكان. وهذا يقتضي، بالإضافة إلى تحسين الإطار الاقتصادي العام وتكييفه، إشراك سكان الجبل في

 

(1/2815)

 

 

الأرباح الناجمة عن عمليات توقيف الانجراف التي سيتمتع بها سكان السافلة أساساً، أي مستعملو مياه السقي انطلاقاً من السدود، ومستعملو الماء الشروب. فالمجهود اللازم لإيقاف الانجراف سيقوم به سكان الجبل، بينما ستعود الفائدة الكبرى على سكان السهول. لذا فمن الواجب إشراك العالية في الفوائد، خاصة وأنهم فقدوا ثروات كانت لهم الحرية في استغلالها، كحرية التنقل داخل الغابة مثلاً. ويشكّل الحدُّ من هذه الحرية خسارة لسكان الجبل يجب أن يعوضوا عنها، وذلك بإعطائهم مجموعة من الإعانات مثلاً.

 

(1/2816)

 

 

... والهدف الأسمى أن يكون الحفاظ للجبل على دور اقتصادي فعال، وعلى حيوية اجتماعية وثقافية حقيقية. وللحصول على هذا الهدف، لا ينبغي حصر التدخل في الجبل وحده. بل لابد من البحث عن حلول شاملة، تجعل السهول تساهم في المجهود لتنمية المالية، والعكس. كما أن الحلول التقنية المحضة في هذه الأوساط الهشة قلما تؤتي أكلها، وخاصة إن كانت مستوردة وغير متكيفة. ويتمثل الحل الصحيح في الانطلاق من الوسائل المحلية والتلقائية التي يملك السكان مفاتيح التحكم فيها.

...

خاتمة

 

(1/2817)

 

 

... يمكن تلخيص إشكالية الجبال في ثلاثة رهانات كبرى مترابطة فيما بينها هي:

 

الرهان المجالي، وينتج عن تفاوت واضح، بل تناقض صريح، بين تقدم تجهيز ونماء المجالات السهلية والسواحل من جهة، وتأخر الجبال من جهة ثانية.

الرهان الاقتصادي، ويتضح في ضآلة استغلال واستثمار الموارد الضخمة التي تزخر بها الجبال، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الإنتاج ومحدودية فرض الشغل. بل لا تجد الواردات المالية الخارجية نفسها الإطار المحلي لاستثمارها. لذا نجد النزعة الحالية نحو الهجرة والتخلي عن القرى النائية، وبالعكس توسع المدن التي

 

(1/2818)

 

 

تستقبل السكان المهمشين.

الرهان البيئي، ويتمثل في ضياع العديد من الموارد، وتدهور أوساط بيئية، وفقدان تراث إيكولوجي وثقافي. ومن أخطر ما يصيب الجبل تناقص الكميات المائية التي يزود بها السهول المجاورة، الأمر الذي يطرح إشكالية مستقبل هذه المجالات النامية نفسها.

... وتطرح هذه الرهانات مجتمعة إشكالية الجبل بصفتها قضية وطنية تستدعي سياسة واضحة واردة أكيدة، معبراً عنها على مستوى عالٍ. ومن الواجب أن تعترف هذه السياسة بخصوصية هذا المجال، وهو ما يقتضي القبول بقوانين متكفية، تهدف إلى تعويض العوائق عن طريق

 

(1/2819)

 

 

حوافز جبائية وإعانات مالية في إطار من التلاحم والتعاضد بين الجبل والسهل وبين أجزاء الجبل المختلفة. والغاية من ذلك هي السماح بانطلاق استثمارات فعالة في المجال الجبلي.

... والتناول الهادف هو ـ في الوقت نفسه ـ إراديّ، إذ يترك المجال واسعاً لتدخل الدولة، وتشاركيٌّ، لأنه يتجنّد له الجميع من منتخبين ومستثمرين وإداريين. كما أنه تناول مندمج، يتماشى مع مختلف الخطط والتصاميم القطاعية، في ميادين الفلاحة والغابات والمياه والتعمير

 

(1/2820)

 

 

... وهكذا يكون للطرح الجبلي بعدُ إعداد التراب وبعدٌ تنمويٌّ. وينبني الطرح الأول على إدماج الجبل والسهل في إطار تعارف خلاق، بينما يستدعي الطرح الثاني ضبط الفاعلين الاقتصاديين والتعاون معهم في نظام مؤسساتي متوازن.

...

...

 

(1/2821)

 

 

التواصل الثقافي بين المغرب وبلاد شنقيط قراءة في مقررات المحظرة ورحلات العلم خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين

 

... ... ... الأستاذ محمذن ولد المحبوب

... ... ... ... ... انواكشوط ـ موريتانيا

 

... نود في هذا البحث أن ننبه إلى بعض الروابط الثقافية التي جمعت بين بلاد شنقيط ومناطق المغرب الأقصى، ساعين في تلمس قنوات العلم وصلات المعرفة التي ربطت بينهما، مبيّنين مختلف العلاقات المعرفية التي ربطت بين المنطقتين حيث كانت المؤلفات المغربية من أسس المقررات في المحظرة الموريتانية. ثم إن الشناقطة

 

(1/2822)

 

 

كثيراً ما يرتحلون إلى المغرب، أو يمرون به في رحلاتهم إلى الحج. فقد تلبثوا هنالك غير يسير، محاورين نظراءهم من العلماء، محاولين الإفادة والاستفادة، مراوحين في الوقت نفسه بين الأخذ والعطاء، والتقبل والإلقاء. فمتى امتدت ينابيع المعرفة والحكمة بين البلدين؟ وبأي طريقة استطاع العلماء نسج تلك العلاقات الثقافية المتميزة؟ وكيف كان عاقبة سعي هؤلاء؟ ثم من الوجوه الثقافية التي فعلت فعلها في هذا التحاور الثقافي؟

 

(1/2823)

 

 

... ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الصفحات مقسمين الموضوع إلى قسمين: في أولهما نعرض لبوادر الاتصال وللمقررات المحظرية، وفي ثانيهما نتناول رحلات العلم.

 

أولاً: بوادر التواصل والمقررات المحظرية

أ ـ بوادر التواصل

... ولا بأس أن ندشن هذا التواصل بتلك الصَّرخَةِ المدوية التي أطلقها القائد يحيى بن إبراهيم الكدالي(1)

__________

(1) هو يحيى بن إبراهيم الكدالي، قيل إنه حج سنة 440 هـ، وفي كتاب "التشوف" ما نصه: »... من أهل السوس الأقصى، رحل إلى القيروان، فأخذ عن أبي عمران الفاسي. ثم عاد إلى السوس، فبنى داراً سماها بدار المرابطين«. وفي تاريخ حجه السابق، نظراً لأن بعض المؤرخين ذهب إلى أن أبا عمران توفي سنة 430 هـ.

 

(1/2824)

 

 

، وهو بالقيروان مستنجداً بمعارف أبي عمران الفاسي(1)، وذلك حين قال:

... .. ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون، لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال حرفتهم البيع والشراء، ولا علم عندهم، وفينا قوم يحرصون على تعلم القرآن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فعسى ـ يا سيدي ـ أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا ليعلمنا ديننا (2)

__________

(1) هو أبو عمران الفاسي، فقيه تونسي لقيه يحيى بن إبراهيم الكدالي أثناء حجه وأحاله على تلميذه وجاج اللمطي.

(2) "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية "، لرجل مجهول من أهل القرن الثامن الهجري، حققه الدكتور سهيل زكار وعبد القادر زمامه، دار الرشاد الحديثية، ط 1، 1975، صص. 19 ـ 20.

 

(1/2825)

 

 

.

فاستجاب أبو عمران لهذا النداء وأحال الرجل على تلميذه وجاج بن زلو اللمطي الذي انتدب له الفقيه عبد الله بن يس الجزولي(1)، مؤسس الرباط ومدشن أول حلقة تدريسية بالبلاد حسب المعلومات المتوافرة إلى يوم الناس هذا. ولا ننسى أن الأمير أبا بكر بن عمر اصطحب معه في عودته من المغرب الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي (ت 489 هـ) والفقيه إبراهيم الأموي الذي كان معلماً وقاضياً في مجلس الأمير(2)

__________

(1) هو عبد الله بن ياسين الجزولي القائد الروحي لحركة المرابطين. ( ت 451 هـ).

(2) المختار بن حامد، الحياة الثقافية، الدار العربية للكتاب، 1990، ص. 5.

 

(1/2826)

 

 

، وهؤلاء الثلاثة هم أصل انتشار العلوم الدينية في قبائل موريتانيا في ذلك العهد. ثم جاء الشريف عبد المؤمن، مؤسس قرية تيشيت وجد شرفائها المعروفين، ومعه الحاج عثمان، أحد مؤسسي قرية وادان، وكانا قرآ على القاضي عياض المتوفى في مراكش سنة 554 هـ؛ فانتشر عنهما العلم واتسع نطاقه(1). وبذلك نعلم أن الفضل في التئام الحصص الدراسية الأولى بالربوع الشنقيطية يرجع إلى أهل المغرب الذين ظلوا على مر الأيام يمدون هذه البلاد بنافع العلم ونادر الحكمة. فقد وصلت المؤلفات المغربية إلى الساحة

__________

(1) المرجع السابق، ص. 6.

 

(1/2827)

 

 

الشنقيطية في وقت مبكر وفي مقدمتها رسالة "الأجرومية"، وإن كنا لا نعلم بالتحديد تاريخ وصولها إلى البلاد. إلا أن المعلومات المتوفرة تشير إلى أن أول إشارة إليها ترجع إلى أواسط العقد الرابع من القرن العاشر، حيث ذكر البرتلي في كتابه "فتح الشكور" »أن عبد الله بن محمد الغيث المحجوبي (ت 937 هـ) قد شرح "الأجرومية"«(1). ومعنى ذلك أن هذه الرسالة النحوية كانت حاضرة في الدرس الشنقيطي منذ فترة. فمن المفترض ألا يتم شرحها إلا بعد التمكن منها

__________

(1) البرتلي، فتح الشكور، دار الغرب الإسلامي، الرباط، 1981، ص. 28.

 

(1/2828)

 

 

وتقبل الناس لها؛ فلعلها وصلت البلاد في القرن التاسع الهجري، فظلت على مستوى المقررات والدرس، ولم تمتد إليها أنامل العلماء للشرح والتعليق إلا ابتداء من التاريخ المذكور. والعلم عند الله. ومن كتب النحاة المغاربة التي بلغت إلى البلاد في هذه الفترة كتب المكودي (ت 807 هـ)، خاصة شرحه للـ"ألفية". وكتابه "التبسيط والتعريف في فن التصريف" اللذين قدم بهما محمد سعيد بن تكدي اليدالي (1)

__________

(1) عالم شنقيطي من قبيلة اليداليين. عاش في القرن العاشر الهجري، وارتحل إلى جنوب المغرب، وجاء بمكتبة تضم بعض الكتب النحوية، خاصة "شرح المكودي على الألفية".

 

(1/2829)

 

 

في رحلة عودته من المغرب. وقد كان "شرح المكودي على الألفية" من مراجع المختار بن بونه في كتابه "الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة". فهو يقول في طرته ناقلاً عن المكودي قوله: »ورد علينا تلميذ من أهل العراق ينشد بيتاً ثامناً للخطبة، وهو (1):

 

فما لعبد وجل من ذنبه

 

غير دعاء أو رجاء ربه«.

 

... بعد هذه الفترة، توافدت على الساحة الشنقيطية مؤلفات الفقهاء المغاربة، وخاصة "منظومة ابن عاشر"، و"النهاية والتمام في

__________

(1) مقابلة مع العالم محمدن الزايد ولد ألما، بتاريخ 20/05/2000 في انواكشوط.

 

(1/2830)

 

 

معرفة الأحكام" للمتيطي، و"شفاء الغليل" في حل مقفل خليل لابن غازي، و"الطرر" لأبي الحسن الطنجي، و"النوازل" للهلالي. وذلك ما أوضحه النابغة الغلاوي(1) في منظومته المعروفة بـ »بوطليحة« والتي طبعت بالمطبعة الملكية بفاس (1282 هـ/ 1865 م). يقول(2):

 

ورجحوا ما شهر المغاربة

واعتمدوا المتيطي والزواوي

واعتمدوا الطرر لابن الأعرج

واعتمدوا نوازل الهلالي

__________

(1) النابغة الغلاوي (ت 1245 هـ)؛ عالم موريتاني جليل له عدة منظومات.

(2) النابغة الغلاوي، نظم بوطليحية، تحقيق يحيى بن البراء، 1996، ص. 75.

 

(1/2831)

 

 

والشمس بالمشرق ليست غاربه

كذا ابن سهل عند كل راوي

وطرر الطنجي غير بهرج

ودره النثير كالّلآلي

 

ب ـ المقررات المحظرية

... ولنأخذ الآن في الحديث عن حضور المؤلفات المغربية في المقررات الشنقيطية، متتبعينها حسب المادة والاختصاص، متناولينها عبر النقاط التالية:

...

ـ القرآن وعلومه

... ومن أبرز الكتب المغربية المقررة في علوم القرآن "الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع" لعلي بن محمد بن بري.

... فقد أشار أحد الباحثين إلى أن هذا الكتاب كان معتمداً ومتداولاً بشكل كبير وأورد أحد عشر شرحاً من الشروح

 

(1/2832)

 

 

الشنقيطية عليه، أولها شرح عبد الله بن الحاج رحمة الله الغلاوي(1).

... وفي هذا الإطار يتنزل ذلك اللغز الذي بعث به ابن رازكه إلى أهل فاس سائلاً عن مرجع الضمير في قوله تعالى: {ثم اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أخيِهِ} (سورة يوسف، الآية 76)، حيث يقول(2):

 

شُيوخَ البيان الذائقين حلاوة

سلام من الله السلام ورحمة

سلام غريب دون شنقيط داره

قراه لديكم أهل فاس جوابه

أسائلكم ما سر إظهار ربنا

 

من العلم لم تطعم لغير ذويه

__________

(1) مجلة الوسيط، العدد 04، 1993، ص. 74.

(2) الخليل النحوي، الرباط ـ تونس، 1987، ص. 277.

 

(1/2833)

 

 

يعمانكم من خامل ونبيه

من البعد تيه يتصلن بتيه

بنص بيان في البيان وجيه

تبارك مجداً من وعاء أخيه

 

وقد أجاب عن هذا اللغز محمد بن سعيد اليدالي بقوله(1):

 

سؤال بليغ في البيان نبيه

عن السر في إتيان ربي بظاهر

معمى قد أعيا أهل فاس وغيرهم

فقلت وبالله والصواب مجاوباً

فهذا بحمد الله إيضاح لغزه

فلو قال فرضاً ربنا »من وعائه«

يؤدي إلى عود الضمير ليوسف

لأن الضمير في الصناعة عائد

وإن قال منه اختل أيضاً لأنه

فتنزع منه الصاع لا من وعائه

لما في انتزاع من أذى ومهانة

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 277.

 

(1/2834)

 

 

أديب من أرباب الهدى وذويه

مكان ضمير في وعاء أخيه

فكنا بحمد الله مفتتحيه

له بقياس في الأصول وجيه

مساو له في بحره ورويه

فذلكم بعد التفكر فيه

فيفسد معناه لمختبريه

لأقرب مذكور هناك يليه

يؤدي لعود مضمر لأخيه

وتأنف من ذا نفس كل نزيه

ولم يرد الرحمن ذا بنبيه

 

... وللشوشاوي المغربي نظم في القراءت شرحه أحمد بن زياد الديماني (ت 1322 هـ)؛ كما نجد النابغة الغلاوي ينظم من الشوشاوي أحكام اجتماع الذكور الصغار مع الإناث في المكتب لدراسة القرآن. يقول(1)

__________

(1) محمذن ولد باباه، النابغة الغلاوي حياته وآثاره، 1999، ص. 97.

 

(1/2835)

 

 

:

 

ومس بعضهم للوح البعض لا

وما لهم مشي إلى المساجد

مكلف وليست الجماعه

والأجر لا تنقصه الإجاره

هذا الذي قال به الشوشاوي

 

إثم ولكن كرهته النبلا

بل يجمعوا بشيخهم أو واحد

لشيخهم خوفاً من الضياعه

بشرى لنا بهذه البشاره

وهو الذي جرت به الفتاوي

 

وفي مقطع آخر من هذه المنظومة يبين النابغة حكم إجازة تلاميذ القرآن. يقول(1):

 

وكلمة في رُبُعٍ أو أربع

نص عليه شيخنا الجزولي في

 

في الحزب لا تضر في الحفظ فعوا

مسبعه فانظر فيه إن خفى

 

ـ المقررات النحوية واللغوية

__________

(1) المرجع نفسه.

 

(1/2836)

 

 

... من أبرز هذه المقررات وأكثرها حضوراً رسالة ابن أجروم المعروفة بـ "الأجرومية". فقد عول عليها الموريتانيون كثيراً، فشرحوها وعلقوا عليها ونظموها. أما شروحها، فقد ناهزت الثلاثين. وأما أنظامها، فقد وقفنا على أربعة منها، أشهرها نظم محمد بن اب الغلاوي المعروف بـ »عبيد ربه« (ت 1109 هـ) والذي نالت منظومته بين الموريتانيين شهرة واسعة، وكادت أن تصبح عوضاً عن "الأجرومية" وبدلاً منها، وتجاوزت شروحها العشرة (11 شرحاً). ويتنزل في هذا السياق "شرح المكودي للألفية" الذي قدم به من المغرب محمد سعيد بن تكدي

 

(1/2837)

 

 

اليدالي (ق 10 هـ)، وهو أول من جلب النحو إلى القبلة. يقول أحمد سالم بن أبي بكر بن إمام اليدالي متحدثاً عن بعض البطون المنقرضة من قومه(1):

 

وانقرضوا ومنهم السعيد

أول من للقبلة النحوَ جلب

 

نجل تكدي العالم الفريد

وما له سوى ثلاث تنتشب

 

... والجدير بالذكر أن هذا اليدالي أورث النحو حفيده المختار بن بونه معلم النحو الأول في البلاد ومؤلف "الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة". وهذا ما أكده اللبناني يوسف مقلد حيث يقول: »هذا، وقد بلغ النحو أوجه في تلك البلاد. ولا نعلم

__________

(1) مخطوط بحوزتنا.

 

(1/2838)

 

 

دخول النحو إلى موريتانيا؛ إلا أن محمد سعيد اليدالي كان أول من جلبه إلى القبلة في القرن العاشر الهجري. ولذا سمي بالنحوي ومنه رضعه حفيده المختار بن بونه الذي انتهت إليه رئاسة علم النحو«(1). وفي هذا السياق نشير إلى أن المولى عبد الحفيظ شرح طرة المختار بن بونه على "الألفية" بكتابه المسمى "القول المختار على الألفية والاحمرار". وهذا ما يدل على أهمية كتاب ابن بونه الذي نال شهرة عجيبة. ومن الجدير بالذكر أن هذا السلطان نظم "مغني اللبيب"

__________

(1) يوسف مقلد، الشعراء القدماء والمحدثون في موريتانيا، ص. 342.

 

(1/2839)

 

 

نظماً طالعه الموريتانيون واعتمدوه. وقد شرحه سيدي محمد الأغظف الوسري الحوضي (1).

... ولا ننسى هنا أن بعض الأدباء المكناسيين سأل ابن رازكه عن معنى بيتين من الشواهد النحوية، وهما (2):

 

رأت قمر السماء فذكرتني

كلانا ناظر قمراً، ولكن

 

ليالي وصلنا بالرقمتين

رأيت بعينها ورأت بعين

 

... ومن المقررات المعجمية عندهم "إضاءة الأدموس في مصطلح القاموس" للهلالي. فقد نظمها سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم؛ كما شرحها محمد

__________

(1) محمد المختار ولد اباه، تاريخ النحو العربي، 1996.

(2) مجلة الوسيط، المرجع السابق، ص. 45.

 

(1/2840)

 

 

محمود بن عبد الفتاح، ونظمها أيضاً محمد الأمين بن الحجاجي.

... ومن المقررات اللغوية عندهم قصيدة "الشمقمقية" لأحمد بن محمد التواتي الحميري، وشرحها "زهر الأفنان" لأحمد بن خالد الناصري صاحب "الاستقصا". وقد شرح هذه القصيدة من الموريتانيين محمد بن أحمدو فال. ومن النصوص المعتمدة عندهم في هذا الجانب بائية سيدي أحمد زروق التي مطلعها:

لقد كان خير الخلق أبهر طلعة

 

من البدر بل من شمسه هو ألهب

 

... وقد شرحها النابغة الغلاوي بـ"أنوار البروق بشرح قصيدة زروق"؛ كما شرحها محمد الأمين بن خليفة ومحمد بن محفوظ بن

 

(1/2841)

 

 

دهمد(1).

 

ـ مقررات الفقه وأصوله

... ومن أبرز المقررات الفقهية عندهم كتاب "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لعبد الواحد بن عاشر (ت 1040 هـ). والجدير بالذكر أن هذا النظم تدوول كثيراً بالمحاظر الموريتانية؛ وكان يمثل المرحلة الأساسية من تعليم الفقه في المدارس الموريتانية. وقد شرحه النابغة الغلاوي شرحاً سماه "المباشر على ابن عاشر". وقد حقق في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية؛ كما شرحه أحمد بن البشير شرحاً سماه "مفيد العباد". وقد شرحه أيضاً محمد يحيى بن سليمة.

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 48.

 

(1/2842)

 

 

ونشير إلى أن شرح "مفيد العباد" قد نظمه الشيخ أحمدو (منَّ) بن شيخ محمد الحافظ. وقد أرخ بعضهم لوفاة ابن عاشر تأريخاً طريفاً يعتمد التورية وحساب الجمل، فأشار إلى تاريخ وفاته بفعل الأمر »شُمَّ«. يقول(1):

 

»شمَ« برق ثاو لدى بير الطسوت ومن

 

سلا بأخراه عن دنياه عند سلا

 

... ومن المقررات الفقهية المعتمدة عندهم "لامية الزقاق" في القضاء. فقد بلغت شروح الشناقطة عليها أكثر من العشرة. ومن المقررات في جانب القواعد الفقهية نذكر كتاب "المنهج"

__________

(1) مقابلة مع محمدن الزايد المتقدم، بانواكشوط، بتاريخ 20/5/2000.

 

(1/2843)

 

 

للزقاق، و"تكميل المنهج" لميارة. وقد عمل الشناقطة على شرح هذين الكتابين. فمن الذين شرحوا "المنهج" محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي ومحمد امبارك اللمتوني، ومحمد الأمين بن أحمد زيدان، وعبد القادر بن محمد سالم. أما الذين شرحوا "تكميل المنهج"، فنذكر منهم أربعة وهم: محمد يحيى الولاتي، ومحمد امبارك اللمتوني، ومحمد يحيى بن سليمة، وزين بن حمد اليدالي(1).

... ومن المؤلفات المغربية الحاضرة في الساحة الشنقيطية "البيان المغرب في فتاوى إفريقية المغرب" لأحمد بن يحيى

__________

(1) مجلة الوسيط، المرجع السابق، ص. 48.

 

(1/2844)

 

 

الونشريسي، و"أجوبة محمد بن ناصر الدرعي"، و"حاشية التودي والبناني على الزرقاني"، و"نوازل الورزازي". ونشير إلى أن الشناقطة لم يقفوا من هذه المؤلفات موقف المقلد الناقل وإنما نظروا إليها نظر المحقق المتبصر. فنجد النابغة الغلاوي مثلاً في منظومته "بوطليحية" ينوه بآراء البناني والتودي، مبيناً رأيه في "أجوبة ابن ناصر" و"نوازل الورزازي" ضمن أسلوب نقدي يبرز قيمتها ويضعها في الميزان. يقول(1):

 

واعتمدوا "المعيار" لكن فيه

ولا يتم نظر "الزرقاني"

__________

(1) النابغة الغلاوي، نظم بوطليحية، المرجع السابق، ص. 96.

 

(1/2845)

 

 

وجمعهم "أجوبة ابن ناصر"

وهكذا "نوازل الورزازي"

 

أجوبة ضعفها بفيه

إلا مع "التودي" أو "البناني"

لم يكن الشيخ له بناصر

لم تخل من قول بلا إعزاز

 

... ومن الكتب المعتمدة عند القوم أيضاً مؤلفات ميارة وشروحه. فكانوا يكثرون العزو إليها. من ذلك أبيات لمحمد يحيى بن ابوه الموسوي يبين خلالها حكم نية الفرض المعاد، محسناً العزو إلى ميارة. يقول(1):

 

في نية العود للمفروض أقوال

فإن يفوض يعد ما منهما بطلت

ميارة انظره والتفويض أشهرها

__________

(1) مقابلة مع محمدن الزايد المتقدم بانواكشوط بتاريخ 20/5/2000.

 

(1/2846)

 

 

فرض وندب وتفويض وإكمال

والفرض أخرى وغير غيرها قالوا

وقال في كل ذي الأقوال إشكال

 

ـ مقررات السيرة والتصوف

... من المقررات المعتمدة في السيرة عندهم "قرة الأبصار في سيرة النبي المختار" لعبد العزيز اللمطي. وقد بلغت شروح الموريتانيين عليها أحد عشر شرحاً. كما اعتمدوا كثيراً على كتاب "الشفا" للقاضي عياض، فقد كان أهل ولاته يتدارسونه في شهر رمضان يوميّاً فيما بينهم. وأكثر من ذلك، فإن الموريتانيين اعتبروا مؤلفه نموذجاً أعلى في السيرة والحديث. يقول أحمد بنب بن المختار ولد أحمد ولد المين بن أحمد بن العاقل

 

(1/2847)

 

 

في رثاء زين بن أحمد(1):

 

أرى الأيام تقذف بالعراض

وتسلبك المحبب لا إليها

أتانا أنها أخذت بزين

بزين العابدين لدى المصلى

وزين الآخذين على أويس

 

وتنتقر النفائس من قراض

وتشري العلق منك بلا تراض

إلى ذات اليمين طريق ماض

وزين الحاكمين لدى التقاضي

وزين المسندين إلى عياض

 

... ويتجلى اهتمام الموريتانيين بكتاب "الشفا" في مواظبتهم على قراءته تيمُّناً واستسقاء عند احتباس المطر. فيقرأونه في رمضان وفي المساجد؛ كما يفعلون ذلك لـ"صحيح البخاري"(2)

__________

(1) المقابلة السابقة.

(2) ... ... محمد يحيى بن سيد أحمد، الأزهار الشذية. مخطوط بحوزته.

 

(1/2848)

 

 

، الذي اعتمدوه مصدراً من مصادر السيرة النبوية ومقرراً من المقررات المحظرية. فيذكر البرتلي في كتابه "فتح الشكور"، خلال ترجمته لبعض الرجال، أنهم كانوا يدرّسون "الشفا" للقاضي عياض. من ذلك مثلاً قوله في ترجمة محمد بن المختار بن الشواف المسلمي (ت 1175 هـ): »كان محدثاً يسرد "صحيح البخاري" في شهر رجب وشعبان في المسجد و"الشفا" للقاضي عياض في رمضان«(1). ومن المراجع المعتمدة عندهم في هذا الجانب "دلائل الخيرات" المعروف بـ "شوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار" لمحمد بن سليمان

__________

(1) المخطوط نفسه.

 

(1/2849)

 

 

الجزولي. فكانوا يدمنون قراءته تيمناً به، لما اشتمل عليه من الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور بها كتاباً وسنة وإجماعاً، والمرغب كذلك في الإكثار منها. وقد بلغ بهم الأمر أن حاكوه وحاذوه. من ذلك مثلاً "الوسيلة الكبرى" لمحمد اليدالي. فقد صرح بأنه اقتطفها من "دلائل الخيرات" وزاد عليه. كذلك الشيخ المختار الكنتي في كتابه "نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب"، ولمرابط محمد سالم بن ألما في كتابه "سبائك اللجين في الصلاة على سيد المرسلين" وغيرهم. وزيادة على ذلك، نجد الشيخ محمد المامي

 

(1/2850)

 

 

ينظم "دلائل الخيرات" نظماً يقول في مقدمته(1):

 

الحمد لله على ما ألهما

وآله كواكب الظلام

وبعد فالعونَ من الرحمن

نظماً على رواية الجزولي

سميته "تذكرة النجاة"

والنثر حفظه من القلائل

 

صلى على نبيه وسلما

وصحبه الأئمة الأعلام

على تمام القصد والإحسان

لصلواتنا على الرسول

لحفظهم "دلائل الخيرات"

لا سيما أن كان كالدلائل

 

ثانياً: رحلات العلم

... نشير إلى أن الارتحال عبر الطريق المغربي قد نما وازدهر كثيراً، خاصة أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين أيام كان هذا الطريق عماد

__________

(1) المخطوط السابق.

 

(1/2851)

 

 

النشاط التجاري ومنطلق الحركة العلمية ومسرح التبادل المعرفي، فمثل ـ بحق ـ صلة الربط والاتصال بين المغرب وموريتانيا؛ فتضاعفت الرحلة عبره، وتنامت مشكلة نماذج مختلفة بعضها ينتهي إلى المغرب، والبعض الآخر يتخذ منه محطة تزود وعبور نحو المشرق. وسنستعرض أثناء حديثنا جملة من هذه النماذج، ذاكرين أولاً عدداً من الذين انتهى بهم المسير إلى المغرب لنتناول بعد ذلك بعض الذين مروا بأرضه آمِّين البيت الحرام. وسنقسم هذه النماذج إلى قسمين: أولهما يهتم بالرحلات غير المدونات، وثانيهما يعول على تلك المدونات.

...

 

(1/2852)

 

 

أ ـ الرحلات غير المدونات

... ونقصد بها تلك الرحلات التي قام بها بعض العلماء ليساهموا من خلالها في نشر الثقافة الشنقيطية. وقد عملوا جهودهم على محاورة العلماء، لكنهم لم يدونوا شيئاً من مشاهداتهم ولا مجالسهم العلمية. فحرمونا بذلك من الاطلاع على تفاصيل تلك الرحلات. فسعينا جادين في جمع مادة هذه الجولات المعرفية من الكتب، مستنبطين أصولها من آثارهم. وهذه الرحلات حسب علمنا نوعان: رحلات تنتهي إلى المغرب، وأخرى تمر عبره متجهة إلى المشرق.

 

... 1 ـ الرحلات المنتهية إلى المغرب

 

(1/2853)

 

 

... ويبدو أن الرحلات التي انتهت إلى المغرب لم تدون ولم يكتب منها إلا النزر اليسير؛ غير أنها في ذلك متفاوتة: فبعضها شحيح المصادر مغمور مغبون، وبعضها الآخر أقل غبناً إذ نلمس له حضوراً ولو قليلاً عبر المدونات الشعرية. وسنبدأ في هذا المقام بتلك النماذج النادرة مستهلِّينها برحلة محم (محمد) سعيد بن تكدي اليدالي الذي ارتحل إلى تافلالت بجنوب المغرب خلال القرن العاشر الهجري ليدرس النحو دراسة معمقة مكنته من اقتناء بعض المصادر المهمة التي جاء بها إلى بلاده كـ"شرح المكودي على الألفية"، وكتابه المسمى

 

(1/2854)

 

 

"التبسيط والتعريف في فن التصريف". فرجع يصطحب معه هذه الكتب، واشتهر بعد عودته بلقب »النحوي«.

... ومن الذين ارتحلوا إلى المغرب سيد عبد الله بن محم العلوي المعروف بابن رازكة (ت 1144 هـ). وقد عادت رحلته على البلاد بالخير العميم، حيث رجع يحمل معه مكتبة ذهب البعض إلى أنها تضم مئات الكتب كان أهداها إليه الأمير محمد العالم. والجدير بالذكر أننا لا نعلم الكثير عن تفاصيل هذه الرحلة؛ إلا أنه من الثابت أن هذا العلوي اتصل بالسلطان مولاي إسماعيل وترسخت صلته بابنه محمد العالم الذي امتدحه صاحبنا بقصيدتين:

 

(1/2855)

 

 

أولاهما تفتتح بالندب إلى إعمال العيس رغبة في البلوغ إلى حضرة هذا الأمير. يقول(1):

 

دع العيس والبيداء تذرعها شطحا

وأم بساط ابن الشريف محمد

 

وسمها بحور الآل تسبحها سبحا

مبيد العدى ذكراً ومبدي الهدى صبحا

 

وفي نص آخر يؤكد تصميمه على السير متحملاً المشاق، مما يؤكد صعوبة الارتحال يومئذ: فالأرض مضلة والطريق بالمخاطر محفوفة. يقول(2):

 

دأبت على السير المبرح والسرى

مهامه للسارين فيها توقع

إلى حضرة سنية حسنية

__________

(1) ابن الأمين، الوسيط، مؤسسة الخانجي، مصر، 1958، ص. 397.

(2) المرجع نفسه، ص. 402.

 

(1/2856)

 

 

حوت شرف العلم الرفيع عماده

 

أجوب الفيافي فدفداً بعد فدفد

لأهوال أغوال طواغيت مرد

منيرة آلاء الهدى المتصعد

إلى شرف البيت الكريم المصمد

 

... ويبدو أن العشرة المعرفية ترسخت بين صاحبنا وبين الأمير محمد العالم الذي كان يحتفي كثيراً بقدوم هذا العلوي. وذلك ما دعاه إلى أن يسجل ترحيبه به ضمن شعر متميز يؤكد أن مكناسة ازدهت يومئذ، فرحاً بقدوم الوفد الشنقيطي الذي يضم القاضي سيد عبد الله بن رازكه والأمير أعل شنظوره. يقول(1):

 

مكناسة الزيتون فخراً أصبحت

فرحاً بعبد الله نجل محمد

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 2.

 

(1/2857)

 

 

تزهو وترفل في ملاء أخضر

قاضي القضاة ومن ذؤابة مغفر

 

... وفي نموذج آخر نرى الأمير محمد العالم يعجب بشعر الرجل، مؤكداً أن له منزلة من البيان عظيمة؛ إذ تجاوز منتوجه البلاغة الشعرية المألوفة ليتعالى فوق سحر السحرة. ولعل ذلك ما حمل الأمير على التصريح بجودة الشعر الشنقيطي عموماً وقصور الأشعار الأخرى عن رتبته. يقول(1):

 

أتانا من قرى شنقيط شعر

يقصر شعرنا عنه لو أنا

 

تعالى فوق سحر الساحرينا

بعثنا في المدائن حاشرينا

__________

(1) محمذن بن المحبوبي، أدب الرحلة في بلاد شنقيط، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1995، ص. 77.

 

(1/2858)

 

 

... وقد ارتحل إلى زاوية محمد بن ناصر الدرعي بالجنوب المغربي عدد من الشناقطة منهم سيد محمد بن سيد عثمان بن سيد عمر الولي المحجوبي، وسيد عبد الله التنواجيوي (ت 1145 هـ)، ومسكه بن بارك الله وكانوا اتصلوا به في تامكَروت التي سمعوا بساحتها تعاليم الطريقة الشاذلية. ولم نتمكن من معرفة تاريخ وصولهم إليه بالتحديد؛ إلا أن محمد عبد الله بن البخاري صاحب "كتاب العمران" يتحدث عن إجازته لمسكه، قائلاً: »وأجازه ـ يعني مسكه ـ شيخه ابن ناصر بمقروءاته ومسموعاته«(1)

__________

(1) محمد عبد الله بن البخاري، العمران، تحقيق مريم بنت آد، 1994، ص. 33.

 

(1/2859)

 

 

. ونص الإجازة وارد في "كتاب العمران" ومؤرخ بغرة جمادى الأولى من عام 1117 هـ، والإجازة بتوقيع أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي.

... ولا ننسى أن الشيخ سيد عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي والعالم نختار بن المصطفى اليدالي قد ارتحلا إلى سيد أحمد لحبيب السجلماسي. فأخذ عنه الأول القراءات العشر. وفي عودته إلى بلاده، وجد الناس يلحنون في القراءة ويصحفون في الحروف، فأزال اللحن والتصحيف عنهم، وهو الذي أتى بالجيم الشديدة. أما الثاني، فإنه أتى بتعاليم الطريقة الشاذلية، وهو أول من أدخلها إلى منطقة القبلة (1)

__________

(1) الخليل النحوي، بلاد شنقيط، المرجع السابق، ص. 112.

 

(1/2860)

 

 

.

... ونشير هنا إلى أبيات لمحمد عثمان بن أغشممت المجلسي (ت 1300 هـ) خاطب فيها أهل فاس ملغزاً لطلبة العلم. وقد أشار صاحب "الوسيط" إلى أن هذا المجلسي ارتحل إلى المغرب، ولكن بعض الباحثين المعاصرين من أهله يؤكد أنه لم يرتحل، وإنما أرسل بهذه الأبيات من بلاده وهي (1):

 

إلى مدارسِ فاسِ الغر أسئلةٌ

عن حاضر قسم متروك لوالده

وما به مانع في القسم يمنعه

وعن طوامث لا يمنعن أو جنب

واسم في الإفراد والتذكير تذكره

 

عيالمِ العلم أهل الحفظ والملكه

صار البكاء له حظاً من التركه

__________

(1) ابن الأمين، الوسيط، ص. 358.

 

(1/2861)

 

 

وحاز الأبعد عنه كل ما تركه

من مسجد وفروع العلم مشتبكه

وفرع ذين بنوع واحد سلكه

 

... ومن الذين ارتحلوا إلى المغرب أيضاً الشاعر محمد مولود بن احمدو المباركي (ت 1275 هـ) الذي اتصل بالسلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام وامتدحه بمطولة استفتحها بالغزل، مبدياً أزمته الغرامية حيث وجد نفسه متنازعاً بين منبهين يمنعانه النوم ويتجاذبانه ذات اليمين وذات الشمال. يقول(1):

 

طارف الهم أم تليد الغرام

مت أو كدت حين يجتذباني

عز ما عاقني من الأمر خلفي

__________

(1) ابن المحبوب، أدب الرحلة، المرجع السابق، ص. 78.

 

(1/2862)

 

 

أتأني السلو عن من إليها

رمت إن رمت سلوة النفس من

 

وضع السهد في محل المنام

يمنة يسرة لسبع تؤام

عز بل عز ما طلبت أمامي

رسني حيث تنتوي وزمامي

مثلك عن مثلها عزيز المرام

 

إلى أن يحسن التخلص على ممدوحه قائلاً(1):

 

تيد عني زيبد بعض الملام

فعليك السلام وهو وداعي

واقتني الصبر علَّ صدع افتراق

 

ما لمثلي على الهوى من مقام

فارجعي لي تحيتي وسلامي

بين ما أن يكون جبر التئام

 

فاخلفي أو معي فسيري إلى مو

تكرمي في جنابه وتجلي

 

لاي عبد الرحمن نجل هشام

إن يشأ ذو الجلال والإكرام

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 79.

 

(1/2863)

 

 

... أما الشيخ سيدي الكبير (ت 1285 هـ)، فإنه قد سافر إلى المغرب ولبث في ساحته فترة أكرم بها مثواه وأتحف ببعض الهدايا. كما ظهرت على يده كرامات عجيبة، منها ما ذكر من أنه صادف ابن السلطان ألكن فتفل في فمه؛ فانطلق لسانه بالكلام. وذلك ما أوضحه صاحب "الوسيط" بقوله: »وحدثني الفاضل عبد الرحمن الجزولي ـ وكان أبوه كاتباً للمولى عبد الرحمن ـ أنه لما قدم (يعني الشيخ سيدنا) إلى مراكش، وجد المولى سيد محمد بن المولى عبد الرحمن ألكن لا يبين الكلام، فتفل في فمه؛ فانطلق بالكلام«(1)

__________

(1) ابن الأمين، الوسيط، المرجع السابق، ص. 241.

 

(1/2864)

 

 

.

... وعلى أثر هذه الحادثة، أكرم الشيخ ونال الحظوة والتقدير. وكانت رحلته ذات طابع ثقافي مكتبي. فقد سعى أثناءها في شراء الكتب واقتناء المخطوطات، واضعاً بذلك أسس مكتبته المتميزة. فقد جاء بمائتي كتاب على ما ذكر الخليل النحوي في "المنارة والرباط". وقد خلد باب بن أحمد بيب العلوي هذه الرحلة في شعره، مؤكداً قطبانية الشيخ، منتهياً إلى أن المغاربة استناروا بهديه ونعموا بصحبته فترة جعلتهم يحرصون على استبقائه بين أظهرهم. لذلك حزنوا كثيراً لمباعدته، بل تولوا ساعة توديعه وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على

 

(1/2865)

 

 

فراقه. يقول(1):

 

لك الطائر الميمون والمنزل الرحب

وأنت حسام قاطع كل شبهة

أضأت بلاد الغرب لما أتيتها

وجئت بكتب يعجز العيس عن حملها

 

فإنك أنت الغوث لاشك والقطب

وأنت سراج للبرية لا يخبو

وأصبح يبكي عند ترحالك الغرب

وعندك علم لا تحيط به الكتب

 

... 2 ـ الرحلات المجتازة إلى الحجاز

... هناك رحلات غير يسيرة اتجهت نحو المشرق مارة عبر الطريق المغربي. وسنكتفي بأربع منها، نرتبها تباعاً في ما يلي:

__________

(1) ابن المحبوب، أدب الرحلة، المرجع السابق، ص. 78.

 

(1/2866)

 

 

... ( رحلة كمال الدين المجيدري الذي تتلمذ عليه أحمد بن إدريس الفاسي، وأخذ عنه أصول الفقه، مما انعكس إيجاباً على إقامة المجيدري بفاس، حيث حظي بمكانة كبيرة. فقد قربه هذا التلميذ وأحسن إليه كثيراً. ويعتبر ابن إدريس هذا أبرز الآخذين عن المجيدري بالمغرب، وهو الذي استودعه منهاجه الأصولي ومشروعه الإصلاحي.

... ومن تأثيرات المجيدري الثقافيّة بالبلاد المغربية التقاؤه بالأديب حمدون بن الحاج الفاسي الذي أعجب بمعارفه كثيراً، فأرسل إليه التحف والهدايا. غير أن المجيدري أعرض عنها، فأثار ذلك شاعرية ابن الحاج،

 

(1/2867)

 

 

ففاضت بأبيات يعتب ضمنها على الرجل عتاباً خفيفاً. يقول(1):

 

بكت حمامات آيكات بأنات

وأذكرتني الحمى وساكنيه ذوي

تعففوا عن جميع ما يشين وما

إذ كان فيه تواصل ومرحمة

 

مغردات بأصوات وأنات

زهد ونسك وعرفان وعفات

تعففوا عن قبول للهديات

تهدي العقول إلى أوفى المودات

 

... فأجابه المجيدري ملتمساً منه الصفح والمغفرة، معتذراً عما بدر منه، مبيناً حجته في رد الهدية، خاتماً أبياته بالقاعدة الأصولية المعروفة: »درء المفسدة أولى من جلب المصلحة«. يقول(2):

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 81.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/2868)

 

 

فإنني جاهل كثير زلات

أخفيه غيظ حمدون بخلاتي

وما مفاسدها عنكم خفيات

عن جر مصلحة أهل السيادات

 

اصفح فديتك واغفر لي إساءاتي

ولم تكن نيتي والله يعلم ما

بل خوف ذم اللواتي كنت قلت لكم

ودرء مفسدة مما يقدمه

 

... ( رحلة سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم (ت 1233 هـ) التي لقي خلالها الإمام البناني وأخذ عنه فروع الفقه. وفي مرحلة لاحقة، أصبح الشيخ البناني يستأنس بآراء تلميذه ويأخذ برأيه في بعض المسائل. يقول صاحب "الوسيط" في ترجمة سيدي عبد الله: »... ثم أقام بفاس مدة كثيرة للنظر والتحرير وتلقى على البناني وتلقى

 

(1/2869)

 

 

البناني عنه أيضاً«(1). وأكثر من ذلك، فإن هذا العلوي شارك في الجهاد ضد البرتغاليين أيام إقامته بالمغرب. وبعد هذه الجهود، عاد الشيخ إلى بلاده مصطحباً معه الكتب والمؤلفات مدخلاً إلى بلده تعاليم الشاذلية التي تلقى بساحة فاس.

... ( رحلة الشيخ محمد الحافظ (ت 1247 هـ). رحل إلى المغرب وأقام به فترة التقى خلالها بالشيخ سيد أحمد التيجاني الذي أخذ عنه الطريقة مشافهة. ففي طريق عودته من الحج، مر بالمغرب ولبث بفاس فترة، مقيماً بزاوية الشيخ التيجاني، متربياً على

__________

(1) ابن الأمين، الوسيط، المرجع السابق، ص. 38.

 

(1/2870)

 

 

تعاليم هذه الزاوية. وقد رجع إلى البلاد يحمل معه هذه الطريقة؛ فكان له فضل السبق في إدخال هذا النموذج الصوفي إلى البلاد. فعلى يده انتشرت هذه الطريقة داخل الربوع الشنقيطية لتمتد منها إلى بلدان غرب أفريقيا(1).

... ( رحلة محمدو بن محمدي الذي نظم خلالها سينية تعرض للغربة والحنين استفتحها بقوله(2):

 

أم هل لداء رهين الشوق من آس

وإن كان محفوفاً بأجناس

 

هل في بكا نازح الأوطان من باس

آه لمغترب بالغرب ليس له جنس

__________

(1) الخليل، بلاد شنقيط، المرجع السابق، ص. 123.

(2) ابن الأمين، المرجع السابق، صص. 51 ـ 52.

 

(1/2871)

 

 

ثم يتخلص إلى امتداح السلطان بقوله:

 

إما بمراكش المحروس أو فاس

إمامنا المستماح المطعم الكاسي

باض النعام بدور منه أدراس

 

إني كفيل بنيل السؤل لي ولكم

أمامنا في كلا القطرين نورهما

عَمَّرْت عَمَّرْت من عهد الشريعة ما

 

... وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر أثناء إقامته بالمغرب توطدت صلته بالعالم أحمد أكنسوس وخاطبه بقصيدة استفتحها قائلاً(1):

 

خيال من أميمة ما أثارا

رواحاً بالنجائب وابتكارا

نوافخ في البرى من لا يبارى

أخو العزمات أو يدع السفارا

 

أثار من التذكر حين زارا

__________

(1) المرجع السابق، ص. 53.

 

(1/2872)

 

 

لئن أنأى أميمة ما اعتسفنا

فقد أدنت مباراة المطايا

إلى مثل ابن أحمد فليسافر

 

ب ـ الرحلات المدونة

... أما الرحلات المدونات، فسنكتفي بثلاثة منها:

 

... 1 ـ رحلة المصطفى الطالب أحمد بن طوير الجنة الواداني (1145 هـ ـ 1265 هـ). وهي من أبرز الرحلات الشنقيطية وأكثرها ذيوعاً وسيرورة بين الناس. لذلك حظيت باهتمام البحثة والدارسين وتنوولت بالدراسة والتحليل والترجمة وامتدت إلى المكتبات العالمية.

 

تقديم الرحلة

... وهي عبارة عن رحلة حجازية نثرية تقع في 180 من الصفحات. وقد حققت بجامعة انواكشوط. والمتصفح لهذا

 

(1/2873)

 

 

النص يجد أن مؤلفه أوضح الدوافع التي دعته إلى تسجيل أحداث رحلته ضمن كتابه مشيراً إلى أنه إنما فعل ذلك شكراً لأنعم الله وتحدثاً بفضله وسعياً إلى الإفادة. يقول: »وكل ما ذكرنا في الرحلة المباركة فمقصودنا فيه أمور منها التحدث بنعم الله تعالى، ومنها إفادة من يحب الاستفادة بسبب ما ذكرنا فيها من أحكام العلماء وفوائدهم وأشعار الشعراء وحكم الحكماء وطب الأطباء«(1).

 

منطق الرحلة ومبتدؤها

__________

(1) ابن المحبوب، أدب الرحلة، المرجع السابق، ص. 97.

 

(1/2874)

 

 

... لقد استفتح الواداني رحلته بالثناء على الله تعالى محدداً لحظة خروجه من تيشيت باليوم والشهر والسنة. يقول: »إنا خرجنا من تيشيت ـ جمع الله شتاتنا وشتاتها ـ يوم الخميس سبعة جمادى الأولى عام خمسة وأربعين ومائتين بعد الألف«(1).

... ويبدو أنه اتجه من تيشيت إلى ولاتة آخذاً طريقه إلى وادي درعة، أملاً في تدارك الركب الفيلالي هنالك ليحج معه. غير أنه ألفاهم قد خرجوا من قبله، وذلك ما حمله على الإقامة عدة أشهر كانت السبب في

__________

(1) ابن طوير الجنة، رحلة المنى والمنة، تحقيق زينب بنت الطالب أحمد، 1993، ص. 37.

 

(1/2875)

 

 

تعلق نفسه بفاس ومراكش وغيرها. فصمم على مواصلة الرحلة عبر الشريط الساحلي، مجتازاً المهامه والمفاوز. وأكَّد أنه اسْتُقْبِل على طول هذا الشريط بشيء من التقدير غير قليل. يقول: »فمن قرية إلى قرية ونحن لا نرى إلا الإحسان«(1). وبعد سفر شاق، وصل الرجل إلى الولي سيدي التهامي، فأقام معه فترة. ولما أراد الخروج من حضرته، أعطاه حللاً كثيرة وأتحف جماعته بجملة من الهدايا وزوده بمكتوب إلى السلطان مولاي عبد الرحمن حيث يوصيه به خيراً. وقد أثرت هذه الوصية أحسن الأثر، حيث حظي الواداني

__________

(1) االمرجع نفسه، ص. 38.

 

(1/2876)

 

 

بمقابلة السلطان بعد خمسة أيام من قدومه إلى مراكش، في حين أن الناس يلتمسون لقاءه الشهر والشهرين ولا ينالونه(1).

 

المؤلف في المغرب

... لقد التقى صاحبنا في مراكش بالسلطان مولاي عبد الرحمن الذي خصه بمقابلة دامت عشية كاملة. ثم انطلق إلى فاس محملاً بمكتوب من السلطان مضمونه الإكرام. غير أنه لما بلغ فاس، سمع باحتلال الفرنسيين للجزائر؛ فحول وجهته وعدل عن سبيله الأول، مرسلاً بذلك إلى السلطان الذي وجه الركب الشنقيطي إلى ميناء العرائش لركوب البحر. يقول:

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 41.

 

(1/2877)

 

 

... فلما قدمنا فاس، وجدنا الجزائر أخذها النصارى افرانسيس؛ كتبنا إلى مولاي عبد الرحمن وهو بمكناسة الزيتون أن البر لا يمكن السير فيه، لأنه صار أرضاً سائبة وأنا نحب الركوب في البحر. فبقينا في حيرة. فكتب هو ـ نصره الله ـ إلى قائده بالعرائش مكتوباً: "الفقيه سيدي أحمد بن اطوير الجنة وتلامذته الثمانية أركبهم في سفينة إلى الإسكندرية" (1).

وهنا تبدأ الرحلة البحرية التي مرت بإحدى المدن الإيطالية، حيث وجد الرجل نفسه لأول مرة تحت سيطرة السلطة الأوربية وقهرها. وقد تجلى ذلك في نظام

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 55.

 

(1/2878)

 

 

الحجر الصحي الذي كان مفروضاً على الحجاج يومئذ خوفاً من العدوى وانتشار الأوبئة. وكان الرجل يسميه الكرتينية (quarantaine)، وتعني بالفرنسية »الأربعينية«. والمعنى أنهم كانوا يلزمون المسافر الإقامة أربعين يوماً في حجر صحي خوفاً من العدوى. وينتقد الرجل هذا الإجراء الوقائي قائلاً: »وسبب ذلك اعتقادهم الفاسد أن الموت لا يكون إلا بالعدوى لا بانقضاء الأجل كما هو معتقد أهل السنة«(1).

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 60.

 

(1/2879)

 

 

... وفي رحلة العودة، يمر الرجل على السلطان مولاي عبد الرحمن الذي رغب في أن يقيم معه بالمغرب. فطفق يحاور تلميذ الشيخ محمد الصابر عله أن يشير إليه برأي في ذلك. غير أن التلميذ أقنع السلطان باستحالة مكث الرجل، مؤكداً أنه تنازعه رغبة إلى الوطن شديدة. وفي أعقاب هذا الحوار، تولدت فكرة تأسيس زاوية تهدف إلى شد الرباط الثقافي وتثبيت الأواصر المعرفية بين البلدين. يقول: »فتعاملنا معه في زاوية تكون وصلة بيننا وبينه، وبيننا وبين أولاده«(1).

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 53.

 

(1/2880)

 

 

... وما إن تم تأسيس الزاوية حتى أخذ الشيخ في الارتحال إلى أرضه. وقد خرج لتوديعه سيد محمد ابن السلطان مصحوباً بحاشيته وملإه، ولم يرجع إلا بعد أن غابت مراكش عن نظره.

... وفي الأخير، نقول إن هذا النص يمثل باكورة الرحلات الشنقيطية المدونة. وقد ورد في أسلوب سهل واضح يركن إلى السجع قليلاً، ويميل إلى التكرار أحياناً. يقول: »وربما أطنبنا وأطلنا الكلام اغتناماً للفوائد التي استفدنا (...)، لأن شأن الرحلة منذ قديم الزمان اغتنام الفوائد واستجلابها«(1).

__________

(1) ابن المحبوب، أدب الرحلة، المرجع السابق، ص. 82.

 

(1/2881)

 

 

2 ـ رحلة التيجاني بن باب العلوي

... لقد انطلق هذا العلوي (ت 1257 هـ) في ريعان شبابه نحو المشرق في رحلة حجازية، مارّاً عبر الطريق المغربي، مجتازاً المهامه والصحارى، ليبلغ إلى مكناسة حيث أقام فترة بزاوية الشيخ أحمد التيجاني هنالك. وبها لقي السيد العربي بن السائح الرباطي الذي أعجب بالرجل إعجاباً كبيراً، فتوطدت الرابطة بينهما، بل انتقلت إلى عشرة معرفية وزمالة صوفية تجلت في أن الرباطي ألف كتاباً سماه "بغية المستفيد" شرح خلاله منظومة التيجاني المسماة "منية المريد". وقد أثنى في شرحه على هذا العلوي،

 

(1/2882)

 

 

منوهاً بمعارفه، مؤكداً أن له رحلة مدونة مفقودة ذات أهمية كبيرة، وقد التزم فيها المؤلف بذكر من لقي من الأعلام في وجهته إلى البيت الحرام بادئاً بأشياخه الذين أخذ عنهم كوالدته ووالده. ويبدو أن هذه الرحلة كانت متداولة معروفة؛ فقد اطلع الرباطي عليها بعد أن اكتمل منها مجلد، وذلك أيام إقامة التيجاني بمكناسة قبل توجهه إلى طنجة ليركب البحر إلى الحجاز(1).

 

3 ـ رحلة الشيخ ماء العينين

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 86.

 

(1/2883)

 

 

... لقد قام هذا الشيخ برحلة حجازية تشير بعض المصادر إلى أنها مدونة مكتوبة. غير أننا لم نتمكن من الحصول عليها بالرغم من بحثنا الطويل. وقد كان منطلق رحلة الرجل من مسقط رأسه بالحوض الشرقي في أواسط جمادى الأولى من عام 1274 هـ. فقد ودع الشيخ أهله مولياً وجهه شطر المسجد الحرام، ماراً بالحواضر المغربية التي في طريقه مثل واد نون والصويرة ليبلغ إلى مراكش ومكناسة التي حظي في ساحتها بمقابلة السلطان مولاي عبد الرحمن الذي أكرم الشيخ فترة وأمده بعد ذلك برسالة إلى عامله على طنجة يأمره ضمنها بمساعدته في أمور

 

(1/2884)

 

 

السفر إلى الديار المقدسة. ومن طنجة يركب الشيخ البحر صحبة جماعته إلى مكة. وهنا تسكت المصادر المتوافرة، فلا تذكر شيئاً عن مدة السفر مكتفية بالقول إن بلوغ الركب إلى أرض الحرم كان في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وبعد أن أكمل الشيخ مناسك الحج في فاتحة العام التالي، شفع حجه بالزيارة، راجعاً بعد ذلك إلى أرضه. غير أن المراجع لا تسعفنا بشيء عن طريق العودة التي انتهت إلى المغرب في أواخر شعبان من عام 1275 هـ(1).

 

خاتمة

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 87.

 

(1/2885)

 

 

... وبالجملة، فإن المقررات المحظرية كانت أهم شاهد على عمق الروابط والصلات بين المغرب الأقصى وبلاد شنقيط. فقد كان هنالك تقاطع كبير بين مراجع البلدين كما بيَّنَّا. وقد تعززت هذه الروابط بفعل رحلات العلم التي جعلت الشناقطة على صلة وثيقة بالبلاد المغربية، فقد شكلت سلسلة من حلقات الوصل الثقافية بين البلدين، حيث اتصل سيد عبد الله بن محم المعروف بابن رازكه بالسلطان مولاي إسماعيل وبابنه محمد العالم، في حين التقى كمال الدين المجيدري وسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله. ومع

 

(1/2886)

 

 

إطلالة القرن الثالث عشر الهجري، تتسع دائرة هذا التواصل لتبلغ أعلى درجاتها أيام السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام الذي كان على صلة مع خمسة من علماء القوم أمدهم بأموال وأعانهم على الحج؛ فقابلوا هذا الصنيع بالجميل: فأثنوا عليه وامتدحوا سعيه. وهؤلاء هم المصطفى الطالب أحمد بن طوير الجنة، والشيخ سيدي الكبير، ومحمد بن محمدي، ومحمد مولود بن أحمدو، والشيخ ماء العينين. وبذلك ندرك أهمية رحلات العلم عند الشناقطة. فقد كانت بحق موسوعات ثقافية توفر مناخاً صالحاً للتواصل واللقاء، وتمنح فرصاً للتبادل والأخذ

 

(1/2887)

 

 

والعطاء؛ كما تعمل في الوقت نفسه على شد الرباط الثقافي بين البلاد الموريتانية ومختلف الحواضر الإسلامية يومئذ، معربة عن تميز علماء القوم الذين آووا إلى ركن من المعرفة شديد وتبوأوا من العلم مكاناً علياً.

 

(1/2888)

 

 

التواصل الدبلوماسي بين الأندلس النصرية والمغرب المريني من خلال رسائل ابن الخطيب الأندلسي (750-770 هـ(

 

الأستاذ رابح عبد الله المغراوي

كلية الآداب - وجدة

الإطار التاريخي لفترة التواصل الدبلوماسي . شهد العالم الإسلامي، غربه وشرقه ، في هذه الفترة التي نحن بصدد دراسة وجه من أهم وأرقى وجوه التواصل -بين بنى الإنسان ، تحولات سياسية كبرى. كانت أبرز سمات هذا التحول ، اضمحلال امبراطوريات ودول ، تمتعت بالقوة والنفوذ نسبيا، وقيام دول أخرى مكانها، أفرزها البناء السياسي الداخلي ، الذي كانت تقوم عليه هذه

 

(1/2889)

 

 

الإمبراطوريات والدول نفسها. وكانت صور وأشكال هذا التحول متباينة. فمنه ما وقع على شكل اقتطاع فوضوي ، لأجزاء معينة من مساحة تلك الإمبراطورية الواسعة، عند تفلت الزمام ، ودنو الموت من الكيان ، ثم إحكام السيطرة على هذه المنطقة المقتطعة، واتخاذها قاعدة للانطلاق ، أملا في توسيع النفوذ، كلما أتيحت الفرصة، مع الإبقاء على نفس النفوذ الذي كان للدولة المحتضرة، لتكون وريثتها في المجد والسؤدد، مثلما حدث في بلاد المغرب عقب ضعف الدولة الموحدية 564-667 هـ / 1130-1269 م )، حيث بادرت الزعامات السياسية، المنبوثة

 

(1/2890)

 

 

في أرجاء المنطقة، إلى استلام مشعلي حل القيادة، مستندة إلى العصبيات القبلية المنتشرة بشكل قوي ، ومعتمدة كذلك على

 

السمعة السياسية واسعة النطاق . فقامت الدولة الحفصية في إفريقية (625-941 هـ / 1231-1534 م ) مستقلة بالآمر، دون السلطة الموحدية المركزية في مراكش. استطاعت هذه الدولة أن تبسط نفوذها في البداية على جميع بلدان المنطقة، وترد عليها الببعات والولاءات من جهات مختلفة، وكانت هذه الدولة ف حد نفسها الامتداد الشرعي والسياسي للدولة الموحدية.

 

(1/2891)

 

 

وقامت الدولة الزيانية بالمغرب الأوسط ( 633-769 هـ / 1235-1373 م ) متخذة من تلمسان قاعدة لها. واستطاعت هذه الدويلة الصغيرة، بفضل بعض أمرائها الأقوياء، أن تطيل الصراع في المنطقة ردحا طويلا من الزمن . كما استطاعت أن تؤثر، أحيانا كثيرة، في مجريات الأحداث السياسية، في المنطقة، رغم ضعفها وموقعها )جغرافي غير المساعد.

وقامت أيضا الدولة المرينية في فأس (591-875هـ/1195-1170 م ) بعد مكابدة ظروف القيام والاستقلال الصعبة، لأنها كانت تقاوم على جبهات عدة، فعانت الأمرين مع الدولة الزيانية طوال مدة وجودها،

 

(1/2892)

 

 

وخاصة إبان قيامها.

استطاعت هذه الدواسة الفتية أن تنزل ضربة قاضية بالموحدين في مراكش، فتستقل بالنفوذ على المغرب الأقصى، كما استطاعت - ولكن لمدة قصيرة - أن تبسط نفوذها على مساحة جغرافية كبيرة، تقارب تلك التي كانت تحت يد الموحدين أيام صولتهم . فسيطرت على إفريقية وتلمسان ، وعلى قواعد من الأندلس ، ونالت موالاة سلاطين الأندلس ، فاستحقت بذلك أن تكون أقوى دول المنطقة.

ومن الأشكال وhلصور التي قامت بموجبها بعض الدول في العالم الإسلامي كذلك ، ما وقع في الغرب الإسلامي أيضا، تحت تأثير الشعوب بالخطر المحدق

 

(1/2893)

 

 

بمصير البلاد والعباد، من جراء تكالب العدو، فكان الهدف تأسيس سلطة تستطيع - على الأقل - إيقاف زحف العدو الداهم ، في محاولة استرجاع القواعد، التي اغتصبها العدو بعد توحيد الصفوف وجمع الكلمة، يدفعهم الروح الديني والوطني . وهذا ما حدث في الأندلس ، حيث قامت دويلة صغيرة، على جزء من الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط ، جنوب شرق شبه جزيرة ليبيريا (إسبانيا)، متخذة من مدينة غرناطة

 

عاصمة لها. استطاعت هذه الدويلة أن تصمد زمنا طويلا، رغم الظروف الصعبة التي كانت تحيط بها من كل جانب . عرفت هذه الدويلة في

 

(1/2894)

 

 

التاريخ بالدولة النصرية، أو دولة بني الأحمر (629-697هـ/ 1262-1492 م)، كما عرفت أوج ازدهارها على عهد لسان الدين ابن الخطيب .

وتعد هذه الفترة، التي نحن بصدد دراسة التواصل الدبلوماسي فيها بين الأندلس والمغرب ، انطلاقا من المراسلات السلطانية، فترة ولاية ابن الخطيب منصب الكتابة والوزارة، وهي فترة تناهز ربع قرن من الزمن . كما ف حد من أزهى العصور سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، بإجماع المؤرخين والدارسين تقريبا(1) سواء تعلق الأمر بالأندلس أو باقي دول منطقة الغرب الإسلامي ، حيث صادف أن تولى على

 

(1/2895)

 

 

هاتين الدولتين أمراء أقوياء، استطاعوا أن يحققوا الاستقرار النسبي ، ويشجعوا حركة العمران والحضارة في ميادين مختلفة بفضل سيرتهم المستقيمة وسياستهم الحكيمة.

طبيعة العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الأندلس والمغرب :

قبل أن أسترسل في تناول. طبيعة هذه العلاقة، لابد أن ألمع إلى أبرز الحكام الذين كانوا على عهد هذه الفتوة، التي نحن بصدد دراسة مظاهر التواصل الدبلوماسي فيها. لقد تولى زمام الحكم في الدولة النصرية، في هذه الفترة، كل من السلطان أيي الحجاج يوسف الأول (733-755 هـ / 1333 – 1354 م )(2) وابنه

 

(1/2896)

 

 

السلطان محمد

 

(1) ينظر على سبيل المثال : نهاية الأندلس وتاريخ العرب المنتصرين ، محمد عبد الله عنان، مطبعة التأليف بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1966 م وكذلك : لسان الدين ابن الخطيب حياته وتراثه الفكري لنفس المؤلف ، مكتبة الخانجي ، القاهرة، الطبعة الأولى 1961 ، وكتاب تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في الفكر المريني للدكتور محمد عيسى الحريري ، دار القلم ، الطبعة الثالثة 1987 وكذلك رسالتنا للماجستير لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون دراسة تاريخية مقارنة مكتوبة على الآلة الراقنة، كلية دار العلوم ، جامعة

 

(1/2897)

 

 

القاهرة، مصر، وكذلك كلية الآداب، جامعة محمد الأول ، وجدة، المعرب .

 

(2) أنظر ترجمة هدا السلطان في كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب ، تحقيق محمد عبد الله عنان ، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، 1973، ج 4 ، ص 211 وكتاب اللمحة البدرية ، لابن الخطيب ، تحقيق لحنة اللترات العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت ، الطبعة الثالثة 1980 ص 102

 

الخامس الغنى بالله (755-760 هـ / 762-794 هـ / 1954-1359م/1361-1392م )(3).

 

(1/2898)

 

 

أما بالنسبة للمغرب ، فقد تولى على عرشه ، إبان هذه الفترة الزمنية، كل من السلطان أبي الحسن المرينى (731/752هـ)(4)، ثم ابنه السلطان أبي عنان المريني (752-759هـ )(5)، ثم حكم السلطان أبو سالم (6) بعده ، لمدة لا تتجاوز أربع سنوات ، حيث قتل سنة و،رو. وأخيرا، السلطان عبد العزيز(7). الذي حكم ما بين سنة 768هـ وسنة 774هـ.

لكن أهم المراسلات و"لسفارات الدبلوماسية كانت بين كل من السلطان أبي الحجاج يوسف وابنه السلطان محمد الخامس الغني بالله من جهة، وبين كل من السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان من جهة أخرى كما

 

(1/2899)

 

 

سيتضح.

لم تكن العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الأندلس والمغرب ، في عمومها، تسير على وثيرة واحدة، وإنما كانت متباينة في طبيعتها عمقا واتساعا، تتأرجح بين الصداقة والعداء، وبين الولاء والتراجع ، حسب ما تقتضيه المصلحة السياسية والمنفعة الظرفية. والذي يفسر هذا الاضطراب في المواقف ، وخاصة من قبل الأندلس ، تجاه حكام المغرب الأقصى، الظروف السياسية الصعبة والحرجة المنذرة بالانهيار، التي كانت تمر بها الأندلس ، آخر سرب من أسر"ب الأمة الإسلامية، في هذه المنطقة، ما بين عدو يريد استرداد كل شبر من الأراضي

 

(1/2900)

 

 

، التي ضمها الفتح الإسلامي على امتداد السنين ، وصديق يريد إخضاع المنطقة، رب حلها تحت سيادته ، كما كان الأمر بالنسبة للمرابطين والموحدين في المغرب ، حينما أخضعوا الأندلس ، وأصبحت تحت تصرفهم .

)3) انظر ترجمة هدا السلطان في الإحاطة، ج 2، ص12، وكتاب اللمحة البدرية، ص 113 .

(4) انظر ترجمة هدا السلطان في شاط المستند الصحيح الحسن ، لابن مرزوق وكتاب روضة النسرين ، لابن الأحمر وكتاب العبر، لابن خلدون وكتاب تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في العمر المريني ، د. محمد عيى الحريري .

)5) نفس المراجع السابقة .

 

(1/2901)

 

 

)6) نفس المراجع السابقة.

)7)نفسها.

 

يقول الدكتور محمد عيسى الحريري يصف طبيعة العلاقات التي كانت بين الأندلس والمغرب على عهد الأسرتين الحاكمتين . "يمكن وصف العلاقات بين المرينيين وبني الأحمر بأنها كانت علاقات يشوبها الحذر والترقب ، ومرجع ذلك إلى تشكك سلاطين بني الأحمر كثيرا من نوايا بنى مرين وتطلعاتهم في بلاد الأندلس ، ولذلك كان يغلب على هذه العلاقات التذبذب بين الود المتبادل أو العداء والنفرة في بعض الأحيان (8).

 

(1/2902)

 

 

ورغم ذلك ، يمكن أن نقول إن العلاقات التي سادت بين الأندلس والمغرب في الأعم الأغلب خلال هذه الفترة، امتازت بالكثافة وغلبة المصافاة، بحكم أواصر الصداقة والجوار اللذين أصلتهما التقاليد السياسية والدبلوماسية العريقة المتو"زنة عبر حقب زمنية متراكمة، ساعدت على تعميقها كثير من العوامل والمؤثرات التاريخية والسياسية والدينية والجغرافية والثقافية بصفة عامة.

وإذا كان هناك من قلق ، كما تؤكد القرائن التاريخية والسياسية المختلفة في المنطقة، فمرده إلى ارتباط الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية، في وحظهم تاريخها،

 

(1/2903)

 

 

بالدول التي قامت في المغرب ، مثل المرابطين والموحدين . وكان الداعي إلى ذلك ، إما الاستنجاد وطلب التدخل - من -هبل الأندلسيين أنفسهم ، وإما التدخل القهري عنوة عندما يستدعي الضرورة من منطلق الإحساس بالالتزام والمسؤولية التي يبحث عليها وازع الدين والتاريخ والمصالح والمصير.

ولذلك لم يكن من الغريب أن نجد دولة بني الأحمر تستنجد بالدولة المرينية ضد النصارى مباشر بعد تأسيس هؤلاء دولتهم وتوطيد أركانها سنة 673هـ، كما تؤكد الوثائق السياسية والدبلوماسية(9)، لأنه لم يكن أمامهم غير هذه الدولة التي كانت أقوى

 

(1/2904)

 

 

دولة في المنطقة، سياسيا وعسكريا. والحقيقة أن كثير" من حكام الدولة المرينية لم يبخلوا بعونهم المادي والمعنوي ، بل هناك من السلاطين من عبر البحر ليجاهد بنفسه على رأس حملته العسكرية إلى

 

(8) تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس قي العصر المرينى، د. عمد عيسى الحريري ، ص 227

)9) انظر على سبيل المثال كتاب الاستقصا، الناصري ، ج2- ص 19.

 

جانب إخوانه الأندلسيين مثل السلطان أبي يوسف بن يعقوب (10) المريني (668-685هـ ) الذي جاز إلى الأندلس أربع مرات برسم المناصرة والجهاد، وكذلك السلطان المشهور أيي الحسن المريني

 

(1/2905)

 

 

الذي بعث ابنه الأمير أبا مالك ليخوض حربا ضروسا هنالك ، وعبر هو نفسه ب حد ذلك رفقة خاصته وحاشيته أواخر سنة 740هـ وقاد الحرب هناك إلى جانب أهل الأندلس ، ومني بهزيمة طريف الشهيرة سنة 651 هـ ، التي كانت لها آثار سيئة على الأندلس والمغرب على السواء.

وبلغت عرى التقارب والتعاون إلى درجة أن المرينيين أنشئوا - بموافقة الأندلس - قاعدة عسكرية جهادية دائمة تدعى "مشيخة الغزاة" على أرض الأندلس ، قرب جبل الفتح (جبل طارق )، تحت إمرة عسكريين من قوات السلطان المريني ، تمت إليه بصلة القرابة، ولكن تكون في الحرب

 

(1/2906)

 

 

تحت إمرة القيادة العليا للجيش النصري (11).

وظلت هذه القاعدة ف حبر عن حلقة الوصل السياسي والعسكري والدبلوماسي بين الدولتين ، إلى أن زالت بتأزم (ل حلاقات بينهما، في أواخر عهدها، عندما ظهر الضعف ، وساد الفساد السياسي ، في كلا البلاطين (12).

أما على عهد السلطان أبي عنان بن أبي الحسن المذكور، فقد اقتصر التواصل على الوسائل الدبلوماسية المتمثلة في تبادل المراسلات وإرسال المراسلات السفارية.

 

(10) للمريد من الاطلاع على شخصية ( السلطان، ينظر كتاب الأنيس المطرب ، لابن أبي زرع وكذلك كتاب الذخيرة السنية

 

(1/2907)

 

 

لنفس المؤلف وكتاب العبر، لابن خلدون وكذلك كتاب الإخاطة، 912 - وكتاب الإستقصا.

(11) لمعرفه المزيد عن هده الخطة، ينظر بحثنا الأوضاع الحضارية لمملكة غرناطة من خلال كتاب الإحاطة" الذي سيصدر ضمن حوليات كلية الآداب الكويتية خلال سنة 1999-2000 .

(12) ابن خلدون ، العبر، ج 14 ،ص 788 ، وابن الخطيب ، ريحان الكتاب ، ج 2 صص 76-77-80-

 

لمحة موجزة عن شخصية ابن الخطيب (13) السياسية والدبلوماسية :

لسان الدين بن الخطيب (713-766 هـ ) شخصية أندلسية غنية عن التعريف ، تمتعت بالألمعية والمشابهة في كثير من الفنون

 

(1/2908)

 

 

والعلوم . فقد كان شاعرا بارعا، وأديبا متمكنا، ومؤرخا متميزا، وطبيبا ماهرا، وفيلسوفا متصوفا. ترك في جميع هذه المعارف والفنون مصنفات هامة، متعددة الأسفار والأجزاء، تنيف عن الستين كتابا، منها ما وصل إلينا، ومنها ما أبادته يد الأقدار، وانسدلت عليه أستار الأسرار.

قال ابن خلدون يصف ابن الخطيب ، وقد كانا صديقين حميمين ، دام التواصل والود بينهما، إلى آخر لحظة من لحظات الحياة، حتى حينما فرقت الظروف

بينهما : "وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم والنثر والمعارف والأدب ، لا يساجل فيها بمثل

 

(1/2909)

 

 

هداه ،)(14).

وقال عنه في موضع آخر أيضا : "صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية من غير مدافع (15).

وإلى جانب هذه القدرات المذكورة، فقد كان ابن الخطيب ، من الناحية السياسية، وزيرا محنكا وكاتبا للدولة حاذقا، وسفيرا في المهام الدبلوماسية لبيبا نبيها.

فقد تقلد مناصب سياسية على عهد السلطان ابن الحجاج يوسف الأول ، وعمره ستة وثلاثين عاما. يقول ابن الخطيب متحدثا عن نفسه . "فقلدني السلطان

 

(1/2910)

 

 

(13) الكتب التي تناولت حياة س تراث ابن الخطيب ، قديما وحديثا، كثيرة ومتنوعة، نذكر شذرات منها مثلا لا حصرا لأن المقام لا يسمح : ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أجعين المائة الثامنة العسقلاني ، إنباء الغمر بأبناء العمر؟ الحنبلي ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، كحالة، معجم المؤلفين ؟ حاجي خليفة، كشف الظنون البغدادي ، إيضاح المكنون ، مجموعة من المستشرقين، دائرة المعارف الإسلامية من بروكلمان، تاريخ الأدب العربي ؟ البستاني ، دائرة المعارف اللبنانية! الزير، الأعلام ؟ المقري ، نفح الطيب إ المقري ،

 

(1/2911)

 

 

أزهار الرياض، ابن الأحمر، نثير فرائد الجمان، ابن الأحمر، نثير الجمان، ابن القاضي، جذوة الاقتباس المراكشي، الإعلام، التطواني ، ابن الخطيب من خلال كتبه، عنان ، لسان الدين بن الخطيب ، حياته وتراثه الفكري . هدا بالإضافة إلى الدراسات والبحوث الكثيرة التي لا يحصيها العد

(14)

كتاب التعريف ، لابن خلدون ص 155.

(15) المقدمة لإبن خلدون، ج3 ، ص 1353.

 

كتابة سره، ولما يجتمع الشباب ، ويستكمل السن معززة بالقيادة، ورسوم الوزارة، واستعملني في السفارة إلى الملوك، واستتابني بدار ملكه ، ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه،

 

(1/2912)

 

 

ائتمنني على صنوان ذخيرته ، وبيت ماله ، وسجوف حرمه ، ومعقل امتناعه ، ومن فصول منشوره : "وأطلقنا يده على كل ما جعل الله لنا النظر فيه "(16).

وهذه الوظائف التي أشار ابن الخطيب إليها، إذا اجتمعت في يد شخص واحد وسم بذي الوزاريين في الأندلس ، وزارة القلم والسيف . ووزارة القلم لا يضطلع بها إلا من كان فارس الميدان في البلاغة والبيان ، متمرسا في المعارف والآداب ، متمكنا من جميع الفنون والعلوم ، خبيرا بشؤون السياسة والحكم والإدارة، مدركا لأساليب اللياقة والعوائد الدبلوماسية(17).

 

(1/2913)

 

 

كان قلم ابن الخطيب - كاتب الدولة - دائم الجرية لا يجف ، يعد الرسائل الموجهة إلى المناطق المختلفة، سواء في أرض الوطن أو خارجه إلى بلاد المغرب والمشرق ، بل وإلى الممالك النصرانية على تباينها وتباعدها.

ولم يكن قلمه قاصرا على كتابة الرسائل الدبلوماسية، وإنما كان أيضا ينشى المراسيم والظهائر، وكتب الشفاعات ، وكتب العهود والمواثيق بين المسلمين والنصارى، وكذلك كتب عقود الزواج السلطانية، كما جاء ذلك في كتابين هامين من كتبه وضعهما خصيصا لجمع وحفظ ما صدر عنه من مراسلات متباينة الأغراض طيلة الفترة التي كان

 

(1/2914)

 

 

فيها صاحب الأمر والنهى ليقدمهما إلى ذوي الاهتمام بفن الكتابة والإنشاء. فسمى الكتاب الأول "كتابة الدكان بعد انتقال السكان " ضمنه مجموعة من الرسائل الدبلوماسية، ولكنها قليلة وهذا الكتاب هو النواة الأولى للكتاب الثاني.

وسمى الكتاب الثاني "ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب )،، ويتألف من مجلدين ضخمين تضمنا أزيد من مائة وعشرين وثيقة في مختلف الأغراض. وسأفرد له دراسة مقتضبة، تكشف عن فحواه شكلا ومضمونا، بعد ختم التعريف بابن الخطيب .

 

(16) الإحاطة في إخباز غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب، ج 4 ، ص 443.

 

(1/2915)

 

 

(17) لمزيد من الاطلاع على شروط الكتابة والوزارة، نحيل على الكتب التي تخصصت في هدا المجال مثل كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي وكذلك كتاب التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري .

 

لم يقتصر أيضا نشاط ابن الخطيب السياسي على إملاء الرسائل وصياغة القرارات وإنما تجاوز ذلك إلى الممارسة الفعلية. ولم تكن هذه الممارسة محصورة في السياسة الداخلية للدولة، وإنما وحدته إلى التمثيل الدبلوماسي الفعلي، بناء على المؤهلات السياسية والأدبية والعلمية، التي ينطوي عليها، فكانت الدولة تعتمد عليه في تأسيس

 

(1/2916)

 

 

العلاقات، وإبرام المعاهدات ، وعقد الصداقات ، عن طريق السفارات (18).

كانت أول سفارة قام بها ابن الخطيب ، تلك التي كانت على عهد السلطان ابن الحجاج يوسف الأول ، حيث ب حثه إلى سلطان المغرب آنذاك أى عنان ، عقب وفاة و"لده أبي الحسن. ولم يشير ابن الخطيب إلى غرض هذه السفارة، ولكننا وجدنا صديقه ابن خلدون قد أشار إلى غرضها، حينما ترجم له في كتابه "العبر". يقول ابن خلدون متحدثا عن أول سفارة لابن الخطيب إلى المغرب سنة

 

(1/2917)

 

 

752 هـ : "وسفر عنه ، إلى سلطان أبي عنان ، ملك بنى مرين بالعدوة، معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن ، فجلى في أغراض سفارته "(19).

ولما مات السلطان أبو الحجاج ، وخلفه ابنه محمد الغنى بالله ، بعثه سفيرا إلى المغرب أيضا. في غرض الاستظهار وطلب العون ، يقول ابن خلدون ، مشيرا إلى سفارة ابن الخطيب الثانية سنة 755هـ وإلى ما حققه من نجاح بما كشف عن قدرات ابن الخطيب الدبلوماسية ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان ، ومثل بين يديه ، تقدم الوفد الذين معه ، من وزراء الأندلس ، وفقهائها، واستأذنه

 

(1/2918)

 

 

في إنشاد شئ من الشعر، يقدمه بين يدي نجواه ، فأذن له ، وانشد وهو قائم:

خليفة الله ساعد القدر علاك ما لاح في الدجى قمر

فذكر سبعة أبيات من قصيدته الطويلة، وعقب قائلا : "فاهتز السلطان لهذه الأبيات ، فأذن له في الجلوس ، وقال له قبل أن يجلس : ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ، ثم أثقل كاهلهم بإحسانه ، وردهم بجميع ما طلبوه. وقال شيخنا

القاضي أبو

(18) أعمال الأعلام ، ابن الخطيب ، ج 2، ص 305.

(19) كتاب العبر، لابن خلدون، ج 13، ص 690.

 

(1/2919)

 

 

القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد : لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا)(20).

هذا، ولم تكن دبلوماسية ابن الخطيب معروفة لدى ملوك الإسلام فقط ، وإنما كانت معروفة أيضا لدى ملوك النصارى . يقول اميليو غرسيه غومث : "ونجد في مدونة المستشار دون لوبث أيالا (Don Lopez Ayala) وإن لم يجزم النقد التاريخي بصحتها عد، رسائل صنوفا، متبادلة بين الملك القشتالي، وبين مسلم من غرناطة، كمان الملك القشتالي يثق فيه ويتخذه صديقا واسع المعرفة، فيلسوفا عظيما، ومستشار الملك غرناطة يدعى Benahatine.

 

(1/2920)

 

 

ولا يحتاج الإنسان إلى جهد كبير، ليت حرف على صاحب هذا الاسم ، وإنه ابن الخطيب اللوشي)(21).

ولعل حل هذا ما يؤكد ما أشار إليه ابن الخطيب نفسه ، بشيء من الفخر والاعتداد بالنفس ، في نص رسالة الوداع ، التي وجهها إلى سلطانه ، عمد الغني بالله ، وهو يغادر الأندلس ، إلى غير رجعة، حينما قال له : "واعلموا أيضا، على جهة النصيحة، أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك "(22).

هذه هي شخصية ابن الخطيب الدبلوماسية، ذلك الرجل الذي كان في جانب من جوانب حياته الغنية، أداة من أدوات التواصل السياسي والدبلوماسي ،

 

(1/2921)

 

 

إنسانا ورسالة، ألممنا به إلماعا، بما يستجيب مع هذه الدراسة التي زحني التواصل من الزاوية الدبلوماسية.

ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب :

هو من أهم كتب ابن الخطيب ب حد "الإحاطة"، إذ هو من الكتب التي تعددت أسفارها. يقول ابن الخطيب : "وريحانة الكتاب في أسفار ثمانية"(23)

 

(20)كتاب العبر، لابن خلدون، ج13، صص 690-691.

(21) مع شعراء الأندلس والمتنبي سير ودراسات ، ترجمة د. طاهر أحمد مكي ، ص160.

(22) ابن خلدون، عاب التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، ص 151.

(23) الإحاطة، ج 4 ، ص 461.

 

(1/2922)

 

 

أما منهج الكتاب من حيث الشكل ، فقد بينه ابن الخطيب في المقدمة التي استهله بها(24)، حيث قسمه إلى عدة أقسام متنوعة حسب الأغراض والفنون المختلفة. وهو تقسيم - كما يبدو - قائم على أساس الأغراض المتنوعة. ويمكن تصنيف هذه الأقسام كلها من جديد وحصرها في قسيس اثنين فقط ، حسب الفنون التي تندرج تحتها وهي : قسم تاريخي سياسي ، وقسم أدبي اجتماعي .

والملاحظ أن القسم الأول هو أكثر القسمين وفرة من حيث المادة . أما الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الأقسام ، فهو أسلوب الرسالة الديوانية والرسالة الأدبية، إذ الكتاب في

 

(1/2923)

 

 

أصله لم يكن إلا جمعا وتصنيفا، وحشدا وتبويبا، إذ أن معظم مادته كان قد أنشأها في مختلف أطوار حياته ، عند مباشرة مهام الدولة المتنوعة، عندما كبرت سنه ، وخشي أن يضيع أثره الذي استفرغ فيه جهده ، وبان فيه فضله . يقول ابن الخطيب مشيرا إلى هذا الأمر : "وعلى ذلك ، فألفيت عند الافتقاد، عقب الرقاد، بدائع الأدب والنثر، قد ضاعت ، وتملكتها أيدي الذهول عنها، فوهبت وباعت بعدما أظمأت وأجاعت )،(25).

أما حجم ما ضمنه ابن الخطيب في هذا الكتاب من مادة بالمقارنة بما أنشأ وألف في الأصل ، فهو قذر قليل ونزر ضئيل . وقد

 

(1/2924)

 

 

صرح ابن الخطيب بذلك قائلا : "وإذا لم يبق إلا ثمرات من أوقار عير، و!ف حرات من جلد ب حير، إذ كنت قبل الاعتماد من الدولة النصرية، بالمشاورة والمؤازرة، والمعاونة والمظاهرة، والحرص على خدمتها، بوظيفة الأقلام والمثابرة، إذ العمر جديد، وظل النشاط مديد، لكل مسودتها المجتلبة إلى حفظ الكتبة، وأرمى بعقودها البذخة إلى الأنامل المتسخة مشتغلا عن الشيء بما يتلوه ، غافلا عن منحطه بالغرض الذي يعلوه "(26).

كما يشير ابن الخطيب في مقدمة هذا الكتاب ، إلى المراحل التاريخية التي قطعها هذا المصنف ، إذ لم يبرز إلى

 

(1/2925)

 

 

الوجود دفعة واحدة، ولم يستو فجأة على الشكل

 

(24) ريحانة الكتاب ، ج1 ، صصر17-20.

(25) ريحانة الكتاب ، ج1 ، ص 18

(26) ريحانة الكتاب ، ج1 ، ص 18

 

النهائي الذي هو عليه ، وإنما كان في البداية على شكل مؤلف صغير لم تتجاوز مادته بضيعة رسائل جمعها في كتابه المعروف "كناسة الدكان بعد انتقال السكان " الذي ألفه أيام كان لاجئا مع سلطانه في المغرب ما بين 760هـ و 763 هـ.

كان "كناسة الدكان " إذن النواة الأولى، واللبنة الأساس ، ل كتاب الريحانة. وعندما عاد إلى الوزارة الثانية سنة 763هـ ، ووقعت يده على كثير من

 

(1/2926)

 

 

رسائله وصدرت عنه أيضا رسائل كثيرة ومتنوعة بما كان يشغله من منصب زاد فيه النفوذ، مما برحله يفكر في جمعها وإضافتها إلى ما جمع من قبل . يقول ابن الخطيب : "وأضفت إليه - إشارة إلى "كناسة الدكان " - من بعد مما خبأته وجادة، أو دخرته استجادة، وما استلحق من بعد الآوبة(27). ورغم هذه الإضافات الكثيرة، التي أضافها ابن الخطيب إلى "كناسة الدكان ،،، ورغم هذه الرسائل الهائلة، التي جص حمعها كتاب "ريحانة الكتاب "، الذي برحله في ثمانية أسفار، لم تكن في نظر ابن الخطيب كثيرة قياسا على جميع ما صدر عنه ، فغض الأنامل

 

(1/2927)

 

 

ندما. يقول : "فأدميت الأنامل ندما أن صار وجوده عدما إلا ورقات تشبثت بما أسأرته الحادثة على الدولة من سقط المتاع وشلو مختلس من براثن سباع "(28). بيد أنه يشير إلى الاكتفاء بذلك القدر، ول حله اتبع في جمعه منهجا انتقائيا انتخب بموجبه عيون إنشائه وعربون بيانه ، وإلى هذا يشير قائلا : "فرضيت منها بما حضر مضطرا، رفعت بالذي يسر. إذا أصبحت قانعا معترا "(29).

إذن ، ف "الكتاب الريحانة" من المؤلفات المتأخرة التي صنفها ابن الخطيب وإن كانت مادته تتوزع على مساحة زمنية طويلة قد تتعدى عشرين سنة حيث وجدت فيه

 

(1/2928)

 

 

رسائل تعود إلى سنة ه ،+س وكذلك رسائل تعود إلى سنة 770هـ ، وإن لم يشر ابن الخطيب في الغالب إلى تاريخ الرسائل ، لكن مضمونها يشير إلى ذلك .

 

(27) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 19.

(28) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 18.

(29) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 19.

 

ومما لاشك فيه أن ابن الخطيب قد نقح العديد من رسائله ، وخاصة تلك التي قدم بها العهد. أما المنهج المفصل الذي عرض من خلاله رسائله ، فإنه في أغلب الأحيان يصدر الرسائل بظروف إنشائها، ويشير إلى مضمونها، مما يعين الباحث على استخلاص معانيها، واستقصاء أبعادها، وتصور

 

(1/2929)

 

 

ملابساتها المختلفة، كأن يقول مثلا : "وصدر عنى أيضا ني مخاطبة سلطان مدينة تلمسان الدائل على هذا العهد، الأمير حمو موسى بن أبي زيد يعقوب يوسف بن الأمير أيي زيد عبد الرحمان بن الأمير أبي زكريا يحيى بن السلطان أبي يحيى يغمراسن بن زيان ، عن السلطان بالأندلس في غرض الهناء لما دال أمر وطنه إليه وقد وصله كتابه يعرف بذلك "(5لأ).

وكقوله أيضا ي صدر رسالة أخرى، وتشير أخبارها إلى أنها من رسائله المتأخرة : "ولما وصل كتاب سلطان المغرب على هذا العهد، أمير المسلمين أبى فارس عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن ،

 

(1/2930)

 

 

يعرف باستيلائه على الخلافة بالمغرب ، صدر عنى في ذلك .. "(33).

أما إذا تشابهت الأغراض ، وتقارب زمانها، وتوحد مضمونها، فنجده يكتفي بالإشارة، فقط ، كأن يقول مثلا : "وصدر عني في هذا الغرض أيضا،)(32)، أو يقول : "ومن زلت ". وهكذا كثيرا.

كما نجده في بعض الأحيان يستغني عن الافتتاحية، مثلما ف حل في رسالة عزاء إلى السلطان أبي عنان المريني. وكان قد أورد رسالة في نفس الغرض ، ب حثها إليه وقدمها على هذه ، التي استغنى فيها عن الافتتاحية، يقول : "و"صبحت في س حتى العزاء والهناء إليه في غرض الرسالة كتابا نصه بعد

 

(1/2931)

 

 

سطر افتتاحه "(33). أما اللغة والأسلوب الذي صيغ به الكتاب ، فهو من أقوى الأساليب وأجزلها، ومن أبلغ الصيغ وأبدعها. يقول عنه أبو بكر التطواني وهو من اكثر المعجبين المعاصرين بشخصية ابن الخطيب : "مؤلف "الريحانة" بأسلوبه ، هو ي الصدر من

 

(30) ريحانة الكتاب ، ج1 ص 269

(31) ريحانة الكتاب ، ج1 ص 308

(32) ريحانة الكماب ، ج1 ص 337

(33) ريحانة الكتاب ، ج1 ص 330

 

أدباء هذه اللغة. فالذي يميل مع الحكم القاضي بأن الأسلوب هو الكاتب نفسه ، وهو ما ذهب إليه بعض من خاض بحر أدب الجاحظ ، وحاضر في أسلوبه ، لم يتردد في

 

(1/2932)

 

 

ضم أديبنا الموهوب إلى قائمة من لهم في الأدب في هذا الباب . فابن الخطيب إذا كتب كأديب هو بأسلوبه أمة وحده .. .،)(34).

ولا نرى في هذا الكلام مبالغة، وإنما هو تقرير لحقيقة يكتشفها كل من باشر أدب ابن الخطيب ، ولذوق أسلوبه . هو إعجاب لا يخفيه كل من غاص في بحار وحارفه ، وأعمل النظر في فسيفساء صياغته ، وعبقرية وشيه وتنضيده .

ولقد وصفه بأكثر من هذا صديقه ابن خلدون الذي عرف بشحه في إضفاء الحلي والصفات حينما دعاه ب "لسان الملة والدين "، ولا غرابة في ذلك أيضا، فقد كانت كل الرسائل الواردة في هذا المصنف

 

(1/2933)

 

 

تصدر عن ابن الخطيب باعتباره كاتبا للدولة وعنوانا للإيالة. ومعروف ما قي حين على الكاتب امتطاؤه في الرسائل السلطانية من بيان يقوم مقام البرهان ويرفع القدر رب حلى الشأن .

 

قيمة كتاب "ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب ":

 

تتجلى قيمة الكتاب عند دراسة مضمونه وتحليل أغراضه . وهذا ما سنحاوله في هذه الدراسة. لاشك أن كتاب "الريحانة" ينطوي على قيم وفوائد متنوعة. وحتى نقف على هذه القيم والفوائد عن كثب ، أحاول فحص مضامينه وتحليل أغراضه قدر الإمكان ، ولكن في اختصار وإجمال ، حسبما يمليه المقام .

 

(1/2934)

 

 

يمكن حصر القيم التي انطوى عليها هذا المصنف في النقط التالية : ، - القيمة الوثائقية : للكتاب قيمة وثائقية كبرى، بما ثوى فيه من الرسائل السلطانية الصادرة من قصر الحمراء، والمبعوثة إلى مختلف الجهات ، سواء في الداخل أو الخارج ، حيث احتوى على ما يزيد على مائة وعشرين وثيقة، تفاوتت من حيث الطول والقصر.

 

(34) ابن الخطيب من خلال كبه ، ج 1، ص22.

 

ولقد استطاعت هذه الوثائق أن تبين - بحق - سياسة الدولة النصرية على عهد ابن الخطيب ، تلك السياسة التي اعتمدت على تحسين العلاقات ، والمحافظة على الصلات ، والمودات

 

(1/2935)

 

 

، وخاصة مع الدول الإسلامية المجاورة، في المغرب الأقصى والأوسط والأدنى. وكانت حصة الوثائق التي تجسد علاقة الأندلس بالمغرب أكبر، بما كان للدولتين من علاقات وثيقة، وروابط متينة، كما صورت هذه الوثائق أيضا سياسة الدولة النصرية والمترضية تجاه العدو النصراني ، تلك السياسة التي كانت في س معظمها تعتمد على المهادنة والحذر واهتبال الغرر. كما أشارت الوثائق إلى جانب كبير من الحياة السياسية في المغرب الأوسط ، إفريقية، وكشفت أيضا عن المراسيم والبرتوكولات التي كانت تعتمدها الدولة النصرية في علاقتها مع جيرانها.

 

(1/2936)

 

 

أما الرسائل التي تضمنت ما أشرنا إليه ، فهي تلك التي أوردها تحت العناوين التالية :

1- الفتوحات الواقعة والمراجعات التابعة.

2- التهاني بالصنائع والمكيفات

3- كتب التعازي في الحوادث والنائبات

4- كتب الشكر والهدايا والواردات

5- كتب تقرير الحوادث

6- جمهور أغراض السلطانيات .

والحقيقة أن هذه العناوين لا تشير فقط إلى القيمة الوثائقية، وإنما تشير أيضا إلى القيمة التاريخية بما اندرج محتها من أخبار تاريخية كثيرة ومتنوعة.

2 - القيمة التاريخية :

 

(1/2937)

 

 

تتجلى القيمة التاريخية للكتاب فيما تضمنته الرسائل المنبعثة من قصر الحمراء، من أخبار تاريخية متنوعة، حيث استطاعت هذه الرسائل تغطية أحداث

 

حوالي ربع قرن من الزمان (5ءر-ه ر+س ) واستطاعت أيضا ألا تقتصر على أخبار الدولة النصرية فقط ، وإنما تجاوزتها إلى أخبار الدولة المرينية والدولة الحفصية، فصور الصراع الذي كان دائرا في المنطقة، وكذلك أشار إلى ب حض الأخبار المتعلقة بالممالك النصرانية.

ولكن الدولتين اللتين استأثرتا بأوفى نصيب من الاهتمام لدى ابن الخطيب هما الدولة المرينية والدولة النصرية، وهذا أمر

 

(1/2938)

 

 

بديهي لما كان يربط بين الدولتين من علاقات حميمة.

لقد كانت أغلب الرسائل الإخبارية. الصادرة من الأندلس تشير إلى ما كانت تخوضه هذه الدولة الصغيرة من حروب ووقائع ضد العدو النصراني باسم الجهاد، أحيانا مدافعة، وأحيانا مسالمة مهادنة، أحيانا غازية فاتحة، وأحيانا منهزمة منكسرة، وأحيانا منتصرة منتشية. ومن العناوين الكثيرة التي تشير إلى هذا الأمر عنوان : "الفتوحات الواقعة والمراجعات التابعة)،، وأيضا "كتب الاستظهار على العداوة والاستنجاز للغزاة".

 

(1/2939)

 

 

أما العناوين الفرعية المشيرة إلى أغراض الرسائل التي تدخل في هذا الباب ، فمثل قوله . "وصدر عنى في أول الحركة الجهادية لهذا العهد، وقد تحرك السلطان - أعزه الله - إلى حصن أشر، القريب الجوار لأرض النصارى، بأهل حضرته وما يجاورها من الأماكن الغربية . . .. وقى مدت نائبا عن السلطان بدار مه لكه على عادتي فكتبته عنه كاتب إنشائه ، ص حرفا بذلك صاحب المغرب ،)(35).

وقوله أيضا : "وكانت الحركة بعده ، في أوائل ربيع الأول ، عام تسعة وستين وسبعمائة، إلى مدينة "أبدة"، فاحتل السلطان - بمن لنظره - من جيش المسلمين

 

(1/2940)

 

 

بظاهرها، فافتتحها عنوة، واستولى على مساكنها التدمير و التثبير، وعفت آثارها، وهدمت كنائسها وأسوارها، وقفل إلى حضرته العلية، بجنب نصرا لا كفاء له ، وصدرت عنه مخاطبة سلطان المغرب ، من إملائي ، بما نصه ، بعد سطر الافتتاح" (36)

 

(35) ريحانة الكتاب ، ج ا، ص 146

(36) ريحانة الكتاب ، ج ا، ص .171

 

إلى غير ذلك من الرسائل الإخبارية الهامة. وأما ما ب حلق بأخبار دول المغرب الأقصى والأوسط والأدنى، -فأكثره يسلط الضوء على سياستهم الداخلية أو سياستهم الخارجية في حدود المنطقة، فصور الصراع الدائم الذي كان يلف

 

(1/2941)

 

 

الأجواء، سواء داخل الدولة الواحدة أو في علاقتهم ب حضهم مع ب حض . وقد أشارت إلى هذه السياسة الرسائل التي تندرج تحت عنوان : "التهاني بالصنائع والمكيفات ،(37)

وفيما يلي نقتطف بعض العناوين التي تشير إلى بعض جوانب هذا الصراع . يقول ابن الخطيب : "صدر عنى جواب للسلطان الشهير أبي عنان عن كتابه الذي وجهه إلى سلطان الأندلس أمير المسلمين أبي الحجاج بن نصر، يعرفه فيه بما أتاح الله له من الظهور على بنى زيان واستيلائه على ملكهم بمدينة تلمسان ، وذلك في وسط شهر ربيع الأول من عام اثنتين وخمسين وسبعمائة"(38).

 

(1/2942)

 

 

ومثل قوله أيضا، متحدثا عن أحد استقالات تلمسان المتكررة، كما هو وحروف : "وصدر عنى أيضا في مخاطبة سلطان تلمسان الدائل على هذا العهد الأمير أبي حمو ابن السلطان أبي يحيى يغمران بن زيان عن السلطان بالأندلس في غرض الهناء، لما دال أمر وطنه إليه . وقد وصل كتابه ب حرف بذلك "(39).

إلى غير ذلك من الرسائل ، التي تكشف عن الأخبار التاريخية، في دقائق تفاصيلها، لأنها صادرة من مصدر تصله الأخبار من مظانها، ويسجل الأحداث عن معانيها، وينهل من منابعها.

 

(1/2943)

 

 

لم تكتف الرسائل بالإشارة إلى أخبار بلاد المغرب الإسلامي، وإنما وردت إشارات أيضا، تشير إلى أحوال المشرق الإسلامي . ولقد تضمن الكتاب رسالة هامة، ك حرب بصدق عن الهموم المصيرية المشتركة لدى الدول الإسلامية، وإن بعدت بينهم

 

(37) وهى الرسائل التي في عرض التهنئة على الانتصارات المختلفة، سواء تعلق الأمر بالأحوال الداخلية أو الخارجية.

(38) ريحانة الكتاب ، ج 1، ص 261.

(39) ريحانة الكتاب ، ج 1، ص 269.

 

الشقة، وذلك عندما دخل العدو الصليبي الإسكندرية، وهب المماليك تحت قيادة السلطان أيي الفتوح شعبان إلى رد

 

(1/2944)

 

 

العدوان ، فصدرت مخاطبة في هذا الشأن من بلاط غرناطة من إنشاء ابن الخطيب تشد الأزر وتقوي العزيمة.

ولعلل في هذا القدر الذي جلبناه كفاية، للدلالة على القيمة التاريخية التي احتوى عليها هذا الكتاب .

3 - القيمة الإدارية :

وف حنى بالقيمة الإدارية ما أشارت إليه المراسيم والظهائر، التي صدرت عن ابن الخطيب ، باسم الدولة بشأن تنصيب موظفي الدولة، وتعيينهم في المناصب المختلفة في الدولة، تحت عنوان ظهائر الأمراء والولاة، حيث كشفت لنا هذه الظهائر عن الوظائف الإدارية المختلفة، والصيغ القانونية التي كانت تكتب بها،

 

(1/2945)

 

 

ودلت أيضا على ما كان الكاتب يتولى صياغته . فقد كان يصدر المراسيم بتوليه إمارة مشيخة الغزاة، وكذلك الولاة، والأمراء، ثم ولاية القضاء وما كان يتبعها من مهام مثل تولي الخطبة في المسجد الأعظم ، وكذلك مراسيم تنصيب الكتاب أو رؤساء الكتاب .

أما نص المرسوم أو الظهير، فمن خصائصه عدم الطول ، وعادة ما يبدأ بالقول : "هذا ظهير كريم "، ثم يثنى على مكانة الظهير بما يليق بصاحبه ، ويثنى على المنتخب لولاية هذه الخطة أو تلك ، كما يحدد اختصاصات متوليها، مثلما ف حل في ظهائر مشيخة الغزاة، التي كثر ورودها، وكذلك

 

(1/2946)

 

 

ظهائر توليه القضاة التي لم تكن تختلف ، هي الأخرى، عن ظهائر مشيخة الغزاة، من حيث الصياغة، وإنما كانت تختلف من حيث المضمون فقط ، عند الإشارة إلى اختصاصات القاضي القانونية والشرعية، وهى اختصاصات متنوعة وكثيرة تليق بمقامه ومهمته .

أما ظهائر الكتاب لدى الدولة، فقد أورد ابن الخطيب أنموذجا واحدا، يت حلق برياسة الكتاب ، استطعنا من خلاله أن ف حرف حقيقة هذه الرتبة ومكانتها بين وظائف الدولة الأخرى.

 

، - القيمة العلمية :

 

(1/2947)

 

 

لاشك أيضا أن لكتاب "الريحانة" قيمة علمية كبرى، ونقصد بالقيمة العلمية ما أضافه الكتاب من فائدة للمكتبة الحربية الإسلامية، وأيضا ما أضافه الكتاب من معلومات دقيقة عن حياة ابن الخطيب الخاصة وعلاقاته سواء بملوك وأمراء أهل زمانه ، أو بذوي الرتب والمناصب الحالية، وكذلك ما حفظه لنا من إنتاج ابن الخطيب وكان ذلك في صورتين :

أ - الصورة الأولى . واكتفى فيها بالإشارة إلى أسماء مؤلفاته ، مثلما فعل في صدر الكتاب حينما نقل تحت عنوان "التحميدات التي صدرت بها ب حض التو"ليف ، وهى بعض من كل ، ويسير من جل ،

 

(1/2948)

 

 

المقدمات التي دبج بها بعض الكتب والمصنفات ، التي منها ما ضاع ، ومنها ما وصل إلينا. وهذه التحميدات لا تكتفي بحمد الله والثناء عليه وعلى رسوله ، وإنما تشير في الغالب إلى مضامين المؤلفات ، وأحيانا تفعل في سرد الخطة والبرنامج ، الذي اتبعه ابن الخطيب في كل مؤلف على حدة.

ب - الصورة الثانية : يمكن تقسيمها أيضا قسمين هما : قسم نقل فيه ابن الخطيب ، بعض ما أشار إليه في مواضع أخرى على أنها مصنفات مستقلة، وهذا القسم هو الذي أشار إليه في مقدمة "الريحانة" بقوله : "المقامات في الأغراض المختلفات "؟ وقسم آخر

 

(1/2949)

 

 

نقل فيه مقتطفات من مؤلفات أخرى، مثل كتاب "نفاضة الجراب " تحت عنوان : "ومن ذلك كلام في الرحلة(40) وكتاب "التاج المحلى في مساجلة القدم المعلى)،، وكتاب "الإكليل الزاهر". وقد اقتطف منها بعض الأوصاف والحلى لأعيان منتخبين . وهذا ما أشار إليه في مقدمة الكتاب بقوله : "ثم إلى ب حض من أوصاف الناس في الأغراض والصلات "(41).

لقد استطاع هذا الكتاب أن يحفظ لنا العديد من إنشاءات ابن الخطيب ، وكذلك يدلنا على ما ألفه في مختلف الأغراض لذلك كان جديرا بأن ينوه ، في هذا

 

(40) ريحانة الكتاب ،ج 1 ، ص294

 

(1/2950)

 

 

(41) ريحانة الكتاب ،ج 1 ، ص 260

 

تعدتها إلى ما يمكن أن نعبر عنه بالخصوصية في العلاقات الدبلوماسية، وخاصة عندما ب حلق الأمر ببعض الأحوال الشخصية كالزواج مثلا ليتقرر فيه التواصل الدبلوماسي بشكل غريب وغير مألوف . وهذا النوع من التواصل أدرجه ابن الخطيب في كتابه تحت عنوان :

أ - "كتب الصداقات ، والبيعات " :

وقد جمع في ثناياه الرسائل التي تندرج من الناحية التشرب حية والتوثيقية ضمن عقود الصداقات ، وعقود المبيعات . ومن الكتب والرسائل التي جلبها ابن الخطيب ، وتؤكد على الخصوصية في العلاقات الدبلوماسية،

 

(1/2951)

 

 

كما سبقت الإشارة ما ذكره تحت هذا العنوان الطويل : "ومما صدر عني أيضا صداق منعقد على بنت سيد الشرفاء الجلة، وعلم أعلام هذه الملة أبي عبد الله بن عمران ، لولد الشيخ الفقيه الخطيب الكبير الشهير أبي عبد الله محمد ابن مرزوق ، أعزها الله ، بعد أن صدر الأمر من سلطان المغرب ، أمير المسلمين أبي سالم أن يكون الصداق المذكور، من إملائي على كتاب بابه ، فأمليت في اليوم الذي صدر الأمر بذلك ما نصه بعد سطر ( الافتتا خ . . . " ( 43 ).

 

(1/2952)

 

 

وهناك أيضا وثيقة عقد صداق بين أحد الأمراء المرينيين المستقرين بالأندلس ، وبين عقيلة أحد الشرفاء المغاربة المستقرين أيضا بالأندلس ، برسم الجهاد من خلال مشيخة الغزاة(44).

ومن الأغراض التي شملتها التواصل الدبلوماسي أيضا بين الأندلس والمغرب في هذه الفترة التي جلبها ابن الخطيب ما برحله مندرجا تحت هذا العنوان :

ب - "كتب الفتوحات الواقعة، والمراجعات التابعة" :

إن النظر في مضامين الرسائل الدبلوماسية الواردة في هذا المبحث يؤكد على أن الرسائل المبعوثة إلى المغرب لم تخرج عن واحد من هذين الغرضين :

 

(1/2953)

 

 

(43) ريحانة الكتاب ، ج 1، ص 101

(43) ريحانة الكتاب ، ج1 ، ص 91

 

ا - إما أن يكون غرض الرسالة مراجعة شكر ورد على سفارة مغربية وافدة، تكون في الغالب الأعم استجابة لطلب الإمداد والاستنجاد، ورد فيه توكيد على التعاون المتبادل ، والحفاظ على المودة والعهد، فيما قي حلق بالشؤون الداخلية والخارجية لكلا البلدين . وفي الغالب تكون السفارة الوافدة معتمدة على المشافهة بالإضافة إلى الكتاب ، كما هو الشأن بالنسبة للرسالة التي ب حثها الأمير أبو الحجاج يوسف إلى الأمير أبي الحسن المرينى، والتي من ضمن ما جاء فيها قول

 

(1/2954)

 

 

ابن الخطيب على لسان سلطانه : "فإننا ورد علينا كتابكم الذي موقعه عند العدو موقع الكتاتيب ، وخطابكم المشتمل على المواعد الصادقة، والعزائم المتلاحقة.. . فكلما تدبرنا فصوله وتأملنا معانيه ...، انفسح لنا في إنجاز تلك المواعد ميدان الأمل ، وراقنا تظافر النية في تلك المخاطبة والعمل ... وألقى إلينا رسولكم ... ما قصرتموه على المشافهة من ألطاف البر ومكنون الود الكريم السر. . ."(45).

2 - وإما أن يكون الغرض إخبارا عن المواجهات العسكرية الجهادية التي كانت رحاها تدور باستمرار بين الدولة النصرية ودول النصارى،

 

(1/2955)

 

 

سواء انتصروا فيها أو انهزموا.

ومن الرسائل التي تضمنت الإخبار عن الفتوحات والانتصارات الواقعة، تلك التي ب حثها ابن الخطيب على لسان السلطان النصري المذكور إلى السلطان المريني المذكور. ونقتطف منها ما يلي : "وخرجنا نجد السير. .. واحتللنا رندة حرسها الله ... ثم انتقلنا بالمحلات المجتمعات ، ضفة وادي لكه ، محلة الفتح الأول . .. ومنها صبحنا أولئك الكافرين ، فشاحت وجوههم ، وأحاط بهم سوء كسبهم . . . وقد كانوا في هذه المدد القريبة أو سمعوه تحصينا، وناصحو" عوراته رما وتسديدا، وتخلفوا المنازل مالية باك حم

 

(1/2956)

 

 

والأقوات ، والأشعة والآلات . . . وتحصنوا بالقصبة، والسيوف تتخطفهم ، والرماح تنو شهم ، والسهام تبعجهم .. . ولمنتصف اليوم بعده ألقوا بالإذعان إلى حكم المسلمين "(56)

 

(45) ريحانة الكتاب ، خ 1، صص 129-130.

(56) ريحانة الكتاب ، ج 1، صص 155-156.

 

ومن الرسائل التي تضمنت الإخبار عن الهزائم والانكساريات تلك التي نقتطف منها ما يلي ، وكانت بين السلطانين المذكورين : "وقد تقرر لدى مقامكم الأسمى كانت الحال آلت إليه بهذا الطاغية(47)، الذي غره الإمهال والإملاء، وأقدمه على الإسلام التمحيص المكتوب والابتلاء،

 

(1/2957)

 

 

وارتكب من قهر هذه الأمة المسلمة مركبا ص حبا، وسام كلمة الإسلام بأسا وحربا بكتائب بره ، توسع الأرجاء ط حنا وضربا، وكتائب بحره تأخذ كل سفينة غصبا، والمخاوف قد تجاورت شرقا وغربا، والقلوب قد بلغت الحناجر غما وكربا. .. ،،(48).

 

من الأغراض التي نهلها التواصل الدبلوماسي أيضا ما جاء تحت هذا العنوان :

ج - "التهاني بالصنايع المكيفات " :

 

ومضمون الرسائل الواردة ضمنه ، كما هو واضح ، يندرج في إطار التهنئة بالأفراح والمسر"ت ، التي أسفرت الأيام عنها، وهى إما مبادرة بالكتابة من قبل الدولة النصرية، أو مراجعة

 

(1/2958)

 

 

لرسالة واردة، كما هو بين من خلال عناوين ومضامين الرسائل المتعددة. وبالنظر في جميع الرسائل الصادرة في هذا الشأن ، وجدنا التهاني لا تخرج من حيث الغرض عن هذه المعاني.

 

1 - إما أن يكون غرض الرسالة تهنئة لسلطان تولى أمر الخلافة، كما جاء في الرسالة التي أوردها ابن الخطيب تحت هذا العنوان . "وصدر عني أيضا، وقد اتصل الخبر باستقلال ملك المغرب السلطان المعظم أبي عنان - رحمه الله - على المغرب "(49) .

(47) الملك ألفونسو الحادي عشر، ملك قشتالة.

(48) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، 142.

 

(1/2959)

 

 

(49) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 273.

 

وكذلك الرسالة التي أوردها تحت هذا العنوان : "ولما وصل كتاب سلطان المغرب على هذا العهد أبي فارس عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن يعرف باستيلائه على الخلافة بالمغرب ، صدر عني في ذلك "(50).

 

2 - وإما أن يكون غرض الرسالة تهنئة سلطان انتصر في س حركة حققت مكسبا سياسيا هاما لدولته ، كإخماد ثائرة، أو حسم تمرد، أدى إلى توسيع رقعة بلاده على حساب جيرانه من بني حفص التونسيين ، أو بني عبد الواحد الجزائريين ، كما جاء في الرسالة التي أوردها ابن الخطيب تحت هذا العنوان . "صدر

 

(1/2960)

 

 

عنى جواب للسلطان الشهير أبي عنان عن كتابه الذي وجهه إلى السلطان الأندلسي، أمير المسلمين أبي الحجاج بن نصر، يعرفه فيه بما أتاح الله له من الظهور على بنى زيان ، واستيلائه على ملكهم بمدينة تلمسان ، وذلك وسط شهر ربيع الأول من عام اثنين وخمسين وسبعمائة،)(51).

وكذلك الرسالة التي أوردها تحت هذا العنوان . "ولما ثار بجبل الفتح عيسى ابن الحسن بن أبي منديل ، وقبض عليه ، ووجهه للسلطان بالمغرب ، عرف سلطان الأندلس بذلك ، وكتب في مراجعته ما نصه . .."(54).

 

(1/2961)

 

 

3- وإما أن يكون غرض الرسالة تهنئة سلطان بالإبلال الشفاء من مرض أصابه ، كما جاء في الرسالة التي أوردها ابن الخطيب تحت هذا العنوان : "ومن التهاني في الإبلال من المرض ، صدر عني مهنئا أمير المسلمين أبا عنان )،

(53) وكذلك رسالة أخرى تحت عنوان . "وصدر عني أيضا في غرض الهنا بشفاء من مرض لسلطان المغرب ،)(54).

4 - وإما أن يكون غرض الرسالة تهنئة سلطان نجا من كائنة أو مصيبة، كاد أن يهلك فيها، 3 جاء في الرسالة التي أوردها ابن الخطيب تحت هذا العنوان .

 

(50) ريحانة الكتاب ، ج1،ص 308

 

(1/2962)

 

 

(51) ريحانة الكتاب ، ج1، ص 316

(52) ريحانة الكتاب ، ج1،ص 235

(53) ريحانة الكتاب ، ج1،ص 318

(54) ريحانة الكتاب ، ج1،ص 121

 

"وكان مما كتبت لما وصلت الأخبار بنجاة ملك المغرب ، السلطان العظم أبي الحسن ، من هول البحر، لما هلك معه الجماعة من أعلام ناسه بأحواز الجزائر، (55)، وكذلك رسالة أخرى في نفس الغرض ، ولكنها مراجعة لرسالة وافدة، مثلما جاء تحت عنوان: "ووصل كتابه - رحمه الله - للسلطان أبي الحجاج - رحمه الله - يعرفه أيضا بالكاينة المذكورة من أحواز الجزائر، فصدر عني - جوابا عن ذلك - ما نصه ،)(56).

 

(1/2963)

 

 

ومن الأغراض التي شملها التواصل الدبلوماسي أيضا، على عهد هذه المدة الزمنية من تاريخ الأندلس والمغرب ما جاء تحت هذا العنوان :

د - كتب التعازي في الحوادث والنائبات :

وواضح من خلال هذا العنوان ما يمكن أن يندرج تحته من مضامين وص حان ، كما جاء في الرسالة التي بعثها ابن الخطيب على لسان سلطانه إلى سلطان المغرب أبي عنان ، يعزيه فيها بالمصاب الذي ألم به ، عند فقدان والده أبي الحسن .

وكذلك ما جاء في رسالة أخرى من السلطان المذكور إلى السلطان المذكور يعزيه فيها بسبب وفاة إحدى قريباته كما هو مفهوم من نص

 

(1/2964)

 

 

الرسالة التي لم يفصل فيها ابن الخطيب القول على غير عادته . ومن الأغراض التى (هغ جلا التوامط الدبلوماسي أيضا ما عبرت عنه الرسائل التي اندرجت تحت هذا العنوان .

 

هـ – "كتب الشفاعات " :

والمقصود من الشفاعات – كما هو بين – التوسط لبعض الشخصيات المغربية السياسية والعلمية ذات الوزن ، سواء في البلاط أو في المجتمع ، من قبل سلطان الأندلس لدى سلطان المغرب ، بسبب ف حل مخالف صدر عنه قد يلحق به الأذى من قبل سلطانه ، مثلما جاء في الرسالة التي صدرها ابن الخطيب بهذا العنوان والذي

 

(1/2965)

 

 

(55) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 254.

(56) ريحانة الكتاب ، خ 1 ، ص 259.

 

يحمل كثيرا من الدلالات السياسية والثقافية. يقول : "وكتبت عن السلطان لهذا العهد أبي عبد الله بن السلطان أبي الحجاج ، وقد وصل لأول دولته الأستاذ قاضي حضرة المغرب أبو عبد الله المقري ، رسولا عن السلطان أبي عنان ، وعزم على الإقامة بالأندلس خارجا من عهدة الرسالة . . ."(57).

ومن الأغراض التي شملتها التواصل الدبلوماسي أيضا بين هاتين الدولتين اللتين تجمع بينهما أكثر من علاقة، ما ذكره ابن الخطيب من رسائل تحت هذا العنوان : و - "كتب

 

(1/2966)

 

 

الاستظهار على العداة، والاستنجاز للغداة" :

وهى عبارة عن الرسائل الدبلوماسية التي توخى فيها المسؤولون الأندلسيون من المسؤولين المغاربة أن يكونوا على العهد في إنجاز الوعد بالإسراع إلى مظاهرتهم على العدو العنيد، الذي يتحين الفرص ويتربص بهم الدوائر. وغالبا ما يكون الباعث على هذه الرسائل بهذه الصورة، عندما يكون الخطر مهددا، والهول محدقا، كأن تصلهم الأخبار بإقدام العدو على غزو جهة من جهات الأندلس ، ويحتاج الأمر إلى تعبئة جادة تحسم الموقف .

 

(1/2967)

 

 

وغالبا ما تسود في هذه الرسائل نبر"ت الخوف والقلق على المصير المجهول . ويشتد هذا الأمر غالبا، عندما تكون أوضاع المغرب الداخلية تمر بظروف حرجة قد تحول دون الإمداد و"لإعانة، ويكون التوسل فيها إلى جناب السلطان المغربي ضارعا.

ومما نقتطف أنموذجا، توضيحا وتبيانا، ما جاء في الرسالة التي بعثها السلطان أبو الحجاج يخبر فيها سلطان المغرب ، بما هم به ملك قشتالة ألفونسو الحادي عشر، من إعمال الحركة بقصد الاستيلاء على جبل طارق ، وكذلك مدينة رندة، حيث قال ابن الخطيب على لسان سلطانه : "وبينما نحن من مقامكم الذي

 

(1/2968)

 

 

هو سلالة ذلك المجد. . . إذ تعرفنا أن ملك قشتالة قد طمع في تلك البلاد المذكورة، بهلب عليها، وحشد قومه إليها، وأعلق بها أطماعه ... والحركة إليها في أرضه قائمة، فإن من بها من الحماة وذوي المرتبات قد اختلفت أحوالهم ، بسبب ما تأخر من واجباتهم ، وتعذر في

 

(57) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 353.

 

هذه المدة الطويلة من مرتباتهم ، فتبدد الكثير من عددهم ، وضياع ما توفر على الأيام من أسلحتهم وعددهم ، واشتد الإشفاق على تلك البلاد المسالمة . ..،،(58).

 

(1/2969)

 

 

ومما جاء في رسالة أخرى أيضا قول ابن الخطيب : "فإننا قدمنا مخاطبة مقامكم المؤمل في شأن هذه البلاد، التي عظمت فيها غربة الإسلام وانقطاعه ، وتوجهت إلى استئصال رمقها آمال الكفر وأطماعه ، وتملى عليها الصليب فامتد ذراعه ، وتقدم باعه . . "(59).

ومما جاء في رسالة أخرى مؤثرة في شكلها و مضمونها بما طفحت به من استعطاف للقلوب المرهفة، واستنهاض للهمم العالية، وبعث الأريحية الإيمانية في النفوس الخامدة، قول ابن الخطيب : ". . . وهو أن هذا القطر، الذي تعددت فيه المحارب والمنابر، والراكع والساجد، والذاكر

 

(1/2970)

 

 

والعابد، والعالم واللفيف ، والأرملة والضعيف ، قد انقطع عنه إرفاد الإسلام ، وفتحت الأيدي به منذ أعوام ، وسلم إلى عبدة الأصنام ، وقوبلت ضرايره بالأعذار، والمواعيد المستغرقة للأعمار، وإن عرضت شواغل وفتن ، وشواغب وإحن ، فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته ، ولا يذهب المعروف بكليته ، ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة)،(60). ومن جملة الأغراض أيضا التي عبر عنها التواصل بين هاتين الدولتين ما سجلته الرسائل الدبلوماسية التي رتبتها ابن الخطيب تحت هذا العنوان .

و- كتب الشكر على الهدايا الوردات" :

 

(1/2971)

 

 

وهى عبارة عن رسائل دبلوماسية كتبت ك حبر عن الشكر والاعتراف . بالجميل على الهدايا المتنوعة الو"صلة من المغرب إلى هذا القطر الأندلسي، الذي بات في أمس الحاجة اكثر من أي زمن مضى إلى المحافظة على هذه الصلات والحوادث من أجل ضمان استمرار وجوده المهدد بالانقراض في كل آونة وحين . وبعد التأمل في مضامين مجموع الرسائل المدرجة في هذا الغرض ، وجدنا جل الهدايا الجالبة للشكر - إن لم

 

(58) ريحانة الكتاب ، ج 1، صص 362-363 .

(59)ريحانة الكتاب ، ج 1، ص 367.

(60) ريحانة الكتاب ، ج 1، ص 377.

 

(1/2972)

 

 

نقل كلها - لم تخرج عن أن تكون إما خيولا أو بغالا أو جمالا، أو أنواعا من الأسلحة كالسيوف ، وأموالا من الذهب والفضة، أو ألبسة رفيعة، مثلما جاء في الرسالة التي قدم لها ابن الخطيب بهذا العنوان . راجعت السلطان الكبير أبا عنان - رحمه الله - عن هدية بى حث بها إلى الأندلس ، تشتمل على خيول ، ومهندات محلات ، ومهاميز محكمة، ودنانير من الذهب العين ..."(61).

وهناك غرض آخر شمله التواصل أيضا، وردت فيه مخاطبات ومكاتبات عدة، كما هو واضح من جمهور الرسائل التي جلبها ابن الخطيب في كتاب تحت عنوان:

 

(1/2973)

 

 

ك - كعب تقرير الحوادث :

 

فبعد التأمل في هذه الرسائل ، وعرضها على ظروفها وملابساتها، والنظر في مصادرها، والوجهة التي كانت تصير إليها، وما ذكر في طيها من معان وإشارات، تبين أنها كانت تكتب عندما يتولى على عر!ثر المغرب سلطان جديد، لتقرر له الولاء، ولذكره بالعهد القديم ، وسيرة الأولين من أسلافه ، في إنجاد الأندلسيين ، ولكشف عن سياسة الأندلس الدبلوماسية التي تعتمد على الأخوة الإيمانية، التي لا يشوبها كدر، ولا تتغير تجاه المغرب . رابح 7

 

(1/2974)

 

 

أما النبرة التي جاءت .عليها هذه الرسائل ، فهي نبرة المدح والثناء والإطراء والمبالغة في التغيير عن الود والولاء، بما أكد على فاقة الأندلس ي هذه الآونة إلى من يعنيها سياسيا وماديا لمواصلة الكفاح من أجل البقاء.

 

وهذا لا يعني أن الأندلس لم تكن مستقلة سياسيا، أو أن حكام المغرب آنذاك كانوا يقللون من شأن السيادة والسلطة في الأندلس ، وإنما كانوا في معظم الأحيان يبادرون بالكتابة لب حرفوا بأحوال البلاد.

 

وهذا ما يؤكد على التوازن والتكافؤ السياسي والدبلوماسي والإستراتيجي، الذي كان بين المغرب والأندلس على

 

(1/2975)

 

 

صغر حجمها، وسيادة روح الأخوة الصادقة، والتعاون الحقيقي ، عندما تكون الظروف ملائمة.

(61) ريحانة الكتاب ، ج1 ، ص 388.

 

ومن النماذج التي تكشف عن هذا الغرض ما نقتطفه استشهادا من إحدى الرسائل السلطانية. يقول ابن الخطيب على لسان سلطانه : ".. . فإننا كتبناه إيليكم، كتب الله لكم عناية منه واضحة الغرر، وسعادة يساعدها تصريف القدر، من حمراء غرناطة - حرسها الله - وأبوتكم ومعتمدة بالبر الكريم الآثر، والخلوص المنزه عن الكدر، وعندنا من التشيع لمقامكم مالا تحيله الأيام إذا حالت ، ولا تميل دعائمه كلما مادت أو

 

(1/2976)

 

 

مالت ، رعيا لفضائلكم التي سبقت وتوالت ،(62).

 

وهناك نوع آخر من التواصل كان سائدا بين الأندلس والمغرب ، وإن لم يخص له ابن الخطيب عنوانا مستقلا، في حل له عنوانا مناسبا هو الآخر جريا على العادة فيما تقدم :

 

ل - "مخاطبة الشخصيات المغربية البارزة، وكذلك جمهور الناس :

وسواء أكان الباعث على بروز هذه الشخصيات التي تم التواصل معها العمل السياسي أو المركز الاجتماعي أو المقام العلمي ، وكان موضوع التواصل متنوع الأغراض سياسية واجتماعية وثقافية، وهلم جرا.

 

(1/2977)

 

 

كانت الخاطبات تتوجه إلى الجمهور من الناس في المغرب ، وكان الغرض استنهاض الهمم للجهاد، وبعث الأريحية في قلوب العباد، لمؤازرة الاخوة الذين يكابدون حر الجلاد، وقد تخطف العدو من حولهم البلاد.

 

ومما نذكره استشهادا على هذا ما نقتطفه من رسالة خطيبية، قدم لها يشرح ظروفها بقوله : "ولما توجه شيخ الصوفية السفارة أبو الحسن بن المحروق رسولا إلى المغرب يستدعى الإمداد، ويحض على الجهاد، كان مما رفع به العقيرة بجامع القرويين ، قولي في غرض الموعظة واستوعبه درساه ." يقول ابن الخطيب في هذه الرسالة الموعظة : "أيها

 

(1/2978)

 

 

الناس - رحمكم الله - إن إخوانكم المسلمين بالأندلس قد دهم العدو - قصمه الله - ساحتهم ، ورام الكفر - خيبه الله - استباحتهم ، ورجفت أبصار الطواغيت إليهم ، ومد الصليب بذراعيه عليهم ... الجهاد الجهاد فقد تعين ، الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين ، الله الله في الإسلام ، الله الله في أمة محمد عليه

(62) ريحانة الكتاب ، ج 1، 425.

 

السلام ... فقد استغاث بكم الدين فأغيثوه ، وقد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه ، أعينوا إخوانكم بما أمكن من إعانة... جردوا عوائد الحمية. .. صلوا رحم الكلمة، واسوا بأنفسكم

 

(1/2979)

 

 

وأموالكم تلك الطوائف المسلمة . . ."(63).

 

هذه مجمل الأغراض التي كان التواصل الدبلوماسي بين هذين القطرين المتجاورين يتعهدها، ويصر عليها، ويحافظ عليها، لكي تدوم علاقات التعاون بينهما في جميع المجالات ، كما أكد على ذلك التاريخ في هذه الفترة.

 

آثار التواصل الدبلوماسي في هذه الفترة :

 

لاشك أنه كانت لهذا التواصل الدبلوماسي آثار إيجابية على كلا الطرفين ، وإلا ما كان ليدوم ويستمر طوال السنين ، كما يشهد على ذلك التاريخ المستند إلى الوثائق والآثار التاريخية المتنوعة، وكما تشهد كثافتها بين هذين القطرين

 

(1/2980)

 

 

دون باقي الأقطار المغاربية الأخرى على قرب المكان والزمان . ومن الآثار التي كانت وراء هذا التواصل ما نجمله في النقاط التالية :

 

ا - استمرار البعثات السفارية والدبلوماسية، المحملة بالمكاتبات و"لخاطبات ، متنوعة الأغراض كما شهدنا، إلى درجة التضخم والترام ، بصورة في حلنا لا نبالغ في التقدير، إذا قلنا : إن هذه الفترة هي التي عرفت أغزر تواصل دبلوماسي على الإطلاق ، بالمقارنة مع الجهود السابقة، حيث وصل معدل التواصل إلى اتصال واحد كل شهر تقريبا ما بين مراسلة عادية وبعثة دبلوماسية عالية المستوى، مع

 

(1/2981)

 

 

التنبيه على أن كتاب "ريحانة الكتاب " لم يجمع كل المراسلات التي كتبت كما سلف ، وهذا ما يؤكد على التأثير المتبادل بين القطرين ، والذي يستند على مقومات سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية واستراتيجية قوية تمتع بها الطرفان .

4 - من الآثار أيضا تقريب وجهات النظر السياسية، من الناحية الداخلية والخارجية. فكان التعاون من كلا الجانبين على سيادة الاستقرار واستتباب الأمن بمراقبة تحركات اللاجئين السياسيين من ذوي القرابة في كلا البلدين ، وكذلك متابعة

 

(63) ريحانة الكتاب ، ج 1 ، ص 61 – 62.

 

(1/2982)

 

 

تنقلات الشخصيات ذات الوزن المؤثر في الوسط السياسي خشية التأليب والتشغيب. ويؤكد هذا ما ذكر تحت عنوان "كتب الشفاعات " الذي أشرنا إليه آنفا. وشمل التعاون على المستوى الخارجي تبادل الاستخبارات السياسية والعسكرية، وإن كانت الأندلس هي صاحبة الحظ الرغيب في هذا الأمر بحكم القرب من موقع الصراع . وكان التجاوب من جهة المغرب من موقع الالتزام بالنصرة، الذي تفرضه العقيدة المشتركة، وكذلك من موقع الإيمان بأن الأندلس هي الحاجز الأمني، الذي يحول دون النصارى لتحقيق طموحاتهم التوسعية المتنامية كما سيؤكد هذا

 

(1/2983)

 

 

التاريخ فيما بعد.

3 - من الآثار أيضا تقريب المسافة المكانيه بين القطرين ، بحيث دلت كثافة الاتصالات على هذه الحقيقة إلى درجة يمكن أن ف حدها تحطيما لرقم قياسي في الاتصال بما كشف - دون شك - على التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال من تنظيم للبريد، وإحكام عمله ، والخبرة المتزايدة بشؤون ركوب البحر. ولاشك أن العامل الرئيس الذي مكن من هذا التواصل السريع ، بالمقارنة مع التواصل الذي كان سائدا قبل الموقع الجغرافي الجديد الذي أصبحت الأندلس تحتله على عهد هذه الدويلة الصغيرة، ألا وهو الساحل الجنوبي لشبه

 

(1/2984)

 

 

الجزيرة الأندلسية، الذي لا يبعد كثيرا عن السواحل المغربية في بر العدوة .

 

4 - من الآثار أيضا تبادل الكفاءات في مختلف المجالات الثقافية والدينية وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة لخطة القضاء، ورسم كتابة الدولة، خاصة إذا علمنا أن الأندلس على ذلك العهد كانت تتوفر على كفاءات فكرية ودينية وأدبية عديدة، ضمنت التأثير في المغرب عن طريق الزيارات المختلفة، سواء من قبل العلماء أو الطلبة، وساعدت على مد الجسور في هذه المجالات المذكورة، كما أن المغرب نفسه كان يحتضن (ل حديد من الشخصيات الأندلسية الهامة العائدة من

 

(1/2985)

 

 

حيث الأصل إلى الأسر الأندلسية المهاجرة من قواعدها الأندلسية التي سقطت في أيدي النصارى. ، - التأثير والتأثر المتبادل من الناحية الاجتماعية والعمرانية. وفي هذه الناحية كانت الأندلس أيضا قوية في تأثيرها، لما كانت تتمتع به من تقدم حضاري كبير،

 

ساعد عليه تراكم الخبرات بتراكم السنين ، التي عرف بها أهل الأندلس الاستقرار والازدهار كما هو معروف . يقول ابن خلدون مؤكدا هذه الحقيقة الحضارية والتاريخية في فصل "في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها : "وهذا كالحال في الأندلس لهذا

 

(1/2986)

 

 

العهد : فإننا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة، وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها. . . وما ذلك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيم لم برسوخ الدولة الأموية وما قبلها من دولة القوط (64).

وهذه العوامل كلها كافية لفرض التأثير من قبل الأندلس كما تؤكد ذلك السنن الاجتماعية والحضارية، عندما يكون التو"صل واسعا.

 

6 - التأثير الذي يضمن تحقيق ما يرد في طي المكاتبات من مطالب مادية، تقتضيها الظروف الصعبة، كما رأينا في المكاتبات التي كانت بغرض الاستنجاد، وطلب الإمداد المادي والعسكري . وهذا

 

(1/2987)

 

 

راجع إلى العناصر الشكلية للتواصل الدبلوماسي. أكبر شاهد على ذلك السفارة التي ترأسها ابن الخطيب ، واستهلها عند الوصول بقراءته الشعرية. وكان تصريح سلطان المغرب على الفور بإنجاز كل ما جاء لطلبه ، دون أن يعرف ماهية الطحلب . وهذا ما كان ليكون ، لولا قوة العناصر المشكلة لهذا التواصل كما ذكرت ، المتمثلة في شخصية ابن الخطيب الفذة ذات الوزن السياسي والعلمي المعروف ، وكذلك أسلوب الرسالة الدبلوماسية القوي المؤثر الذي عرف به ابن الخطيب كما ذكرنا.

 

(1/2988)

 

 

6 - من آثار هذا التواصل أيضا التخفيف من حدة التكالب على الأندلس من جهة العدو النصراني . ولقد أشار ابن الخطيب إلى هذه الحقيقة في اكثر من رسالة . لقد كان النصارى يخشون دائما هذا التحالف والتعاون بين الأندلس والمغرب ، يخشونه مخافة أن يحول دون تحقيق أطماع التوسع على حساب هذه الدولة الصغيرة، ويخشونه أيضا مخافة أن يشكل التحالف دولة قوية موحدة تأخذ على عاتقها مهمة استرجاع القواعد الأندلسية التي اغتصبوها إبان ضعف المسلمين .

 

(64) المقدمة، ابن خلدون، ج 1 ، صص 938-939 .

 

(1/2989)

 

 

والدليل على هذا الأمر أن النصارى ما كانوا يجرؤون على اقتحام الأراضي الأندلسية أو المغربية إلا إذا تأكدوا من ضعف العلاقة بين هذين القطرين الشقيقين . فكانوا يغتنمون الفرص ، ويتربصون بالمسلمين الدوائر في الظروف الصعبة التي قد يمر بها كلا البلدين.

 

ولما كان التواصل بين المغرب والأندلس في هذه الفترة قويا، لم يسجل التاريخ اعتداءات مؤثرة، باستثناء القليل النادر.

الرسالة الدبلوماسية : دراسة شكلية :

 

كانت الرسائل التي يدبجها ابن الخطيب ليطار بها إلى الجهات المختلفة تخضع لمقاييس فنية وركية متفردة . وهذا

 

(1/2990)

 

 

التفرد مرده من جهة إلى تميز المكاتبات الأندلسية بصفة عامة عن باقي الأقطار الإسلامية الأخرى(65) حيث يمكن الزعم أن كل قطر إسلامي تحقق لديه ترام حضاري نسبى كان يتخذ لنفسه أدبيات وبهيات متميزة، تكون بمثابة الختم البريدي ، أو الشعار الخاص ، الذي يباينه عن سائر الأقطار والأمصار .

 

ومرده من جهة ثانية إلى إبداع ابن الخطيب الخاص ، في هذا الشأن ، حيث يرجع إليه الفضل في إحداث تغييرات طفيفة في الرسالة السلطانية، بما امتلكه من قدرة على البيان ، واتساع نطاقه في علم اللسان .

 

(1/2991)

 

 

لقد تفاوتت أحجام هذه الرسالات طولا وقصرا. إلا أنه يمكن التنبيه على أن ابن الخطيب كان طويل النفس في ميدان الرسالة، حتى إن الإنسان ليقضي العجب ، ويتملكه الإعجاب والاندهاش إلى حد الذهول ، وهو يتصفح رسائلها الدبلوماسية. ونخص بالذكر هنا رسالة حظيت بإعجاب العديد من المهتمين قديما وحديثا، وكانت مصدر فخر واعتزاز من جانب ابن الخطيب نفسه حيث أنافت عن الثلاثين صفحة. أما عناصر الرسالة السلطانية، فهي كالتالي :

 

(65) ينظر على سبيل المثال: صبح الأعشى، القلقشندي، ج 1 ، صص 107-108.

 

(1/2992)

 

 

- التقدير بالثناء والإطراء المبالغ فيه الذي تحشر فيه الألقاب ، وتنحت فيه الأسماء، وتخترع فيه الأوصاف ، مدحا يخص به السلطان الخاطب ، وفي نفس التقديم يخص السلطان الباعث بألقاب مادحة، لا تقل من حيث الغنى عن تلك التي حلي بها المخاطب.

 

- ثم بعد ذلك يشير إلى المكان الذي صدرت منه هذه الرسالة. وغالبا ما تصدر من مكان واحد، هو حمراء غرناطة، إيوان الدولة وديوان الإيالة، يسهله بقوله : "أما بعد حمد الله ، فإنا كتبناه إليكم من حمراء غرناطة"، ويخصص لها ثناء فاخرا هي الأخرى.

 

(1/2993)

 

 

-ثم يكون موضوع الرسالة، الذي يكشف فيه الأغراض ، ويجلي فيه المطالب ، ويسرد فيه الوقائع ، ويشرح فيه الأحوال إذا اقتضى ذلك المقام .

 

- ثم يشير إلى رؤساء البعثة الدبلوماسية الحاملين للرسالة مجليا عن مراكزهم الاجتماعية والسياسية لإضفاء الشرعية والمصداقية على السفارة. ثم يختم الرسالة بالسلام على الخاطب قبل أن يسجل التاريخ المفصل للمراسلة.

 

- ثم يكون الختم الذي يكون بمثابة التأشيرة الدبلوماسية، وكان هذا الختم عبارة "صح هذا".

 

(1/2994)

 

 

- أما أسلوب الرسالة، فكان الصياغة المسرحة التي يغلب عليها التكلف والصنعة. واستعمال السجع في هذا المقام له مبرراته ! فقد كانت وظيفة الكتابة والإنشاء على ذلك العهد في جميع الأقطار تتطلب أسلوبا ص حينا، تغلب عليه القوة والجزالة المتمثلة في ركوب السجع ، وإظهار البراعة، والقدرة على البيان ، والإطلاع على المعارف المتنوعة، إذ كان ذلك جزءا من سياسة الدولة ومراسيمها، حتى تبدو قوية وسط المجتمع الدولي الذي يحيط بها(66).

 

(1/2995)

 

 

(66) تراجع رسالتنا للماجستير، لسان الدين ابن الخطيب وابن خلدون : دراسة تاريخية مقارنة، صص 268-269.

 

قائمة ببعض المصادر والمراجع المعتمدة :

 

1 - الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب ، تحقيق محمد عبد

الله عنات ، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1974 .

2 - ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب ، لسان الدين بن الخطيب ، تحقيق محمد عبد الله عنان ، مكتبة الخانجي ، الطبعة الأولى،1911.

3 - كناسة الدكان بعد انتقال السكان ، لسان الدين بن الخطيب ، تحقيق د. محمد كمال شبانة، مراجعة حسن محمود، وزارة

 

(1/2996)

 

 

الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي ، القاهرة، بدون تاريخ

4 – اللمحة البدرية في الدولة النصرية ، لسان الدين بن الخطيب ، لجنة إحياء التراث العربي ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ، الطبعة الثالثة، 1980.

5 – أعمال الأعلام ، لابن الخطيب تحقيق ليفي بروفنسال ، دار المكشوف ، بيروت ، الطبعة الثانية، ،1956.

6 - كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، لابن خلدون ، دار الكتاب اللبناني - مكتبة المدرسة، بيروت ، 1983.

 

(1/2997)

 

 

7 - التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، دار الكتاب اللبناني. دار الكتاب المصري طبعة 1970.

8 - المقدمة، لابن خلدون ، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي ، دار نهضة القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ .

ر - الأنيس المطرب بعروش القرطاس في أخبار ملوك المغرب تاريخ مدينة فالهر، علي ابن أبي زرع الفاسي ، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط ،1973.

15 - الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، دار المنصور للطباعة، المغرب ، 1872.

 

(1/2998)

 

 

11- بهابة المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ، ابن عذاري المراكشي ، تحقيق ومراجعة ج .س . كولان وليفى بروفانسال ، ط.2 ، لبنان ، دار الثقافة، 1400هـ / 1980 م .

 

12 – جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فالس ، ابن القاضي المكناسي ، دار المنصور للطباعة والوراقة، المغرب ، طبعة 1973.

 

13- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، طبعة حيدر آباد، 1350.

 

14- أنباء الغمر بأنباء العمر، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق حسن حبشى، مصر، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية،

 

(1/2999)

 

 

لجنة إحياء التراث (لإسلامي د.ت.

15 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، أبو الفلاح عبد الحي الحنبلي ابن العماد، منشورات دار الآفاق الجديدة، لبنان 138هـ / 1977 م.

16- تاريخ الدولتين الوحدية والحفصية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الزركشي ، تونس ، الطبعة الثانية، 1977.

 

17- نفح الطيب، المقري، تحقيق د.إحسان عباس ، دار صادر، بيروت ، لبنان ،

1388 هـ / 1967 م.

 

18– أزهار الرياض ، صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة، 1140 م / 1980 م.

 

(1/3000)

 

 

19 - الاستقصا، الناصري ، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري ، دار الكتاب ، الدار البيضاء، ،9 ر ام . 5ر

20 - صبح الأعشى، القلقشندي ، تحقيق محمد حسين شمس الدين ، دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى، 1407 هـ / 1987 م.

21 – ابن الخطيب من خلال كتبه ، محمد بن أبي بكر التطواني ، دار الطباعة المغربية، تطهوان ، المغرب ، ، 1954م .

22 – تاريخ إفريقية الشمالية، شارل أندري جوليان ، ترجمة محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، 1398هـ / 1978 م.

 

(1/3001)

 

 

23- نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ، عمد عبد الله عنان ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثالثة ،1368 هـ / 1966م.

24- لسان الدين بن الخطيب ، حياته وتراثه الفكري ، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1377 هـ / 1968 م.

25- مع شعراء الأندلس والمتنبي ، إميليو غرفي ، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار المعارف ، الطبعة الرابعة 1407 هـ / 1985 م.

26- تاريخ المغرب الإسلامي والأندلس في العصر المريني ، عمد عيى ،لح!ثم . الطبعة الثانية، الكويت ، دار القلم للنشر والتوزيع ،1408 هـ / 1978 م.

 

(1/3002)

 

 

الثقافة وتبليغها بالأندلس في عصر الريادة (من القرن2 إلى 4 / 8 إلى10 م )

 

الدكتور إبراهيم حركات

كلية الآداب - الرباط

قد يكون استعمال مصطلح (الثقافة) أو (المثقفين ) غريبا بالنسبة لعصور الحضارة الإسلامية، فقد عرف المسلمون في هذه العصور كلا من العالم والأديب والمشارك ، وماعدا هؤلاء فيتميز بخصوصيته كالنحوي والطبيب والنباتي . ولا يوجد مصطلح يوحد بين فئات المثقفين أو عناصر المعرفة عموما. ولذلك لا مفر من استعمال مصطلح حديث لمفاهيم قديمة.

 

(1/3003)

 

 

فماذا كانت الصيغة الثقافية التي تجسم إطار المعرفة في عصر الريادة ؟ إنها تبرز قبل كل شئ في إطار المعرفة الدينية التي يتوجها الفقه والحديث ، ففي القرن الثاني (الهجري ) الذي يبدأ هذه المرحلة، لازال الفقه والحديث يرتبطان بمصادر المعرفة البشرية التي تقترب من عصر التابعيين ، و تابعي هؤلاء، بل هي أقرب إلى مصادر الرواية الشفوية المنتمية إلى صدر الإسلام من سائر الأجيال المتلاحقة بعد هذا القرن . وهذا هو شأن الصيغة الثقافية الدينية التي عرفتها الأندلس والقيروان أيضا. ومن ثم فالمصادر التي تستقى منها

 

(1/3004)

 

 

الثقافة الدينية الأندلسية هي نفس مصادر أهل الشرق . وقد يختلف الأمر في المعارف اللغوية التي كان روادها الأولون مشارقة ركبوا جذور هذه (المعارف و وضعوا أركانها بشكل متين قبل أن يغترف المغاربة من معينها ويخضعوا تركيبها وقواعدها لأسلوبهم الخاص في مرحلة لاحقة . ومع ذلك فقد وجدت

 

الدراسات اللغوية إقبالا كبيرا في الأندلس تحصيلا وإنتاجا، كما أن الثقافة الفقهية أخذت نصيبا من الاجتهاد في أكثر من وجه ، وإن بدأت مدرسة الرأي تتوسع اكثر فأكثر. بل هناك وجود بارز لمذاهب سنية أخرى غير المذهب المالكي كما سيرد

 

(1/3005)

 

 

تفصيل ذلك ، وقد يكون الأدب من أهم فروع الثقافة التي أعطت للوجه الأندلسي خصوصياته ابتداء من هذه المرحلة، لاسيما في مجالات الأدب الاجتماعي ووصف الطبيعة، ومظاهر الحضارة، بينما تظل منابع الثقافة الأدبية شرقية في مجملها أو متأثرة بالمشرق . وأخيرا في مجال الثقافة المرتبطة بال علوم الرياضية والتجريبية لم تواكب الأندلس المشرق في تقدمه و إشعاعه خلال هذه المرحلة، فالدولة الأندلسية في أية حال كانت ميزانيتها بعيدة جدا عن ميزانية السلطة العباسية التي تتنوع مواردها برا وبحرا، عبر أقطار عديدة . أما موارد

 

(1/3006)

 

 

الأندلس ففي أحسن الظروف يخص ثلثها للجيش و ثلث للقصور والمرافق العامة و ثلث على سبيل الاحتياط . وهذه على الأقل كانت الوضعية حية خلال النصف الأول من القرن الرابع الذي يمثل أحسن فترات الحكم الأموي . وفي الواقع كانت الحاجة ماسة إلى الثقافتين ، الدينية، والأدبية لملء الفراغ في التأطير، سواء في مجالات الإدارة أو القضاء أو التعليم أو الوظائف الدينية..

ومع الحاجة إلى الإطارات لم تكن هناك ثقافة محنطة أو مصممة مقدما، حتى مع نفوذ هيئة الفقهاء، كما هو الشأن في الأنظمة المغاربية عموما. لكن المناخ الاجتماعي

 

(1/3007)

 

 

يفرض مرونة خاصة بالمجتمع الأندلسي الذي ترتفع فيه أعداد المولدين بشكل يحتاج إلى تفتح لا مناص منه في غيرما يمس المقدسات . وهكذا و عندما تفجرت ثورة المولدين كان ذلك إيدانا باستحالة تجاوز سقف التفتح الإسلامي ، وبالتالي فقد اصطدمت ثقافتان إحداهما إسلامية والأخرى تدين بولاء غير مقبول للثقافة المسيحية، على الرغم من دورها الكبير في تكييف الثقافة الإسلامية.

 

إن المشرق لم يعط كل شيء للأندلس . فهذا القطر نجح في خلق ذاتيته فكريا كما نجح في ذلك سياسيا واجتماعيا واقتصاديا إلى درجة أنه تحكم بسهولة في تنحية

 

(1/3008)

 

 

الأفكار والنظريات المناهضة للسنة والوافدة من الخارج ، لأن المجتمع الأندلسي تعاون مع السلطة في مرحلة الريادة، من حيث نشأتي تحديات في المرحلة التالية يتنازعها الجانبان السياسي والديني . ومرحلة الريادة لا تنع ...

زل عن باقي المراحل في وجود أنماط

 

من التعايش أو العداء بين السلطة والمثقفين حسب الظروف والرؤى لدى كل من

الفريقين ، وحسب التوجه الفردي للمثقفين أيضا. المثقفون والسلطة كانت هناك فئة كبيرة من المثقفين الذين يتقربون إلى السلطة على الرغم من أن سعة معارفهم قد تيسر لهم أسباب الرزق خارج دائرة

 

(1/3009)

 

 

السلطة. وهناك من استطاعوا أن يجمعوا بين رضا السلطة العليا ورض المجتمع كما هو شأن ابن عبد البر الكشكيناني الذي شغل منصب الشورى في القضاء وعرف بعلمه وزهده ، وكان الحكم المستنصر يجله ، شأنه في ذلك ، شأنه مع آخرين بينهم من يعيش على الكفاف ويخالطون السلطة ناصحين إياها غير متهبين . ولم يكن عدد هؤلاء، كبيرا، كبره في هذا العصر بالذات . وتتعلق هذه الأصناف وغيرها ضمن الحاشية في العاصمة ومراكز الأقاليم (ا)، ولكل طريقته في التعامل مع كبار المسؤولين .

 

(1/3010)

 

 

وقد تميزت الأندلس دون غيرها من أقطار الإسلام بكثرة الطامحين فيها إلى المسؤولية من طبقة الفقهاء. وشجع هذه الفئة على خوض غمار السياسة والمسؤولية، ما كان من خر وقات السلطة القائمة وجورها الضريبي و تعديات عملائها. ولقد فشت هذه الظاهرة في المرحلتين التاليتين ولكنها لم تخل من وجود خلال المرحلة الأولى. وثورة الربض مظهر بارز للنفوذ الشعبي لطبقة الفقهاء في هذه المرحلة بالذات ، والذي كان يكشف من غير سرية، عن حاجة الفقهاء إلى المزيد من السلطة على حساب النظام القائم الذي لا يبالي بماذا يريده المجتمع

 

(1/3011)

 

 

وفقهاؤه في "كثر من حالة.

وعمل كل من الحكم المستنصر والمنصور بن أبى عامر، على رعاية المثقفين بشكل لم يتقدم له نطير في العصر الأموي ، لكن الثاني وهو فقيه كبير وأديب متذوق كان عمله تجاه الثقافة والفكر، احتوائيا هدفه ردع المعارضين والمنافسين ، وطمأنة الصامتين والمتملقين . فالمنصور كان وصيا على عاهل محجوب ومهمش، والبطانة التي

 

(1( ابن حيان ، المقتبس ، ج5، ص 409 عياض ، مدارك ، صص 6-119-128-7-23-8-26

 

اختارها المنصور هي بطانة من نوع جديد من المثقفين الذين وجهوا سهم لإرضاء السيد القائم وهيئوا لنظام

 

(1/3012)

 

 

الطوائف الذي أصبح فيه العلماء والأدباء مجرد حاشيات تتنافس في الولاء وتقدم بيعتها لمن بعطي أكثر.

 

وكان الحكم المستنصر فقيها مطعا على المذاهب ، وله عناية مباشر بالعمل الثقافي الذي عززه بخزانته الشهيرة. وقد جنى ثمار الجهد الذي بذل سلفه عبد الرحمن الناصر في ردع المعارضين وتنمية موارد بيت المال ، ولذلك عمل الحكم على جلب أعداد كبير من المثقفين من مختلف الأقطار الإسلامية، وانشغال بعضهم بالتأليف وبعضهم بالمقابلة بين المخطوطات ، وآخرون بالتدريس أو مهمات أخرى. وعندما بويع نجله هشام كانت قرطبة، ومدن

 

(1/3013)

 

 

الأندلس الأخرى قد بلغت أوج ازدهارها الفكري ، حيث كان "من الأعلام هضاب راسية، فسار في العلم زاخرة، وأعلام قولهم مسموع ، وبرهم مشروع ، وأثرهم متبوع " كما قال ابن الخطيب (2). واستغل المنصور بن أبي عامر هذا الازدهار فحوله لتحسين سمعته وتعضيد سطوته . هكذا أسند إلى عدد من العلماء والأدباء مهمة تأليف مجموعة كبيرة من المؤلفات ، من بينها "كتاب في الأوائل ممالك "، من عمل ابن المكوي الاشبيلي ، والفقيه المعطي.وذكر ابن الأثير أن كتبا كثيرة ألفت في مناقب المنصور(3)، وهذا يؤكد أنه كان سخيا تجاه حاشيته من

 

(1/3014)

 

 

المثقفين الذين ألفوا هذه الكتب امتنانا لرعايته ، ومن بينهم حسين بن عاصم صاحب "المآثرالعامرية،(4).

وكان للمنصور مجلس علمي أسبوعي بقرطبة لا يتخلى عنه إلا للغزو، ويناقش في فئة العلماء وغيرهم من المثقفين ، ولكن يظهر أن مجالسه الأدبية لا تضم ذوي الوقار من الفقهاء، وفيها تجري المساجلات والمناقشات الشي حرية وغيرها، ومن حضها لم يكن يخلو من السكر والطرب والرقص (5). وحيث إن هذه المجالس تعد من باب التسلية الفكرية والأدبية، والتي يلجأ إليها المثقفون وحتى غيرهم من كبار المسؤولين ،

 

(1/3015)

 

 

(2) الحميد، حذوة المقتبس، ص 38. بن الأثير، الكامل ، ج 7، ص 38،ابن الخطيب ، أعمال الأعلام ، ج2،ص 48، الإحاطة، ج 1 ، ص 478.

(3) الحميدي ، جذوة، صص 124. 377 ،ابن الأثير ، الكامل ، ج 7 ، ص 216 (4) جذوة ، ص 181 .

(5) ن .م ، ص 73. المقري ، نفح ، ج 4 ، صص 93 – 228 - 243 .

 

فإنها لا تعنى بتدارس الأوضاع الداخلية أو الخارجية، لأن ذلك يترك للوزراء والقواد عندما يستشيرهم السلطان الذي يبقى قراره نهائيا وبدون معارضة. وهذا ما قي حلق خصوصا بالمنصور الذي شغل العمل العسكري معظم اهتمامه ، ولم يقض نحبه حتى كانت

 

(1/3016)

 

 

فئات العلماء والأطباء والمثقفين من مختلف الاتجاهات قد انتهت إلى أكبر عدد ضمه بلاط أموي ، كما كانت أرزاقهم سنية حسب ابن الخطيب (6)، وكان من مختلف ابن عبد النميري المحدث القدير، الذي مع جلال شخصيته ورحى ورحميا إلى بلاط المنصور يطلب رعايته وخدمته كما يوضحه نص رسالة نقلها المقري في "نفح الطيب "(7). وعندما عالم فيما بعد، أن هناك من انتقد مشابهته في المآدب الملكية وقبوله لصلات العاهل ، رد على ذلك بسرد لائحة طويلة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الشخصيات الجليلة في القرن الأول ، والذين كانوا يقبلون

 

(1/3017)

 

 

صلات الخلفاء وذوي السلطة(8).

 

وارتباط عدد من الفقهاء والمثقفين بوظائف الدولة لا يضعهم جميعا في صف واحد من حيث التعامل معها. فبينهم القنوع بمورده مهما قل ، دون أن يجشم نفسه عناء التقرب إلى الكبار من أجل ترفيع أو إنعام ، وبينهم الذي ينتظر أول فرصة تسنح لينسلخ عن مناصب الدولة مهما عظمت، وهناك الفئة التي لا يغريها القرب من السلطة لخط من نفوذها وسطوتها. وقد قيل عن الفقيه المشاور أبي إبراهيم إنه تملص من حضور حفل إعذار أقامه الناصر، فكتب إليه مستفسرا، ورد الفقيه بالثناء على الخليفة مكاتبة وبالتنويه

 

(1/3018)

 

 

بأسلافه الذين كانوا حسب قول الفقيه يصونون كرامة فئة من الفقهاء يتلافون بذلك ما قد لا يروق لهذه الفئة، ويحتمون بها عند الحاجة لدينهم (9).

 

ويبقى وجود المثقف في جميع الأحوال ضروريا لسير جهاز الدولة لاسيما في الأعمال التي لا يؤديها غيره ، ولو أن حضوره في القطاعات الحرة بمثل نسبة عالية قد تفوق في الأندلس بالذات ، نسبة المثقفين في الأجهزة الركية التي ليس كل موظف بها مثقفا. وقد يكتب المثقف في القطاع الحر كالتجارة مثلا، نوعا من الشعبية قد يضايقه في

 

(6) ابن الخطيب ، أعمال ج 2 ، ص 84.

 

(1/3019)

 

 

(7) نفح ، ج 2، ص 129.

(8)نفح ، ج4، صص 219، 221.

(9)ر) المقري ، أزهار الرياش ، ج 2 صص 282، 286.

 

عمله اليومي لكثرة الأصدقاء والمتعاطفين . وهذا العصر بالذات جسم مثال الورع والكفاف لدى الفئة الغالبة من العلماء الذين تحلوا بالفضائل بي حيدا عهن المغامرات الدنيوية، وهذه بعض النماذج على كثرتها(10) .

 

كان ابن وضاح (قرن 3)صبورا على الجفاء، سمحا بعلمه ، لا شغل له غير العبادة ونشر العلم.

 

ابن القزاز القرطبي (قرن 3) كان لا يذكر في مجلسه إلا القرآن و العلم ، ولا يبتسم أحد في مجلسه ولو من أولاد الملوك ،

 

(1/3020)

 

 

ولم يطلب قط شيئا من ذي سلطان أو جاه.

 

قاسم بن حامد الأموي من أهل رية، حبس كتبه وكان ناسكا مع فقره و! قلا له.

- محمد بن طاهر التدميري (قرن 3) عالم ناسك عاق على النسخ ، ثم على فلح أرض له بيده ، وأخيرا يغزو ويتقوت من أسهمه الشرعية. ومات في الجهاد عن سن الثانية والأربعين . وفي الواقع قي حذر استقصاء الأمثلة التي تجسمها أجيال في عاقبة، فلا عجب أن يعمل الملوك على تقريب اكثر ما يمكن من الفقهاء والعلماء الذين يمثلون الفئة التوفيقية التي تحاول بدورها التقريب بين السلطة والمجتمع (11)، ومعظم هذه الفئة من

 

(1/3021)

 

 

الفقهاء تجافت عن الدسائس فيما بينها أو فيما بينها وبين خصومها، بينما كان الأمر بخلاف ذلك في أوساط الأدباء. لكن الدسائس في أوساط المثقفين عموما، وداخل دوائر السلطة، اتسع نطاقها في المرحلتين اللاحقتين ، حيث وعمقت دوافع التجاذب بين الفكر والسياسة.

 

- وظاهرة رفض التعامل مع السلطة أو الانعزال عنها كانت فاشية في مرحلة الريادة بشكل يلفت الانتباه ، وهذا بالإضافة إلى أولئك الذين حتى مع شواغلهم في

 

(10) الحميدي ، جذوة المقتبس عياض ، مدارك ، ص 437-444-445-446، ! المقري ، نفح ، ج 3، ص 4.

 

(1/3022)

 

 

(11) ابن خلدون ، تاريخ ، ج 4 ، ص 227.

 

القطاع الرسمي يحتاطون في مسألة التقرب من السلطة أو مخالطتها في غير ضرورة. وهكذا فلم يكن نادرا أن يرفض كثيرون منصبا ساميا كالقضاء أو كتابة البلاط ، ولذلك كانت ظاهرة الانطواء فاشية في وسط المثقفين ، في هذا العصر أكثر من غيره ، خصوصا مع نشوب الاضطرابات المحلية والإقليمية. وقد تحدث العزلة ظرفيا أو في مرحلة معينة من العمر، كاعتزال الفقيه المعيطي، الذي تخلى في أواخر عمره حتى عن الفتيا وانقطع كليا للعبادة : وكالفقيه حماد بن عمار الذي رفض المناصب (12) وحتى التدريس

 

(1/3023)

 

 

في ظروف الفتنة التي عصفت بالعامرين واعتزل الناس متعبدا.

 

وكذلك فإن المثقفين يرفضون وظائف الدولة لسبب مشترك في الغالب ، هو الابتعاد عن الانحراف أو تشجيعه ولو بكيفية غير مباشرة. ومع ذلك فهناك أسباب خاصة كوضعية ابن مدراج الطليطلي الذي رفض في مطلع شبابه الالتحاق ببلاط الحكم عندما تبين نبوغه المبكر وهو ضمن وفد من مدينته . وحتى في حاط الانتساب إلى سلك الوظيفة كان هناك كثيرون يتشبثون بأوضاع تبعده عن السلطة كابن المكوي الذي بض قضاء الجماعة مكتفيا بالفتيا التي برز فيها. وكذلك قبل ابن المعلم القرطبي

 

(1/3024)

 

 

الشورى وامتنع عن القضاء، كما أن الفقيه القنازعي لم يقبل القضاء، ولا الشهادة واكتفى باك حليم في حالة من الزهد والنسك ، مع مخالطة الفقراء والمساكين (13).

 

والسلطة لا يؤمن جانبها حتى مع ما تغدقه على المحظوظين المقربين ، فقد عافى المحنة والسجن مثقفون كثيري ما تتجاوز عقوبتهم ما اقترفوه ، وربما أخذوا بي حاية. وهكذا فالأديب أحمد الجياني الذي ألف للحكم المستنصر في الأدب كتاب "الحدائق "، ألقي به في السجن حتى مات به لأمر نقمه عليه كما قال ياقوت . وتبدأ محنة الأدباء والمثقفين تأخذ بعدا أكبر مع القرن

 

(1/3025)

 

 

الرابع ، حيث السجن مال عديدين . وقد اتهم يوسف الرمادي من كبار الشعراء بهجو الحكم فأودعه السجن حيث وضع ديوانا من عدة أجزاء في وصف الطيور وخواصها. وألف أيضا

(12) ابن شكوال ، الصلة، صص 148-153-364-453. عياض ، مدارك ، ج 7، صص.119-228 ، المقري ، نفح ، ج 3 ، ص 6.

(13) مدارك، ج 7، صص . 30-127-145-292.

 

"المنتزين والقائمين " خصصه للثورات وأحداث الرد التي عاصرها أو سبقت عصره بالأندلس. وحكم على الأديب الشاعر قاسم الشبانسي بالقتل فأدخل السجن في انتظار إعدامه ، لكنه نجا من القتل بسبب قصيدة استعطف بها

 

(1/3026)

 

 

المنصور بن أبي عامر ورجاه أن يعيد التحقيق في تهمته، بينما وضع مروان الطليق، من سلالة الناصر، في السجن ستة عشر عاما قبل إطلاق سراحه ، وشبه أدبه ووشعره بإبداع ابن المعتز بني العباس (14) ولم تشهد مدينة من مدن الأندلس كالذي مر على قرطبة من محن وأهوال مست الجماهير والفئات المثقفة، كمقتلة العلماء في وقعة الربض وإيداع العشرات من المثقفين السجن الذي هلك فيه كثيرون بدون محاكمة في أكثر الأحيان . وكان العلماء يتكتلون ضد العواهل المنحرفين عن الجادة والعاجزين عن الحكم لصغر أو نقص مقدرة، وهذا ما يؤدي إلى

 

(1/3027)

 

 

تعريضهم للمحنة وحتى البطش. وقد رفض بعضهم ولاية هشام المؤيد فبطش بهم المنصور بن أبي عامر الذي حجب هشاما عن السلطة . وأقسى محنة و"طولها مدة هي التي تم فيها إسقاط العامريين وشبت الفتنة بين البربر والعرب . وكان من ضحاياها الفقيه ابن الفرض الذي قتله البربر سنة 4.3، كما قتلوا غيره كابن الجالطي وراشد بن إبراهيم الذي ذبح في الطريق خارج قرطبة. وقام الأندلسيون أيضا بمذبحة مروعة لم يرحموا فيها العلماء من البربر كخلق بن مي مسعود الجراوي الذي قتلوه ذبحا. وقد قتل العلماء من الفريقين بالعشرات إما اغتيالا أو

 

(1/3028)

 

 

دفاعا عن أنفسهم وأسرهم. وبعضهم فقدوا فلم يعرف لهم أثر. وهلك بعضهم خلال الفتنة في المطبق ، وسلم إلى أهله بقيوده . وهذه حال ابن المحتشم القرطبي، كما ساق البربر القاضي يحيى بن وافد مجرورا بعمامته فكاد المستعين يصلبه لولا شفاعات العلماء والصلحاء فقيد بالمطبق واعتل به حتى

هلك (15)

(14) الحميدي ، جذوة، صص 310-321-349. ياقرت، معجم الأدباء، ج 4 ص 237.

(15) مدارك ، ج 7، صص 205. ج 8، ص 25.ابن شكوال ، الصلة، صص 175-184-252-339-463-464-465. النباهي ، مرقبة، ص 88. المقري ، نفح ، ج 1، ص 330 .ج 2 ، ص 330.

 

(1/3029)

 

 

المثقفون في الغزو والجهاد

 

يدعى العلماء والصلحاء إلى المشابهة في الغزوات وأعمال الجهاد في الأنظمة الإسلامية عموما ليكونوا قدوة لغيرهم ، وليحمسوا الجيش ويبصروه بواجباته الدينية ومسؤولياته في الدفاع عن العقيدة. وكذلك يحضر في الغزوات مثقفون من غير العلماء متطوعين أو مدعوين من العاهل في النظام الأموي كما في غيره . وقد أعفى أحد الأدباء من غزوة مع الحكم المستنصر مقابل قيام الأديب بتجميع أف حار خلفاء بنى أمية بالمشرق والأندلس . وبين المثقفين من يرابط بالثغور مجاهدا أو حارسا أو متطوعا لتعليم المرابطين.

 

(1/3030)

 

 

ولا يعود كل المجاهدين إلى بيوتهم وذويهم فقد يستشهد عدد منهم أو يؤسر أو يفقد. ومن الأدباء والعلماء الشهداء أو المفقودين محمد بن عطاء الله النحوي ومحمد بن عبد السلام التدميري ومحمد بن ظاهر ومحمد بن قاسم ويحيى بن حجاج والقاضي الجذامي معاصر المنصور بن أبي عامر والمحدث يحيى بن أصبح والمحدث إبراهيم بن داود وعشرات غيرهم . وفيهم الفارس الشجاع والذي يرابط قصدا للغزو حتى يستشهد. وكذلك كان فيهم من يتطوع من ماله إن كان ميسورا لإطعام حامية أو ترميم رباط أو بنائه وما إلى ذلك (16). ولم تضعف هذه الظاهرة قط

 

(1/3031)

 

 

خلال مرحلة الريادة من أولها حتى نهايتها، خصوصا في مجال التطوع الذي لا دخل للسلطة الرسمية فيه .

 

الخزائن الخاصة وخزانة الحكم الكتاب والمدرس الوسيلتان الوحيدتان لتوصيل المعرفة بشكل أكثر منهجية وضبطا وأقصر وقتا بالنسبة للعصور الماضية. ونسخ الكتاب ومقابلة النسخ المخطوطة وتصحيحها من الأعمال الاقتصادية والمهن المطلوبة. وعملية بيع الكتب من أهم العمليات التجارية المربحة بشكل مضمون . وقد كان الإقبال على الكتب كبيرا في عصر الريادة، إلى درجة أن المرحلتين التاليتين عيال على هذا العصر في شطر كبير من فنون

 

(1/3032)

 

 

المعرفة ومصادرها الوطنية، لاسيما في الحديث والفقه والأدب والتاريخ . وفي

 

(16) الحميدي ، جذوة، صص 145-231.ابن حياد، المقتبس ، ح 5، ص 444 . عياض ، مدارك ، ج 4 صص 271-443.ج 5، صص 170-179 ،ج 7 ، ص 204، ج 8 ، ص 137، ابن بشكوال، الصلة، صص 19-207-455-463-478.

 

الواقع لم يكن اقتناء الكتب ميسورا لكل واحد، لكن إذا كانت النسخ الأصلية تعلو أثمانها فإن النسخ المأخوذة عنها أقل تكلفة. ويبقى اقتناء الكتب بأعداد كبيرة من حظ فئة محدودة مبدئيا، ولكن عددها كان عظيما فيما يبدو من المعلومات التي ترددها كتب التراجم

 

(1/3033)

 

 

خاصة، وهذه الخزائن الخصوصية صنفان ، أحدهما ما يضم فنونا متنوعة. والثاني ما يغلب عليه فن بعينه وهو في الغالب كتب الحديث بالنسبة للمختصين فيه ، أو كتب الأدب واللغة لمن نزعته أدبية. وكثير من جماع الكتب يعنون بتصحيحها وضبط معلوماتها. ويعني ذلك درجة التمازج بين الكتب ومقتنيها، حيث إن الاقتناء ليس مجرد هواية بل هو سبيل إلى التوسع في آفاق المعرفة، وقد عرف ابن فطيس عبد الرحمن بن محمد بأنه كان محدثا كبيرا ومشاركا. وتضم خزانته مصنفات في مختلف العلوم . وكذلك كان شأن الأديب اللغوي ابن المشاط الطليطلي .

 

(1/3034)

 

 

وكان لابن فطيس ستة وراقين برواتب منتظمة يتولون عملية نسخ الكتب له . وبعد وفاته استمر بيع محتويات خزانته عاما تحصل منها أربعون ألف دينار وهى مبلغ يعادل جباية مدينة صغيرة عن سنة. وقيل عن سعيد الطليطلي إنه جمع كتبا لا تحصى. وقد بذ الطلليطليون سائر مراكز الثقافة بالأندلس خلا قرطبة، في مستوى انتشار المعرفة وإنتاجها، فهذا العصر تقريبا هو كل تاريخ طليطلة الإسلامي إذا أضفنا الشطر الأكبر من القرن 54/ 11 م . وكانت خزانة ابن الفرضي إحدى أعظم خزائن قرطبة الخاصة . وكذلك كانت خزانة ابن ميمون الطليطلي التي مع

 

(1/3035)

 

 

ضخامتها كان معظمها منسوخا بخطه مصححا بدقة من جانبه حتى اعتبرت هذه الخزانة أصح كتب طليطلة. وامتلكت السيدات المثقفات خزائنهم الخاصة كما هو الشأن في عائشة بنت أحمد القرطبية، وكانت أديبة لامعة، وراضية مولاة عبد الرحمن الناصر، وخديجة بنت جعفر التميمي التي حبست على ابنتها كتبا كثيرة. وتستورد كميات كبيرة من الكتب من مصر والقيروان ومراكز أخرى من المشرق . لكن الاستيراد يكلف نفقات وأتعابا كثيرة. وقد نقل العالم سلمة بن سعيد من المشرق ثمانية عشر حملا من الكتب جمعها خلال سنين عديدة لأنه درس هناك ، وكلفته

 

(1/3036)

 

 

الكتب أموالا باهظة(17).

(17) الصلة، صص 27-129-214-220-298-299-329-590-614-615-655-658.

 

وبالجملة فإن أهم فترة لرواج الكتاب تأليفا ونسخا وبيعا هي القرن الرابع . وجل النماذج السابق ذكرها من هذا القرن بالذات .

 

وقد كان الحكم المستنصر بدون شك . رائد حركة التنافس الفائق ، والذي لم يسبق له نظير بالنسبة للأندلس ، في جمع الكتب وانتساخها وتصحيحها. وكانت ثقافته فقهية أدبية واسعة الأفق في الزمان والمكان . قال عنه الونشريسي في وحرض نازلة فقهية حسم فيها بنفسه : "كان فقيها عالما بالمذاهب جماعا للعلوم ، ولم

 

(1/3037)

 

 

يكن في بنى أمية بالأندلس أعظهم همة منه في مطالعة العلوم " فلم يكن غريب أن يستبد به الاهتمام باقتناء الكتب وجمعها من المشرق والمغرب ، ويوفد لذلك تجارا يقتنون له الأصول من أربابها أو باعتها 3 كان الشأن ي اقتناء (الأغاني) من مؤلفه الأصبهاني مقابل ألف دينار، وشرح مختصر ابن عبد الحكم لأبي بكر الأبهري . ومع كثرة الكتب التي ضمتها خزانته وقد بلغت أربعمائة ألف ، فقد كتب تعاليق وملاحظات على أعداد كبيرة منها(18) وحتى معلومات عن نسب المؤلف ومولده ووفاته. وتوفرت هذه الخزانة على مجموعة من الفهارس قدرت بما

 

(1/3038)

 

 

يعادل ألفا وسبعمائة وستين صفحة، كما خصص لها معمل للتجليد ومواقع الناسخين . ووفد على الحكم مثقفون كثيرون من المشرق وبلاد المغرب فيهم من قام بتأليف كتب لحساب الخزانة، أو بنسخ بعض المؤلفات الأخرى لعبد العزيز بن الحسين الزجاج الوافد من بغداد والذي نسخ كتبا منها : النجاة إلى الطرق، (في الزهد) لمحمد بن المبارك الصوري . ومن نساخه الوافدين من إفريقية : إبراهيم بن سالم الوراق ، وكان شيخا صالحا. وكان بالخزانة أبو علي القالي الذي إلى جانب إشعاعه الأدبي واللغوي كان يشرف أحيانا على أعمال المقابلة بين النسخ

 

(1/3039)

 

 

. وكان كتاب "العين " للخليل بن أحمد، ضمن الكتب التي تمت مقابلة نسخها المتوفرة بالخزانة، وبين النسخ واحدة كتبها بخطه القاضي منذر بن سعيد، وتبين أنها في غاية التصحيف ، مما أثار دهشة الحكم وحرج القاضي. وكان من المكلفين بالمقابلة، الفقيه الأديب الأندلس أبو القاسم أحمد المعارفي ، وأبو محمد الأصيلي الذي صادف تعيينه وفاة المستنصر فتولى هذه المهمة فترة في بداية حكم

(18) ابن الخطيب ، أعمال الأعلام ، ج 2 ، ص41 . 317 ، الونشريسي ، معيار، ج 2 ، ص 317. المقري نفح ، ج 1، صص 361-371.

 

(1/3040)

 

 

المنصور. وينوه ابن الأبار في (الحلة) بتقييدات المستنصر على الكتب التي اطلع هو (أي ابن الأبار) على جزء منها بخط الحكم . وأتاح اطلاع هذا الخليفة على الأنساب وشغفه بها تصحيح الكثير من أنساب مواطنيه ، وكلف المسؤولين في الأقاليم بإنجاز التصحيحات التي توصل إليها، لدى الأوساط المعنية . ولا تعرف على التحقيق المبالغ التي كلفتها هذه الخزانة الضخمة. ويكفي أن الأندلسي ابن الرفاء عمر البجاني الذي قضى عشرين سنة بالبصرة، أنفق لحساب الحكم وخزانته مائة وعشرين ألف دينار وهو لم يكن إلا واحدا من عشرات المكلفين

 

(1/3041)

 

 

بالاقتناء. ويظهر أن بغداد ومراكز العراق قد استأثرت بأكبر نصيب من خزانة الحكم ، وقد كان القرن الرابع أزهى عصور بغداد في مجال الإنتاج الفكري . وكان قيم الخزانة لدى الحكم تليد الفتى، وقد يكون من الصقالبة. وقد كانوا مكلفين بالقصر الخليفي وإعادة ترتيب الخزانة الذي كلف في بعض الفترات أزيد من سنة. وكانت الخزانة مفتوحة للنخبة وحدها وكان من روادها أبو عمرو بن المكوي الذي أشرف أيضا على إعادة الترتيب المذكور، وحافظ المنصور بن أبي عامر على هذه الخزانة، وكذا خلفه المظفر إلى أن حصلت الحرب الأهلية بقرطبة

 

(1/3042)

 

 

فتولى واضح الحاجب بيع قسم منها : ونهب البربر باقيها(19).

 

وإذا كان عيب هذه الخزانة المركزية أن الاستفادة المباشر منها ظلت مقصورة على النخبة فإن هذه النخبة بالذات لم تبخل عذ الطلاب بتقديم نتائج أبحاثها واطلاعها على محتوياتها الزاخرة. أما عملية النهب والتسلط والتفويب فقد شملت معظم خزائن الأندلس عبر مراحل تاريخها المضطرب.

 

الدراسة والمدرسون

 

إيصال المعرفة يتم عن طريق العلم والأستاذ والكتاب ، ولكن أيضا داخل الأسر المستنيرة وعبر المجالس العائلية والأدبية التي تنعقد داخل البيوت وفي المنتزهات.

 

(1/3043)

 

 

(19) الحميدي ، جذوة، ص 48.عياض ، مدارك ، ج 7، صص 11-22-129-137. بشكال ، الصلة، ص 356. ابن الأبار، الحلة السيراء، ص203 .التكملة، صص 174-235، ابن خلدون، ج 4، ص 316-317، المقري ، نفح ، ج 1، صص 362.ج4، ص 108.

 

والأندلس متجلية في كل ذلك بما أضفته عليها الطبيعة الخلابة والحياة العمامة النشيطة. ثم إن العناصر الوافدة من الشام والمحن ، وهى تضم أسرا كثيرة للأجيال الصاعدة . والنمط الحضاري الطبيعي للبلاد يتطلب ثقافة راقية مكتوبة ومتداولة، بما في ذلك الحركة التجارية برية وبحرية، والبنيات الأساسية لهذه

 

(1/3044)

 

 

الحركة، ومقومات الحياة الاجتماعية والدينية التي تقتضي معرفة جيدة بأسس الدين والشريعة التي تتدخل في شؤون الحياة اليومية. وأخيرا فطبيعة الأرض الخلابة تغذي أقلام الشعراء والأدباء وتفتق ألسنتهم ، وهذا إلى جانب مقومات التنظيم الإداري والسياسي حيث الطابع المدني يغلب على البلاد حتى في قراها ومناطقها النائية، وذلك ما لم يتأت للبوادي في معظم الأقطار المسلمة الأخرى حيث ظلت بعض المدن تستأثر بالحياة الثقافية، دون غيرها من المراكز الحضارية .

 

(1/3045)

 

 

وأول جسور المعرفة الجماعية، أي المتاحة للجماعات هو الكتاب ، والذي هو استمرار من حيث رسالته ، للكتاتيب الإسلامية الأولى المنطلقة من المدينة المنورة والتي انتشرت بى حد ذلك عبر العالم الإسلامي. وهو عادة يلحق بالمسجد أو يكون بقربه ، وربما كان داخل الحي بين الدور. وفيه يحفظ التلميذ القرآن على مدى بضع سنوات ، وبعلم الكتابة والقراءة وربما الحساب وبعض المتون العلمية، وإذا حذق الصبي القرآن أو جزءا وحينا منه ؤحين على ولي أمره أن يقيم حفلا لتلاميذ الكتاب يحضره المعلم الذي عليه أن يزخرف لوح التلميذ (الحاذق

 

(1/3046)

 

 

) ليكون ذلك بمثابة شهادة أو دبلوم ختامي أو مرحلي . ويدعى الحفل وعملية زخرفة اللوح مع بلوغ مرحلة معينة من حفظ القرآن (الحذقة). وكانت عرفا لا مناص منه في هذا العصر، حتى إن جماعة معلمي الكتاتيب بقرطبة استصدروا بشأن وجوب إقامة (الحذقة) فتوى من غاز بن قيس ، وهو من الموالي . وأخذ عن مالك (45)، مما يدل على مسألة الحذقة في هذه الفترة المتقدمة (أواخر القرن ) كانت لا تزال موضع جدل عرفي. وكانت بعض المساجد تستغل لتعليم الصبيان أيضا. بل ظل هذا النظام فاشيا خلال كل مرحلة الريادة.

 

(1/3047)

 

 

ويشترط ي المؤدب أن يكون نفسه مجيدا لحفظ القرآن وتجويده ، مع وحرفة كافية باللغة العربية. وقد كان بين العلمين من لهم إلمام جيد بالمعارف العمرانية

 

(20) الحميدي ، م.س، ص305 .الصلة، ص108.

 

والإسلامية(21). وفي أية حال ، يجب أن يكون قدوة في الصلاح والاستقامة الدينية والخلقية. وكثيرون من المؤدبين والأساتذة كان لهم مسجدهم الخاص لأن التنافس في بناء المساجد شغل كل الأوساط الأندلسية. وهكذا كان المسجد يؤدي رسالته التعليمية إلى جانب رسالته التعليمية والعلمية لأوساط تختلف مستوى. وقد كتب أحد المعلمين من بين

 

(1/3048)

 

 

الفقهاء كتابا عن آداب المعلمين في خمسة أجزاء، وهو أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف الأموي من قرطبة(22). وكان يعلم الأطفال بمسجده وبعظ فيه العامة.

 

والعملية التربوية موازية للتثقيف العرفي ومندمجة فيه . فهناك مجموعة من الآداب وقواعد السلوك التي قد تطلب بإلحاح من الدارس منذ صغره إلى كبره . وهي تتجه خصوصا إلى الجانب الخلقي والديني مظهرا ومخبرا. والأب في الكتابات الأدبية والتربوية هو الموجه الأول داخل الأسرة. وهذه الكتابات تتخلى كليا عن إدراج دور المرأة داخل البيت حتى وهى مستنيرة أو مثقفة، لكن يفهم

 

(1/3049)

 

 

ضمنيا أن هذا الدور لابد أن يكون فعالا، خصوصا تجاه البنات اللواتي يرتبطن بأمهاتهن أكثر من الارتباط الأولاد بهن . ونجد كثيرين من الأدباء والمثقفين يوجهون إلى أولادهم وصايا شعرية أو نثرية يظل محورها الأساسي هو الحض على اكتساب المعرفة وربطها بالسلوك المثالي . وفي الواقع كانت وصايا الآباء في المشرق لأولادهم أسبق في هذا المجال وأخصب محتوى. غير أن وصايا ابن الخطيب الأندلسي لانجاله ، ولو أنها متأخرة زمنا،تعد من أهم التوجيهات الأبوية التي تنطلق من أديب كبير عرك الحياة ولدرج في أرقى المناصب وأصعبها،

 

(1/3050)

 

 

بينما قد تكون مطاولة الأديب عبد الملك الجزيري (23) لأنجاله من أهم ما عرفه العصر الأموي في المجال التربوي التوجيهي.

وفي الأساتذة والعلماء من كانوا يضيفون إلى مهمتهم التثقيفية إكرام طلبتهم ، لأن هذا يدخل أيضا ي مثاليات العالم والأديب عندما يكون قادرا ولو نسبيا على هذا النوع ،من السلوك تجاه طلبته. وبهذه الطريقة كان العالم يحي بن عبد الله يتألف طلبته

(21) الصلة، ص262 . ابن الأبار، التكملة، ص 205 .

(22) ابن بشكوال ، الصلة، ص 43.

(23) الحميدي ، جذوة المقتبس ، ص .262

 

(1/3051)

 

 

للمواظبة على مجالس المناظرة التي يعقدها ببستانه والتي تضم بدون شك آخرين . فكثيرا ما أطلق لفظ الطلبة في المغرب الكبير على الأساتذة أيضا. وكان أحد علماء طليطلة يستضيف أزيد من أربعين طالبا لمدة ثلاثة أشهر في السنة تبدأ من نونبر، ويسهر على توفير التدفئة لهم ، وتمر الفترات بين الطعام والآخر في الاستماع إلى دروسه ، وكلهم غرباء عن طليطلة، من طرق الأندلس (24).

 

وفي الأساتذة من يدرس بمنزله ، وأغلب الذين لهم مسجد يدرسون به ، وهذه من خصوصيات التدريس بالأندلس ولو مع وجود مساجد وقفية بعضعها تؤدى به دروس

 

(1/3052)

 

 

عامة، والأغلب أن الذين يدرسون بمساجدهم متطوعون قد يقضون نهارهم بين العمل لمعاشهم خارج المسجد والتدريس أو الكتابة داخله . ورافقت عادة بناء المسجد الخاص بعض الأندلسيين حتى خارج الأندلس (25).

 

وإذا كان أخذ الأجر على التدريس من الخواص في هذا العصر عملا نادرا فإن أوضاع الأساتذة تختلف اختلافا بينا ولكن طابع التقشف يسود أوساط العلماء والمدرسين عامة حتى لو حسنت الحالة المادية لدى بعضهم . ومن ذلك أن عبد الله الثقفي القرطبي يذهب إلى حقله راجلا مع ورعه وزهده ويحمل زاده على عنقه وهو فقيه أديب وموارده جيدة.

 

(1/3053)

 

 

أما العالم عبد الملك بن هذيل فتأثر بصحبة الصلحاء ثم انعزل بمنزله فقيرا رث الثياب ، ويؤدي مع ذلك رسالته العلمية. وسائر الأساتذة إما موظفون مع الدولة يتطوعون للتدريس في أوقات فراغهم ، وإما ذوو مهن حرة أهما :

1 - العدالة أو الشهادة

2 - التجارة، وهى غالبا في القطاعات الصغرى، وتستوعب أكبر عدد من الأساتذة غير الموظفان ، ومن ذلك تجارة الثياب والوراقة. وشطر كبير ممن زاولوا التجارة تنقلوا ي شبابهم بين عدة أقطار للدراسة ومارسوا التجارة بها. وهكذا عرف ابن الجباب كتاجر جبب ، ولكنه تفرغ أكثر وقته للتدريس في

 

(1/3054)

 

 

أواخر حياته ، وعرف الحبيب أحمد شطبون كتاجر ذي ثروة قبل أن يزداد رفعة في المناصب القضائية

(24) مدارك ، عياض ، ج6 ، ص 109. الصلة، ص 41.

(25) جذوة، ص 50. مدارك ، ج 6، ص 153 .الصلة، ص 419.

 

الكبرى، أما الفقيه الكبير أبو إبراهيم فيتجر في الكتان ولا تغريه المناصب التي عرضت عليه . واشتغل العالم ابن فضيل بتجارة الحديد فلقب بالحداد، وكان على اطلاع كبير بمذهب مالك وآراء تلاميذه مع الدراية والمناظرة. وعاش كثيرون على الوراقة، وربما اشتغلوا بها في مرحلة دراستهم أيضا.

 

(1/3055)

 

 

3 - الفلاحة، وتأتي أهمية بعد حد التجارة من حيث استيعاب فئة الأساتذة والمثقفين. والعادة أن يمتلك مزاولها أرضه مهما صغرت ، كما أنه يعمل فيها بنفسه.وقد كان على بن عيسى التجيبي يستقبل طلبته بجنته حيث يلقى عليهم دروسه. أما أبو حفص الرعيني فقد كان يحرث بنفسه ويحتطب على ظهره مع جلال علمه وانقطاعه للعبادة.

 

4 - الصناعة، وهو أقل استيعابا لهذه الفئة. ومن أهلها عمر بن حفص الثقفي، وابن بركة عبد الله بن محمد، وكلاهما اشتغل بصناعة الصابون ، وتولي الثاني أيضا مهمة الشورى، فقد كان أغلب هؤلاء الشيوخ إذا وظفوا

 

(1/3056)

 

 

لدى الجهاز الرسمي يثقون في استقرار الوظيف ، ولذلك اعتمدوا على الكسب الحر مهما كان التعب من أجله ، وكل هذه الشريحة الو"س حمة من ذوي المهن الحرة إذا اشتغلت بالتدريس فعلى سبيل التطوع (26).

 

ومن البديهي وحال الأساتذة على ما تقدم ، أن يكون القسم الأكبر من الطلاب على ضيق من العيش، حتى إن أحلي هم كانت تمضى عليه أيام لا يقتات فيها إلا من ورق الكرنب الذي يقذف به زبلا، وقد صار فيما بعد محدثا كبيرا ومفسرا وصف ابن حزم تفسيره بأنه لم يؤلف في الإسلام مثله ، وهو بقي بن مخلد العالم الزاهد(27). لكن الطلبة حتى

 

(1/3057)

 

 

مع ظروف الحياة الصعبة يواجهون همومهم بالصبر واشحط ي ، بل وحتى بالدعابة. والطالب الأندلس يتجاوز أقرانه في باقي أقطار المغرب مرحا وتنكيتا، بل إن الطلبة قد ينكتون على أساتذتهم وربما أحدثوا مقالب طريفة

(26) مدارك ، ج 5، صص 165-171-174-189،ج 6 صص 118-130-172-292 ، ج 7 ص 202-203-211-280.

(27) السيوطي، طبقات المفسرين ، ص 9.

 

تكشف عن سذاجة هؤلاء الأساتذة وطيبوبتهم ، وهذا فضلا عن أسئلة الإحراج التي يلقونها قصدا(28).

 

(1/3058)

 

 

وتتعدد طرق التدريس حسب شخصيتهم العرفية، والطريقة التي تلقوا بها معارفهم ، فهناك الطريقة التقريرية التي تقتضي معلومات أو أكثر، مع شرحها والتعليق عليها. والطريقة الروائية المتبعة في تدريس الحديث النبوي ، وإملاء الدرس من معلومات المدرس أو من كتاب وحين ، لكن ما تميز به التدريس لدى الأندلسيين في هذا العصر البعيد، اللجوء إلى المناظرة التي من شأنها شحذ الأذهان واستحضار الاستدلال والترجيح بين الآراء والتوفيق نجبنا وحفز الطلاب إلى القراءة وإثراء معارفهم بشكل مباشر. وعلى ذلك فلم تكن المناظرة بين أهل

 

(1/3059)

 

 

المذاهب الفقهية وغيرهم فقط ، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون ي مقدمته ، وكما كان متعارفا بالمشرق خاصة، وحتى بالقيروان في بداية انتشار المذاهب الفقهية والموازية، بل كانت المناظرة تتناول غالبا، الآراء داخل المذهب المالكي ، وكذا المعارف في على اختلافها حيث تعم مناقشتها بين الطلاب بإشراف الأستاذ وتوجيهه ، فإذا توقفوا في مسألة لجأوا إلى تحكيمه. والمناظرة يفتتحها المدرس نفسه بالبسملة والتصلية ثم بإيراد بى حض الأحاديث النبوية ليطرح بعد ذلك المسائل على الطلبة فيتناظرون ويناظرونه (29).

 

(1/3060)

 

 

وإذا اعتمدت الدراسة الجماعية على مؤلفات معينة، فإن هذا يرج الأستاذ إلى حد ما عندما يرجع الطلاب إلى نفس الكتاب ، خصوصا إذا كان من تأليف المدرس نفسه ، وقد كان كثير من هؤلاء يميلون إلى تقوية معلوماتهم أو تنويعها باختيار دراسة مصنفات بعينها على مؤلفيها الأساتذة، وهذا نظام عرفه المشرق أصلا وكانت كتب القراءات خلال هذه المرحلة فكانت رائدة لما بعدها. وهكذا قام أحمد بن قاسم الإقليكشي بتدريس القراءات انطلاقا من كتبه، كما أن المغربي أحمد الجراوي قبل أن يتولى تدريس القراءات بالأندلس سمع عن ابن خلدون

 

(1/3061)

 

 

مؤلفاته بمصر والتي كان لهذا المقرئ دور ريادي بها. ودرس سليمان التجيبي على ابن سفيان كتابه : الهادي في

 

(28) مدارك ، ج 4، ص126 . نفح ، ج 5 ، ص 98.

(29) الصلة، ص255 . مدارك ، ج 7، صص 114-159. ابن خلدون ، مقدمة، ص399 .

القراءات السبع . وهكذا كان الأمر في تدريس العديد من المؤلفات الأخرى على مصنفيها في علوم مختلفة، وفي القيروان ومصر بغداد(30).

 

ومن أهم أسبقيات المرحلة أو ظواهرها الفاشية، اللجوء إلى المختصرات في التثقيف والتدريس . وتتبوأ المختصرات الفقهية المقام الأول لارتباطها بالحياة العامة وتكوين

 

(1/3062)

 

 

الإطارات الوظيفية والمهنية. ومحورها العام مذهب مالك ، حيث تتكاثر خلال القرنين الثالث والرابع . وهى نوعان ، أحدهما يختصر كتابا بعينه والآخر يختصر المادة نفسها، ككتاب مختصر الفقه المالكي، لمالك بن علي الفهري في القرن الثالث ، ومختصر علي بن عيسى التجيبي في القرن الرابع . وحظيت مدونة سحنون باهتمام كبير. وكان من أوائل من اختصرها إبراهيم بن عجيس الزيادي الوشقي (قرن 3)، وابن عيشون (31)(قرن 4).

 

وفي إطار عملية التأليف والاختصار التي تمت بط!لب من الحكم المستنصر قام محمد وعبد الله ابنا أبان باختصار

 

(1/3063)

 

 

المؤلفات الموسعة في الفقه ، والتي صنفها يحيى بن إسحاق . وفي مرحلة لاحمة قام القاضي الوليد بن رشد باختصار لهذا المختصر نفسه (32). ومن بين المختصرات في التفسير مختصر تفسير ابن سلام لعبد الرحمن بن مروان القرطبي وآخر لنفعهن التفسير من عمل ابن أبي

زمنين (33).

 

وتدل عملية الاختصار في مجموعها على تشعب العارف بهرة المصنفات الكبرى في كل منها، وهو ما لا يتسع له وقت أي طالب مهما كان من قوة استعابة ، خصوصا وأن التخصص في علم واحد لم يكن واردا. على أن حملة غاضبة قد شنها بعض المفكرين والشيوخ النابهين خلال

 

(1/3064)

 

 

القرن 8/14 م.

ومن بينهم المقري وابن خلدون على المختصرات بوجه عام.

 

(30) الصلة، تنظر التراجم بالأرقام :47-60-91-101-302-345-354-416-446-469-512-694-1051-1052-1058.

(31) جدوة المقتبس، ص 324، ج 6، صص 171-173.الصلة، ص 175. ياقوت مادة وشقة.

(32) مدارك ، ج6 ، ص 301.

(33) السيوطي ، طبقات المفسربن ، صص 18-34.

 

التواصل الثقافي

 

يجري هذا التواصل عن طريق تصدير الكتاب واستيراده ، كما يتم عن طريق تبادل الأساتذة والطلاب ، بين الأندلس وباقي الأقطار المسلمة . وهو تبادل تلقائي في كل اتجاه ، كما أنه يغ فرديا ولا

 

(1/3065)

 

 

تحدده اتصالات دبلوماسية أو رسميات متعارفة، بالنظر لأن الحدود مفتوحة بين الأقطار المذكورة :

 

أ - الوافدون من بلاد المغرب

 

يأتي فريق منهم للدراسة، وفريق للتدريس أو لمزاولة نشاط س عين ، حر وير. وهذا بالإضافة إلى الروابط العائلية والزيارات الخاصة. ومن بين الو"فدين من المغرب (لأقصى(34):

1 - أحمد بن عبد الله الكتامي المعروف بابن العجوز من أصيلا، وبيته أنجب مثقفين كثيرين . جع بين الفقه والأدب ، ودرس على وهب بن مسرة وغيره.

 

(1/3066)

 

 

2 - أحمد بن سليمان الكتامي من طنجة، درس بالمشرق وتخص بالإقراء وقام بتدريسه ببجانة والمرية، وعمر طويلا.

 

3 - أبو ميمونة دراس بن إسماعيل ، زاول دراسته بالأندلس والقيروان ومصر ومكة، وارفقه في الدراسة عبد الله الأصيلي، وكلاهما صار محدثا كبيرا.

5- أبو بكر المغيلي، شاعر عاصر الحكم المستنصر، وله مساجلات شعرية مع الحاجب المصحفي.

 

4 - أبو عمران الفاسي موسى بن عيسى، درس بقرطبة ومصعر القيروان ومكة وبغداد، واستقر بالقيروان ، وهو من ذوي التأثير الو"سع في المدرسة المالكية.

 

(1/3067)

 

 

5- إسماعيل بن حمزة الأزدي ، من سبتة. مال إلى عالم أصول الديانات وهو من اتجاه نادر في هذه المرحلة.

 

(34) الحميدي ، جذوة، صص256-317-368. ابن بشكوال ، صلة، صص 87-88-577 .

ومن المغرب الأوسط :(35).

 

1 -أحمد بن قاسم التاهرتي البزاز، وفد صغيرا على قرطبة حيث درس بها ولكنه مال إلى الخمول كما يقول ابن بشكوال .

 

2 - أحمد بن علي الباغاني ، درس القراءات بمصر، ثم استقر بالأندلس فتولى تأديب أولاد المنصور، وزاول الشورى مدة، لكن أعظم تأثيره كان في مجال الإقراء.

 

(1/3068)

 

 

3 - أبو مروان عبد الملك الطبني درس بالأندلس ومصر والحجاز وجمع بين الحديث والأدب ولو أن زوجة صادفه وقوة تأثيره لم تبرز إلا في النصف الأول من القرن الخامس .

4 - عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني الوهرافي ، عرف بابن الخراز درس بالأندلس ومصر والعراق ، واستقر ببجانة قرب المرية، وكان معاشه من بيع الثياب ، وجع بين الفقه والحديث ، ومن طلبته أبو عمرو بن عبد البر و"بن حزم. ومن المغرب الأدنى :(36)

 

5 - سعيد بن عثمان الأعناقي ، وهو من موالي تونس ، استقر بقرطبة في القرن الثالث ومال إلى (طل يغظ والرواية .

 

(1/3069)

 

 

6 - محمد بن القاسم القروي ، درس القراءات على ابن غلبون ، وقام بالتدريس قليلا في قرطبة، في نهاية القرن الرابع ، حيث كان يشتغل بالتجارة التي نجح فيها.

 

7 - مكي بن أبى طالب ، من القيروان . ذو تأثير في الفقه والأدب والقراءات . عين أستاذا راتبا بجامع قرطبة بأمر المنصور وترشيح من القاضي ابن ذكوان .

8 - محمد بن حسين الظبي، وهو أصلا من المغرب الأوسط ، وفد من إفريقية أديبا شاعرا حظي بترحاب في بلاط الناصر.

 

(35) جذوة، صص 256-266 . الصلة، صص 86-87-305.

 

(1/3070)

 

 

(36) حيان ، المقتبس ، ج 5 ، ص 41. عياض ، مدارك ، ج 5، صص 170. ج 8 ، ص13 . بشكوال ، الصلة، ص 564.

 

من مصر والعراق (37) :

 

1 -أحمد بن زكرياء المصري . قام بتدريس الحديث بقرطبة (ق.4)

2 - عبد الرحمن بن محمد العتكي ، قدم من مصر في أواخر القرن 4 . ودرس بالأندلس واشتغل بالتجارة، وكان أديبا شاعرا.

 

3 - إبراهيم بن أحمد الشيباني من بغداد، محدث فقيه نحوي ، استقر بالقيروان وعمل في بلاط الأغالبة ثم العبيديين وقدم الأندلس حيث اتصل بالعاهل محمد بن عبد الرحمن (قرن 3). وتميز بشخصيته الأدبية المتميز، وله عدد من

 

(1/3071)

 

 

المؤلفات في الحديث والأدب واللغة والعقيدة.

 

4-صاعد بن الحسن الربيعي البغدادي ، لغوي قدير، وهو مؤلف "النصوص" في الأدب لحساب المنصور الذي دعاه إلى إلقائه دروسا بجامع الزاهرة. وبرهن في مجالسه مع الأدباء عن اطلاع في اللغة واسع ، على الرغم من محاولات إحراجه . وغادر صاعد الأندلس في أيام الحرب الأهلية فمضى إلى صقلية، وبها توفي .

5- أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم ، وهو أرميني من تركيا متبحر في اللغة العربية كبير، مع كونه قدم بجملة من تحف بغداد وطرائفها إلى الناصر. ويتفق الذين ترجموا للقالي من

 

(1/3072)

 

 

الأندلسيين أنه ترك تأثير" عميقا في الوسط الأدبي و العلمي بالأندلس ، سواء بفضل الشجاعة المباشر أو عن طريق عدد من مؤلفاته في الأدب واللغة كـ"النوادر" ، و" البارع " ، و" المقصور والممدود والمهموز.

 

3 – من فارس(38) :

 

1 - عبد العزيز بن جعفر، درس بالمشرق ، ووفد على الأندلس تاجرا (ق.4).

2- وثيمة بن موسى الفسوي ، درس بالبصرة ومصر، ودخل الأندلس تاجرا

(ق .3).

(37) الصلة، صص 237-223. جذوة المقتبس ، ص 225. المقري ، نفح ، ج 4، ص 130.

(38) الصلة، ص 356.جذوة المقتبس ص 340.

 

(1/3073)

 

 

وهذه اللائحة غير مستوفية، بل مجرد نماذج تبرز ازو الثقافي الذي عرفته الأندلس من خلال عشرات الوافدين دارسين أو مدرسين أو مساهمين بشكك ما في الحياة الثقافية. وكأن الأندلس بما عرف عنها من حيوية فائقة في المجال الثقافي وغيره ، لفظت الأميين وأشباههم من الوافدين ، فلا يهتم مؤرخوها إلا بالمثقفين ولو كانوا مجرد تجار لا شيء جماع لديهم يذكر.

 

وإذا رقع إغفال فترة الولاة هنا، وما تركته من أثر، فلأن خصوصيات مرحلة الريادة تفرض نفسها على نطاق واسع تعد فترة الولاة غير ذات أهمية نافذة بالقياس إليها. ويبدأ تدفق

 

(1/3074)

 

 

طلاب الأندلس بشكل ملحوظ على المشرق ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني، وهذا ما بجعل إخصاب الثقافة بالأندلس يأخذ منحى واسعا في القرن اللاحق ويبلغ أوجه في القرن الرابع بتمازج العطاءين المشرقي والمغاربة معا. ويقتضي ذلك أن نتعرف على نمط المعرفة التي يطلبها الأندلسيون خارج بلادهم حتى ساهموا هم أيضا وفي مرحلة نضجهم العلمي في الإشعاع العرفي ببلادهم وحتى خارجها.

 

4- الأندلسيون بالشمال الإفريقي

 

ومعظهم بدأوا دراستهم بالأندلس قبل استكمالها بالشمال الإفريقي وربما بالمشرق أيضا، لكن تأثير الشمال

 

(1/3075)

 

 

الإفريقي أبعد وأوسع في تكوينهم واتجاههم ، كما أن الدارسين بصورة أساسية يكونون أعدادا كبيرة. ولظل الدراسات الفقهية والحديثة في رأس قائمة اهتمامات الدارسين ، بينما تأتي القراء ات في درجة مقاربة تتبعها الدراسات اللغوية المتعمقة. وقد اختار الدارسون الذين اتخدا" صعوبات التنقل والغربة والمعاش أن يأخذوا المعرفة من منابعها الأصلية كما هو الشأن في مدرسة مالك ومدرسة سحنون. ونجد من تلاميذ مالك :

1 - زياد بن عيد الرحمن المعروف بشبطون الذي ينسب إليه السبق إلى إدخال مذهب مالك بالأندلس ، وشاركه في ذلك كل من

 

(1/3076)

 

 

يحيى الليثي وعيسى بن

دينار(39)

(39) نفح ، ج 2 ، صص 251-253.

 

2 -محمد بن بشير الذي تولى فيما بعمد قضاء الجماعة(40).

3 - يحيى بن يحيى الليثي المصمودي السابق ذكره ، وقد ترك أثرا كبيرا في نشر مذهب مالك وموطئه (41).

 

وتركت مدرسة القيروان بصمات راسخة في مجالات المعرفة، لأن ازدهارها ساير بالذات مرحلة الريادة بالأندلس. ولذلك تقاطر عليها الدارسون من الأندلس وسائر الشمال الأفريقى، كما أنها كثيرا ما اتخذها الدارسون عطا انتقاليا إلى مصر وباقي أقطار المشرق ، حتى يجمعلوا بين أنماط مختلفة من المعرفة وطرق

 

(1/3077)

 

 

تبليغها. ولذلك نجد الذي يكتفي من القيروان بدراسة كتاب في التراجم أو بإسماع إن كان مثقفا، مثل إسماعيل الحجاري الذي اسمع كتابا للخشني في مشايخ القيروان . كما نجد الذي يدرس الفقه مادة ومؤلفات في مدرسة معينة كمدرسة ابن أبي يزيد القيرواني (42). ولم تكتف القيروان بتقديم المعرفة إلى من يقصدها فحسب ، بل قصد المثقفون والشيوخ من أبنائها الأندلس ليساهموا بشكل مباشر في بناء صرح المعرفة هناك . وما أثر مكي بن طالب في مجال القراءات وعلوم القرآن إلا مثال واحد من بين عشرات الأمثلة. فقد استقر بقرطبة بعد إنهاء

 

(1/3078)

 

 

دراسته حيث ألف العشرات من كتب القراءات وعلوم القران (43). لكن التواصل في هذا المجال بالذات كما في غيره لم يكن من جانب واحد، فقبل القيرواني مكي بن طالب بوقت طويل ورد من الأندلس ابن خيرون الذي أدخل إلى إفريقية قراءة نافع ، ووصف بأنه إمام في القراءات (44). ويلتقي بالقيروان مثقفون من مختلف أقطار المغرب فيقصدهم الأندلسيون أو طلاب أفريقية. وهكذا يبرز بالقيروان حماد بن يحيى السجلماسي في القرن الثاني ، وقد نعب إليه إدخال فقه إبن الباحثون إلى إفريقية، وهو من أساتذة سحنون ، كما أن الأندلسي محمد بن صالح

 

(1/3079)

 

 

القحطاني يدرس على بكر بن حماد التاهرتي من المغرب الأوسط ، بينما يسمع الوليد

 

(40) ن .م ، ص . 348 .

(41) الحميدي ، جذوة المقتبس ، صص 152-164.

(42) ياقوت ، معجم الأدباء، صص 19-169.

(43) نفح الطيب ، ج 2 ، ص 217.

 

بن بكر السرقسطي بطرابلس الغرب دروس عالمها ابن زكرون الهاشمي (45). وكذلك يدرس هشام بن سعيد الخير بالقيروان على مجموعة من شيوخها اثنان منهج من المغرب الأقصى وهما أبو عمران الفالس وإبراهيم بن قاسم المكناسي ، وهذا قبل أن ينتقل إلى المشرق لمتابعة مسيرته العلمية (46).

5 - الأندلسيون بالمشرق

 

(1/3080)

 

 

كثيرا ما اعتبر الأندلسيون إفريقية من المشرق كما يتضح ذلك في عدد من تراجمهم . لكن المشرق الجغرافي يبدأ من شرق أقس قطر مغاربي وهو ليبيا. وبوجه عام يضم المشرق تاريخيا، مجموع الأقطار المسلمة بآسيا فضلا عن مصر.

 

وقد تكاثرت الرحلة إلى الشرق خلال القرن الثالث ، وبلغت أوجها بعده ، وغالبا ما تقترن بأداء فريضة الحج . ومقصدها أحيانا هو مصر فقط ، وقد تكون إلى العراق فضلا عن الحجاز. وأقلها إلى الشام وإيران في هذه المرحلة، وهناك من تجاوز هذا الخط العربي إلى فارس وخرا سان وما وراء النهر. ويأتي الحديث في

 

(1/3081)

 

 

المقدمة كموضع اهتمام رئيس للدارسين ، لكن غالبا ما يلازمه الفقه . فالقيروان على أهميتها كمركز ثقافي لم تكن في مجالات الدراسات الحديثة في مستوى الحجاز والعراق . ومن الطبيعي ، أن يتأثر عدد من الطلاب بالتوجهات المذهبية لبعض المؤثرين من أساتذتهم كابن نجيح في القرن الثاني، وقد تأثر بكل من المذهب الحنفي وسفيان بن عيينة ، وكبقي بن مخلد وابن حيون بالنسبة للمذهب الحنبلي ، وقاسم بن محمد بن سيار بالنسبة للمذهب الشافعي ، وهؤلاء من القرن الثالث (47).

 

(1/3082)

 

 

إن سلسلة الراحلين إلى المشرق للدراسات الحديثة والفقهية اكثر من أن تحصر ولذلك نكتفي بالأمثلة إلمذكورة(48) وهناك من رحلوا لدراسة القراءات بصفة خاصة

(45) الحميدي ، جذوة، ص 339. عياض ، مدارك ، ج4، ص 97 .المقري ، نفح ، ج 2 ، ص 242 .

(46) جذوة، ص 239 .

(47) نفح ، ج 2 ، صص 253-256-258-267.

(48) انظر أيضا : جذوة ، ، صص 63-87-113-117-120-132-147-163-167-196-237-339، بشكوال ، الصلة، صص 27-310-476-630 ،.

 

دون إهمال علوم أخرى كابن حدير الذي درس بمصر ومكة فف!علا عن القيروان ، وابن خيرون الذي تنقل بين مصر

 

(1/3083)

 

 

والعراق والقيروان ، ومحمد بن أحمد القرطبى الذي تنقل بين الحجاز واليمن ومصر ومراكز الشام حتى بلغ شيوخه مائتين وثلاثين (49).

 

واجتذبت الدراسات الأدبية واللغوية عددا غير قليل من الطلاب ، ففي هذا المجال أيضا كان المشرق يزخر بالحلقات الدراسية والخزائن الخاصة، وفطاحل اللغويين والأدباء الذين تأثر عدد منهم بالدراسات الفلسفية وكانت لهم ثقافة موسوعية كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي. وبعض طلاب الحديث مزجوا معارفهم الدينية بتكوين لغوي جيد يساعدهم على فهم أفضل لنصوص القران والحديث والمصطلحات عموما. وبرز الاهتمام

 

(1/3084)

 

 

بالدراسات الأدبية واللغوية في وقت مبكر. وقد لمع اسم سو"ر بن طارق من موالي عبد الرحمن بن معاوية، حيث استفاد من الأصص س ونظرائه من كبار الشخصيات اللغوية كالرياشي وأبي حاتم ، أما قاسم بن ثابت السرقسطهي فقد درس هو ووالده الحديث واللغة بمصر ومكة وأدخلا إلى الأندلس لأول مرة على ما يرجح ، كتاب "العين " للخليل ، وقد شغل كتاب "العين " طلابا آخرين كمنذر بن سعيد اليلوطي الذي أصبح بعد ذلك فقيها كبيرا في أيام الحكم المستنصر.كما عاد عبد السلام بن السمح الموزوري الذي ينتمي إلى موزور القريبة من قرمونة عالما

 

(1/3085)

 

 

لغويا قديرا بعد أن تنقل بين اليمن ومصر ومكة واستقر بالزهراء في أيام المنصور بن أبي عامر(50).

 

واجتدب الشرق بإغراءاته الثقافية والروحية كثيرا من المثقفين الذين قضوا به فترة طويلة بعد إنهاء مرحلة الطلب ، وربما اثر بعضهم الاستقرار هناك نهائيا. وهكذا فإن عطية بن سعيد طاف بالأقطار العربية وتأثر بالتصوف وأخذ بالسماع فتحاشاه لذلك المغاربة كما يقول الحميدي ، فقد كانت أقطار المغرب أكثر أصولية من معظم أقطار المشرق التي تتجاذبما النزعات والمذاهب والأديان . وذهبت به الرحلة إلى ماوراء النهر لإحود متنقلا بين

 

(1/3086)

 

 

أقطار المشرق حتى توفي بمكة(51). وعندما أدى الفقيه ابن

(49) الصلة، ص 318. نفح ، ج 2، صص 271-417.

(50) جذوة، ص326 .ياقوت ، معجم البلدان ، مادة موزور نفح ج 2 ، صص 253-255.

(51) جذوة، صص 301-302.

الفخار عمد المالكي القرطبي فريضة الحج استقر مدة بالمدينة المنورة فأفتى بها. وكان فخرا له وهو في بلد بعيدا على منابع السنة. وفي سنة 349هـ التحق الشاب محمد بن يحيى بن مالك الطرطوشى بمصر وقد تملكه حب الأدب ووسائله من نحو ولغة وغيرهما، فتابع دراسته هناك ثم بالعراق ، وأخيرا بفارس التى وجد فيها ضالته وقد ازدانت

 

(1/3087)

 

 

محافلها بحركة ثقافية مشعة، فظل هناك حتى توفي . وفي نفس والوقت تقريبا التحق محمد بن عبدون الجبلي القرطبي بمصر أيضا وقد وجه همه إلى دارسة الطب والرياضيات ، واستطاع أن يحصل على وضع متميز في مارستان الفسطاط . ولكنه فضل بعد ذلك أن بعود إلى وطنه ، بينما تمكن شمس الدين محمد الأندلس المتمكن من علوم العربية والفقه أن يمارس القضاء بحماة خلال النصف الأول من القرن الرابع ، قبل أن يستقر ببلاد الروم (تركيا) ينشر المعارف الإسلامية. أما عطية بن سعيد فقد قادته الرحلة العلمية إلى عدد كبير من أقطار المشرق كمصر

 

(1/3088)

 

 

والشام والعراق والحجاز، وبلغ مناطق ما وراء الهر، واستقر أخيرا بمكة حيث أدركته المنية في أوائل القرن الخامس بعد أن حلق في فضاء التصوف واتخذه مذهبا وعملا، فعاش على التقشف والإيثار وجمع خزانة ضخمة تلازمه في تنقلاته . وقام بما يشبه جلته ، وحاصره ومواطنه إبراهيم بن عبد الله الغافقي (52) الذي جمع بين المذهب المالكي في الفقه والاعتزال في العقيدة، وتولى الحسبة باسم الحاكم العبيدي بدمشق ، لمدة تسع سنوات قبل أن يتوفى بها سنة 404هـ. وكان صارما في مهمته هاته . ولا ف حلم إلى أي حد طبق مذهب الفاطميين في مجال

 

(1/3089)

 

 

الحسبة، ولو أن هذه الخطة ترتبط بالشريعة والأعراف المحلية معا.

 

وحيث إن مقدرة الدارسين الذين أنهوا دراستهم ، تحتاج للتدليل عليها إلى شهادة يدلي بها (الخرج ) عند الحاجة : وأن هذا الأمر لم يكن يهم إلا فئة محدودة، فقد كان بعضهم يستصدر إجازة من أستاذ بارز، أو من أكثر من أستاذ، فقد كانت حمى الشهادات لم تجتح بى حد مناطق المغرب المسلم ولو أن لها وجودا على كل حال . وهكذا كانت الإجازة تسلم من الأستاذ إلى الطالب بعد رواية الكتاب أو الكتب التي درسها الأستاذ وقد تكون من تأليفه . ومع هذا فالإجازة قد تسلم حتى

 

(1/3090)

 

 

بدون

 

(52) الصلة، صص432-483 .ابن الأبار، تكملة، ص133. السيوطي ، بنية الوعاة، ص 126. نفح ،ج 2 ص 351.

 

رواية كما ذكر عن عبد الملك بن حبيب وقد كان أديبا ونحويا قديرا مع مشابهة عامة، فقد تناول إجازة عامة من شيخه إبراهيم المغامي الذي اعترف أن قاصده لم يدرس عليه شيئا بل حمل نسخا من تأليف الشيخ ، وكانت هذه الإجازة المريبة من أوائل الإجازات التي حصل عليها أندلسي، وكانت وفاة عبد الملك بن حبيب سنة 238. وهى على أي حال لا تنقص من المستوى الثقافي الواسع لدى صاحبها، بل إن الإجازة كانت موضع جدل في بعض الأوساط

 

(1/3091)

 

 

من حيث المبدإ، حتى ألف فيها الوليد بن بكر الغمري من علماء القرن الرابع مصنفا بعنوان : الوجازة في صحة القول بالإجازة، وقد ظل هذا المصنف يحظى بعناية القراء حتى لقد ذكره الوادي اشي من مقروءاته في القرن الثامن (53). على أن الإجازة أصبحت موضة العصر بشكل خاص منذ القرن الخامس وما تلاه من قرون . وقد كتب ابن فطيس أيضا : "الإجازة والمناولة" في القرن الرابع (54).

 

(53) الحميدي ، جذوة، ص 339. ابن بشكوال ، الصلة، ص 607. ياقوت ، معجم البلدان ، مادة البيرة الوادي آشى، برناج ، ص 272.

(54) الصلة، ص . 300 .

 

(1/3092)

 

 

بيبلوغرافيا

 

1 - ابن الأبار القضاعى محمد بن عبد الله ، 658 / 1260 م:

- "التكملة لكتاب الصلة"، القاهرة، 1375 / 1956 م

- "الحلة السيراء"، جزآن ، تحقيق د. حسين مؤنس ، القاهرة، 1963

 

2 - ابن الأثير على بن محمد الجزري ، 630/1232 م:

-"الكامل في التاريخ" تحقيق عبد الوهاب النجار، القاهرة،1648.

3 – ابن بشكوال خلف بن عبد الملك 578/1183 م

- "كتاب الصلة"، القاهرة، ،1374/1955 م

 

4 - ابن حيان ، حيان بن خلف القرطبي 469/1076م :

 

(1/3093)

 

 

- "المقتبس في تاريخ الأندلس ، جزء 5، تحقيق شالميطا، العهد الإسباني العربي بمدريد وكلية الآداب بالرباط 1979م

 

5 - ابن الخطيب لسان الدين محمد بن عبد الله ، 776/1076م:

- "الاحاطة، تحقيق محمد عبد الله عنان ، القاهرة، 1393/1973م

- "أعمال الأعلام "، جء ، تحقيق ليفي بروفنصال ، بيروت ، ،درا. ،

6- ابن خلدون عبد الرحمان بن محمد، 808/1405م:

- "المقدمة"، المطبعة البهية، (د. ت ) القاهرة..

- "تاريخ ابن خلدون " "كعاب العبر.. ."، بيروت ، 1959م

 

7- الحميدي محمد بن فتوح ، 488/1095 م :

 

(1/3094)

 

 

- "جذوة المقتبس " تحقيق محمد بن تاويت الطنجي ، القاهرة، 911/1505 م.

8- السيوطي جلال الدين عبد الرحمان ، 911/1505م :

- "بغية الوعاة"، القاهرة، 1326/1908 م

- "طبقات المفسرين "، نسخة مصورة بطهران ، 5،را، عن طبعة ليدن ، لسنة 1839 م.

- عياض بن موسى اليحصبي السبنى، 54/ 1149 م :

- "ترتيب المدارك "، ، أجزاء، الرباط ، 1964-1984 م.

 

10- المقري التلمساني أحمد بن محمد،1041 / 1631 م :

-"نفح الطيب "، عشرة أجزاء، تحقيق محمد محمس الدين عبد الحميد، القاهرة، 1339/1949م

 

(1/3095)

 

 

- "أزهار الرياض في أخبار عياض "، أجزاء، تحقيق لجنة من الباحثين ، الرباط 1398-1399 / 1978-1979 م

 

11- النباهى المالقي على بن عبد الله (ت . أواخر القرن 8/ 14م ) :

-"المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا)، بيروت ، 1400/ 1980 م.

 

12 - الوادي آشي محمد بن جابر، 749/1338 م .

- "برناج الوادي اشي "، تحقيق محمد محفوظ ، بيروت 1982م

 

13- الونشريسي أحمد بن يحيى، ،914/1508 م :

- "المعيار"، الجزء الثاني، الرباط 1401/1981م

 

14 – ياقوت الحموي شهاب الدين بن عبد الله ، 626/1228 م :

 

(1/3096)

 

 

- "معجم الأدباء (20 جزءا)، القاهرة، 1376 / 1957 م.

- "معجم البلدان "، بيروت ، 1376/1957 م.

 

17 - المقري التلمساني أحمد بن محمد، 511401/1631 م:

-"نفح الطيب "، عشرة أجزاء، تحقيق محمد محمس الدين عبد الحميد، القاهرة، 1369/1949 م.

- "أزهار الرياض في أخبار عياض ، أربعة أجزاء، تحقيق لجنة من الباحثين ، الرباط ، 1398-1399 / 1978-1979.

 

18- مؤلف مجهول القرن 8 /19 :

-الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية"، تحقيق محمد بن أيي شنب ، الجزائر، 1339 / 1920 م.

- مؤلف مجهول (القرن 8/ 14 م ) :

 

(1/3097)

 

 

- "الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية"، تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامة، الدار البيضاء، 1979م.

 

20 - النباهي على بن عبد الله المالقي (أواخر القرن 8/ 14 م ) :

-"المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا،،، بيروت ، 1400/1980م.

21 – ياقوت الحموي شهاب الدين بن عبد الله ، 626 / 1228 م :

-معجم الأدباء، 45 جزءا، القاهرة، 1937-1938م.

– "معجم البلدان "، بيروت ،1376 / 1957 م.

 

22- Cortavia (a) beita o.p :

 

(1/3098)

 

 

Les études mozarabes en espagne, mélanges (14), institus dominicain d’etudes orientales du Caire, libraire du liban 1980.

 

23- mosca (g) rt Bouthoul (g) :

histoire des doctrines, paris 1965.

24- présés (Henri) :

les poésie andalouse en arabe classique au onzième siècle, paris 1953

U.N.E.S.C.O :

- histoire de l’humanité , Paris 1969

 

(1/3099)

 

 

الثقافة وتبليغها بالأندلس في مرحلة الاستقرار (القرون 7 إلى 9 / 13 إلى 15م)

 

الدكتور إبراهيم حركات

... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

 

إن تقلص الرقعة الجغرافية للدولة الأندلسية لم يوقف الزحف الثقافي لمجتمع الأندلس، بل حفز هذا المجتمع على المحافظة على نشاطه النادر في شتى المجالات، وذلك على الرغم من الظروف السياسية غير المواتية، والتي لم تساعد على استقرار المجتمع ولا النظام القائم الذي طالما زعزعت الخيانات أركانه ومزقت المؤامرات أوصاله. وعاشت الثقافة وسط هذا الخضم القاتم بشمم وإصرار، في

 

(1/3100)

 

 

ظل حكم وطني يغار على كيانه ويساهم أيضا في تبادل المؤامرات مع جيرانه من العدوة الأخرى، بقدر ما يتبادل المثقفون من العدوة المغاربية كلها مع العدوة الأندلسية، الخبرات الثقافية والفكرية والعلمية على نطاق واسع تجاوز في حجمه وحتى في عمق تأثيره، فيما يخص بعض الجوانب، ما كان عليه الأمر في القرون السابقة. فما الذي استجد في مرحلة الاستقرار هاته؟

1 - اتسعت الصلات الثقافية بين الدارسين المثقفين من أهل الديانات الثلاث خصوصا مع أن هؤلاء الدارسين كانوا يلتقون معا لمتابعة الدراسة في بيوت علماء المسلمين، وفي

 

(1/3101)

 

 

المؤسسة التي أنشأها النصارى بمرسية في القرن 7هـ/13م.

2 - تقلص دور الفكر الفلسفي المستمد من الأصول الإغريقية، واتسع نطاق الفكر الصوفي التجريدي.

3 - تميزت مملكة غرناطة بعطائها المتميز في النحو خاصة، والدراسات اللغوية عامة. وأشع إنتاج نحاة هذا العصر على العالم العربي كله.

4 - استرجع المذهب المالكي كامل عافيته بعد التطور الذي حصل أيام الموحدين، وإن كان تراجع هذا المذهب أقل مما حصل بالعدوة الأخرى في عصر هؤلاء.

 

(1/3102)

 

 

5 - ساد الجمود الفني والفكري الإنتاج عموما بسبب الاهتمام بالزخرف اللفظي وانتشار ظاهرة الاسترزاق الثقافي بشكل تجاوز كل ما سبقه. وكان ملوك بني الأحمر يحاولون أن يكتسبوا تعاطف المثقفين عن طريق تشجيع الموالين للبلاط والإنعام على المثقفين الوافدين من أقطار المغرب بالوظائف والجرايات. لكن هذا لا يعني أن الثقافة قد احْتَوَشَتْها مصائد السلطة بشكل مطلق.

السلطة والمثقفون

عمل عدد من الملوك على تقريب المثقفين من كل الحيثيات، وبعضهم كمحمد الثاني (ت. 671) كان يقرب إلى الأطباء والحكماء والمنجمين والكتاب

 

(1/3103)

 

 

والشعراء(1) . وكانت ميزة العصر تعيين عدد من العلماء وكبار الأدباء في المناصب الكبرى(2) .وكان ميل محمد الثالث إلى الشعر والشعراء يستمع إليهم ويجيزهم(3) .على أن معظم الملوك مارسوا السلطة في جو غير مستقر، وكثيرون نصبوا على أشلاء سابقيهم، وفي خضم المؤامرات والدسائس التي سادت البلاط وتورط فيها الساسة والأدباء وغيرهم من المثقفين. ولم يشهد بلاط الأندلس من هواة التملق وتغيير

__________

(1) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص. 50.

(2) المصدر نفسه، ص. 45، 53، 64، 71، 79، إلخ.

(3) المصدر نفسه، ص. 60، الإحاطة، ج 1، ص. 545.

 

(1/3104)

 

 

الولاء ما شهده بلاط بني الأحمر. وقد استغرب ابن الخطيب لحال أحد كبار القضاة من معاصريه، وهو ابن مسعدة أحمد بن محمد العامري الذي كان على ثقافته الواسعة يتفنن في طرق التملق للعاهل بشكل ينزل بكرامته وجلال منصبه إلى الدرك الأسفل. وبالرغم من أن ابن الخطيب خص معاصره ابن الحاج النميري الذي كان فقيها محدثا أديبا بجميل الأوصاف وحميد الشمائل، فإنه أشار أيضا إلى تقلبه بين تقلد الوظائف السامية والاعتزال للتعبد والنسك(1) .

__________

(1) الإحاطة، ج 1، ص. 164؛ المقري، نفح، ج 9، ص. 315.

 

(1/3105)

 

 

وبسبب تقلص مجالات العمل أمام أكثر المثقفين من شتى الميادين، كان عدد منهم في قطاع الوظائف السلطانية والإدارية يعيش على الدرس لإخوانه حتى يقفز الأدنى درجة إلى أعلى. وهذا يؤثر بطبيعة الحال في السلوك الثقافي ويعمل على تحريفه، خصوصا في أوساط الأدباء. وبالمقابل، زكما يحدث في كل عصر، فهناك مثقفون لهم مواقف في التعامل مع السلطة يلتزمونها بشكل أو بآخر. فالمحدث ابن القطان (ت. 628) كان من مناهضي المامون الموحدي الذي أبطل أصولية المذهب التومرتي، بينما ناصر يحيى المعتصم(1)

__________

(1) عبد الهادي الحسيسن، مجلة دار الحديث، الرباط، 1979.

 

(1/3106)

 

 

. وابن صابر القيسي كان من كتاب السلطان أبي سعيد فرج. فلما سمع السلطان أنه يرفع يديه في الصلاة، هدده بقطع يده، فلجأ إلى مصر قائلا: "إن إقليماً تُمَات فيه سنة رسول الله، حتى يتوعد بقطع يد من يقيمها لجدير بأن يرحل منه"(1) . وهكذا مست المحنة المثقفين بطرق مختلفة، ولأسباب متباينة، منها ما هو شعائري أو شرعي، ومنها دسائس الحساد، ومنها اضطهاد الفكر، وهلمجرّاً. ومست المحنة المواطنين والوافدين على السواء. فالعالم منصور بن علي الزواوي الوافد على الأندلس من المغرب الأوسط سنة 753 كان من

__________

(1) نفح، ج 3، ص. 408.

 

(1/3107)

 

 

أوائل العلماء الذين عينوا للتدريس بالمدرسة النصرية بغرناطة، والتي أنشأت سنة 750. وزاول مهمته باقتدار سنوات طويلة قبل أن يطرد من الأندلس بسبب امتناعه عن الحكم بتكفير شخص اتهم بالنيل من الذات الإلهية والنبوة، خلال مجلس انعقد لهذا الغرض، وأصبح الزواوي نفسه معرضا للاتهام بمساندة مرتد. وعاد العالم إلى بلاده(1) سنة 765 بعد أن كون أجيالا من طلاب الأندلس وأقرانهم الوافدين.

__________

(1) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 3، ص. 325.

 

(1/3108)

 

 

وتعرض العالم أحمد بن إبراهيم بن الزبير (القرن 7هـ) لدسيسة من المتصوف إبراهيم الفزاري الذي اتهم فيما بعد بالشعوذة، فكبس منزله وصودرت كتبه وهو في حالة فرار. ثم تجددت محنته على يد الغالب بن نصر الذي أكرمه مدة قبل أن يفرض عليه الإقامة المحروسة ويمنعه عن استقبال الزوار لفترة طويلة. ولم تقع محاكمة الفزاري إلا بعد هذه المحنة التي تعرض لها ابن الزبير. وأعدم الفزاري إلا بعد هذه المحنة التي تعرض لها ابن الزبير. وأعدم الفزاري بعد إثبات الشعوذة في حقه(1) .

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 191.

 

(1/3109)

 

 

ولجأ الأديب الشاعر محمد بن خميس التلمساني (ت. 708) من بطش بني زيان إلى الأندلس تحت رعاية الوزير ابن الحكيم. فلما حدثت المؤامرة على السلطان محمد الثالث، قتل هو والوزير المذكور، وعمد القاتلون إلى الفتك بابن خميس لمجرد أنه كان في رعاية ابن الحكيم(1) . ويشير ابن الخطيب إلى أن هذا الوزير كان يحقد على أحد الكتاب النابهين من الشباب في البلاط، وكاد يتلخص منه لولا أن المنية عجلت بهذا الكاتب، واسمه عبد

__________

(1) المصدر نفسه، ج. 2، صص، 528 - 529، اللمحة البدرية، ص. 67،؛ المقري، أزهار الرياض، ج 2، ص. 302، 304.

 

(1/3110)

 

 

الله الشراط، وهو من مالقة(1) . وبعض السلطات الإقليمية كانت تضيق ذرعا ببعض المثقفين من شتى الاتجاهات . ونماذج الإذاية من هذا الجانب تعددت قبل هذه الحقبة، ولكنها تفاقمت خلالها. ويكفي أن يحاط بذي نفوذ لتعامل بطانته بالصورة نفسها. وقد كاد ابن رشيد السبتي (ت. 721) يلقى حتفه يوم قتل صديقه أبو عبد الله الحكيم إحدى الشخصيات البارزة في غرناطة(2) .

والذين غادروا غرناطة من المثقفين لانعدام حرية الفكر أو لمضايقات من الحساد أو السلطة كثيرون. وقد كان ابن حيان

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 441.

(2) المصدر نفسه، ص. 142.

 

(1/3111)

 

 

النفزي (ت. 745) - وهو من كبار النحاة والعلماء - يتعرض للتنكيل بأمر السلطان، على إثر معركة قلمية بينه وبين بعض معاصريه. ومن ثم استطاع أن يفلت بجلده إلى المشرق حيث نال شهرة واسعة(1).

وبين المثقفين من استهواهم التنجيم والتنبؤات الفلكية التي يتعلق بعضها بالنظام القائم أو بعاهل يطاح به، وذلك يعرضهم لمحنة قاسية وهكذا اعتقل أحمد الحِبالي الأنصاري على يد السلطان محمد بن أبي الحجاج بعد رجوعه إلى الملك، وكان هذا الأديب الفلكي قد تنبأ بالثورة عليه. فلما اعتقل، ضرب بالسياط حتى كاد

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 46.

 

(1/3112)

 

 

يهلك، ثم نفاه إلى تونس سنة 763. وقبله اشتغل محمد بن أحمد المراكشي بالغيبيات وهو من سكان ألمرية؛ فلما أحس بالشر يتهدده من السلطة، لجأ إلى المغرب فاستقدمه السلطان الأندلسي من تلمسان. فقد كانت تبرم اتفاقات أحيانا بين السلطات المغربية بتبادل المتهمين إذا لم يحتفظ بهم حماتهم ورقة ضغط تستخدم لاحقا(1) .

وإذا كانت الضائقة المالية والاضطرابات السياسية التي لا تسمح للمسيرة الفكرية والثقافية بالاستمرار السليم، من أسباب هجرة الوطن(2)

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 205؛ ج 3، ص. 187.

(2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 225؛ السيوطي، بغية الوعاة، ص. 114.

 

(1/3113)

 

 

، فإن كثيرين من المهاجرين تلاحقهم المحنة في أرض الغربة لسبب أو لآخر. وكثيرا ما تنعدم حرية الفكر أو مجرد التسامح في المهجر، مع أن الجو الثقافي ترتبط سلامته بمزاج السلطة القائمة، وليس بسياسة عامة للدولة. وفي بعض الأحيان تصدر عن المثقف اللاجئ، وهو في رعاية سلطة المهجر، تصرفات طائشة قد يلقى بسببها مصرعه، كحادث ابن الأبار بتونس الذي كان يبدي الاستخفاف والازدراء بأولياء نعمته. وهذا على الأقل ما تورده الرواية التي تناولت مصرعه وإحراق كتبه(1) . وكذلك ثبتت التهمة على إبراهيم الفزاري

__________

(1) نفح، ج 3، ص. 347.

 

(1/3114)

 

 

السابق ذكره، بادعاء النبوة، فأعدم بعد محاكمة أثارت اللغط، حتى إن القاضي الحسن النباهي الذي كان ممن ناهضوه تعرض هو أيضا لنهب أمواله قبل أن يتولى السلطان الفقيه بنفسه محاكمة الفزاري(1) ، وهو واحد من كثيرين بالأندلس نكبوا بشكل علني أو اغتيالا. وكان ابن السراج محمد بن إبراهيم الأنصاري طبيب القصر السلطاني بغرناطة أيام محمد الثاني. فلما بحث في وفاة هذا السلطان بعد إعلانها، تبين أنها من طعام مسموم بعث ولي العهد، فأثبت ذلك الطبيب، فعرض نفسه لسجن طويل الأمد، ثم نفي إلى

__________

(1) النباهي، المرقبة العليا، ص. 128.

 

(1/3115)

 

 

المغرب قبل أن يصدر العفو عنه ويعود إلى بلده(1) .

ومحنة لسان الدين بن الخطيب تكشف عن مدى الأحقاد التي كانت كامنة في نفوس عدد من أعداء هذا المثقف البارز، ثم تفجرت بعد أن دال عزه ولجأ إلى المغرب في انتظار مصيره. فهو لم يغادر الأندلس حتى ترك وراءه خصوما ألداء، بعضهم في مناصب سامية كابن الحسن النباهي من كبار القضاة، وابن زمرك الذي عمل في كتابة البلاط المريني ثم لدى البلاط النصري. وكان مما أخذه الأول على ابن الخطيب، حسب بعض المراسلات التي ساقها المقري، عرقلته للأحكام القضائية

__________

(1) الإحاطة، ج 2، ص. 162.

 

(1/3116)

 

 

وخذلانه لسلطانه وانشغاله في المغرب باقتناء العقارات وترويج الأموال، وانتقاده لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وزيادة في الضرائب قبل انتقاله إلى المغرب. وساق المقري بعد هذا نص ظهير تولية ابن الحسن قضاء الجماعة من تحرير ابن الخطيب، وهو تزكية عجيبة وتعداد للمهمات التي قام بها الحسن(1) . والمقري إذ يقرن هذا النص بمراسلات ابن الحسن، فهو يعبر بشكل غير مباشر عن تصرف شخص خان عهده، وآخر تصرف بسلامة نية وحسن رعاية. وإذا لم يكن ابن الخطيب معصوما من الأخطاء، فإن اتهامه بالطعن

__________

(1) نفح، ج 7، صص. 49-62.

 

(1/3117)

 

 

في الجانب النبوي يتناقض مع النصوص الشعرية العديدة التي خص بها ابن الخطيب شخص الرسول وشمائله. ومن ناحية أخرى، فقد كتب ابن الخطيب جملة مذكرات لاذعة في حق خصومه، بمن فيهم القاضي النباهي وابن زمرك. ولا مراء في أن ابن الخطيب كان لاذع النقد للأفراد والمجتمعات والأماكن. وعندما تغيرت عليه الأيام، أمعن خصومه في اتهامه بالإلحاد والزندقة والقول بالاتحاد والحلول. وهي تضم رفضها المقري في عرضه عن حياة ابن الخطيب؛ كما أن السلطان عبد العزيز المريني عندما وقف على التقارير التي وجهت إليه من الأندلس ليحكم بموجبها

 

(1/3118)

 

 

بإعدام التهم، جابه المبعوثين بقوله: هلا فعلتم أنتم ذلك وهو بينكم؟ فلما توفي هذا السلطان، أحكمت المؤامرة على ابن الخطيب، وانحشر فيها وزير مغربي حاقد، فكان ما كان من اغتياله سنة 777 حسب كاتب "ذكر مشاهير أعيان فاس..."، أو في سنة 776 عند غيره. وأحرقت جثته وشوهت على يد الوفد الأندلسي(1)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 46، 83، 98؛ ج 8، ص. 186، 254، 277، ج 9، ص. 306؛ ابن خلدون، ج 7، ص. 709؛ مؤلف مجهول، "ذكر مشاهير أعيان فاس في القديم"، نشر في مجلة البحث العلمي على يد الأستاذ عبد القادر زمامة، حلقة 2، عدد 4-5، 1965، الرباط، ص. 99؛ حركات، المغرب عبر التاريخ، ج 2، ص. 54.

 

(1/3119)

 

 

. وكانت هذه الحادثة دليلا على اختلال الذي صار إليه جهاز الحكم المريني.

وتشاء الأقدار أن يلقى ابن زمرك (محمد بن يوسف الصريحي) مصيرا مشابها لمصير ابن الخطيب. وهو عالم وأديب كبير عمل في البلاط الغرناطي وتولى كتابة السر ومهام السفارة لدى الغني بالله. ثم نسب إلى الاستعلاء والغلظة والاستخفاف بحجاب البلاط وشراسة اللسان والتضريب بين المسؤولين، فاعتقل بقصبة ألمرية ثم سرح وأعيد إلى منصبه أيام العاهل محمد السابع، وكلف بعد ذلك بأشغال الجباية فاشتد على الناس، وأدى ذلك إلى قتله على يد العاهل. وهو (أي ابن

 

(1/3120)

 

 

زمرك) في بيته وأرته التي قتل من حضر منهم أيضا(1) ، وذلك سنة 795هـ. وهذه الرواية في مقتل ابن زمرك وما نسب إليه من مآخذ وتهم، ساقها أحد أمراء بني الأحمر، ونقلها عنه المقري. وهذا الأمير السلطان هو أبو الحجاج الناصر يوسف الثالث (810-820/1407-1417). وتأليفه الذي نقل المقري هو: "البقية والمدرك من كلام ابن زمرك"(2) . وواضح أن رواية ابن الأحمر تحتاج إلى مقابلة مع ما يمكن العثور عليه من الروايات الأخرى.

__________

(1) المقري، نفح، ج 7، ص. 107؛ ج 10، صص. 22-30؛ أزهار الرياض، ج. 11، ص. 20.

(2) أزهار الرياض، ج 2، ص. 11.

 

(1/3121)

 

 

وكما كان الأمر دائما في العصور الإسلامية بمختلف الجهات، فقد شارك كثير من العلماء والأدباء في الجهاد والمقاومة، واستشهد المئات منهم أو فقدوا في ساحات المعارك. ولربما أسفرت معركة طريف سنة 741هـ عن أكبر عدد من الشهداء بين صفوف النخبة المثقفة خلال تاريخ الأندلس المسلمة كله. ومن بينهم الفقيه ابن جزي الكلبي محمد بن أحمد، والفقيه الزاهد محمد الغساني في مالقة، والأديب عبد الله بن سعيد السَّلْماني والد لسان الدين بن الخطيب، والعالم الحيسوبي محمد بن يحيى الأشعري المالقي(1)

__________

(1) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 3، ص. 23، 65، 391؛ السيوطي، بغية الوعاة، ص. 114.

 

(1/3122)

 

 

.

الدراسة وطرق التدريس

بدأت طرق التدريس تتجه إلى نوع من الاستقرار والجمود في مجال العلوم الشرعية وغيرها فيما عدا الاجتهادات الخاصة التي تميز بعض الأساتذة عن أغلب أقرانهم. ونحن بفضل "مقدمة" ابن خلدون وتعاليق الأزرق عليها، نتعرف جملة من طرق التربية والتدريس التي عاصرها وقارن بين ما يعرفه منها بالشمال الإفريقي وما يعرفه بالأندلس وحتى المشرق.

وقد اتخذ الكتاب مزيدا من الأهمية سواء على شكل مطولات أو مختصرات أو متون مشروحة، أي أن التوسع في هذا الباب ازداد عما عرف في المرحلة السابقة. ومع هذا، فقد ظل

 

(1/3123)

 

 

الولع باقتناء الكتب والتنافس في إنشاء الخزانات الخاصة والموقوفة قائما، ومما لا يحتاج إلى إيضاح أن أقطار المغرب عموما والمغرب الأقصى خصوصا عرفت تدفقا للكتب المنقولة من الأندلس بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك بعد اشتداد الضغط على المدن الأندلسية وهجرة الأسر منها. وكان بين هذه الكتب ما وقع بأيدي النصارى ويتجاوز بكثير ما أمكن نقله سليما إلى خارج الأندلس. وقد استرجع يعقوب المريني فيما بين 684 و685هـ ثلاثة عشر حملا من الكتب وفقا لشروط الصلح مع القشتالين، وهي لا تمثل إلا أقل القليل مما كان بيد النصارى وحتى

 

(1/3124)

 

 

اليهود مما لم يحرق. ونفذت سياسة إحراق الكتب بقسوة في المراحل الأخيرة من الحكم الإسلامي بغرناطة على يد النصارى. أما يعقوب المريني، فنقل الأحمال المذكور إلى مدرسة الحلفائيين (الصفارين) بفاس، والتي تواجه مكتبة القرويين، وكان فيها مصاحف، و"تفسير" ابن عطية، والثعالبي، ومؤلفات الحديث والفقه والعربية والأدب وغيرها(1) . أما الخزانة السلطانية بغرناطة، فكان مقرها بقصر الحمراء، ويتولى نظارتها مثقفون مرموقون. ونافس بعض كبار المسؤولين ملوك بني نصر في اقتناء الكتب والتنقيب عن نوادرها

__________

(1) روض القرطاس، ص. 363.

 

(1/3125)

 

 

حتى قيل إن ذا الوزارتين محمد بن عبد الرحمن اللخمي الرندي (ت. 708) قد أفرط في ذلك وضاقت قصوره عن استيعابها. ووصف الفقيه الأديب ابن جُزَيّ محمد بن أحمد بأنه كان ملوكي الخزانة. وكان بين أصحاب الخزائن من يحبس كتبه. ومما وقفه السلطان الغالب بالله على المدرسة اليوسفية بغرناطة، نسخة من كتاب "الإحاطة" في اثني عشر مجلدا(1) سنة 829هـ.

__________

(1) الإحاطة، ج 2، ص. 446؛ ج 3، ص. 20، 25؛ بغية الوعاة، ص. 101؛ المقري، أزهار، ج 1، ص. 55.

 

(1/3126)

 

 

والتعليم في مرحلته الأولى يبدأ من الكُتَّاب كما هو الأمر في سائر عصور الإسلام حتى استحدث نظام رياض الأطفال. وكثير من معلمي الكتاتيب يجسمون القدوة الصالحة ويشتهرون بالقناعة والزهد مع العبادة. ولذلك يتبرك بهم. وبالنظر لعدم وجود نظام للمشارطة في المدن، فإن كثيرا من المعلمين يرتزقون من عمل إضافي يشتغلون به خارج إدارة الكتاب القرآني. وقد وصف ابن الخطيب معلمه محمد بن عبد الولي الرعيني بإتقان القراءات وتجويد القرآن وعدله في المعاملة بين أبناء الموسرين والمعسرين. وقال إنه يقرأ على أسرته كتب الوعظ

 

(1/3127)

 

 

والرقائق كل جمعة، فيصغي إليه الجيران أيضا(1) .

ويتبين من كلام ابن خلدون في "المقدمة" أن التعليم في الكتاتيب لم يقتصر على حفظ القرآن ورواياته، بل كان يشمل تعليم الخط وحفظ الشعر ونماذج الترسل بالإضافة إلى دراسة قواعد العربية. ولذلك يرى ابن خلدون أن ملكة اللغة كانت تحصل لأهل الأندلس بسبب هذا التكوين المبكر. ومن ثم فهم - حسب رأيه -، مقصورون في سائر العلوم (لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث، التي هي أصل العلوم وأساسها)(2) .

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 33، 231.

(2) ابن خلدون، مقدمة، ص. 377، 495، 496.

 

(1/3128)

 

 

ولما كان الخط الجميل الخالي من التصحيف يحتل مقاما كبيرا في المعاملات وفي دواليب الدولة والنشاط الثقافي، فقد أولاه الأندلسيون عناية خاصة، لأنه ظل حتى اختراع المطبعة صناعة حقيقية. ويظهر أن الخط الأندلسي انتشر منذ بداية القرن السادس انتشارا كبيرا في أقطار المغرب عن طريق الوافدين من الأندلس، أدباء وفقهاء ومؤدبين وغيرهم، إلى درجة أنه اكتسح مؤسسات التعليم بإفريقية ولم يبق لخطها الخاص وجود إلا بمنطقة "الجريد" حيث الاحتكاك بأهل الأندلس قليل. ومثل ذلك حصل بالمغرب خلال عصر الموحدين وبني مرين قبل أن

 

(1/3129)

 

 

تتراجع خطوط الشمال الإفريقي فتبدو الرداءة بعد ذلك في ما كتب من مصنفات لاحقة يكثر فيها التصحيف وينحرف الخط عن الجودة إلى درجة أن الفتاوي في عصر ابن خلدون تأثر مضمونها بهذا التحريف(1) .

ومع هذا، فابن خلدون يذهب بعيدا في التشاؤم وحتى إنكار المجهود العلمي قبله بالأندلس (لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين). وحتى الفقه أصبح أثرا بعد عين، وأكثر من ذلك العلوم العقلية. وسنرى فيما بعد ما الذي يمكن الأخذ به من أحكام ابن خلدون سواء في عصره أو في سائر مرحلة

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 367، 369.

 

(1/3130)

 

 

الاستقرار(1) (من القرن 7 إلى القرن 9).

والفكر التربوي لهذا العصر يجسمه في الغالب ما يلقيه بعض الأساتذة من توجيهات دقيقة، وما أنجزه بعض الفقهاء المفكرين، لاسيما ابن الأزرق في كتابه "بدائع السلك" الذي هو مجموع تعاليق، معدة بشكل منهجي، على أفكار ابن خلدون الاجتماعية والسياسية في "مقدمتـ"ـه. وكثير من الأساتذة كانوا قدوة مثلى لتلاميذهم في العمل والمثابرة والوفاء للمبادئ. وكان محمد بن يحيى الأشعري من علماء القرن

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 377؛ وقابله بابن الأزرق، بدائع السلك، ج 2، ص. 329، 330، 364، 365.

 

(1/3131)

 

 

الثامن حريصا على متابعة طلابه تربويا، وكانوا يحذون حذوه لباسا واعتدالا وجدا، ويخاطبهم بمثل ما كان يقوله الجنيد: "يا معشر الشباب! جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي، فتضعفوا وتقصروا كما قصرت"(1)

وخص ابن الخطيب أبناءه الثلاثة، وهم راشدون، بوصية تضمنت:

1 - التذكير بمصير الإنسان وعبر الموت؛

2 - احترام وتنفيذ تعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبة صحابته؛

3 - التمسك بكتاب الله وشعائره الأساسية من صلاة وزكاة وصيام وحج؛

4 - الحرص على اكتساب العلوم، ولا سيما الشرعية؛

__________

(1) النباهي، المرقبة العليا، ص. 142، 145.

 

(1/3132)

 

 

5 - التمسك بالأخلاق الحميدة واجتناب الرذائل كالخمر والربا؛

6 - النهي عن مصاحبة الخائضين في أمور الدنيا والبحث عن المناصب(1) .

وفيما يخص التدريس في المساجد، ليس هناك تطور كبير يذكر. فالطالب يتلقى المادة العلمية من أستاذه، والمدرس يعتمد على الكتاب نفسه الذي يدرسه طالبا، مستعينا بأمهات الكتب لمزيد من الاستيعاب والتوضيح، ولربما للتعقيد أيضا، عندما تتعدد الصور والتفريعات والأقوال دون نتيجة أو قاعدة حاسمة. ويعتمد منهج التدريس على ذكاء المدرس واستفادته من طرق زملائه

__________

(1) المقري، نفح، ج 10، صص. 247-261.

 

(1/3133)

 

 

وأساتذته الذين تلقى عنهم. وقد يبسط بعضهم أسلوبه؛ وإذا خاطب مستمعين شعبيين، زاده تبسيطا(1) .

وفي الأساتذة من لهم القدرة على تدريس عدة فنون، كابن الفخار أبي بكر محمد بن عبد الرحمن الجذامي الذي قام بتدريس الأدب والفقه والعربية والحديث والقراءات؛ وكابن علاق الغرناطي الذي تولى تدريس هذه الفنون مع "تلخيص" ابن البنا في الحساب و"تفسير" الزمخشري. وصور المشاركة قد تتسع أو تضيق، ولكن نماذجها كثيرة(2)

__________

(1) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 3، ص. 69.

 

(2) المصدر نفسه، ص. 20، 92؛ محمد المجاري، برنامج المجاري، ص. 122؛ السيوطي، بغية، ص. 234، 344، 350.

 

(1/3134)

 

 

. فقد كانت ملازمة الطلاب لبعض الشيوخ قد تستغرق سنين طويلة بل عقودا، كملازمة المجاري لمحمد القِجاطي مدة ثلاثين سنة. وكان هذا العالم مشاركا على غرار الشاطبي صاحب "الموافقات"(1) . على أن هناك من كرس نفسه لعلم بعينه حتى ولو ألم بغيره، مثل محمد بليش العبدري الغرناطي الذي عكف على البحث في العربية مع مشاركة في الطب، وكان يعيش من تجارة الكتب. كما أن بين الدارسين من يقرأ الكتاب نفسه مكررا على عدة شيوخ، أو يدرس بعضه عند هذا وبعضه عند آخرين. وهذا بعني أن الدراسة على

__________

(1) المجاري، مصدر مذكور، ص. 104، 116.

 

(1/3135)

 

 

بعض الشيوخ لا تتجاوز نصا أو بضعة نصوص من كتاب(1).

ويظهر أن ما يعرف بالدروس الخصوصية لم يعد شائعا على ما كان عليه في القرون الماضية. وقد يكون لمؤسسة الوقف وضبطها دور كبير في ذلك، حتى مع تقلص الأموال الموقوفة. ثم إن وجود سبتة وفاس بما تضمانه من مدارس وزوايا وأوقاف عديدة ساعد على استيعاب أعداد كبيرة من طلاب الأندلس وحتى من أساتذتها. ومن الذين عرفوا بتقاضي الأجر على الدروس الخصوصية، العالم النحوي ابن أبي الربيع الأموي الإشبيلي(2)

__________

(1) الوادي آشي، برنامج، ص. 202، 211، 213؛ بغية، ص. 100.

(2) بغية، ص. 319.

 

(1/3136)

 

 

.

والأساتذة تنعكس طبائعهم الخاصة وحالتهم النفسية على سلوكهم الخارجي في حقل التربية والتدريس. ومن ذلك أن الأعلم إبراهيم بن قاسم البطليوسي النحوي عرف بالانفعال والغضب، حتى إنه كان يمنع طلبته من التبسم بحضوره وقد يعاقبهم على ذلك بالضرب (!). ولا شك في أن مثل هذه الحالة كانت نادرة، بينما كان المحدث أبو جعفر بن الزبير حلو الفكاهة طيب المجالسة من غير إخلال بالوقار(1) . وهناك كثيرون فتحوا بيتهم للطلاب والسائلين، مثل ابن العربي محمد بن علي الغساني (ت. 748) الذي كان

__________

(1) الإحاطة، ج 1، ص. 189؛ بغية، ص. 185.

 

(1/3137)

 

 

مسكنه بالحمة من إقليم ألمرية مقصدا للطلاب الوافدين من الحصون والقرى الشرقية، ففتح لهذه المناطق المنعزلة بابا واسعا لاكتساب المعرفة بموازاة طلاب المدن المحظوظين. وكان محمد بن عبد الله النميري الوادي آشي معاصره يستقبل العلماء في بيته باستمرار، مع تواضعه ودعابته. وهو مفت ومدرس(1) .واشتهر غير هؤلاء بالحرص على خدمة الآخرين ممن يحتاجون إلى المعونة، كالفقيه الموثق ابن قطبة محمد الدوسي الذي كان يساعد المتعلمين ويفك الأسرى، والفقيه المقرئ إبراهيم التنوخي الذي كان يواسي

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص.96؛ بغية، ص. 58.

 

(1/3138)

 

 

قاصديه بقوته ويحظى بشعبية واسعة، ومثله الفقيه المشاور ابن سلمون الكناني. وقد كانت الوضعية الاجتماعية والسياسية المضطربة تتطلب هذا التضامن النموذجي(1)

أما المواد التعليمية، فقد ظلت المحافظة تستأثر بالاهتمام أكثر من الفهم والاستنتاج والتصرف. ومن خصوصيات العصر، وفيها ما يشترك مع بعض خصوصيات العصر السابق:

1 - تقلص دور المناظرة في حلقات الدرس؛

2 - الزيادة في حفظ النصوص منظومة ومنثورة؛

3 - اتساع عملية اختصار الكتب والرجوع إلى المختصرات؛

__________

(1) الإحاطة، ج 1، ص. 374؛ ج 3، ص. 159، 401، 472.

 

(1/3139)

 

 

4 - بلوغ حمى الشهادات منتهاها.

فأما المناظرة، فقد سبق تناولها في عرض الدراسة والمدرسين خلال مرحلة النضج والإخصاب. وأما الكتب الدراسية، فمنها ما يحفظ وما يشرح أو يجمع بينها. والقرآن الكريم على رأس المحفوظات ثم الحديث النبوي. واسترجعت "رسالة القيرواني مكانة الأفضلية في الفقه. وكان الحديث يحفظ في الغالب من كتب "الصحاح" و"الشفا" لعياض. وفي الأصول برز على الخصوص "تقريب الوصول إلى علم الأصول" لعبد الله بن جزي. وفي مواد اللغة "كتاب" سيبيه و"فصيح" ثعلب و"التسهيل" لابن مالك و"الإيضاح" لأبي علي الفارسي.

 

(1/3140)

 

 

وفي الحساب "التلخيص" لابن البناء. وفي الفرائض "رجز" التلمساني و"الحوفية" (نسبة إلى الحوفي أبي القاسم أحمد بن محمد، ت. 588). وإذا كان في هذه المصنفات ما هو رجز، فإن وضع الأراجيز عم مختلف الفنون وحتى بعض الكتب مثل "فصيح ثعلب" الذي نظمه رجزا محمد البلياني الأسلمي(1) (ت. 764). وهناك مؤلفات كثيرة غير هذه المشار إليها وهي مجرد نماذج.

__________

(1) المصدر نفسه، ج 2، ص. 365؛ ج 3، ص. 198، 392. وراجع برنامج المجاري وبرنامج الوادي آشي.

 

(1/3141)

 

 

وفيما يرجع إلى المختصرات، فهي تعني إما اختصار مادة معرفية أو جزء منها، وإما اختصار كتاب بعينه. ومن الصنف الأول: "القوانين الفقهية في المذهب المالكي"، وهو شبيه في تركيزه ب"ـالأجرومية" في النحو، وكذا "المختصر البارع في قراءة نافع"، وكلاهما لمحمد بن جزي ((ت. 741). ومن الصنف الثاني مختصر وضعه ابن النشا إبراهيم الوادي أشي لشرح "الشهاب" لابن وحشي، وقد وضع أيضا مختصرا ل"ـالعقد الفريد". ولابن ليون التجيبي عدة مختصرات، منها اختصار "بهجة المجالس" لابن عبد البر. وكان مولعا لاختصار الكتب حتى قال عنه بعض

 

(1/3142)

 

 

المغاربة: لو رأى رجلا طُوَالاً، لاختصره. وكذلك كان من المولعين في هذا الباب ابن فضيلة المري(1) .

وتراجع التحفظ في الإجازة أخذا وعطاء بشكل ملحوظ. وأكثر المستجيزين حرصا من كانوا يبحثون عن الإجازة من علماء المغرب والمشرق معا، وإن لم يكن كل الشيوخ يجيزون طلبهم. وقد تعتبر إجازات بعضهم ذات أهمية خاصة مثل إجازة أبي جعفر بن الزبير لابن سهل في القراءات السبع. وكان ابن الزبير من كبار شيوخ القراء في القرن

__________

(1) الإحاطة، ج 2، ص. 342؛ بغية، ص. 182؛ الداودي، طبقات، ج 2، ص. 86؛ المقري، نفح، ج 8، ص. 58، 373.

 

(1/3143)

 

 

السابع(1) . ومن الإجازات العامة التي تتضمن مرويات الأستاذ ومؤلفاته بما فيها ما كان إبداعا، إجازات للمجاري من محمد بن مرزوق التلمساني، والمحدث زين الدين العراقي بمصر، وابن جماعة عز الدين الكناني، والمحدث اللغوي أبي إسحق الشاطبي الأندلسي(2) ، إلخ.

وقد يتضمن نص الإجازة معلومات عن إنتاج المجيز وذكر بعض شيوخه وما درس عليهم، مثل إجازة محمد الإستجي الحميري لأبي الوليد إسماعيل

__________

(1) الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج 4، ص. 1484؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص. 242، 451.

(2) المجاري، برنامج، ص. 81، 116، 135، 149، 152.

 

(1/3144)

 

 

الأيادي سنة 641، وهي غزيرة المعلومات أنيقة الأسلوب(1) . وفي السنة المذكورة أو بعدها بقليل توفي طلحة اليابري الإشبيلي. وقد انتصب لتدريس القراءات والعربية في حياة معظم أساتذته، واستجير وهو في العشرين من عمره(2) .

التواصل الثقافي

على الرغم من العلاقات السياسية المتردية بين الأندلس المسلمة وجاراتها المسيحية، فإن التواصل الثقافي بين العناصر المتساكنة لم يتوقف،

__________

(1) الإحاطة، ج 2، صص. 319-329. وانظر نصوص بعض الإجازات القصيرة في برنامج المجاري، ص. 81؛ وابن الشاط، الإشراف، ص. 117.

(2) السيوطي، بغية، ص. 273.

 

(1/3145)

 

 

بل تزايد شكلا وحجما لدى الطوائف الثلاث. وهكذا، فإن الأرغونيين، بعد استيلائهم على مرسية سنة 641/ 1243م، أنشأوا معهدا بها لاستقبال الطلبة من الديانات الثلاث، وأسندوا إدارته إلى عالم أندلسي كبير هو أبو بكر محمد الرقوطي (من Ricate القريبة من مرسية) والذي جمع بين الطب والهندسة والفلسفة ومعرفة اللغات، وحظي بتقدير كبير من السلطان والطلاب(1) .

وبطليطلة أنشأ الأسقف ريموند (ت. 1251م) مؤسسة لترجمة المؤلفات العربية إلى اللاتينية ليتاح للمسيحيين، طلابا ومدرسين،

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 68؛ نفح، ج 5، ص. 266.

 

(1/3146)

 

 

الإطلاع عليها(1) .

وفي الربع الأخير من القرن 5هـ/ 11م، أنشأ إسحق بن يعقوب الكوهن - وهو يهودي مغربي من نواحي فاس - معهدا للدراسات التلمودية باليوسانة من إقليم قرطبة. وهو أحد كبار فقهاء اليهود، وضع مدونة ضخمة في فقه التلمود، من عشرين مجلدا، وترك مجموعة كبيرة من الفتاوي بالعربية(2) .

__________

(1) د. رفعت ي. عبيد، "فضل العرب على أوربا"، مجلة الأصالة"، أكتوبر - نوفمبر، 1978، الجزائر.

(2) محمد إبراهيم الكتاني، "الكتاب المغربي وقيمته"، مجلة البحث العلمي، 4-5، 1965.

 

(1/3147)

 

 

وأنشأت أول مدرسة إسلامية على عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج. وعرفت بالمدرسة النصرية نسبة إلى جد دولة بني نصر (بني الأحمر). وتولى الإشراف على إنشائها حاجبه رضوان من مواليه، وأصله قشتالي من قلصادة قلعة رباح (La Calzada de Calatrava) بين بياسة وطليطلة(1) . وخصصت لهذه المدرسة الغرناطية أوقات تلائم دورها ومتطلباتها. وأتبعت هذه المدرسة بمدارس أخرى. وتوفي العاهل مؤسسها سنة 755هـ، وفتحت أبوابها لطلاب الأديان الثلاثة من الأندلس وخارجها، فكأنها تبنت

__________

(1) الإحاطة، ج 1، ص. 507 (تعليق المحقق).

 

(1/3148)

 

 

بغرناطة دور المعهد الأرغوني بمرسية والذي أنشئ قبل قرن واحد. وقد نقشت على جدرانها أبيات من نظم لسان الدين ابن الخطيب. ومن مدرسيها الأولين ابن الفخار الإلبيري محمد بن علي الخولاني من كبار شيوخ العربية، وأبو عبد الله مرزوق التلمساني الذي تولى بها تدريس "صحيح البخاري". ومما حبسه السلطان محمد الثامن (الأعسر) على خزانة المدرسة النصرية، نسخة من كتاب "الإحاطة" في اثني عشر مجلدا كتب نص التحبيس عليها الوزير الفقيه أبو يحيى بن عاصم سنة 829هـ. وكان ابن الخطيب قد وجه في حياته نسخة من "الإحاطة" إلى مصر، حيث

 

(1/3149)

 

 

وقفها على خانقاه الصالحية(1).

وقد أنشأ محمد الأنصاري الساحلي مدرسة غربي الجامع الأعظم بغرناطة مباشرة بعد بناء المدرسة النصرية، كما بنى مجموعة من المساجد. وقد ورث عن والده الجاه والثروة، لكن بناء المدرسة وغيرها كان من أموال وزير مغربي وقفها لهذا الغرض وتولى عنه الساحلي تنفيذ الأعمال(2) .

__________

(1) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص. 109؛ الإحاطة، ج 1، ص. 508؛ المجاري، برنامج، ص. 119؛ السيوطي، بغية، ص. 74؛ المقري، نفح، ج 9، ص. 186، 308.

(2) الإحاطة، ج 3، ص. 191.

 

(1/3150)

 

 

وبلغ التواصل الثقافي بعدا عميقا بين المسيحيين والمسلمين، في ما بين القرنين السابع والثامن، وهي الفترة التي نشطت فيها حركة الترجمة من العربية في الأوساط الكَنَسِيَّة، وفتحت خلالها مؤسسة مرسية وأخرى بطليطلة من لدن الأطراف المسيحية. كما أنشأت مجموعة مدارس بغرناطة خلال القرن الثامن. وكانت تنعقد لقاءات بين المثقفين النصارى - وأكثرهم رهبان - ومعاصريهم المسلمين أدباء وفقهاء. ونقل الونشريسي في "المعيار" نص مناظرة جرت بين الأديب الفقيه أبي علي الحسين بن رشيق التغلبي وقسيس من معهد مرسية، وأصلها في كتاب

 

(1/3151)

 

 

ابن رشيق: "الرسائل والوسائل"، حيث أشار هذا العالم إلى حركة الترجمة النشيطة بمرسية، قصد إطلاع النصارى على المؤلفات الإسلامية ثم الرد عليها.

 

وتناولت المناظرة بين ابن رشيق والقسيس قضية الإعجاز في القرآن . ومع أن ابن رشيق يعترف بما ناله من حيرة تجاه إطلاع القسيس وجدله، فقد انتهى إلى إفحامه حسب روايته. وقد كان لابن رشيق - الذي استقر مدة بفاس كاتبا بالبلاط المريني، وبسبتة محترفا التوثيق - مهاترات وخصومات مع الأديب البارز مالك بن المرحل. وخلال هذه الفترة بالذات كان اختلاط المتعلمين من أهل الديانات

 

(1/3152)

 

 

الثلاث بمصر أمرا مألوفا، ولو أن ابن الحاج الفاسي ندد به. ولم يكن الفضول العلمي والرغبة في الإطلاع على ما عند الآخرين مقصورا بالأندلس على النصارى. فحتى بين المسلمين كان هناك علماء يتوجهون إلى الممالك المسيحية الإيبيرية ويخالطون رجال الدين بها لمناظرتهم. وابن لب الكناني، معاصر أبي جعفر بن الزبير، كان عالم رياضيات وطبيعيات وإلهيات، وكانت له مناظرات مع رهبان الممالك المسيحية. وقد تصدى للتدريس بمالقة مسقط رأسه. وذكر ابن الخطيب عن أحد وزراء بني الأحمر، محمد بن عبد الله بن الحاج، أنه كان "أعلم الناس

 

(1/3153)

 

 

بأخبار اليوم وسيرهم وآثارهم"(1) .

وبالرغم من أن المناظرات مع رجال الدين النصارى كانت تنصب غالبا على الشؤون اللاهوتية، فإنها كانت تجري عادة في جو هادئ خصوصا عندما تكون هناك قواسم فكرية مشتركة ويرتفع المستوى الثقافي للجانبين.

أما التواصل مع باقي أقطار المغرب وبلاد المشرق، فمعظم وجوهه يدخل في نطاق الدراسة أو التدريس، ولو أن الأسباب قد تختلف أحيانا أو تجتمع كاللجوء السياسي والرغبة في الاستقرار النفسي

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 472؛ ج 3، ص. 80، 335؛ السيوطي، بغية، ص. 120؛ الونشريسي، معيار، ج 11، ص. 155.

 

(1/3154)

 

 

والبحث عن عمل أو شهرة:

1 - المغاربيون بالأندلس:

معظم المثقفين من هذه الطبقة تميزوا بمستوى عال من التكوين الثقافي ببلادهم، وبعضهم تابع دراسته بالأندلس. كما أن أكثرهم نالوا شهرة واسعة داخل أقطار المغرب وخارجها، ومن بينهم:

1 - محمد بن عياض، حفيد القاضي عياض (ت. 654). وقد درس بسبتة مسقط رأسه وتابع بإشبيلية والجزيرة الخضراء، وأجازه العديد من علماء المشرق مكاتبة، وتولى القضاء بغرناطة(1) .

__________

(1) الإحاطة، ج 2، ص. 228.

 

(1/3155)

 

 

2 - أبو القاسم العزفي عبد الرحمن بن أبي طالب (ت. 717). درس بالأندلس، ومن شيوخه بغرناطة أبو جعفر بن الزبير. وكان العزفي هذا فقيها محدثا. ألف كتاب "الإفادة بذكر المشهورين من المتأخرين، بالإفادة"، وأهداه للوزير الأندلسي أبي عبد الله بن الحكيم. توفي ودفن بفاس (بدرب الطويل)(1) . وهو من أسرة أبي القاسم محمد بن أحمد العزفي مؤسس الإمارة العزفية بسبتة.

3 - ابن رُشَيْد الفهري السبتي محمد بن عمر (ت. 721هـ) محدث مفسر أديب مؤرخ، وصاحب أكبر رحلة حجازية إسلامية في ست

__________

(1) المقري، أزهار الرياض، ج 2، صص. 356-357.

 

(1/3156)

 

 

مجلدات. دخل الأندلس بعد رحلته إلى المشرق، فتولى - بفضل وساطة صديقه الوزير ابن الحكيم - الخطابة والتدريس بجامع غرناطة، ثم خلف في القضاء بها أبا جعفر بن الزبير. وابن رشيد من كبار المحدثين(1) .

4 - إبراهيم بن عبد الرحمن التازي التسولي (ت. 749) فقيه جليل كتب للبلاط المريني مدة طويلة وانتدب للسفارة بغرناطة، وهناك ألقى دروسا مدة إقامته وحضرها ابن الخطيب(2) .

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 135؛ المقري، أزهار، ج 2، صص. 347-356؛ الزركلي، الأعلام، ترجمة ابن رُشيد.

(2) الإحاطة، ج 1، ص. 372؛ المقري، نفح، ج 7، ص. 306.

 

(1/3157)

 

 

5 - أحمد الكرياني من قبيلة كريانة الريفية بالمغرب (ت. 749). درس الفلسفة والكيمياء والطب والأدب. وقام بدراسة بعض الأعشاب الطبية بضواحي غرناطة. وكانت وفاته بتونس(1).

6 - محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي التميمي من فاس (توفي في حياة ابن الخطيب). وهو فقيه متكلم أديب تولى تدريس الفقه بالجزيرة ومالقة منذ 721هـ. وكان هو نفسه قد درس بالأندلس وفاس وسبتة. ووَسَمَهُ ابن الخطيب بالتملق للسلطة والتطارح على المال(2) .

__________

(1) الإحاطة، ج 1، صص.272-277.

 

(2) المصدر نفسه، ج3، ص. 130.

 

(1/3158)

 

 

7 - أبو القاسم محمد بن يحيى العزفي (ت. 768) أحد رؤساء سبتة، تولاها في ما بين 719 وأوائل 720هـ. ثم انتقل إلى غرناطة وأقام بها مدة قبل أن يلتحق بالبلاط المريني. كان أديبا موشحا ذا علم بالطب(1) .

8 - أبو عبد الله بن أبي عثمان سعيد الصنهاجي الفاسي (القرن 9هـ). قام بتدريس الرياضيات والفرائض بغرناطة، ونوه به تلميذه المجاري(2) .

9 - محمد بن خميس التلمساني (ت. 708). أديب واسع المعارف في العربية مع مشاركة في العلوم الشرعية والعقلية. تولى تدريس العربية

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 11-12.

(2) المجاري، برنامج، ص. 128.

 

(1/3159)

 

 

بغرناطة قبل أن يجتذبه التصوف والسياحة. حظي برعاية الوزير ابن الحكيم، وقتل يوم اغتيال هذا الوزير. وكان ابن خميس من كبار الشعراء(1) .

10 - محمد بن محمد القرشي المقري التلمساني (ت. 758). درس بأقطار المغرب وبمكة ودمشق وبيت المقدس. وهو فقيه كبير وذو مشاركة علمية واسعة. عينه أبو عنان على قضاء الجماعة بفاس، ثم بعثه سفيرا إلى غرناطة سنة 756 فأدى مهمته واستقر بمالقة رافضا العودة إلى المغرب، ثم لجأ إلى جامع غرناطة وتشفعت لصالحه شخصيات كبيرة لدى أبي عنان فعاد إلى فاس مكرما،

__________

(1) المقري، نفح، ج 7، ص. 271-280.

 

(1/3160)

 

 

وبها توفي؛ ثم نقل جثمانه إلى تلمسان. وقد درس عليه كثيرون من أهل الأندلس كلسان الدين ابن الخطيب، وابن زمرك وأبي إسحق الشاطبي(1) .

11 - ابن مرزوق محمد بن أحمد العجيسي التلمساني (ت. 781). درس بأفريقية وتلمسان والمشرق، خصوصا الحجاز. وهو فقيه كبير ومشارك. حصل على مناصب سامية بالمغرب، وانتقل مدة إلى غرناطة فتولى الخطبة بها والتدريس، وكان من أوائل أساتذة المدرسة النصرية. وعاد بعد ذلك إلى المغرب(2)

__________

(1) الإحاطة، ج 2، صص. 191-226؛ المقري، نفح، ج 7، ص. 134، 151.

(2) الإحاطة، ج 3، صص. 103-130؛ المقري، نفح، ج 7، صص. 309-315، 323-338.

 

(1/3161)

 

 

.

12 - علي بن محمد الغماري التلمساني، عرف بابن الأشهب (ت. 791) وأصله من غمارة شمال المغرب. تولى التدريس مدة بغرناطة. ومن تلاميذه بها: المجاري وابن مرزوق الحفيد وأبو بكر بن عاصم وغيرهم. تزفي ودفن بفاس(1) .

13 - ابن حيان النفزي محمد بن يوسف (ت. 745). من أصل إفريقي. ولد بنواحي غرناطة. وكان عالما مشاركا على أوسع نطاق، بما في ذلك الطبيعيات والرياضيات وعلوم العربية التي لم يجاوره فيها إلا قليل، واللغة الفارسية والتركية، إلخ. درس بالأندلس

__________

(1) المجاري، برنامج، ص. 125؛ ابن مريم، البستان، صص. 143 - 144.

 

(1/3162)

 

 

وإفريقية ومسر والحجاز. توفي بالقاهرة، ومدفنه بالقرافة. وهو غير ابن حيان المؤرخ الذي سبقه زمنا وألف موسوعة ضخمة في تاريخ الأندلس، ونسبها بعض المستشرقين خطأ إلى ابن حيان النفزي(1) .

14 - ابن خلدون عبد الرحمان بن محمد (ت. 808). غني عن التعريف. دخل الأندلس سنة 764 على عهد السلطان محمد الخامس في ولايته الثانية، ولقي منه ترحيبا عظيما. وكانت له لقاءات بالأدباء والمثقفين كصديقه ابن الخطيب الذي نوه به

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 45؛ السيوطي، بغية، ص. 121؛ الزركلي، الأعلام، ترجمة أبي حيان النحري (محمد بن يوسف).

 

(1/3163)

 

 

في كتاب "الإحاطة"(1) ؛ ولقي ابن بطوطة، ولكنه لم يصدق الكثير من رواياته.

2 - وافدون من المشرق:

هؤلاء عددهم كثيرا بسبب تردي الأوضاع السياسية بالأندلس وانحسار آفاق العمل وهيمنة الأساطيل المسيحية على البحر المتوسط، خصوصا خلال القرن 8/14م. ومن الوافدين:

1 - إبراهيم بن خلف السنهوري. قدم من المشرق، وقضى شهورا بتونس قبل أن يحل بإشبيلية سنة 603؛ كما قضى مدة بالمغرب بعد إفلاته من أسر القراصنة. ولا يبدو أن لإشعاعه أثرا يستحق الذكر، ولو أنه أجاز بعض الطلاب(2)

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 497، 499.

(2) ابن الأبار، تكملة، ج 1، ص. 176.

 

(1/3164)

 

 

.

2 - عمر ابن مودود الفارسي البخاري (ت. بعد 640). صوفي محدث متكلم. نزل بمالقة حوالي سنة 630. من الذين أجازهم ابن الأبار. انتقل إلى مراكش وبها توفي(1) .

3 - الواعظ البغدادي الوِتْرِي محمد بن أبي بكر (ت. 663). أصل سلفه من قصر كتامة (القصر الكبير) بالمغرب. وهو واعظ كبير متمكن من المذهب الشافعي. وله مجموعة قصائد في المديح النبوي عرفت ب"ـالوتريات"، وإليها نسب، لأنه جعل عددا من قصائده واحدا وعشرين بيتا، أي بزيادة وتر. أقام بمراكش سنوات منذ قدومه، وانتقل إلى الأندلس واعظا،

__________

(1) المقري، نفح، ج 4، ص. 140.

 

(1/3165)

 

 

ثم توجه إلى الحج على أن يعود للاستقرار بالمغرب، فأدركته المنية بتونس(1) .

4 - محمد الخلاطي الفارسي (القرن 8). قضى مدة بالمغرب، وهو متصوف وأديب. لبس خرقة الصوفية من أبي إبراهيم الماجري، ثم انتقل إلى الأندلس سنة 704 حيث ألف في نحو اللغة الفارسية وشرح ألفاظها(2) .

وكل هذه الشخصيات قضت مدة بالمغرب قد تفوق فترة استقرارها بالأندلس، لأن إمكانات التواصل به في هذه الحقبة أوسع، وفرص العمل أكثر،

__________

(1) عبد الله كنون، "الواعظ البغدادي"، مجلة البحث العلمي، الرباط، 7، 1966.

(2) الإحاطة، ج 3، ص. 168.

 

(1/3166)

 

 

3 - الأندلسيون بالشمال الإفريقي:

كانت أعظم مراكز المعرفة وأنشطها في هذه الحقبة هي فاس وسبتة بالمغرب، وتلمسان وبجاية بالمغرب الأوسط، وتونس بالمغرب الأدنى، وطرابلس في القطر الليبي.

واستقبلت سبتة أعدادا كبيرة من الأندلسيين بحكم جوارها للأندلس ووضعيتها الاقتصادية المريحة. وقد وصفها ابن الخطيب ببصرة علوم اللسان، وأشار إلى ثرواتها السمكية وما يشحن إلى أسواقها من حرير وكتان، وما يتوافر بها من خزائن(1) . وقد ساعدت مدرسة أبي الحسن الشاري منذ القرن السابع، ثم مدرسة

__________

(1) ابن الخطيب، معيار الاختيار، ص. 146.

 

(1/3167)

 

 

أبي الحسن المريني في القرن الثامن، على استقبال عدد كبير من الطلاب والأساتذة، مع توافر خزائن كثيرة بالمدينة كما كان الشأن بفاس حيث عشرات المدارس والزوايا، وكذا بتلمسان العبد الوادية، وتونس الحفصية التي توالي إنشاء المدارس بها إلى القرن التاسع. وبطرابلس توجد مدارس عديدة أشار إليها الحسن الوزان، كما كانت هناك مؤسسات تعليمية إباضية عديدة. وعلى العموم، فقد توافد على أقطار المغرب الأندلسيون طلابا ومدرسين ومثقفين من كل اتجاه، فضلا عن الأسر اللاجئة. ومن بين الطلاب من كانوا يتنقلون بين مراكز المعرفة عبر

 

(1/3168)

 

 

الشمال الإفريقي، وقد يواصل عدد منهم الرحلة إلى المشرق. ومن الوافدين:

1 - إبراهيم التنوخي من طريف (القرن 8). درس بسبتة على أساتذة مغاربيين وجمع بين القراءات والعربية والأدب(1) .

2 - الحسين بن عتيق التغلبي (أواخر القرن 7) مشارك في العلوم اللسانية والتعاليم (فلسفة، رياضيات، إلخ) والتاريخ. عاصر مالك بن المرحل وهاجاه. تولى الكتابة لرئيس سبتة ثم لأبي يعقوب المريني. وهو من مرسية(2)

__________

(1) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، صص. 374-375.

(2) المصدر نفسه؛ ص. 472.

 

(1/3169)

 

 

3 - أحمد بن عجلان القيسي الإشبيلي (ت. في عشر التسعينات من القرن 7). من فقهاء تونس ومحدثيها، وكانت له شعبية وحرمة لدى المسؤولين(1) .

4 - ابن الفخار أبو بكر محمد بن عبد الرحمان (ت. 723). درس بسبتة، ثم استقر بمالقة لتدريس الفقه والقراءات وغيرها. ومن شيوخه بسبتة: النحوي ابن أ[ي الربيع، والمحدث عثمان العبدري، والأصولي أبو الحسن البصري، والعروضي ابن الخضار التلمساني(2) .

__________

(1) السراج، الحلل السندسية، ج 1، ص. 690.

(2) الإحاطة، ج 3، صص. 92-93.

 

(1/3170)

 

 

5 - الطوَيْجِن الساحلي إبراهيم بن محمد (ت. 747) غرناطي قام برحلة تجارية إلى السودان الغربي عبر المغرب حيث اتصل بعاهله وأهداه بعض طرف السودان، وقام أيضا برحلة إلى الشرق العربي، وكان أديبا قديراً، وذكره ابن بطوطة في "رحلتـ"ـه. نقل بعض مؤثرات الحضارة الأندلسية إلى إفريقيا الغربية(1) .

6 - محمد بن عبد الله النميري من وادي آش (ت. 740). من أساتذته بسبتة ابن الشاط وابن الخضار وأبو بكر بن عبيدة(2) .

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 329، نفح، ج 2، ص. 393.

(2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 89.

 

(1/3171)

 

 

7 - محمد بن يحيى الأشعري المالقي (ت. 741). درس بسبتة على شيوخ من المغربين الأقصى والأوسط. قام في مالقة بتدريس عدة علوم، بما فيها الأصول والحساب والفرائض، مع ولايته لمنصب القضاء. توفي شهيدا بظاهر طريف(1) .

8 - ابن جزي محمد بن أحمد الغرناطي (ت. 741)، صاحب "القوانين الفقهية". من شيوخه بسبتة ابن الشاط. ودرس بغرناطة على شيوخ مغاربة كابن رشيد. وله مؤلفات شتى. استشهد في موقعة طريف(2) .

__________

(1) النباهي، المرقبة، ص. 241؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص. 179.

(2) الإحاطة، ج 3، ص. 20.

 

(1/3172)

 

 

9 - ابن العربي محمد بن علي الغساني (ت. 748) عالم قراءات وعربية وعلوم دينية. ودرس بسبتة على أبي الحسن الغافقي وابن رشيد وغيرهما. ومن شيوخه بفاس سليمان اللجائي وابن آجروم الصنهاجي(1) .

10 - ابن منظور القيسي محمد بن عبد الله (ت. 750) من مالقة. من شيوخه ابن رشيد ومالك بن المرحل وأبو عمر الطنجي. كان مشاركا وله مؤلفات منها واحد في نوازل القاضي أبي عُمر بن منظور(2) . وهناك أيضا ابن منظور

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 96-97.

(2) المصدر نفسه، ج 2، ص. 170؛ الزركلي، الأعلام، ترجمة محمد بن عبد الله (ابن خميس).

 

(1/3173)

 

 

الأفريقي صاحب "لسان العرب".

11 - ابن أبي الجيْش محمد الصريحي من مالقة (ت. 750) عالم فرائض وحساب مشارك في الفقه والأصول والعقليات. درس بسبتة على أبي إسحق الغافقي ومعاصريه(1) .

12 - ابن خميس محمد الأنصاري من الجزيرة الخضراء (ت. 750). درس على عدة شيوخ بسبتة، وتلقى إجازات بعض علماء المغرب الأوسط(2) . من شهداء الطاعون الأسود بسبتة.

13 - الشُّدَيد محمد بن قاسم الأنصاري. ولد سنة 710. من جيان. معاصر ابن الخطيب. عالم قراءات. وشيوخه كثيرون بسبتة وفاس(3)

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 78.

(2) المصدر نفسه، ص. 185.

(3) المصدر نفسه، صص. 198-199.

 

(1/3174)

 

 

.

14 - التلمساني الأنصاري محمد بن أحمد (ت. 764). من شيوخه أبو خاتم أحمد العزفي وأبو إسحق الغافقي وأبو إسحق البرغواطي(1) .

15 - ابن رضوان البخاري عبد الله بن يوسف (ت. 783). من مالقة. درس بسبتة وتلمسان وتونس. ذو ثقافة أدبية واسعة. تولى سامية بغرناطة والمغرب. وتوفي بأنفا (الدار البيضاء)(2) .

16 - المَجَاري محمد بن محمد (ت. 862). عالم جليل مشارك تابع دراسته بتلمسان وبجاية وتونس ومصر فضلا عن غرناطة. ومن مؤلفاته "برنامج" غني بالمعلومات عن التاريخ العلمي

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 201.

(2) المصدر نفسه، ص. 444.

 

(1/3175)

 

 

لعصره(1) .

17 - العشاب عبد الله بن أحمد الغساني. لقي شيوخا مغاربيين كابن عرفة وابن خلدون وسعيد العقباني. واستقر بدرعة بعد إتمام "رحلتـ"ـه(2) .

18 - القلصادي علي بن محمد (ت. 891). عالم جليل ألف في الرياضيات والفرائض والفقه وغير ذلك. درس بباجة وتلمسان ووهران وتونس. وتوفي بباجة. ولم يتحدث عن سبتة ولا عن فاس في "رحلتـ"ـه، لأن سبتة احتلها البرتغال بعد بضع سنوات من مولده، وفاس كانت تعاني تدهورا سياسيا واقتصاديا في شبابه

__________

(1) المجاري، برنامج، ص. 138.

(2) محمد السراج، الحلل السندسية، ج 1، ص. 614.

 

(1/3176)

 

 

وبعده(1) .

وعدد الوافدين على المغاربة أكبر من أن تتابعه هذه الدراسة تفصيلا. وقد ترد أسماء أخرى في الفصول اللاحقة، من بينها على الخصوص ابن الأبار الأديب المؤرخ.

4 - الأندلسيون بالمشرق:

إن اتجاه الأندلسيين إلى الشرق بلغ أوجه في القرن السابع، وذلك رغم من النكبات

والأزمات التي عرفها المشرق في هذه الفترة، مثل الغزو التتري وسقوط بغداد واستمرار الحروب الصليبية وتحركات الأساطيل المعادية، بينما كان القرن الثامن لعموم الشمال الإفريقي حقبةَ انتشار المدارس والزوايا،

__________

(1) القلصادي، رحلة، ص. 38، 94، 111، 123.

 

(1/3177)

 

 

أي أماكن إيواء الطلاب والمثقفين. ومن ثم استقبلت هذه الجهة من العالم الإسلامي كبيرة من أهل الأندلس، مع ما كانت تثيره نكبات الأندلس من تعاطف مع مهاجريها، وما كان للجهات الرسمية من تنافس بينها لاستقبال المزيد من نبغاء القطر الأندلسي.

وكان من الوافدين على المشرق:

1 - محمد بن أحمد بن سليمان الزاهري (أو الزهري حسب السيوطي). وهو أديب مالقي (ت. 617) درس بكل من مصر والجزيرة والشام وبغداد التي لقي بها ياقوت الحموي وتوطدت بينهما الصداقة. ثم انتقل إلى إيران واستوطن في منطقة الجبال، ثم استقر ببَرُوجِرْد

 

(1/3178)

 

 

واستشهد على يد التتر بعد أن تعاطى تدريس الأدب وألف عدة كتب(1) .

2 - أبو الخطاب بن دِحْية الكلبي عمر بن الحسن (ت. 633). ذكر المقري أن أسلافه من "دانية". وهو بلنسي في مصادر مختلفة كـ"ـالوفيات" و"بغية الوعاة". وأكدت دراسة لمحمد الفاسي أنه سبتي. درس كثيرا، واتجه خاصة إلى الحديث بالمغرب وإفريقية ومصر والشام والعراق وإيران. تولى قضاء دانية، كما عينه الكامل شيخ دار الحديث بالقاهرة. وهو أديب له مؤلفات(2)

__________

(1) ياقوت، معجم الأدباء، ج 17، ص. 277؛ السيوطي، بغية، ص. 11.

(2) ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص. 481؛ السيوطي، بغية، ص. 360؛ المقري، نفح، ج 2، ص. 301؛ محمد الفاسي، "ابن دحية الكلبي"، رسالة المغرب، يونيو 1948؛ الزركلي، "ابن دحية الكلبي (عمر بن الحسن)".

 

(1/3179)

 

 

. وكانت وفاته بالقاهرة حيث دفن بسفح المقطم.

3 - أحمد بن عبد الله الأنصاري المالقي (ت. 652). فقيه محدث لغوي أديب. دخل مصر وهو عالم قدير، فعظم بها صيته، وأقام بها نحو ثلاث سنوات حتى وفاته عن سن الخامسة والأربعين(1) .

4 - محمد بن علي الدهان التجيبي الغرناطي (ت. 653) درس بمكة ومصر والشام واحترف التجارة. وتوفي بقوص (المصرية)(2) .

5 - شرف الدين محمد بن عبد الله المرسي (ت. 655). نحوي فقيه أصولي محدث. درس بالأندلس ومصر والشام والحجاز والعراق وإيران وما وراء النهر،

__________

(1) بغية، ص. 135.

(2) نفح، ج 2، ص. 264.

 

(1/3180)

 

 

وجاور بمكة، وحظيت دروسه بإقبال عظيم، وصنف مؤلفات جليلة. توفي في طريقه إلى العَريش. وكان ضريرا(1) .

6 - محمد بن عبد الله اللوشي (ت. في عشر 660). زاول الطب واستقر مدة بمصر توفي(2) .

7 - محمد بن سراقة الأنصاري الشاطبي (ت. 663). درس بالأندلس ورحل لدراسة الحديث ببغداد وحلب التي تولى مشيخه دار الحديث بها على أثر ذلك. ثم انتقل إلى مصر فرأس دار الحديث الكاملية. توفي بالقاهرة(3) .

__________

(1) بغية، صص. 60-61؛ الداودي، طبقات المفسرين، ج 2، ص. 173.

(2) نفح، ج 3، ص. 13.

(3) نفح، ج 2، ص. 269.

 

(1/3181)

 

 

8 - ابن حَشيشي محمد بن عيسى الشريشي (ت. 674). استقر بالحجاز، وكان شافعيا مفتيا لغويا أصوليا. من مؤلفاته "المقتضب في الفقه"(1) . توفي بالمدينة.

9 - محمد بن علي الأنصاري البلنسي (ت. 684). عالم لغة كبير. استقر بمصر وتولى بها تدريس اللغة. وتوفي بالقاهرة(2) .

10 - ابن سحمان أبو بكر الشريشي محمد بن أحمد (ت. 685). مشارك يتقن العربية والأصول والتفسير. درس بالإسكندرية وسوريا والعراق وزاول التدريس بمصر والقدس ودمشق التي توفي ودفن بسفح قاسيون منها(3)

__________

(1) بغية، ص. 88.

(2) المصدر نفسه، ص. 83.

(3) المصدر نفسه، ص. 18؛ الداودي، طبقات المفسرين، ج 2، ص. 78؛ المقري، نفح، ج 2، ص. 332.

 

(1/3182)

 

 

11 - ابن مطرف الإشبيلي محمد بن حجاج (ت. 706). قام برحلة إلى المشرق، خصوصا الإسكندرية وعدن ومكة التي استقر بها حتى وفاته. وعرف بالصلاح والولاية، وتميز في العربية(1) .

 

12 - ابن الحكيم اللخمي محمد بن عبد الرحمن من إشبيلية (ت. 708). درس بمكة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة. وشيوخه كثيرون بالمشرق وأقطار المغرب. تولى مناصب سامية ببلاده(2) .

13 - محمد بن الحسن المالقي (ت. 771). استقر بدمشق وكان من أئمة المالكية وشيوخ العربية. وله شرح على

__________

(1) بغية، ص. 30.

(2) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص. 448.

 

(1/3183)

 

 

"التسهيل"(1) .

14 - ابن هانئ اللخمي الغرناطي إسماعيل بن محمد (ت. 771). ذهب إلى القاهرة، ثم إلى الشام فاستقر بها وتولى بها قضاء المالكية، ثم تولى بعد ذلك قضاء الشام. وكان عالما مشاركا، وله باع في العربية. وقد أصبح المشرق يحتاج إلى هذا الصنف ممن يتقنون العربية والذين يفدون من أقطار المغرب(2) .

15 - المجاري محمد بن محمد الغرناطي (ت. 862). سبق ذكره في لائحة الدارسين بأقطار الشمال الإفريقي. أثبت أسماء عدة شيوخ درس عليهم بمصر، منهم ابن خلدون وبدر الدين بن جماعة،

__________

(1) بغية، ص. 35.

(2) المصدر نفسه، ص. 199.

 

(1/3184)

 

 

وبهرام الخزرجي وكمال الدين العجمي(1) .

 

بيبليوغرافيا

1 - ابن الأبار القضاعي، محمد بن عبد الله (658/1260م)، التكملة لكتاب الصلة، القاهرة، 1375/1956م.

- -، الحلة السِّيرَاء، جزآن، تحقيق د. حسين مؤنس، القاهرة، 1963.

2 - ابن أبي زرع الفاسي (النصف الأول من القرن 8/14م)، روض القرطاس، في أخبار المغرب ومدينة فاس، الرباط، 1973م.

3 - ابن الأزرق الغرناطي، محمد بن علي (896/1491م)، بدائع السلك في طبائع المُلك، جزآن، بغداد، 1397/1977م.

__________

(1) المجاري، برنامج، صص. 147-158.

 

(1/3185)

 

 

4 - ابن الخطيب، لسان الدين محمد بن عبد الله (776/1374م)، الإحاطة في أخبار غرناطة، ثلاث مجلدات، تحقيق محمد عبد الله عنان، القاهرة، 1393/1973م.

- -، اللمحة البدرية، تحقيق أحمد عاصي، بيروت، 1978م.

- -، معيار الاختيار، تحقيق محمد كمال شبانه، الرباط، 1396/1977م.

5 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (808/1405م)، المقدمة، المطبعة البهية، القاهرة (د. ت).

- -، تاريخ ابن خلدون (المعروف بكتاب العبر...)، بيروت، 1959م.

6 - ابن خلكان، محمد بن أحمد (681/1281م)م، وفيات الأعيان، جزآن، بولاق، مصر، 1299/1881م.

 

(1/3186)

 

 

7 - ابن الشاط، القاسم بن عبد الله (القرن 7/13م)، الإشراف على أعلى شرف، تحقيق إسماعيل الخطيب، تطوان، 1406/1986م.

8 - ابن مَرْيم التلمساني، محمد بن محمد (1014/1605م)، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، الجزائر، 1986م.

9 - الداودي، محمد بن علي (945/1538م)، طبقات المفسرين، جزآن، القاهرة، 1303/1983م.

10 - الذهبي (الحافظ)، محمد بن أحمد (748/1347م)، تذكرة الحفاظ، نسخة مصورة ببيروت، عن الطبعة الهندية لسنة 1958.

11 - الزركلي، خير الدين، الأعلام، طبعة ثانية، عشرة أجزاء، القاهرة، 1954-1959م.

 

(1/3187)

 

 

12 - السراج الأندلسي، محمد بن محمد (1149/1736م)، الحلل الأندلسية، تونس، 1970م.

13 - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (911/1505م)، بغية الوعاة، القاهرة، 1326/1908.

14 - كَنون، عبد الله، "الواعظ البغدادي"، في مجلة البحث العلمي، ع 7، 1966، الرباط.

15 - الحسيسن، عبد الهادي، "بيان الوهْم والإيهام، الواقعيْن في كتاب الأحكام"، مجلة دار الحديث الحسنية، الرباط، 1979م.

16 - القلصادي، علي بن محمد (891/1486)، رحلة القلصادي، تحقيق محمد أبو الأجفان، تونس، 1406/1985م.

 

(1/3188)

 

 

17 - مؤلف مجهول، ذكر مشاهير أعيان فاس في القديم، نشر في حلقات بمجلة البحث العلمي، الرباط، وغيرها، بتحقيق عبد القادر زمامة. ونشر لاحقا باسم بيوتات فاس الكبرى (بالرباط أيضا). وذكر محققه عبد الوهاب بن منصور أن مؤلفه إسماعيل بن الأحمر وأضاف إليه غيره زيادات بعده.

18 - المجاري، محمد بن محمد (862/1458م)، برنامج المُجاري، تحقيق محمد أبو الأجفان، بيروت، 1982م.

19 - الكتاني، محمد إبراهيم، "الكتاب المغربي وقيمته"، في مجلة البحث العلمي، ع4-5، 1965م.

 

(1/3189)

 

 

20 - الفاسي، محمد، "الخزانة السلطانية ونفائسها"، في مجلة البحث العلمي، ع 4-5، 1965م.

21 - المقري التلمساني، أحمد بن محمد (1041/1631م)، نفح الطيب، 10 أجزاء، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1369/1949م.

- -، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق لجنة من الباحثين، الرباط، 1398-1399/1978-1979م.

22 - النُّباهي، علي بن عبد الله المالقي (أواخر القرن 8/14م)، المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، بيروت 1400/1980م.

 

(1/3190)

 

 

23 - الوادي آشي، محمد بن جابر (749/1338م)، برنامج الوادي آشي، تحقيق محمد محفوظ، بيروت، 1982م.

24 - الونشريسي، أحمد بن يحيى (914/1508م)، المعيار، الجزء الحادي عشر (من 13 جزءا)، تحقيق لجنة من الباحثين، الرباط، 1401/1981م.

25 - ياقوت الحَمَوِي، شهاب الدين بن عبد الله (626/1228م)، معجم الأدباء، 20 جزءا، القاهرة، 1937-1938م.

 

(1/3191)

 

 

الثقافة وتبليغها بالأندلس في مرحلة النضج والإخصاب (من القرن 4 إلى 6هـ/10 إلى 12م)

... ... ... ... ... ...

الدكتور إبراهيم حركات

كلية الآداب - الرباط

 

(يساهم القرن الرابع: ثقافيا، في مرحلة سابقة وأخرى لاحقة. فهو أوْجُ مرحلة الريادة، وقفزة كبرى نحو مرحلة التوسُّع والتنويع في العطاء).

حصلت تطورات كثيرة في المجالات الثقافية والمعرفية خلال هذا العصر:

1- اتسع نطاق التبادل الثقافي بين الأندلس وأقطار المغرب، ولاسيما على عهد الموحدين.

 

(1/3192)

 

 

2- ارتفع حجم الإِنتاج المعرفي والإِبداعي وتنوعت مجالاته أو اكتملت شخصيته كما في الفلسفة والفلاحة والأدب.

3- انعكس التوجُّه السياسي والفكري والمذهبي لدى المرابطين والموحدين على المناخ الثقافي بالأندلس سلباً وإيجاباً، دون أن يتخلى الشمال الإِفريقي عن خصوصياته ومميزاته الأساسية، مع فتح المجال أمام المثقفين من أهل الأندلس ليستقروا بالشمال الإِفريقي.

4- ظهور زعامات شعبية سياسية أو دينية تستقطب أنصاراً ومتعاطفين جعل محنة المثقفين وأنصارهم أوسع نطاقاً مما عرفته المرحلة الماضية (قرن 2-4 هـ)، وذلك بحكم

 

(1/3193)

 

 

تعدد الاِتجاهات والطموحات الشخصية أيضاً.

5- تغلغلت الثقافة العربية أكثر فأكثر إلى الأوساط المسيحية واليهودية بعد أن شقت طريقها إلى المرحلة السابقة إلى هذه الأوساط.

والمجتمع المسلم لم تكن أكثريته عربية وبربرية، بل كانت من المولدين المنحدرين من أصول أيبيرية ويهودية(1) والذين اتخذوا أسماء عربية، بينما احتفظت مجموعات من المسيحيين في ظل السلطة المسلمة، بدينها وشعائرها وأطلق عليهم لقب

__________

(1) Pérès, La poésie andalouse, p.254; A. Cortabarria, «Les études mozarabes en

Espagne», in Mélanges (14), p.10.

 

(1/3194)

 

 

المسْتَعْربة Mozarabes)) مع كونهم اتخذوا نمط الحياة العربية وعايشوا المسلمين في أحيائهم أو انعزلوا حسب الظروف، وكانوا يؤدون الضرائب للسطلة الإِسلامية. وحمل المولدون بطبيعة الحال شيئاً من مؤثرات الثقافة القوطية التي عايشوها أو أخذوها عن أسلافهم، ولكن هذا التأثير ضعيف بالقياس إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية التي انتقلت إليهم أو ساهموا في تكوينها. فحتى أدب المستعربين ظل كنائسيا متأثرا بالكتاب المقدس(1) . وكانت مراكزهم الرئيسية هي ليون وقطلونيا وريوخا (Rioja) وقشتالة حيث

__________

(1) A. Cortabarria, pp. 11-12.

 

(1/3195)

 

 

ألفت كتب في التاريخ ومناقب الصلحاء وشُرح الكتاب المقدس، ومؤلفو عدد منها مجهولون. وفي ظل السلطة القوطية لم تكن توجد ثقافة وطنية موحدة بل ثقافات جهوية عديدة، لكن الثقافة العربية تغلغلت في أوساط المستعربة(1) إلى حد أن مستعربة طليطلة تشبثوا خلال القرنين 12-13 (6-7 هـ) بالعربية كلغة ثقافة إلى جانب لغتهم الخاصة في الحياة اليومية(2). وساعدت الهجرات الداخلية للمستعربة على نقل المصطلحات العربية إلى الإِسبانية، كما أن المصطلحات الرومانية أخضعت للمعايير العربية

__________

(1) Op. cit., pp. 16-17.

(2) Op. cit., p. 17.

 

(1/3196)

 

 

في تعريب المعاجم الطبية والنباتية(1).وهناك من يرى أن إسبانيا إنما ملكت أدبها الخاص لأول مرة، ابتداء من مؤثرات قصة »السيد« (Le cid)(2).

وخلال هذه الفترة كانت أوروبا المسيحيَّة لا تزال منشغلة بمشكل السلطتين الزمنية والروحية، والذي أثار الجدل والنزاعات المزمنة بين الكنيسة والملوك. وقام ابن رشد الفيلسوف بإنعاش فلسفة أرسطو والعمل على الموازنة بين الفلسفة والشريعة، وغزت أفكاره بسرعة عدداً من الأوساط الثقافية بأوروبا مهيئاً الجو لسان طوماس

__________

(1) Op. cit., pp. 18-20.

(2) Histoire de l’humanité, 3, p.581.

 

(1/3197)

 

 

داكان (Saint Thomas d’Aquin) للتقريب بين الإيمان وفلسفة أرسطو(1). وقبل ابن رشد الفيلسوف بقليل، لمع اسم عالم أندلسي اسمه عبد الله بن سهل الغرناطي (ت. 553/1157م) كعالم رياضي منطقي ومتضَلّع في العلوم القديمة كما يقول ابن الخطيب(2). وكان يدرس عليه طلاب من الديانات الثلاث، ويفد إليه عدد من نصارى طليطلة وهو ببياسة، أي في عمق الجنوب الأندلسي، وكان الطلاب مجمعين على أنه شخصية فريدة في تبحرها وإقناعها.

__________

(1) Mosca el Boutboul, Histoire des doctrines politiques, p. 64.

(2) الإحاطة، ج 3، ص. 404.

 

(1/3198)

 

 

وقد ظل هذا التفتح الثقافي المتبادل يسير في خطين متوازيين: أحدهما مبادرة الخواص أنفسهم كأساتذة ومؤلفين وطلاب، والثاني رعاية السلطة بشكل يختلف تنظيماً واستمراراً ونوعاً. ثم إن علاقة السلطة بالمثقفين لا تحددها السلطة بالضرورة. فما زال لهذه الشريحة دور في تحديد هذه العلاقة بشكل أو بآخر كما سنرى.

السلطة والمثقفون

القرن الخامس لم تعمل ظروف الاِضطراب خلاله على تحجيم المعرفة أو تراجعها. صحيح أن الثقافة الأدبية أصبح لها وزن يفوق حجماً ما كانت عليه من قبل، بحكم تعدّد الممالك والبلاطات والمصالح، إضافةً

 

(1/3199)

 

 

إلى أن هذه الثقافة اتجهت نحو الشعبية بشكل لم يكن معهوداً من قبل. أما سائر ألوان المعرفة، فتابعت طريقها قائمة على مكتسبات الماضي أو متطورة بشكل ما في هذا المجال أو ذاك من مجالات المعرفة، وملوك الطوائف يسعون إلى رعاية المعرفة حسب ميولهم وآفاقهم الفكرية. وهكذا كان المعتصم بن صمادح أمير ألمرية، والذي اختلفت الأقوال بشأن كرمه أو عدمه، يُعنَى بالمناقشات الفقهية والدينية التي يعقد لها مجلسا يوم الجمعة الذي يصادف العطلة الأسبوعية، كما يحضر مجالسة كبار الشعراء. وله مراسلات شعرية مع أبي بكر بن عمار

 

(1/3200)

 

 

والمعتمد وغيرهما(1). أما المظفر محمد بن عبد الله أمير بطليموس، فلم يكن يشجع فيما يظهر، إلا الشعراء المتميزين. وألف هو نفسه كشكولاً أدَبِيا من خمسين مجلدا(2). وكان ابن رشيق أديباً فقيها تولى ميورقة من قِبَل مجاهد العامري وكانت له عناية بالعلماء والصلحاء مع حسن تدبيره السياسي(3).

أما المرابطون والموحدون، فسياسة ممثليهم بالأندلس أكثر انفتاحا منها لدى السلطة المركزية بالمغرب. على أن

__________

(1) ابن الأبار، الحلة السيراء، ج 2، صص. 78-88.

(2) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ج 3، ص. 183.

(3) ابن الأبار، م.س، ص. 128.

 

(1/3201)

 

 

الإطار الذي عمل فيه رجال الدولتين كان واضحاً؛ فهناك رعاية للفقهاء والفقه المالكي لدى المرابطين، ورعاية للمحدثين لدى الجانب الموحدي الذي يقدر الأدب والأدباء أيضاً في العدوتين، لكن أمراء المرابطين بالعدوة الأندلسية كان لهم حس أدبي دقيق، وبالتالي فقد نفقت سوق الأدب برعايتهم المحلية. ومن الواضح أن الدولة المرابطية قامت على سيوف صنهاجة، ولكن أيضا على هيئة الفقهاء الذين عملوا على توجيهها في كل شيء، ولاسيما فقهاء الأندلس بدءاً بأبي بكر المرادي ومروراً بأبي بكر الطرطوشي الذي كتب إلى يوسف بن تاشفين من

 

(1/3202)

 

 

الإِسكندرية مذكرة تنويهية توجيهية، وابن رشد ومعاصريه الذين أفتوا عليّاً بن يوسف في بناء سور مراكش، إلى آخر تدخلاتهم. ويقول ابن الأثير عنه: »... ازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم وقف عند استماع

الموعظة« (1).

وأما ملوك الموحدين، فقد تجاوزت ثقافة أكثرهم معارف أسلافهم من ملوك المغرب المسلمين. فهم يقودون إمبراطورية كبيرة، تقوم على ثقافة مصممة إلى حد كبير في شكلها

__________

(1) ابن الأثير، الكامل، ج 8، ص. 237؛ مؤلف مجهول، الحلل الموشية، صص. 90-98؛ الوثائق، ج 1، صص. 210-219.

 

(1/3203)

 

 

وأساليبها، انطلاقا من تراث مؤسس العقيدة التومرتية. ونجد خلفه عبد المومن قد جمعت معارفه بين الأصول والحديث واللغة والقراءات والأدب والتاريخ مع معرفة بالجدل. وهو متأثر في كل ذلك بشيخه ابن تومرت، ولربما تابع شيئاً من دراسته بفاس. وتميز بحديثه، حتى إنه منع أديباً كبيراً من الأندلس هو محمد بن عبد الله العبدري القرطبي من مواصلة تعليم أبنائه (أبناء عبد المومن) لمجرد أبيات نسبت إليه في الغزل، مع أن هذا المؤدب كان عفيفا. وكانت مجالسه غاصة بمثقفي الأندلس ويحرص على أن يمدحه شعراؤهم المجيدون، لأن الشعر كان

 

(1/3204)

 

 

عملا إعلامياً بالنسبة للسلوك، ولاسيما الموحدين الذين مالوا إلى شيء من أبهة التشريفات لم تكن معتادة بالمغرب. ووفد عليهم شعراء وأدباء من المشرق وحتى من »كانم«(1).

وكان يجالس أبا يعقوب يوسف عدد من أطباء وفقهاء الأندلس الذين استدعاهم للعمل في قصره أو بلاطه، كالطيب أبي بكر بن الطفيل، والفقيه أبي الوليد بن رشد، والفقيه أبي

__________

(1) عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص. 213 ؛ ياقوت، معجم البلدان، مادة »كانم«؛ روض القرطاس المنسوب لابن أبي زرع، ص. 203؛ ابن عذارى، بيان (موحدي)، ص. 81 ؛ السيوطي، بغية الوعاة، ص. 62.

 

(1/3205)

 

 

بكر بن الجد. وقال عنه ابن الأثير: »... كان طريقه ألين من طريق أبيه مع الناس؛ يحب العلماء، ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خدمته وخاصته«. ومن تواضعه أنه ترجل مرة عن فرسه، بينما كان ابن الجد قادماً للسلام عليه. ومع ثقافته الغزيرة، فقد تعلم الطب النظري من »الكتاب الملكي«، وجمع خزانة ضخمة من كتب الفلسفة، وكل هذا مع حفظه لكمية ضخمة من الحديث. وكان أمين خزانته عالماً أندلسيا هو ابن الصقر أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري السرقسطي. وكانت أمانة الخزانة العلمية من الوظائف السامية التي لا يتولاها إلا أكابر العلماء

 

(1/3206)

 

 

كما يؤكد ابن الخطيب. وكذلك وُصف إدريس المامون بغزارة معارفه الدينية والأدبية حتى قال عنه مؤلف »روض القرطاس« إنه كان إماما في الحديث. ومعظم الملوك الموحدين الآخرين كانوا على هذا النحو ولو أن المامون وفريقاً من خلفائه ينتمون إلى القرن السابع(1). ومن العلماء العديدين الذين استقدموا في القرن السادس أيام الموحدين، عبد الرحمن السهيلي المالقي مؤلف »الروض الأنف«، والذي كان

__________

(1) المعجب، ص. 238 ؛ الكامل، ج 9، ص. 165 ؛ روض القرطاس، ص. 207، 249 ؛ البيان الموحدي، ص. 159 ؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ح 1، ص. 184.

 

(1/3207)

 

 

ضريراً يعيش على الكفاف. وأقام بمراكش ثلاث سنين تولى فيها التدريس وإنجاز بعض مؤلفاته العديدة(1) .

والواقع أن السلطة المغربية شملت برعايتها جانباً كبيرا من نشاط الحركة الثقافية لأن مسؤوليتها سياسية ودينية، ولو أن هذه الرعاية كانت من حظ الذين يسيرون أكثر من غيرهم في الخط الفكري والعقدي للدولة. لكن الثقافة بالأندلس أخذت طريقها أيضاً بين مختلف الأوساط الاِجتماعية إما بفضل جهود الخواص أو الأوقاف العامة. ولذلك لم يكن نادراً أن تجد أسرة كبيرة برجالها ونسائها

__________

(1) الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج 4، صص. 1348-1349.

 

(1/3208)

 

 

وخدمها قد نالت حظا كبيرا من المعارف المتداولة. وساد الأدب وقرض الشعر مختلف أوساط شلب إلى درجة أن الفلاح في فدانه يضع رهن إشارة السائل فوراً ما يرغب فيه من قريض في أي معنى(1) .

وهكذا فإن تكاثر أعداد العلماء والأدباء والمثقفين عموماً أصبح من الضخامة بحيث لم يكن بإمكان الدولة احتواؤهم جميعاً ولا حتى أكثريتهم، كما أن شطراً كبيرا منهم كان يرفض مناصب الدولة أو رعايتها إما استقلالاً بفكره وحريته وإما تورعاً. وحتى بين الذين يتعاملون مع الدولة،

__________

(1) ياقوت، معجم البلدان، مادة »شلب« ؛ السيوطي، بغية، ص. 245.

 

(1/3209)

 

 

كان هناك فريق يعيش على الكفاف ولو أقبلت الدنيا عليه. وخارج محيط السلطة، وفي شريحة المثقفين بالذات، يوجد الزهاد الصالحون كما يوجد أضدادهم(1) .

وفي القطاع الحر يشتغل عدد كبير من الأدباء والعلماء موزعين بين مهن متنوعة كالتوثيق والوراقة والتجارة وحتى بعض المهن التي يكثر فيها غيرهم كالخياطة والجزارة. فالأديب النحوي ابن سارة الشنتريني اشتغل مدة بالوراقة وتكسب بشعره. وعاش ابن

__________

(1) ابن الأبار، تكملة، ج 1، ص. 223 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1254 ؛ ابن الخطيب، إحاطة، ج 1، ص. 183 ؛ المقري، نفح، ج 5، ص. 75.

 

(1/3210)

 

 

الرميمي على النسخ بفاس وهو أديب قدَّمَهُ أهل ألمرية عليهم بعد ثورة ضد عبد المومن الموحدي ثم لجأ بعد ذلك إلى فاس. وعلي الخشني الأبذي نحويٌّ قديرٌ يقوم على تدريس »كتاب« سيبويه، عاش على غاية من الفقر حتى عين إماماً بأحد جوامع غرناطة، فاكتفى براتب الإِمامة. بينما معاصره ابن الشريك الضرير عاش مرفها من تعليم العربية والإِقْراء. وكان محمد بن عبد الله البلنسي مثقفاً عاش بالمشرق ربع قرن وتكسّب بالتجارة، وكان كثير البر يفدي العديد من أسرى بلاده، وابن الخِدَّب أحمد ابن طاهر الإشبيلي قام على تدريس العربية

 

(1/3211)

 

 

و»كتاب« سيبويه، وكانت له شخصيته وآراؤه في المسائل النحوية. اشتغل بالخياطة في فاس في أزهى أيام الموحدين، بينما اشتغل يحيى السرقسطي بالجزارة، وهو أديب وشاعر لامع، فوبخه أبو الفضل بن حسداي حاجب ابن هود على ذلك شعراً ورد معتذراً بقلة ذات اليد، لكنه دافع بهمة عن حرفته. ولا يبدو أن ابن هود كان محبوبا من كثير من الأدباء(1) .

__________

(1) إحاطة، ج 3، ص. 439 ؛ بغية، ص. 12، 147، 352، 359 ؛ نفح، ج 3، ص. 9، 417 ؛ ج 5، ص. 77، 281.

 

(1/3212)

 

 

وبعيداً عن أجواء البلاطات والوظائف والمغريات، انعزل فريق من المثقفين في جو من التأمل والتعبد، أو مؤثرين الخمول الكلي على الظهور والأضواء غير خائضين في المؤامرات والمضاربات ولا مهتمين بتحقيق طموحات أو مكاسب. وبينهم ذوو مكانة معرفية متميزة؛ وغالباً ما تفشو هذه الظاهرة في ظروف الاِضطراب السياسي والحروب الأهلية. ومنهم الفقيه الأديب ابن الرَّباحي يوسف بن سليمان، وابن الأبرش الشنتريني، ومحمد بن عمر الشرّاني الطليطلي والمقرئ المحدث محمد بن بشير المعافري من قرطبة. وذكر عن أستاذ في القراءات أنه وفد من

 

(1/3213)

 

 

طليطلة على قرطبة فأقام سبعة أشهر بأحد فنادقها دون أن يعمل على لقاء أحد. وحتى هذه العزلة من بعض المثقفين قد لا تروق السلطة فتعاتبهم رغبة في تقريبهم(1) .

وتفشو ظاهرة الميل إلى الجهاد في أوساط العلماء والصلحاء أكثر منها لدى الأدباء. وبين المجاهدين من يقصدون مواقع الجهاد تلقاءً، ومن تدعوهم السلطة المعنية فيتقدمون طوعاً للقيام بالإِرشاد الديني وتحميس الجيش. وأعداد كبيرة منهم تستشهد. ولا تخلو غزوة كبرى من وجودهم بأعداد كبيرة، فضلا عن قيامهم

__________

(1) ابن بشكوال، الصلة، ص. 174، 398، 513، 521، 526، 640.

 

(1/3214)

 

 

بالمرابطة أو بالتردد على مواقع القتال من أماكن بعيدة أحياناً(1) .

وتعرض كثيرون للمحنة والنكبة لأسباب فكرية أو مذهبية أو سياسية أو غيرها. وتأخذ المحنة صوراً شتى من المحاكمات والمناظرات والطرد والسجن والمصادرة والقتل وغير ذلك. وقد كان العصر السابق أرحم بالمثقفين من حيث علاقاتهم بالسلطة، مع أن المجالات الفكرية أصبحت بعده أخصب وأكثر تنوُّعاً، ولاسيما خلال القرن

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 71، 292 ؛ ياقوت، معجم البلدان، مادة »قتندة«؛ مؤلف مجهول، الذخيرة السنية، ص. 47، 50؛ النباهي، المراقبة العليا، ص. 115.

 

(1/3215)

 

 

السادس. وكان ممن امتحنوا: ابن المش الخياط عبد الملك بن أحمد، وابن الحيني أبو بكر الذي أهين وسجن بقرطبة على يد بني حمود، ثم طردوه كما طُرِدَ ابن المش وغيرهما من أنصار النظام السابق. أما أحمد بن عباس التياني الذي عمل إلى جانب زهير العامري، فقد وقع في يد باديس الصنهاجي بعد الإِطاحة برئيسه السابق، ثم سجن مقيداً قبل أن يقتل قتلة شنيعة. وكان ذا ثقافة متميزة جماعاً للكتب عظيم الثروة. وكان في تنوع ثقافته عمر بن الحسن الهوزني الذي قتله المعتضد بيده ودفنه بثيابه دون غسل أو صلاة، وقد تفجع عليه ابن بشكوال

 

(1/3216)

 

 

صاحب »الصلة«، أو بالأصح مصدره الذي ذكر أن الهوزني قُتل ظلماً. وعندما خرج أبو بكر بن زهر من إشبيلية خوفاً من انتقام بني عباد منه، عمد هؤلاء إلى أملاكه وأمواله فاستصفوها، ومات غريباً عن ذويه. أما ابن حزم الذي لم تنجب الأندلس عالماً على نمطه، فقد قام الفقهاء ضده وتألبوا عليه في كل مكان بحجة انتقاده للأئمة، فطاردته السلطات من إقليم إلى آخر حتى مات ببعض قرى لبلة، وكانت أزمة ابن حزم أزمة اتساع فكر يعرف ما لدى خصومه وما ليس عندهم. وقد واجه خصوم الإِسلام بالحجج وتناول معتقداتهم بدقة وتفصيل(1)

__________

(1) عياض، مدارك، ج 8، ص. 20، 22، 29 ؛ ابن بشكوال، الصلة، ص. 381 ؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص. 259.

 

(1/3217)

 

 

.

والمحنة التي شهدها عدد من الأدباء والعلماء لم تكن الأندلس وحدها موقعا لها. فكثير منهم تعرضوا لنكبات بأقطار الشمال الإِفريقي وحتى خارجها. وكان من أغرب المحن ما تعرض له أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الإِشبيلي الذي انتقل شابا صغيرا إلى إفريقية، وبرز بعد ذلك مثقفا ممتازاً فوجهه عاهلها الزيري إلى مصر حيث سجنه ملكها الفاطمي عشرين سنة بخزانته. وكانت هذه المحنة النادرة نعمة عليه، فتخرج متميزاً في الفلسفة والطب والتلحين كما أورد المقري. وتعرض كبير المفتين بقرطبة، أصبغ بن محمد الأزدي لسعاية لدى

 

(1/3218)

 

 

السلطة فاضطر إلى ملازمة بيته مدة حتى وفاته في أوائل حكم علي بن يوسف. وكان مع ذلك مقتدراً في الفقه وتدريسه. وفيما بين نهاية دولة المرابطين وقيام الموحدين، أشيع أن العالم أبا بكر بن العربي

كانت له طموحات للحكم مع التدبير لذلك. وأدى الأمر بعد استقرار الموحدين إلى استدعائه إلى فاس حيث قضى نحبه. ومثله معاصره أحمد بن محمد بن حزم الإِشبيلي الأديب اللغوي الذي اتهم بالثورة وادعاء المهدوية. وكان ذلك يعني منافسة الموحدين في أهم دعائم عقيدتهم، واضطر إثر ذلك إلى أن يختفي بالمغرب منتحلا صفات مختلفة(1)

__________

(1) الصلة، ص. 110 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1296 ؛ السيوطي، بغية، ص. 158 ؛ المقري، نفح، ج 2، ص. 307.

 

(1/3219)

 

 

.

وتنوعت أشكال محنة الفكر مع ذلك. فعلي بن يوسف الذي اشتهر بليونته أمر باستقدام المحدث محمد بن الحسن الخزرجي من غرناطة مع ابن برجان وابن العريف، كما أمر بضربه وسجنه. وبعد أن سرحه، لم يلبث إلا قليلا فتوفي بالجزائر وهو في طريقه إلى المشرق(1) .

وقد كانت محن العلماء المثقفين ونكباتهم تأخذ بالكثير من اهتمام الرأي العام، ولاسيما بين فئات الطلاب. وهناك مؤلفات كتبت عن بعض هذه المحن مشرقا ومغرباً مثل كتاب »المحن« لأبي العرب بن تميم، وكتاب »محنة أحمد بن حنبل« لابن عمه حنبل بن

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 191.

 

(1/3220)

 

 

إسحق(1) ، إلخ. فلم يكن غريباً أن ينفر كثير من العلماء من ذوي السلطة مهما كان من حسن سلوكهم. وبعضهم يمارس تجربة التعامل مع السلطة والتقرب إليها ثم يعدل عن ذلك، وآخرون يرفضون مناصب الدولة بإغراءاتها المادية، بل يزهدون حتى في التدريس خارج بيوتهم. وبينهم من دفع المال لرسول السلطة المركزية حتى لا يُخبِر الرسولُ بوجوده ولا يُجبَر على تولي القضاء، ثم اختفى(2) .

__________

(1) ابن خليفة، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص. 301.

(2) بغية، ص. 154، 243، 245.

 

(1/3221)

 

 

وفي الواقع لم يكن المثقفون يخشون السلطة بقدر ما يخشون السعايات التي حتى وإن تركتهم على قيد الحياة، فإنها قد تحيل حياتهم جحيما وتنفر عنهم معارفهم. وغالباً ما يكون الحسد سبب هذه السعايات. ومما انتشر من أنواع المحنة النفي والتغريب وقد يكون داخل

الأندلس أو خارجها، والعزل من الوظيف أو التكليف، من غير تقصٍّ(1) .

وقد يتعرض المثقفون للأسر في تنقلانهم وأسفارهم، وهذا لا دور للسلطة فيه، لكن قد يبطش القراصنة بالأسرى دون مفاداة؛ كما أن بعضهم قد ينكل به لمجرد

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 87 ؛ السيوطي، بغية، ص. 265 .

 

(1/3222)

 

 

وجوده في مركز حلت به سلطة جديدة وهو غريب عن بلده، كحالة ابن الصقر الخزرجي الذي سمح الموحدون عند دخوله مراكش ببيعه مع أسرته ضمن جماعة كبيرة، ثم عفوا عنه بعد المحنة(1) .

ومن السعايات المهلكة أن الفقيه أبا بكر الجياني انتقد موقف المنصور الموحدي بإنهاء التقليد وبالعمل بالحديث فوصلت به السعاية إلى العاهل، ومات بعد محنة. وقبله نكب الكاتب أحمد بن عطية وأخوه فَقُيّدَا وسُجنا مدة بعد محاكمة صورية. وأُعْدِما بعد ذلك بأمر عبد المومن، وإن كان في بعض الروايات

__________

(1) الإحاطة، ج 3، ص. 87 ؛ السيوطي، بغية، ص. 265.

 

(1/3223)

 

 

ما يفيد أن أحمد بن عطية أفشى بعض الأسرار التي استودعه إياها العاهل، كما أن بعض الروايات تتحدث عن تعاطفه الإنساني مع بعض بقايا المرابطين. وما لقيه كل من ابن برجان وعياض وابن العريف وأبي مدين من الإِزعاج، وبعضهم حتى من الهوان، لا يحتاج إلى إعادة تفصيل ولو أن تهمة عياض كانت واضحة وضوح حجته عن الثورة. أما الآخرون، فشعبيتهم وحدها كانت سبب مخاوف السلطة وإزعاجها إياهم، وتبعت النكبات الأندلسيين حتى في مَهاجرهم كما حدث ببخارى وكان بها عدد منهم. فلما استولى التتر على بخارى، استشهد بها حسب بعض الروايات

 

(1/3224)

 

 

أحد عشر ألف مدرس(1) ، وذلك سنة 616 هـ.

 

الخزائن

استمر الاِهتمام بإنشاء الخزائن وتنميتها من أكثر الظواهر انتشاراً بين المثقفين خصوصاً الذين تسمح مواردهم أو جاههم بالحصول على النفائس من المؤلفات، وبالإِكثار من جمع

الكتب. وغالباً ما يبدأ ذلك في مرحلة الطلب ليصبح هواية بل ولعاً بعد ذلك. وبعض ملوك الطوائف لم تمنعهم اهتماماتهم السياسية من العناية باقتناء الكتب حتى قيل عن مجاهد العامري إنه جمع منها

__________

(1) مؤلف مجهول، الذخيرة، ص. 55 ؛ ابن عذارى، بيان (موحدي)، ص. 57 ؛ المقري، نفح، ج 2، ص. 263 ؛ ج 7، ص. 110.

 

(1/3225)

 

 

ما لم يجمعه أحد من نظرائه. كما أحاط نفسه بمجموعة من الفقهاء والأدباء يفترض أنهم كانوا يرجعون إلى خزانته. وكان لابن حزم خزانة ضخمة كانت كتب الحديث تشغل منها حيزاً كبيرا. وهذا، بالإضافة إلى مؤلفاته في عدة مجالات حتى عدت بأربعمائة مؤلف. بينما كانت خزانة سراج بن عبد الملك القرطبي معظمها في الآداب واللغات. وعمل اليهودي ابن نغرالة وزير باديس بن حبوس أمير غرناطة على اقتناء الكتب التي حمل نجله يوسف على قراءتها كما أحاطه بالمعلمين والأدباء لتثقيفه. وألف ابن نغرالة نفسه مجموعة من المؤلفات في الرياضيات

 

(1/3226)

 

 

والمنطق. أما المظفر بن الأفطس أمير بطليوس، فاقتنى كميات ضخمة كان أغلبها في الأدب والنحو والتاريخ، وهي مصادر تأليفه الذي قيل إنه بلغ خمسين مجلداً، وقيل عشرة ضخام(1) .

وممن اشتهروا بأهمية خزائنهم في عصر المرابطين محمد بن سليمان النفزي وعبد الله بن حيان الذي يظهر أن الكثير من مقتنياته كانت من المشرق الذي درس به. أما جعفر بن محمد بن مكي

__________

(1) الحميدي، جذوة، ص. 290 ؛ ابن بشكوال، الصلة، ص. 222، 395، 500 ؛ المراكشي، الممعجب، ص. 75 ؛ الإحاطة، ج 1، ص.438؛ أعمال الأعلام، ج 2، ص. 218 ؛ نفح، ج 4، ص. 351.

 

(1/3227)

 

 

القرطبي العالم اللغوي، فخزانته كانت تضم العديد من كتب الآداب واللغات (اللهجات؟). وقام المقرئ محمد بن عيسى بن فرج المغامي الطليطلي بتحبيس كتبه على طلبة العدوة المغربية. وهم دون شك أحوج إليها من أهل الأندلس. وياقوت يغير شيئاً من نسب هذا العالم(1) .

وكانت قرطبة أعظم سوق للكتب إلى درجة أنها لم تكن مقصودة من المثقفين الميسورين فحسب، بل كان مزادها شعبياً كما سُجل ذلك حتى عصر الموحدين، لأن الأثرياء حتى من العوام

__________

(1) الصلة، ص. 278، 528، 549 ؛ ياقوت، معجم البلدان، مادة »مغام«؛ السيوطي، بغية، ص. 212.

 

(1/3228)

 

 

الأميين كانوا يتنافسون في اقتناء الكتب وتزيين خزائنهم بها ويبحثون عن نفائسها وما كتب بخط مؤلفيها أو غيرهم من المشاهير. وينقل المقري عن ابن سعيد المغربي أن ابن زهر فاخر

الفقيه ابن رشد بإشبيلية. فرد عليه ابن رشد بأنه إذا مات عالم بإشبيلية، حملت كتبه إلى قرطبة لتباع بها. وإذا مات مطرب بقرطبة، حملت كتبه إلى إشبيلية(1) . وكان البحث عن الكتب الصحيحة المضبوطة أكثر من غيرها مثل كتب ابن خير التي بيعت بأثمان غالية بعد وفاته. واشتهر معاصره المحدث أبو عمر بن عياذ باقتناء الكتب أيضاً. كما

__________

(1) نفح، ج 2، ص. 11.

 

(1/3229)

 

 

أن المحدث عيسى الرعيني المالقي كان يجلب المزيد من المصنفات التي لم تكن قد وصلت إلى أقطار المغرب. وكان أحد الهواة المثقفين واسمه أبو الحجاج يوسف المراني قد حصل والده على كميات كبيرة من كتب الطب والتنجيم أيام الفتنة (بداية القرن 5)، فصودرت منه بأمر العاهل الموحدي أبي يعقوب يوسف الذي ولع بجمع كتب الفلسفة والطب. وقد أرضى الشخص المذكور بولاية إدارية كبيرة. وكانت الكتب تجمع له من الأندلس والمغرب الكبير. وأصبحت خزائنه شبه المتخصصة تداني في عظمتها خزانة الحكم المستنصر الأموي (قرن 4). وبذلك أصبحت

 

(1/3230)

 

 

أمانتها وظيفة سامية لا تسند إلا لكبار العلماء المؤهلين(1).

ويتضح مما سبق:

1- أن اقتناء الكتب وإنشاء الخزائن انتشر أكثر من ذي قبل.

2- فشو ظاهرة التخصص في رصيد الخزائن وإن كانت موجودة في عصر الريادة.

3- تزايد شعبية الكتاب بالأندلس، ولاسيما بقرطبة.

 

الدراسة والمدرسون

هيأ عصر الريادة أشياء كثيرة في مجالات الدراسة والتدريس، لما بعده من الأجيال. فإذا استمرت الكتاتيب القرآنية تؤدي مهمتها

__________

(1) عبد الواحد المراكشي، المعجب، صص. 238-239 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1367، 1458 ؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص.184.

 

(1/3231)

 

 

من غير تطور يذكر، فإن عددا ضخما من المصنفات مختصرة ومطولة، وفي مجال الإبداع ومختلف ميادين المعرفة أخذ مكانه لمدة طويلة في حلقات

التدريس والمجالس الخاصة والفتاوي والخزائن، على الرغم من ضياع آلاف المخطوطات التي للكثير منها أهمية موسوعية. ومن بين المؤلفات التي أخذت باهتمام الدارسين: كتاب »الوثائق« لابن الهندي، »مجالس« أصبغ بن الفرج، وكتاب »الفرائض« لعبد الملك بن حبيب، ومصنفات القاضي ابن مفرج وابن أبي زمنين وأبي عمر الطلمنكي وابن الحذّاء التميمي(1)

__________

(1) ابن خليفة، فهرست ما رواه عن شيوخه، صص. 252-259، 265، 442-444.

 

(1/3232)

 

 

.

وكان من مقروءات القرن الخامس وما أنتج خلاله، كتب ابن سيده وكتب ابن حزم(1). ويكاد التراث الشعري لهذا القرن يستبد وحده باهتمام الدارسين والقراء عبر الأجيال اللاحقة، فيما يخص الشعر الأندلسي، مع بعض الاِستثناءات الشعرية الأخرى لأهل الأندلس. وبإضافة التراث الأدبي والعلمي المتنوع، والذي ظهر خلال القرنين 5-6، تكون الخزانة الأندلسية قد بلغت أوجها ضخامة ونوعا، لأن حركة الاِسترداد والهجرات المتتالية وانحصار الرقعة الأندلسية بعد ذلك كان من شأنه تقليص النشاط العلمي والفكري ولو

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 446-450.

 

(1/3233)

 

 

أنه لم يتوقف حتى آخر لحظة.

ونظرا للتطورات المعرفية، واستقلال عدد من العلوم بعضها عن بعض وما يتطلبه اكتساب المعرفة من تضحيات سواء من جانب الآباء أو من جانب الأبناء، بالإِضافة إلى تشابك أنماط الحياة الاِجتماعية بالأندلس والمشرق، فإن كثيراً من الفقهاء وخبراء التربية قد اهتموا منذ القرن الخامس بالفكر التربوي والبيداغوجي، كأبي بكر الطرطوشي وابن حزم الذي ألف »مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض«، وأبي بكر المرادي الذي ضمن كتابه في السياسة أفكارا تربوية(1)

__________

(1) الحميدي، جذوة، ص. 291 ؛ أبو بكر المرادي، السياسة، ص. 71.

 

(1/3234)

 

 

.

وبالرغم من أهمية الحفظ للدارس، خلال المرحلة السابقة (قرن 2-4)، فإن مكانته ازدادت قيمة ومحورية، لكن ليس على حساب الدراية التي بقي لها دائما أنصارها الكثيرون على كل حال. وحيث تورد كتب التراجم »العناية بالرواية« بالنسبة لعالم أو مدرس، فذلك دليل على الاِهتمام بالحفظ مقابل »الدراية«. وقبل تفصيل هذه النقطة يمكن القول بإيجاز إن الحفظ يمثل أحد أربعة شروط أو خمسة تميز ثقافة التواصل. والشروط الأخرى هي: ضبط ما يرويه المثقف أو يكتبه، وحسن الخَط، والدراية والرواية.

 

(1/3235)

 

 

1- هناك الذين جمعوا بين الحفظ والضبط والدراية والرواية وحسن الخَط(1). والمقصود بالرواية ما روي عن أساتذة بإسناد أو غيره، وقد يكون كتباً أو موضوعات أو أحاديث أو إفادات. وبالضبط يقتضي ضبط ما يُروَى أو يكتب، أي إتقانه وتحقيقه من حيث جوهر المادة. أما الدراية، فتقتضي فهم ما يُقرأ أو يحفظ، مع حسن التصرف في تبليغه وحتى تطويره عند الحاجة.

2- من جمعوا بين الضبط والرواية والدراية وحسن الخط(2).

__________

(1) ابن بشكوال، الصلة، ص. 586.

(2) م.ن، ص. 511، 648.

 

(1/3236)

 

 

3- من جمع بين الحفظ والرواية والدراية وحسن الخط(1).

4- من جمع بين الدراية والرواية والضبط(2).

5- من جمع بين الضبط والرواية وحسن الخط(3).

6- من وصف باثنين أو واحد من الشروط المذكورة(4).

7- من لا يضبط ما يرويه أو يكتبه، وهو أمي قد يحفظ فقط سماعاً وجزئيا(5).

وحسن الخط بالنسبة لما قبل انتشار الطباعة ظل شرطاً أساسيا من شروط التواصل الثقافي. وهواة الكتب يفضلون المخطوط المكتوب بخط جميل ومقروء

__________

(1) م.ن، ص. 225.

(2) م.ن، ص. 101.

(3) م.ن، ص. 142، 147.

(4) م.ن، ص. 74، 277، 347، 379، 464، 468.

(5) م.ن، ص. 78، 163.

 

(1/3237)

 

 

على غيره. وقد يبذلون أضعاف ثمن نسخ أخرى بخط رديء.

وتظل صفات المدرس المثالي متشابهة عبر العالم الإسلامي بما فيه الأندلس، حيث ينظر إليه على أنه ذلك الذي يجسم المشاركة العلمية الواسعة، ويتميز بسَمْتِه ووقاره وتقواه وورعه. أما إذا لم يكن يأخذ أجراً على تعليمه بالإِضافة إلى الصفات المذكورة، فذاك قمة المثالية. وعادة ما تعني المشاركة أحد الاِتجاهات التالية(1):

1- معرفة واسعة بالعلوم الدينية؛

2- معرفة واسعة بالعلوم الدينية والأدب؛

__________

(1) السيوطي، بغية الوعاة، ص. 280، 283، 298، 300.

 

(1/3238)

 

 

3- معرفة واسعة بعلوم الدين واللغة.

وهناك حالات من المشاركة تتجاوز هذه المجالات شكلا ومحتوى مثل حالة ابن حزم الذي كان منطقياً فيلسوفاً ومؤرخاً وفقيها ومحدثاً ومبدعاً في المجال الأدبي، إلخ. وحالة هشام الكناني الوقشي (قرن 5) الذي جمع بين علوم اللغة والفقه والأدب وأصول الدين وأصول الفقه والفرائض والهندسة والحساب والفلسفة(1). وتميز ابن حزم بخصوصياته المذهبية ونظرياته وكثرة تآليفه وعمقها الفكري والجدلي.

__________

(1) الصلة، صص. 617-618.

 

(1/3239)

 

 

أما طبائع الأساتذة، فتختلف حسب الأشخاص أو عيناتهم، بقدر ما تختلف أساليب تبليغهم. وعلى سبيل المثل، فالفقيه المحدث ابن خيرة القرطبي (قرن 6) والذي عاش بالمشرق وصف بأن علمه كان »... أوفر من منطقه، ولم يرزق فصاحة ولا حسن إيراد«. ويحيى بن إبراهيم اللواتي نسب إليه الكذب وادعاء الرواية عمن لم يلقهم. وقيل إن ذلك كان في أواخر عمره بعد أن اختلط(1).

واشتهر العالم الأديب إبراهيم بن يوسف الأوسي بمرحه واجتذابه لجمهور مالقة ومرسية، وذلك ببراعته في تقريب المعلومات بواسطة

__________

(1) م.ن، ص. 634 ؛ المقري، نفح، ج 3، ص. 10.

 

(1/3240)

 

 

التشبيه والتمثيل وحسن الإِلقاء. وعرف كثير من الشيوخ ببَرّهم وأعمالهم الصالحة. وعدد منهم ينفق من دخله على طلابه وأصحابه لإِطعامهم مثل أبي الربيع سليمان الكلاعي وكان يحتمل مؤونة طلابه، ومحمد بن سعدون وهو قيرواني الأصل، وإبراهيم بن خلف الذي كان موثقا لا يقبل أجراً ويحنو على الضعفاء واليتامى. ومثله في التطوع أبو عمر بن عات الذي كان كثير الإحسان يتطوع للأذان والإِمامة(1)

__________

(1) الصلة، ص. 560، 577 ؛ ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص. 325، 364 ؛ ج 2، ص. 482 ؛ النباهي، المرقبة العليا، ص. 119 ؛ المقري، نفح، ج 3، ص. 358.

 

(1/3241)

 

 

.

 

وطلبة الأندلس لم يكونوا كلهم على مستوى واحد من احترام الأساتذة، لأن كثيراً من هؤلاء يؤدون محاضراتهم دون نقاش، وبعضهم يتبرم من الأسئلة، ولكن فريقاً كبيراً كان يحتمل جرأة الطلبة ومضايقاتهم. ولا ريب أن أنجحهم في طرق التدريس أولئك الذين كانوا يلجأون إلى المناظرة، أي إدارة النقاش بين الحاضرين ومع الأستاذ نفسه. وهكذا قيل عن أحمد بن محمد الإشبيلي عالم النحو وعلوم اللسان إنه كان أيام دراسته على ابن الرماك يكثر من سؤاله ومباحثه. وتعرض الطلبة مرة لابن باجه مستهزئين وسألوه: ما يحمل الفقيه من العلوم؟

 

(1/3242)

 

 

فأجابهم بما يقتضيه الحال وسبهم(1). وبذلك لم ترفعه ثقافته إلى المستوى الخلقي الملائم لها. ولعل الأديب الفرنسي فونتونيل (Fontenelle) المتأخر عنه بقرون يتحدث عن تجربة صائبة حين يقول: »العالم يزداد علما كلما ازداد احترامه للجاهل، بالاِستماع إليه والاِطلاع على ما عنده...«.

وبالنسبة لفئة من الدارسين، لا حدود لمرحلة الطلب أو لتقمص شخصية الطالب. فالحسن بن بَكر السمّاد ظل يدرُس طالباً منذ فتوته حتى مات عن سن تجاوزت الثمانين. ومثله

__________

(1) الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1339 ؛ السيوطي، بغية، ص. 158 ؛ نفح، ج 4، ص. 345.

 

(1/3243)

 

 

في مبدإ طلب العلم حتى الموت محمد بن الحسن الخولاني من ألمرية. وقد دَرس دراسة جيدة بالمشرق. والحسن بن علي الفاسي الذي وفد على الأندلس وتابع حضور الدروس محتسبا حتى وفاته(1). فقد كان اكتساب المعرفة المستمر لا يعني مجرد ولع أو ظاهرة، بل يدخل في نطاق المثاليات الدينية.

وإذا كانت المناظرة معتادة بين الطلاب وبإشراف الأستاذ، فإنها أيضاً تكون بين الأساتذة أو في إطار شريحة المثقفين عموماً. وربما أصبحت مناظرة مكتوبة أيضاً. وقد ناظر العالم ابن الحداد (من منطقة بلنسية) أحد القضاة

__________

(1) الصلة، ص. 135، 138، 542.

 

(1/3244)

 

 

وهو عيسى بن سهل الذي لقيه ابن الحداد بطنجة، ثم أردف ابن الحداد نقاشه برسالة تتضمن أسئلة دقيقة طلب من القاضي المذكور أن يجيب عنها. وسمى الرسالة: »رسالة الاِمتحان لمن برز في علم الشريعة والقرآن«(1).

ولكثير من الأساتذة مسجدهم الخاص يعظون فيه أو يلقون دروساً معينة. وقد أصبح أخذ الأجر على التعليم في العديد من المساجد أمراً مألوفاً، لأن الطلاب -كما ينقل المقري عن ابن سعيد المغربي- يقرأون ليتعلموا لا ليأخذوا أجراً بعد مرحلة الدراسة(2)

__________

(1) م.ن، ص. 557 ؛ ابن الأبار، تكملة، ص. 23.

(2) الصلة، ص. 330، 334، 348 ؛ نفح، ج 1، ص. 205.

 

(1/3245)

 

 

. لكن ما يقوله ابن سعيد غير صحيح بشكل مطلق. ولو كان حقا، لخلت دوائر الدولة من مآت الموظفين والكتاب وحتى عشرات الأدباء والشعراء الذين يتقربون إلى الأمراء والملوك وكبار الشخصيات.

وبكلمة موجزة، فإن هذا العصر تميز في حقل التدريس:

1- بانتشار طريقة المناظرة وقد سبق الحديث عنها؛

2- باللجوء إلى حفظ الأراجيز ونظمها في مجالات المعرفة لتركيزها وضبط أسسها. وعلى الأقل، فالظاهرة فشت بشكل ملحوظ بعد أن برزت في العصر السابق؛

3- بانتشار عملية اختصار الكتب المطولة. وهي أيضاً من مبادرات العصر السابق؛

 

(1/3246)

 

 

4- بانتشار حُمَّى الشهادات أو ما كان يعرف بالإجازة، وبالمناولة...؛

5- بالاِهتمام المتزايد بشرح نصوص أو مؤلفات.

ومن الأراجيز، ما نظم من قراءة نافع وقراءة ابن كثير لأحمد بن عبد العزيز الفهري؛ وفي الفقه لأبي الربيع سليمان الغافقي؛ وفي النحو شرح لها، لأحمد الفهري المذكور؛ وفي الخط له أيضاً(1).

أما اختصار الكتب فيتناول إما المادة العلمية نفسها أو اختصار كتاب مطول في المادة وهو أكثر. وتتسع الظاهرة كثيراً في القرن السادس،

__________

(1) ابن الأبار، تكملة، ص. 47 ؛ الوادي آشي، برنامج، ص. 303 ؛ السيوطي، بغية، ص. 140.

 

(1/3247)

 

 

ثم فيما لحقه من قرون. ومن المختصرات واحد لابن عياش محمد التجيبي في إصلاح المنطق، وآخر لأحمد بن مفرج في تلخيص كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك. واختصر أحمد بن علي بن عبد ربه (ت 602 هـ) كتاب »الأغاني« للأصبهاني. كما اختصر ابن القصير عبد الرحمن الأزدي كتاب »الجمل« لابن

خاقان الأصبهاني. واختصر ابن الفرس عبد المنعم الخزرجي »الأحكام السلطانية« للماوردي(1). ولا يعني وضع المختصرات أنها كلها أدرجت ضمن المؤلفات الدراسية. ومن جهة أخرى، ظل عدد

__________

(1) تكملة، ص. 121 ؛ إحاطة، ج 2، ص. 483 ؛ ج 3، ص. 229، 483، 543.

 

(1/3248)

 

 

من الشيوخ يقومون على تدريس مؤلفاتهم الخاصة. والظاهرة قلت عن ذي قبل، مما يدل على أن الكثير مما كتب سابقاً ما زال يحظى برضى الطلاب والشيوخ معاً، إذ لم يكن قد اكتسب نوعا من القداسة، ولو أن الحكم ليس مطلقاً. وكان الرجوع إلى المزيد من المختصرات يعني استحالة دراسة المطولات التي تكاثرت وشملت مختلف الفنون والعلوم.

والبحث عن الإِجازات أخذ أيضاً بعداً يتجاوز بكثير ما كان عليه الأمر في الماضي خصوصاً منذ القرن السادس، وهي إما مباشرة أو بالمراسلة كما أنها قد تكون جزئية أو شاملة لمرويات الشيخ أو مؤلفاته.

 

(1/3249)

 

 

ويحرص الذين يتلقون معارفهم خارج الأندلس على أن يعودوا بأكثر ما يمكن من الإجازات. كما أن موضة الإِجازة بالمراسلة طغت لدى طلاب الأندلس، مثل ابن الخراط عبد الحق الأزدي الإِشبيلي الذي أجازه مكاتبه من المشرق، أبو بكر بن عساكر وغيره، وابن سيد الناس الذي حصل على الإِجازة من أربعمائة عالم بالمشرق والمغرب، وابن عبيد الله الحجري الذي تلقى الإجازة من عياض والمازري والسلفي(1)

__________

(1) ابن الشاط، الإشراف على أعلى شرف، ص. 77 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1269، 1350، 1351. وقد حصل العالم السلفي على إجازات من علماء الأندلس (انظر لسعيد أعراب بحثا في مجلة دار الحديث، 1981).

 

(1/3250)

 

 

. وهناك من درسوا على عشرات الشيوخ ولم يحصلوا إلا على إجازات بعضهم. وبالمقابل، فبعض الأساتذة لا يجيزون إلاَّ مروياتهم الخاصة أو المؤلفات التي درسوها على شيوخهم أو أجازهم هؤلاء بها(1). وقد يجيز بعض الشيوخ مصنفات وهم يرفضون تدريسها، مثل كتاب » المعارف« لابن قتيبة. وكانوا ينتقدون بعض محتوياته حتى كان أحمد بن عون الله يسميه كتاب »المناكر«(2)... ومن الشيوخ من كانوا

__________

(1) ابن خليفة، فهرست، ص. 446 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1349، 1426، 1427 ؛ السيوطي، بغية الوعاة، ص. 167.

(2) ابن خليفة، م.س، ص. 377، 378.

 

(1/3251)

 

 

يرفضون الإِجازة الجزئية لبعض طلابهم، مثل المقرئ أبي الحسن بن هذيل الذي رفض أن

 

يجيز ابن حوط الله عن جزء من كتاب تلقاه عنه في قراءة ورش. ولكن الإِجازات من علماء

الأندلس لطلابهم أو مكاتبيهم بدأت تتكاثر حتى مع تحفظات بعضهم(1). بل إن في الطلاب من حرصوا على الحصول على الإِجازة العامة من شخصيات كبيرة وبشتى وجوه الإِجازة دفعة واحدة، مثل حالة ابن الوزان الذي حصل مع أبي الوليد ابن رشد على إجازة كل المؤلفات التي تلقاها قراءة أو سماعا أو

__________

(1) ابن الشاط، الإشراف، ص. 55، 66، 79 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1397.

 

(1/3252)

 

 

مناولة أو بالإِجازة(1). وقد مر ما يشبه هذه الإجازة العامة خلال القرن الثالث أيضا(2). وظل ابن خليفة الأموي حتى السنوات الأخيرة من حياته، يحصد الإِجازات وقد تجاوز الستين من عمره(3).

وفيما يخص شرح النصوص، فقد اتجه معظمها إلى الأدب واللغة مثل »شرح جمل الزجاجي« لإبراهيم الحضري، وشرح آخر لنفس الكتاب وضعه إبراهيم الأعلم البطليوسي الذي شرح أيضا »الكامل« للمبرد، و»الأمالي« و»الإيضاح« لأبي علي الفارسي. ومن الشروح اللغوية: »التبيين والتنقيح لما ورد من

__________

(1) ابن خليفة، ص. 453.

(2) م.ن، ص. 454.

(3) م.ن، ص. 425.

 

(1/3253)

 

 

الغريب في كتاب الفصيح« لإبراهيم البونسي الشريشي(1).

التواصل الثقافي

ازداد هذا التواصل حجما ونوعاً بين طلاب الأندلس ومثقفيهم من جهة، وبين أقطار المغرب وأقطار المشرق من جهة أخرى. وهو تواصل اتسع مداه في الاِتجاهين، لكن المشارقة أقل تحمساً للقدوم إلى الأندلس، ولو أنهم ما زالوا يفدون بأعداد محدودة. كما أن تبادل الإِنتاج المعرفي والإِبداعي ازداد حجمه خصوصاً مع توافد الأندلسيين على أقطار المشرق بكثرة، واستقرار عدد منهم هناك مدة طويلة أو بصفة نهائية حيث يكتبون

__________

(1) ابن الأبار، تكملة، ص. 158، 170، 172.

 

(1/3254)

 

 

إنتاجهم كُلاًّ أو بعضاً هناك. أما تبادل الأفكار والمذاهب، فالرقابة المرابطية والموحدية كانت بوجه عام أكثر صرامة مما كان عليه الأمر في مرحلة الريادة. ومع ذلك، فأفكار ابن باجة وابن رشد انتقلت إلى المشرق الذي استعاد السنيون فيه قوتهم في النصف الثاني من القرن السادس بفضل صلاح الدين الأيوبي وخلفائه. وبعض المذاهب السنية بقي لها وجود قوي أحيانا كما هو الشأن في المذهب الظاهري وحتى الشافعي الذي شجعه بشكل ما، المنصور الموحدي. وتكاد معظم فنون المعرفة يكوِّن كل منها مدرسة أندلسية بمعالمها البارزة، بما في

 

(1/3255)

 

 

ذلك الفلسفة والفقه والنحو والعلوم الطبيعية.

1- المغاربيون بالأندلس:

هؤلاء يأتون من جميع أقطار المغرب، خصوصاً المغرب الأقصى، إما طلاباً أو مدرسين وحتى تجاراً ومثقفين وأدباء وموظفين. ومن بينهم عبد الله بن إبراهيم الكتامي السبتي وهو متخصص في الفقه والتوحيد والعقيدة، وكان يخلف أبا الوليد الباجي في التدريس إذا غاب. وكان هذا النظام معمولا به في الأندلس، وهو أشبه بمهمة المعيد اليوم. ويتضح من خلال اتجاهه المعرفي أنه اشتغل بتدريس التوحيد والعقيدة بسبتة قبل التحاقه بالأندلس، ووفاته سبقت وفاة أبي بكر

 

(1/3256)

 

 

المرادي بسنوات كثيرة، لأن المرادي ينسب إليه أنه أول من أدخل التوحيد إلى المغرب. وكان من الوافدين إبراهيم بن جعفر اللواتي السبتي معاصر يوسف بن تاشفين. تابع دراسته بالأندلس وعمل لفترة كاتبا لبعض قضاتها، وكان أصولياً أديباً (ت. 513). ومن الذين اشتغلوا بدراسة الفقه مع ظهور المرابطين وحاجتهم إلى الفقهاء: موسى بن حماد الصنهاجي الذي عين قاضيا بمراكش (ت. 535). وممن اشتغلوا بدراسة القراءات موسى بن سليمان اللخمي الذي استقر بألمرية حيث اشتغل بالإِقراء (ت. 494). وأشهر الدارسين وكبار الشيوخ هو عياض السبتي

 

(1/3257)

 

 

الذي تولى القضاء زمنا بالأندلس، وشيخه أبو عبد الله بن عيسى الذي تلقى شطراً من دراسته الفقهية بالأندلس قبل أن يصبح هو نفسه عمدة في الفتيا وتدريس الفقه بسبتة حيث كان يتلقى استشارات كبار قضاة الأندلس وتولى قضاء سبتة (ت. 505). وكان من الدارسين إسحاق المجابري الفاسي الذي درس الفقه بمرسية وتولى فيما بعد قضاء بلنسية. وكان يقوم على تدريس المدونة شأن عبد الله الكتامي السابق ذكره وكان يخلف الباجي في تدريسها(1)

__________

(1) عياض، مدارك، ج 8، ص. 169، 200 ؛ ابن بشكوال، صلة، ص. 102، 289، 579 ؛ ابن الأبار، تكملة، ص. 195.

 

(1/3258)

 

 

. وتوفي المجابري سنة 606.

أما المثقفون البارزون من أصل مغاربي، فكثيرون. وهم إما طارئون أو من أعقاب وافدين من أقطار المغرب. ومنهم الكاتبان الشاعران عبد الرحمن الفازازي وأخوه محمد، وابن دحية الكلبي عمر بن الحسن وأخوه عثمان، وكلاهما درس بالأندلس والمشرق، وأصلهما من سبتة، لكن عمر أوسع ثقافة وأبرز شخصية(1)، لأن عثمان كان يُنتقد عليه أن معارفه غير موثقة. والغرباء بالأندلس نادراً ما يسلمون من النقد، مثل منصور المغراوي المقرئ الذي وجد من يضعف

__________

(1) سيوطي، بغية، ص. 322، 360 ؛ المقري، نفح، ج 6، ص. 211.

 

(1/3259)

 

 

معلوماته(1).

وأغلب الوافدين من المغربين الأوسط والأدنى استقروا للتدريس بالأندلس، ولاسيما إذا تميزوا بقدراتهم الخاصة، مثل أبي مروان الطبني المحدث اللغوي الذي ترك أثرا كبيرا بالأندلس لكثرة الطلبة الذين درسوا عليه، وتعددهم كتب التراجم. وعبد الرحمن الهمداني الوهراني المحدث الذي كان من طلبته ابن عبد البر المحدث، وعلي بن حزم. كما كان من الوافدين عبد الله بن حمو المسيلي، وهو فقيه متميز استقر بألمرية

__________

(1) ابن بشكوال، الصلة، ص. 586 ؛ وانظر أيضا: نفح، ج 4، ص. 132 ؛ ج 5، ص. 62 ؛ Pérès, La poésie..., p. 45.

 

(1/3260)

 

 

للتدريس، وقيل أصله من سبتة التي غادرها مع الزحف المرابطي على ما يظهر. وكل هؤلاء الثلاثة وفدوا من المغرب الأوسط(1).

ومن الوافدين من إفريقية محمد بن داود العكي، ورد طالبا، ثم تولى فيما بعد قضاء تلمسان ثم إشبيلية ففاس (ت. 525) ومحمد بن أبي سعيد الجذامي من القيروان، لجأ إلى الأندلس سنة 447 مع الزحف العربي على القيروان. وهو أديب لامع ألف كتبا في الأدب. وأحمد بن عمار المهدوي الذي قام بتدريس القراءات والأدب وعاصر ملوك

__________

(1) الحميدي، جذوة، ص. 256 ؛ ابن بشكوال، الصلة، ص. 287، 305 ؛ المقري، نفح، ج 9، ص. 295.

 

(1/3261)

 

 

الطوائف. وأبو عَمْرو السفاقسي عثمان بن أبي بكر (ت. 440) ودخل الأندلس محدثا بارزا بعد دراسة واسعة بالمشرق ومكث بها نحو عامين قبل أن يذهب إلى القيروان. وأحمد بن عبد الرحمن الربعي المحدث، وقد استقر بالأندلس لتدريس الحديث وعاصر الدولة الموحدية(1).

 

2- الوافدون من المشرق:

معظمهم وفدوا خلال القرن الخامس، ولاسيما في الربع الثاني منه، والباقون أغلبهم في ا لشطر الثاني من هذا القرن. وكثيرون وفدوا تجاراً، وآخرون اشتغلوا بالتدريس كما

__________

(1) الصلة، ص. 88، 129، 571، 573 ؛ جذوة المقتبس، ص. 285 ؛ التكملة، ص. 128.

 

(1/3262)

 

 

جاء بعضهم للدراسة أو لاجئاً أو للجهاد. وهم في عامتهم مثقفون حمدت سيرتهم. والاِستثناءات في ذلك نادرة. وأكثر الوافدين من العراق(1)، وأغلبهم حنفية، ومن مراكز مختلفة من العراق. وكان من الوافدين فقيه حنفي اسمه عبد الرحمن بن محمد الرقّي، وعالم بغدادي اسمه أبو الفضل محمد التميمي الذي استقر مدة طويلة بإفريقية ثم لجأ إلى الأندلس بعد زحفة بني هلال واستقر أخيرا بطليطلة (ت. 454). وأبو البسّام موسى بن عبد الله من الكوفة، وكان أديباً لامعاً، دخل الأندلس

__________

(1) جذوة، صص. 68-69 ؛ الصلة، ص. 123، 338، 566، 579، 587.

 

(1/3263)

 

 

مجاهداً ثم لقي حتفه مقتولا بالمغرب الأوسط سنة 486.

وكان القادمون من فارس وخراسان الكبرى كثيرين أيضاً في الحقبة نفسها(1)، ومعظمهم مختصون في العلوم الدينية كالتفسير والحديث. وبينهم بعض الأدباء والتجار. وفيما يلي أسماء عدد منهم:

- علي بن إبراهيم التبريزي المعروف بابن الخازن صاحب »التفسير« الذي كان معروفا باسم »شفاء الصدور« . وقام على تدريس هذا التفسير مدة بطليطلة التي كان يقصدها المثقفون خلال القرن الخامس، لأنها كانت أكثر استقرارا من مناطق

__________

(1) جذوة، ص. 334 ؛ الصلة، ص. 125، 286، 357، 406، 417، 599.

 

(1/3264)

 

 

الأندلس الأخرى، وكان هذا العلم شافعيا.

- عبد العزيز الشهروزري متخصص في علوم القرآن. وقدم شيخا عالي السن ثم عاد من دانية بعد نحو عام، حيث قتله القراصنة سنة 426 هـ.

- عبد الله بن الحسن المَرْوَزِي لغوي نحوي على مذهب بالكوفيين وفقيه حنبلي، وفد سنة 424.

- ثابت الجرجاني أديب لغوي منطقي قام على تدريس »شرح الجمل«، واتهم في غرناطة بالضلوع في مؤامرة سياسية فقتله باديس الصنهاجي (431 هـ).

- محمد بن الحسن الخرساني، درس عليه أبو عمر بن عبد البر، وأبو الوليد الباجي والحميدي صاحب »جذوة المقتبس« وغيرهم. توفي

 

(1/3265)

 

 

بعد 450 هـ.

- نصْر بن الحسن الشاشي، تابع شطراً من دراسته بالأندلس، وقام بتدريس »صحيح مسلم«. وفد على الأندلس من سمرقند.

وقدم من الشام بعض التجار والمثقفين(1) كأيوب بن نَصر، وهو شافعي المذهب، وعبد الملك الحمصي، وتلقى معارفه بالعراق والحجاز، وكلاهما قدم تاجراً، وحاتم بن محمد الطرابلسي. ويظهر أنه وفد صغيراً ثم قام برحلة دراسية واسعة بإفريقية والمشرق، وتولى الشورى بقرطبة رافضاً منصب القضاء.

__________

(1) الصلة، ص. 114، 154، 349.

 

(1/3266)

 

 

وأبرز شخصية وافدة من مصر، هبةُ الله بن الحُسين؛ وهو عالم أصول وحديث، ورد في وفد من الشيعة بينهم أبو الوفا، لاجئين من ملاحقة صلاح الدين الأيوبي. وعمل المنصور الموحدي على تعيين هبة الله قاضيا بإشبيلية ثم بفاس، وأخيرا بتونس حيث توفي سنة 586 هـ. كما عين أبا الوفا في منصب قضائي أيضا(1). ولا ريب أن اللاجئَيْن المصريين تخليا عن المذهب الشيعي في ممارسة القضاء على الأقل، ولو أن ابن تومرت أخذ عن هذا المذهب فكرة العصمة التي خص بها نفسه ولم يتحَل بها من الموحدين أحد بعده. وكيفما

__________

(1) نفح الطيب، ج 4، ص. 68.

 

(1/3267)

 

 

كان الأمر، فالمنصور الموحدي المعروف بانفتاحه الفكري الواسع إنما اتخذ مبادرة التكريم في حق الوفد المصري كخط سياسي انتهجه المغاربيون منذ القديم في حق اللاجئين، وهو ما كانت تفعله مصر أيضاً، وأقطار مسلمة أخرى.

3- الأندلسيون بالشمال الإفريقي:

كانوا في القرن الخامس أقل عدداً بسبب الاِضطرابات الداخلية مثل الزحف المرابطي والزحف الهلالي، لكن في القرن السادس تكاثرت أعدادهم ولاسيما بمراكز الجزء الغربي من المنطقة. أما بالجزء الشرقي، فالقيروان تراجع دورها الثقافي وأصبحت المهدية أكثر نشاطاً. وبدأت أهمية سبتة

 

(1/3268)

 

 

وفاس ومراكش تبرز أكثر فأكثر. بل إن القرن السادس هو أهم فترات ازدهار مراكش عموما في العصر الوسيط كله. والوافدون على الشمال الإفريقي هم أكثر من أن يمكن حصرهم في دراسة موجزة وعامة. وكثير منهم هاجروا أو استقدموا للعمل في وظائف الدولة، وبعضهم مارس أعمالا حرة. ولا ريب أن عددا منهم عاش بعيداً عن الأضواء فتجاوزته كتب التراجم والكتابات التاريخية، وربما ضاعت معه آثاره المكتوبة أيضاً، وتحتل القراءات والفقه والحديث ومواد اللغة والعقيدة مقدمة اهتمامات الأوساط الطلابية والتعليمية خصوصاً مع تدخل الدولة

 

(1/3269)

 

 

وتشجيعاتها لهذا الفن من فنون المعرفة أو ذاك، وكثيرون من الطلاب والدارسين لم يقتصروا في رحلتهم الدراسية على بعض مراكز الشمال الإِفريقي، بل تجاوزها إلى المشرق. ومن الوافدين عموماً:

1- عبد الرحمن الخزرجي من قرطبة، حضر دروس ابن أبي زيد، والقابسي والصقلي ومحرز. واهتم بدراسة القراءات (ت. 446) وعاد إلى قرطبة للتدريس بجامعها(1).

2- محمد بن الفرج الأنصاري من طليطلة، درس على ابن مناس وآخرين بالقيروان وتخصص في الفقه والحديث(2) (ت. بعد 450).

__________

(1) الصلة، صص. 319-320.

(2) م.ن، ص. 510.

 

(1/3270)

 

 

3- يوسف بن عبد الرحمن، من مجريط، درس بطرابلس وبرقة، خصوصا الفقه(1)، وتوفي سنة 473.

4- أبو بكر محمد البياسي. يقول عنه ابن بشكوال: رحل إلى المشرق وهو يقصد إفريقية. وكثيرا ما كان يدخلها مؤرخون أندلسيون في المشرق لأنها في اتجاهه. ودرس أبو بكر البياسي الفقه بالقيروان(2) (ت. بعد 480).

5- محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي، درس بإفريقية واتجه إلى الحديث والأدب والتاريخ. وهو صاحب »جذوة المقتبس« وغيره (ت. 488). وكان ظاهرياً من ميورقة(3).

__________

(1) م.ن، ص. 642.

(2) م.ن، ص. 526.

(3) الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج 4، ص. 1218.

 

(1/3271)

 

 

6- الحَسن بن عمر الهوزني من إشبيلية، درس قليلا بالمهدية في طريقه إلى الحج، وهو من الفقهاء. وكان الزيريون قد تحولوا إلى المهدية منذ سنة 452 بعد الزحف العربي. ولذلك انتعشت بهذا التحول وأصبحت مركزاً للدراسات السنية(1) (ت. 512).

7- غالب بن عطية أبو بكر المحاربي من غرناطة، اهتم على الخصوص بالقراءات سواء بالمهدية أو المشرق(2) (ت. 518).

__________

(1) الصلة، صص. 137-138.

(2) الداودي، طبقات المفسرين، ج 2، ص. 27 ؛ ابن بشكوال، الصلة، ص. 432.

 

(1/3272)

 

 

8- عبّاد بن سرحان، من شاطبة، درس بالأندلس، ثم بالمشرق، واتجه إلى مسائل الخلاف الفقهي. ويقول ابن بشكوال إنه استقر بالعدوة(1) حيث توفي 543 هـ.

9- عبد الرحمن السهيلي المالقي، جمع بين العلوم الدينية والأدب واللغة. وهو صاحب »الروض الأنف في السيرة النبويَّة«، دُعي إلى مراكش للتدريس. وكف بصره في حداثته(2) (ت. 581. وقبره يزار بمراكش).

10- ابن عُبيد الله الحجري، محدث مقرئ، من ضواحي ألمرية، دُعِي للقضاء بسبتة، ودرس عليه بها طلاب كثيرون وصاروا من أبرز

__________

(1) الصلة، ص. 428.

(2) ابن الخطيب، الإِحاطة، ج 3 ، ص. 477.

 

(1/3273)

 

 

الشخصيات العلمية فيما بعد(1) (ت. 591).

11- ابن جُبير الكناني محمد بن أحمد، من بلنسية، واستقر بغرناطة، جمع بين الأدب والحديث والتصوف. واشتهرت رحلته مباشرة بعده، قضى شطرا من دراسته بسبتة، كما أن تلاميذه من أقطار المغرب كثيرون(2) (ت. 614).

12- ابن حوط الله الأنصاري داود بن سليمان من أُنْدَة التابعة لبلنسية. برز في الحديث والقراءات، وتابع دراسته بسبتة كما تولى قضاءها فيما بعد. وأنجبت أسرته مثقفين كثيرين(3) (ت. 621).

__________

(1) ابن الشاط، الإِشراف، ص. 74.

(2) الإِحاطة، ج 2، ص. 230.

(3) م.ن، ج 1، ص. 503.

 

(1/3274)

 

 

4- الأندلسيون بالمشرق:

أغلب الذين وردوا في اللائحة السابقة تابعوا دراستهم بالمشرق أيضاً، وتولى عدد منهم مهمة التدريس أو القضاء بالشمال الإِفريقي، لكن هناك كثيرين توجهوا إلى المشرق لقضاء وقت طويل به للدراسة وتبادل الصلة مع مثقفين من أقطار عديدة ومتباعدة أحيانا، ونال كثير منهم مكانة مرموقة هناك مدة طويلة أو بصفة نهائية. ومن بينهم:

1- أبو عَمْرو الداني عثمان بن سعيد، درس بالقيروان ومصر ومكة، واهتم خصوصاً بالقراءات، حتى أصبح أحد أئمتها في تاريخ الإسلام كله. وعندما عاد إلى الأندلس، تنقل في ظروف

 

(1/3275)

 

 

الحرب الأهلية بها بين عدة مدن يقيم في كل منها مدة(1) (ت. 444).

2- محمد بن الفرج الأنصاري، من طليطلة. مال إلى الفقه ودرس بالقيروان ومكة ومصر(2). (ت. بعد 450).

3- عبد الوهاب بن محمد الأنصاري من أشونة. درس بدمشق ومصر ومكة وميافارقين بالجزيرة. وغلبت عليه القراءات(3) (ت. 462).

4- أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف، من قرطبة، وسكن شرق الأندلس. قضى ثلاثة عشر عاما بالمشرق، فيما بين مكة وبغداد والموصل. درس الفقه المالكي

__________

(1) ياقوت، معجم الأدباء، ج 12، ص. 124.

(2) الحميدي، الجذوة، ص. 298.

(3) الصلة، ص. 362.

 

(1/3276)

 

 

والشافعي والحنفي، وتعمق في الحديث. (ت. 474)، وله مناظرات مع ابن حزم. وهو من أبرز الفقهاء والمحدثين(1)، وتلاميذه كثيرون.

5- ابن سكرة أبو علي الصدَفي حُسين بن محمد، من سرقسطة. قضى بالمشرق تسع سنوات موزعة بين الحجاز والعراق والشام ومصر. وهو فقيه ومحدث كبير. وكان من شيوخ عياض(2). توفي شهيدا في وقعة قتندة 514 هـ.

6- أبو بكر عبد الله بن طلحة اليابري، رحل إلى مكة ومصر، وتضلع في النحو والتفسير وقام بتدريس سيبويه

__________

(1) م.ن، ص. 197.

(2) م.ن، ص. 143 ؛ الذهبي، تذكرة، ج 4، ص. 1253 ؛ المقري، أزهار، ج 3، ص. 151.

 

(1/3277)

 

 

بمكة. ومن تلاميذه جار الله الزمخشري. له مؤلفات في الفقه والأصول والتفسير وفي الرد على ابن حزم(1). توفي بمكة بعد 516.

7- أبو محمد بن الوليد الطرطوشي، رحل إلى المشرق سنة 476، وشملت رحلته العراق ودمشق وبيت المقدس ومصر. وهو فقيه كبير وعالم مشارك. وقام بالتدريس في الشام ومصر التي حاز فيها شعبية كبيرة بالإسكندرية حيث درس عليه كثيرون، كما دُعي للتدريس بالقاهرة على يد الأفضل، وعاد بعد ذلك إلى الإسكندرية حيث توفي 520. ويبدو داعية إلى الإصلاح السياسي والديني دون طمع في الجاه. وله

__________

(1) أزهار، ج 3، ص. 77.

 

(1/3278)

 

 

جملة كتب، خصوصا »سراج الملوك« و»مسائل الخلاف«(1).

8- سعْد الخير بن محمد الأنصاري البلنسي، محدث، درس ببغداد وأصبهان وبلغت رحلته إلى الصين التي تعلم لغتها وكتب بها. ثم استقر ببغداد التي توفي بها سنة 541. ومن تلاميذه ابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي(2).

9- أبو بكر بن العربي محمد بن عبد الله، من إشبيلية. رحل إلى المشرق في سن السابعة عشرة، وتلقى دراسة معمقة في شتى فنون المعرفة الإِسلامية موزعاً رحلته بين الشام ومكة وبغداد ومصر،

__________

(1) م.ن، ص. 163 ؛ ياقوت، معجم البلدان، مادة »طرطوشة«.

(2) نفح، ج 3، ص. 388.

 

(1/3279)

 

 

واستغرقت رحلته عشر سنوات. وله مؤلفات في الفقه والحديث وعلوم القرآن وغيرها. توفي في الطريق من مراكش إلى فاس(1) التي دفن بها سنة 543.

10- علي بن سليمان المرادي الشقوري الفرغليطي. رحل إلى خراسان سنة 525 وشملت رحلته أيضا العراق وسوريا، وجمع بين الحديث والفقه الشافعي الذي تمذهب به. وتولى التدريس بحماة وحلب(2) التي توفي بها سنة 544.

__________

(1) الصلة، ص. 558 ؛ الداودي، طبقات المفسرين، ج 2، ص. 168 ؛ المقري، نفح، ص. 222 ؛ أزهار الرياض، ج 3، ص. 91.

(2) ياقوت، م.س، مادة »فرغليط«.

 

(1/3280)

 

 

11- أبو بكر بن السرّاج محمد بن عبد الملك، من شَنْتَمَرِيَة. رحل إلى مصر سنة 515، وقام بتدريس العربية كما فعل باليمن قبل أن يستقر بمصر نهائيا. وابن بري المصري من أشهر تلاميذه. وكان يعاشر السلفي بمصر. وله تآليف في العربية(1)، توفي سنة 549.

12- أبو مروان عبد الملك بن زهر، أسرته فيها العالم والأديب والفقيه والطبيب. وهو من شخصيات القرن الخامس. مارس الطب بالمشرق وكان رئيس الأطباء ببغداد ثم بمصر والقيروان. واستقر أخيرا بدانية ونال شهرة كبيرة(2)، وعرف عند النصارى بـ

__________

(1) نفح، ج 3، ص.7.

(2) م.ن، ص. 13.

 

(1/3281)

 

 

Avenzohar.

13- أبو بكر الأنصاري الجياني رحل إلى المشرق للدراسة، وشملت رحلته مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء النهر خصوصا بخارى وسمرقند، ودرس الفقه والخلافات الفقهية ومهر في الحديث وقام بتدريسه، واستوطن حلب في نهاية المطاف(1)، وبها توفي سنة 563.

14- أبو طالب عبد الجبار المعافري، طاف بالمشرق، ودرس ببغداد كما تولى التدريس بها وكان مبرزا في اللغة والأدب، ثم انتقل إلى مصر، مواصلا بها إشعاعه. ومن تلاميذه بها عبد الله بن بري(2). توفي سنة

__________

(1) م.ن، ص. 383 ؛ ج 2، ص. 264.

(2) ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص. 381.

 

(1/3282)

 

 

566.

15- أبو بكر يحيى بن سعدون، من قرطبة. درس بالإسكندرية شاباً، ثم بالقاهرة، ودخل بغداد سنة 527، ثم استوطن بدمشق سنوات ودرس عليه طلابها كما فعل بالموصل ثم بأصبهان، وتميز في القراءات وعلوم القرآن واللغة(1)، توفي بالموصل 567.

16- ابن الفنكي أحمد بن علي، من قرطبة. درس بالموصل على شيوخ منهم يحيى بن سعدون السابق ذكره، ودرس أيضا بمكة، ثم تفرغ للتدريس بدمشق، وكان الغالب عليه القراءات والحديث، وكان شافعيا(2)، توفي بدمشق 597.

__________

(1) م.ن، ج 2، ص. 298.

(2) ابن الأبيار، تكملة، ص. 90.

 

(1/3283)

 

 

17- محمد بن طاهر الداني. تميز في الأدب وعلوم العربية. دخل دمشق سنة 554 وسنّه تتجاوز الأربعين، فقام بتدريس النحو، كما توجه إلى مصر 572. واستقر ببغداد وبها توفي سنة 619، وله تأليف في علم المجاز، وكانت وفاته عن عمر متقدم(1).

وكانت الحركة الثقافية في أوج ازدهارها بمصر، كما أن كثرة الرباطات بكل من العراق والشام وإيران ساعدت على إضفاء شعبية واسعة على المجال المعرفي بفضل الأوقات العديدة ورعاية السلطات وتكاثر الخزائن وازدهار التأليف وحركة النسخ وجعل المساجد تساهم بنشاطها في هذا

__________

(1) نفح، ج 2، ص. 342.

 

(1/3284)

 

 

الإشعاع الذي مس كل الشرائح. وأصبحت الرحلة إلى المشرق أمرا مألوفاً إلى درجة أن بعض الأندلسيين كانوا يضطرون إلى ادعاء الرحلة حتى ولو لم يغادروا الأندلس، لكن القرائن تفضحهم. وليس كل من رحل خارج الأندلس عاد عالماً بما يكفي لإِسكات نقد الناقدين(1). على أن العطاء الأندلسي في حقبة الإخصاب هاته، سَيَتَبَيَّنُ بوضوح أكثر، من خلال الحديث عن فنون المعرفة، حيث إن مؤثرات الثقافة العربية الأندلسية لهذا العصر بالذات ظل إشعاعها قائما حتى يومنا هذا.

بيبليوغرافيا

__________

(1) الصلة، ص. 533، 571.

 

(1/3285)

 

 

1- ابن الأبار القضاعي محمد بن عبد الله، 658/1260م:

... - التكملة لكتاب الصلة، القاهرة، 1375/1956

... - الحلة السيراء، جزآن، تحقيق حُسين مؤنس، القاهرة، 1963.

2- ابن أبي زرع (النصف الأول من القرن 8/14م):

... - روض القرطاس في أخبار المغرب ومدينته فاس، الرباط، 1973م.

3- ابن الأثير علي بن محمد الجزَري، 630/1232م:

... - الكامل في التاريخ، تحقيق عبد الوهاب النجار، القاهرة، 1348هـ.

4- ابن بَشكُوَال خَلَف بن عبد الملك، 578/1183م:

... - كتاب الصلة، القاهرة، 1374/1955م.

 

(1/3286)

 

 

5- ابن الخطيب لسان الدين محمد بن عبد الله، 776/1374م:

... - أعمال الأعلام، ج 2، تحقيق ليفي بروفنصال، بيروت، 1956.

... - الإِحاطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، القاهرة، 1393/1973.

6- ابن خلكان محمد بن أحمد، 681/1281م:

... - وفيات الأعيان، جزآن، بولاق، مصر، 1299/1881م.

7- ابن خليفة (المعروف أيضا بابن خير) أبو بكر محمد بن عمر، 575/1179م:

... - فهرست ما رواه عن شيوخه، القاهرة، 1963، مصوَّر عن طَبْعة سَرَقُسْطة ... ... لسنة 1893م.

8- ابن الشاط القاسم بن عبد الله (القرن 7/13م):

 

(1/3287)

 

 

... - الإِشراف على أعْلَى شرف، تحقيق إسماعيل الخطيب، تطوان،

1406/1986م.

9- ابن عذارى المراكشي أحمد بن محمد (القرن 7/13):

... - البيان المُغرِب، قسم الموحدين، تحقيق جماعة من الباحثين، بيروت،

1406/1985م.

10- الحُميدي محمد بن فتوح، 488/1095م:

... - جذوة المقتبس، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، القاهرة، 1372/1952م.

11- الداودي محمد بن علي، 945/1538م:

... - طبقات المفسرين، جزآن، القاهرة، 1303/1983م.

12- الذهبي (الحافظ-) محمد بن أحمد، 748/1347م:

 

(1/3288)

 

 

... - تذكرة الحفاظ، نسخة مصورة ببيروت، عن الطبعة الهندية لسنة 1958م.

13- السيوطي جلال الدين عبد الرحمن، 911/ 1505م:

... - بغية الوعاة، القاهرة، 1326/1908م:

... - طبقات المفسرين، نسخة مصورة بطهران، 1960، عن طبعة لَيْدن لسنة

1839م.

14- عبد الواحد المراكشي (النصف الأول من القرن 7/13م):

... - المُعجِب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي

... العلمي، القاهرة، 1368/1949م.

15- عياض بن موسى اليحصبي السبتي، 544/1149م:

... -ترتيب المدارك (8 أجزاء)، الرباط، 1964-1984م.

 

(1/3289)

 

 

16- مديرية الوثائق الملكية بالرباط:

مجموعة الوثائق، ج 1، الرباط، 1976م.

 

(1/3290)

 

 

الجاحظ بين الدعاية السياسية للسلطة ومعتقده الاعتزالي (دراسة نقدية)

... ... ... الدكتور موفق سالم نوري

... ... ... ... ... كلية المعلمين ـ جامعة الموصل

 

توطئة

... ولد الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر في البصرة في حدود عام 160 هـ(1) وتوفي في عام 255 هـ(2)، فناهز بعمره هذا الخامسة والتسعين. وهي بلا شك سنوات طويلة حفلت بنشاط فكري،

__________

(1) انظر مناقشات شارل بيلا حول هذه المسألة في: الجاحظ في البصرة، ترجمة إبراهيم الكيلاني، دمشق، 1961، ص. 92.

(2) ابن المرتضى، طبقات المعتزلة، تحقيق زلور، بيروت، 1961، ص. 70.

 

(1/3291)

 

 

ربما ندر من ماثله في حجمه وتنوعه. وساعد على ذلك أيضاً قابليته الفكرية المتنوعة التي جعلت منه موسوعياً، حتى بات من النادر أن تجد موضوعاً لم يلجه أو يخط فيه بقلمه الرشيق المتحذلق ولو برأي أو فكرة عابرة.

... أشارت الوقائع الكثيرة إلى أن الجاحظ أعد نفسه للعلم والثقافة والأدب منذ نعومة أظفاره. فألقى بها بين العلماء والأدباء، خالطهم وجالسهم وأخذ عنهم، وعرَّض نفسه للضائقات الكثيرة مصرّاً على إتمام ما اختطّه لها من منحىً حياتيٍّ. وترافقت هذه النشأة مع ظرفها الملائم فزادتها خصوبة. وتمثل هذا الظرف

 

(1/3292)

 

 

باهتمام الخلافة العباسية الكبير والواسع بشؤون الثقافة والأدب والعلم والفكر، اتساقاً مع منهج الدولة الإسلامية في عصرها الجديد بتحويل الاهتمام الأكبر للدولة من النشاط العسكري إلى النشاط المدنيّ والحضاريّ. فلا غرابة إذن أن يجد الجاحظ لنفسه مكاناً بدأ مقبولاً ليصبح مرموقاً إلى حد كبير وعلى مستويات وميادين عديدة.

... بدأ اتصال الجاحظ بالسلطة في البصرة، متردداً على دار الإمارة في مناسبات عدة(1). ثم تعمقت علاقته بالسلطة لتبلغ

__________

(1) الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، د. ت، ج 1، ص. 61.

 

(1/3293)

 

 

شأناً كبيراً في خلافة المأمون، الذي أقام أول عهده في مرو ـ عاصمة إقليم خراسان. فكان الجاحظ بين الذين أنيط بهم إعداد الكتب والرسائل في موضوع الإمامة. فأنجزها وأودعها لدى الخليفة. ثم زاره مرات أخرى لمعرفة رأيه فيها(1). وفي بغداد أصبح يتردد على بلاط المأمون(2)، ثم استكتب في هذه الأثناء في ديوان الرسائل، الذي لم يمكث فيه سوى ثلاثة أيام فقط(3)

__________

(1) الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1948، ج 3، ص. 45.

(2) الأصفهاني، الأغاني، طبعة دار الكتب، القاهرة، ج 10، د. ت، ص. 116.

(3) ياقوت، معجم الأدباء، تحقيق مرجليوث، ج 6، القاهرة، 1930، ص. 58.

 

(1/3294)

 

 

، على الرغم من الإشارات التي افادت أنه تقلد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على هذا الديوان مرات عديدة(1). واستمرت صلة الجاحظ بالسلطة حتى خلافة المتوكل. غير أن هذا الأخير لم يكن شديد الحماس لعلاقاته(2)، لأسباب سنأتي عليها في حينه. ومن ناحية أخرى، وثق الجاحظ صلاته برجالات الدولة الآخرين، ولا سيما الوزراء منهم، فأهداهم كتبه ورسائله ومصنفاته، فأجزلوا له العطاء بدورهم وأفاضوا عليه(3). غير أن هذه العلاقات انتابها بعض

__________

(1) المصدر نفسه، ج 6، ص. 62.

(2) المصدر نفسه، ص. 74.

(3) المصدر نفسه، ص. 76.

 

(1/3295)

 

 

الهزات فكاد أن يناله الأذى الكبير بسبب التصفيات التي جرت في خلافة المتوكل لولا بلاغته المشفوعة بالتوسلات التي أنقذته في المواقف الحرجة(1). ويظهر على وجه العموم أن صلاته بالسلطة كانت مصيرية؛ فغالباً ما تحدث بصيغة الانتساب إليها مثل قوله: »أصحابنا وخلفاؤنا وملوكنا...« (2). وبموجب هذه الصلة وبفضل ما امتكله من مواهب بلاغية وقدرات معرفية، ظهر بوصفه كاتباً شبه رسمي

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 58 ـ 59؛ ابن المرتضى، صص. 69 ـ 70.

(2) انظر مثلاً: الجاحظ، الحيوان، المصدر السابق، ج 1، ص. 73، 125، 233، 294.

 

(1/3296)

 

 

واجبه إذاعة ونشر وتفسير الأوامر الحكومية أو الأفكار الدينية التي مالت إليها السلطة، ثم الدفاع عن العباسيين وتبرير وجودهم في السلطة. وربما قاده ذلك أيضاً إلى الإسهام في صنع سياسة الدولة وصياغة مقولاتها والمشاركة في توجيهها(1). وأحيل إليه مرات عديدة وضع الكتب والرسائل في موضوعات أرادتها السلطة أن تذيع وتنتشر بين جمهور الناس. فكفى لها أن اقترنت باسمه ليلتقطها الناس، وهو أمر أدركته السلطة جيداً فأفادت منه. فكلفه المأمون ـ كما سبقت الإشارة

__________

(1) طه الحاجري، الجاحظ حياته وآثاره، القاهرة، 1962، ص. 278.

 

(1/3297)

 

 

إليه ـ بوضع رسائل في موضوع الإمامة، وكلفه المتوكل بوضع رسالة في الرد على النصارى(1)، حتى بات الجاحظ من بين أهم وسائل الدعاية التي استخدمتها السلطة بين عامي 198 و247 هـ. فعمل لأكثر من نصف قرن مروجاً للسلطة العباسية. ترى بعد كل هذا كم استطاع أن يكون منسجماً مع نفسه؟ وهل حافظ على التوازن بين واجبه الدعائي هذا وبين معتقده المعتزلي، بل بوصفه صاحب منحى خاص بالاعتزال؟ هذا ما بذلنا جهدنا المتواضع من أجل تتبعه وكشف خيوطه وتداخلاته.

 

أولاً: الميول السياسية للجاحظ

__________

(1) ياقوت، مصدر سابق، ج 6، ص. 72.

 

(1/3298)

 

 

... قبلاً، لابد لنا من البحث عن موقع الجاحظ على خارطة التيارات السياسيّة المتجاذبة آنذاك. فمن يقرأ الجاحظ قراءة مجتزأة وغير تاريخية، يرى فيه كاتباً قفز على الحبال ومتقلباً في أفكاره السياسية. فربما اكتشف أنه رافضيٌّ مرة، وربما استنتج في أخرى أنه أمويٌّ، وقد يرسخ لديه الاقتناع أنه عباسي الميل. وهذه الاتجاهات الثلاثة ليست متقاربة من بعضها، بما يسمح له أن يخلط بين أفكارها دون أن يكون ذلك مبعث دهشة واستغراب، بل هي اتجاهات تقاطع بعضها مع بعض إلى حد كبير. لجلاء هذه الصورة، ينبغي أن يقرأ الجاحظ قراءة

 

(1/3299)

 

 

شاملة تغطي كل ما كتبه ليكون بالإمكان تلمس الخيوط التي نسج عليها وبالتالي تتبُّعها، بما يكشف حقيقة ميوله واتجاهاته السياسية. ثم لابد من أن تكون هذه القراءة تاريخية أيضاً، أعني أنه لابد من ربط ما كتبه بواقع التحولات السياسية والفكرية التي شهدها وعايشها الجاحظ نفسه. فذلك وحده الذي يقود إلى إصدار أحكام موضوعية دقيقة في هذا الجانب، ولا سيما أن الجاحظ إذا ما نافح عن فريق أو فكرة ما، فإنه يرمي في ذلك بكل ثقله الفكري وبكل أدواته البلاغية والمنطقية والحجاجية، حتى يكاد يوهم قارئه بأنه هو مبتدع هذه

 

(1/3300)

 

 

العقيدة أو الفكرة وليس غيره، وهو أمر عكس في الوقت نفسه سعة ما امتلكه الجاحظ من أخبار ومرويات ومعلومات وأفكار تصلح لتوظيفها لأية أغراض سياسية وفي كل وقت وحين، مع قدرة كبيرة على المحاجَّة المنطقيّة تسلَّح بها في معظم كتاباته.

... دافع الجاحظ، في رسالته الموسومة بـ "العباسية" التي نشر السندوبي مقتضباً لها عن حق العلويين في ميراث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى كاد أن يكون رافضياً قحاً، بحيث انتقد كثيراً سياسة كل من أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) تجاه هذه المسألة(1)

__________

(1) رسائل الجاحظ، جمعها ونشرها حسن السندوبي، القاهرة، 1933، صص. 300 ـ 303.

 

(1/3301)

 

 

. وبما أن الرسالة جاءت مقتضبة، فقد أدَّى ذلك إلى التركيز على هذا الجزء منها. ولما كان موضوعها الرئيس هو »العباسية«، فإنه بوسعنا الاستنتاج أن الرسالة تعرضت لقضية إرث الخلافة بالأصل، وصولاً إلى حق العباسيين فيها، عن هذا الطريق(1)، مبرراً بذلك وجودهم في السلطة ومسبغاً عليه المشروعية والقداسة لأنه ميراث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فالعباس عليه السلام عم الرسول وصاحب الحق بوراثته؛ فالعم أب والعم وارث، وهو ما استند إليه أبو جعفر المنصور في محاجَّته لمحمد النفس

__________

(1) طه الحاجري، مصدر سابق، ص. 197.

 

(1/3302)

 

 

الزكية، الثائر عليه، في رسائل جرت بينهما(1). وأغلب الظن أن الجاحظ وضع رسالته هذه في غضون العشرين السنة الأولى من القرن الثالث للهجرة، عندما اشتدت الخصومة بين السلطة والمحدثين(2)، الأمر الذي احتاج إلى تأكيد مسألة الوراثة هذه، إضفاءً لطابع القداسة على تولي العباسيين للخلافة، وللحد من مناوأة هذا الفريق للدولة التي كانت قد تبنت الاعتزال معتقداً فكريّاً لها.

__________

(1) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، بيروت، د. ت، ج 7، ص. 568.

(2) طه الحاجري، المصدر السابق، ص. 197.

 

(1/3303)

 

 

... غير أننا نجد في رسالة "العثمانية" التي وضعها بعد "العباسية" وقبل عام 240 هـ(1) ـ وإذا قصدنا الدقة أكثر، كان ذلك في أول عهد المتوكل، عندما تحولت الدولة إلى موقف مناوئ للعلويين ومناهض لهم ـ(2)، نجد في هذه الرسالة خصومة شديدة للرافضة، وتفنيداً لآرائهم في العديد من مسائل الإمامة(3)، ومقدماً في الوقت نفسه كمّاً كبيراً من

__________

(1) الجاحظ، العثمانية، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1955، ص. 7 من المقدمة.

(2) طه الحاجري، المصدر السابق، ص. 187.

(3) الجاحظ، العثمانية، المصدر السابق، صص. 24 ـ 37 مثلاً.

 

(1/3304)

 

 

الحجج والآراء التي أكدت أفضلية أبي بكر وأحقيته في الخلاقة(1)، وهو الذي كان قد انتقد الكثير من سياساته في رسالته السابقة ـ أي "العباسية" ـ فجاء هذا التحول انسياقاً وراء تقلبات مواقف السلطة الحاكمة ومتطلبات هذه المواقف.

... أما موقفه من الأمويين، الذين كانوا قطباً آخر للصراع الفكري الدائر في القرن الثالث للهجرة، ممثلين بتيار النابتة والمحدثين أو ما أطلق عليه بـ »الحشوية«، فكان ذا شعبتين متضادتين. فمال إليهم مرة، ونال منهم في أخرى؛ حيث وضع في عصر المأمون رسالته في إمامة معاوية

__________

(1) المصدر نفسه.

 

(1/3305)

 

 

وهي نفسها رسالته في النابتة(1)، وانطلقت هي أيضاً من روح الخصومة بين السلطة والمحدثين، وفي الأجواء التي حاول فيها المأمون لعن معاوية على المنابر(2). لذا جاءت هذه الرسالة مستعرة بعبارات حادة في حديثها عن الأمويين(3)، منها مثلاً:

... فعندما استولى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه »عام الجماعة« وما كان عام

__________

(1) طه الحاجري، المصدر السابق، صص. 187، 193.

(2) الطبري، المصدر السابق، ج 10، ص. 45.

(3) طه الحاجري، المصدر السابق، ص. 227.

 

(1/3306)

 

 

جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية، وغلبة والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً والخلافة منصباً قيصريّاً... (1)

حتى بلغ به الأمر حد إكفاره(2). ثم جاءت رسالته الأخرى في فضل هاشم على عبد شمس، التي وضعها في أول خلافة الواثق(3)، فنال فيها من الأمويين؛ وبما أنها كانت من رسائل المفاخرة التي دأب الجاحظ على

__________

(1) ... رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، المصدر السابق، ص. 294.

(2) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1965، ج 2، ص. 12.

(3) رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، المصدر السابق، ص. 76.

 

(1/3307)

 

 

اعتمادها في موضوعات عديدة أخرى(1)، ولأن أسلوب المفاخرة هذا اعتمد فيه الحجج المتقابلة، فإنه عرض في هذه الرسالة حجج الأمويين أيضاً بما أظهرهم بصورة لم يكونوا فيها أقل من الهاشميين شأناً(2). لذا جاء عموم موقفه من

__________

(1) مع أنه استنكر أسلوب المفاخرة بقوله: »وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشر من المفاخرة« (رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، المصدر السابق، ص. 300). ومن رسائله في المفاخرة: »مفاخرة الجواري والغلمان«، »مفاخرة السودان على البيضان«.

(2) رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، المصدر السابق، ص. 93 ـ 102.

 

(1/3308)

 

 

الأمويين في إطار تسويغ استيلاء العباسيين على السلطة، الأمر الذي استوجب أن ينحي باللائمة على الأمويين في هاتين الرسالتين بالذات. غير أننا نجد، من ناحية أخرى، عشرات الإشارات التي تضمنتها كتاباته المختلفة، تطرق فيها إلى ذكر الأمويين في مواضع الإشادة والمدح والثناء، ومنبهاً على مناقبهم ومآثرهم في الإدارة والحكم، وأورد الكثير من العبارات التي جرت على ألسنتهم، على سبيل الحكمة والغاية في البلاغة والجزالة. ففي المثال الآتي، تحدث عن مناقب معاوية الذي كان »يكتب إلى أطرافه وعماله وإلى زياد في العراق

 

(1/3309)

 

 

بإطعام السابلة والفقراء وذوي الحاجة، وله في كل يوم أربعون مائدة يتقاسمها وجوه جند الشام« (1). فعلى الرغم من أنه كان عليه مناوأة الأمويين، لكنه في الواقع لم يخف مواقفه المعجبة بسياساتهم ومهاراتهم في الإدارة والحكم وببلاغتهم أيضاً.

... وفضلاً عما ما قدمناه من رأي في كيفية فهم كتابات الجاحظ هذه، فإنه وقف وراء هذه الكتابات عامل آخر، هو رغبة الجاحظ في إظهار براعته ومهارته في التعامل مع كل الأفكار والاتجاهات على تباينها،

__________

(1) الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي باشا، القاهرة، 1914، ص. 15.

 

(1/3310)

 

 

دون أن يعني ذلك تبنيها جميعاً، وإن أوحى قلمه أحياناً بمثل هذه النتيجة. وهو نفسه نبه على ذلك، فأسلوبه هذا أوهم الأولين أيضاً، فقال:

 

... ... وعبتني بحكاية قول العثمانية والضرارية، وأنت تسمعني أقول في أول كتابي: وقالت العثمانية والضرارية؛ كما سمعتني أقول: قالت الرافضة والزيدية، فحكمت علي بالنصب لحكايتي قول العثمانية. فهلا حكمت علي بالتشيع لحكايتي قول الرافضة!! وهلا كنت عندك من الغالية لحكايتي حجج الغالية... (1).

__________

(1) الجاحظ، الحيوان، مصدر سابق، ج 1، ص. 11.

 

(1/3311)

 

 

فقد دأب الحاحظ على زيادة معارفه ثم عرضها متفنناً ومظهراً مهاراته الفكرية. ومن أجل ذلك، جالس أشخاصاً من مشارب شتى، فيهم الغلاة (1) والخوارج (2) وغيرهم في أغلب الظن. إن ما يمكن أن نخلص منه في هذا الباب هو أن الجاحظ لم يكن سوى عباسي في ميوله السياسية، وانصب في هذا المجرى ما كتبه سياسياً، مباشراً كان ذلك أم غير مباشر، ومارس بذلك دوراً دعائياً واسعاً لمصلحة العباسيين سنتتبع خطواته في الصفحات التالية.

...

__________

(1) المصدر نفسه، ج 3، صص. 20 ـ 21.

(2) المصدر نفسه، صص. 22 ـ 23.

 

(1/3312)

 

 

ثانياً: أبواب الدعاية المباشرة للسلطة العباسية

... توزعت الدعاية التي مارسها الجاحظ لمصلحة السلطة العباسية على جانبين: الأول منهما مباشر خص فيه العباسيين بالذكر الصريح مسوغاً وجودهم في السلطة ومروجاً لأفكارهم؛ أما الجانب الآخر، فكان غير مباشر، استخدم فيه التلميح والإشارة المضمرة، وبما قاد إلى نتائج مماثلة لما في الجانب الأول. أما الدعاية المباشرة، فتضمنت الأبواب الآتية:

...

... 1 ـ إبراز أهمية النسب (الوراثة) في تولي الخلافة

 

(1/3313)

 

 

... فمن أجل ذلك، وضع رسالته في "العباسية". وكما نبهنا عليه من قبل، فإن هذه الرسالة عالجت موضوعاً رئيساً، تمثل في سوق الحجج التي جعلت من العباسيين أصحاب حق في توليهم الخلافة، ذلك الحق الذي ضمنه لهم وراثة العباس ـ عليه السلام ـ للرسول - صلى الله عليه وسلم -(1). ثم أشار إلى ذلك مرة أخرى في إطار حديثه عن المفاخرة بين الهاشميين والأمويين، فذكر من بين مناقب بني هاشم »... أنهم ملكوا بالميراث وبحق العصبة والعمومة، وأن ملكهم في مغرس نبوة وأن أسبابهم غير أسباب بني

__________

(1) طه الحاجري، مصدر سابق، ص. 197.

 

(1/3314)

 

 

مروان... «(1). وصيغة الخطاب في هذه الجمل تنم عن أن الحديث للجاحظ وليس للهاشميين كما اقتضى سياق المفاخرة بين الفريقين، مما يشير إلى أنه روج هو شخصياً لمثل هذه الأفكار، ثم عمد إلى استخدام أدوات الحصر والتأكيد والإقرار في تأكيد هذا الأمر بقوله: »إن كانت (الخلافة) إنما تنال بالوراثة وتستحق بالعمومة وتستوجب بحق العصبة«(2)، فحصر الإمامة بذلك في الفرع العباسي من الأسرة الهاشمية. فهو لمح إلى أن العم يرث قبل ابن العم؛ فإذا كانت الإمامة

__________

(1) ... رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، ص. 77.

(2) المصدر نفسه.

 

(1/3315)

 

 

تورث، فالعباس عليه السلام أحرى بها من غيره، وعنى بذلك استبعاده للعلويين عن هذا الأمر أيضاً بعد أن نفى أيّ حق للأمويين فيها. كما نبه في مكان آخر على أهمية النسب في طلب المراتب، والخلافة بلا شك من بينها، فقال: »ألا ترى أن أبعد الناس همة في نفسه وأشدهم تلفتاً إلى المراتب، لا تنازعه نفسه إلى طلب المراتب، لأن ذلك يحتاج إلى نسب أو إلى أمر قد وطئ له بسبب« (1). فهل اتسق موقف الجاحظ هذا مع موقف المعتزلة من الكيفية التي يجري فيها تولي الإمامة والخلافة في

__________

(1) الجاحظ، الحيوان، المصدر السابق، ج 2، ص. 83.

 

(1/3316)

 

 

الدولة الإسلامية؟

... كان للمعتزلة، في الواقع، موقف آخر مختلف تماماً في هذه القضية. فلا تنال الإمامة عندهم إلا عن طريق الاختيار فقط(1)، وأن أمر القرابة غير معتبر فيها؛ ولو كان هو المعتبر، لما صحت إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما(2)، وذلك ما أكّده

__________

(1) قاضي القضاة عبد الجبار، المغني في أبواب العدل والتوحيد، القاهرة، د. ت، ج 20، ق 1، ص. 287، 319، ق 3، ص. 27. وله أيضاً: شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، القاهرة، 1965، صص. 758، 762.

(2) قاضي القضاة عبد الجبار، المغني، ج 20، ق 2، ص. 70.

 

(1/3317)

 

 

عليه قدماء المعتزلة أيضاً(1). وإذا كان بعضهم ـ المعتزلة ـ قد اشترط القرشية ـ بوجهها العام ـ لهذا الغرض، فإن بعضهم رفض ذلك(2). والموقف الثاني هو الذي أكده قدماء المعتزلة أيضاً(3). ثم إن من اشترط القرشية منهم لم يشترطوها لخواص عرقية أو قبلية في قريش،

__________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، 1959، ج 9، ص. 87.

(2) الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1950، ج 2، صص. 134 ـ 135.

(3) المسعودي، مروج الذهب، بيروت، 1983، ج 3، ص. 223.

 

(1/3318)

 

 

بل خضع ذلك لاعتبارات سياسية خاصة(1). ويتجلى لنا بذلك أن الجاحظ خالف معتقدات المعتزلة السياسية في هذا الجانب، وهو ما كان قد أخذه على الأمويين، كما أشرنا إليه قبلاً، ثم إنه تماشى في موقفه هذا مع مقولات الراوندية(2)

__________

(1) محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، بيروت، 1986، ص. 198.

(2) ... الراوندية: إحدى القوى التي اشتملت عليها الثورة العباسية، وكانت مقولاتها متطرفة، حتى أن أفرادها ألهوا أبا جعفر المنصور. ولما رأى فيهم خطراً كبيراً، حاول تصفيتهم والتخلص منهم، فثاروا عليه في عام 141 هـ (الطبري، مصدر سابق، ج 7، ص. 505) وبقوا على ولائهم للعباسيين حتى أيام الرشيد، فكانوا يجتمعون إلى أحدهم صنف كتاباً أسماه "كتاب الدولة" يقرأه عليهم ويتدارسونه (ابن النديم، الفهرست، بيروت، د. ت، ص. 287).

 

(1/3319)

 

 

التي آمنت بإرث العباس ـ عليه السلام ـ للإمامة، وإرث أولاده لها من بعده(1).

... أما الدكتور عمارة، فلم يكن دقيقاً في معالجته هذه المسألة من آراء الجاحظ. فقد نسب إليه ما يفيد إنكاره لدور النسب في تولي الإمامة،(2) معتمداً في ذلك على بعض ما جاء في رسالة "العثمانية"، والتي حكى فيها الجاحظ آراء البكرية والعلوية في هذا الموضوع، وهي بالتالي ليست أفكاره ولا أقواله، بل أفكار من نقل عنهم حججهم في

__________

(1) ... قاضي القضاة عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، ص. 754.

(2) المعتزلة وأصول الحكم، بيروت، 1977، ص. 193.

 

(1/3320)

 

 

هذا الأمر. ثم التفت الدكتور عمارة إلى مسألة أخرى، هي تعدد الكتب والرسائل التي وضعها الجاحظ في الإمامة (انظر آنفاً)، وقال إنه أراد بذلك أن يدحض مقولات هؤلاء جميعاً ـ العباسية والعلوية والأموية ـ بطريقة غير مباشرة، بانياً فكرته هذه على أن كل واحدة من هذه الرسائل ضمنها الجاحظ مناظرات فند فيها كل مرة واحدة من هذه الاتجاهات الثلاثة ليصل إلى »أن كل هذه المذاهب باطلة، بدليل أن نصرتها جميعاً ممكنة، وهدمها جميعاً ممكن. وبما أن الحق واحد، فلابد من أن يكون الحق غيرها جميعاً، وإنما الحق في هذا الأمر هو

 

(1/3321)

 

 

الشورى والاختيار والعقد والبيعة«(1). وهو استناج منطقيّ جميل جدّاً، ولكن لو كانت مقدماته صحيحة. ذلك بأن الدكتور عمارة تعامل مع هذه الرسائل، أو بعضها في الأقل، من خلال عنوانها دون تحكيم مضمونها أولاً، وتجاهل الجانب الدعائي الآني لهذه الرسائل ثانياً، وهو ما أتينا على بيانه في المبحث السابق. فالجاحظ في رسائله تلك لم يمتدح أو يذم أو ينتصر أو يبطل في الوقت نفسه أيّاً من هذه الاتجاهات؛ فهو روج كثيراً للإمامة العباسية، لكنه لم يروج أبداً لإمامة العلويين، بل

__________

(1) المعتزلة والثورة، بيروت، 1977، ص. 117.

 

(1/3322)

 

 

نقض مقولاتهم في "العثمانية"؛ كما أنه لم يمتدح إمامة معاوية في الرسالة التي حملت اسمه، كما اعتقد الدكتور عمارة، بل أبطلها وعدها غصباً واستيلاء غير مشروع، أي أنه هدم مقولات خصوم العباسيين وامتدح وروج لهؤلاء. وعنى ذلك قبولاً بطريقة تداولهم الإمامة القائمة على القرابة والوراثة، وفي الوقت نفسه خلت كتاباته من أي ترويج للاختيار والشورى والبيعة. فسمح الجاحظ بذلك لنفسه الخروج عن مقولات المعتزلة بهذا الشأن.

 

2 ـ الامتداح والثناء وذكر المناقب

 

(1/3323)

 

 

... تحدث الجاحظ في مناسبات عديدة بالمدح والثناء، سواء عن الهاشميين والعباسيين بصورة عامة أو عن الخلفاء بصورة خاصة، مشيراً إلى مناقبهم ومآثرهم. فعلى الصعيد الأول، وضع رسالته "كتاب فضل هاشم على عبد شمس"، حيث أفاض كثيراً في ذكر مناقب بني هاشم ومفاخرهم الكثيرة(1). وكما نبهنا، فإن هذه الرسالة وضعت إبان تصاعد خصومة النابتة والمحدثين للسلطة، الأمر الذي احتاج إلى إعلاء شأن الهاشميين على الأمويين، الذين جعل منهم النابتة ـ أي الأمويين ـ

__________

(1) الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، مصدر سابق، صص. 67 ـ 116.

 

(1/3324)

 

 

رمزاً لهم في مواجهتهم للسلطة(1). ومما أبرزه من مناقب وله صلة بحديثنا هنا قوله: »وتفخر هاشم بأن أحداً لم يجد تسعين عاماً لا طواعين فيها إلا منذ ملكوا. قالوا: لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الأمراء لعمال الخراج بالتعليق والرهق والتجريد والتسهير... قد ارتفع، لكان ذلك خيراً كثيراً«(2). كما نبهت الرسالة إلى مآخذ عديدة أخذت على الأمويين،

__________

(1) موفق سالم نوري، العامة والسلطة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الموصل، 1997، ص. 134.

(2) الجاحظ، رسائل الجاحظ، مصدر سابق، تحقيق السندوبي، صص. 80 ـ 81.

 

(1/3325)

 

 

لم يقع العباسيون فيها، فعد ذلك منقبة وفضلاً لهم (1). وإذا ما امتدح أمراً أتاه الخلفاء العباسيون، عاب على الأمويين عدم إتيانهم إياه، مثل قوله إنه لم يقم أحد من ولد العباس بالملك إلا وهو جامع لأسباب الفروسية، وتنقص بهذه المناسبة من فروسية الخلفاء الأمويون (كذا) (2). ويفهم من عموم موقفه هذا امتداحه لعصر العباسيين الذي شهد قيام الحق والعدل والرخاء.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 81 مثلاً.

(2) البيان والتبيين، مصدر سابق، ج 3، ص. 24.

 

(1/3326)

 

 

... هنا تقاطع الجاحظ مرة أخرى مع عدد وافر من رجالات المعتزلة الذين كان لهم رأي آخر في الحكم العباسي. فمنذ وقت مبكر، جابه عمرو بن عبيد المنصور ووصف حكمه بالظلم والجور ورفضه التعاون معه طالباً منه إظهار العدل ونصرة أهله (1)، واشترك عدد كبير من المعتزلة في البصرة في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن على المنصور، وقتل عدد منهم في هذه الثورة، مثل بشير الرحال(2). واستمرت الخصومة بين المعتزلة

__________

(1) المسعودي، مصدر سابق، ج 3، ص. 208.

(2) ابن المرتضى، مصدر سابق، ص. 41؛ الأشعري، مصدر سابق، ج 1، ص. 145.

 

(1/3327)

 

 

والسلطات العباسية حتى أيام الرشيد الذي أودع جماعة منهم السجن (1). ولم يحتفظ أبو هذيل العلاف بما أتاه من مال السلطان رافضاً التمتع به (2)، بينما رفض جعفر بن بشير قبول مثل هذا المال أصلاً للشبهة(3). ورفض جعفر بن حرب المعتزلي الصلاة وراء الخليفة الواثق(4). واستهان محمد بن إسماعيل المعتزلي بكتب السلطان وعدها أهون من التراب عنده(5). فإذا ما عرفنا أن معظم هذه المواقف كانت في

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 55.

(2) المصدر نفسه، ص. 49.

(3) المصدر نفسه، ص. 76.

(4) المصدر نفسه، ص. 73.

(5) المصدر نفسه، ص. 71.

 

(1/3328)

 

 

غضون صعود نجم المعتزلة السياسي وتوليهم مراكز السلطة والنفوذ المهمة، وذلك في خلافة المأمون والمعتصم والواثق، أدركنا كم كان كبيراً التقاطع الذي نشأ بين قطاع من المعتزلة من جهة والسلطة السياسية الحاكمة من جهة أخرى.

... وفي باب الإطراء العام، تكلم الجاحظ على براعة عدد من العباسيين في الخطابة، معرباً عن إعجابه الشديد بقدراتهم هذه(1). أما في باب الإطراء الشخصي، فقد عمد الجاحظ إلى ذكر مناقب الخلفاء العباسيين، فأفرد لهم مساحة واسعة في كتاب "التاج"،

__________

(1) الجاحظ، البيان والتبيين، مصدر سابق، ج 1، ص. 334.

 

(1/3329)

 

 

استطرد فيها بالحديث عن مزاياهم مبتدئاً بالمنصور ومنتهياً بالمأمون(1). فاجتهد في نفي صفة البخل عن المنصور بتعداد المواقف التي أظهر فيها كرم عطائه وجود سخائه(2)، ثم وصفه بأنه كان: »داهياً أريباً، مصيباً في رأيه سديداً، وكان مقدماً في علم الكلام، ومكثراً من كتب الآثار، ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين معروف عندهم«(3). وأكاد أجزم أن أحداً لم يشر إلى أن للمنصور كتاباً في علم الكلام، وإن لم يكن

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 33 ـ 45.

(2) المصدر نفسه، صص. 41 43.

(3) البيان والتبيين، مصدر سابق، ج 3، ص. 367.

 

(1/3330)

 

 

غريباً عليه تعاطي مثل هذا الموضوع، خصوصاً وأن علاقته بالمعتزلة معروفة، ولا سيما بعمرو بن عبيد سواء كان ذلك قبل توليه الخلافة أو بعدها(1). ومن الذين امتدحهم أيضاً الخليفة المعتصم، مشيداً بدوره في سد الثغور ورد المظالم، ثم زاد بأن الله تعالى »حسم به عرق البغي ونواجم الفتنة، الذي لم يزل الله يزيده في كل طرفة محبة...«(2)، مع أن المعتصم أخفق أصلاً في حسم هذه القضية فعلاً (محنة خلق

__________

(1) المسعودي، مصدر سابق، ج 3، صص. 202 ـ 203.

(2) رسائل الجاحظ، المصدر السابق، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ص. 306.

 

(1/3331)

 

 

القرآن)، واضطر إلى إطلاق سراح الإمام أحمد بن حنبل، بعد إخفاقه في حمله على القول بخلق القرآن، وخوفاً من العواقب التي بدأت تلوح ملامحها، وأنذرت بما هو خطير(1)؛ كما مدحه بقوله: »وقد جمع الله لأمير المؤمنين مع كرم العروق وصلاح المنشإ، البعد عن إيثار الهوى، وهل رأيت أفعالاً أشبه بأخلاق، ولا أخلاقاً أشبه بأعراق، من أفعال بأخلاقه وأخلاق بأعراقه«(2). ومثل هذه العبارات قد فاحت منها رائحة الجبرية، وهي

__________

(1) ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد، بيروت، 1977، ص. 340.

(2) رسائل الجاحظ، المصدر السابق، ج 1، ص. 308.

 

(1/3332)

 

 

الفكرة التي حاربها المعتزلة أشد حرب. وسنحيل الحديث في هذه المسألة إلى آخر البحث ليتسنى لنا مناقشتها عند استكمال دواعيها.

 

3 ـ الخروج على السلطان

... من المسائل الخطيرة التي عرض لها الجاحظ مسألة الخروج على السلطان، فخصها بمجال رحب في رسالة "العثمانية". وجاءت معالجته لها معالجة منطقية استدلالية قادته، أو هو ساقها، لتقرير أن الخروج على السلطان أمر غير ممكن عمليّاً ونظريّاً. ومن يقوم بذلك لن يلقى إلا الإخفاق ليصل إلى النتيجة التي مؤداها ضرورة القبول والتسليم بالسلطان القائم فعلاً، وذلك بلا ريب أهم

 

(1/3333)

 

 

ما قدمه الجاحظ فكرياً للسلطة العباسية.

... بدءاً، وصف الجاحظ أشكال المعارضة التي يمكن أن تجابه السلطان بأنها لا تعدو أن تكون واحدة من عشر حالات، نعتها جميعاً بنعوت توحي بالسلبية وعدم المشروعية فقال:

 

... ... فإن السلطان لا يخلو من متأول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زار، ومن متعطل متصفح، ومن معجب برأي ذي خطل في بيانه... ومن محروم قد اضطغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان، ومن مستبطئ قد أخذه إضعاف حقه... وصاحب فتنة خامل في الجماعة، رئيس في الفرقة(1)

__________

(1) الجاحظ، مجموعة رسائل، القاهرة، 1324 هـ، صص. 3 ـ 4.

 

(1/3334)

 

 

.

 

ويستشف من جميع هذه الحالات أن أصحابها ذوو نوازع ذاتية خاصة محكوم عليهم بالسلبية وعدم إجازته إيلاء أمر المسلمين أكثر من إمام، زيادة في الحزم والتحوط لأمرهم. فإذا تعدد الحكام ثم »تقاربت، وتساوت عنايتهم، قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء، واشتدت منافستهم في الغلبة« (1). فتعدد الأئمة والخلفاء يدفعهم للتنافس فيما بينهم، وذلك يقود إلى تمزيق وحدة المسلمين. وأكد ذلك بقوله: »...

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في" الجوابات في الإمامة "، تحقيق يحيى الجبوري، مجلة المورد، بغداد، 1979، م 7، عدد 4، ص. 229.

 

(1/3335)

 

 

وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام بالإمامة وبالسلامة من تنازع الرؤساء تجتمع الكلمة، وتكون الألفة، ويصلح شأن الجماعة. وإذا كانت الجماعة، انتهى الأعداء، وانقطعت الأهواء«(1). ثم أشار إلى القائم بأمر المسلمين ـ الإمام ـ إذا كان مشهوراً، معروفاً بالفضل، لا يطمع أحد في مجاراته ومنافسته، وذلك ـ بحسب قوله ـ الصلاح الذي أراده الله تعالى لهذه الأمة ـ أي أن يحكمها حاكم واحد ـ ثم وصل إلى

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في "النساء"، تحقيق يحيى الجبوري، مجلة المورد، بغداد، 1979، م 7، عدد 4، ص. 252.

 

(1/3336)

 

 

النتيجة التي أرادها، وهي أن الله تعالى لم يطبع الأمة على هذا الطبع إلا وهذا الحاكم الواحد موجود إذا أرادوه، لأن الله تعالى لا يلزم الناس إقامة المجهول، وبالتالي فإن على الناس التسليم لما أراده الله تعالى وطبعهم عليه(1). وهو بهذه الصياغات أراد الوصول إلى النتائج التالية: أن الخليفة القائم فعلاً (السلطة العباسية) هو ما أراده الله تعالى للمسلمين، وأنه لا جدوى من البحث عن خليفة آخر، وذلك بالترتيب المنطقي الآتي:

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في " الجوابات في الإمامة"، المصدر السابق، ص. 230.

 

(1/3337)

 

 

إن تعدد الحكام يقود إلى الصراع بينهم؛

إن الخليفة القائم المعروف بالفضل لا ينافسه أحد؛

هذا أمر طبعه الله في عباده وفيه مصلحتهم؛

لم يكن الله تعالى ليطبع عباده على هذا الطبع إلا وهذا الخليفة موجود فعلاً؛

إن الله تعالى لا يلزم الناس الدعوة لخليفة مجهول وترك المعلوم القائم فعلاً؛

إن الناس ليس عليهم إلا التسليم بذلك، لأن هذا هو قصد الله تعالى؛

وعليه، فإنه ليس من جدوى في معارضة الإمام القائم والخروج عليه.

 

(1/3338)

 

 

... ثم ذهب الجاحظ إلى أبعد من ذلك بالتصريح بأن ما هو قائم هو الخير بعينه بادِّعائه، لأن الله تعالى لو أراد خلاف ما هو قائم لبينه بالنص أو التفسير ولدل عليه ولوضع له علامة، فكان في ذلك الخير لأن الله لا يصنع إلا الخير. لذا فإن ترك الأمر »على ما نحن عليه خير لنا وأفضل...«(1). وهذه فكرة أخرى فيها نزوع جبري واضح سنتعقبه فيما بعد، منبهين فقط على أن الجاحظ كان قد أنحى باللائمة على معاوية لقوله بالجبر، وعد ذلك من الضلال والفسق(2)

__________

(1) الجاحظ، العثمانية، مصدر سابق، صص. 278 ـ 279.

(2) رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، مصدر سابق، ص. 294.

 

(1/3339)

 

 

.

... وعلى طريق تفضيل ما هو قائم، وإن كان دون مرتبة مستحق الإمامة بالأفضلية، أشار إلى أن الإمام الأفضل من امتلك الخصال التالية: قوة العقل والعلم والحزم والعزم. لكنه قد يوجد من هو دون ذلك مرتبة، إلا أنه أحق بالخلافة، »لأن من التعظيم لمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقام فيه إلا أشبه الناس به في كل عصر...«(1). ثم أضاف في مكان آخر: »... وأي زمان بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله أحق بالتفضيل من زمان ظهرت فيه

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في "الجوابات في الإمامة"، مصدر سابق، ص. 230.

 

(1/3340)

 

 

الدعوة الهاشمية والدولة العباسية«(1).

... ثم أقبل الجاحظ على معالجة الأمر من زاوية أخرى، بالعمل على إبطال فاعلية كل الأدوات التي يمكن أن تقوم بالخروج على السلطان. فبدأ بالعامة التي هي جمهور الناس الذين شكلوا العدد الأكبر الذي لابد منه لكل من فكر بإشهار سيفه على السلطان، فأفاد أن العامة لاتعرف عن الإمامة والخلافة شيئاً، وليس في وسعها أن تميز أهمية وجودها الإمامة ـ من عدمه، ولا كيف السبيل إليها،

__________

(1) الجاحظ، »رسالة الشكر«، في: القلقشندي، صبح الأعشى، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، ج 14، ص. 180.

 

(1/3341)

 

 

وهي مع كل ريح تهب، ولعلها أشد اتباعاً للمبطلين منها بالمحققين. لذا فهي ليست سوى أداة للخاصة، تسخرها للمهن والدفاع بوجه العدو. فهي مثل جوارح الإنسان للإنسان، الذي إذا فكر في أمر ما، استخدم جوارحه لتنفيذ ما فكر به، دون أن تدرك هذه الجوارح طبيعة ما تقوم به، فما عليها سوى الطاعة والتنفيذ(1). ثم أردف أن الناس غير ملزمين فيما لم يعرفوا سبيله. وهذا حال العامة مع الإمامة. لذا بات عليها أن تعرض عن هذا الأمر ولا تلجه(2).

__________

(1) الجاحظ، العثمانية، مصدر سابق، ص. 250.

(2) المصدر نفسه، ص. 256.

 

(1/3342)

 

 

... فالعامة كالسكين الصارم بطاعتها للإمام، لكنها شديدة التهور إذا خرجت عليه(1). ثم بعد هذا كله، فإن »البلية العظمى والداهية الكبرى« إذا انقسمت العامة إلى فريقين، أحدهما مع »الخاصة« التي تريد تغيير السلطان، والثاني مع »البغاة والظلمة« الواجب تغييرهم(2) منبّهاً، من طرف خفي، على أن ذلك يعني قيام الحرب الأهلية، التي تكون الحسارة فيها كبيرة إلى حد بعيد. لذا، فإن من رأيه أن صلاح الدنيا وتمام النعمة في »طاعة« العامة لما يدبره أسيادها ليس غير(3)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 252.

(2) المصدر نفسه، ص. 264.

(3) المصدر نفسه، ص. 251.

 

(1/3343)

 

 

.

... وبعد أن أجهز على دور العامة في الخروج على السلطان، وترك ذلك للخاصة، عمد إلى تناول هذه الأخيرة على النحو الآتي: إنه بقوله إن على الناس إقامة الإمام، عنى بهؤلاء أنهم »الخاصة« وهم صفوة المجتمع، وهؤلاء لا يباشرون عملية تغيير السلطة »إلا على الإمكان«، أي بضمان توافر مقومات النجاح، ومنها أن لا تكون العامة مع جند الباغي المتغلب، بل يجب أن تكون جميعها مع الخاصة في عملية التغيير هذه(1)؛ بل إنه حتى إذا اجتمعت العامة، فلا يعني ذلك هو الإمكان المطلوب، لأن السلطان الباغي إذا

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 261.

 

(1/3344)

 

 

كان معه جنده وهم بكامل عدتهم وسلاحهم وأمره مجتمع، »فقليل جمع خير من كثير نشر«. فهذه القوة التي مع السلطان حسنة التدريب والمعرفة بفنون القتال، وذلك ما لا يتوفر للعامة(1)؛ كما اشترط لنجاح الخروج على السلطان أن يكون الإمام البديل »معروف الموضع مكشوف الأمر، وكانت التقية عنه زائلة«(2). ثم عاد إلى إضعاف دور الخاصة في هذه القضية: فنجاحها يتطلب اتفاق كل أطراف الخاصة على موقف واحد، وأن تكون على درجة واحدة من الثقة والعزم والحزم. ولما كان إشهار السيف

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 262.

(2) المصدر نفسه، ص. 261.

 

(1/3345)

 

 

بوجه السلطان يحتاج في مراحل طويلة منه إلى السرية ـ ما أسماه الجاحظ بالتقية ـ، فإنه عد ذلك تواكلاً وتخاذلاً، لا ينفع أن يكون وسيلة للعمل، لأن ما تتفق عليه الخاصة في السر قد لا يعني أن الجميع يضمنون مواقفهم ذاتها في العلن عندما يتطلب الأمر (1). وبذلك وضع الجاحظ عصيّاً عديدة في العجلة تحول دون حركتها. عمد بعد ذلك إلى إلقاء آخر سهم له في حسم الأمر لمصلحة عدم جواز الخروج على السلطان، فإنه يحق لأهل كل إقليم أو فرقة أن يدعوا أن الإمام يجب أن يكون منهم؛ فإذا وقع ذلك، فإن على

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 262.

 

(1/3346)

 

 

أي من هؤلاء الغرماء أن يكون معه من القوة والعدد بمثل ما مع الجميع مجتمعين لضمان نجاحه في مطالبته بالإمامة(1). وذلك ضرب من الاستحالة يدفع باتجاه الحيلولة دون التفكير في الخروج على السلطان، فسد بذلك المنافذ جميعها أمام هذه العملية. فإلى أيّ مدى انسجم موقف الجاحظ هذا مع موقف المعتزلة من الموضوع نفسه؟

... في الواقع، جاء موقف المعتزلة من هذه القضية وسطاً بين الخوارج وأهل الحديث. فقد تطرف الخوارج في موقفهم، فأوجبوا إشهار السيف في وجه أئمة الضلالة والفسق والجور، وتحت

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 269 ـ 270.

 

(1/3347)

 

 

كل الظروف (1). أما أهل الحديث، فلم يوجبوا ذلك، بل اشترطوا له أن يبدر من الإمام كفر واضح بائن لا خلاف عليه، وأوجبوا على المسلمين طاعة الأئمة وإن فسقوا أو جاروا، خوفاً من الوقوع في الفتنة (2). وقد أنكر المعتزلة هذا الموقف ورفضوه (3)، ولكنهم في الوقت نفسه لم يتطابقوا مع الخوارج في موقفهم. فهم أخضعوا هذه العملية ـ الخروج على السلطان، إذا ما تمت، لظروف نجاحها

__________

(1) الأشعري، مصدر سابق، ج 1، ص. 189.

(2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 140.

(3) قاضي القضاة عبد الجبّار، المغني، مصدر سابق، ج 20، ق 2، ص. 150.

 

(1/3348)

 

 

واعتبارات هذا النجاح.

... فقد رأوا أنه ما يحل لمسلم أن »يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعواناً وغلب في ظنه أنه تمكن من منعهم من الجور«(1). وحدد عمرو بن عبيد عددهم بمثل عدة أهل بدر، ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، وأن يكونوا على قدر واحد من الصدق وإخلاص النية (2). وهذه الضمانة هي التي دعوها بـ »الإمكان والقدرة«(3). ومن رأيهم

__________

(1) قاضي القضاة عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوة، تحقيق عبد الكريم عثمان، بيروت، 1966، ج 2، ص. 574.

(2) ابن المرتضى، مصدر سابق، ص. 40.

(3) الأشعري، مصدر سابق، ج 2، ص. 140.

 

(1/3349)

 

 

أيضاً أن يجري ذلك تحت قيادة »إمام عادل«، وإلا فلا(1). وعليه، يمكن إيجاز موقف المعتزلة هذا على النحو الآتي: أنهم أوجبوا على المسلمين الخروج على أئمة الجور والضلالة والفسق ـ دون اشتراط كفرهم ـ على أن يقترن ذلك بشروط النجاح من ظهور الأعوان ووجود الإمام العادل، الذي يقود هذه العملية ويتولى تنفيذها.

... أما عن دور الأمة ـ العامة أو الخاصة أو كليهما معاً ـ، فقد عمل الجاحظ على إبطال هذا الدور، مستنداً إلى معطيات استنتاجية منطقية، ومتجاهلاً الواقع التاريخي. فالدولة

__________

(1) المصدر نفسه، ج 2، ص. 141.

 

(1/3350)

 

 

العباسية، وهو أحد أهم المروجين لها، لم تقم إلا بثورة اشتركت العامة فيها بالثقل الأكبر؛ وحتى قيادتها الميدانية لم تكن من الفئات الاجتماعية المصنفة ضمن الخاصة، عدا قيادتها الرئيسة (البيت العباسي). هذا، إلى جانب أن عدداً من مفكري المعتزلة كان لهم رأي آخر في دور العامة في نصب الإمام وإقامته. فأبو بكر الأصمّ رأى ضرورة إشراك العامة جميعاً في هذه المسألة (1). وكان لقاضي القضاة عبد الجبار رأي قريب من ذلك: فكلما زاد عدد الأفراد المشتركين في أمر ما، كان رأيهم

__________

(1) الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص. 109.

 

(1/3351)

 

 

أقرب إلى الصواب. ووصل بذلك إلى النتيجة التي مفادها أن إجماع الأمة حجة (1)؛ لكنه رأى من ناحية أخرى أنه إذا تعذر إشراك جميع الأمة في نصب الإمام، فلا بأس في قصر ذلك على أهل المدينة التي مات فيها الإمام (2)، وذلك ما يمكن القياس عليه بأنه إذا كان بوسع أهل المدينة الخروج على أئمة الجور وإبدالهم بأئمة العدل، فلا بأس أن يقوموا بدورهم هذا. إن آراء المعتزلة في هذا الجانب كشفت أن الجاحظ قد ابتعد عنها كثيراً، متخذاً تبرير وتسويغ ما هو قائم

__________

(1) المغني، ج 17، ص. 157.

(2) المصدر نفسه، ج 20، ق 2، ص. 68.

 

(1/3352)

 

 

فعلاً بديلاً عن الخروج عليه.

 

4 ـ إظهار القبول بسياسة المتوكل الدينية

... لما تولى المتوكل الخلافة، عمد إلى إحداث انقلاب شامل في النواحي السياسية وما اتصل بها من جوانب أخرى فكرية أو اقتصادية أو غيرها. من ذلك إظهار الخصومة للعلويين (1)، والتشدد إزاء أهل الذمة (2). وقد أسهم الجاحظ في هذه السياسة بالترويج لها وتدعيمها في رسالتيه: "العثمانية" و"الرد على النصارى"، وهو ما سبق التنبيه عليه. غير أن الأهم من هذا كله، إجراءات

__________

(1) الطبري، مصدر سابق، ج 9، ص. 185.

(2) المصدر نفسه، ج 9، ص. 171 وما بعدها.

 

(1/3353)

 

 

المتوكل الخاصة بإقصاء المعتزلة عن مواقع السلطة والنفوذ في الدولة (1)، ثم إبطال القول بخلق القرآن ورفع المحنة (2). وكادت أن تشمل هذه الإجراءات الجاحظ شخصيّاً، لولا إجادته في تخليص نفسه (3). ثم نجد المتوكل بعد ذلك لا يطيق أن يجد الجاحظ في مجلسه، لما عرفه عنه من اعتداد كبير بنفسه (4). فكيف اختط الجاحظ موقفه إزاء هذه التحولات المهمة والخطيرة؟

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 179.

(2) المصدر نفسه، ص. 190.

(3) ياقوت، مصدر سابق، ج 6، صص. 58 ـ 59.

(4) المصدر نفسه، ج 6، ص. 72.

 

(1/3354)

 

 

... جاء في رسالة له وسمها بـ "الشكر" ما يأتي:

... وأي زمان بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله أحق بالتفضيل، وأولى بالتقديم من زمان ظهرت فيه الدعوة الهاشمية، والدولة العباسية، ثم زمان المتوكل على الله والناصر لدين الله، والإمام الذي جُلُّ فكره وأكثر شغله بتصفية الدين وتهذيبه وتنقيحه وإعزازه وتأييده واجتماع كلمته، ورجوع الفتنة (1).

وهكذا عد الجاحظ سياسة المتوكل هذه والخاصة بالتحديد بإبطال القول بخلق القرآن ورفع الفتنة، بأنها نقت

__________

(1) الجاحظ، »رسالة الشكر«، في: القلقشندي، مصدر سابق، ج 14، ص. 180.

 

(1/3355)

 

 

الدين من شوائبه، وأنها المثلى في هذا الباب؛ فأثنى عليها الثناء المبالغ فيه، مع أن واحدة من أهم مقولات المعتزلة في أصل التوحيد هي القول بخلق القرآن ونفي قدمه، وأن للجاحظ نفسه رسالة في خلق القرآن، أشار فيها إلى أن القرآن مخلوق، وأن خلقه على الحقيقة لا على المجاز(1). فامتدح سياسة المتوكل في هذا الجانب، يعني وقوع الجاحظ في تعارض شديد مع آرائه، ولم يكن موقفه هذا من قبيل التراجع الفكري، لأنه لم يعارض أفكاره السابقة بمقولات جديدة، تؤشر

__________

(1) رسائل الجاحظ، مصدر سابق، تحقيق عبد السلام هارون، ج 3، ص. 291.

 

(1/3356)

 

 

قبوله بفكرة قدم القرآن ونفي خلقه، بل كان موقفه هذا من قبيل المحاباة للسلطة.

...

ثالثاً: أبواب الدعاية غير المباشرة

... ولج الجاحظ هذه الناحية من بابين، تحدث في الأول عن مناقب قريش وبني هاشم، وفي الثاني كان حديثه عن السلطان بوجه عام.

...

1 ـ الإطراء العام لقريش وبني هاشم

... جاء حديثه في هذا الجانب بما يقود إلى سحبه بنتائجه على العباسيين، وهم القائمون على السلطة فعلاً. فقد خص قريشاً بحديث واسع في رسالة البلدان، بل يظهر أن تأليفها كان من أجل امتداح قريش وهاشم فيها. ففيما يخص قريش، أشار إلى

 

(1/3357)

 

 

امتيازها من غيرها بالسمو والرفعة(1) والجود والسخاء حتى أنه »لم يعترهم من بخل التجار قليل ولا كثير«(2) وأن قريشاً التزمت على الدوام بقواعد الدين، في جاهليتها وإسلامها (3)، إلى غير ذلك مما هو كثير؛ كما امتدح قريشاً في أماكن أخرى من كتاباته، فهم »أفصح العرب لساناً، وأفضلها بياناً، وأحضرها جواباً، وأجمعها عند الكلام قلباً«(4)

__________

(1) الجاحظ، البلدان، تحقيق صالح أحمد العلي، مستل من مجلة كلية الآداب، بغداد، 1970، ص. 466.

(2) المصدر نفسه، ص. 467.

(3) المصدر نفسه، صص. 468، 472.

(4) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في "تفضيل النطق على الصمت"، تحقيق حاتم صالح الضامن، مجلة المورد، بغداد، 1979، م 7، عدد 4، ص. 174.

 

(1/3358)

 

 

.

... وقال أيضاً: »قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلبهم في الأرحام البريئة من الآفات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويبقيهم لكل جسيم ويرسيهم لكل عظيم«(1). ولا يستقيم مثل هذا الكلام مع منطق العقل، والمعتزلة ـ والجاحظ منهم ـ بنوا معتقدهم الفكري على المنطق والعقل، ذلك بأنه ليس بالوسع الادعائيّ على الله تعالى اختصاصه قريشاً برعاية استثنائية. ولو كان الأمر كذلك، لما ظهر فيهم وثنية

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في "المعلمين"، تحقيق حاتم صالح الضامن، مجلة المورد، بغداد، 1979، م 7، عدد 4، ص. 156.

 

(1/3359)

 

 

ولا شك، ولما احتاجوا أن يبعث فيهم نبياً (ومثل هذا الادعاء أوقع صاحبه في نوع من »الجبرية«) وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وحده الذي اختصه الله تعالى بالرعاية، وهو مع ذلك ولد من رحم ليست مؤمنة. ثم امتدح قريشاً بالفضل الوافر وسعة الصدر التي لم تكن لغيرهم(1). تناول بعد ذلك بني هاشم، فأثنى عليهم الثناء الواسع في عدة رسائل(2). ونقل عنه الثعالبي بإيجاز شديد قوله: »العرب كالبدن، وقريش روحها، وهاشم

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) انظر مثلاً: الجاحظ، مجموعة رسائل "رسالة الحاسد والمحسود"، و "مناقب الترك".

 

(1/3360)

 

 

سرها ولبها، وموضع غاية الدين والدنيا منها، وبنو هاشم ملح الأرض وزينة الدنيا...« (1). وتحدث عنهم في رسالة البلدان، مشيراً إلى الخصال التي بانوا بها على قريش، ومنها: النبوة التي هي خلاصة خصال الخير كلها(2)، وأن الملك فيهم ميراث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورثه العباس عليه السلام ثم ورثه أبناؤه وأحفاده عنه(3)، وامتازوا أيضاً بالبركة: »وكان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين

__________

(1) ثمار القلوب، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، 1965، ص. 13.

(2) المصدر نفسه، ص. 477.

(3) المصدر نفسه.

 

(1/3361)

 

 

والموتان الجارف«(1). ثم أشار إلى أن لبني هاشم طابعاً في وجوههم دل على كرم العتق وكرم التجار، ولم يكن ذلك في غيرهم، حتى أن الأحواز التي تفسد فيها الطبائع كادت أن تفسد ذلك على من سكنها من بني هاشم، »لولا أن الله غالب على أمره« (2). ثم جاءت رسالته في المفاخرة بين بني هاشم وبني عبد شمس، لتشير إلى خصال الفريق الأول ومناقبهم بشكل تفصيلي لا مجال هنا للإفاضة فيه(3).

 

2 ـ الحديث عن السلطان

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) المصدر نفسه، ص. 494.

(3) رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي، مصدر سابق، صص. 67 ـ 116.

 

(1/3362)

 

 

... تحدث الجاحظ في هذا الجانب عن السلطان حديثاً فيه إشادة بالخصال والصفات التي ميزت السلطان من غيره، بما أظهر سلوكه مبرراً على الدوام. وشكل ذلك ـ بصورة غير مباشرة ـ دعاية فعلية للسلطان (الخليفة) القائم فعلاً. من ذلك الوصف الآتي الذي جاء في إطار عام من الحديث بشأن المأمون، فقال:

... فلسنا نشك أن الإمام الأكبر والرئيس الأعظم مع الأعراق الكريمة والأخلاق الرفيعة والتمام في الحلم والعلم، والكمال في الحزم والعزم، مع التمكين والقدرة والفضيلة والرياسة والسيادة والخصائص التي معه من التوفيق والعصمة

 

(1/3363)

 

 

والتأييد وحسن المعونة. لم يكن الله جل اسمه ليجلله بالخلافة ويحبوه بتاج الإمامة وبأعظم نعمة وأسبغها وأفضل كرامة وأسناها، ثم وصل طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته إلا ومعه من الحلم في موضع الحلم والعفو والتغافل ما لا يبلغه فضل ذي فضل ولا ذي حلم… (1).

فأضفى على الخليفة بهذه الأوصاف من القداسة والجبرية الشيء الكثير بعبارة جزلة موجزة. ومن بين الأوصاف الكثيرة التي أضفاها الجاحظ على الخليفة هنا، نتوقف عند واحدة منها، وشكلت واحدة من المسائل التي

__________

(1) الجاحظ، »رسالة إلى الفتح بن خاقان«، مجموعة رسائل، ص. 24.

 

(1/3364)

 

 

توقف المعتزلة عندها ولا سيما الجاحظ منهم، وهي مسألة العصمة. فإذا كانت المعتزلة قد قالت بالمعونة واللطف والمصلحة والتوفيق وبما يدفع هذه المفاهيم عن الجبرية(1)، فإن موقفهم من العصمة كان له شأن آخر. فهي عندهم »في الأصل المنع... حتى يكون المرء معه كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر، ولهذا لا تطلق إلى على الأنبياء أو من يجري مجراهم«(2)، بل إنهم كادوا أن ينكروا عصمة الأنبياء أيضاً، فانقسموا بهذا الشأن إلى فريقين:

__________

(1) قاضي القضاة عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، صص. 779 ـ 780.

(2) المصدر نفسه، ص. 780.

 

(1/3365)

 

 

قال الأول يجوز ارتكاب الأنبياء للمعاصي دون علمهم أنها معاصي، ولم يتعمدوا ارتكابها. في حين قال الفريق الآخر إنهم علموا أنها معاصي، لكنها كانت من جنس الصغار دون الكبار(1). في حين قالت فئة أخرى منهم بعصمة الأنبياء، ولكنهم قصروها على الجوانب الدينية فقط(2). أما الجاحظ، فلم يرد عنه نص مباشر في هذا الشأن، ولكن اتهمه ابن الراوندي بالآتي: »وزعم الجاحظ أن الأنبياء عليهم السلام اعتمدت المعاصي وواقعتها على غير تأويل

__________

(1) الأشعري، مصدر سابق، ج 1، ص. 272.

(2) ابن أبي الحديد، مصدر سابق، ج 7، صص. 18 ـ 19.

 

(1/3366)

 

 

وارتكبتها مع العلم بأن الله نهاها عنها«؛ وعلى الرغم من أن الخياط المعتزلي حاول الدفاع عنه أمام هذا الاتهام، »فإن كل ما أمكن الخروج به من الدفاع أن رأي الجاحظ هو أن الأنبياء وقعوا في المعاصي مع علمهم أنها معاصي. وأن الله تعالى قد نهى عنها«(1). فإذا كان قد أنكر على الأنبياء عصمتهم، فكيف سوغ لنفسه الحديث عن عصمة الإمام الخليفة. لا جرم أن ذلك الباطل بعينه، مؤكداً التعارض الشديد الذي وقع فيه وهو يروج للسلطة العباسية. هذا، إذا علمنا أن عموم

__________

(1) الخياط، الانتصار، تحقيق د. نيبرج، القاهرة، 1925، ص. 95.

 

(1/3367)

 

 

موقف المعتزلة قام على أساس إنكار عصمة الأئمة (الخلفاء) انطلاقاً من طبيعة فهمهم لمهام هؤلاء بأنها دنيوية وليست دينية(1).

... وفي إطار حديثه عن السلطان، أكد ضرورة الإمام ووجوب قيامه(2)، ثم أشار إلى أن هؤلاء ـ الأئمة ـ أفضل من الرعية، لأنهم أفقه في الدين وأقوم بالحقوق. وهم بهذه الصفات أفضل من العباد بعبادتهم، فهؤلاء لا ينفعون سوى أنفسهم، في حين أن لأولئك

__________

(1) محمد عمارة، المعتزلة وأصول الحكم، صص. 165 ـ 166.

(2) الجاحظ، »في بيان مذاهب الشيعة«، مجموعة رسائل، ص. 184؛ فصل من صدر كتابه في "المعلمين".

 

(1/3368)

 

 

نفعاً عاماً وواسعاً(1). ثم أشار إلى أن ثمة شيئين متباينين، إن صلح أحدهما صلح الآخر والعكس صحيح، وهما السلطان والرعية. ثم أردف بقوله إنه قد »صلح السلطان وعلى الله تمام النعم في صلاح الرعية« (2)، ثم حض بعدها على ضرورة التسليم ببعض خصال السلطان، وإن كانت توحي بالسلبية، لكنها ضرورة لابد منها مثل الخيلاء والزهو، فذلك ممكن ومقبول من السلطان، ولا يعذر به غيره(3)

__________

(1) البيان والتبيين، مصدر سابق، ج 2، ص. 349.

(2) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مصدر سابق، ج 1، ص. 313.

(3) الجاحظ، مجموع رسائل الجاحظ، تحقيق باول كراوس وطه الحاجري، القاهرة، 1943، صص. 23 ـ 32.

 

(1/3369)

 

 

. لكنه وقع في ما هو أفدح من ذلك بقوله إن الإمام إذا كان جائراً مستأثراً بالفيء ومعطلاً لبعض الأحكام، فإنه لا بأس في ذلك، لأن بقية منافعه تغمر مضاره هذه، أي أن فائدته أشمل من مضاره حتى وإن جار وظلم، وأنه لابد من التسليم بذلك(1). وهذا الأمر، بلا شك، من الأمور الخطيرة التي تقاطع فيها الجاحظ مع قول المعتزلة بالخروج على أئمة الظلم والجور، متى ما أمكن ذلك لا التسليم به وقبوله تحت ذرائع

__________

(1) الجاحظ، فصل من صدر كتابه في "الوكلاء"، تحقيق يحيى الجبوري، مجلة المورد، بغداد، 1979، م 7، عدد 4، ص. 214.

 

(1/3370)

 

 

ومسوغات معينة. كما دافع عن اتخاذ الخلفاء العباسيين القناع، لأن في طرحه ملابسة وابتذالاً ومؤانسة ومقاربة، في وقت احتاج فيه الناس إلى أن يهابوا الخلفاء، ففي ذلك صلاح شأنهم(1)، وأن تعظيم شأن السلطان يرعب قلوب المخالفين، وفي التهويل فيه صلاح للرعية، وإظهار السلطان قدراته على إخافة الرعية يدفعهم إلى حسن الطاعة والقبول(2). وعلى وجه العموم، فإن الاتجاه العقلاني للمعتزلة لا يوحي بقبول مثل هذه السياسة التي لا مكان

__________

(1) الجاحظ، البيان والتبيين، المصدر السابق، ج 3، ص. 118.

(2) المصدر نفسه، ج 3، ص. 115.

 

(1/3371)

 

 

فيها إلا للرهبة والخوف فقط، وإن كان هؤلاء في واقع الأمر قد مالوا إلى هذا النوع من السياسة إبان تولِّيهم شؤون السلطة في الدولة في حقبة الخلفاء الثلاثة: المأمون والمعتصم والواثق؛ فكان في سياستهم هذه مصرع عقيدتهم بين الناس بما قاد إلى أفول نجمهم السياسي فيما بعد.

... وفي آخر المطاف، لابد من التوقف عند مسألة مهمة في فكر الجاحظ والمعتزلة. تلك هي قضية الجبر والاختيار. وقد شكلت هذه القضية أحد أعمدة فكر المعتزلة، وأخضعوا مقالاتهم في هذا الجانب لأصل العدل من بين أصولهم الخمسة، فمالوا إلى الاختيار ونفوا

 

(1/3372)

 

 

الجبر ونقضوه، وعدوا القول به تجويراً لله تعالى. والجاحظ نفسه أنكر قول القائلين بالجبر، واستنكر على الأمويين قولهم به، واستخدامهم له غطاء سياسياً، ليبرروا من خلاله وجودهم في السلطة، ويضفوا عليهم الشرعية والقبول. فهل توفق الجاحظ في اتخاذ موقف مماثل عند حديثه عن سلطة العباسيين؟

... رأى المعتزلة أن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، ولا تجوز نسبة هذه الأفعال إلى الله تعالى، ولا سيما تلك التي يترتب عليها ثواب أو عقاب(1)؛ وربما تطرف

__________

(1) انظر مثلاً: محمد عمارة، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، ص. 85.

 

(1/3373)

 

 

بعضهم ليذهب إلى أبعد من ذلك. أما الجاحظ، فقد كان أكثر ميلاً للفلاسفة الطبيعيين، مظهراً تأثره بهم(1). فكان من رأيه أن للإنسان إرادة الاختيار فقط: فهو يختار بإرادته هذا الفعل أو ذاك من الأفعال. أما كنه هذا الفعل، فهو طبع من الله تعالى طبعه به(2). يعني ذلك أن الإنسان إذا قرر فعل العدل، فإن قراره

__________

(1) الأشعري، مصدر سابق، ج 2، ص. 83؛ قاضي القضاة عبد الجبار، المجموع في المحيط بالتكليف، تحقيق جين يوسف هوبن اليسوعي، بيروت، د. ت، ج 1، ص. 399.

(2) الأشعري، مقالات الإسلاميين، القاهرة، 1954، ج 2، ص. 83.

 

(1/3374)

 

 

هذا هو إرادته واختياره؛ أما كنه العدل وميل الإنسان إليه، فهو طبع من الله تعالى. ومن الناحية المنطقية، وبموجب مقتضيات فكر المعتزلة، فمثل هذا الادعاء ليس بعيداً عن الجبر؛ فإن الله إذا طبع في الإنسان طبعاً إيجابياً، فلابد من أن يكون هناك ما يقابله سلبياً حتى يكون للإنسان إرادة الاختيار بينهما، الأمر الذي يعزز مبدأ العقاب والثواب ويجعل لهما معنى حقيقياً. وذلك ما نبه عليه الجاحظ بقوله:

 

... ...لأن الغضب والحسد والبخل والجبن والغيرة وحب الشهوات والنساء والمكاثرة والعجب والخيلاء، وأنواع هذه إذا قويت

 

(1/3375)

 

 

دواعيها لأهلها واشتدت جواذبها لصاحبها، ثم لم يعلم أن فوقه ناقماً عليه، وأن له منقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة، وداعي الشهوة طبعاً لا يمتنع معه، وواجباً لا يستطيع غيره (1).

وقوله: »أنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم من شأنها التقلب إلى هلكتهم أو فساد دينهم وذهاب دنياهم.. «(2). والجاحظ بهذا الافتراض يكون قد تقاطع مع عموم المعتزلة الذين قالوا إن الله تعالى لا يفعل القبيح، بل يفعل

__________

(1) فصل من صدر كتابه في "الجوابات في الإمامة"، ص. 228.

(2) المصدر نفسه.

 

(1/3376)

 

 

ويختار الحسن فقط(1). فإذا طبع الله تعالى العباد بطباع معينة، فذلك فعل الله فيهم؛ وإذا كان الله تعالى قد طبعهم على الطباع المتضادة، بحسب ما ورد في قول الجاحظ الآنف، عنى ذلك أن الله تعالى قد طبعهم على الحسن والقبيح، أي أنه فعل الحسن والقبيح. لكن هذا وحده ما جعل مقولة الجاحظ في الطباع تنسجم مع أصل العدل عند المعتزلة، لأن الله تعالى إذا كان قد طبع الإنسان على طبع واحد سلبي أو إيجابي، عند ذلك لا يكون أي معنى

__________

(1) قاضي القضاة عبد الجبار، المجموع في المحيط بالتكليف، مصدر سابق، ج 1، صص. 257 ـ 264.

 

(1/3377)

 

 

لمعاقبته أو إثابته عليه. لذا فإن طبع الله للإنسان على طباع يجب أن يكون على الوجهين السلبي والإيجابي أولاً. ثم يجب أن لا يقتصر هذا الطبع على فئة من الناس دون أخرى، بل لابد من أن يكون عامّاً وشاملاً فيهم، وذلك بمقتضى العدل. وبغير هذين الشرطين، فإن القول بالطبع يقود إلى الجبر ونفي الاختيار. فهل كان الجاحظ موفقاً في هذا الجانب؟ للإجابة عن ذلك، نعود إلى بعض ما سبق عرضه في الصفحات السابقة مما له صلة بهذا الحديث. ففي ثنائه على المعتصم قال: »وقد جمع الله لأمير المؤمنين… البعد عن إيثار الهوى«. وهذا

 

(1/3378)

 

 

التمييز وتأكيد هذه الصفة يعني أن الله تعالى اختارها له دون ضدها. وهذا نزوع جبري بلا شك، إذ من المفترض أن يكون الله تعالى قد طبعه على البعد عن إيثار الهوى وعلى اتباع الهوى أيضاً، ثم اختار المعتصم بإرادته البعد عن إيثار الهوى. بيد أن عبارة الجاحظ تشير إلى غير ذلك. وفي حديثه عن إقامة الإمام الواحد قال: »ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة، ويركب أهلها هذا التركيب«. وساق هذا النص بطريقة جبرية تقود إلى التسليم للإمام القائم، لأن الله طبع الناس على القبول بإمام واحد للأمة، في حين كان

 

(1/3379)

 

 

المفترض أن يكون الطبع على النقيضين في هذه المسألة. ثم تبدأ عملية الاختيار من قبل الأمة، وبعكسه يعد الأمر جبراً. هذا بخصوص فكرة الطبع التي قال بها الجاحظ، حيث أنه كرسها »جبرياً« لمصلحة الدعاية السياسية للعباسيين.

... ثم جاء نزوعه الجبري أكثر وضوحاً في نواحي أخرى. فقد قال في محاجَّته للنص والوصية في شأن الإمامة: »... قلنا: الخيرة فيما يصنع الله. فلو كان الله بيَّن ذلك بالنص والتفسير دون الدلالة ووضع العلامة، كان ذلك خيرة، لأنا نعلم أن الله لا يصنع إلا ما هو خير. فلما لم يفعل ذلك ولم ينص عليه،

 

(1/3380)

 

 

فتركه الأمر على ما نحن عليه خير لنا وأفضل... «(1). فهو إذن تحدث عن آلية نظام الإمامة، بإقرار الحالة القائمة كما هي، ووصف ذلك بأنه خيرة من الله، أي أن الله تعالى هو الذي اختار ذلك وأراده، وهذا نزوع جبري واضح أيضاً. ثم أصبح هذا النزوع أكثر وضوحاً بقوله في حديثه عن الخليفة المأمون: »لم يكن الله جل اسمه ليجلله بالخلافة ويحبوه بتاج الإمامة...«. فمعنى ذلك أن وجود المأمون في الخلافة فعل أراده وفعله الله تعالى. وذاك إيغال في الجبرية التي تكرس نظرية الحق

__________

(1) الجاحظ، العثمانية، مصدر سابق، صص. 278 ـ 279.

 

(1/3381)

 

 

الإلهي للخلفاء في السلطة، الأمر الذي يضفي القداسة عليهم، ولا يجعلهم حكاماً دنيويِّين فقط، بل دينيون أيضاً. الأمر الذي نفاه المعتزلة عن الخلافة والإمامة، وسبق التنبيه عليه.

... إن عموم ما يمكن الخروج به من هذه الدراسة أن الجاحظ تشتت بين معتقداته الاعتزالية ومتطلبات الدعاية السياسية للسلطة العباسية، فمال مرات عديدة لمصلحة مقتضيات الدعاة على حساب مقولات عقيدته الاعتزالية. وعكس ذلك بلا شك أزمة المثقف التاريخية حينما يتجاذبه قطب العقيدة من جهة والدعاية السياسية من جهة أخرى.

 

(1/3382)

 

 

الجالية المغربية ببلاد السودان الغربي (ق 8 هـ/ 14 م)

ملاحظات حول دورها في التفاعل الحضاري بين ضفتي الصحراء

 

... ... ... ... ... ... الأستاذ محمد الشريف

... ... ... ... ... ... كلية الآداب ـ تطوان

 

... من المؤكد الآن أن الروابط والصلات التجارية بين السودان الغربي وبلاد المغرب روابط تجارية تعود إلى أزمنة تاريخية قديمة. فقد كانت قوافل قرطاجة تقطع الصحراء لجلب الذهب والعبيد والعاج مقابل المنسوجات والنحاس والأدوات المصنّعة. وظل هذا التبادل قائماً في العهديْن اليوناني والروماني ثم البيزنطي. وبعد

 

(1/3383)

 

 

الفتح الإسلامي للمغرب، تولى سكان المغرب تأمين أسواق السودان الكبرى وعملوا على تنظيم المواصلات مع هذه البلاد على أساس تجاري أولاً، ما فتئ يتوطّد عبر الفترات التاريخية اللاحقة، حاملاً معه مجموعة من التنظيمات الاجتماعية والدينية والحضرية.

... ودون الدخول في تفاصيل التجارة القافليّة بين الشمال والجنوب وتنظيم القوافل وظروف السفر ومحاور الطرق وجغرافية المبادلات، ولا معالجة أساليب التعامل بين الطرفين(1)

__________

(1) انظر عن هذه الجوانب: أحمد الشكري، »مقارنة تقييميّة لدور الصحراء في علاقات بلاد المغرب ببلاد السودان خلال العصر الوسيط«، مجلة المناهل (المغرب)، عدد 58، مارس 1998، ص ص. 62 ـ 71؛

J. Devisse, «Approximatives, quantitatives, qualitatives: valeurs variables de

l'étude des traversées sahariennes», in Relaciones de la Peninsula Ibérica con

el Magreb siglos XIII-XVI. Actas del Coloquio, éd. Garcia-Arenal y M. J.

Viguera, Madrid, 1988, pp. 165-203; V. M. Godinho, L’économie de l’Empire

portugais au XVIe siècle, Paris, 1969, pp. 99-125.

 

(1/3384)

 

 

...، يمكن القول إن العلاقات التجارية كانت تنفث الروح في باقي العلاقات الأخرى من كل نوع. فالعنصر الحاسم الذي أثر في التطور الاجتماعي والحضاري بالسودان يتمثل في العامل التجاري. فإليه ينسب كثير من المؤرخين ما عرفته أقاليم السودان من ازدهار حضاري وتطور سياسي واقتصادي، وذلك لما أتاحته القوافل من فرص الاطلاع على العادات والمعطيات الحضارية في حوض البحر المتوسط(1).

__________

(1) محمد الغربي، بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، بغداد، 1982، ص. 569.

 

(1/3385)

 

 

... نريد في هذا المقال التطرق لأهمية العنصر البشري في التفاعل الحضاري بين ضفتي الصحراء، وذلك عن طريق تسليط الأضواء على الجالية المغربية بالسودان الغربي خلال القرن الرابع عشر الميلادي. وسندنا الرئيس في هذه المحاولة هو القسم السوداني من رحلة ابن بطوطة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"(1). ومن الملائم أن نشير إلى أن ابن بطوطة عاصر ثلاث

__________

(1) اعتمدنا على طبعة دار صادر، بيروت، 1963. وقد صدرت مؤخراً طبعة جديدة من الرحلة بتحقيق الدكتور عبد الهادي التازي، منشورات أكاديمية المملكة المغربية.

 

(1/3386)

 

 

قوى سياسية رئيسة في القارة الإفريقية هي دولة المرينيين بالمغرب، ودولة المماليك بمصر، ودولة مالي بالسودان الغربي. ومن نافلة القول كذلك إن معلومات ابن بطوطة تعتبر ذات أهمية قصوى لمعرفة المجتمع السوداني. فهي تصور لنا مكوناته الاقتصادية والثقافية والذهنية والعقدية تصويراً دقيقاً، كما تخبرنا بطريقة غير مباشرة عن أفراد الجالية المغاربية وتنظيمها وعلاقاتها بباقي مكونات المجتمع السوداني؛ فضلاً عن دورها في الربط الحضاري بين شمال الصحراء وجنوبها.

 

(1/3387)

 

 

... ومن الطبيعي أن يكون التواجد المغربي ببلاد السودان الغربي كثيفاً، نظراً للعلاقات التجارية والروحية التي ربطت المنطقتين منذ فترة طويلة. فقد انْبَنَت الجالية المغربية ببلاد السودان الغربي إلى جانب الجاليات الأخرى، وخاصة المصرية منها، وأدت أدواراً كبيرة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والروحي للسودان الغربي كما سنرى.

... ويمكن القول إن العناصر الفاعلة في التجارة الصحراوية كانوا إما سكان الحواضر المغربية والسودانية، وإما عناصر رُحَّلاً غالباً ما انتهى بهم الأمر إلى الاستقرار في المدن. ويظهر أنه

 

(1/3388)

 

 

إلى حدود القرن 6 هـ/ 12 م، كانت المبادرة بيد التجار المسلمين الذين كانوا يتاجرون مع بلاد السودان. ولم يبدأ السودانيون يترددون على مدن الجنوب الغربي للمغرب إلا عند نهاية القرن 6 هـ/ 12 م(1).

... عند وصول التجار المغاربة إلى المراكز الحضرية السودانية، كانوا يقومون بكراء المنازل لسكناهم ولتخزين سلعهم طيلة فترة مقامهم هناك؛ وهي إقامة كانت تطول شهوراً(2)

__________

(1) انظر: محمد الشريف، نصوص جديدة ودراسات في تاريخ الغرب الإسلامي، تطوان، 1996، ص. 86.

(2) يقول ابن بطوطة في معرض حديثه عن توجهه إلى ابولاتن إنه كان قد كتب إلى ابن بداء، وهو رجل من سلا، ليكتري له داراً. وكانت إقامته هناك نحو خمسين يوماً. (رحلة ابن بطوطة، ص. 677)؛ وكذلك فيما يخص إقامته بعاصمة مالي، فقد كتب لكبير جماعة البيضان أن يكتري له داراً. (ص. 681).

 

(1/3389)

 

 

. ولكن في غالبية الحالات كانوا يقيمون مع زبنائهم أو لدى وكلاء الشركات التي ينتمون إليها. والجدير بالذكر أن الفنادق المخصصة للجاليات الأجنبية لم تكن معروفة بالسودان الغربي، على عكس بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط حيث انتشرت الفنادق المخصصة للتجار الأجانب في أغلب المدن التجارية، بل إن التجار المغاربة كانوا يسكنون أحياء خاصة بهم حيث يتوفرون على منازل وحوانيت ومساجد خاصة. فابن بطوطة وصل إلى »محلة البيضان« بمدينة مالي حيث اكترى له محمد ابن الفقيه »داراً إزاء داره«(1). وفي

__________

(1) رحلة ابن بطوطة، ص. 681.

 

(1/3390)

 

 

مدينة كوكو أضَافَهُ الفقيه محمد الفيلالي »إمام مسجد البيضان«(1). إن إقامة المغاربة في أحياء خاصة بهم لا تعني انعزالهم أو ترفُّعهم عن المجتمع السوداني. فقد سجل ابن بطوطة حسن التعايش بين أهل السودان ومن يخالطهم من البيض، ومعظمهم من المغرب وباقي الشمال الإفريقي.

... ويمكننا التأكيد أن الجاليات المغربية في مدن السودان كانت مهمة من حيث المستوى الاجتماعي، وتمثلت في أسر تجارية أو علمية سَكَنَتْ في مدن السودان، مؤقتاً أو بصفة دائمة. فقد كانت الجالية المغربية تشمل، إلى

__________

(1) المصدر نفسه، ص ص. 695 ـ 696.

 

(1/3391)

 

 

جانب التجار، فقهاء وقضاة ومدرسين ومقرئين وطلبة وخطباء، وحتى رجال الأدب والشعراء والمهندسين. ولا نعلم تاريخ إقامة أفراد الجالية المغربية الذين يذكرهم ابن بطوطة؛ إلا أن بعض المؤشرات تؤكد أن عدداً منهم لم يكن طارئاً على البلاد، وإنما يمثل الجيل الثاني أو الثالث مثل مدرك بن فقوص، الذي على يَد جدّه أسْلَمَ جدُّ إمبراطور مالي مانسا موسى حسب رواية ابن بطوطة(1).

... ومن خلال أسماء بعض المغاربة الذين تذكرهم المصادر، نلاحظ أن التجارة الصحراوية كانت تستقطب التجار من جميع أنحاء

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 689.

 

(1/3392)

 

 

بلاد المغرب، وخاصة من المدن الكبرى. ويذكر البكري أبا بكر أحمد ابن خلوف الفاسي الذي استقر بغانة. ونعلم أن أخوي المقري (عبد الواحد وعلي) كانا يمثلان شركتهما العائلية بولاتة(1). ويقول العمري إن أبا عثمان سعيد الدكالي »سكن مدينة بيتي [عاصمة امبراطورية مالي] خمساً وثلاثين سنة«(2). أما ابن بطوطة، فبالإضافة إلى كلامه عن »المغاربة« أو

__________

(1) المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، 1988، ج 5، ص. 205.

(2) ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق د. مصطفى أبو ضيف، الدار البيضاء، 1983، ص. 60.

 

(1/3393)

 

 

عن »البيضان« وعن »التجار« بصيغة الجمع، فإنه يذكر أسماء عدد من المثقفين والتجار المغاربة المقيمين في مختلف مدن السودان. إلا أن تلك الأسماء لا تترجم في الواقع إلا جزئياً حقيقة الوجود التجاري المغاربي ببلاد السودان وكثافة هذا الوجود.

... ومع ذلك، لابد من أن نلاحظ أن الجاليتين المغربية والمصرية كانتا متساويتين من حيث الأهمية بالعاصمة المالية، حيث كانت »جماعة البيضان« بها خاضعة لقيادة شخصين من كبار القوم: الأول مغربي كما تدل على ذلك نسبته لقبيلة جزولة، وهو محمد بن الفقيه الجزولي؛ والآخر مصري هو شمس

 

(1/3394)

 

 

الدين بن النقوش المصري. إلا أن »ابن بطوطة يربط حديثه عن المصريين باشتغالهم بالتجارة، ولا يذكر اشتغال المغاربة بها إلا في القليل النادر، ويجعل وجودهم هناك مقروناً بالاشتغال بالقضاء والتدريس وكل ما يتصل بالحياة الثقافية«(1). فبجانب التجار المحترفين يظهر أن الفقهاء والقضاة ورجال الأدب الذين أقاموا بالسودان الغربي قد تعاطوا التجارة هم كذلك. ويصعب الجزم بأنهم كانوا يقتصرون في نشاطهم على

__________

(1) حسن حافظي علوي، »علاقة المغرب الأقصى بمالي من خلال "رحلة ابن بطوطة"«، مجلة المناهل، عدد 53، 1996، ص. 129.

 

(1/3395)

 

 

الوظائف الرسمية. فمهما كانت الرواتب التي تدرّها عليهم تلك الوظائف، فإنهم بلا شك كانوا ميالين إلى ممارسة الأعمال التجارية المربحة التي تفسر وحدها عبورهم للصحراء والإقامة في بلاد بعيدة مثل السودان. فقد كانوا وكلاء للشركات الموجودة بالمغرب أو وسطاء بين المغاربة والسودانيين(1). إن الجمْعَ بين التجارة والعِلْم هو إحدى خصائص الحضارة الإسلامية في جميع

__________

(1) A. El Alaoui, Le Maghreb et le commerce transsaharien (milieu du Xiè- milieu du XIVè s.), Thése de 3ème cycle, Bordeaux, 1983, pp. 108-109.

 

(1/3396)

 

 

العصور.

... ونعلم أنه لم تكن هناك اتفاقيات تجارية أو معاهدات تقنن العلاقات التجارية بين المغرب وممالك السودان، وتحدّد واجبات وحقوق التجار المغاربة بالسودان؛ كما هو الحال بين البلدان الإسلامية والبلدان المسيحية(1). ويظهر أن الإسلام الذي نسج خيوط مختلف الروابط بين ضفتي الصحراء، هو أصل عدم وجود تلك الاتفاقيات. وهذا يفسر كذلك تلك التسهيلات التي منحها ملوك السودان للمغاربة، والتي دفعتهم

__________

(1) انظر مثلاً دراستنا: سبتة الإسلامية: دراسات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، تطوان، 1995، ص. 120 وما بعدها.

 

(1/3397)

 

 

لتنشيط الحركة التجارية والمساهمة في مداخيل الخزينة السودانية. لذلك نجد السلطة المحلية تعمل على ضمان حمايتهم وتعاقب جميع المضرّين بمصالحهم أو بأمنهم، وتُسَهِّل حرية تنقلاتهم(1). ويؤكد ابن بطوطة أن إمبراطور مالي المانسي موسى »كان يحب البيضان، ويحسن إليهم«(2)، و »هو الذي أعطى لأبي اسحاق الساحلي في يوم واحد أربعة آلاف مثقال [...]، وأعطى لمدرك بن فقوص ثلاثة آلاف مثقال في يوم واحد«(3). وقد استمرت

__________

(1) انظر أمثلة من ذلك عند: ابن بطوطة، مصدر مذكور، ص. 688.

(2) المصدر نفسه، ص. 689.

(3) المصدر نفسه.

 

(1/3398)

 

 

هذه السياسة سارية المفعول خلال القرنين التاليين حسب شهادة الحسن الوزان(1). كذلك تقرب أغنياء الجالية المغربية من أغنياء الأرستوقراطية السودانية ومن الدوائر الحاكمة عن طريق الزواج والارتباطات العائلية. إن كبير »جماعة البيضان« محمد ابن الفقيه الجزولي »كان متزوجاً ببنت عم السلطان«(2)

__________

(1) الحسن الوزان، وصف إفريقيا، تعريب محمد حجي ومحمد الأخضر، بيروت، ج 2، 1983، ص. 162. بمدينة مالي »يوجد عدد كثير من الصناع والتجار المقيمين والطارئين الذين يعيرهم الملك عناية أكثر من غيرهم«.

(2) ابن بطوطة، المصدر المذكور، ص. 681.

 

(1/3399)

 

 

. ونجد لاحقاً أن ملك تمبوكتو »زوج اثنتين من بناته من أخوين تاجرين لغناهما«(1).

... وقد عمل بعض أفراد الجالية المغربية مستشارين في دواليب الإدارة السودانية المحلية وفي دائرة السلاطين السودانيين. فالقاضي والخطيب ابن الفقيه هم من أَعْلَمَ المانسي سليمان بقدوم ابن بطوطة لمالي(2). كما قاموا بمهمة التحكيم بين الزعامات السودانية المتصارعة: »وفي أيام إقامتي به [تكادّا]، توجه القاضي أبو إبراهيم، والخطيب

__________

(1) الحسن الوزان، وصف إفريقيا، المصدر المذكور، ج 2، ص. 166.

(2) ابن بطوطة، المصدر المذكور، ص. 682.

 

(1/3400)

 

 

محمد، والمدرس أبو حفص، والشيخ سعيد بن علي إلى سلطان تكادّا وكان [. . .] وقعت بينه وبين التكركري، وهو من سلاطين البربر أيضاً منازعة فذهبوا إلى الإصلاح بينهما«(1). وبذلك يمكن القول إن دولة مالي كانت قد دخلت مرحلة جديدة في نموها عندما طور البلاط علاقاتها بالتجار والفقهاء المسلمين.

... وإذا كان ابن بطوطة في سياحته ببلاد السودان قد صدمته بعض العادات وأَنَفَ من بعض الأكلات السودانية في بعض المدن، فإن ذلك لم يكن حالة التجار الذين كانوا متعودين الحياة في هذه المناطق. ويظهر أن

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 698.

 

(1/3401)

 

 

عدم تشدد السودانيين وانفتاح قيمهم ومبادئ الديانة الجديدة التي تبنوها قد ساهمت بلاشك في إدماج المغاربة في المجتمع السوداني، حيث تعايشت مبادئ الإسلام مع بقايا الديانة الأنيمية المحلية. والواقع أنه كانت هناك علاقات وصداقات بين السكان المحليين والتجار المغاربة، حيث تزوج البعض حسب الشريعة الإسلامية؛ بينما اتخذ البعض الآخر ـ الذي كان كثير الانتقال بين المغرب وبلاد السودان ـ جواري له. ولقد تعلم المغاربة اللسان السوداني: يذكر الحسن الوزان أنه مع انتشار الإسلام بالسودان، »بدأ تجار بلاد البربر حينئذ

 

(1/3402)

 

 

يذهبون إلى هذه البلاد ليتاجروا فيها حتى تعلموا لغاتهم«(1). و»رجل من البيضان« هو الذي شرح (أو ترجم) لابن بطوطة فحوى بعض المحادثات التي جرت في البلاط السوداني(2).

... إن الامتيازات التي كان يحصل عليها المغاربة لم تمنع ملوك السودان، في ظروف نجهلها، من اعتقال التجار المغاربة ومنع نشاطهم. مثلاً، عند نهاية القرن 12 م عرفت العلاقات المغربية ـ السودانية أزمة من مظاهرها رفض الخليفة المنصور الموحدي »هديّة من بلاد

__________

(1) الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ج 2، ص. 160.

(2) ابن بطوطة، المصدر المذكور، ص. 688.

 

(1/3403)

 

 

السودان« عبارة عن فيل. إننا لا نعرف أسباب تلك الأزمة، وهناك من يرجّح أنها مرتبطة بما كان يتعرض له المغاربة من مضايقات من طرف حكام السودان(1). فعلى أثر اعتقال ملك السودان بعض التجار المغاربة وسجنهم، وجه الأمير أبو الربيع سليمان والي سجلماسة وأقاليمها مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى ملك غانة

__________

(1) إبراهيم حركات، »طبيعة العلاقات المغربية مع إفريقيا الغربية في العصر الوسيط«، ضمن كتاب: العلاقات بين المغرب وإفريقيا الغربية، منشوارت جمعية موظفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، عكاظ، 1992، ص. 37.

 

(1/3404)

 

 

يستنكر فيها العراقيل التي توضع في وجه صغار التجار المغاربة و»تعويقهم«، مذكراً إياه بأن اختلاف الاعتقاد الديني بين الجانبين لا يمنع من حسن الجوار ومن حسن التعايش: »نحن نتجاور بالإحسان وإن تخالفنا في الأديان«، وأنه يمكن معاملة التجار السودانيين الموجودين بالمغرب بالمثل: »لو شئنا، لاحتبسنا من في جهتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله، ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله«(1).

__________

(1) المقري، نفح الطيب، ج 3، ص. 105.

 

(1/3405)

 

 

... ويبدو أن العلاقة بين التجار المغاربة والسلطات السودانية كانت تعرف تأزماً في بعض الفترات. يعكس ذلك مثلاً ما كان يعانيه التجار المغاربة من تعجْرف فرْبا حسين نائب السلطان السوداني بولاتة، »أول عمالة السودان«. فلما وصلتها قافلة ابن بطوطة، »جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها، وتوجهوا إلى الفربا، وهو جالس على بساط في سقيف وأعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسيّ [...] ووقف التجار بين يديه، وهو يكلمهم بترجمان، على قربهم منه، احتقاراً لهم«(1).

__________

(1) الرحلة، ص ص. 676 ـ 677.

 

(1/3406)

 

 

... كما أن ممتلكات المغاربة كانت مهددة في فترات الاضطرابات التي كانت تشمل السودان، وخاصة عند فترات الصدام بين السلالات الزنجية المحلية. فنعرف مثلاً أن ممتلكات شركة المقري بولاتة قد تعرضت للنهب والمصادرة عندما غزا »الماندينغ« المدينة في القرن 14 م. ولكن بعد عودة الهدوء إلى البلاد، عوَّض الأسياد الجدد للبلاد الشركة ومنحوها الامتيازات التي كانت تتمتع بها سابقاً ومكنوا أعضاءها من التجارة بجميع بلادهم محققين بذلك أرباحاً طائلة(1).

__________

(1) المقري، المصدر السابق، ج 5، ص. 205.

 

(1/3407)

 

 

... ولا نعدم إشارة إلى جشع بعض المغاربة بالسودان الغربي وضربهم عرض الحائط بحسن الضيافة والثقة والإحسان الذي كان يُتعامل معهم به. مثال ذلك ما يورده ابن بطوطة حول أبي العباس الدكالي وهو »قاض من البيضان«. كان منسى سليمان قد أحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته. ثم إنه اشتكى إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سُرقت له من داره، »ولا سارق يكون بتلك البلاد« كما يؤكد ابن بطوطة. ولما اشتد البحث وتم تهديد خدّامه، اعترفت إحدى الجواري بأنه »ما ضاع له شيء، وإنما دفنها بيده«. وتم إخراجها، وأُتي بها للسلطان

 

(1/3408)

 

 

وعُرّف بالخبر، »فغضب على القاضي ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم. فأقام عندهم أربع سنوات، ثم ردّه إلى بلده«(1).

... وعموماً، ظل السودانيون يكنون الاحترام والتقدير للجالية المغربية؛ بينما نجدهم شديدي التحفظ من المصريين بعد أن فقدوا ثقتهم فيهم. يروي العمري استناداً إلى شهادة »خلق من تجار مصر والقاهرة«

__________

(1) ابن بطوطة، المصدر المذكور، ص ص. 692 ـ 693. ويتابع ابن بطوطة هذه الحكاية قائلاً: »وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون إن اكل الأبيض مضر، لأنه لم ينضج؛ والأسود هو النضج بزعمهم«.

 

(1/3409)

 

 

أنه بعد أن كان التجار المصريون يحققون أرباحاً طائلة من تجارتهم مع السودانيين في القرن الرابع عشر، مستغلين في ذلك ثقة السودانيين فيهم.

 

... ساءت ظنونهم [السودان] بأهل مصر غاية الإساءة، لما ظهر لهم من غِشِّهم لهم في كل قول وفي تراجحهم المفرط عليهم في أثمان ما يباع عليهم من الأطعمة والسلع حتى أنهم لو رأوا اليوم أكبر أئمة العلم والدين، وقال لهم إنه مصري، امتهنوه وأساءوا به الظن لما رأوا من سوء معاملتهم لهم (1).

__________

(1) العمري، المرجع السابق، ص. 73.

 

(1/3410)

 

 

... وعلى كل حال، فإن المخاطر التي كانت تحدق بالتجار المغاربة بالسودان الغربي لم تكن بالكثافة أو الخطورة التي تمنعهم من التجارة، بينما كانت الامتيازات التي يحصلون عليها قد ساعدت على تنمية رؤوس أموالهم. ولدينا سيْلٌ من النصوص التاريخية والجغرافية وحتى المناقبية المعبِّرة عن درجة غنى التجار المتعاملين مع السودان الغربي، نعرض عنها ونكتفي في هذا المقال بإيراد شهادتين حول ذلك. ذكر المقري عن شركة أجداده أنهم استثمروا أموالهم في التجارة الصحراوية حتى »خرجت أموالهم عن الحدّ وكادت تفوت الحصر والعدّ« (1)

__________

(1) المقري، المرجع السابق، ج 5، ص. 206.

 

(1/3411)

 

 

. وورد على لسان الجنوي أنطونيو مالفانطي ((Antonio Malfante أن مضيفه سنة 1447 بـ»تامنتيت« في ناحية توات كان تاجراً مغربياً غنياً عاش في بلاد السودان لمدة 14 سنة. وصرح له هذا الأخير بأنه جمع ثروة تصل إلى مائة ألف دينار(1)، أي حوالي 425 كلغ من الذهب.

__________

(1) Ch. De La Roncière, «Découverte d’une relation de voyage datée du Touat et

décrivant en 1447 le bassin du Niger», in Bulletin de la sect. De Géo. (Com.

Des trav. hist. et scient), 1918, XXXIII, 1918, p. 11.

 

(1/3412)

 

 

... وعلى الرغم من الامتيازات التي كان يتمتع بها المغاربة، فإنهم كانوا يمنعون من التوغل في المناطق الغابوية المنتجة للذهب، بهدف الحفاظ على احتكار ذلك المنبع التبري. ويذكر ابن بطوطة أن بلدة يوفي التي تعد »من أكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم« »لا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها«(1). وقراءة المصادر الجغرافية العربية من القرن 10 إلى القرن 15 توضح أن الجغرافيين استقوا معلوماتهم من روايات شفوية متعلقة بتلك المناطق المنتجة

__________

(1) ابن بطوطة، المصدر السابق، ص. 680.

 

(1/3413)

 

 

للتبر(1).

... إن القانون الذي عرفته أوربا الفيودالية، وبموجبه كانت تركة الأجنبي الهالك تؤول إلى سيده، لم يكن معروفاً ببلاد السودان الغربي. إن ممتلكات الأجنبي المتوفى هناك كانت تبقى أمانة بيد مواطنيه إلى أن تؤول إلى ورثته الشرعيين. ذلك ما يقرره ابن بطوطة في معرض حديثه عما استحسنه من أفعال السودان وما

__________

(1) ديفيس جان، »مشكلة ملكية المناجم في إفريقية الغربية من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر«، تعريب عبد الرحيم بن حادة، مجلة كلية الآداب بفاس، عدد 5، 1989، ص. 74.

A. El Alaoui., op. cit., p. 113.

 

(1/3414)

 

 

استقبحه منها: »فمن أفعالهم الحسنة... عدم تعرضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان، ولو كانت القناطر المقنطرة؛ إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان حتى يأخذه مستحقه«(1).

...

»شيخ المغاربة« بالسودان الغربي

... وبما أنه لم يكن هناك موظفون رسميون للدولة المغربية يمكنهم أن يقوموا بدور القنصل الأوروبي في بلاد الإسلام، فإن المغاربة تعودوا اختيار أحدهم ليمثلهم أمام السلطات السودانية. فعلى غرار الجالية المغربية ببلاد الشام التي كان لها شيخها، من المؤكد أن الجالية

__________

(1) ابن بطوطة، المصدر السابق، ص. 690.

 

(1/3415)

 

 

المغربية ببلاد السودان كانت منظمة كذلك بدليل وجود »شيخ المغاربة« بها(1). ولا نعرف شيئاً يذكر عن طبيعة هذه الرتبة أو المهمة؛ فنحن لا ندري إن كانت تختاره السلطات المغربية أو السلطات السودانية أو كان يتم انتخابه من طرف أفراد الجالية المغربية ببلاد السودان. وسواء كان يُعين أو يُنتخب، فإننا لا ندري إن كانت مهمته مؤقتة أو دائمة. كما أننا لا نعرف معايير اختيار شيخ المغاربة هناك. أكانت معايير مادية مرتبطة بدرجة غناه وثروته أم كانت معايير عائلية أو قبلية؟ (2)

__________

(1) المصدر نفسه، ص ص. 653 ـ 696.

(2) يحتمل أن يكون كل من »شيخ المغاربة بتكادا« سعيد بن علي الجزولي، و »كبيرهم بمالي« محمد بن الفقيه الجزولي من قبيلة واحدة هي جزولة، إن لم يكونا من عائلة واحدة. (ابن بطوطة، المصدر السابق، ص ص. 681 ـ 696).

 

(1/3416)

 

 

وهل كان اختياره يتم على أساس مؤهلاته الدينية والعلمية والأخلاقية أو على أساس معطيات سياسية؟ (1) إن النصوص لا تفصح عن طبيعة هذه المعايير. ولا يمكننا التسليم بأن المغاربة بالسودان الغربي كانوا يختارون »أكبرهم سناً« ليمثلهم كما يعتقد البعض(2). ثم إن المغاربة لم يكن يمثلهم شيخ واحد ببلاد السودان. فمعطيات رحلة ابن بطوطة توحي بأن شيوخ المغاربة وُجدوا حيث وجدت جالية مغربية، أي في معظم المدن

__________

(1) كان ابن الفقيه الجزولي »متزوجاً ببنت عم السلطان«. (الرحلة، ص. 681).

(2) A. El Alaoui, op. cit., p. 112.

 

(1/3417)

 

 

السودانية التجارية المهمّة مثل مدينة مالي، حيث كان محمد بن الفقيه الجزولي أحد كبيري جماعة البيضان إلى جانب شمس الدين بن النقويش المصري(1)، وفي مدينة تكادا حيث كان »شيخ المغاربة« هو سعيد بن علي الجزولي(2).

... أما عن مهام »شيخ المغاربة«، فمن الراجح أنه كان يشرف على حماية مصالح الجالية المغربية عند السلطات المحلية ويستقبل المغاربة الجدد القادمين إلى السودان ويوفر سبل إقامتهم(3)

__________

(1) ابن بطوطة، المصدر السابق، ص. 681.

(2) المصدر نفسه، ص. 696.

(3) كتب ابن بطوطة، قبل وصوله إلى مالي، إلى كبير جماعة البيضان ليكتري له داراً. ولما وصل إلى العاصمة، قصد شيخ المغاربة (ابن بطوطة، المصدر المذكور، ص. 681).

 

(1/3418)

 

 

ويتولى تقديمهم للسلطان السوداني في حفلات الاستقبال(1). ومن المفترض أنه كان ينظم الاتصالات لمناقشة مسائل التجارة وتحضير المشاريع المشتركة والحصول على أخبار البلاد. ومن المرجح أنه في غالب الأحيان كان هو المسؤول عن تركة المغربي المتوفى هناك.

...

دور الجالية المغربية في التواصل الحضاري بين ضفتي الصحراء

... يظهر من خلال نماذج لأفراد »الجالية المغربية« بالسودان الغربي التي أوضحناها أعلاه، أن المغاربة علماء وتجاراً وفقهاء ومتصوفة ومدرسين وقضاة وأئمة ومجاهدين...،

__________

(1) المصدر نفسه، ص ص. 682 ـ 683.

 

(1/3419)

 

 

كانوا ينسجون بصمت، إلى جانب أفراد الجاليات العربية الإسلامية الأخرى، خطوط التواصل بين مختلف مناطق ضفتي الصحراء. وتبرز أهمية الأدوار التي اضطلعوا بها أكثر في أطراف السودان الغربي حيث لم يكن الإسلام قد تركّز بعد. فنشر الإسلام بهذه المناطق لم يكن عبارة عن ظاهرة دينية وثقافية محضة، وإنما كان حركة اجتماعية تقتضي هجرة الأفراد الأدباء وأصحاب المواهب والمتصوفة والتجار. ومن المؤكد الآن ـ من خلال رحلة ابن بطوطة على الأقل ـ أن المغاربة كانت لهم مساهمة هامة في الشؤون العامة للسودان وفي تطور العلوم الدينية

 

(1/3420)

 

 

في مجتمعاته.

... وعلى الرغم من أهمية هذه الصلات، فإن بعض الباحثين لم يترددوا في وصف العلاقات بين المنطقتين بـ»اللاتكافؤ« على المستوى الاقتصادي، على اعتبار أن التيارات التجارية استهدفت استغلال الموارد الطبيعية الإفريقية، وأن الشمال مثّل »مركزاً للقوة والتفوق في كل جوانب الاتصال والتأثير«(1). وإذا ما سلمنا بهذا اللاتكافؤ ـ النسبي على كل

__________

(1) هاشم العلوي القاسمي، »أصول الروابط التاريخية بين بلاد المغرب وغرب إفريقيا في العصور الوسطى(استحضار أم استشراف) «، مجلة كلية الآداب بفاس، عدد 5، 1989، ص. 142.

 

(1/3421)

 

 

حال ـ، في المبادلات وطبيعتها(1)

__________

(1) بما أن التجار المغاربة كانوا يستغلون ببراعة تقدم بلادهم التقني على حساب السودان وقانون العرض والطلب، وتوفرهم على سلع كانت حيوية للسودانيين، فإنه يعتقد أن المبادلات كانت تتم على حساب السودان الغربي الذي كان عليه أداء أثمان مرتفعة جداً مقابل استمرار التجار في الإقبال عليه. إذ كانت أرباح هؤلاء لا تقل عن 400 %؛ كما أن »الخسارة« لم تكن كمية فقط، إذ أن السلع المتبادلة تُفصح عن تباين حضاري كبير. فمقابل الحصول على فرس واحد، كان على السودانيين إعطاء عدد من العبيد لا يقل عن 8؛ ومقابل حصولهم على مترين من الثوب الخشن، كان عليهم إعطاء صبي ومترين من الثوب البندقي الرفيع مقابل 5 عبيد، وذلك حسب ما أورده الوزان.

 

(1/3422)

 

 

، فإنه يصعب مجاراة بعض الخلاصات التي تعتبر »ما ورثته المناطق الاقتصادية الإفريقية من التيارات التجارية الشمالية هو الهيمنة الفكريّة الاقتصادية والاجتماعية«(1). أو نعت ما أحدثته المؤثرات الحضارية المغربية بمجتمع السودان بـ»الاستعمار الفكري«(2). إن الملاحظات الآتية تسعى إلى التخفيف من غلواء مثل هذه الأحكام، عن طريق إبراز مدى مساهمة الجالية المغربية في

__________

(1) مصطفى ناعمي، الصحراء من خلال بلاد تكَنة، منشورات عكاظ، الرباط، 1988، ص. 63.

(2) أحمد الغربي، بداية الحكم المغربي، المرجع السابق، ص. 570.

 

(1/3423)

 

 

التواصل الحضاري بين المغرب والسودان الغربي ودورها في تطويره اجتماعياً وحضارياً.

...

... أ ـ على المستوى البشري

... لم يقتصر تأثير التجار العرب في السودان الغربي على التقنيات التجارية وأشكال الحياة المادية فقط، بل لامس كثيراً من المظاهر الحضارية والمعتقدات الجماعية للمجتمع السوداني. ومع تكثيف العلاقات بين المنطقتين، اجتاز العلماء والمثقفون المسلمون الصحراء للإقامة في المدن السودانية وفي بعض الأحيان ليستقروا نهائياً هناك. كما توافد الأدباء السودانيون على بلاد المغرب للدراسة. فالقوافل التجارية

 

(1/3424)

 

 

قادت على مر الأحقاب الدعاة المسلمين إلى دروب إفريقيا وسهلت بالقدر الذي لا ينكر الإشعاع الحضاري بتلك الجهات.

... ومنذ عودة المانسا موسى من الحج سنة 1325، صاحبه من المشرق حاشية كبيرة من الأجانب، تجلبهم ثورات بلاد السودان. ويذكر العمري أن المانسا سليمان قد استقدم بدوره الفقهاء والأدباء العرب المسلمين إلى إمبراطورية مالي ليطوروا بها الإسلام وثقافته. فقد »جلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وبقي بها سلطان المسلمين، وتفقه في الدين«(1).

__________

(1) العمري، المرجع السابق، ص ص. 59 ـ 60.

 

(1/3425)

 

 

ويشير ابن بطوطة ـ كما رأينا ـ إلى »جماعة البيضان« بالعاصمة المالية، ويتحدث عن الأدباء والفقهاء والقضاة بمختلف البلدان من السودان الغربي. وهناك شهادة متأخرة من القرن 17 م تشير كذلك إلى أن المانسا موسى قد استقدم من مكة إلى مالي سنة 1325 أربعة شرفاء قرشيين »ليتبرك أهل الناحية برؤيتهم وببركة أثر قدمهم في بلدهم«(1) »وتبعوه بأهلهم راحلين إلى بلده«(2). ويشير عبد الرحمان السعدي بدوره إلى حضور عدد كبير من المثقفين البيض الذين استقروا

__________

(1) تاريخ الفتاش، المصدر السابق، ص. 34.

(2) المصدر نفسه، ص. 37.

 

(1/3426)

 

 

بتمبوكتو، ثم بعد ذلك في دييني(1).

... إن الحضور العام للجاليات المغربية والإسلامية بالسودان الغربي وزواج أفرادها من السودانيات كان مناسبة لخلق اختلاط دائم في الدماء، ترجم بأهمية السكان المختلطين. ونعثر على عدة أمثلة لأفراد من عائلة تجارية مغربية ـ إسلامية، مثل عائلة المقري المستقرة بولاتة. فقد اتخذ أفرادها »الأقطار الحوائط والديار وتزوجوا النساء واستولدوا الإماء«(2). ومثل عائلة المهندس والشاعر إبراهيم

__________

(1) السعدي، تاريخ السودان، المرجع السابق، ص ص. 28 ـ 36.

(2) المقري، نفح الطيب، ج 5، ص. 205.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...