ج7. مجلة التاريخ العربي - القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الروسية الدكتور عبد الرحيم العطاوي

ج7. مجلة التاريخ العربي

القرآن الكريم وترجمة معانيه إلى اللغة الروسية  

الدكتور عبد الرحيم العطاوي

... ... ... ... كلية الآداب - الرباط 

يعرف المسلمون في دول الاتحاد السوفييتي السابق عموما و في جمهورية روسيا الفيدرالية خصوصا في الوقت الراهن إقبالا قل نظيره على الترجمات الروسية لمعاني القرآن الكريم. ويظن البعض أن هذا الاهتمام يفتقد إلى جذور في الماضي وأنه أتى، كما أتت أشياء أخرى، نتيجة لانهيار الدولة السوفييتية فقط. غير أن تاريخ هذه المنطقة من العالم يؤكد أن المسلمين بها كانوا، على مر العصور، مجندين لنسخ كتاب الله وطبعه 

وتوزيعه في نصفه الأصلي(1) . كما أن للمستشرقين إسهامات لا يستهان بها في ترجمة معانيه إلى اللغة الروسية.

إننا، في هذا المقال، نسعى إلى تسليط النور على بعض جوانب هذا الموضوع عموما وعلى الترجمات الروسية لمعاني المصحف الشريف خصوصا. وأملنا أن تكون هذه الصفحات بمثابة إسهام متواضع في المزيد من التعريف بالإسلام والمسلمين والقرآن الكريم قديما وحديثا في ربوع

__________

(1) انظر حول هذا الموضوع: عبد الرحيم العطاوي، "نفض غبار النسيان عن بعض أمجاد تتارستان" ، مجلة التاريخ العربي ، عدد2، ربيع 1417 / 1997، ص. 222 - 223.

 

(1/5129)

 

 

البلاد الروسية.

في النصف الأخير من القرن التاسع الميلادي اتحد عدد من إمارات الجناح الشرقي للعالم السلافي(1) وكونوا أول دولة روسية (أكرانية؟ سلافية شرقية؟). موحدة أطلق عليها اسم "روس الكييفية" أو "روسيا الكييفية" (KIEVSKAYA RUS) ، نسبة إلى مدينة "كييف"(2)

__________

(1) ينقسم العالم السلافي إلى ثلاث مجموعات لغوية كبيرة هي:

- المجموعة الشرقية، وتضم روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا؛

- المجموعة الجنوبية، وتضم بلغاريا وشعوب يوغوسلافيا السابقة؛

== - المجموعة الغربية، وتضم بولونيا وتشيكيا وسلوفاكيا.

(2) هي عاصمة أوكرانيا حاليا.

 

(1/5130)

 

 

التي كان مقرا لحكامها. وبعد قرن كامل، بدأت هذه الدولة الجديدة تبحث لنفسها عن دين من بين الديانات السماوية التي اعتنقتها جل الشعوب المجاورة. وهكذا طلب أميرها"(VLADIMIR) من ملوك عدد من البلدان وأمرائها أن يبعثوا إليه برسل ليحدثوه عن دينهم حتى يتمكن مع باقي الأمراء الروسيين من اختيار أحد هذه الأديان ليتخذه دينا رسميا للبلاد قصد توحيدها أكثر وتعزيز شرعية الحكم بها. إلا أن الروسيين والسافيين الشرقيين عموما لم يكونوا يجهلون تماما أهم تعاليم هذه الديانات. فهم كانوا على اتصال مستمر مع الخزر اليهود،

 

(1/5131)

 

 

كما أنهم كانوا على اطلاع على مضمون الدين المسيحي الأرثودوكسي في بيزنطة والكاثوليكي عند جيرانهم في الغرب. أما الدين الإسلامي، فقد تعرفوا بعض تعاليمه وربما سمعوا بكتاب يسمى "القرآن" من خلال البلغار المسلمين الذين كانوا يقطنون الأراضي الممتدة على طول ضفتي نهر "الفولكا" (VOLGA) والتي تشكل حاليا موطن أحفادهم التتار المعروف الآن تحت اسم "جمهورية تتارستان ذات الاستقلال الذاتي" الموجودة ضمن الجمهورية الفيدرالية الروسية(1)

__________

(1) انظر حول الجمهوريات الإسلامية ذات الاستقلال الذاتي في روسيا: العطاوي، مرجع مذكور، صص. 218- 219.

 

(1/5132)

 

 

.

ولقد اختار الأمراء الروسيون، وعلى رأسهم "فلاديمير"، الدين المسيحي في شكله الأرثودوكسي البيزنطي. وقد يكون هذا الأمير اعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه إلى المسيحية كما جاء في إحدى أقدم المخطوطات الروسية(1). ولا نرى أهمية في الوقوف عند الأسباب المتداولة التي رجحت هذا الاختيار، وهي أقرب ما

__________

(1) يتعلق الأمر بالمخطوطة المعروفة تحت عنوان "قصة السنين الغابرة" (POVEST VREMENNYKH LET)

حولها: مكارم الغماري، مؤثرات عربية إسلامية في الأدب الروسي، سلسلة المعرفة، عدد 155، الكويت ، نوفمبر 1991، ص. 311 (وصفحات أخرى).

 

(1/5133)

 

 

تكون إلى الخرافات. والحقيقة أن هذا الاختيار كانت له أبعاد سياسية واقعية(1) . غير أنه ترتب عليه الكثير من العواقب، أهمها أن روسيا انعزلت عن باقي أوربا الكاثوليكية وأصبحت تمثل العدو الأول في المناطق المسلمة الشرقية والجنوبية. فالأوربيون كانوا يرون فيها بلدا أسيويا غريبا عنهم، في حين أصبح المسلمون يعتبرونها قلعة متقدمة لأوربا المسيحية داخل بلدانهم الإسلامية(2) .

__________

(1) A. TAHERI, ISLAM/ U.R.S.S. LA REVOLTE DE L’ISLAM EN U.R.S.S. ED. TSURU, PARIS, 1990, P 35.

(2) المرجع نفسه، ص. 36.

 

(1/5134)

 

 

سبق لنا في دراسة سابقة(1) أن تناولنا موضوع علاقة الروسيين القدامى بجيرانهم المسلمين في شرق روسيا وجنوبها الشرقي، وركزنا بالأخص على حالة الحرب بين الروسيين والشعب التتاري. وإن تلك الدراسة التي حاولنا من خلالها تسليط النور على تاريخ المنطقة قد مكنتنا من تصور نوع العلاقات التي كانت سائدة بين شعوبها. غير أن هذه العلاقات لم تكن تميزها دائما الصراعات والمعارك الدموية. فلقد كانت تتخللها فترات سلام طويلة كان يزهر فيها التبادل التجاري والحضاري. وكلما تحدثنا عن هذا

__________

(1) العطاوي، مرجع مذكور، صص. 217 - 229.

 

(1/5135)

 

 

التبادل الحضاري، فإننا نجد أن قسطا وافرا منه يشمل الثقافة العربية، وهو قسط يصعب فصله عن باقي الثقافة الإسلامية. وإذا كان العارفون بالأدب الروسي يعلمون بأن القرن التاسع عشر هو العصر الذي تجلى فيه بوضوح تأثير القرآن الكريم والمؤلفات الأدبية العربية، فإن الفترات السابقة تبقى مجهولة إلى حد بعيد(1) . غير أن هذه المرحلة التي امتدت من القرن التاسع الميلادي إلى غاية القرن التاسع عشر(2)

__________

(1) الغماري، مرجع مذكور، صص. 31 - 32.

(2) انظر حول هذه المرحلة: عبد الرحيم العطاوي، الدراسات العربية في روسيا، كراتشكوفسكي نموذجا، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، في جزئين، ج1، صص. 51 - 81. (مرقونة).

 

(1/5136)

 

 

كانت تعرف ظهور بعض الكتابات التي تتطرق للدين الإسلامي. وبالرغم من قلة هذه الكتابات، فإن لها أهمية تاريخية خاصة من حيث دراسة الفكر الروسي آنذاك.

ولفهم جوهر التصور العام للإسلام السائد آنذاك عند الروسيين، لا بد من التذكير بأن هناك مصدرا أساسيا مدونا كان الروس يستقون منه معلوماتهم. ويتعلق الأمر باللاهوت والمراجع التاريخية اليونانية - البيزنطية التي بدأت تظهر في روسيا منذ القرن الحادي عشر. ومعلوم أن ما كان يكتبه اليونانيون - البيزنطيون، وهم ألدُّ أعداء الإسلام، لم يكن ليعطي صورة حقيقية أو قريبة من

 

(1/5137)

 

 

الحقيقة عن العرب والمسلمين. فجل كتاباتهم، إن لم نقل كلها، كانت عبارة عن تشويه وتحريف للحقيقة الدينية والتاريخية والحضارية. وهكذا تكونت عند الروسيين صورة خيالية عن الإسلام والمسلمين لا علاقة للها بتاتا بالواقع(1) . وهذه الصورة المشوهة هي الصورة نفسها التي نجدها عند باقي الشعوب المسيحية في بلدان أوربا الغربية في ذلك العصر.

__________

(1) إ. كراتشكوفسكي، دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي، منشورات أكاديمية العلوم للاتحاد السوفييتي، موسكو / ليننكراد، 1950، ... ص. 20. (بالروسية).

 

(1/5138)

 

 

غير أنه يجب الاعتراف بأنه ظهر، في مرحلة لاحقة، نوع أخر من الكتابات التي حاولت الاقتراب شيئا ما من الحقيقة وسعت إلى تغليب المنطق في تناولها لهذه الموضوعات. وكان ينتمي بعض مؤلفيها إلى فئة قليلة من المفكرين الروسيين الذين سبق لهم أن عاشوا فترة من الزمن داخل العالم الإسلامي. ونذكر من بين هؤلاء المفكرين "بيريسفييتوف" (IVACHKO PERESVETOV) وكذلك "كوسوي" (FEODOSI KOSOY) الذي عاش في القرن السادس عشر والذي دافع ففي كتاباته عن المساوات بين جميع الناس وبين جميع الديانات واللغات(1) .

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 24.

 

(1/5139)

 

 

ولقد لقيت أفكاره إقبالا في بعض الأوساط الروسية المثقفة. وبعد حوالي مائة سنة تقريبا، أي في القرن السابع عشر، كتب "بوسوشكوف" (POSOCHKOV) مؤلفه "الفقر والثراء" الذي سار فيه على نهج "بيريسفييتوف" وأوصى بأن يؤخذ من التشريع الإسلامي ما قد يفيد المجتمع الروسي(1) . وللمفكر "أندري كوربسكي" (ANDRIEY KURBSKIY) مكانة خاصة في معالجة هذه المواضيع. فهو، بالرغم من معارضته للإسلام، يضع عددا من تعاليمه في مرتبة أعلى من الكثير من تعاليم المسيحية(2) . والجدير بالذكر أن

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) المرجع نفسه، ص. 25.

 

(1/5140)

 

 

"كوربسكي" فر من مملكة موسكو عام 1563، خوفا من القمع الذي كانت تمارسه الكنيسة والأمراء على أصحاب الأفكار المتفتحة. ولقد قضى هذا المفكر ما تبقى من حياته في بلاد "ليتفا" على شاطئ بحر البلطيق حيث توفي سنة 1583. ويمثل "كوربسكي" في واقع الأمر تحولا مهما في التعامل مع الإسلام والدراسات حوله. غير أنه لم يكن باستطاعته الوصول إلى ما يقارب حقيقة الأمور، لأن جل المصادر والمراجع التي كان يعتمدها لم تكن سوى تلك الكتابات اليونانية البيزنطية ووليداتها التي جعلت من الشتم والقذف في الدين الإسلامي والمسلمين هدفها

 

(1/5141)

 

 

الأسمى.

تزايد اهتمام الروس بالإسلام نتيجة تصاعد قوة الدولة العثمانية، ولم يكن لعظمة هذه الدولة أن تمر أن تسترعي اهتمام المفكرين والمؤرخين في بلدان أوربا الغربية التي تكاثرت فيها المؤلفات التي تناولت بالدرس هذه الإمبراطورية من جميع الجوانب. وكانت لهذه الظاهرة الجديدة انعكاس ملحوظ على سير الحياة الثقافية في روسيا حيث بدأت تتنوع مصادر المعلومات حول الدولة التركية. ذلك بأنه في هذه الفترة أخذت تدخل البلاد كتب من أوربا الغربية، وخاصة "بولونيا" و "هولاندا". وتم ترجمة البعض منها.

 

(1/5142)

 

 

عرفت روسيا في القرن الثامن عشر تحولات كبيرة على يد القيصر "بطرس الأول" المعروف كذلك ب «بطرس العظيم" والذي نجح في تغيير وجه البلاد التي أصبحت خلال عهده وبعده تحتل مكانة مرموقة على الساحة الدولية. ولعل أبرز ما قام به هذا الإمبراطور فور توليه قيادة البلاد هو سعيه المستمر لتغيير جميع مظاهر الحياة اليومية التي كان يطغى عليها الطابع الشرقي ومحاولته تقليد نمط العيش بأوربا الغربية. لكنه، بانحيازه إلى الغرب، لم يهمل الشرق. ومعلوم أن اهتمام "بطرس الأول" بالشرق عموما وبالإسلام خصوصا لم يكن مجرد صدفة؛ فهو

 

(1/5143)

 

 

نابع من رغبته الشديدة في التعمق في معرفة عدوه الأول المتمثل في الدولة العثمانية المجاورة. فلا غرابة إذن أن يعود تاريخ المحاولات الأولى للدراسات الاستشراقية الروسية إلى عهد حكمه(1)؛ ولا غرابة كذلك أن تكون أول ترجمة كاملة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية قد تحققت في عهده بالذات، وهي الترجمة التي أنجزها "بوسنيكوف" (P. POSNIKOV) (2)

__________

(1) انظر حول الدراسات الاستشراقية في عهده: العطاوي، الدراسات العربية في روسيا... مرجع مذكور، ج1، صص. 67 - 73.

(2) ALKOURAN MAGOMETA... PEREVOD P. POSNIKOVA, SAINT-PETERSBOURG, 1716 طبعت هذه الترجمة بأمر من "بطرس ... الأول".

 

(1/5144)

 

 

عام 1716 انطلاقا من الترجمة الفرنسية ل "ـدورييي" (A. DU RUYER) (1) التي يرجع عهدها إلى سنة 1647. ويتفق جميع الاختصاصيين على أن "بوسنيكوف" لم يوفق في عمله هذا. وخير دليل على رداءة هذه الترجمة وبعدها عن مضمون كتاب الله هو العنوان الذي أطلق عليها : "القرآن حول محمد أو التشريع التركي"! (2). وبالرغم من العيوب الكثيرة التي تشوب هذا العمل، فإن

__________

(1) يتعلق الأمر ب: .L’ALCORAN DE MAHOMET, TRADUIT PAR SIEUR DU RUYER, PARIS, 1647

(2) إ. كراتشكوفسكي، دراسات في تاريخ الاستغراب الروسي... ، مرجع مذكور، ص. 43.

 

(1/5145)

 

 

قيمته التاريخية تظل كبيرة.

في الربع الأخير من القرن الثامن عشر تزايد اهتمام مختلف الأوساط المثقفة الروسية بالشرق العربي الإسلامي. ومعلوم أن هذه الفترة، وهي عهد الإمبراطورة "كاتيرينا الثانية"، تميزت بتفتح كبير على مسلمي روسيا وألغت فيها الكثير من القرارات الجائرة في حقهم(1). ففي عام 1778 تم إدخال الحرف العربي بشكل واسع في الطباعة. وطبع في السنة نفسها في العاصمة "سان بيترسبورغ" المصحف الكريم بحروف عربية جميلة. ويقول "كراتشكوفسكي إن هذه

__________

(1) العطاوي، "نفض غبار النسيان..."، مرجع مذكور، صص. 221، 222.

 

(1/5146)

 

 

الحروف انتقلت فيما بعد إلى مدينة قازان التتارية، ثم إلى القرم وتركيا فمصر والهند(1). وقد تكون بعض النسخ من هذه الطبعة دخلت المغرب. ونعتمد في هذا الافتراض على العلاقات الجيدة التي كانت تربط السلطان سيدي محمد بن عبد الله بالإمبراطورة "كاتيرينا الثانية"(2) . ومعلوم أنه جرى بينهما تبادل

__________

(1) إ. كراتشكوفسكي، دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي...، مرجع مذكور، ص. 58.

(2) ت. موساتوفا، "العلاقات الروسية المغربية في القرن التاسع عشر" ، تعريب عبد الرحيم العطاوي، مجلة دار النيابة، عدد 18، 1988، صص. 25 - 31.

 

(1/5147)

 

 

هدايا ورسائل ودية جدا؛ وأي هدية أغلى من الطبعة الروسية للقرآن الكريم ستجد الإمبراطورة لإرسالها إلى السلطان المغربي المسلم؟...

لقد أعيد طبع المصحف الكريم بهذه الحروف الخمس مرات في الفترة ما بين 1789 و 1798(1) وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى الدور الكبير الذي لعبته فيما بعد

__________

(1) انظر الصفحة 16 من المقدمة التي كتبها كل من "بيلياييف" و "غريزنييفتش" للطبعة الثانية لترجمة معاني القرآن الكريم ... "لكراتشكوفسكي" (القرآن، تلاجمة وتعليق كراتشكوفسكي، دار النشر "ناووكا"، موسكو، الطبعة الثانية، 1990 (بالروسية)..

 

(1/5148)

 

 

مطبعة "قازان" الإسلامية التي أحدثت عام 1802، والتي طبعت، خلال القرن التاسع عشر، عشرات الآلف من نسخ القرآن وعددا كبيرا من المؤلفات الإسلامية الأخرى(1). ... ... ...

ومن مظاهر نمو الاهتمام الروسي بالإسلام كذلك صدور ترجمتين اثنتين للمصحف الكريم إلى اللغة الروسية أنجزتا انطلاقا من الفرنسية والإنكليزية. قام بالأولى "فيريو فكين" (VERYOVKIN) سنة 1790 عن الترجمة الفرنسية القديمة ل "دي

__________

(1) A. BENNINGSEN ET CH. QUELQUEJAS, LES OUVEMENTS NATIONAUX CHEZ LES MUSULMANS DE RUSSIE, MOUTON C°? 1990? P. 29 ...

 

(1/5149)

 

 

رييي" (A. DU RUYER) وأنجز الثانية سنة

1792 "كولماكوف" (KOLMAKOV. SAL) عن ترجمة "سالي" (G E) (1)

__________

(1) هذه الترجمات هي

- ALKOURAN , PEREVOD M.I. VERYOVKINA, SAAINT-PETERSBOURG, 1790.

- LKOURAN , PEREVOD A.V. KOLMAKOVA, IZD. SOPIKOV, SAINT-PETERRSBOURG, 1792.

... ... ... - THE KORAN, COMMONTY CALLED ALKORAN OF MOHAMMED, TRANSL. BY GEORGE SALE, LONDON, 1734 (2 VOL).أعيد طبع ترجمة "سالي" مرات متعددة في كل من إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية.

 

(1/5150)

 

 

الإنكليزية(1). وكانت هاتان الترجمتان في مستوى حسن بالمقارنة مع ما سبقتها من ترجمات. وقد ألهمت إحداهن، فيما بعد، أمير الشعر الروسي "بوشكين" (A. PUCHKIN) لنظم سلسلة قصائده المشهورة "قبسات من القرآن" التي عالج فيها شعريا نصوصا مقتبسة من ثلاث وثلاثين سورة قرآنية. ويعترف الشاعر "بأن القرآن كان الكتاب الديني الأول الذي أذهل مخيلته"(2)

__________

(1) إ. كراتشكوفسكي، دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي... ، مرجع مذكور، صص. 55.

(2) ب. غغريزنييفتش (P.GRIZNIYEVITCH)، "القرآن في روسيا"، ضمن: أبحاث جديدة للمستعربين السوفييت (الكتاب الأول)، موسكو، ... 1986، صص. 249 - 259 (بالعربية).

 

(1/5151)

 

 

... وقد أفلح "بوشكين" في إعطاء صورة دقيقة المعالم عن مضمون القرآن الفلسفي والديني؛ كما أن هذه القصائد - يقول غريزنييفتش - أعطت لأول مرة في الأدب الروسي مفتاح الفهم الصحيح للقرآن الكريم وساعدت إلى درجة كبيرة على استمرار نمو الاهتمام به عند أوسع أوساط القراء الروس(1) .

ويمكن القول بأن اهتمام "بوشكين" بالإسلام وبالقرآن الكريم لم ينبع من "فراغ أو كنتيجة لشطحات الخيال الإبداعية؛ بل آتى - كما أشارت إلى ذلك الأستاذة مكارم الغماري - كثمرة لقراءاته المتعمقة في تاريخ الشرق العربي وحضارته

__________

(1) المرجع نفسه.

 

(1/5152)

 

 

وآثاره الأدبية والقرآنية، فضلا عن الجذور الشرقية الإسلامية التي ربطت بين الشاعر والشرق الإسلامي"(1) . وتجدر الإشارة إلى أن أحد أجداد "بوشكين" لأمه، وهو إبراهيم المشهور في مختلف الكتابات الأدبية الروسية، كان ينتمي إلى أسرة إفريقية مسلمة. وهذا ما جعل الشاعر يبحث عن جذوره المسلمة ويحاول التعمق في معرفة دين أجداده وكتابهم المقدس - القرآن الكريم(2)

__________

(1) الغماري ، مؤثرات عربية إسلامية... ، مرجع مذكور، ص. 170.

(2) ABDERRAHIM LATAOUI, « LA LITTERATURE RUSSE », IN LANGUES ET LITTERATURES, VOL. XV, 1997, P 85.

 

(1/5153)

 

 

.

 

يعتبر موضوع ترجمة معاني القرآن الكريم ودراسة بعض جوانبه أحد الموضوعات الأكاديمية الجادة التي أخذت حيزا مهما من اهتمامات عدد من المستشرقين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

لقد سبقت الإشارة إلى الترجمات الأولى التي خضع لها المصحف الكريم في الإمبراطورية الروسية. غير أن هذه الترجمات لم تعد تساير اهتمامات وتطلعات المدرسة الاستشراقية الروسية الجديدة التي تأسست في مطلع القرن التاسع عسر وبدأت تعطي ثمارها في منتصفه. وهكذا صدرت في موسكو عام 1864 ترجمة أخرى لمعاني القرآن

 

(1/5154)

 

 

الكريم أنجزها "نيكولاييف" (K. NIKOLAEV)(1) انطلاقا من ترجمة "كازيميرسكي" (A. B. KAZIMIRSKYI) الفرنسية(2) ،

__________

(1) .KORAN MAGOMETA..., PPEREVOD NIKOLAYEVA, MOSKVAA, 1864

(2) LE KORAN, TRADUIT PAR A. BIBESTEINN KASIMIRSKI, PARIS 1840 (PREMIERE EDITION)

أعيد طبع هذه الترجمة الفرنسية مرات متعددة (كانت الأولى عام 1840 والثانية 1841 والثالثة 1875... وكانت الطبعة العشرون ... 1909... ). ويقول عنها العقيقي: "تعوزها بعض الأمانة العلمية..." (انظر : نجيب العقيق، المستشرقون، القاهرة، 1981، ط. 4، ... ج2، ص. 499).

 

(1/5155)

 

 

ونالت هذه الترجمة شهرة واسعة في روسيا وأعيد طبعها عدة مرات. يقول الباحث "غريزنييفتش" عن الدور الذي لعبته ترجمات المصحف الكريم الأولى إلى اللغة الروسية: "أنها مارست، على الرغم من كل ما اعتورها من نواقص، دورا إيجابيا بإتاحتها الفرصة أمام القارئ الروسي للتعرف عن كثب - إلى هذا القذر أو ذاك - على المصحف الإسلامي الشريف، وساعد ذلك على ما خلفته المدونات التاريخية الإغريقية والمداخلات المسيحية القديمة من تصورات خرقاء عن الإسلام والقرآن، وعن شخصية "محمد ونشاطه"(1)

__________

(1) ب. غريزينييفتش، القرآن في روسيا... ، ص. 255.

 

(1/5156)

 

 

.

والجدير بالذكر أن ترجمة "نيكولاييف" كانت آخر ترجمة تنجز عن طريق لغة وسيطة. وبدأ المستعربون الروسيون يعدون لنقل المصحف الكريم مباشرة من الأصل العربي. وهكذا أنجزت في الوقت نفسه تقريبا ترجمتان: كانت الأولى عام 1871 للجنرال بوكوسلافسكي" (D. N. BOGUSLAVSKI) (1826 - 1893) "الذي نال تحصيلا جيدا في علم الاستعراب في الكلية الشرقية بجامعة بطرسبورغ، وقضى سنوات طويلة في العمل مترجما

للسفارة الروسية في الآستانة. وكانت ترجمته التي أتمها خلال فترة مكوثه في الشرق تمتاز بالدقة العالية وبالمزايا الأدبية

 

(1/5157)

 

 

الفريدة، مما جعلها وقتذاك تحظى بتقدير نقاد مرهفي الحس والقلم، أمثال "روزين" و "كراتشكوفسكي"...(1) . لكن هذه الترجمة بقيت مخطوطة(2) ، لأن صاحبها لما رجع من الشرق، علم بصدور ترجمة أخرى نقلت عن النص العربي كذلك في مدينة "قازان". فتخلى "بوكوسلافيسكي" عن

__________

(1) المرجع نفسه.

(2) طبعت هذه الترجمة مؤخرا (1996) في موسكو. انظر حولها: المرجع نفسه والصفحة نفسها؛ وكذلك مقالة كراتشوكوفسكي "القرآن في ... ترجمة بوكوسلافيسكي" ، ضممن مجلة الاستشراق الروسي، عدد 3 ،1945 ، موسكو - ليننكراد، صص. 293 - 301 ... (بالروسية).

 

(1/5158)

 

 

طبع عمله. وكانت الترجمة )الثانية من إنجاز المستشرق القازاني «سابلوكوف» G.S. SABLUKOV) ) (1804 - 1880) (1) الذي كرس كل حياته لهذا العمل. وتجدر الإشارة إلى أنه أضاف سنة 1879 إلى ترجمته فهرسا للتعريف بعدد من الأحداث التاريخية والأماكن الجغرافية التي

__________

(1) .KORAN, PEREVOD G.S. SABLUKOVA, 1878 (2 VOL)

أعيد طبع هذه الترجمة عدة مرات (1894، 1898، 1907...) وتم تصويرها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وتجدر الإشارة إلى أن طبعة ... 1907 جاءت بالنصين العربي الأصلي والروسي: كل صفحة من الأصلي تقابلها صفحة من الروسي.

 

(1/5159)

 

 

ورد ذكرها في القرآن الكريم؛ كما أنه صدرت له بعد وفاته دراسة تحليلية للمصحف الكريم عنوانها "معلومات عن القرآن لكتاب قوانين تعليم القرآن"، وهي الدراسة التي يقول عنها نجيب العقيقي: "... فيها جدل وحشو..."(1) .

ويتفق جل الاختصاصيين على أن بهذه الترجمة عددا كبيرا من الأخطاء التي يرجع سببها بالأساس إلى عدم تمكن صاحبها من اللغة العربية.

وبقيت ترجمة "سابلوكوف" الترجمة الوحيدة التي كان المسلمون في روسيا والاتحاد السوفييتي يتداولونها أزيد من 80 سنة.

__________

(1) ن. العقيقي، المستشرقون...، مرجع مذكور، ج3، ص. 70.

 

(1/5160)

 

 

مع بداية القرن العشرين، وبعد الازدهار الكبير الذي عرفته الدراسات الاستعرابية، لم تعد ترجمة "سابلوكوف" تتجاوب ومتطلبات العلوم العصرية. لذا بدأ التفكير في إنجاز عمل جديد يكون في مستوى طموحات المدرسة الاستشراقية الروسية الجديدة. فقام العالم الأكراني "كريمسكي(1) " (KRYMSKI) في مطلع القرن بإصدار بترجمة لعدد من السور القرآنية مصحوبة بالشروح ضمن سلسلته المشهورة "محاضرات حول القرآن" (2)

__________

(1) انظر حوله وحول مؤلفاته،: العطاوي، الدراسات العربية في روسيا... ، مرجع مذكور، صص. 131 - 140.

(2) .AGAFANGEL KRYMSKI, LEKTII NO KORAN..., VYPUSK I , MOSKVA, 1902

... أعيد طبعه عام 1905.

 

(1/5161)

 

 

. غير أن هذه المحاولة توقفت ولم يتمم صاحبها مشروعه هذا. فأخذ العالم "كراتشكوفسكي" على عاتقه هذه المهمة التي تطلبت منه وقتا طويلا وجهودا جبارا. وبما أننا نعتبر أن مستوى العمل الذي قام به هذا العالم الكبير يفوق جميع الترجمات الروسية من جهة والعديد من الترجمات الأوربية من جهة أخرى، فإننا سوف نتوقف قليلا عند مميزات هذا العمل وبعض المراحل التي مر منها. يمكن القول بأن اهتمام "كراتشكوفسكي" بهذا الموضوع ظهر مع بداية خطواته الأولى في عالم الاستشراق ولم ينصرف عنه طوال حياته كلها. غير أن العالم لم يتمكن

 

(1/5162)

 

 

من رؤية عمله مطبوعا، إذ توفي عام 1951، ولم تصدر ترجمته إلا سنة 1963(1) . إن العمل الذي استغرق أربعين سنة كاملة، مر من عدة مراحل. فقد كان الاهتمام بموضوعه أولا، والتمهيد للخوض في غماره؟، ثم البحث المستمر لإنجازه تدريجيا، ومقارنة ما أنجز منه، في كل مرحلة، بأجود الترجمات الأوربية

__________

(1) KORAN, PPEREVOD I KOMMENTARRII I. KRATCHKOVSKOVO, IZD. NAOUKA, MOSKVA, 1963. (القرآن، ترجمة وتعاليق ... كراتشكوفسكي، دار النشر CHALIDZE PUBLICATIONS بنيويورك. كما - أعيد طبعه عدة مرات في كل من موسكو ودوشانبي...

 

(1/5163)

 

 

الغربية. يقول "غريزنييفيتش" بهذا الصدد:

... ... ...في العامين 1915 و 1916 ألقى «كراتشكوفسكي» أول محاضراته عن القرآن في ... ... كلية اللغات الشرقية بجامعة "بطرسبورغ". وفي العام 1917 قدم وصفا لمجموعة مخطوطات ... ... المصحف التي تلقاها " المتحف الآسيوي". ونشر في الأعوام 1922 - 1925 ثلاث ... ... ... ملاحظات تتعلق بتواريخ ترجمة القرآن في الفترة الممتدة ما بين القرنين الخامس عشر إلى ... ... اللغة البيلوروسية - البولندية بين أوساط التتر اللتوانيين(1)

__________

(1) انظر حول هذا الموضوع مقالته: "نسخة مخطوطة للقرآن في مدينة بسكوف"، ضمن : مختارات كراتشكوفسكي، ج1،صص. 162 - ... 165 (بالفرنسية). انظر حول التتار اللتوانيين والبولونيين مقالة غريزينييفتش، "القرآن في روسيا"، مرجع مذكور، ص. 250.

 

(1/5164)

 

 

.وفي عام 1930 صدر مقال ... ... ... "كراتشكوفسكي" عن مغزى كلمة النجم في القرآن(1) ، ونشر في العام 1934 ثم في العام

 

... ... 1940 أبحاثا عن الترجمة الروسية المجهولة للقرآن في مطلع القرن الثامن عشر(2) وعن ... ... ... ترجمة "بوكوسلافسكي"(3)

__________

(1) إ. كراتشكوفسكي، مختارات كراتشكوفسكي، ج1، صص. 391 - 395.

(2) إ. كراتشكوفسكي، "ترجمة روسية مخطوطة للقرآن في القرن الثامن عشر" ، مختارات كراتشكوفسكي، ج1، صص. 177 - 178.

(3) إ. كراتشكوفسكي، "القرآن في ترجمة بوكوسلافسكي" ، مجلة الاستشراق السوفييتي، (S.V) ، عدد 3

 

... 1945 ، صص. 293 - 301 (بالروسية).

 

(1/5165)

 

 

.

ويمضي غريزنييفيتش" في حديثه عن مختلف المراحل التي مرت منها ترجمة "كراتشكوفسكي" فيقول:

... ... منذ العام 1919 أعلن "كراشكوفسكي" في نشرة "دار الأدب العالمي للنشر" عن ... ... إعداد ترجمة روسية جديدة للقرآن. وقد باشرها بالعمل على وضع هذه الترجمة في خريف ... ... العام 1921، كما بدأ في الوقت ذاته بإلقاء دورة محاضرات عن القرآن استمر بها حتى ... ... ... أواخر حياته. وأنفق "كراتشكوفسكي" على ترجمة القرآن تسع سنوات فأكمل مسودة ... ... الترجمة في خريف العام 1930. لكنها كانت المرحلة الأولى فقط من العمل.

 

(1/5166)

 

 

وواصل في ... ... السنوات التالية هذا العمل مراجعا قدرا جما من الأدبيات العربية والأوربية عن القرآن. فهو ... ... يستشهد فيما جمعه من مواد للشرح بزهاء 400 مصدر...(1) .

يتضح من خلال هذه السطور مدى جسامة الدراسات والأبحاث التي قام بها "كراتشكوفسكي" لإنجاز ترجمته.

وعلى سبيل توضيح بعض المسائل والرد على القائلين بأن ترجمة "كراتشكوفسكي" بعيدة عن مضمون كتاب الله، وذلك لسبب واحد وهو أنه مستشرق(2)

__________

(1) ب. غريزينييفيتش، "القرآن في روسيا" ، مرجع مذكور، صص. 258 - 259.

(2) سمعت هذا الكلام في عذة مناسبات، وهو من حسن الحظ نابع عن أشخاص لا صلة لهم البتة باللغات الأجنبية وبفنون الترجمة.

 

(1/5167)

 

 

، أقول بأن العالم لم يعتنق الإسلام. ولو فعل، ما صنف إطلاقا ضمن المستشرقين ولدار الحديث حوله كما يدور حول جميع علماء الإسلام. لذا يجب النظر إليه بصفته مستشرقا صرفا ولا يجوز إطلاقا أن يطلب منه أن يرجع إلى هذه الآراء ويأخذها بعين الاعتبار مثلما يأخذ بعين الاعتبار كتابات زملائه المستشرقين. أما نزاهة "كراتشكوفسكي" العلمية وعلمه الغزير في مجال الثقافة العربية الإسلامية وتعاطفه معها ، فهذه أمور يعلمها علم اليقين كل من كانت له اهتمامات ولو بدائية بموضوع الدراسات الاستشراقية العالمية. وللتأكد من صحة

 

(1/5168)

 

 

هذا الكلام، يكفي الرجوع إلى كتاباته المتعددة باللغات الروسية والعربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية ولغات أخرى(1) ... كما يكفي الرجوع إلى إنتاجات المجامع العلمية العربية ودورياتها في النصف الأول من القرن العشرين التي له فيها إسهامات لا بأس بها.

وانطلاقا من هذا التوضيح، نرى أنه لا بد من التذكير بأن عمل "كراتشكوفسكي" يختلف عن الترجمات الأخرى، روسية كانت أو غيرها، من عدة جوانب. ويمكن تلخيص أهم مميزات هذه الترجمة في النقط

__________

(1) انظر أعماله المختارة في ستة أجزاء، موسكو - ليننكراد 1960 (بالروسية).

 

(1/5169)

 

 

التالي:

1 - إن ترجمة "كراتشكوفسكي" جاءت نتيجة منهجية جديدة اعتمد فيها صاحبها على محاولة فهم مضمون كتاب الله انطلاقا من الدراسات اللغوية والأدبية التي قام بها شخصيا في فترات متباعدة من حياته. وهو يتعامل مع النص القرآني بصفته وثيقة لغوية قديمة يرجع تاريخها إلى فترة معينة. لذا وجب، في نظره، إرجاعها إلى تلك الحقبة الزمنية ومحاولة فهم أحداثها انطلاقا من تاريخ المنطقة في تلك الفترة، كما أنه يجب النظر في تركيبة الجمل وتصريف الكلمات وفهم معانيها ومعاني شواردها انطلاقا من مقارنة لغة القرآن الكريم مع

 

(1/5170)

 

 

مجموعات الحديث الأولى من جهة ومع نصوص الشعر العربي القديم في وسط الجزيرة العربية وشرقها من جهة أخرى(1) . وهكذا، فإن "كراتشكوفسكي" حصر دراسته اللغوية للنص القرآني بالأساس في الحقبة الزمنية التي عاشها الرسول قرآن كريم ومددها بعض التمديد لتصل إلى غاية القرن الثالث الهجري. فهو إذن يتعامل مع النص القرآني في فترة محدودة زمنيا

__________

(1) انظر المقدمة التي كتبها كل من "غريزنييفيتش" (GRIEZNIEVITCH) و "بيلياييف" (BIELYYAYEV) لترجمة كراتشكوفسكي (الطبعة ... الثانية، دار النشر "ناووكا"، موسكو، 1990، صص. 9 - 11.

 

(1/5171)

 

 

تمتد بين القرنين الأول والثالث للهجرة.

2 - حاول "كراتشكوفسكي" الابتعاد جهد المستطاع في ترجمته عن أسلوب اللغة السلافية القديمة ومفرداتها ومصطلحاتها التي تشكل أساس الترجمات الروسية للإنجيل ومميزاتها، لأن هذه اللغة هي اللغة الرسمية للكنيسة الروسية(1).

وكانت الغاية من كل هذا هو جعل القارئ الروسي يشعر بأن ما يقرأه يشكل نوعا من الكتابات المسيحية المتداولة أو اقتباسا منها، بل هو كتاب أخر له مميزاته الخاصة(2)

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 9.

(2) لقد وقع في هذا الخطإ بعض المترجمين المعاصرين كما وقع فيه "سابلوكوف" من قبل.

 

(1/5172)

 

 

.

3 - إن "كراتشكوفسكي"، وهو العالم المتمكن من اللغة العربية والعارف بأسرارها وكنوزها، أدرك تمام الإدراك، وذلك منذ شروعه في عمله، أن أسلوب القرآن الكريم هو أسلوب خاص فريد من نوعه، ولا نجد له مثيلا في الكتابات العربية الأخرى. لذلك حاول جهد المستطاع الاقتراب من هذا الأسلوب العربي في النص الروسي لترجمته حتى يمكن القارئ من الاقتراب أكثر من كتاب الله شكلا ومضمونا. وقد جاء أسلوبه سهلا في متناول مختلف شرائح القراء. غير أن بعض النقاد لم يفهموا مغزى هذه المقاربة واعتقدوا أن العالم اعتمد النقل الحرفي في

 

(1/5173)

 

 

عمله(1). ويعلم المختصون في فنون الترجمة أن نقل المعنى والأسلوب معا إلى لغة أخرى يشكل المبتغى الأسمى لكل مترجم. غير أن مثل هذا الإنجاز لا يتأتى إلا نادرا ولا ينجح في تحقيقه إلا ذوو الباع الطويل في علوم اللغة وفنونها من جهة وعلوم الترجمة من جهة أخرى.

__________

(1) انظر على سبيل المثال: علاء الدين فرحات، "حول الترجمات الروسية للقرآن" ، مجلة فييستنك (مجلة الجمعية الدولية لأساتذة اللغة الروسية وأدبها)، عدد 13، موسكو، 1996. (بالروسية).

 

(1/5174)

 

 

يمكن القول إن "كراتشكوفسكي" قد وفق إلى حد بعيد في مهمته وإن عمله يعتبر حاليا أجود ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم وإحدى أجود الترجمات العالمية. وبالرغم من هذا كله، فإن عمله لا يخلو بالطبع من الهفوات المتفاوتة الخطورة والمتمثلة أساسا:

1 - في عدد من الأخطاء في ترجمة بعض الكلمات أو الآيات. وأخطر هذه الأخطاء، في نظرنا، هو ترجمة معنى الآية الأولى من السورة 90 حيث جاء نفي القسم في الترجمة: "لا (ولن) أقسم بهذا البلد". غير أننا نعتقد أن هذا الخطأ مطبعي صرف، بدليل أنه يوجد في الشروح والتفاسير المرفقة

 

(1/5175)

 

 

بالترجمة في آخر الكتاب الملحوظة التالية: "هذا قسم بلا"؛ كما جاءت في المكان نفسه من الكتاب إحالة على الآية 74 من السورة 56 وعلى الآية 16 من السورة 84 حيث القسم بلا كذلك (1 - {فلا أقسم بمواقع النجوم}ج؛

2 - {فلا أقسم بالشفق}). وقد جاء معنى هاتين الآيتين صحيحا في الترجمة عند "كراتشكوفسكي".

2 - في الغموض الذي يشوب دلالة عدد من الكلمات أو الجمل (المترجمة للآيات) والتي يمكن أن تؤدي كثيرا من المعاني. وهنا يحس القارئ بأهمية الشروح التي تفتقدها (1)

__________

(1) حقا، يوجد عدد كبير من الشروح في آخر الكتاب، لكنها تمثل في واقع الأمر كل ما جاء في جذاذات العالم من ملاححظات ومقارنات مع أعمال أخرى. والعالم غير مسؤول بتاتا عن الطريقة التي أدرجت بها هذه الجذاذات في آخر عمله. ذلك بأن "كراتشكوفسكي" لم يقم بصياغة نهائية لهذه الأوراق، لأنه توفي عام 1951 قبل قيامه بإخراج نهائي لمسودته. ومعلوم أن هذه المهمة أنجزتها أرملته وبعض طلبته الذين سهروا كذلك علىى طبع الترجمة عام 1963.

 

(1/5176)

 

 

هذه الترجمة.

غير أننا لا نتفق مع الأستاذ علاء الدين فرحات الذي يعتبر أن هذه الترجمة تعتمد النقل الحرفي(1). وما كان للأستاذ فرحات أن يقول هذا الكلام لو كان على علم بالنقط التي ذكرناها أعلاه والتي تميز تعامل "كراتشكوفسكي" مع النص القرآني الأصلي في ترجمته. ثم إن خطأ النقل الحرفي لا يقع فيه إلا المتعلمون المبتدئون في الترجمة. أما "كراتشكوفسكي"، فكان يعتبر في عصره أحد الشيوخ العالميين لهذا الفن. وإن الحديث عن "النقل الحرفي" في

__________

(1) علاء الدين فرحات، "حول الترجمات الروسية..."، مرجع مذكور، صص. 29 - 30.

 

(1/5177)

 

 

مجال ترجمة معاني القرآن الكريم ليستوجب، في نظرنا، الحديث كذلك عن "الفهم الحرفي" لكلا النصين العربي والأجنبي؛ ذلك بأنه إذا كان قارئ النص الأصلي العربي يحتاج إلى التفاسير والشروح لفهم معاني كتاب الله، فإن قارئ النص الأصلي العربي يحتاج إلى التفاسير والشروح لفهم معاني كتاب الله، فإن قارئ النص المترجم لفي حاجة أكثر إلى هذه الشروح والتفاسير. ولتفادي السقوط في أخطاء "النقل الحرفي" و «الفهم الحرفي"، وجب إرفاق النصين العربي والأجنبي على حد سواء بعدد من الشروح في طرر مختلف الصفحات كما فعل العالم السيد

 

(1/5178)

 

 

محمد حميد الله في ترجمته الفرنسية لمعاني القرآن الكريم(1) ، وليس داخل النص كما جاء في عمل الأستاذة "بوروخوفا"(2) الذي

لا يستطيع فيه القارئ غير العارف للغة العربية أن يميز في كثير من الأحيان بين النص القرآني المترجم وبين الشروح التي أدخلتها الترجمة. وهذا سلوك لا تخفى خطورته على أحد.

__________

(1) LE CORAN. TRADUCTION INTEGRAL ET DE MUHAMMAD HAMIDULLAH, LE CLUB FRANCAIS DU LIVRE, PARIS, 1959.

(2) سيأتي الحديث عن ترجمة "بوروخوفا" في السطور التالية من هذه الدراسة.

 

(1/5179)

 

 

وبعد زوال الدولة السوفييتية، عاد الاهتمام من جديد بهذا الموضوع بشكل مثير للانتباه من قبل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السبق عموما وجمهورية روسيا الفدرالية خصوصا. وقد أدى هذا الإقبال الكبير على قراءة كتاب الله والتأمل في معانيه إلى إعادة طبع ترجمتي كل من "سابلوكوف" و "كراتشكوفسكي" عدة مرات كما طبعت ترجمة "بوكوسلافسكي" التي سبق أن أشرنا إليها والتي بقيت مخطوطة حتى هذا العهد. وظهرت في السنوات القليلة الأخيرة (بعد 1991) ترجمتان جديدتان: الأولى للأستاذة "بوروخافو" (V. OPOROKHOVA) (1)

__________

(1) صدرت لها حتى الآن ثلاث طبعات مختلفة هي على التوالي:

... - معاني القرآن الكريم باللغة الروسية، ترجمة وصياغة فاليريابوروخوفا، موسكو، 1991. (تججدر الإشارة إلى أن هذه الطبعة ناقصة، ... وعدد السور المترجمة 75 سورة وهي تمثل 35% تقريبا من مجموع المصحف الكريم. السور الناقصة: من السورة 4 إلى 35).

... - معاني القرآن الكريم باللغة الروسية، ترجمة وصياغة فاليريا بوروخافو، موسكو، 1993.(هذه الطبعة ناقصة كذلك. السور الناقصة: ... من السورة 10 إلى 35).

... - ترجمة معاني القرلآن الكريم وتفسيره إلى اللغة الروسية، الطبعة الثانية المزيدة والمنقحة، موسكو، 1997.(هذه الطبعة كاملة). (تجدر ... الإشارة إلى أن هذه الترجمة في مختلف طبعاتها أنجزت "بمساعدة وتحقيق وإشراف الدكتور محمد سعيد الرشد"، وهو زوج المترجمة ... السيدة إيمان فاليريا بوروخافو).

 

(1/5180)

 

 

، والثانية للأستاذ عصمانوف المعروف في ساحة الدراسات الشرقية بصفته اختصاصيا في اللغة الفارسية. ويعتقد الأستاذ علاء الدين فرحات أن "بوروخافو"، بسبب جهلها اللغة العربية واعتمادها أساسا على ترجمات أجنبية أخرى، قد ارتكبت العديد من الأخطاء(1) .

ونعتقد من جهتنا أن هذه الترجمة تنطلق بالأساس من عمل "كراتشكوفسكي" مع بعض المستجدات وكثير من التحايل والتصنع(2)

__________

(1) علاء الدين فرحات، "حول الترجمات الروسية للقرآن..."، مرجع مذكور، صص. 29 - 30.

(2) لنا دراسة نقدية مقارنة لعدد من الآيات القرآنية المترجمة في عملي كل من "كراتشكوفسكي" و "بوروخافو". ونأمل نشرها في القريب ... إن شاء الله.

 

(1/5181)

 

 

.

أما ترجمة عصمانوف التي لم تتح لنا بعد فرصة الاطلاع عليها، فقد أشاد بها الأستاذ علاء الدين فرحات واعتبر أن صاحبها وفق في نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية(1) .

غير أن عددا من النقاد يخالفون هذا الرأي، ويعتبرون أن هذه الترجمة لا تخلو بدورها من عيوب وهفوات.

وبالرغم من هذا كله، فإننا نعتقد أن هذين العملين يشكلان تجربة جديدة فريدة من نوعها في مجال الترجمات الروسية لكتاب الله. ذلك أنهما أنجزا لأول مرة في روسيا

__________

(1) علاء الدين فرحات، "حول الترجمات الروسية للقرآن..." ، مرجع مذكور، صص. 29 - 30.

 

(1/5182)

 

 

من قبل مسلمين(1) ، وهو الأمر الذي يتغير معه بالطبع التعامل مع النص القرآني نظرا للارتباط الديني الوثيق الذي يجمع المترجم المسلم بالقرآن الكريم. غير أن هذا وحده لا يكفي، لأن المطلوب من المترجم هو أن يكون، أولا وقبل كل شيء، ذا مستوى علمي رفيع وإلمام واسع باللغتين العربية والروسية على الأقل وبفنون الترجمة، وأن يكون كذلك صادقا وأمينا.

__________

(1) يتعلق الأمر بكل من : إيمان فاليريا بوروخوفا، وهي أستاذة متخصصة في العلوم الفلسفية، اعتنقت الإسلام قبل سنوات؛ وعصمانوف، وهو روسي مسلم أبا عن جد.

 

(1/5183)

 

 

وتجدر الإشارة إلى أنه بسبب بعض الإغراءات المادية التي لا داعي لذكرها هنا، ولج ساحة هذا النوع من الترجمة عدد من الناس ممن لا علاقة لهم بهذا الميدان العلمي النبيل. فكَثُرَ "مترجمو" معاني القرآن الكريم و "المتخصصون" في علومه، وتزايدات أعدادهم، بالرغم من أن بعضهم لا يكتب ولا يقرأ اللغة العربية، وبالرغم من أن أسمائهم لم تكن معروفة إطلاقا من قبل في ساحة الترجمة العلمية عموما والترجمة العربية والروسية خصوصا. ويستغرب المرء للسرعة الفائقة التي يقترح هؤلاء "العلماء الجدد" إنجاز أعمالهم فيها حتى يكونوا

 

(1/5184)

 

 

سباقين في "حلبة" هذا النوع الجديد من "المباريات" ! ويعلم الجميع أن أكبر العلماء العالميين من مسلمين ومستشرقين قد قضوا عشرات السنين، إن لم نقل حياتهم كلها، في العمل الدؤوب لإنجاز ترجمات معاني كتاب الله إلى اللغات الأجنبية.

و لابد من التذكير في الختام بأن الترجمة علم قائم بذاته، له قواعده وأحكامه، وهو يستوجب من المترجم الصدق والأمانة والإلمام الواسع بلغتين على الأقل - المترجم منها والمترجم إليها، ويستحب أن تكون له دراية بلغات أخرى وعلومها حتى يتمكن من الاستفادة من ترجمات أخرى بمقارنة عمله بها.

 

(1/5185)

 

 

وعلى المترجم، إذا تعلق الأمر بالقرآن الكريم، أن يكون على اطلاع بعلوم القرآن والحديث وأن يكون على صلة مستمرة بعلماء الدين، على اختلاف مشاربهم، قصد استشارتهم والاستفادة من عملهم... وفضلا عن هذا وذاك، فهو ملزم بأن يكون على علم كامل بالأخطاء الواردة في الترجمات السابقة، وذلك لتجنب الوقوع فيها من جديد.

كان هدفنا في هذه الصفحات القليلة التعريف ببعض مراحل دخول القرآن الكريم إلى روسيا وانتشاره بها، وكذلك إبراز مسيرة عملية ترجمة معانيه في هذا البلد. وتحدثنا عن الحالة الراهنة وأشرنا إلى ما يميزها من

 

(1/5186)

 

 

اضطراب ناتج بالأساس عن محاولة بعض الجهات الإساءة إلى ميدان العلم والترجمة النزيهة. وبالرغم من هذا كله، فإننا واثقون من أن العلماء الحقيقيين من أبناء روسيا وبعض بلدان آسيا الوسطى والقوقاز الذين يعلمون في صمت مكتبات الجامعات والأكاديميات يبذلون قصارى جهدهم لتطوير الترجمات السابقة وتحسين مستواها بعيدا عن الأبواق الدعائية وضجيج أسواق الكتب التجارية.

 

التصويتات النمطية وبدائلها اللهجية

 

الأستاذ محمد الأوراغي

كلية الآداب - الرباط

1 - تقديم

 

(1/5187)

 

 

وإن تركنا الحديث عن إفادات الشعوب الإسلامية من كتابة لغاتها بالحرف القرآني، وتجنبنا سرد وجوه الانتفاع بها في شتى المناحي، فسيبقى للعرض بدون ذلك هدف مزدوج؛ إذ يتوخى، من جهة، الاستدلال النظري على إمكان هذه العملية وورودها، ويسعى، من جهة ثانية، إلى إيجاد الوسيلة التقنية التي تمكن من استعمال نفس المجموعة من الحروف لرسم تصويتات مختلف اللغات.

ولا بأس من البدء باستحضار بعض الثوابت الأولية التي توجه تناولنا لمسائل هذا الموضوع حتى يأتي واضحا بالقدر المطلوب. نبدأ ذكرها متدرجة تبعا لأهميتها على المنوال

 

(1/5188)

 

 

التالي:

1 - إن جهاز التصويت البشري واحد، وهو مهيأ خلقة لتوليد أي من التصويتات المستعملة في أي لغة من اللغات البشرية. وما نراه من الاختلاف الصوتي بين اللغات فمرده إلى مبدأ الخفة أو الاقتصاد في الجهد الذي يحمل كل قوم أو أهل بلدة ما على تحريك ما يسهل عليهم من أعضاء جهاز التصويت لديهم. وبسبب من التمايز الخلقي بالنسبة إلى كل عضو في جهاز التلفظ، فإن ما يسهل على قوم قد يعسر على غيرهم. وبذلك يشكل مبدأ الخفة والاقتصاد السبب المباشر في اختلاف اللغات البشرية وتغايرها(1)

__________

(1) مبدأ الخفة وما يترتب عنه صاغة الفارابي بقوله: "والظاهر أن اللسان إنما يتحرك أولا إلى الجزء الذي حركته إليه أسهل. فالذين هم في مسكن واحد وعلىى خلق في أعضائهم متقاربة، تكون ألسنتهم مفطورة علىى أن تكون أنواع حركاتها إلى أجزاء أجزاء من داخل الفم أنواعا واحدة بأعيانها، وتكون تلك أسهل عليها من حركاتها إلى أجزاء أجزاء آخر. ويكون أهل مسكن وبلد آخر، إذا كانت أعضاؤهم علىى خلق وأمزجة مخالفة لخلق أعضاء أولئك، مفطورين علىى أن تكون حركة ألسنتهم إلى أجزاء أجزاء من داخل الفم أسهل عليهم من حركتها إلى الأجزاء التي كانت ألسنة أهل المسكن الآخر تتحرك إليها.فتتتخالف حينئذ التصويتات التي يجعلونها علامات يدل بها بعضهم بعضا علىى ما في ضمير... ويكون ذلك هو السبب الأول في اختلاف ألسنة الأمم" (كتاب الحروف، ص. 136).

 

(1/5189)

 

 

.

2 -ما ذكر من التغاير اللغوي الناجم عن الاختلاف الخلقي لأعضاء جهاز التصويت يمكن تجاوزه بعملية الترويض، وذلك بتكرير نفس الفعل؛ كإعمال للسان واللهوات في جهات بعينها من الفم حتى تنشأ ملكة صوتية جديدة وتستقر في موضعها(1)

__________

(1) الملكة حيث استعملت في الفكر العربي قصد بها استحداث صفة مكتسبة وترسيخها في العضو المهيإ للتحلي بها. وهو ما يعبر عنه ابن خلدون بقوله: "الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال... ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة؛ كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها بعد ذلك. ثم لا يزال سماعه لذلك يتجدد... واستعماله يتكرر إلىى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة... هكذا تصير الألسن من جيل إلى جيل" (ابن خلدون، المقدمة، ص. 289).

 

(1/5190)

 

 

عملية الترويض هذه تضمنها مرونة الجهاز التصويتي وقابلية أعضائه للتشكل في كل حين لإنتاج أنساق صوتية مختلفة، كما يشهد على إمكانها ما يلاحظ بوضوح من استعداد كل إنسان على اكتساب أكثر من لغة واحدة.

3 - ليس للحِرافة (بمعنى رسم التصويتات اللغوية بصور خطية معينة) أي تأثير في اختلاف اللغات أو ائتلافها, يشهد على ذلك كون اللغات الأوربية المتعددة تكتب بالحرف اللاتيني على الرغم من اختلاف فصائلها، وتغاير أنماطها صوتيا وصرفيا ومعجميا وتركيبيا. وكذلك حال الكثير من لغات الشعوب الإسلامية التي تكتب بالحرف

 

(1/5191)

 

 

القرآني. كما أن انتقال اللغة الواحدة من حرافة إلى أخرى، وهو حصل مع اللغة التركية، لا يترتب عنه تغيير يمس نسقها(1) .

4 - تصويتات أي لغة لها تحقيقات نمطية يميزها سيبويه بمصطلح الحروف الأصول، ولها أيضا بدائل لهجية يطلق عليها اسم الحروف الفروع، ويشعبها إلى حروف مستحسنة، وأخرى مستقبحة. الأولى

__________

(1) ما ذكرناه في حياد الحرافة سبق إليه المفكرون القدماء بقول أحدهم: "معلوم أنه لا مدخل لصورة الكتاب في اختلاف اللغات؟. وإنما تعتبر اللغة بالألفاظ دون صور الكتاب" (ابن عطية وغيره، مقدمتان في علوم القرآن، ص. 218).

 

(1/5192)

 

 

تتسم بالورود وبحسنها في قراءة القرآن الكريم والشعر، بخلاف الثانية(1) .

5 - تمثل الكتابة طورا مستقلا ينضاف في مرحلة لاحقة إلى اللغة الشفوية. هذه الأخيرة تعتبر قاعدة لاستحداث الكتابة التي تضمن للأجيال التواصل، وتحفظ تجربة السلف من الضياع. والكتابة، كغيرها من المهارات المستحدثة بالاكتساب، لا تكون في أول نشأتها تامة مكتملة،

__________

(1) للمزيد من التفصيل، انظر: سيبويه، الكتاب، جج2، ص. 404؛ وابن سينا، أسباب حدوث الحروف، ص. 86. ومن المحدثين، انظر: ص. 47 وما بعدها من كتاب: TROUBETZKOY,

PRINCIPES DE PHONOLOGIE

 

(1/5193)

 

 

وإنما يحصل لها ذلك بالصقل والتهذيب على مر الزمان(1)

__________

(1) ما ذكرناه أعلاه يشير إليه الفارابي بقوله: "ولا يزالون الحفظ إلى أن يكثر عليهم ما يلتمسون حفظه ويعسر. فيحوجهم إلى الفكر فيما يسهلونه علىى أنفسهم فتستنبط الكتابة. وتكون في أول أمرها مختلطة إلى أن تصلح قليلا ققليلا على طول الزمان، ويحاكي بها الألفاظ، وتشبه بها وتقرب منها اكثر ما يمكن...، فيدونون بها في الكتب ما عسر حفظه عليهم، وما لا يؤمن بأن ينسى علىى طول الزمان، وما يلتمسون إبقاءه لمن بعدهم، وما يلتمسون تعليمه وتفهيمه لمن هو ناء عنهم في بلد أو مسكن آخر" (كتاب الحروف، ص. 144).

 

(1/5194)

 

 

.

ما سردناه من الضوابط إذا تقيد العرض بها صار من السهل الإجابة بالوضوح المطلوب عن مختلف الأسئلة التي تهم هذه الندوة؛ من قبيل : ما إفادات شعوب الأمة الإسلامية من كتابة لغاتها بالحرف القرآني؟ وما وجوه الانتفاع بهذه الكتابة في شتى المناحي العقدية والعملية؟ وما أنجع السبل لاستثمار التجارب السابقة من أجل وضع مقترحات مواتية للمرحلة الراهنة؟ هذا الضرب من الأسئلة وغيرها نترك الإجابة عنها لبحوث أخرى، لتوجيه الاهتمام إلى الوسائل التقنية الكفيلة بإرجاع تصويتات مختلف اللغات إلى الحرف الواحد.

 

(1/5195)

 

 

2 - النمطية اللسانية والقرابة اللغوية

يعتقد المشتغلون باللسانيات التاريخية أن العربية ولغات السودان الإفريقي تنتمي إلى نفس الفصيلة اللغوية، لأنها تنحدر جميعها من أصل واحد(1) . وسواء صحت هذه القرابة أم لم تصح، فإن النمطية اللسانية بوسعها أن تثبت التشاكل البنيوي بين طائفة من اللغات، يجمعها الاستناد إلى نفس الوسائط اللغوية. ولتجنب الإطالة، لن نهتم في هذا الموضع بمسألة الوسائط التي تجمع العربية

__________

(1) انظر، ص. 33 ممن كتاب LA LINGUISTIQUE GENETIQUE. HISTOIRE ET THEORIE لجماعة من المؤلفين نشره . A. JOLI

 

(1/5196)

 

 

ولغات السودان الإفريقي أو غيرها، ولا بتتبع مظاهر تشاكلها البنيوي في مختلف المستويات، إذ لا يعنينا منها حاليا سوى المستوى النصغي(1).

ثبت أن جهاز التصويت البشري قادر على إنتاج عدد كبير من التصويتات المتمايزة. إلا أن المستعمل منها في لغات العالم لا يصل إلى الخمسين، وهو ما يفسر تقاسم كل اللغات البشرية التي تعد بالمئات لعيِّنة من تلك التصويتات. وليس رسم هذه بالحرف الواحد مشكل، ولا يطرح

__________

(1) النصغ: قالب لغوي يعنى بالقواعد الصوتية المشكلة للبنية القولية. ويتفرع إلى نطق (PHONETIQUE) ونصت (PHONOLOGIE).

 

(1/5197)

 

 

ذلك أدنى صعوبة، كما سيتضح بعد قليل.

1. 2 - من مبادئ التنميط الصوتي:

لا شك في أن اللغات البشرية تخضع جميعها لمبادئ صوتية عامة، ولا يستبعد أن يكون لهذه المبادئ دور في تقليل الاحتمالات، بحيث ترتفع نسبة التقاء اللغات ؛ كأن يشترك بعضها في احتمال بعينه. وهو ما يقوي الحظوظ لإنشاء أنساق صوتية تعم أكثر من لغة. من تلك المبادئ نسوق ما يلي:

1 - المبدأ التصنيفي: من بين ما تتناقله كتب النص أن جميع اللغات تميز، داخل الأساس الصوتي المستعمل فيها، بين الصوامت التي تصورها بالحروف، والصوائت المصورة فيها أتحركون (=

 

(1/5198)

 

 

تركيب مزجي من الحركة والسكون). وكلها يميز أيضا داخل

الصوامت بين التصويتات (وهي المتغايرة الفارقة دلاليا) والبدائل (وهي المتغايرة صوتيا غير

الفارقة دلاليا). وقد سبق أن ذكرنا أن البدائل تتفرع بدورها إلى وارد مستحسن ونابي مستقبح(1) . وداخل مجموعة الحركون

__________

(1) التصنيف المذكور للصوامت تداوله من القدماء سيبويه، الكتاب، ج2، ص. 404. نفس التصنيف نقله ابن جني، سر صناعة الإعراب، ... ج1، ص. 45؛ والرضى، شرح الشافية، ج1، ص. 250.ويكاد اتْروبيتسكويْ من المحدثين يكرره في ص. 47 من كتابه المذكور في ... الطرة (4).

 

(1/5199)

 

 

يقع التفريق بين "الصوائت الأولية" (كالفتحة والكسرة والضمة والسكون) و "الحركات الثانوية" (كالمد وهو ضعف الحركة؛ وهمزة الوصل، وهي نصفها).

2 - مبدأ التساند النصغي: يقوم على علاقة الانتماء التي تسمح بتنظيم مجموعات صوتية صغرى داخل أي من الأصناف المسرودة أعلاه. وقد تحدث عنه نصغيون كثير بعبارات متقاربة. من المحدثين استعمله ياكُبْسون(1) من أجل تفسير

__________

(1) انظركتابه: LES LOIS PHONIQUES DU LANGAGE ENFANTIN ET LEUR PLACE DANS LA PHONOLOGIE GENERALS ، ص. 367 ... ضمن :.TROUBETZKOY, PRINCIPES DE PHONOLOGIE

 

(1/5200)

 

 

ظاهرة التدرج عند اكتساب الصغار لتصويتات لغاتهم. وهو ما يتبين من قوله: "اكتساب الحروف المستعلية والشجرية، يترتب، في النسق النصتي لدى الصغار، عن اكتساب الحروف الشفوية والأسنانية. وإن وجود أحرف الاستعلاء الشجرية في لغات العالم يقتضي الوجود الفوري للشفويات والأسنانيات. وهذا التساند لا ينعكس، لأن وجود الشفويات والأسنانيات لا يقتضي وجود أحرف الاستعلاء الشجرية". كما وظف ابن جني المبدأ المذكور في أكثر من موضع. فاستدل به على أولية أحرف اللين وتبعية الحركات؛ إذ وجد هذه الأخيرة أبعاضا للأولى(1)

__________

(1) انظر" ابن جني، سر صناعة الإعراب، ج1، ص. 17، 18، تجده يقول: "فالفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو... ويذلك على أن الحركات أبعاض لهذه الحروف أنك متى أشبعت واحدة منهن حدث الحرف بعدها الذي هي بعضه... فلولا أن الحركات أبعاض لهذه الحروف وأوائل لها، لما نشأت عنها ولا كانت تابعة لها". وقد تحدث ابن سينا أيضا عن هذه العلاقة في كتابه أسباب حدوث الحروف، ص. 84.

 

(1/5201)

 

 

. وبه أثبت أيضا أن التصويتات المستعملة في أي لغة يجب أن تتمحور حول "نواة صوتية"؛ كالنفث الجامع بين (/ث/، /ذ/، /ظ/)(1) . بحيث ينتظم بعضها في ثلاثيات؛ كأحرف النفث (/ث/، /ذ/، /ظ/)، وأحرف الصفير (/ز/، /س/، /ص/).

وبعضها الآخر ينتظم في ثنائيات؛ كالشجرية (/ش/، /ج/)، والغنية (/ن/، /م/). والدِّواض (/د/، /ض/)، والتطريف (/ت/، /ط/). ويتنازل الانتظام إلى الأحادي في نحو /ق/.

__________

(1) للمزيد من التفصيل، انظر: ابن جني، سر صناعة الإعراب، ج1، ص. 171 و 184.

 

(1/5202)

 

 

ومن جهة أخرى، قد يتصاعد الانتظام فيدرك في بعض اللغات عتبة الرباعيات أو يزيد، وذلك تبعا للأحياز الصوتية التي يقع عليها التركيز لدى مختلف الأقوام في مقابل إهمالها الجزئي لأحياز أخرى. مثلا الإهمال الجزئي للأحياز الصوتية المولِّدة للحلقيات قد يقود إلى التركيز ‘على الأحياز المولدة للشفويات، وبالتالي إلى رفع عتبة الانتظام، في هذا الضرب من التصويتات، إلى ما فوق الثلاثيات. خذ مثالا على ذلك اللغة الفرنسية بالنظر إلى عدد الصوائت المتفرعة عن الضمة. كما هو مبين في الطرة(1)

__________

(1) الضمة في اللفظة (ROUE)المصورة نطقيا كالتالي [U ] تتفرع عنها حركات. منها [0] في مثل (MOT)، و [OE] في نحو (PEUR)، و [Y] في اللفظة (RUE)، و [E] المتحققة في المقطع الأول من اللفظة .(PREMIERE)

 

(1/5203)

 

 

أسفله.

يلزم عن المثبت في هذه الفقرة أن اللغات التي يستثمر الناطقون بها جميع الأحياز المكونة لجهاز تصويتهم يكثر في أساسها الصوتي الأصوات المتباعدة مخرجا، فتنخفض فيها عتبة الانتظام إلى الأحادي، والثنائي، ولا يتجاوز الثلاثي. كما هو الحال في اللغة العربية. ويفترض في كل لغة استثمر أهلها أحيازا وأهملوا أخرى أن تكثر فيها الأصوات المتقاربة مخرجا. فيقل الأحادي فيها ويكثر ما فوق الثلاثي.

أهم ما في المبدأ الأخير يمكن التعبير عنه واحدة بسلمية التساند (1)التالية:

 

(1)

ظ، ص

ذ ، س ط ، ض ، م ، ش

 

(1/5204)

 

 

ث ، ز ت ، د ، ن ، ج ، ق

المحور الأفقي في السلمية (1) يشخص التصويتات الأوائل، منها (/ث/، /ز/، /ت/، /د/، /ن/، /ج/، /ق/) في مثالنا، بينما المحور العمودي يشير إلى الثواني (/ذ/،

/س/، /ط/، /ض/، /م/، /ش/) والثوالث (ظ، ص). ولا تخلو لغة من هذا التصنيف المتدرج لأساسها الصوتي. ويستفاد من قولنا "سلمية التساند" أن الأعلى في السلمية، مثل (ص، ظ، ض، م)، ويتعلق وجوده في اللغة بوجود الذي يسفله مباشرة، ولا ينعكس. إذن كل اللغات التي تستعمل ثواني بعينها، كالذال في العربية مثلا، يلزمها أن تستعمل أيضا أوائل من جنسها

 

(1/5205)

 

 

كالثاء. لكنه ليس ضروريا آن تستعمل تلك اللغات ما في بعضها من الثوالث، كظاء العربية. وعليه، يجب أن تكون /ث/ مستعملة في كل لغة تستعمل /ذ/. إلا أن /ظ/ باعتباره من الثوالث قد لا يُستَعمَل إلا في بعضها. كما تكشف المقارنة بين اللغتين العربية والإنجليزية.

والانتظام الموصوف هنا بسلمية التساند (1) يصاغ في أعمال لسانية معاصرة(1)

__________

(1) قدم سيمون ديك للكليات اللزومية أمثلة من المستوى الصوتي. إذ وجد بين تصويتَتَيْ الخيشوم (/ن/، /م/) تساندا يفرض على كل لغة تستعمل /م/ أن تستعمل أيضا/ن/، ولا ينعكس.

 

للمزيد من التفصيل، انظر: .S.DIK, THE THEORY OF FG

 

(1/5206)

 

 

بواسطة "الكليات اللزومية" المعبر عنها بالصيغة (2) التالية:

... ... ... ... (2) (أ). ز< س < ص

(ب). ث < ذ < ظ

(ج). د ض

(د). ن < م

(هـ). ت < ض

تعبِّر الصيغ (2) عن كون التصويتية اللاحقة الواقعة بعد العلامة < يتعلق وجودها في أي لغة بالتصويتية السابقة عليها. وكذلك الحركات في كل اللغات، إذ تعتبر الضمة والفتحة والكسرة أوائل لا تخلو لغة منها. ولكل حركة ثوان تستعمل في بعض اللغات، وقد تكون لها ثوالث تستعمل في بعض البعض؛ بحيث كلما تصاعدت طبقات السلمية، تناقصت اللغات التي تشترك في استعمال نفس التصويتات.

 

(1/5207)

 

 

لكن ما علاقة المبدأين المذكورين بموضوع كتابة لغات الشعوب الإسلامية بالحرف القرآني. مثل هذه المسألة نخصها فيما يلي بمبحث مستقل.

2 . 2 - تصوير المثلين والمتقاربين بنفس الحرف:

قبل الشروع في حرافة مجموعة لغوية، يتعين البدء بالتصنيف السلمي للأساس الصوتي(1) في كل لغة

__________

(1) لكل لغة أساس صوتي يتألف من: 1 - صوامت متفرعة إلى تصويتات وبدائل تتشعب بدورها إلى بدائل مستحسنة وأخرى مستقبحة؛ ... و 2 - صوامت بصنفيها الأصول والفروع. من الأول الفتحة والضمة والكسرة، ومن الصنف الثاني المدود والأبعاض؛ كهمزة ... الوصل.

 

(1/5208)

 

 

من تلك المجموعة . والغاية منه تكوين فئات صوتية، كل فئة تتمحور حول نواة صوتية، وتنتظم بعلاقة الانتماء في سلمية تساند، بحيث يكون الصويت السابق، في السلمية، متضمنا في اللاحق منها. وأن الأخير في السلمية يتركب، فضلا عن صويته الذي يميزه عن فئته، من صويتات الذي سبق. وهكذا نجد "الصفير "، وهو الصويت الأساس في الحرف /ز/، ساريا في الحرف /س/ وقد خلى من جهر السابق، وبزيادة صوت التفخيم على اللاحق نحصل الحرف /ص/. كما أن صويت "النفس" الأساس في حرف /ث/ موجود أيضا ضمن صويتات الحرف /ذ/ المتميز عن سابقه بصويت

 

(1/5209)

 

 

الجهر، والصويتان معا (نفس + جهر)، موجودان في الحرف اللاحق /ظ/ المتفرد بالتفخيم. وكذلك يتدرج تركيب التصويتية الثانية والثالثة والرابعة في سلمية التساند. وهو حال سائر الثنائيات. وعلى الصويت الذي يتكرر في فئة صوتية نطلق لفظ "النواة الصوتية". وهي المتولدة عن علة عامة، أو بنفس السبب، حسب نظرية ابن سينا في أسباب حدوث الحروف(1)

__________

(1) استند ابن سينا، في تصنيفه للتصويتات المستعملة في العربية وغيرها من اللغغات التي يعرفها، إلى علل عامة من أجل تكوين طبقات أخرى. وإلى أسباب خاصة لتكوين مجموعاتت صغرى داخل كل طبقة. يظهر ذلك من حين لآخر في مثل قوله: "وبعد اشتراك كل واحدة من الطبقتين في العلة العامية، فقد تختلف بسبب اختلاف الأجرام التي يقع عندها وبها الحبس والإطلاق". وكذلك قوله: "وها هنا حروف غير هذه الحروف تحدث بين حرفين فيما يجانس كل واحد منهما بشركة في سببه" (أسباب حدوث الحروف، ص. 62،86).

 

(1/5210)

 

 

.

يترتب عما تقدم أن كل تصويتة لاحقة في السلمية هي عبارة عن تراكم للصويتات المميزة للسوابق فضلا عن صويتها الفارق لها عن فئتها. وأن أوائل السلمية يجب أن تكون الأبسط؛ أي الصوت اللغوي الأقل تركيبا في فئته.

هب إن لغات السودان الإفريقي متميزة صوتيا بالنزوع إلى التركيز على الشفويات، مع الإهمال النسبي للحلقيات (إذ تضطر كغيرها من لغات العالم إلى استعمال الفتحة /أ/، لكنها لا تكون مجبرة على الأخذ بما سوى الفتحة من نحو الهاء والعين والحاء والخاء)، والإهمال الكلي لحروف الإطباق (/ص/، /ط/، /ظ/)؛ فإن مثل هذه

 

(1/5211)

 

 

الوضعية ستخلق للحرافة مشاكل متعددة، إلا أن حلها ليس بالمستعصي.

2. 2. 1 - المشترك الحرفي:

يقوم الحرف القرآني على استغلال جهاز التصويت بجميع الأحياز التي تكونه؛ بدءا من أقصى الحلق مخرج الهاء وانتهاءً بأقصى الشفتين مخرج الواو. لأن من شروط الفصاحة على مستوى القَوِلَة تباعدُ مخارج الحروف التي تنبني منها اللفظة المفردة. ومثل هذا الاتساع في استغلال جهاز التصويت سيقود إلى قلة "التصويتات المتحايزة" بحيث لا يكفي ما فيه من الشفويات (/ب/، /م/، /و/) على تصوير جميع الحروف الشفوية المستعملة في بعض لغات

 

(1/5212)

 

 

السودان الإفريقي. وفي مثل هذه الحالة لا مندوحة من الاستثمار مبد الاشتراك؛ باستعمال نفس الحرف لتصوير أكثر من تصويتة.

والاشتراك الحرفي لا تخلو لغة منه. وهو ملحوظ في العربية الفصيحة التي تصور بحرف الباء مثل تصويتي (/B/، /P/)، في نحو كلمة "بونابرت". كما تصور بحرف الفاء تصويتتي (/F/، /V/)في جملة من قبيل "في البيت تلفزيون".

وإذا قارنا بين اللغة العربية الفصحى واللهجات العربية المتفرعة عنها، ستبدو ظاهرة الاشتراك الحرفي واضحة بشكل جلي. يكفي التذكير بأن الحرف "ج" يُتَلَفَّظُ به مرة /J/ ومرة أخرى /G/،

 

(1/5213)

 

 

ويحصل ذلك في نفس العشيرة اللغوية، كما في القاهرة. وفي نحو "كتابك" يُتَلَفَّظ في الكويت وجنوب العراق بالكاف الأولى كافاً وبالثانية تاء مشربة بالشين.

بل تمتد ظاهرة الاشتراك الحرفي إلى العربية الفصحى. إذ يُصَوَّرُ، بنفس الحرف، الراء المرققة في مثل "درست الحنطة في سنبلها"، و "درست القرآن"(1) . فالفارق بين دلالة الفعلين ترقيق الراء أو تفخيمها. ويتكرر هذا في كلمة "المسرح" الدالة بترقيق الراء على مكان الرعي، وبتفخيمها على مكان التمثيل. وصوتا التفخيم

__________

(1) انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة "درس".

 

(1/5214)

 

 

والترقيق، مع ورودهما من حيث التفريق الدلالي والحرافي (كما في نحو "سيف" و "صيف" و "ذليل" و "ظليل" و "تدريس" بمعنى التحزيز، و "تَرَف" و "طرف" يصوران بنفس الحرف في اللغة العربية الفصحى.

نخلص مما تقدم إلى أن التصويتات المتحايزة؛ وهي المنتمية إلى نفس الحيز من جهاز التلفظ، إذا اختلف عددها من لغة إلى أخرى، رخَّص مبدأ الاشتراك استعمال الحرف الواحد لتصوير أكثر من صوت لغوي. إلا أن هذا المبدأ قد لا يفيد في الحالة الموالية.

2. 2. 2. - التقارض الصوتي:

 

(1/5215)

 

 

إذا ثبت مراسيا أن بعض لغات السودان الإفريقي لا يتوفر أساسها الصوتي على أحرف الإطباق المستعملة في العربية، ولا على أغلب ما في هذه اللغة من الحروف الحلقية، ففي هذه الحالة ستنتفي الحاجة إلى إدماج مثل هذه الحروف في تلك اللغات. لكن التقارض اللغوي الناجم عن دخول أمم غير عربية في الدين الإسلامي سيكثر من الألفاظ الإسلامية في لغات تلك الأمم. منها اسم الجلالة "الله"، وألفاظ التعبد من قبيل "صلاة العصر، وصوم رمضان، والوضوء والطهارة"، ونحوها من الألفاظ الشرعية المتوفرة على حرف مطبق.

 

(1/5216)

 

 

للنطق بمثل تلك الألفاظ الإسلامية، يتعين ترويض جهاز التصويت لاكتساب القدرة على إنتاج التفخيم. فيستعمل موضعيا، كما في الحالات التي ينطق فيها لفظ "الله" مفخما إذا لم تسبقه كسرة. أو يطرد استعماله، وهو حال أحرف الإطباق. ويكون إدخال هذه الأحرف، نطقا وكتابة في لغات الشعوب الإسلامية الناطقة أصلا بغير العربية، تابعا لدخول الألفاظ الشرعية إلى لغات تلك الشعوب التي لم ترض بغير الإسلام دينا.

مبدأ التقارض الصوتي المذكور ينسحب أيضا على الحروف الحلقية. إذ سيكثر سماع تصويتات (/ع/، /هـ/، /ح/، /خ/، /أ/) بانتشار

 

(1/5217)

 

 

مصطلحات الفقه الإسلامي كالخلع، والمسح على الخُفِّ، والغسل، والطُّهْر، وعقد النكاح، والشفعة، والعقيقة، واللِّعان، والحِجْر، والحجج، والرهن، والهبة، والشهادة، والجهاد، والظِّهار.

مثل ما سُرد من الألفاظ الشرعية، ويتوقع أن يكون منها الكثير في لغات الشعوب الإسلامية، سينمي قطعا الأعضاء المكونة للحلق، ويبعثها على الاشتغال من أجل توليد حروف حلقية. وهو ما يدعو أيضا إلى إدراج كل الحرف القرآني في الأساس الصوتي لأي لغة من لغات الشعوب التي دين بالإسلام.

 

(1/5218)

 

 

اللغة العربية خصائصها وتطورهاعلى ضوء آيات رب العالمين

 

الدكتور التهامي الراجي الهاشمي

كلية الآداب - الرباط

 

... الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين و آتانا به مالم يؤت أحدا من العالمين أنزله سبحانه هذاية عالمية دائمة ، وجعله للشرائع السماوية خاتمة ، ثم جعل له من نفسه حجة على الدهر قائمة، و الصلاة و السلام على من كان خلقه القرآن، ووصيته القرآن الذي ملأت قلبه من جلالك، و عينه من جمالك، فأصبح مؤيدا منصورا؛ القائل " خيركم من تعلم القرآن وعلمه(1)

__________

(1) - صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن باب "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" سنن الترميذي، أبواب فضائل القرآن، باب ماجاء به النبي - عز وجل - في فضل تعليم القرآن.

 

(1/5219)

 

 

".

 

... اللهم كما أعطيتنا حظا من وراثة هذا الذكر الحكيم، فيسرت علينا حفظه و تذكره ، و حببت إلينا تلاوته و تدبره ، نسألك أن تجعلنا من خيار وارثيه ، الذين هم بهدايته مستمسكون، و الذين هم على حراسته قائمون و الذين هم تحت رايته يوم القيامة يبعثون في جند إمامنا الأعظم، و رسولنا الأكرم وعلى آله و صحابته الذين أعلوا رايته، اللهم فأنبتنا نباتا حسنا و جنبنا وساوس الغرور و هواجس الضلال (1)

__________

(1) -النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز، صفحة 9 الطبعة الخامسة 1400ه (1980م) وأثر القرآن الكريم في اللغة العربية، دار المعارف بمصر سنة 1969 صفحة 7.

 

(1/5220)

 

 

.

 

-1بعض تعريفات اللغة :

... أما بعد فإن اللغة العربية التي سأحاول البحث عن خصائصها و التصدي إلى تطورها، قد عرفها الناس قديما و حديثا بتعريفات لا يخلو سردها من فائدة .

... وأول تعريف أحب أن أورده هنا هو التعريف الذي حاول أن يحدد به الشيخ أبو حاتم بن حمدان الرازي اللغة العربية؛ أورده لا بنية أن أدعو الناس إلى جعله حدا يضبط اللغة ، و إنما أورده لنتبين أن تعريف اللغة هو أيضا سجل عبر عقود من الزمن تطورا ملفتا للنظر. لا شك أننا سنلاحظ أن هذا التعريف الذي يقدمه لنا الشيخ الرازي المتوفى سنة 322 هجرية

 

(1/5221)

 

 

تعريف تمليه بالدرجة الأولى العاطفة الجامحة و المحبة الكبيرة التي يكنها هذا العالم الفذ للغة القرآن. يقول في كتابه الموسوم ب "كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية "(1) : إن لغات الأمم أكثر من أن يحصيها أحد أو يحيط من ورائها محيط أو يبلغ كنهها مخلوق ، بل كل أمة تتكلم بلسانها و لا يعرف أكثرهم غير لغتهم. " ثم يضيف قائلا "(2) أفضل السنة الأمم كلها

__________

(1) - « كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية " للشيخ أبي حاتم بن حمدان الرازي صفحة 60 من البعة الثانية بمصر سنة 1957.

(2) - المرجع السابق، صفحة 61.

 

(1/5222)

 

 

أربعة : العربية و العبرانية و السريانية و الفارسية ، لأن الله عز و جل أنزل كتبه على أنبيائه عليهم السلام آدم و نوح و إبراهيم و من بعدهم من أنبياء بني اسرائيل بالسريانية و العبرانية ، و أنزل القرآن على - صلى الله عليه وسلم - بالعربية . وذكر أن المجوس كان لهم نبي و كتاب، و أن كتابه

كان بالفارسية ثم يؤكد بعد ذلك هذا الأمر فيقول : " إن أفضل اللغات الأربع لغة العرب ، و هي أفصح اللغات وأكملها و أتمها و أعذبها و أبينها ".

 

(1/5223)

 

 

... ليس هذا كما نلاحظ تعريفا للغة العربية بالمعنى العلمي الدقيق الذي نتوخاه في التعريفات الآن و لا هو مدعم بالبراهين التي تعززه أو توضحه . و ما كان ينتظر منه ذلك ، فيما أعتقد لأن كتابه ( كتاب الزينة ) الذي يتحدث عن هذا الأمر هو نافع و لا شك للأديب و الفقيه و المحدث و المفسر و العامة و الخاصة و لكنه لا يمكن أن يحدد اللغة ، و الحالة هذه إلا بما حددها به .

... أما التعريف الثاني الذي أود أن نتأمله فهو التعريف الدقيق الذي استعرضه اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جني في خصائصه حين قال : أما حدها

 

(1/5224)

 

 

فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن اغراضهم ، هذا حدها. و أما اختلافها فلما سنذكره في باب القول عليها : أمواضعة هي أم إلهام . وما تصريفها و معرفة حروفها فإنها ( فعلة ) من لغوت : أي تكلمت ".(1)

... هذا كما نرى تعريف يمكن أن يشفي الغليل لأنه صادر عن لغوي ماهر جعل البحث في اللغة صنعته التي لا محيص له عنها.

__________

(1) - « الخصائص » أبو الفتح عثمان ين جني، ج 1، ص. 32، بعة القاهرة 1371ه (1952) ولد سنة 321ه مات سنة 392ه.

 

(1/5225)

 

 

... هذا و إن مسألة " التعريفات التي بها اللغة العربية هي كمسائل العلوم كلها تبدأ بسيطة تم تكبر . و الله در الإمام مجد الدين بن السعادات المبارك ابن محمد الجزري ( المشهور بابن الأثير الذي يقول عن هذا المعنى في مقدمة نهايته(1) .

 

... "...إن كل مبتدئ لشيئ لم يسبق إليه و مبتدع لأمر لم يتقدم فيه عليه، فإنه يكون قليلا ثم يكثر و صغيرا ثم يكبر " .

__________

(1) - "النهاية في غريب الحديث والأثر" الجزء الأول صفحة 4 من المقدمة.

 

(1/5226)

 

 

... ثم صارت التعريفات للغة تترا؛ كل يقدم تحديده حسب شريعته و منهاجه؛ فقال إمام الحرمين (1) في

" البرهان " : اللغة من لغي يلغي من باب رضي يرضى، إذا لهج بالكلام، و قيل من لغى يلغي ".

... و قال ابن الحاجب (2) في مختصره : " حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى ".

__________

(1) - هو عبد الملك عبد الله بن يوسف الجويني الملقب بإمام الحرمين بني له نظام الملك المدرسة النظامية بنيسابور، توفي سنة 478ه.

(2) - هو أبو عمر جمال الدين عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب ولد سنة 570ه مات في الإسكندرية سنة 646ه.

 

(1/5227)

 

 

... و قال الاسنوي (1) في شرح منهاج الأصول : " اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعنى."(2)

... نرى من هذه المعاني أن اللغة تتألف من الألفاظ و المعاني و الأغراض و إن لم تذكر هذه الثلاثة صراحة فلن يسع ابن جني - و قد أهمل المعاني التي هي مدلولات الألفاظ - إن لا يراعيها مقدرة في نفسه ، و إن لم يبرزها في لفظه.

__________

(1) - عبد الرحمن بنالحسن ين علي الأسنوي ولد سنة 721ه، انتهت إليه رئاسة الشافعية.

(2) - "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" لجلال الدين السيوطي صفحة 8، ج1، طبعة القاهرة بدون تاريخ.

 

(1/5228)

 

 

... كما أنه لن يسع ابن الحاجب أن يلاحظ الأغراض التي يرمي إليها المتكلم من وراء الألفاظ الدالة. و لا بد لهذه الألفاظ التي على المعاني مقصودا بها أغراضا خاصة من طريق خاص فيه تجتمع تلك الألفاظ آخدا بعضها برقاب بعض وهو ما يسمى الأسلوب "(1)

... و لا بد أن نلاحظ من تأملنا في تعريف كل من ابن جني و ابن الحاجب أن لا أحد منهما حدد اللغة العربية لغة القرآن الكريم فيمكن أن نستأنس - في بداية بحثنا على الأقل على ما يقول الهويرني يقول : "هي

__________

(1) - "أثر القرآن الكريم في اللغة العربية" أحمد حسن الباقوري، صفحة 24.

 

(1/5229)

 

 

عبارة عما حفظ من كلام العرب الخلص و نقل عنهم من الألفاظ الدالة على المعنى ."(1)

__________

(1) - الهورني أبو الوفاء ابن الشيخ نصر يونس الوقائي من أهل مصر، توفي سنة 1291ه (1874م) له من المصنفات المطبوعة "شرح دياحة القاموس" وهو مطبوع مع" فوائد شريفة في معرفة اصطلاحات القاموس" وله "مختصر روض الرياحين لليافعي" ومن مؤلفاته التي لم تطبع بعد تذكر " تفسير سورة الملك" و"تسلية المصاب عند فراق الأحباب" و" التواصل لحل مشاكل التوسل"، وله رسالة في أسماء رواة الحديث سماها : "المؤتلف والمختلف". وغير ذلك من الكتب.

 

(1/5230)

 

 

... هذا كما نرى تعريفا للغة لابد أن نقبله و لكنه أخرج منه الأسلوب و الأغراض. و اعتقد أن أحسن من استصاغ هذه التعريفات : التعريفات الأولى للغة ابتداء من تعريف ابن جني وابن الحاجب و ابن سيده (1) و ابن فارس (2)

__________

(1) - علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة، أبو الحسن، ولد بمريسة عام 398ه (1007م) كان رحمه الله ضريرا مثل أبيه. له "المخصص" وله "المحكم" مبوع كذلك، توفي سنة 458ه (1066م).

(2) - انظر أخبارا عنه في الموضوع في " تنقيح المقال" لعبد الله المامقاني الجزء الأول صفحة 76. كان ابن فارس رحمها لله شافعي المذهل ثم صار مالكيا في سنواته الأخيرة. نجد هذا في "معجم البلدان" الجزء الرابع الصفحتين 83،84. هذا التحول سيؤثر في تعريفه للغة.

 

(1/5231)

 

 

مرورا بتعريف التاج السبكي إلى الغزالي و الرازي و السراج الأرموي هو العالم اللغوي الكبير ابن الطيب الشرقي الصميلي (1) الذي يقول في مصنفه الكبير الذي و ضعه شرحا لقاموس الفيروز آبادي بعد أن يستعرض تعريفات من ذكرنا أعلاه (2)

__________

(1) - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الطيب الشركي الفاسي الصميلي ولد سنة 1110ه (1099م) بفاس وتوفي بالمدينة المنورة سنة 1175ه (1761م).

(2) - "إضاءة الراموس وإضافة الناموس على إضافة القاموس" تحقيق الدكتور التهامي الراجي الهاشمي عبد السلام صفحة 26 من الجزء الأول ططبعة وزارة الأوقاف المغربية عام 1403ه(1983م).

 

(1/5232)

 

 

: " و مآل تلك العبارات شيئ واحد في المعنى كما أشرنا إليه في شرح

الكفاية "(1) و هي عبارات ظاهرة . ثم رأيت بعض الأفاضل قال : " اللغة علم يبحث فيه عن مفردات الألفاظ الموضوعة من حيث دلالتها على معانيها بالمطابقة " فخرج بالمفرد " المركب " و بالموضوع " المهمل " و بالدلالة " المطابقية للمجاز" لأن دلالته إما بالتضمن أو بالالتزام و المراد بالمفرد مالا يدل جزؤه على جزء معناه ".

__________

(1) - لبن الطيب الشركي شرح على " الكفاية" لازال مخطوطا.

 

(1/5233)

 

 

... أما المحدثون فعرفوا اللغة على العموم ثم اللغة العربية على الخصوص تعريفا دقيقا استمدوا جميعهم أسسه من تعريفات القدماء التي أوردنا بعضها. إلا أن تعريفاتهم تختلف جميعهم بحسب تكوينهم الشخصي أو بحسب الوظيفة التي يرونها للغة. و إذا أوردت هذه التعريفات و أحلت القارئ لهذا البحث عن مكان وجودها فإن هذا لا يدل على أن هؤلاء الباحثين أتوا بما لا يستطيع أن ياتي به أحد و على القارئ أن يعود إلى أقوالهم في مظانها ليستفيد منها و إلا ضاعت منه فرصة ذهبية، بل إنني أفضل ذلك للتوثيق فقط و إلا فإنها تعريفات يمكن

 

(1/5234)

 

 

أن يصوغها كل من اهتم بالدرس اللساني.

... قال تمام حسان محاولا صياغة تعريف الباحث الأروبي vendryes صياغة عربية (1) " اللغة من العوامل التي تتميز بها المجتمعات بل من العوامل التي تهب كل مجتمع خصائصه المميزة ففي كل مجتمع، مهما كانت طبيعته وحجمه، تلعب اللغة دورا ذا أهمية أساسية، إذ هي أقوى الروابط بين أعضاء هذا المجتمع، و هي نفس الوقت رمز إلى حياتهم المشتركة وضمان لها.فما الأداة التي يمكن أن تكون أكثر كفاءة من اللغة في

__________

(1) - "اللغة بين المعيارية والوصفية" تمام حسن صفحة 7 من طبعة القاهرة سنة 1958.

 

(1/5235)

 

 

تأكيد خصائص الجماعة، إذ هي في مرونتها و يسرها وامتلائها بالظلال الدقيقة للمعاني تصلح لاستعمالات مختلفة متشعبة، و تقف موقف الرابطو التي توحد أعضاء الجماعة، فتكون العلامة التي بها يعرفون النسب الذي إليه ينتسبون ".

 

... وقال جرجي زيدان(1) : اللغة هي نتيجة عمل عقلي قامت به أجيال متوالية من الناس. و اللغة من شأنها أن تسير في طريق الإصلاح المستمر فهي في حركة دائبة دائمة نحو تجربة مثالية ".

__________

(1) - "اللغة العربية كائن حي" جرجي زيدان صفحة 7 طبعة دار الهلال بالقاهرة بدون تاريخ.

 

(1/5236)

 

 

... ويقول عنها محمود فهمي حجازي (1) : فاللغة - أولا وقبل كل شيئ - نظام من الرموز ومعنى هذا أنها تتكون من عدد كبير من الجزئيات التي تنتظم بعلاقات محددة في سياق أو نظام محدد، و أقل هذه الرموز الوحدة تليها الكلمة ثم تتكون الجملة من الكلمات وقد رتبت في سياق متعارف عليه في البيئة اللغوية ."

 

2-وظائف اللغة(2)

__________

(1) - « المدخل إلى علم اللغة" محمود فهمي حجازي، صفحة 12 طبعة دار الثقافة القاهرة، سنة 1976.

(2) - "الدلالية" الجزء السابع من سلسلة الدراسات اللغوية وعلوم القرآن، للدكتور التهامي الراجي الهاشمي صفحة 91 من طبعة دار النشر المغربية سنة 1990.

 

(1/5237)

 

 

... كل المهتمين بالبحث اللغوي تحدثوا عن وظائف اللغة، و لكن R. Jakobson هو الذي قدم للمهتمين بهذا الموضوع تكلمة لترسيمه معارة من نظرية الاتصال. لقد أصبحت هذه الترسيمية التي أثمها jakobson وهويحاول عزل الوظيفة الجمالية ترسمة كلاسيكية يمكن عرضها على الشكل الآتي :

 

مرجع 1

 

2 قناة 4 3

باث متلق

بلاغ6

 

رمز 5

 

... إن البلاغ الذي يرسله الباث في اتجاه متلق يحيل على مرجع يكون معلوما لكل من الباث و المتلقي و إلا كانت عملية الاتصال لاغية . و يتطلب البلاغ كذلك ربطا بين محركي القضية هو ما يسمى قناة أو وصل

 

(1/5238)

 

 

كما

لا بد من وجود "رمز " أي قواعد متحكمة في البلاغ تكون معروفة لا غموض فيها لا من طرف الباث و لا من طرف المتلقي.

 

... يلعب كل واحد من هذه العوامل دورا يترك أثرا و يلون البلاغ هذا الدور أو هذا الأثر أو حتى التلوين إن شئنا هو ماأسماه R.Jkobson بوظائف اللغة .

 

... هذه الوظائف هي :

2.1- الوظيفة المرجعية ( La fonction référentielle )

... الوظيفة المرجعية هي أس كل اتصال؛ إنها تحدد العلاقات الموجودة بين " البلاغ " و بين الشيئ الذي تعود إليه. المشكل المهم هنا هو أن نصدر بالنسبة لهذا المرجع معلومة صادقة

 

(1/5239)

 

 

و لتكون هذه المعلومة صادقة لا بد أن تتوفر فيها الضوابط الثلاثة الآثية : أن تكون:

... أ - مجردة : أما إذا كانت مغرضة ذاتية لا تقبل نقاشا بين باث و متلق فإن عملية الاتصال باطلة أو على الأقل تقومبوظيفتها كما يجب.

... ب - ملحوظة : أما إذا كان المرجع الذي يدور حوله الحديث لا يمكن أن يشاهد. كأن يكون الحديث حول مسألة غريبة للغاية لا معرفة لا حد بها فإن عملية الاتصال لا يمكن أن تتحقق.

... ج - قابلة للتحقيق : لا بد أن تكون القضية التي يدور حولها الاتصال قابلة للتحقيق أي أن الباث يستطيع أن يقدم البراهين

 

(1/5240)

 

 

التي تؤدي ما يقول و أن المتلقي يستطيع في المقابل أن يقدم الحجج التي يمكن أن تبطل أو تؤيد مايدعيه المخاطب.

... عندما نتوصل بالكلام مثلا أو بأية وسيلة أخرى من وسائل المعنى، فإننا نصدر أفكارا تتعلق بالمرجع، هذه هي الوظيفة بالذات تعود جميع الترميزات ( codes ) الإشارية (signalisation ) و كل البرامج الممارسة ( les programmes opérationnels ) مثل الشغل و الإحتراب العسكري

( tactique militaire ) إلى آخره.

... إن غاية هذه الوظيفة هو تنظيم العمل المشترك. و إننا لنعلم أن موضوع المنطق و كثير من العلوم التي

 

(1/5241)

 

 

هي ترميزات ( cdes ) وظيفتها الأساسية هي أن تحمي المستعملين من الوقوع في الخلط بين الدليل ( signe ) و بين الشيئ المدلول عليه بين البلاغ و بين الواقع المرمز.

 

... لكن العلاقة بين الدال ( signifant ) و المدلول ( signifié ) هي كيف ما كان الحال عرفية بل اعتباطية؛ إنها ناتجة عن اتفاق بين المستعملين أو عن اتفاق انبثق عن حالة وجود الدلائل ( signe ) معللين motivés ) ) أو عن إمارات طبيعية استعملت لأداء وظيفة الدلائل.

 

(1/5242)

 

 

... قد تكون هذه العلاقات ضمنية أو تصريحية وهو حد ( ضبابي ) من الحدود التي تفصل بين الترميزات التقنية و بين الترميزات الشاعرية.

 

... إن مفهوم الادراك الضمني، على الخصوص مفهوم نسبي؛ لأن الإدراكية درجات، قد تقل أو تكثر قوتها، قد تحصل بالإجماع الكلي أو تحصل بالإجماع النسبي و قد تكون جبرية كليا أو جزئيا.

 

2.2- الوظيفة التأثيرية (1) :

__________

(1) -اقتبست معظم الفرقات المتعلقة بوظائف اللغة من كتاب p. guraud (الدلاليو) رقم 1421 من سلسلة : "ماذا أعرف".

 

(1/5243)

 

 

... تحدد هذه الوظيفة العلاقات الموجودة بين البلاغ و بين الباث. لقد قلنا قبل قليل: إننا حين نتواصل، أي حين نصدر أفكارا تتعلق بالمرجع نكون في نطاق الوظيفة المرجعية. لكننا، في ذات الوقت، نستطيع أيضا أن نعبر عن موقفنا تجاه هذا الشيئ فنصفه بأنه حسن، إن كان فعلا حسنا أو رديئا إن كان هو كذلك أو نحكم عليه بأنه جميل إن كان جميلا أو رديئا إن كان يستحق وصف الرداءة أو قد تقول عنه إنه منفر أو مشوق، محترم أو مهان إلى آخره.

 

(1/5244)

 

 

... لكن يجب ألا نخلط بين التظاهرية العفوية للتأثيرات الناتجة عن العواطف أو الطبيعة وهي غرائز منبعها اجتماعي وبين الاستعمالات التي يمكن أن نلجأ إليها لأجل أن نتواصل.

... و معلوم أن الوظيفة المرجعية و الوظيفة التأثيرية هما أساسان متكاملان وفي نفس الوقت متواجهان داخل عملية الاتصال. إلى درجة أننا نتحدث في كثير من الأحيان عن " الوظيفة المضعفة للاتصال " واحدة إدراكية ومجردة و الأخرى عاطفية وذاتية. أنهما تضعان أنواعا من الترميز مختلف، إن الثانية منهما على الخصوص. تستمد روحها من التغيرات الأسلوبية ومن

 

(1/5245)

 

 

معنى المعنى.

 

... هذا و لا يخفى أن الغاية من الترميز العلمي هو إبطال هذه التغييرات و إلغاء العنانية في حين أن الترميزات إيجابية تنعش هذه التغييرات و تطورها .

 

2.3( La fonction Conative ) :

... تحدد هذه الوظيفة العلاقات الموجودة بين البلاغ و بين المتلقي؛ و معلوم أن كل اتصال غايته رد فعل من طرف المستمع ( المتلقي ) يمكن ان يوجه الايعاز إما إلى ذهن المتلقي و إما إلى وظيفته، وهكذا نجد أنفسنا من جديد في هذا المستوى أمام التمييز بين التجريدي الذاتي من جهة و الإدراكي العاطفي من جهة ثانية؛ هي إذن مواجهة

 

(1/5246)

 

 

بين الوظيفة المرجعية و الوظيفة التأثيرية.

 

2.4- الوظيفة الشاعرية أو الجمالية ( Fontion poétique ou esthétique ) :

 

... تحدد هذه الوظيفة حسب R .Jakobson بأنها العلاقة بين البلاغ و بين البلاغ نفسه .

 

... ففي الفنون المرجع هو البلاغ الذي يتخلى عن دوره كجزء من آلة الاتصال ليصبح الموضوع نفسه.

 

... و هكذا تخلق الفنون و الآداب بلاغات المواضيع التي بصفتها هي نفسها مواضيع للاتصال تحمل من خلال الدلائل المباشرة الني تحتوي عليها " دلالتها " منتسبة إلى دلائلية خاصة أسلوبية. هذه الوظيفة هي التي تميز الأسلوب

 

(1/5247)

 

 

الأدبي البليغ عن سائر استعمالات اللغة.

 

... فالفقهاء مثلا يؤكدون أن أحد عناصر إعجاز القرآن الكريم هو إخراج البلاغ القرآني ( الآية الكريمة ) أي اللغة ( إذا سمح لنا أن نتجاوز قليلا ) من عالمها المألوف إلى حيز الإبداع الذي يسم الكلمة بجمال فريد.والقارئ أو السامع لها يقف متأملا أمام الحرف و موسيقاه، الكلمة و جرسها و العبارة و نسقها قبل أن يعي معناها أو يفقه محتواه(1).

5.2 - الوظيفة التنبيهية ( fonction fatique ) :

__________

(1) - « وظائف اللغة" بسام بركات، "المجلة العلربية" رجب 1403ه صفحة 61.

 

(1/5248)

 

 

... غاية الوظيفة هو تأكيد أو تقوية أو الاحتفاظ بالاتصال أو إيقافه يشير R. Jakobson بواسطة هذه الوظيفة إلى الدلائل التي بواسطتها يكون الاتصال قائما ممتدا أو مقطوعا أو حتى التحقق من أن الاتصال مازال قائما : (فهمت ؟ اتسمعني ). هذا التأكيد على الاتصال هو الذي يسمى بالوظيفة التنبيهية و يمكن أن يكون سببا في تبادل بعض العبارات الضبابية الغامضة، بل إلى حوار كامل غايته الوحيدة تمطيط مكالمة.

... إن هذه الوظيفة لتلعب دورا كبيرا في جميع أنواع الاتصال الرسمي، أو خطاب أمام تجمع، مكالمة عائلية أو غرامية لا

 

(1/5249)

 

 

سيما حين يكون محتوى الاتصال أقل أهمية من البرهنة على الحضور و التأكيد على الاندماج في المجموع.

 

... إننا هنا نكرر نفس الألفاظ، نعيد نفس الحركات، نشغل أنفسنا بنفس القصص مما يجعل الاتصال غير مفيد بل مملا لا يكف بالنسبة للأجنبي عن الحديث و لكنه مريحا بالنسبة للذي يشترك في الاتصال، إنه يجد عنتا في أن يوفق البلاغ لأن ذلك يعني أنه ينعدم .

 

... إن مرجع الوظيفة التنبيهية هو الاتصال نفسه كما أن مرجع الوظيفة الشاعرية هو البلاغ ذاته في حين يكون المرجع بالنسبة للوظيفة التأثيرية الباث نفسه.

 

(1/5250)

 

 

3 -خصائص اللغة العربية المرتبطة بوظائف اللغة

... نلاحظ حين نعود لترسمة عملية الاتصال أن بها ستة عناصر.

- العنصر الأول هو : " المرجع "، يمكن أن نقرب فكرة المرجع هذا إلى الأذهان بأن نقول : إنه الموضوع الذي ينصب حوله الحديث أو إذا أردنا الفكرة الكبرى أو الصغرى التي تناقش .

... و لا شك أن اللغة العربية التي نشتغل بها الآن بصفتنا مهتمين بكل ماله مساس بالدراسات الإسلامية هي بالدرجة الأولى لغة القرآن و لغة الحديث الشريف ثم الأدبيات التي أنجزت حولهما وهي أدبيات يكاد لا يحصرها العد.

 

(1/5251)

 

 

... هذا المرجع مقدس و لا يمكن بحال من الأحوال الطعن فيه، أو النقص من قيمته، سواء منه ما علمناه فأدركنا مقصده كاملا، أو ما غاب عنا منه شيئ، و انفرد الباث بعلمه دون سواه أو علمناه بواسطة نص آخر.

 

... و معلون أن ماعلمناه منه أو على الأصح ما علمناه منهما ( قرآن كريم وحديث شريف) هو ما يعرف عندنا ب " المحكم "، و المحكم - في نظرنا - ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره كقوله تعالى :

{ ولم يكن له كفوا أحد } (1) أي لم يكن له مثلا أحد. فهذا علمناه دون ان نعود

__________

(1) - الصورة 112 الغخلاص (الآية 4).

 

(1/5252)

 

 

لمعرفته إلى آيات أخر توضحه وكقوله تعالى : { و إني لغفار لمن تاب وآمن و عمل صالحا ثم اهتدى } (1) ، هذا لا يحتاج إلى أن نعود فيه لنعرفه إلى آيات أخر توضحه و تبينه . نحن نعلم أن من " تاب " من الشرك و " آمن " أي بعد الشرك " و عمل صالحا " صلى و صام مثلا " ثم اهتدى " مات على ذلك. هذا كما نرى لا يحتاج لتحصيله إلى كبيرمشقة.

 

... أما ما لم نعلمه - وهو الذي يعرف عندنا بالمتشابه . و المتشابه - في نظرنا أيضا - لا يقوم بنفسه بل نحتاج ليدرك إلى أن يرجع فيه إلى غيره. كقوله تعالى :

__________

(1) -السورة 20 طه (الآية 82).

 

(1/5253)

 

 

(1) { إن الله يغفر الذنوب جميعا } هذا يرجع فيه إلى قوله تعالى : { و إني لغفار لمن تاب } و إلى قوله تعالى (2) {إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}.

 

... بل أن هذه الآية بالذات اشتملت على النوعين معا : الحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة؛ و إليه الإشارة بقوله تعالى في هذه الآية نفسها : { ويغفر مادون ذلك لمن يشاء}.

__________

(1) -السورة 39 الزمر جزء من (الآية 35).

(2) -السورة الرابعة النساء (الآية 48).

 

(1/5254)

 

 

هذا المصطلحان المحكم و المتشابه مصطلحان أخذنا من قوله تعالى(1) : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و مايعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و مايذكر إلا أولوا الألباب}.

 

... بقي بعد أن أعطينا مثالا عن المتشابه و المحكم في القرآن أن نعطي مثالا عن المتشابه و المحكم في الحديث .

__________

(1) - السورة الثالثة آل عمران (الآية 7).

 

(1/5255)

 

 

... روى الشيخان البخاري و مسلم، رحمهما الله، عن أبي عبد الرحمان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -و الصادق المصدوق : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون

علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذاك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد فهو الله لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها و إن أحدكم ليعمل بعمل أهل

 

(1/5256)

 

 

النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ".

 

... إن مراد هذا الحديث الشريف و الصحيح لا يمكن أن يدرك، كما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالرجوع فيه إلى غيره من الأحاديث الشريفة؛ ذلك أنه يصعب علينا ان نفهم كيف أن أحدنا يعمل بعمل أهل الجنة طيلة العمر الذي قد يكون طويلا ثم يدخل النار لأنه عمل بعمل أهلها في وقت قصير من آخر عمره ألا يحتسب له ما عمل من عمل صالح طيلة السنوات الطويلة التي مضت لا سيما و أن الحق سبحانه و تعالى يقول في أماكن مختلفة من

 

(1/5257)

 

 

كتابه الكريم (1) : { ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد}.

 

... و يبين ذلك بوضوح ما عليه من مزيد في فصلت فيقول(2) : { من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها و ما ربك بظلام للعبيد }.لا يمكن أبدا أن يضيع العمل الصالح كله بسبب عمل طالح قام به في مدة وجيزة جدا عبر عنها رسوب الله - صلى الله عليه

__________

(1) -السورة الثالثة آل عمران (الأية 182) ونفس الأمر نقرأه في السورة الثامنة الأنفال (الآية 51) وفي سورة الحج (الآية 10)، لكن بالأفراد في الأيدي، أي « بما قدمت يداك".

(2) - السورة 44، فصلت (الآية 46).

 

(1/5258)

 

 

وسلم - ب " ذراع ". و العكس صحيح، كيف يدخل الجنة من عمل بعمل أهل النار في

عمره المديد فقط لأنه عمل بعمل أهل الجنة و لما يبقى له إلا يسير من عمره في الدنيا.

... لا بد لنفهم هذا الحديث الشريف الفهم الدقيق من أن نعود إلى حديث آخر صحيح كذلك يوضحه و يبينه، هذا الحديث الذي يحتاج إلى غيره ليتضح هو متشابة سيوضحه وضوحا لا مزيدا عليه الحديث الشريف الذي يرويه لنا الإمام الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، يقول في كتاب القدر (1)

__________

(1) - أخرجه البخاري في كتاب "الجهاد" ص. 235؛ وأخرجه مسلم في كتاب " الإيمان" ص. 179 وغيرهما.

 

(1/5259)

 

 

: " حدثنا قتيبة ابن سعيد، حدثنا يعقوب ( يعني ابن عبد الرحمن القاري ) عن أبي حازم عن سهل ابن سعد الساعدي، أن رسول الله - عز وجل -قال : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، و إن الرجل ليعمل بعمل أهل

النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ".

 

... الآن اتضح لنا الحديت الأول و الحمد لله، الناس في حكمهم بسبب علمهم القاصر و استحالة اطلاعهم على أسرار القلوب يخطئون، إنهم يرون الرجل ثم يعتقدون فيه الصلاح جراء ما يقوم به أمامهم من أعمال تظهر لهم صالحة فيحكمون عليه تبعا لما

 

(1/5260)

 

 

يبدو لهم من أمره وهو في الحقيقة غير ذلك . أما الحق سبحانه و تعالى فلا يظلم الناس مثقال ذرة .

 

... العنصر الثاني و الثالث : عملية الاتصال هما البات و المتلقي أو المجيب و المجيب. هذان العنصران في عملية الاتصال عند العرب بسيطان للغاية و لا يشكلان شيئا ذا بال، متكلم يتكلم سمته عملية الاتصال باث وآخر يستمع فهو بهذا متلق للكلام الذي يصدره الباث، فإذا ما أجاب أصبح باثا وصار الذي كان باثا متلق، لكن الأمر يختلف في عملية الاتصال الخاصة بالقرآن الكريم و الحديث الشريف.

 

(1/5261)

 

 

... عملية الاتصال هذه عندنا فيها باث هو الحق سبحانه وتعالى و متلق هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -هذا بالنسبة

للقرآن. أما بالنسبة للحديث فالباث هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -و المتلقي هو الصحابي و من ورائه أفراد الأمة جمعاء.

 

... الأمر عندنا سيختلف و لا شك عما عندهم، لسبب بسيط وهو أن مكانة الباث و المتلقي سواء بالنسبة للقرآن أو بالنسبة للحديث الشريف مكانة رفيعة لا تدرك، ومن هنا سيكون التباين و ستكتسب عملية الاتصال الإسلامية جمالا لا يوصف تظهر به ومن خلاله الخصائص الرفيعة للغة العربية.

 

(1/5262)

 

 

... اعتقد أنه ليتضح هذا الأمر جليا لابد من إعطاء مثال أو مثالين، و سنقتصر هنا على ما يتعلق بعنصري الباث و المتلقى، و لن نهتم، الآن على الأقل بالمسائل النحوية التي يمكن أن يثيرها المثال الذي سنتعرض له. قد نعود إليه في باب آخر إن اقتضى الحال. يقول الله سبحانه و تعالى في كتابه الكريم(1) : { إنا أرسلناك بالحق بشيرا و نذيرا و لا تسئل عن أصحاب الجحيم}.

 

... لابد إذا أردنا أن تتضح لنا مكانة الباث و المتلقى جليا من استعراض القراءات الموجودة في هذه الآية. في هذه

__________

(1) - السورة الثالثة البقرة (الآية 119).

 

(1/5263)

 

 

الآية قراءاتان متواترتان قراءة الفعل المضارع " تسئل " بضم التاء وهي قراءة الجماعة و بعبارة أدق قراءة القراء جميعهم (1)

__________

(1) -لا تعتبر تحن هنا في بحثنا القراءت المتواترة إلا سبعا وهو مذهب الإمامين أبي سعيد عثمان الداني (ت 444ه) والقاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعيني الأندلس ( ت 590ه) وهو المذهب الذي درج عليه المغاربة منذ منتصف القرن الخامس الهجري وما زالوا عليه وأنا ضمن هؤلاء المغاربة مع التنبيه إلى القراءات الثلاثة للعشرة أو القراءات الأربعة عشر لا تخرج في شيء قل أو كثر عما في القراءات السبع، فمن قرأ بالعشرة أو حتى بالأربعة عشر ما أضاف شيئا ومن اقتصر على السبعة متا نقص من القرآن المنقول بالتواتر شيئا.

 

(1/5264)

 

 

إلانافعا، وسنعود إلى هذه القراءة، قراءة الرفع حين نتعرض لموضوع : " اللغة و النحو في القرآن الكريم ".

...

... أما القراءة الثانية فهي قراءة " تسئل " بفتح وجزم الام. ولقراءة نافع هذه أوجه ثلاثة، أرى أن أورد هاهنا لعلاقتها الشديدة بما نحن بصدده و لأنها توضح بشكل بديع مكانة الباث (المرسل) و المتلقى( المرسل إليه) في عملية الاتصال الإسلامية زيادة على إبرازها لخصائص اللغة العربية و قدرتها على تلوين الخطاب ليكون ملائما للمراد المبتغى ابلاغه للناس:

 

(1/5265)

 

 

... الوجه الأول : إن الله تبارك وتعالى لا يرى في السؤال عمن عصى و كفر من الأحياء فائدة إذ قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الإيمان وعن المعصية إلى الطاعة، يقول الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي

( ت 437 هـ ) مبعدا أن يكون في الآية نهي : و لو كان نهيا لكان بالفاء، كما تقول : " أعطيتك مالا فلا تسأل غيره " (1) .

__________

(1) - "الكشف عن وجوه القراءات وعللها وحججها" ج 1، صفحة 262، طبعة القاهرة سنة 1394ه (1974م).

 

(1/5266)

 

 

... ما جاز هذا في هذا المثال إلا لأن إعطاء المال هو علة لئلا يسأل غيره أما هنا في الآية التي نتحدث عنها فلم تكن أبدا الرسالة بالبشارة علة لئلا يسأل عن أصحاب الجحيم يقول له ربه لماذا تشغل نفسك بالكفار ءامنوا

أم لم يومنوا إن ذلك ليس لك { إن عليك إلا البلاغ }(1)

__________

(1) 34 - السورة 42 الشورى جزء من (الآية 48)، وهي بتمامها : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيضا إن عليك البلاغ وإنا إن أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}. والآية موضحة أشد ما يكون التوضيح ما سجب أن يفعله الرسول الكريم صلوات الله عليه مع المغرضين وهو ما تؤكده الأية 82 من السورة النحل والآية 54 من النور والآية 18 من سورة العنكبوت والآية 12 من سورة التغابن.

 

(1/5267)

 

 

. وفي ذلك تخفيف عليه مما كان يجده من عناد الكفار و تعنتهم. فكأنه قال له : لست مسؤولا عنهم. فلايحزنك كفرهم، و في هذا دليل على أن أحد لا يسأل عن ذنب أحد.

 

... الوجه الثاني : في قراءة نافع رضي الله عنه نهي عن السؤال عمن مات على كفره و معصيته. لقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل : " ليت شعري ما فعل أبواي " (1)

__________

(1) - روي هذا الخبر ابن عباس ومحمد بن كعب القرطبي (انظر الاستئناس فق وإلا فطرق تحرير الحديث غير هذه) "تفسير القرآن العظيم" لأبي الفداء القرشي بن كثير الدمشقي، ج1 ، ص. 167 وكذا " الجامع لأحكام القرآن" لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، ج2، ص. 92.

 

(1/5268)

 

 

أو أنه قال عليه الصلاة و السلام : " أي أبويه

أحدث موتا " فنزل النهي عن السؤال عنهما. فول النهي على صحة الجزم.

 

... الوجه الثالث : قد يكون جزمها ( أي جزم و لا تسأل ) على تعظيم الأمر، أي لا تسأل يا محمد عنهم فقد بلغوا غاية العذاب التي ليس بعدها مستزاد.

... ووجه التعظيم إما أن يكون بسبب أن الباث ( المرسل المخاطب ) وهو هنا الحق سبحانه وتعالى الذي لا يريد - بفضله و كرمه - أن يجرى في كلامه ما فيه قساوة و غلظة شديدتين على مسامع حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - رغم أن

الأمر يتعلق بأهل النار، و إما أن يكون بسبب المتلقي ( المرسل إليه ، المخاطب ) وهو هنا الرسول الكريم صلوات الله و سلامه عليه، الذي لا يقدر، لما جبل عليه من خلق حسن - أن يسمع خبر أهل الجحيم لما فيه من إيحاش للسمع واضجار له، و الله أعلم بالمراد يقول أبو حيان الغرناطي (1) : " فيكون معنى التعظيم إما بالنسبة للمجيب و إما بالنسبة إلى المجاب، و لا يراد بذلك حقيقة النهي " .

__________

(1) - "البحر المحيط" لأثير الدين أبي عبد لله محمد بن يوسف ين علي بن يوسف بن حيان الغرناطي (ت 745ه) الجزء الأول صفحة 368 السطر 14.

... العنصر الرابع في عملية الاتصال : العنصر الرابع في عملية الاتصال هو " القناة " كما رأينا. و لا بد لتقوم عملية الخطاب بوظيفتها كما يجب أن تكون القناة " موصلة " للبلاغ بشكل من الأشكال، أي لا بد أن يسمع المتلقي ما يقوله الباث و أن يسمع الباث ما يرد به المتلقي و لا يكون في السماع ما يشوشه أو يعكره.

 

... هذا بالنسبة لعملية الاتصال بين الناس أما عملية الاتصال في القرآن الكريم فتمتاز بخصائص متميزة نذكر بعضها الذي يدخل في ميدان اهتمامنا .

 

(1/5271)

 

 

... أ - يتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الوحي عن ربه، فما هي ياترى القناة هنا ؟ لنستمع إلى ما ترويه مولاتنا عائشة أم

المؤمنين رضي الله عنها ليتضح لنا الأمر.

... يروي الإمام مسلم بن الحجاج فيقول (1) : " حدثني أبو طاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو ابن سرح .اخبرنا ابن وهب. قال أخبرني يونس عن ابن شهاب. قال : حدثني عروة ابن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -أخبرته ، أنها قالت : كان أول ما

__________

(1) - صحيح مسلم "كتاب الإيمان" باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقم73 .

بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الصادقة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء(1) .فكان يخلو بغار حراء (2) يتحنث فيه (وهو التعبد ) الليالي أولات العدد(3)

__________

(1) - قال أبو سفيان الخطابي "حببت العزلة إليه - صلى الله عليه وسلم - لأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكير وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويتخشع فلبه.

(2) -هو جبل يبعد عن مكة بحوالي ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.

(3) -الليالي أولات العدد متعلقة ب"يتحنث" لاب" يتعبد" ومعناه يتحنث الليالي. ليجعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى لأن التعبد لا يشترط فيه الليالي (مقتبس من "ملخص شرح النووي).

، قبل أن يرجع إلى أهله و يتزود لذلك الحديث .

... نستنتج إذن من هذا الحديث أن " القناة " هنا هي الرؤيا الصادقة. و معلوم أن رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه لأن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة و السلام وحي. و لتندبر قوله تعالى (1) : { فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تومر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.

__________

(1) - السورة 37 - الصادقات، (الآية 102).

... و قد تكون القناة أحيانا على شكل " صلصة الجرس " (1) يروي لنا الإمام مسلم حديثا شريفا يوضح لنا هذه القناة، فيقول (2) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة وحدثنا أبو كريب

__________

(1) -" الصلصة" الصوت المتدارك الذي يسمعه السامع ولا يثبته أول ما يقرعه سمعه حتى يفهمه من بعد ذلك.

(2) - صحيح البخاري « بدأ الخلق »، ص. 7؛ وصحيح مسلم ، « فضائل » ص. 87؛ و « سنن الترميذي من قاب »، ص. 7؛ و « سنن النسائي افتتاح »، ص. 37؛ و « موطأ الإمام مالك » قران ، ص. 7؛ و « مسند أحمد بن حنبل في ثلاثة أماكن متفرقة » .

حدثنا أبو أسامة وابن بشر جميعا عن هشام عن أبيه عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف يأتيك الوحي؟ فقال :

أحيانا يأتيني في مثل صلصة الجرس و هو أشده علي ثم يفصم عني (1) و قد وعيته. و أحيانا يأتيني ملك في صورة الرجل، فأعي ما يقول.

... في هذا الحديث قناتان. يمكن أن نسمي القناة الأولى ب " صلصلة الجرس " و نسمي الثانية طريق ملك في صورة رجل. وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو الصادق المصدوق عما يتوصل به عن طريق القناة الأولى :

__________

(1) - " يفصم عني" أي يقلع وينجلي ما يغشاني منه .

" ثم يفصم عني و قد وعيته " حتى لا يظن ظان أن صلصلة الجرس قد تمنع فهم مايأتيه من الحق سبحانه بل أنه يعيه كامل الوعي ويقول عما يأتيه بواسطة القناة الثانية : " فأعي ما يقول " حتي لا يظن ظان أن الملك حين جاءه على صورة رجل قد يكلمه بلغة لا يدركها، فيخبرنا أنه وعى عنه كل ما قال .

... العنصر الخامس عملية الإتصال: هذا العنصر هو : "الرمز أو إذا أردتم القواعد التي تتحكم في البلاغ، وهي قواعد لابد أن تكون معروفة من الباث والمتلقي معا فإن لم تكن كذلك ما كانت عملية الإتصال ولا تحقق من ورائهما شيء .

... ومعلوم أن القواعد التي تتحكم في عملية الإتصال عندنا هي قواعد اللغة العربية وهي قواعد سنتحدث عنها في موضوع، اللغة العربية والنحو في القرآن الكريم.

... لعنصر السادس والأخير في عملية الإتصال : هذا العنصر هو " البلاغ" ومعلوم أن البلاغ الذي يهمنا نحن الآن بصفتنا مشتغلين بالدرس الإسلامي هو لقرأن الكريم وحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .

... 4 -الخصائص العامة للغة العربية :

... الخصائص التي تميز اللغة كثيرة منها خصائص عامة تميز هذه اللغة حيث استعملت ومنها خصائص خاصة سنهتم بما يتعلق منها

بالقرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف.

... الخاصية الأولى للغة العربية : اللغة العربية ثلاثية بالدرجة الأولى :

... أنها ثلاثية بالدرجة الأولى، وهم من أجل هذا اختاروا لوصفها الوزن " فعل " بمعنى أن معظم كلمات اللغة العربية قابلة لتكون موزونة بهذا الوزن ذي الحروف الصامتة إلى درجة أن أصبح الحرف الأول يعرف ب

" فاء الكلمة " إشارة إلى الحرف الأول في الوزن بقطع النظر عن الحركة التي يمكن أن تكون مصاحبة له ويعرف الحرف الثاني بعين الكلمة إشارة إلى العين في الوزن ويعرف الحرف الثالث في الكلمة أيا كانت

بلامها، لا يعبأون بحركات هذه الحروف لأن اللغة العربية تعتمد اعتمادا كبيرا على الصوامت ( الحروف ) لا على الصائتان

( الحركات).

... إن هذا ليدل عندهم على أن للكلمة معنى رئيسي تعبر عنه الصوامت ( الحروف) أما الصائتان

( الحركات) فإنها تقوم بوظيفة أخرى وهي أنها تحور هذا المعنى وتعدله وتلونه في بعض الأحيان إلى ما شاء لها التلوين.

... بل أن بعضهم بالغ في ذلك إلى درجة أن أعطى لكل حرف معنى يلازمه و اصبح يفسر اللغة انطلاقا من مزج حروفها، وعلى رأس هؤلاء اللغوي ابن فارس الذي وضع معجما حاول إخضاع اللغة فيه

لهذا المنحى فصار يستخرج معنى الكلمة من مزج حروفها، فيقول مثلا إن أصل معنى" قط " ( أي حين يجتمع القاف مع الطاء ) هو القطع و أن معنى قطف هو القطع بلين و أن قطب هو القطع بلين شديد إلى آخره، وهو أمر لا يمكن أن يكون مقبولا لأن لو كان الأمر كذلك ما اختلفت اللغات.

... الخاصية الثانية للغة العربية : صيغ الفصل الحاصرة للأزمنة :

... إن اللغة العربية على الأقل في الصيغ الفعلية لا تهتم بالأزمنة الثلاثة الرئيسية المعروفة الماضي و الحاضر

و المستقبل فضلا عن اهتمامها بفروعه. لم تهتم بهذا الأمر اهتماما كبيرا لأنها فضلت أن تهتم عوض ذلك بالحدث المنتهى و الحدث الذي لم ينته بعد وهذا الاهتمام بهذا الشكل هو الذي جعلها تقتصر على صيغتين للفعل: الماضي للحدث المنتهي و المضارع للحدث الذي لم ينته بعد. لا يدل قولنا هذا على أن العربية قاصرة عن التعبير عن الأزمنة الموجودة عند أقوام يتكلمون بلغات أخرى، إنها قادرة عن التعبير عن كل الأزمنة الموجودة عند أقوام يتكلمون بلغات أخرى، إنها قادرة عن التعبير عن كل الأزمنة ولكنها حرصا منها على الإيجاز الذي

تمتاز به كما سنوضحه تقتصر على صيغتين فعليتين فقط ولكن بواسطة أدوات تحدد الزمن الذي تريد.

... إنها بصيغة واحدة وهو المضارع تستطيع أن تعبر عن الأزمنة الثلاثة، لنأخذ مثلا فعل " كتب " فإن أردنا أن نعبر به عن الماضي قلنا :

... كان يكتب حين وصلت

... و إن أردنا أن نعبر عن المستقبل قلنا مثلا :

... سأكتب حين تحضرني فكرة.

... فإن أردنا أن نعبر عن الحال قلنا مثلا :

... أكتب وأنا مطمئن.

... وهناك أدوات تجعل الفعل المضارع دالا على المستقبل مثل " لن " أو على الماضي مثل " لم " أو على الحال مثل " لا "

... الخاصية الثالثة للغة العربية : كُرهُ اللبس :

... إنها تكره اللبس و تفر منه كما يفر الرجل السليم من المجدوم، إنها، مثلا تصوغ قاعدة و تريد أن تجعلها مطبقة على كل حال لا تقبل شذوذا لكن إن أدى تطبيقها إلى لبس يفسد الاتصال بين الناس و يحول بين الفهم و الافهام خالفوا تلك القاعدة التي أرادوها مطردة و أصبح تطبيق عكسها وهو القاعدة، لأن الذي يرمون إايه بلغتهم هو التواصل في وضوح، لنوضح هذا الأمر بمثال، يقولون إذا تحركت الواو و الياء و انفتح ما قبله قلبتا ألفا بمعنى أنه كلما توفر في لفظة ما الشرطان

... أ - تحرك الواو و الياء.

... ب - انفتاح ما قبلهما.

... إلا و انقلبتا ألفا، وهكذا قالوا في " قول " : و في " بيع " باع ، لأن الشرطين متوفران فيهما، لكن إن قلت : الحاك في " الحيك لقالوا لك إنك مخطئى، لأنهم عندما طبقوا القاعدة التبس عليهم بين الحياكة و الذي يحكي الحكايات."

... الخاصية الرابعة للغة العربية : إنها مولعة بالإيجاز.

... ومعلوم أن الكلام لا يكون قويا إلا إذا كان موجزا بطبعه. إن البلاغيين العرب ليعدون هذا الإيجاز المقياس الحق لبلاغة الكلام.

... أحب، في هذا المضمار أن أروي حكاية وقعت لأصحاب الكندي، تدل دلالة قاطعة على أن القرآن وهو باللغة العربية مولع بالإيجاز الذي أعطاه هذه القوة التي لا تضاها و رفع بلاغته إلى درجة استحال إدراكها.

... حكى النقاس أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال : نعم ! عمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدرو لا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء و نهي عن النكت وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، و لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلال.

... يقصد الفيلسوف الكندي بالسطرين من سورة المائدة الآية الأولى منها (1) وهي قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكن بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد و أنتم حرم إن الله يحكم ما يريد}.

__________

(1) - هي الآية الأولى في العدد الكوفي الذي لا يعد قوله تعالى { ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}(الآية 1)أما علماء العد الآخرون هم علماء العد المدني الأول والثاني، ومكة وبصرة والشامي بفرعيها الدمشقي والمعي فآيتان .

... كيف نفهم حكم الكندي على إيجاز هذه الآية : قال:

... ماذا هو ( يقصد الحق سبحانه وتعالى ) نطق بالوفاء و نهي عن النكت :

و إليه الإشارة بقول الله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود }. ثم قال الكندي : حلل تحليلا عاما.

... و إليه الإشارة بقوله : { احلت لكم بهيمة الأنعام}.

... ثم قال فيلسوفنا : ثم استثنى استثناء بعد استثناء.

... و إليه الإشارة بقول الله تعالى : {إلا ما يتللى عليكم غير محلي الصيد و أنتم حرم } ثم قال الكندي أخيرا : ثم أخبر عن قدرته وحكمته.

... و إليه الإشارة بقوله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد}.

... قد توجز اللغة العربية إيجازا كبيرا و لكنها لا بد أن يكون في هذا الإيجاز البليغ ما يشير بإشارة خفيفة و لبيبة إلى ما لم يذكر وهذا في الأدب العربي كثير جدا ( شعره و نثره ) و في القرآن و الحديث أكثر.

... وأعتقد أنه يكفي أن نمثل لهذا بمثال أو مثالين ليتضح الأمر جليا إن شاء الله، يقول الله تبارك و تعالى(1) : { قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ترونهم مثليهم رأي العين

__________

(1) -السورة الثالثة آل عمران (الآية 13).

و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}.

... وبما أن مراد الله لا يكتمل إلا بالقراءات المتواترة كلها و لا سيما ما يتعلق بالفرش منها فإن معنى الآية باعتبار القراءتين " ترونهم " التي يقرأ بها الإمام نافع و " يرونهم " التي يقرأ بها الآخرون معنى الكلام سيكون : قد كان يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه ببدر و أخرى

كافرة وهو مشركون ترونهم أنتم اليهود المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد و يرونهم ( أي المسلمون يرون  أنفسهم مثلي ما أنتم عليه).

... من شأن هذا الإيجاز الذي فهم معناه الفئتان أن يحط من عزائم المشركين و يقوي إرادة المومنين.

... ونلاحظ ثنيا أن الفئة المذكورة أولا لم توصف بلفظ في حين أن الفئة الثانية متبوعة بوصفها.

... ثم نلاحظ ثانيا أنه إذا كان الحذف مس الشطر الأول من المقطع و لم يمس شطره الثاني في أمر وصف الفئتين بملزوم الجهاد وهو الإيمان المسكوت عنه بالنسبة للفئة الأولى فإنه ذكر ملزوم الدفاع عن الضلال وهو الكفر بالنسبة للفئة الثانية.

... لقد عكس الأمر ليقع التوازن بين شطري المقطع، فإثبت في الشطر الأول المحذوف منه الملزوم لازم الإيمان و هو القتال في سبيل الله وحذف من الشطر الثاني لازم الكفر وهو القتال في سبيل الشيطان ذاكرا فقط ملزومه.

اللغويات التاريخية والتاريخ اللغوي

الأستاذ محمد الأوراغي

كلية الآداب - الرباط

0. تقديم

... ... اقتران لفظة التاريخ باللغة له معنيان، لأحدهما يستعمل التاريخ اللغوي، وهو الذي يتناول كل دراسة توسل اللغة، وتتخذها ذريعة لاقتناص المعرفة بوقائع غير لغوية، وللآخر راسمة اللغويات التاريخية، التي تصدق على أعمال تعالج اللغة ذاتها بوصفها موضوعا للتحليل التاريخي. غايتنا من التقديم تحليل هذين المعنيين بالقدر الموضح لأوجه الإئتلاف والاختلاف بينهما.

... ... يستند التاريخ اللغوي إلى مقدمة تقول : للغة بنية غيرها ، وغيرها ذهن بشري أو واقع خارجي، لكن إسناد الطابع المرآتي إلى اللغة يغري الكثير من فروع المعرفة على توسيل اللغة إلى غيرها، وهو ما يدفعنا إلى ضرورة سبر أقسام هذا المعنى وإقصاء غير المناسب لأحد المتراكبين في راسمة ( التاريخ اللغوي).

... ... من جملة ما يستبعد مناسبته للمفهوم من اللغة نذكر مختلف الأعمال المتميزة باستثمار قواعد اللغة في تحليل مضامين الأقاويل المدونة وغيرها من الرموز الدالة. لأن أي عمل من هذا القبيل ينتمي إلى حقل معرفي  ينفرد موضوع، يمكن أن يستعين بقواعد اللغة في دراسته أو بغيرها من وسائله المنهجية. وما كان كذلك ليس من التاريخ اللغوي في شيء. أما المستبعد لعدم مناسبته للمفهوم من التاريخ فينحصر في مختلف الدراسات اللغوية التي تروم الكشف عن الثابت الذي لا يتغير من القوانين المنتمية إلى غير اللغة، أعمال من هذا القبيل تنتسب إلى اللغة، لأنها تتخذها موضوعا، لا إلى التاريخ لأنها تسعى إلى التمثيل لبينة لا تتحول،وبفقدها للشرط الأخير لا تدخل

في ما صدق التاريخ اللغوي.

... ... ولتحرير العبارة بالمثال الموضح لما لم ينتسب إلى اللغة أو إلى التاريخ فلم يجز إنضاؤه إلى المركب منهما نذكر دراسات أدبية تلجأ أحيانا إلى مفاهيم لغوية وسميائية لتحليل أقاويل تشكل نصا فنيا أو غيره ، وأخرى نفسية توظف معطيات لغوية للكشف عن نمو نفسية الفرد. كربط ولادة اللغة لدى الطفل بتكون المسافة التي يتخدها من الواقع المعيش (1) . مثل هذه الدراسات قد تنتسب إلى التاريخ ،

__________

(1) للتوسع في العلاقة بين ولادة اللغة ومفارقة الواقع لدى الطفل انظر الفصل الثاني من كتاب Anika L . Jacques Lacan , p . 99.

لأنها تتناول مثله موضوعا متجولا متبدلا و إن اختلفت طبيعة المتحول في كليهما ، لكنها لا تنتسب إلى اللغة . وبعكس ذلك " فلسفة اللغة العادية " (1)

__________

(1) رائد هذه المدرسة أستين ورسول ، في صف منهجية الأول مقدمة كتابه : Quand dire c’est faire ما مفاده " لأستين منهجية ، بل وسيلة لإدرك الوقائع والظواهر ، أو تججربتنا الواقعية إنه يطرق اللواقع من جهة اللغة العادية ... فلسفة ترمي من وراء تناول اللغة دراسة الواقع . وردد الثاني في مواضع غير قليلة من كتاب Les Actes du Langage أن موضوع فلسفة اللغة الواقع ومنهجيتها اللغة "

، التي تتخذ من دراسة اللغة العادية وسيلة لإدراك ظواهر الواقع ، ومثلها " الأنحاء الفلسفية " على اختلاف صورها المتلاحقة المتشكلة حاليا في نموذج التوليدي التحويلي ، إذ لم يتردد شومسكي صاحب النموذج في اعتبار نحوه بديلا للإحيائيا فرعها الذري المتخصص بدراسة البنية العضوية للذهن البشري ، لأنه يعتقد أن " بنية اللغة تعكس بدقة متناهية العقل حتى صار علم اللغة لا يختلف في شيء عن علم العقل ، أي العلم الذي يدرس طبيعة العقل البشري وإوالياته . فكان النحو بداية لتحليل طرق العقل " (1)

__________

(1) مثل الكلام المثبت أعلاه يتكرر في أغلب كتب شومسكي الكثيرة . يكفي القارئ غير المختص كتابه La l’in guistique cartésienne لتكوين فكرة واضحة عن الأمحاء الفلسفبة .

. مثل هذه الأعمال تنتسب إلى اللغة ، لأنها تدرس بنيتها ، لا إلى التاريخ لأنها تتوخى من المدروس الثمتيل لقوانين و أبنية قارة لا تتبدل .

... ... بإقصاء ما سرد من أقسام المعاني المحتملة لم يبق للتاريخ اللغوي سوى الدراسات التي تتخذ من بنية اللغة موضوعا ، ومن الكشف عن تعاقب أطوار الناطقين بها هدفا . إذن كل عمل توسل بدراسة اللغة إلى تحديد الأطوار الكسبية المتعاقبة على الناطقين باللغة المدروسة وجب انضواؤه إلى التاريخ اللغوي كما سيتضح بأمثلة في مبحثه .

... ... أما اللغويات التاريخية فهي متميزة من جهة عن التاريخ اللغوي باعتبارها تتخذ اللغة موضوعا وهدفا للدراسة ، ومن جهة أخرى عن اللغويات المسرحية من أي وصف بحكم أن هذه الأخيرة تسكن اللغة عن طريق التجريد ، وتفصلها بذلك عن عوامل التغيير ، بخلاف الأولى إذ تحافظ في اللغة على تفاعل بنيتها مع العوامل المتحكمة في تغييرها ، وهي في ذلك تستند إلى مقدمة مفادها أن الموضوع الذي يكون مادة التاريخ يمثل أفعالا بشرية محكومة بإرادة الإنسان وقدراته الذهنية (1)

__________

(1) من خلال المقارنة بين دراسة تلاحقية diachronie و أخرى تزامنية syn chronie ، أثبت انكلر أن اللغة موضوع لتحليل تاريخي وليست موضوعا لتحليل مجرد ، للمزيد من التفصيل أنظر : R. Engler , . .

L’ apport de Genéve , pp . 115 - 141 , dans La linguistuque génétique , Histoire et théories .

، واللغة ، بوصفها ملكة صناعية (1) ، تشكل مادة للتاريخ .

... ... مما تقدم يجب الاحتفاظ مرحليا بأن للغة بنية متغيرة ، و أن انتقالها عبر أطوار متلاحقة ينفلت للملاحظة ويصعب إدراكه وضبطه . لأن الدارسين للغة

__________

(1) اعتبر ابن خلدون وغيره من المفكرين العرب " للغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة ... وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها " المقدمة ، ص 285 ، انظر أيضا الفارابي ، إحصاء العلوم ، ص 111 وكل صناعة فهي " ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بروية تنحو تماما مقصودا ، ابن سينا ، البرهان ص 192 .

والمتكلمين بها لا يكونون عبر تاريخها الطويل سوى حلقة من سلسلة بحيث يشاهدون تلك الحلقة لا السلسلة (1) . أضف أن تبدل اللغة لا يحدث صدفة ، و إنما تحكمه مبادئ ثابتة ، لكن مبادئ تغير اللغات ليست ذاتية الثأتير ، بل تحتاج إلى حفاز لتمارس مفعولها على اللغة . ومحرضها لا يخلو إما أن يكون المتكلم بها ، و إما أن يكون اللغوي الواصف لها . والفرق بينهما أن الأخير يعجل بالتغيير، عن طريق إلحاحه المستمر على

__________

(1) راجع فيما أثبتاه أعلاه C. buridant , Définition de la diachronie , dans la Linguistique génétique .

تحريض المبدأ المسؤول الذي يمكن من تهيئ بديل يعوض المقصود بالإقناء ، على هذا الأساس وجب أن تتفرع اللغويات التاريخية إلى فرعين : أحدهما يضم الدراسات التي تلاحق

أطاريح اللغويين الموجهة لتحاليلهم اللغوية باعتبارها صنفا من عوامل التحريض لمؤثرة في تطوير اللغة في أحد الإتجاهين (1)

__________

(1) قديما تنبه إلى ما للغويين من تأثير في التعجيل بتغيير فقال في تحديد مهامهم بعدما وصف عدتهم المعرفية : فهؤلاء هم الذين يتأملون ألفاظ هذه الأمة ويصلحون المختل منها، ينظرون إلى ما كان النطق بع عسيرا في أول ما وضع فيسهلونه، وإلى ما كان بشيع المسموع فيجعلونه لذيذ المسموع... وينظرون إل أصناف التركيبات الممكنة في ألفاظهم، والترتيبات فيها،ويتأملون أيها أكمل دلالة على تركيب المعاني في النفس وترتيبها ...فتصير عندها ألفاظ تلك الأمة أفصح مما كانت، فتصير عندها ألفاظ تلك الأمة أفصح مما كانت، فتكمل عند ذلك لغتهم ولسانهم، ثم يأخذ الناشئ هذه الاشياء عن السالف، كتاب الحروف، ص.144.

. ويضم الفرع الآخر دراسات ترصد ما اختفى من اللغة وما ظهر بديلا لمنقرض وبأي المبادئ يمكن ربط كل تغيير محتمل يلحق أحد مستويات اللغة، كما سيتضح بأمثلة في المبحث الثاني من هذه الدراسة .

1- التاريخ اللغوي

... ... ينتمي إلى التاريخ اللغوي الدراسات المتميزة بالخاصيتين : 1) مقاربة بنية اللغة بمنهجية واردة من أجل ؛ 2) استصدار أحكام تخص أطوار الناطقين بها وأحوالهم المبتذلة. وهكذا يمكن أن يتوصل، باستعمال منهجية اللسانيات السلالية في الدراسة المقارنة بين مجموعة من اللغات، إلى إثبات القرابة العرقية بين

الناطقين بها، وإرجاعهم، لحالجة في النفس، إلى أصل واحد ينحدرون منه انحدار لغاتهم من لغة أصل غابرة. ... ولعل ضمان الاستقرار للتوسع الإنجليزي في آسيا كان وراء اختلاق راسمة "اللغات الهند أروبية" في أواخر القرن الثامن عشر. وتضم هذه المجموعة لغات، اعتبرها المستشرق الإنجليزي وليم جونسن تنحدر لقرابتها من أصل واحد غابر، وهي الإغريقية واللاتينية والسنسكريتية اللغة القديمة المقدسة في الهند (1) . ولا يستبعد أن يكون التحديد المسبق

__________

(1) للمزيد من التفصيل الأول من كتاب J. Lyons , Linguistiques FGénérale.

 للهدف المراد تبريره بدراسة لغوية وراء التخلي المبكر عن اللسانيات السلالية. إذ سرعان ما أغرقت برواسم جديدة. من قبيل " النحو التاريخي" و "النحو المقارن" و "اللسانيات التلاحقية" (1) بل لم يعد أحد يطمئن إلى ثبوت القرابة بين لغات من خلال التشابه الصوتي والدلالي بين بعض الكلمات.

__________

(1) لتحديد الفوارق بين بعض الرواسم أعلاه أنظر

hritian peetrs, « Grammaire Histotique et Linguistique » dans La linguistique génétique, pp.67-72.

... ومن المحتمل أن يجعل ضمن أهداف المقارنة بين لغات في إطار نظرية للنحو الكلي إثبات علاقة تفاضلية بني أقوام. كأن تنعت لغة البعض بكونها طبيعية تشخص الصور الكلية للفكر البشري، منها تستنبط قواعد النحو الكلي التي تحكم الأنحاء الخاصة باللغات الأخرى، والتي لم تذعن فهي شاذة غير طبيعية، تعكس الذهنية الغربية لأهلها الناطقين بها، ومثل هذه الأحكام المعيارية والاستخفافية تتردد بكثرة في أعمال النحاة التوليديين .

... ... يدل على علاقة التفاضل بين أقوام وجود كلمات في لغات للتقليل من المتكلمين بغيرها، مثل ( بربر) (1) التي تعنين في اللاتينية والإغريقية واللغات المنحدرة منهما، الأجنبي البدائي الذي يبين. ومثلها كمة (عجم ولا عرب) (2)

__________

(1) للمزيد من التوضيح أنظر ص 24 من كتاب Eco Umberro, La recherche de la Langue Pzrfaite.

(2) علل ابن فارس إطلاق لفظة العرب على الناطقين بالعربية، ولفظة على الناطقين بغيرها فقال : "العجم الذين ليسوا من العرب ...كأنهم لم يفهموا عنهم سموهم عجما ...والعين والراء والباء أصول ثلاثة : أحدهما الإبانة والإفصاح ...فأما الأمة التي تسمى العرب فليس ببعيد أن يكون سميت غربا من هذا القياس، لأن لسانها أعرب الألسنة وبيانها أجود البيان".

. فالأول يخلط في كلامه ولا يبين فلم يفهم عنه الثاني. أما في عربية الإسلام فقد صارت كلمة ( عجم) تدل على غير المبين بأي لغة تكلم، أو صمت، فيقال للصبي مادام لم يتكلم صبي أعجم ويقال صلاة النهار عجماء أي لا يجهر فيها بالقراءة، ذكره ابن فارس في معجمه أسفله.

... ... ويشهد أيضا لعلاقة المفاضلة تقارض اللغات المتفاوت أهلها رفعة. إذ تضطر أحيانا اللغات إلى التشقيق المتفاوت لبعض المعاني المعجمية. وفي هذه الحالة كل لغة تحتفظ بما لديها أصلا لمعنى شقيق تقترضه مع لفظته ومكانته من إحدى ضرائرها، أما موقع المعنى

الشقيق بالمقارنة مع مكانة المعنى الأصل فتحددها علاقة التفاضل بين اللغتين المتقارضتين. إذ تحتل مرتبة عليا إذا كانت اللغة المقترضة في مرتبة دنيا، وتكون له مرتبة دنيا إذا كانت المقترضة في مرتبة عليا. يوضح المثال (1) في الطرة (1) أسفله علاقة التفاضل القائمة بين المعاني الأصول ( أ) في اللغة الفرنسية ، والمعاني الشقائق ( ب ) المقترضة مع ألفاظها من العربية . يستعمل

__________

(1) المتعاقبة ( أ) في المثال (1) الأصول لفظا ومعنى للشقائق ( ب) المفترضة.

1) (أ) ...Fort , Chef, Chien... .

(ب) Cadour, Caid, Clebs.....

المتكلم بهذه  اللغة الألفاظ ( أ ) إخبارا عن حياده إزاء معانيها ، لكنه إذا قصد الحط من قيمها اضطر إلى استعمال شقائقها ( ب ) المقترضة من لغة تقع في مرتبة دون مكانة الفرنسية باعتبار الناطقين باللغتين .

... ... هذه العلاقة الترابية يمكن ملاحظتها أيضا بين فصيح اللغة الواحدة وعاميها . كأن يعدل متكلم عن اللفظة الفصيحة ليستعمل بدلها لفظة عامية إذا قصد التقليل من المعنى الأصل لتحقيق غرض التحقير ، وبعكس هذه العملية يحقق غرض التعظيم .

... ... الكشف عن الطابع المميز للأمة في فترة من تاريخها هدف لكثير من الدراسات اللغوية. أوضح مثال يشخص هذا الصنف لغويات الفترة الرومانسية بألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر . إذ نسب إلى هنبلت ، وهو رجل دولة و أشهر لغوي ألمانيا في الفترة الذكورة، دفاعه عن فرضية تقول بالارتباط الشديد والطابع القومي إلى درجة اختلاط العرق الآري باللغات الجرمانية . تنبيه لهذه الفرضية تركه يعتقد أن لكل لغة بنية خاصة تكيف تفكير أهلها، وتعكس أسلوبهم الخاص في العبارة (1)

__________

(1) للتوسع في موضوع أنظر كتابي لاينس وشومسكي الآتيين Lyons , Linguistique générale ; Chomsky , La linguistiqque cartésienne

. عملا بهذا التوجه المتميز بالتحام اللغة بمستعمليها نجد الخليل في النص الآتي يتناول في خطاب واحد اتصاف العربية وأهلها بالحكمة. يقول : " إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، وعرفت مواقع كلامها وقام في عقولها علله ، و إن لم ينقل ذلك عنها ، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه : فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست ، و إن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء ، عجيبة النظم والأقسام ، وقد صحت عنده حكمة بانيها ... فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال : إنما فعل

 هذا هكذا لعلة كذا و كذا ، ولسبب كذا وكذا " (1) . محتوى هذا المص يكشف عن الانطلاق من فرضية واحدة مفادها : إن إتقان اللغة أو اختلالها ليرتبطان ، بالتوالي ، بحكمة أهلها أو بعفويتهم ، وإذا اتضح التاريخ اللغوي موضوعا ومنهجية تعين المرور إلى تناول شريكه الموالي .

2 - اللغويات التاريخية

... ... سبق في التقديم أن ذكرنا أن هذا القسم من الممارسة المعرفية يتميز بخاصيته : أولا اتحاد ما يشكل حقل اللغة موضوعا للدراسة وهدفا ، فلا يتجاوزه طلبا

__________

(1) انظر النص بكامله في كتاب الإيضاح في علل النحو للزجاجي ، ص 66 .

 

(1/5314)

 

 

لغيره . ثانيا التزام الحياد بالإمساك عن التدخل في الموضوع كاصطناع سكونه عن طريق تجريده ، وعزله عن العوامل التأثير في تغيره ، بإدماج الخاصتين نحصل على عبارة تقربنا أكثر من تصور دقيق لهذا الفرع ، فنقول ، اللغويات التاريخية : ممارسة معرفية تلاحق تغيير اللغة بنية ونحوا وترصد تطورهما في الاتجاهين .

... ... تقدم أيضا أن تحول اللغة أو تطورها لا يعزى إلى الصدفة ، وإنما يحصل بفعل عوامل تمارس تأثيرها بتحفيظ طبيعي من المتكلم أو اصطناعي من اللغوي ، وهو ما اقتضى تفريع هذا القسم إلى فرعين أحدهما يرصد أطارح

 

(1/5315)

 

 

اللغويين وتحاليلهم لمجموع الوقائع اللغوية التي تشكل نسقا وظيفيا ينتقل من حالة إلى أخرى عبر الزمان . نخص هذا الفرع من الدراسة باسم

" الملاسة " ، أما الصنف الآخر فإنه يتعقب كيفية انسلال نسق من سابق ، ويحدد المدرس من وقائع النسق مقرونا بعلة اختفائه وظهور بديله الذي يعوضه . هذا الفرع من اللغويات التاريخية نخصه باسم " الملاغاة " (1)

__________

(1) الملاغاة ، ومعاودة واستمرار لمدلول الجذر ( ل غ و ) ، وتصدق على كل دراسة تلاحق تطور الوققائع اللغوية عبر الزمان . وهمس المقابل العربي لراسمة Diachronie في محاضرات سوسر .

 

(1/5316)

 

 

.

2 .1 - الملاسنة :

... ... ظهر أن الملاسنة فرع من اللغويات التاريخية ، يهتم بميلاد الأفكار المنتمية إلى علم اللغة، وبتحركها بين اللغويين عبر الزمان ، ويشمل ما كان من جهة اللغة متوحدا أو متغايرا: فتكون الملاسنة متوافقة إذا رصدت الدراسة متوافقة إذا رصدت الدراسة انتقال الأفكار وطرق المعالجة بين لغويين يشتركون في دراسة اللغة الواحدة ، وتكون متغايرة إذا وقع التركيز على تتبع هجرة الأفكار اللغوية وكيفيات المعالجة بين لغويين يفرقهم اهتمامهم بلغات مختلفة .

 

(1/5317)

 

 

... ... إذا وضعنا أسئلة من قبيل ،بأي لغوي تقترن مثلا فكرة التقسيم الثلاثي للكلم وهو يدرس أي لغة، و بأي القنوات صارت إلى غيره ممن درسوا لغات مختلفة ، وهل أصاب تعديل الفكرة في صياغتها الأصلية ، و بأي لغوي وهو يدرس أي لغة اقترن التعديل المدخل، فإن الأجوبة المقترحة لمثل هذه الأسئلة تشكل ملاسنة متغايرة ، لكن أسئلة من قبل بأي لغوي العربية يقترن التقسيم الثلاثي للكلم ، ومن منحا ة هذه اللغة تجاوز الرواية والنقل عن السابق إلى فحص مقترحه ونقده دعما أو نقضا ، وعلى يد من صار المقترح السابق متجاوزا، وبأي

 

(1/5318)

 

 

أسلوب حصل التجاوز ، أعن طريق إدماجه في تصور أعم أم بالانتقال به إلى نمط آخر من التفكير في اللغة ، فإنها تنتمي وأجوبتها إلى ملاسنة متوافقة ، ولنختبر صدق الصنفين من الملاسنة بأمثلة تحقق في اللغويات التاريخية .

2 .1 .1 - الملاسنة المتغايرة :

... ... جاء في كتاب لاينس المذكور في الطرة ( 8 ) أن تحليل اللغات الأوروبيبة ظل إلى أواخر القرن التاسع عشر متأثرا ، بالنحو الذي وضعه بانيني للهندية ، خاصة في مجال الدراسة الصوتية والصرفية . إذ عنه أخذ لغويو أوروبا التصنيف المفصل لأصوات اللغة المؤسس على الملاحظة

 

(1/5319)

 

 

والتجربة ، كما أن الكثير من مظاهر لغويات القرن المذكور لتعكس بوضوح نظرية النجاة الهنود أو ممارستهم اللغوية . بل ذهب إلى أن مبادئ لبانيني ، كالإنسجام والعموم والاقتصاد ، ما زالت تبدو واضحة التأثير في أعمال لغوية حديثة .

... ... لكنه يغلب على التقليل من الأعمال التاريخية لعلم اللغة في أوروبا عدم التثبت في استخلاص النتائج ، وإطلاق الأحكام . إذا ركزنا على بعض الأفكار اللغوية المتناقلة بين ابلمفلد (1) ولاينس امبرتو إيكو لأمكن إرجاع ما ذكر من

__________

(1) انظر الفصل الأول من كتاب Leonarol bloofied ,Le Language

 

(1/5320)

 

 

النقص في التثبت إلى عدم التفريق بين ما هو ( ضروري ) في الملاسنة وما هو ( وضعي ) . لأنه يكفي أن يحصل تراكم معرفي في دراسة لغة معينة لكي تظهر مجموعة من المبادئ المنهجية المتماسكة . و إذا حصل مثل ذلك التراكم حول لغة أخرى أدى إلى نفس النتيجة و إن لم يحصل اتصال فاقتراض .

... ... يلزم عن المثبت في الفقرة السابقة أن كثرة الدارسين للغة المعينة تقود إلى ضرورة تفسير أوصافهم لها ، أو تعليل أحكامهم عليها ، ولا تفسر أو تعليل بغير الانطلاق من مبادئ عامة

 

(1/5321)

 

 

تحكم عددا معينا من الجزئيات ، ( التعميم من المبادئ الضرورية التي لا يخلو منه حقل معرفي ) . والعلل متصاعدة إلى فرضية العمل الأولي التي تعتبر مصدرا لاشتقاق ما دونها من المبرهنات المتنازلة ، ولا اشتقاق بغير مبدأ الانسجام الضروري لكل عمل معرفي . أما الاقتصاد في الجهد أو مبدأ الخفة فهو طبعي في الإنسان المجبول على التحرك نحو التحرك نحو الأسهل كما عبر عنه الفارابي بقوله : " فتنهض نفسه إلى أن يعلم أو يفكر أو يتصور أو يتخيل أو يتعقل كل من كان استعداده له بالفطرة أشد و أكثر ، فإن هذا هو الأسهل عليه

 

(1/5322)

 

 

"(1) . ولذلك لجأ نحاة العربية إلى مبدأ الخفة لتعليل الكثير من الظواهر المنتمية إلى مختلف مكونات اللغة ومستوياتها ، وسوف يطول الحديث بإيراد نماذج منه . (2)

__________

(1) الفرابيي ، كتاب الحروف ، ص . 134 .

(2) استعمل ابن جني مبدأ الخفة في تعليل عدد كبير من الظواهر الظرفية . إذ به فسر إهمال ما أهمل من الألفاظ ( الخصائص ج 1 ، ص 54 ) ، وامتناع تراكيب التصويتات المتولدة عن أبنية تتشكل في حيز واحد كالحلقيات ( ابن جبي ، المرجع السابق ، وسر صناعة الإعراب ، ج 1 ، ص 75 ) ، وامتناع اجتماع ساكنين في الوصل ( ابن جني ، المنصف ، ج 1 ص 10 . للاستزادة من النماذج المذكورة انظر محمد الأوراغي ، اكتساب اللغة في الفكر القديم ، ص . 141 .

 

(1/5323)

 

 

الأوراغي 2

... ... نخلص ما سبق إلى أن التأريخ لهجرة الأفكار اللغوية يجب ألا يدخل في الاعتبار المنتمي إلى الضروري . كالمبادئ التي نسبها لاينس إلى بانيني ، وعنه صارت إلى غيره من لغويي هذا العصر ، ومن قبيل الضروري المفسر بالواقع المنعكس في اللغة ، التقسيم الثلاثي للكلم المعلل بالواقع في قولهم : " الكلمة جنس تحته هذه الأنواع الثلاثة لا غيره... ودليل الحصر أن المعاني ثلاثة : ذات ، وحدث ، ورابطة للحدث بالذات . فالذات الاسم ، والحدث الفعل ، والرابطة الحرف ... ولا يختص انحصار الكلمة في الأنواع الثلاثة

 

(1/5324)

 

 

بلغة العرب، لأن الدليل الذي دل على االانحصار عقلي ، والأمور العقلية لا تختلف باختلاف اللغات " (1) . معنى هذا أن كل من تأمل في اللغة باعتبارها نسقا رمزيا سينتهي لا محالة إلى ذكر للأقسام الثلاثة بصورة أو بأخرى . لذا لا يجوز أن يعزى التقسيم الثلاثي بصورة أو بأخرى . لذا لا يجوز أن يعزى التقسيم الثلاثي إلى لغوي بعينه ونقله إلى غيره المعاصر له أو المتأخر عنه .

... ... يلزم عما تقدم أن تنحصر الملاسنة المتغايرة في " الوضعيات " باعتبار هذه الراسمة تتناول كل ما يضعه

__________

(1) ابن هشام ، شرح شذور الذهب ، ص . 21 .

 

(1/5325)

 

 

لساني من المفاهيم الإجرائية منتميا إلى نظرية معدة لوصف اللغة . يمكن توضيح هذا الصنف بمثال " العامل " بوصفه مفهوما إجرائيا يتنمي إلى فص يتولى ، داخل نظرية للنحو ، مهمة إسناد العلامات المعربة عن الأحوال التركيبية .

... ... ينشأ العامل عن قيام علاقة تركيبية بين عنصرين ، أحدهما عامل يجلب الحالة فعلامتها للآخر القابل لهما ، وهو بهذا المعنى ينسب إلى سيبويه ، بحسب المتوفر من كتب النحو المنشورة وقد يرفعه مختص في تاريخ النحو العربي إلى أحد المتقدمين عليه (1)

__________

(1) أرخ الكثير من المفكرين العرب العلماء ، كل في مجال تخصصه ، ولكنهم غفلوا عن التاريخ للعلوم ، فلم يهتموا برصد ميلاد الأفكار في حقل معين وملاحقة تنقلها بين المشتغلين داخله اهتمامهم برجالات العلم . أهمل التاريخ للغة العربية وعين بتسجيل الحياة الثقافية والاجتماعية لعلماءها ، دكر الألباني النجاة متلاحقين من غير أن يحدد سهم كل واحد ، وصدر كتابه بأول من وضع شيئا من النحو ،وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وختمه بذكر شيخه ابن الشجري . وجاء سيبويه حلقة في سلسلة النجاة إذ أخذ النحو " عن الخليل بن أحمد ، و أخذالخليل عن عيسى بن عمر ، وأخذه عيسى بن عمر عن بن أبي إسحاق ، و أخده بن أبي إسحاق عن ميمون الأقرن، و و أخده ميمون الأقرن، عن عنبة الفيل ، و أخذه عنبة الفيل عن أبي الأسود الدولي ، وأخده أبو الأسود عن أمير المومنين علي عليه السلام " أبو البركات الأنباري ، نزهة الألباب ، ص . 406 ، وللقفطي طريق آخر ، إذ دكر أن سيبويه أخذ عن الخليل عن أبي عمرو بن العلاء عن نصر بن عاصم عن أبي الأسود عن علي ، أنظر كتابه ، إنباه الرواة على أنباه النجاة ، ج . 1 ، ص . 6 ولم ينسب أحد مفهوم العامل إلى غير سيبويه ممن سبقه .

 

(1/5326)

 

 

وبهذا المعنى انتقل العامل ، عن طريق معربين كيوسف عون وغيره إلى نظرية العمل والربط لشومسكي(1)مع فارق لازم عن اختلاف النحوين المترتب عن اختلاف اللغتين ، إذ يتحدث كل من سيبويه وشومسكي عن أحوال تركيبية واحدة كحالة الرفع وحالة النصب وحالة الجر (2) وبما أن

__________

(1) انظر الفصل الثالث من كاتب شومسكي ، نظرية العمل والرابط ؛ Chomsky ,Théorie du gouvernement du liage ;p . 261 .

(2) انظر سيبويه ، الكتاب ، ج 1 ، ص 2 . ولما ذكر من الأحوال يستعمل شوسكي على التوالي cas nominatif , cas objectif , et cas oblique

 

(1/5327)

 

 

الأخير يصف لغة من النمط التركيبي سيضطر إلى الحديث عن مبدأ الجوار القاضي بأن يكون العمل رأس مركب عجزه معموله ، ولا يشترط ذلك سيبويه ، لاهتمامه بلغة من النمط التوليفي ، إلا في حالة الجر ، لأن الجار ومعموله مركب واحد . وإذا كان الفعل المتعدي في نحو سيبويه يجلب حالة الرفع للفاعل وحالة النصب للمفعول فإن هذا العامل في نحو شومسكي لا يجلب إلا حالة النصب للمفعول . أما حالة الرفع فيجلبها الفاعل صرفة الزمن المتضمنة لأمارة المطابقة اللاصقة بالفعل ، وما ذكرناه هنا قليل من كثير لأن الغرض والقصد توضيح

 

(1/5328)

 

 

الملاسنة المتغايرة في الوضعيات بالتمثيل .

2 . 1 .2 - الملاسنة المتوافقة :

... ... يأتلف هذا النوع مع السابق ( 2 . 1 .1 ) في الاهتمام برصد ميلاد الأفكار النحوية وملاحقة تنقلها بين المشتغلين داخل ميدان اللغة ، ويختلف معه في كون الأول يلاحق هجرة الأفكار وانتقالها بين نحاة يدرسون لغات متغايرة ، بينما الثاني يتتبع أفكار نحاة يتوافقون في دراسة لغة واحدة . لتحديد هذا الفرع بمثال يمكن أن نقتفي ثنائية الكلام والقول في لغويات العربية، أو نزيد عليها المفهوم من الاستثناء المتصل والمنقطع .

 

(1/5329)

 

 

... ... ( أ ) ثنائية الكلام والقول :

... ... هذه الثائية تداولها نحاة العربية بالمعنى المعبر عنه بقول ابن ملك في ألفيته :

كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... ... ... واسم وفعل ثم حرف الكلم

واحده كلمة والقول عم ... ... ... وكلمة بها كلام قد يؤم

... ... من محتوي البيتين يعني هذا المبحث كون الكلام يصدق على ما كان من الألفاظ مستقلا بالفائدة لا يفتقر إلى غيره ليتم معناه . بينما القول يستغرق المفيد وغير المفيد من الألفاظ المركبة.

 

(1/5330)

 

 

... ... تمييز الكلام و القول استينادا إلى علاقة الانتماء القائمة بين خاص ( الكلام ) وعام ( القول)، أسسه ابن جني (1) ثم انتشر في كتب النحو بعده ، ويظهر مما ختم به الباب أنه لم يكن يريد من إطلاق الكلام على المفيد من اللفظ التام ، و إطلاق القول

__________

(1) انظر ابن جني ، الخصائص ، ج 1 ، صص 17 - 32 ، نجد مثل قوله : " أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه " سموا كل ما مذل به اللسان من الأصوات قولا ناقصا كان أو تاما " عبارات ابن جني في هذا الباب تكاد تتكرر بألفاظها في مفصل الزمخشري في شرحه لابن يعيش .

 

(1/5331)

 

 

على الناقص والتام سوى الرد على المتكلمين ونقد تصورات فرقهم للكلام على الخصوص .

... ... و إذا كان لابد من كلمة تفصل بين التصورين للثائية فإن النظرة الفاحصة لتكشف عن كون النقاش الدائر بين المتكلمين في مسألة خلق القرآن أساسه العلاقة القائمة بين الدال

والمدلول، أو اللفظ والمعنى . المعتزلة (1)

__________

(1) يستدل القاضي عبد الجبار لى أن الكلام يصدق على ملامسة المعنى لأصواب اللغة المبنية على وجه مخصوص فيقول : " فصل في أن الكلام هو الصوت المقطع الواقع على بعض الوجوه و إبطال القول بأن الكلام غير الصوت يدل على ذلك استحالة وجود الكلام المعقول= ==عاريا من الأصوات المقطعة ، واستحالة وجود الأصوات عارية من الكلام ، ولو كان أحدهما غير الآخر لم يمتنع ذلك فيهما على بعض الوجوه " المغني في أبواب التوحيد والعدل ، ج 7 ، ص 21 .

 

(1/5332)

 

 

لا يجوزون وجود المعنى مع عدم اللفظ لما بينهما من التعلق .

فأطلقوا الكلام وأرادوا به ملامسة المعاني المنظومة للصوتيات المتراكبة تركيبا متدرجا غير مستويات اللغة . وبما أن الأشاعرة (1) يجوزون إمكان الفصل بين الدال والمدلول انتفى المانع من إطلاق

__________

(1) بعد أن ذكر الجويني بمفهوم الكلام عند المعتزلة عقب فقال : وذهب أهل الحق إلى اثبات الكلام والقائم بالنفس ، وهو الفكر الذي يدور في الخلد ، وتدل عليه لعبارات تارة ، وما بصطلح عليه من الإشارات ونحوها أخرى " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص . 105.

 

(1/5333)

 

 

الكلام على المعاني المنتظمة قبل أن تلامسها الألفاظ المعبرة عنها .

... ... يهمنا ذكر حديث المتكلمين عن تصورين للكلام متوازنين ، إذ يطلقه بعضهم ويريد به وجه العبارة الحسي الملابس لوجهها المعنوي ، ويقتصره آخرون على الوجه المعنوي قبل أن تباشره الألفاظ المعبرة عنه . فحصلنا بذلك على وجود وجهين متوازيين متطابقين ، أحدهما دلالي معنوي يكون سببا للآخر الصوتي الذي يكون دليلا على السابق . على الوجه الدلالي المجرد يطلق نظار من مختلف الحقول المعرفية اسم الكلام ، وعلى الوجه المعنوي يطلقون اسم القول ولما

 

(1/5334)

 

 

بينهما من موازنة والمطابقة يتم أحدهما بتمام الآخر وينقص بنقصانه .

... ... على علاقة الموازنة المثبتة بين الكلام والقول يحمل وصف سيبويه (1) لهما لا على علاقة الانتماء كما أوله ابن جني في الموضع المشار إليه من كتابه الخصائص ثنائية الكلام ولا قول ، كما حدد سيبويه قطبيها ، يمكن استثمارها على نطاق واسع لمعالجة مسائل لغوية ، وهي على النقيض من ذلك في تصور ابن جني ، إذ لم يثبت أن لوحظ استعمالها في غير موضعها ، وهو ما يدل على كونها مشكلا مغلوطا هب ابن

__________

(1) انظر سيبويه ، الكتاب ، ج 1 ، ص 62 . و ص . 471 .

 

(1/5335)

 

 

جني إلى اختلافه لإخراج آراء المتكلين من الملاسنة المتوافقة ، كما يظهر بوضوح من قوله : " قد علمت بذلك تسعف المتكلمين في هذا الموضع ، وضيق القول فيه عليهم حتى لم يكادوا يفصلون بينهما ، والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه ، وفصله بين الكلام والقول ، ولكل قوم سنة و إمامها " (1) .

... ... بما تقدم يتضح دور الملاسنة في الكشف أولا عن التأثير المتبادل بين الأنظار النحوية أيا كانت اللغة أو اللغات المدروسة . وثانيا عن كيفية تسرب الخطأ إلى المفاهيم النحوية المغلوطة

__________

(1) ابن جني ، الخصائص ، ج أ ، ص 32 .

 

(1/5336)

 

 

التي تثقل النحو ، الأمر الذي يقضي بإقصائها ، و إعادة صوغها صياغة واردة .

( ب ) الاستثناء المتصل المنقطع :

... ... الاتصال و الانقطاع في الكتاب من رواسم الإعراب ، لا يستعملها سيبويه إلا لوصف إعراب التابع . إذا قامت علاقة التبعية بين متراكبين احتمل التابع الاتصال ، إذا طابق إعرابه إعراب المتبوع ، والانقطاع إذا لم يطابقه ، كما يتضح من المقارنة بين الجملتين المواليتين :

... ... (1 ) ما حضر المدعوون إلا خالد

... ... ( 2 ) ما حضر المدعوون إلا خالدا

 

(1/5337)

 

 

... ... بما أن للخاص ( خالد ) بعد ( إلا ) إعراب العام ( المدعوون ) قبلها كان الاستثناء في الجملة (1) متصلا ، وهو الجملة ( 2 ) منقطع ، لأن العامل ( حضر ) لما انشغل بالعمل في العام ( المدعوون) قطع امتداد أثره إلى الخاص ( خالدا ) بعد ( إلا ) ، وبذلك يكون الانقطاع وصفا لمركب ناظر مركبا آخر حالة تركيبية لا علامة إعرابية ، ويكون الاتصال وصفا لمركب ناظر آخر حالة تركيبية لا علامة إعرابية .

... ... ولا يحصل الاتصال أو الانقطاع ، كما تحدد ، إلا بتوافر شرطين أولهما : قيام علاقة الانتماء الواجبة (1)

__________

(1) اشترط سيبويه ضمنيا و أصوليون تصريحا أن يكون الخاص منتميا إلى العام على " سبيل الوجوب لا على سبيل الصحة ، من الأول قوله تعالى : { ولاعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ... } إذ ما بعد ( إلا) واجب للانتماء إلى الإنسان قبلها ومثل الثاني قوله الشاعر :

وبلده ليس بها أنيس ... ... ... إلا اليعافير والعيس ...

لأن مابعد ( إلا ) ليس واجب الانتماء إلى الأنيس قبلها ، لكنه يصح على سبيل المجاز . وفي حالة الصحة لا تكون ( إلا ) في نسق الاسثتناء . لأن " الاسثتناء يخرج مالولاه لوجوب دخوله تحنه على جهة الشمول والمجمع " أبو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه ، ج 1 ، ص . 220 . انظر أيضا سيبويه ، الكتاب ، ج 1 ، ص . 363 . " باب ما يختار فيه النصب لأن الأخر ليس من نوع الأول " . إذ لم يستعمل كلمة اسثتناء في هذا الباب .

 

(1/5338)

 

 

بين العام أو المستثنى منه والخاص أو المستثنى ، لأن وجوب الانتماء أساس بنية ( إلا ) الاستثنائية . وثانيهما شغل العامل بذكر العام وقد نفي عنه ما أدخل فيه الخاص . لأنه بغير مثوله لا شيء يشغل العامل عن التسلط مباشرة على الخاص بعد ( إلا ) ، كما يظهر من الجملة ( 3 ) .

... ... ( 3 ) ما حضر إلا خالد .

... ... وبعد المثول العام ، كما في الجملة ( 3 ) ، تنتفي التبعية أساس الاتصال أو الانقطاع . مع المبرد ( 285 هـ) بدأت ثنائية الاتصال تأخذ معنى جديدا يستند إلى أساس دلالي (1)

__________

(1) انظر المبرد ، المقتضب ، ج 4 ، ص . 412 ، " باب مايقع في الاسثتناء غير نوع المذكور قبله " .

 

(1/5339)

 

 

، يمثل في علاقة الانتماء ( ) ، أو عدمها ( ) . فإن انتمى الخاص بعد ( إلا ) إلى العام قبلها كان الاستثناء متصلا بغض النظر عن إعرابهما ، و إذا لم ينتم إليه فهو منقطع ، وعليه فإن الاستثناء من الجنس متصل ومن غير الجنس منقطع (1)

__________

(1) بالمعنى المذكور للقطبين وصلت إلى النحاة المتأخرين ، كابن هشام فقال : " وإن كان المسثتنى منه مذكورا فإما أن يكون الاسثتناء متصلا ، وهو ان يكون المستثنى داخلا في جنس المستثنى منه ، أو متقطعا ، وهو أن يكون غير داخل " شرح شدور الذهب ، ص 280 . انظر كاتبه ، شرح قطر الندى وبل الصدى ، ص .244 .

 

(1/5340)

 

 

، وبهذا المعنى وصلا إلى ابن السراج ( 316 هـ) الذي يرتكز هو الآخر ، من أجل التفريق بينهما ، على العلاقة الدلالية القائمة بين المفردات المعجمية قبل أن تتراكب في بنية قولية على صورة الاستثناء (1) ، ثم إلى الزمخشري ( 538 ) ، وغيره ممن جاء بعده .

... ... ولم نهتد إلى نحوي أو بلاغي أو أصولي ، ممن رجعنا إلى أعمالهم ، أهمل المفهوم الثاني للثنائية المؤسس على علاقة الانتماء الدلالية أو عدمها ، وذلك من أجل إحياء

__________

(1) انظر ابن السراج ، الأصول في النحو ، ج 1 ، ض . 290 ، " باب الاسثتناء المنقطع من الأول " .

 

(1/5341)

 

 

مفهومها الأول القائم في كتاب سيبويه على امتداد إعراب المتبوع إلى تابعه أو انقطاعه ، وهو ما يعبر عنه بوضوح إذ يقول : " هذا باب النصب فيما يكون مستثنى بدلا ...يقول : ( ما مررت بأحد إلا زيدا ) و ( ما أتاني أحد إلا زيدا ) . وعلى هذا ( ما رأيت أحدا إلا زيدا ) ، فتنصب ( زيدا ) على غير ( رأيت ) . وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول (1) . و إذا اتضح مفهوما الثنائية تعين المرور إلى المفاضلة بينهما ما لم يكن لقطبيهما معان فرعية

__________

(1) سيبويه ، الكتاب ، ج 1 ص . 363 .

 

(1/5342)

 

 

استأثرت باهتمام ناظر .

... ... قبل النظر فيما يترجح به أحد المفهومين يحسن أن نجمل القول ، مع الكشف المباشر عن وجه الخلل ، في مفاهيم أخرى فرعية انفرد الأصولي ون بإسنادها إلى هذه الثنائية . أحدها ينسب إلى أبي الحسين البصري (1) ، إذ يطلق الاسثتناء المتصل على الإنجاز المتواصل لبنيته ،

بحيث ينتجها المتكلم دفعة واحدة ، و إذا أنجز الحملة قبل ( إلا ) في زمان أول وباقي البنية في زمان ثان فالاستثناء منفصل أو منقطع

__________

(1) انظر كاتبه ، المعتمد في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 260 . " باب في تخصيص الكلام بالاسثتناء "

 

(1/5343)

 

 

(1) ، وقد بين في الوضع المشار إليه من كتابه أنه لا يجوز في حق المتكلم العادي إلا المتصل فقال : " الاستثناء غير مستقل بنفسه فهو كالخبر إذا تأخر عن المبتدأ شهرا ، لم يستفد به السامع شيئا ، فكذلك الاستثناء المتأخر "

__________

(1) استقى أبو الحسين البصري هذا المفهوم من آية الشعراء . إذ أنزل قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واحد يهيمون ، و أنهم يقولون ما لا يفعلون } وبعد مدة وقع الاستثناء فنزل قوله تعالى : { و إلا الذين آمنوا ...} ، انظر السيوطي ، لباب النقول في أسباب النزول ، ص . 164 .

 

(1/5344)

 

 

، وبإبطاله المنقطع المنجز في زمانين لم يبق مبرر لذكر الثنائية بهذا المفهوم في إطار الملاسنة المتوافقة .

... ... أما القرافي ، وهو من مؤسسي العلاقة الدلالية بين المفردات المعجمية ، فقد احتفظ براسمة المتصل للاستثناء من الجنس ، لكنه وسع ليشمل ، 1 ) على صورة الاستثناء من غير علاقة الانتماء مثل قولهم ( ما رجع الجند إلا دبابة ) ، (2 ) أن يسند إلى ما قبل ( إلا ) غير ما يسند إلى الذي بعدها و إن كان من جنسه ، كما في ( ما رجع الجند من المعركة إلا ضابطا هرب ) ، والقسم الأخير الذي أضافه القرافي (1)

__________

(1) علق القرافي على أمثلة المتصل والمنقطع بقسميه فقال : " إذا قلنا القول زيدا ، فزيد من جنس القوم وحكمت أولا بالقيام وعلى زيد بعدم القيام ، وعلى زيد بعدم القيام وهو كنقيض الحكم فهذا متصل . و إذا قلنا : قام القول إلا فرنسا ، فالحكم و إن وقع بالنقيض على الفرس الذي هو عدم القيام ، لكن الفرس ليس من جنس القوم فكان منقطعا ، فإن قلت قام القوم ، إلا زيدا سافر ، كان منقطعا أيضا " الاستغناء في أحكام الاستثناء ، ص . 282 .

 

(1/5345)

 

 

يسهل إبطاله ، لأن ( إلا ) في نسق الاستثناء يقع بعدها المفرد أو ما حكمه من الجملة المعمولة : ( أي التي يكون لها محل من الإعراب ) .

... ... 2 .1 .3 - المفاضلة بين المفاهيم المتنافسة :

... ... بعد أن سردنا ما عثرنا عليه من المفاهيم المغمورة لثنائية المتصل والمنقطع ، حيث أن التاريخ للعلوم يقتضي أيضا الاستقراء التام لفروع الفكرة المرصودة ولتلويناتها ، تعين المرور إلى المرحلة الأخيرة من الملامسة المتوافقة المتمثلة في مسألة المفاضلة بين مفهومي الثنائية الشهيرين ، هذه المرحلة تكتسب مشروعيتها من مقدمة

 

(1/5346)

 

 

معرفية يمكن أن نقول في التعبير عنها:

 

... ... ( 4 ) إذ تكون رأيان متغايران حول موضوع معين كان أحدهما خاطئا أو كان الصواب في غيرهما معا .

... ... لكن المفاضلة بين مختلف الأنظار المتنافسة للاستئثار بالموضوع المعين تفيد إذا تقيدت بقواعد منهجية مضبوطة ، نذكر منها :

... ... ( 5 ) إذا تعارض مفهوما ثنائية رجح القائم على أساس جامع المستند إلى أساس فارق.

... ... وعليه فإن قائل الاستثناء من الجنس منقطع يستند إلى علاقة الانتماء أو عدمها أساس فارق بين العطف وعدمه وليس أساسا جامعا بين قسمين من العطف

 

(1/5347)

 

 

(1) ، يترتب عن المثبت هنا أي مفهوم لا يتفرع إلى نفسه و إلى نقيضه .

... ... بخلاف ما تقدم فإن العنصرين المتراكبين بعلاقة الانتماء الماثلين في بنية الاستثناء يشكلان أحد وجوه التبعية ، وكل تابع يحتمل أن يوافق بإعرابه متبوعه ، فيكون متصلا به ، و أن يخالفه فيكون منقطعا عنه . إن علاقة الانتماء تضمت للأداة ( إلا ) معناها الوضعي وتمنعها من التقارض (2)

__________

(1) للمزيد من التفصيل حول حلاقة التناظر المؤسسة للعطف ، انظر الدكتور أحمد المتوكل ، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي ، الفصل الثاني ، ص . 175 .

(2) في معنى التقارض ذكر ابن هشام : " إعطاء " غير " حكم " إلا " في الاستثناء بها .. وإعطاء " إلا " حكم " غير " في الوصف بها "،

معنى اللبيب ، ص . 778 . وقد نقله السيوطي إلى كتابة الأشباه والنظائر ، ج 1 ، ص 276 . وقبلها قال الزمخشري : " أعلم أن " إلا " و " غيرا " يتناقضان ما لكل واحد منهما " ، المفصل ، ج 1 ، ص . 200 . وقد يحصل الافنراض في اتجاه واحد كأن تقترض " إلا " معنى ( الاستدراك ) الخاص بالأداة " لكن " فتأتي في سياقها معوضة إياها إذا كان ما بعد " إلا " جملة غير معمولة ، أي ليس لها إعراب توافق به إعراب ما قباها أو تخالفه وللمزيد منن التفصيل ، انظر القسم الثالث من كتاب محمد الأوزاغي ، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم.

" أعلم أن " إلا " و "غيرا " يتناقضان مالكل واحد منهما " ، المفصل ، ج 1 ، ص 200 . وقد يحصل الاقتراض في اتجاه واحد كأن تقترض " إلا " جملة غير معمولة ، أي ليس لها إعراب توافق به إعراب ما يقابلها أو ما تخالفه . وللمزيد من التفصيل ، انظر القسم الثالث من كتاب محمد الأوراغي ، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم .

 

(1/5348)

 

 

. حتى إذا تكون الاستثناء ومثل في بنيته العام قبل أداته " إلا " والخاص بعدها نشأ

أساس جامع يسمح بالانتقال إلى تفريع المفهوم الذي يستند إليه ، فنحصل على المتصل ،وهو الاستثناء المنفي المشغول الذي يتبع فيه الخاص بعد " إلا " العام قبلها من جهة البدل ، وعلى المنقطع : وهو الاستثناء المنفي المشغول الذي فيه الخاص بعد " إلا " عن تبعية العام قبلها ن حيث العلامة الإعرابية .

... ... ( 6 ) إذا نشأ حول موضوع ميعن رأيان متغايران قدم الملحوظ في ظواهر أخرى على القاصر الذي لا يتجاوز موضعه .

 

(1/5349)

 

 

... ... استنادا إلى الضابط المصوغ في العبارة ( 6 ) فإن مفهوم الثنائية المؤسس على علاقة الإعراب يفضل المفهوم الآخر المستند إلى العلاقة الدلالية ، لأن الأول ملحوظ أيضا في غير الاستثناء ، كالبدل (1) ، والنعت(2) ، والعطف (3)

__________

(1) انظر سيبويه ، الكتاب ، ج 1 ، ص. 224 ، " باب بدل النعرفة من النكرة والمعرفة من المعريفية ، وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأة " .

(2) نفسه ، " باب ما ينتصب في التعظيم والمدح ، وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول و إن شئت قطعته فابتدأته " ، ص 248 .

(3) في وصف إعراب المعطوف يقول سيبويه : " ويرفع الآخر على قطع وابتداء " ، ج ص 24 .

 

(1/5350)

 

 

. بخلاف الثاني فإنه لم يعثر على استعماله خارج الاستثناء .

... ... ( 7 ) ما يفسر بمبدأ عام مقدم على منافسه غير المؤصل .

عملا بالقيد ( 7 ) فإنه يمكن إرجاع اتصال الإعراب في بنية الاستثناء المنفي المشغول أو المنقطع إلى عاملين تداولي ، فنقول : إذا شكل العام قبل " إلا " محط اهتمام المتخاطبين وجب القطع ، كما توضحه الجملة (2 ) السابقة ، ( ما حضر المودعون إلا زيدا ) ، وإذا كان الخاص بعد " إلا " محط اهتمامهما وجب الاتصال ، وهو ما توضحه الجملة ( 1 ) المعادة هنا ( ما حضر المدعوون إلا زيدا ) . وبهذا العامل

 

(1/5351)

 

 

التداولي نتجنب أيضا ما يذهب إليه نحاة من جواز رفع المستثنى ونصبه في مثل هذه الحالة (1) . لكنه لا يمكن إرجاع الاتصال أو الانقطاع الدلالي إلى مبدأ عام ، يمكننا من إيجاد مبرر بعدول المتكلم عن الاستثناء من الجنس ولجوئه إلى الاستثناء من غير الجنس ، وعدم وجود مبدأ عام يناط به الاتصال والانقطاع الدلالي دليل آخر على فساد هذا المفهوم ونجاح منافسه .

__________

(1) للمزيد من التفصيل ، انظر محمد الأوراغي ، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم ، منحث " أصول تخاطبية توجب الانقطاع والاتصال" ، ص . 255 .

 

(1/5352)

 

 

( 8 ) اضطراب المبني على الفاشل من المفهومين المتنافسين يومئ إلى انسجام المبني على الناجح منهما .

... ... يلزم عن تطبيق القيد الأخير من منهجية المفاضلة ظهور خطابين متباينين . أحدهما يتناول المفهوم الفاشل : من مميزاته اضطراب عباراته ونبو كلماتهما . بخلافه الخطاب الآخر المتميز ، لارتباطه بالمفهوم الناجح ، بوضوح العبارة وتوافق معاني مفرداتها وانسجام الأفكار. من أمثلة الخطاب الأول قول المبرد في وصف إعراب المركب بعد ( إلا ) في قوله : ما جاءني أحد إلا حمارا " ... فوجه هذا وحده النصب ، وذلك لأن الثاني

 

(1/5353)

 

 

ليس من نوع الأول فيبدل منه فتنصبهه بأصل على منعى لكن (1) . من مظاهر الاضطراب في عبارة المبرد نذكر: 1 ) لا مركب ينصب بأصل الاستثناء ، إذ كل ما ينصب فعلى تمام الكلام أو بعامل جملي (2) . 2 ) قوله ، " فتنصبه بأصل الاستثناء على معنى ولكن " ينقض مبدأ ثابتا لا يتخلف

__________

(1) المبرد ، المقتضب ، ج 4 ، ص . 412 .

(2) للمزيد من التفصيل ، انظر محمد الأوراغي ، " إعراب الناسخ الحرفي " صص . 31 - 65 ، من مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية،العدد 19 سنة 1994 ، واكتساب اللغة ، ص . 252 ، مبحث " نسق ( إلا ) الاستثنائية " .

 

(1/5354)

 

 

أبدا ، عبر عنه ابن النحاس ونقله عنه السيوطي فقال : " كل ما تضمن ما ليس له في الأصل منع شيئا مما له في الأصل (1) " بمعنى إذا خرج عنصر إلى باب غيره منعه ذلك أن يكون له عمل بابه ، بمقتضى هذا المبدأ الفعل ( قال ) ر يعمل في مكونات الجملة وهو في بابه ،كما في ( قالوا هذه أنعام ) ، لكنه إذا خرج إلى باب ( ظن ) عمل ، كما في ( أتقول العقل نقمة ) .

... ... ومن مظاهر اضطراب الخطاب المتناول للمفهوم الفاشل قول ابن السراج " وليس منهاج الاستثناء المنقطع منهاج

__________

(1) السيوطي ، الأشباه والنظائر ، ج 1 ، ص . 228 .

 

(1/5355)

 

 

الاستثناء الصحيح (1) . ألفاظ هذه العبارة نابية قلقة لأن التقابل يكون بين الصحيح والخاطئ لا المنقطع إلا إذا كان بمعناه ، وأن كلمة الاستثناء لا تطلق على بنية إلا توافرت فيها جميع شروط صحتها ، وفي هذه الحالة لا مبرر لتقييد اسم البنية بوصف صحيح ، ولا تطلق أبدا على بنية ليست على منهاج الاستثناء ، ولذلك ما ستعمل سيبويه قط كلمة الاستثناء في الباب الذي تناول فيه تراكيب استعملت فيها ( إلا ) بمعنى ( لكن ) لانعدام علاقة الانتماء .

__________

(1) ابن السراج ، الأصول في النحو ، ج 1 ، ص . 292 .

 

(1/5356)

 

 

... ... وتزداد حدة الاضطراب في الخطاب المتناول للمفهوم الفاشل في ثنائية الاتصال والانقطاع مع ابن الناظم في شرحه لألفية أبيه (1) إذا احتفظ بعلاقة الانتماء لكلا القسمين، وجعلها في المنقطع تقوم بين متراكبين يدل أحدهما بالمفهوم (2)

__________

(1) انظر ابن الناظم ، شرح ألفية ابن مالك ، ص . 288 .

(2) دلالة المنطوق ، ودلالة المفهوم من رواسم علم الأصول . يطلق الأول على المعنى المدلول عليه بعبارة لا تحتمل ألفاظها معنى غيره ، ويطلق الثاني على المعنى اللازم عن دلالة المنطوق . للمزيد من التفصيل ، انظر الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول ، ص . 164 " كتاب التأويل " ، ص 208 " كاتب المفهوم " والأسنوي نهاية السول في شرح منهاج الأصول ، ج 1 ، صص . 194 - 205 .

 

(1/5357)

 

 

، وهي في المتصل قائمة بين متراكبين دالين بمطوقهما ، وهم بجعل لكلا القسمين أدوات خاصة ، وجرد " إلا " و «لكن " من التقارض و التعاوض . و إلى هاتين الأداتين يرجع لوصف بنية بالاستثناء أو الاستدراك بشرط أن تتراكب فيها ألفاظ تدل بالمفهوم . وهكذا تحتمل الجملة (9 ) الآتية الاستثناء والاستدراك تبعا لتعاقب أداتيهما عليها .

... ... ( 9 ) لاعيب فيكم ... ... إلا ... ... ... أقلامكم جفت

... ... ... ... ... لكن

... ... وهذا أمر لا يجوز النسق إذ يمنع أن يتوارد العنصران في موقع معين من البنية وهما بمعنى.

 

(1/5358)

 

 

... ... ولعل ما قدمناه هنا كاف للوقوف على أهمية الملاسنة المتوافقة ، بوصفها عملية تتعقب أفكار للكشف عن شعبها ، وتحللها لاستكناه أصولها ، وتقارن بين المتغاير لتعيين مواطن الخلل في ضعيفها ، وجوانب القوة في الوارد منها ، وبذلك لا غير يحصل للملاسن صناعة النحو .

... ... 2 . 2 - الملاغاة ...

... ... سبق أن بينا أن الملاغاة ممارسة تنظر إلى اللغة بوصفها مادة للتحليل التاريخي إذ تلاحق بنيتها المتحولة ، وتتعقب تطورها في الإتجاهين للكشف عن العوامل المسؤولة عن انسلال نسق لاحق من سابق ، وتحديد المندرس من

 

(1/5359)

 

 

وقائع النسق مقرونا بعلة اختفائه و ظهور بديله الذي يعوضه . إذن، من المباحث الرئيسية في الملاغاة تحديد أسباب عدم استقرار اللغات .

... ... أسباب تغيير اللغات في تصور من سبق (1) يمكن تجميعها في صنفيين :

1 ) أسباب خارجية ، كالزمن و إن كان من العوامل الضعيفة التأثير إذ لم يربط بالعامل الثاني الذي هو الاستعمال المرتبط بالجماعة التي تمارس العمل اللغوي تكلما ودراسة؛

__________

(1) أنظر مقال Peter Wunderli, « sassure et la diachronie », PP.134.199, dans La Linguistique

 

(1/5360)

 

 

2 ) أسباب داخلية ترجع إلى محرك واحد يتمثل في الطابع الوضعي للغة المتحقق في العلاقة الاعتباطية بين الرمز ومدلوله.

... ... تبدل اللغة، كما جاء في المقال المشار إليه في الطرة ( 48) ، لا يحدث بإرادة المتكلمين، ولا يحصل دفعة واحدة، إنه يحدث في مجال الكلام الفردي، ومنه يصير إلى اللغة، وهو يمس نقطا بعينها في النسق ليتسرب بناء على مبدأ التساند إلى غيرها لكن كيف يمكن الاهتداء إلى المتغيرات في اللغة.

... ... سبق أن ذكرنا أن تحول الوقائع وانتقالها عبر أطوار متلاحقة ينفلتان للملاحظة، لأن حدوث أي تغيير

 

(1/5361)

 

 

ببنية اللغة لا يقع تحت أعين المتلاغين، ومع ذلك يمكن التماس الجديد في النسق عن طريق المقارنة بين الاستعمال الآني للغة كما هي متصورة في أذهان المتكلمين بها وبين وصفها السابق المدون في كتب النحو. بالمقارنة بين حاضر اللغة وماضيها تنكشف قطعها المتآكلة المعوضة بأخرى حديثة، ويظهر المستعمل في نسقها الحالي بديل المهمل المنتمي إلى نسقها السابق. وكأن تطور وقائع اللغة يخضع لمبدأ التطارد، بحيث يؤدي بزوغ عنصر نسقي جديد إلى أفول الطريد.

 

(1/5362)

 

 

... ... بقي أن نثير في هذا التمهيد للملاغاة أسئلة تخص أنماط التغيير الذي يلحق اللغة، أولها يمس أصوات اللغة باعتبار هذا القطاع من أكثر فصوص اللغة قابلية للتغيير غير الإداري. فتعايشت فيه التصويتات (1) الوظيفية بجانب بدائلها المجردة من الوظيفة، سبب القابلية المذكورة كون فص الأصوات الأكثر ارتباطا بالإنجاز الفردي للغة، وفيه تنعكس الاستعدادات الطبيعية للمتكلمين باللغة المعنية. إذن اختلاف الأمزجة وأعضاء جهاز التصويت البشري عامل فعال في تغاير أصوات اللغات

__________

(1) التصويتة المقابل للراسمة الأجنبية Phonème. .

 

(1/5363)

 

 

وتبدلها. وقد قارن الفارابي (1) اختلاف الأمزجة بأصل الخفة فكون منهما سببا قويا يولد تنويعا في أصوات اللغة وتبدلا.

__________

(1) عن السبب المذكور عبر الفارابي فقال : " إذا كانت أعضاؤهم على خلق وأمزجة مخالفة أولئك مفصورين على أن تكون حركة ألسنتهم إلى أجزاء من داخل الفم أسهل عليهم من حركتها إلى الأجزاء التي كانت ألسنة أهل المسكن الآخر التي تتحرك إليها فتخالف حينئذ التصويتات التي يجعلونها علامات يدل بها بعضهم بعضا على ما في ضميره" كتاب الحروف، ص.136.

 

(1/5364)

 

 

... ... وبموازاة أصوات اللغة يأتي معجمها من حيث القابلية للتغيير، لكن التغيير هذه المرة إرادي بحكم ما ينشأ لتوسيعه من مؤسسات التعريب والترجمة. والازدهار التغيير في قطاع المعجم تكونت لغة خاصة بوصف حركة مواده، كالمولد، والدخيل، والمعرب، والنقل أو استئناف الوضع، وفي مقابل هذه الأصناف نجد الضعيف، والمنكر، والمتروك، والشوارد، والنوادر، والمهمل(1) .

__________

(1) للتوسع في حدود الرواسم المذكورة، أنظر السيوطي ، المزهر.

 

(1/5365)

 

 

... ... ولاشتداد العلاقة بين المعجم من جهة وقطاعي التصريف والتركيب من جهة أخرى فإن التغيير الذي يمس دلالة معجمية قد يسبب في تسريب التغيير إلى فصي التصريف فالتركيب، وهذان المكونان أقل تأثيرا بعوامل التغيير.

 

مصادر البحث

( أ) باللغة العربية

... ... - أبو البركات الأنباري، نزهة الألباء في طبقة الأدباء، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، 1386 هـ.

... ... - أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، دمشق، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1385 هـ.

 

(1/5366)

 

 

... ... - أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، الدار البيضاء، دار الثقافة، 1406 هـ.

... ... - ابن جني، سر صناعة الإعراب، دمشق، دار القلم، 1405 هـ.

... ... - المصنف ، القاهرة، البابي الحلبي، 1373هـ.

... ... - الخصائص، القاهرة ، دار الكتب، 1371 هـ.

... ... - ابن خلدون ، المقدمة، القاهرة، بولاق، 1274 هـ.

... ... - ابن السراج، الأصول في النحو، بغداد، مطبعة سلمان الأعظمي، 1393 هـ.

... ... - ابن فارس ، معجم مقاييس اللغة، القاهرة، البابي الحلبي، 1389 هـ.

 

(1/5367)

 

 

... ... - ابن الناظم، شرح ألفية ابن مالك، بيروت، دار الجيل، دون تاريخ.

... ... - ابن هشام، مغنى اللبيب، دمشق، دار الفكر، 1384 هـ.

... ... - شرح شذور الذهب، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، دون تاريخ

... ... - ابن يعيش، شرح المفصل ، بيروت، عالم الكتب، دون تاريخ.

... ... - سيبويه، الكتاب، بغداد، مكتبة المثنى عن بولاق، 1316 هـ.

... ... - علي بن يوسف القفطي، إنباه الرواة على أنباء النحاة، القاهرة، دار الكتب، 1369 هـ

... ... - الأسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، بيروت، عالم الكتب، 1982.

 

(1/5368)

 

 

... ... - الجويني، الإرشاد إلى قواطع الأدلة من أصول الاعتقاد، القاهرة، مطبعة السعادة، 1369هـ.

... ... - الزجاجي ، الإيضاح في علل النحو، بيروت، دار النفائس، 1399 هـ.

... ... - الزمخشري، المفصل في علم العربية ، القاهرة، مطبعة حجازي، دون تاريخ.

... ... - السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، دون تاريخ

... ... - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، القاهرة، البابي الحلبي 1384 .

... ... - لباب النقول في أسباب النزول، بيروت ، دار إحياء العلوم، 1400 هـ.

 

(1/5369)

 

 

... ... - الأشباه والنطائر، مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق، 1406 هـ.

... ... - الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول، دمشق، 1390 هـ.

... ... - الفارابي، إحصاء العلوم، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968 .

... ... - كتاب الحروف، بيروت، دار المشرق، 1969.

... ... - القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دون تاريخ.

... ... - القرافي ، الاستفتاء في أحكام الاستثناء، بغداد،وزراة الأوقاف والشؤون الدينية، 1402 هـ.

 

(1/5370)

 

 

... ... - المبرد، المقتضب، القاهرة، لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1399 هـ.

... ... - محمد الأوزاغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، الرباط، دار الكلام 1900.

... ... - إعراب الناسخ الحرفي، ضمن مجلة كلية الآداب، الرباط، عدد 19 سنة 1994.

( ب) بغير العربية :

Anika L., Jacques Lacan, Buxelles, 1977.

Austin J.L, Qaund dire c’est faire, seuil, Paris , 1970.

Bloomfield L, le language, payot, Paris 1970.

Buridand C., définition de la diachronie, linguuistique génétique, PUL, 1988.

 

(1/5371)

 

 

Chomsky N., La Linguistique cartésinne, Seuil, Paris, 1966.

... ... Théorie du gouvernement et du liage, Seuil, Paris, 1991.

Engler E, L’apport de Genéve, linguistique génétique, PU. de lille, 1988.

Peeters C, Grammaire historique et linguistique génétique, PUL, 1988.

Seorle J.R., les actes de language, Herman, Paris,1972.

Umberro E. La recherche de la language parfaite, Seuil, Paris, 1994.

Wunderlil. P., Saussure et la diachronie, linguistique génétique, PUL, 1988.

 

(1/5372)

 

 

المآذن الطينية بمنطقة حوض الفرات الأوسط وصيانتها في سورية

 

... ... ... ... ... ... الأستاذ شوقي شعت

... ... ... ... ... أمين المتحف الوطني بحلب - سورية

 

تنتشر المآذن الطينية في منطقة الفرات الأوسط في سورية، وبتعبير أدق في ما بين دير الزور ومسكنة / بالس. فهناك واحدة في بالس / مسكنة، وثانية في منطقة أبي هريرة، وثالثة في قلعة جعبر، ورابعة في مدينة الرافقة / الرقة، وخامسة في دير الزور (1)

__________

(1) هدمت هذه المئذنة عند إزالة الدير العتيق بدير الزور قبل نحو عشرين سنة أو أكثر بقليل. وبإزالتها فقدت العمارة الإسلامية في سوريا نموذجا هاما من نماذج العمارة الطينية لسوريا. وأغلب الظن أنها كانت مئذنة مثمنة الشكل.

 

(1/5373)

 

 

. وبالطبع، لا يقتصر انتشار هذا النوع من المآذن الطينية على سوريا. فهناك نماذج منها في العراق الذي يعتقد أن هذا النمط قد نقل منه أو من إيران، وهناك أخرى في جنوب شرقي تركيا. وسيقتصر موضوعنا على المآذن الطينية في سورية فقط.

ربما سأل سائل لماذا بنيت هذه المآذن من الطين المشوي بهذه المنطقة دون غيرها من المناطق الأخرى في سوريا ؟ وقد يكون الجواب على هذا السؤال هو عدم وجود حجارة تستطيع مقاومة التقلبات المناخية كما هو الحال في المدن السورية الأخرى مثل حلب ودمشق وحماه واللاذقية وغيرها، فلا شك في أن هذه

 

(1/5374)

 

 

الإجابة صحيحة إلى حد كبير. فالحجارة المتوافرة في هذه المنطقة التي سبقت الإشارة إليها هي من نوع الحجر الطباشيري الطري الذي لا يقاوم طويلا الرياح أو تقلبات الطقس، كالمطر. إلا أنه توجد أسباب أخرى، منها أن المنطقة تتعرض للزلازل والطوب المشوي ( القرميد) أكثر مرونة من الحجارة. وعليه، لا تتأثر الأبنية الطينية بالزلازل تأثر الأبنية الحجرية بها . وهناك سبب ثالث هو أن ارتفاع درجة الحرارة في هذه المنطقة نهارا وانخفاضها ليلا قد يجعل البناء الطيني أكثر مناسبة في هذه المنطقة من البناء الحجري. وهناك سبب رابع

 

(1/5375)

 

 

اقتصادي :فالبناء بالطين قد يكون أقل تكلفة. ومهما يكن الأمر، فقد تكون الأسباب التي أتينا على ذكرها هي التي دفعت المعماريين إلى استخدام الطين المشوي في البناء لضمان مقاومته لعاديات الزمن (1) .

ولا شك في أن هذه المآذن أقيمت بجوار المساجد ملاصقة لها أو منفردة في الصحن أو خارجه لمناداة الناس لإقامة الصلاة في أوقاتها أساسا، لكن البعض يضيف بأنها اتخذت أبراجا للمراقبة.

__________

(1) هناك استخدام للطوب المشوي في العصور التي سبقت العصر الإسلامي. فهناك أمثلة على ذلك في بالس وقصر ابن وردان وغيرها من المواقع السورية.

 

(1/5376)

 

 

ويسوغ قبول هذا الرأي وقوع تلك المآذن في مواقع استراتيجية هامة. فمئذنة بالس / مسكنة تمكن الرائي في يوم صاف من مشاهدة القادم، من بعيد ، في جميع الجهات، وخاصة القادم من الجانب الآخر من نهر الفرات. فمن مئذنة مسكنة / بالس يمكن مراقبة العدو القادم من الجزيرة السورية.

وقس على ذلك مئذنة أبي هريرة التي كانت تنتصب فوق مرتفع من الأرض تحرس منطقة يقول البعض إنها مناسبة لعبور النهر، ناهيك عن أنها مقابلة لقلعة جعبر. أما مئذنة قلعة جعبر، فهي - ولا شك - أكثر المآذن الطينية في حوض الفرات ارتفاعا حيث تتوسط قلعة

 

(1/5377)

 

 

جعبر المرتفعة. فإذا أضيف هذا الارتفاع إلى ارتفاع المئذنة نفسها، أمكن بسهولة رصد التحركات في الجزيرة السورية أو منطقة الشامية. ويمكن تصور الأمر نفسه في حالة مئذنة الرقة، ومئذنة الدير العتيق في مدينة دير الزور (1) .

__________

(1) يقول الأستاذ الدكتور فريد شافعي ( في كتابه العمارة العربية في مصر الإسلامية، ص .648 ) : "شيدت المنارات في أقطار العالم الإسلامي لتؤدي معظمها وظيفتي الأذان والمراقبة، وخاصة في المساجد والأربطة الواقعة على سواحل البحر أو القريبة منها".

 

(1/5378)

 

 

كيف عرف المسلمون المئذنة ؟ وما الشكل الذي اتخذوه في بنائها ؟ هل هو مربع أو مستدير ؟ للإجابة على هذا السؤال ؟ يذكر كريزويل (1) أن المئذنة لم تكن معروفة عند ظهور الإسلام. ولكن بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة كانوا يصلون دون أذان، حسب قول ابن هشام؛ وعندما علموا أنه كان لليهود بوق ( شوفار) وللمسيحيين ناقوس أرادوا أن يكون لهم

__________

(1) K.A.C. Creswell, Early Islamic Architecture, a Pelican Book, Penguin, 1958, P .5.

 

(1/5379)

 

 

... شيء مماثل لصلاتهم، فأمر الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤذنه بلال بالأذان من فوق أعلى سطح مجاور و أصبح لزاما على المسلمين إقامة شعائر الأذان من فوق منطقة مرتفعة. ومع الزمن، أصبح لذلك تقاليد فرضت أشكالا خاصة في تصميم المئذنة (1) أو المنارة التي أضحت عنصرا معماريا إسلاميا متطورا مع الزمن تطلب عمله بناء على تعاليم الدين الإسلامي.

استعمل العرب المسلمون ثلاثة تعابير للدلالة على المئذنة هي : المئذنة والصومعة والمنارة. فقد اشتقت الكلمة الأولى من الأذان، وبذلك

__________

(1) فرسد شافعي ، مرجع مذكور، ص.684.

 

(1/5380)

 

 

تعني المئذنة المكان الذي ينطلق منه الأذان. أما الكلمة الثانية، فقد اشتقت من الاسم الذي أطلقه العرب على أبراج النساك Hermits Towers) في الكنائس السورية. ومن هنا ربما جاءت كلمة الصومعة في شمال إفريقيا كما شاع الشكل المربع، وحمل هذا الشكل مع العرب إلى إسبانيا ودخل اللغة الإسبانية باسم زوما ( Zoma) (1) . أما الكلمة الثالثة، أي المنارة، فتعني المكان الذي تشغل فيه النار. ومن أمثلة ذلك في الشمال الإفريقي منارة جامع مدينة سوسة ( 245 هـ / 860 م) المربعة المسقط

__________

(1) Creswell, Op cit , P : 14 and P : 156.

 

(1/5381)

 

 

(1) . وعليه ، فإن أغلب الظن أن جميع مآذن العالم الإسلامي المبكر كانت تتبع تكوينا معماريا مشتركا مشابها لمئذنة جامع القيروان المربعة أو قريبا منها. وينحصر الاختلاف في النسب المعمارية للأجزاء العلوية من المئذنة أو أبدانها (2) . ومما يستوقف النظر أن مآذن الشام حتى القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي كانت تخضع في الأجزاء الرئيسية منها الشكل المربع في مسقطها، بينما تخضع تلك الأجزاء - أي بدن

__________

(1) فريد شافعي ، مرجع مذكور ، ص .648 ؛ و 14 . Creswell , Ibid , P

(2) فريد شافعي ، المرجع نفسه ، ص.643،646.

 

(1/5382)

 

 

المئذنة - في العراق وفارس للشكل الدائري الأسطواني الذي كان يوضع فوق قاعدة مربعة المسقط، متفاوتة الارتفاع، ولكن لا يزيد ارتفاعها عن ارتفاع البدن الأسطواني، وأحيانا كانت البداية من فوق السطح العلوي الجامع. وربما كان أقدم مثل لهذه المنارات ببلاد الشام هو منارة قصر الحير الشرقي التي يعود تاريخها إلى حوالي 110 هـ/ 729 م، ومنارة جامع المنطير بالقرب من الرقة. أما منارات العراق، فأقدم مثل لها هو بناء المحضة ويرجع تاريخها هي وقصر الأخيضر إلى حوالي عام 161 هـ؛ إذ كان شكلها أسطوانيا، وخاصة البدن منها،

 

(1/5383)

 

 

الذي يرتكز على قاعدة مربعة المسقط شيدت بالآجر، وهي ناقصة في جزئها العلوي؛ ويبدو أنها شيدت وسط الصحراء لتكون علامة يهتدي بها من يقصد الأخضير الذي شيد بعيدا عن العمران، أو لتكون علامة يهتدي بها من يقصد الأخيضر الذي شيد بعيدا عن العمران، أو لتكون نقطة ارتكاز ساكني القصر (1) .

بعد هذه العجالة القصيرة، نأتي إلى مآذن الفرات الأوسط الطينية في سوريا لنتحدث عن تاريخ بنائها وطبيعة هذا البناء، وعن أشكالها وتزييناتها وصيانتها والوسائل والطرق التي اتبعت في الحفاظ عليها، ولا سيما بعد

__________

(1) المرجع نفسه ، ص.647.

 

(1/5384)

 

 

أن أصبحت مهددة مع غيرها من البقايا الحضارية في منطقة الفرات الأوسط.

تأتي في طليعة تلك المآذن :

1- مئذنة الجامع الكبير في بالس / مسكنة

تتخذ هذه المئذنة شكلا مثمنا، خلافا لمئذنة جعبر ومئذنة أبي هريرة وجميع المآذن في منطقة حوض الفرات. وهي تعود إلى أوائل القرن السابع الهجري، إلا أنها ربما كانت أقدم مئذنة مثمنة في سورية ترتفع إلى نحو سبع وعشرين مترا ويقوم بدنها فوق قاعدة مربعة، بابها عند مستوى الأرض - خلافا لباقي المآذن الأخرى الطينية في حوض الفرات - وتزيينها عدة أشرطة من الكتابات (1)

__________

(1) عبد القادر ريحاوي، "إنقاذ منطقة سد الفرات"، الحلويات الأثرية السورية، مجلد 15، ج1، ص.65.

 

(1/5385)

 

 

. وصف "فان برشم" بعض هذه الكتابات الموجودة على مئذنة مسكنة / بالس بأنها تقع في أربع حواش. ولا شك المئذنة هو بين عامي 589 و 615 هـ / 1193 - 1218 م.وتشير الكتابة الثانية الكوفية إلى التاريخ الحقيقي لبناء المئذنة أو تجديدها. وحسب "برشم"، فإن الكتابة هي : "بسم الله الرحمن الرحيم جددت هذه المئذنة سنة سبع وست مائة"،أي إبان حكم الملك العادل في عام 607 هـ لبالس. إذ تذكر كتب التاريخ أن الملك الظاهر غازي حاكم حلب كان قد تخلى عن بالس لعمه العادل قبل موته عام 613 هـ. وإن أمعنا النظر في الكتابات الموجودة

 

(1/5386)

 

 

على المئذنة، نجدها ثلاثا وهي من الأسفل إلى الأعلى : الكتابة الأولى كتابة نسخية وتضم اسم السلطان والمعمار؛ الكتابة الثانية وهي بالكوفية وتشير إلى تاريخ البناء؛ أما الكتابة الثالثة، فهي كوفية وتشير إلى مدائح وتعابير.

تمتاز المئذنة بالانسجام وأناقة الزخرفة الكتابية مع شكل المئذنة المثمن. ونجد في مئذنة سنجار مشابها ومعاصرا لمئذنة بالس؛ كما أنها تشبه المآذن العراقية في أسلوب بنائها الذي كان شائعا في القرن السابق والذي كان واقعا تحت تأثير الفن الإيراني السلجوقي. إلى جانب هذه المئذنة كان يقوم جامع سال

 

(1/5387)

 

 

ودولوريه تنقيبات أثرية عام 1932، أماطت اللثام عن أن الجامع كان مزينا بزخارف جصية عليها نباتات وكتابات.

يبلغ ارتفاع هذه المئذنة نحو 27 مترا (1) . ولقد أوجبت أعمال الإنقاذ في منطقة حوض الفرات نقل هذه المئذنة إلى منطقة مرتفعة بمسكنة نفسها حفاظا عليها من المياه. وقد نفذت أعمال النقل الذي تم بواسطة تقطيعها إلى قطع، ثم أعيد تركيبها في المكان الجديد. والحق يقال إن النقل تم بكفاءة عن طريق فنيي ومهندسي المديرية

__________

(1) المهندس يوسف جبلي، آثار الفرات، معرض مكتشفات الحملة الدولية لإنقاذ الفرات، 1974، ص.22.

 

(1/5388)

 

 

العامة للآثار والمتاحف بالطريقة نفسها التي سبق أن اتبعت في نقل مئذنة أبي هريرة مع مراعاة طول المئذنة ووزنها وقطرها وتصميم درجها الذي يختلف نسبيا عن درج مئذنة أبي هريرة (1) . وإذا اطلعنا على ما كتب في دليل معرض المكتشفات الأثرية بحوض الفرات، وجدنا أن جهودا كبيرة بذلت في حقل الدراسات والتوثيق والأعمال الأخرى. فمن بين تلك الأعمال بناء سقائل

__________

(1) المرجع نفسه والصفحة نفسها. ولمزيد من التفصيل عن مئذنة بالس / مسكنة، أنظر : الحوليات الأثرية العربية السورية، تعريب كامل عياد، المجلدات 4 و 5 ( 1954 و 1955 ).

 

(1/5389)

 

 

خشبية بارتفاع ثلاثين مترا، نظرا لصعوبة الحصول على رافعة آنذاك يبلغ طول ذراعها ثلاثين مترا؛ كما جرى تقطيع المئذنة إلى الفقرات ووضعت على عربات حديدية تتحرك على سكة حديدية صممت خصيصا لهذه الغاية. وجرى نقل تلك الفقرات إلى المنطقة التي اختيرت لإقامة المئذنة فيها عند منسوب يصل إلى حوالي 345 م فوق سطح البحر. وعلى الرغم من أن هذا المكان لا يبعد سوى كيلو متر واحد في خط النظر، إلا أنه كان لابد من قطع مسافة نحو ثلاثين كيلو مترا للوصول إلى المكان الجديد. وفي هذا المكان الجديد حفرت الأسس وأقيمت ركائز "

 

(1/5390)

 

 

البيتون" المسلح وأعيد تركيب السقائل الخشبية مرة جديدة لبناء المئذنة أو على الأصح لتركيب حلقاتها (1).

هكذا حفظت آبدة جميلة هي مئذنة مسكنة التي بناها أو جددها السلطان العادل أبو بكر الأيوبي في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي. وهذه الآبدة كانت موضع دراسة مفصلة لتكوينها المعماري وزخرفتها وكتاباتها (2) . وكان يقوم بجوار المئذنة مسجد ذو طابع أموي واضح يبدو أنه

__________

(1) يوسف جبلي، مرجع مذكور، ص.22،23.

(2) تمت قراءة شريط الكتابة الأخير الذي كان مستعصيا على الباحثين ( دليل مكتشفات حوض الفرات،ص.111).

 

(1/5391)

 

 

أقيم فوق مسجد أقدم، أصغر من قبل البعثة الفرنسية في الفترة ما بين ( 1970 - 1973 ). فتبين أن أحدث مراحله تعود إلى العهد الأيوبي ولم تكتشف أي معالم بيزنطية تحت هذا المسجد الأول (1) .

 

2- مئذنة جامع الرقة

وفي الرقة مسجد جامع له مئذنة مستديرة الشكل تقع في باحته الداخلية، وهي من أعمال نور الدين محمود الزنكي، وتشبه إلى حد كبير مئذنة أبي هريرة ومئذنة قلعة جعبر اللتين سيأتي الحديث عنهما. أحيطت المئذنة في أعلاها بشريط نباتي حجري يتضمن كتابات تشير إلى أن بانيهما هو نور الدين محمود، كما

__________

(1) المرجع نفسه.

 

(1/5392)

 

 

أشرنا، وعليها ألقابه. بنيت المئذنة بالآجر الذي يبلغ طوله نحو 23.5 سم. أما ارتفاعها، فيبلغ نحو عشرين مترا (1) . وأقيمت فوق قاعدة حجرية كلسية منحوتة جددت عدة مرات كان آخرها عام 1986 (2) .

لقد ارتبط مصير هذه المئذنة بمصير المسجد الجامع بالرقة. فكان العمران والخراب يتناوبان عليهما. ويعود بناء المسجد إلى عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، أي إلى زمن بناء مدينة الرافقة عام 155 هـ/ 772 م (3)

__________

(1) مجموعة من الباحثين، الرقة درة الفرات، دمشق، 1992، ص.314.

(2) المرجع نسفه ، ص.315.

(3) قاسم طوير، الحوليات الأثرية العربية السورية، م 34، 1984، ص.60/ ب؛ الرقة درة الفرات، مرجع مذكور،ص.313.

 

(1/5393)

 

 

. وفيه تجتمع خصائص المسجد الرافدي ( الكوفة) والمسجد الشامي- الأموي. فالأبراج نصف الدائرية في زواياه تذكر بمسجد الكوفة. أما حرمه المؤلف من ثلاثة مجازات، فتذكرنا بطراز جامع دمشق (1) . لقد توالت أعمال التجديد والترميم على هذا المسجد ومئذنته؛ إلا أنها أهمها كان ذلك الذي تم في عهد نور الدين محمود الزنكي عام 561 هـ / 1159 م. وهذا ما تؤيده لوحة كتابية بالخط النسخي وتوجد في منتصف واجهة ما تبقى من الأقواس الجنوبية. وتقول : "الزاهد المجاهد المظفر المنصور نور الدين

__________

(1) قاسم طوير، المرجع نفسه والصفحة نفسها.

 

(1/5394)

 

 

ركن الإسلام والمسلمين أبو القاسم محمود بن أتابك بن أفه سنقر ناصر أمير المؤمنين. وذلك في شهور سنة إحدى وستين وخمسمائة" (1) .

يصف كريزويل جامع الرقة قائلا : "يقع الجامع الكبير في الرقة في النصف الشمالي من الرافعة، وهو يتألف من مستطيل تبلغ أطواله 108.10x 92.95 وتحيط به بقايا من الأسوار الطينية المقواة بأبراج نصف دائرية" (2)

__________

(1) الرقة درة الفرات، مرجع مأثور، ص.313.

(2) Crewell, Opcit., Early Musium Architecture, P .187. . ويورد كتاب " الرقة درة الفرات" في ص.317. أن أطول الجامع هي 98x110 سم. وهي مختلفة قليلا عما ذكره كرزويل.

 

(1/5395)

 

 

نجد في باحة المسجد ضريحا هو لأبي سعيد قسيم الدولة المتوفى عام 541 هـ على ما يذكره بعض المؤرخين. ويضيف البعض أن السطان السلجوقي محمود بن محمد ملكشاه بن ألب أرسلان كان قد ندبه لولاية ديار الموصل في البلاد الشامية بعد مقتل سنقر البريسقي (1) .

3- مئذنة أبي هريرة :

تقع هذه المئذنة المستديرة فوق جبل يعرف باسم جبل بنات أبي هريرة بالقرب من قرية "الكرين". وهي ترتفع ب 287 م فوق سطح البحر (2) . ويعتقد البعض أنه بالقرب من

__________

(1) الرقة درة الفرات، مرجع مذكور، ص.314.

(2) دليل مكتشفات حوض الفرات، مرجع مذكور، ص.20.

 

(1/5396)

 

 

موقع أبي هريرة جرت موقعة صفين المشهورة بين علي ومعاوية تولى بعدها معاوية بن أبي سفيان الخلافة الإسلامية مؤسسا بذلك الحكم الأموي (1).

مئذنة أبي هريرة مئذنة مستديرة الشكل مبنية بالقرميد الطيني، تقوم على قاعدة مربعة. ويبلغ ارتفاع هذه المئذنة نحو خمسة عشر مترا، وقطرها نحو 3.5 م؛ ويقع إلى جانبها آثار جامع دارس. وهي في ذلك تشبه مئذنة قلعة جعبر ومئذنة جامع المنصور بالرقة (2)

__________

(1) Middle East Guide, Hacette, 1966, P .484

(2) قاسم طوير، الحوليات الأثرية، مرجع مذكور ، م 34، 1984 ، ص.62 / ب؛ عبد القادر ريحاوي، "إنقاذ..."، مرجع مذكور، م 15، ج1، ص.65.

 

(1/5397)

 

 

. ونظرا لأن هذه المئذنة تقع على ارتفاع 287 م فوق مستوى سطح البحر، فإنها معرضة للغرق كليا. ولذلك تطلب الأمر دراسة إمكان نقلها إلى مكان بعد دراسات مستفيضة للاقتراحات المطروحة. وقد طبقت الطريقة نفسها التي طبقت في حالة نقل مئذنة مسكنة، أي قطعت إلى قطع حتى يتسنى بعد ذلك نقلها إلى مكانها الجديد. ويذكر الباحث أنه جرى احتفال رسمي لذلك الغرض حضره لفيف من المسؤولين والمهتمين مساء يوم 30 آب من عام 1972.وكان الكاتب يشغل آنئذ وظيفة مدير آثار المنطقة الشمالية ومتاحفها. وفي بدء العمل تم قص أولى فقراتها وفكها

 

(1/5398)

 

 

وتنزيلها في ذلك الاحتفال. وانتهى العمل من إعادة بنائها في منتصف كانون الأول عام 1973 (1) .

يذكر البعض أن المئذنة بعد إعادة إقامتها، أصبحت أحسن حالا مما كانت عليه في مكانها القديم؛ كذلك أصبحت الشاهد الأثري الوحيد الذي يمثل حضارة حوض الفرات في أحدث مدينة من مدن القطر العربي السوري. ولا شك في أن الأمر يحتاج إلى متابعة لتحسين وضع تلك المئذنة وتشجيع زيارتها؛ وإلا شعرت بالغربة والإهمال، وحينها تعود سيرتها الأولى يوم كانت تقوم فوق جبل أبي هريرة لا تؤنسها

__________

(1) دليل مكتشفات حوض الفرات، مرجع مذكور، ص.21.

 

(1/5399)

 

 

سوى بنات أبي هريرة وتاريخ موقعة صفينالذي يعود إلى مطلع العهد الإسلامي بسوريا (1) .

 

4- مئذنة قلعة جعبر

عرفت قلعة جعبر باسم "قلعة دوسر" . وأكبر الظن أنها بنيت في العهد

السلجوقي ( القرن الخامس الهجري) : أخذها السلطان ملكشاه السلجوقي من صاحبها النميري من سابق القشيري عام 477 هـ أو 479 بعد أن قتل؛ وسلمها ملكشاه إلى سالم بن مالك بعد أن تسلم حلب منه وظلت بيد أولاده وأحفاده من

__________

(1) نقيت في المكان بعثة لمدة قصيرة جدا، وكنا نأمل أن نعرف تاريخ الموقع على وحه الدقة؛ إلا أن البعثة لم تنشر أي شيء عن تنقيباتها.

 

(1/5400)

 

 

بعده. ويبدو أن النميري هو الذي أعطى القلعة الاسم الذي لا تزال تحمله إلى يومنا هذا. ثم أخذها السلطان نور الدين محمود الزنكي عام 564 هـ. وظلت عامرة في العهدين الأيوبي والمملوكي. ويذكر أن نائب الشام المملوكي سيف الدين تنكز عندما كلف بترميمها، بذل جهودا كبيرة وأنفق أموال الخزينة بالشام من أجل ترميمها وإصلاحها. وبعد ذلك، أخذت مكانتها تضعف تدريجيا حتى عفا عليها الزمن في العصر العثماني. يتوسط القلعة جامعها الكبير الذي تقوم بجواره مئذنة مستديرة تتخذ شكل أسطوانة ترتكز على قاعدة م بعة مبنية بالآجر تنصب

 

(1/5401)

 

 

بطول نحو ثمان وعشرين مترا، وتعد من أجمل المآذن وأضخمها في سورية. ويوجد في أعلاها نص كتابي يشير إلى أن بانيها أو مجددها هو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي. وهي تشبه مئذنة المسجد الجامع في مدينة الرافقة / ومئذنة أبي هريرة، وهما من القرن السادس الهجري والثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي (1). ويرجح أن يكون هذا المسجد قد تهدم عام 658 هـ عند اجتياح المغول للقلعة والعالم الإسلامي الغربي. وأكبر

__________

(1) عبد القادر ريحاوي ، "إنقاذ...." مرجع مذكور، ج1، م15، ص.65؛ دليل مكتشفات حوض الفرات، مرجع مذكور، ص 44.

 

(1/5402)

 

 

الظن أن القلعة ظلت خرابا فترة طويلة من الزمن حتى قام المماليك بترميمها سنة 735 هـ. وبخصوص الشواهد الكتابية المتعلقة بالقلعة، فلدينا النص الذي أشرنا إليه سابقا، وهو عبارة عن

نص تأسيسي يقول : " هذا ما أنشأ مولانا الملك العادل المجاهد نور الدنيا والدين، ركن الإسلام والمسلمين ، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين" (1) .

5- مئذنة الدير العتيق بدير الزور :

__________

(1) أنظر عبد الرزاق ، دليل قلعة جعبر، نشر المديرية العامة للآثار والمتاحف.

 

(1/5403)

 

 

كان يوجد في الحي القديم من مدينة دير الزور مسجد تقوم إلى جواره مئذنة مضلعة على الأرجح (1). وكانت في الوقت الذي شاهدتها فيه في وضع جيد. إلا أنه من سوء الحظ حدث ما يحدث في كثير من المدن العرية القديمة. فيبدو أن المخططين شعروا بأن الماضي أصبح عبئا على الحاضر، فقرروا إزالة العتيق برمته وأزيل الجامع وأزيلت المئذنة؛ فقد بذلك التراث الإسلامي في مدينة دير الزور معلما هاما من معالمه لا يمكن تعويضه (2)

__________

(1) إذا لم تخن الباحث الذاكرة؛ إذ شاهدها لأول مرة منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما.

(2) من المؤسف أن هذه المئذنة والمسجد لم يوثقا لينتفع بذلك الباحثون والدارسون. إلا أن هناك نفرا من أهالي دير الزور يحتفظ ببعض الصور للمئذنة.

 

(1/5404)

 

 

مناقشة

مما سبق يتبين أن أبدان المآذن التي تحدثنا عنها بنيت بالقرميد المشوي وكذا قواعدها، فيما عدا قاعدة مئذنة الرقة التي بنيت من الحجر. كما نلاحظ أن مئذنة الرقة ومئذنة مسكنة منفصلة عن الجامع التابع لها. ومداخل المآذن كلها مرتفعة، في حين أن مئذنة مسكنة مدخلها منخفض قريب من الأرض. ففي الحالة الأولى، يصعد إلى المئذنة من السطح الخاص بالجامع أو بواسطة سلم..أما في الحالة الثانية، فيصعد المؤذن مباشرة من المكان المنخفض من الأرض. وقد زينت أكثر هذه المآذن بتزيينات كتابية، وفي بعض الأحيان بأشكال إنشائية

 

(1/5405)

 

 

أو هندسية وبفتحات ( طلاقات) سهمية لجلب النور والهواء؛ ويمكن استخدامها في بعض الأحيان فتحات لإطلاق السهام. ولم يقتصر استعمال القرميد في البناء على بناء المآذن : فقد بنيت به المساجد والأسوار والبوابات وغيرها لأسباب مر ذكرها. وهو تقليد نجده في أبراج سور الرقة وفي باب بغداد وقلعة جعبر وأسوار مسكنة.

والمادة الأساسية التي يصنع منها القرميد متوافرة في منطقة الفرات. لذلك أقيمت الأفران لشي القوالب الطينية بعد تشكيلها. وهذا ما قامت به المديرية العامة للآثار والمتاحف بالجمهورية العربية السورية عند تصديها

 

(1/5406)

 

 

بكفاءة لترميم الأوابد الطينية في منطقة الفرات الأوسط، كأسوار الرقة وباب بغداد العائد للسور نفسه، وقلعة جعبر وهرقلة ومئذنة مسكنة ومئذنة أبي هريرة وغيرها. إذ تم إقامة فرنين أحدهما بقلعة جعبر، والآخر بهرقلة لتزويد ورشات الترميم بالقرميد المطلوب بعد شيه. وقد جاء مطابقا في أوصافه وتكوينه وقياساته. وقد قام الباحث بزيارتهما ومشاهدة إنتاجهما. كما أن بعض المؤسسات الحكومية قامت بصناعة بعض أنواع القرميد المتطور للاستفادة منه في أعمال البناء والتزيين.

خاتمة

 

(1/5407)

 

 

إن هذا النمط من المآذن شاع في منطقة الفرات الأوسط في المنطقة الممتدة بين دير الزور جنوبا ومسكنة شمالا. وقد يكون ذلك لأسباب أتينا على ذكرها سابقا، ومنها المناخ الحار صيفا والبارد شتاء؛ كما أنه حارا أحيانا بالنهار، رطب ليلا. كما أن نقص الحجر المناسب والمقاوم كان سببا في ذلك يضاف إلى ذلك السبب البيئي. و هناك أمر آخر يمكن استدراكه - ويتعلق بتاريخ هذه المآذن - وهو أن معظمها أقيم في العهدين السلجوقي والأيوبي، وهما عهدان يتمم أحدهما الآخر؛ ناهيك عن أن العهد الأول حمل معه كثيرا من التقاليد المعمارية

 

(1/5408)

 

 

الرافدية إلى سورية. وقد استفاد العهد الثاني من ذلك.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل بالإمكان صيانة هذا النوع من المنشآت ؟ بالطبع، يمكن ذلك بكل سهولة. فمن قام بالأعمال الصعبة التي تتلخص في نقل مئذنتي مسكنة وأبي هريرة بوسائل غير مألوفة وغير مكلفة، يستطيع أن يرمم تلك المنشآت ويصونها، ويدخل في إطار الصيانة والتوثيق الذي يرى الباحث ضرورة القيام به وفق الأساليب العلمية المتفق عليها في مثل هذه الحالة. فهذه الأوابد، من مآذن وغيرها، تستحق أن يحافظ عليها لتظل شواهد حية على فترة زمنية هامة في تاريخ العرب

 

(1/5409)

 

 

والمسلمين تكاد تكون من ألمع فترات تاريخهم. فلولا انتصارتهم التي حققوها بفضل تعاونهم وتفاعلهم مع عقيدتهم، لكان العالم العربي الإسلامي مقاطعة صليبية إفرنجية، وبالتالي لانحسر الإسلام عن رقعة كبيرة من الأرض الإسلامية.

 

المراجع

سوبرديل، جانيين، الحوليات الأثرية السورية، مجلد 3، ج1 و 2، 1953، بام 4 و 5، 1954 / 1955.

ريحاوي، عبد القادر، الحوليات الأثرية السورية، مجلد 19،1969.

طوير قاسم، الحوليات الأثرية السورية، مجلد 34، 1984.

زقزق عبد الرزاق، دليل قلعة جعبر، مطبوعات المديرية العامة للآثار والمتاحف.

 

(1/5410)

 

 

مجموعة من الباحثين، دليل مكتشفات حوض الفرات، النسخة العربية، 1974.

مجموعة من الباحثين، الرقة درة الفرات، دمشق، 1992.

شافعي فريد، العمارة العربية في مصر الإسلامية عصر الولاة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، م1، 1970.

Raymond A., et Paillet J.L, Balis II, Damas,1955.

Creswell K.A.C.,A Short Account Of Early Muslim Architecture, A Pelican

Book,1958.

Middle East Guide,hacette, 1968.

Bloom J., Minaret symbol of Islam, Oxford Univ.,1987.

 

(1/5411)

 

 

المؤرخ المصري الأستاذ الدكتورعبد المنعم ماجد (1921 ـ 1999 م) أضواء على حياته مؤلفاته

 

... ... ... ... الدكتور محمد مؤنس أحمد عوض

... ... كلية الآداب ـ جامعة عين شمس ـ القاهرة

 

... في العشرين من يناير من عام 1999 م رحل من عالمنا الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب ـ جامعة عين شمس، بعد حياة حافلة بالتأليف في مختلف مراحل تاريخ المسلمين خاصة خلال مرحلة العصور الوسطى. ولذا فمن الأهمية بمكان أن نخصص الصفحات التالية للتعريف بذلك المؤرخ الكبير وإسهاماته المتعددة في

 

(1/5412)

 

 

الكتابة التاريخية.

... ولد الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد في مدينة الإسكندرية عام 1921 م، وتدرج في مراحل التعليم المختلفة حتى حصل على شهادة الليسانس الممتازة من قسم التاريخ بكلية الآداب ـ جامع الإسكندية عام 1945 م، ثم أوفد في بعثة علمية فحصل على دكتوراه الدولة (Doctorat d’Etat) في التاريخ الإسلامي من جامعة باريس (La Sorbonne) بمرتبة الشرف الأولى عام 1951، وعاد إلى مصر ليعين بقسم التاريخ بكلية الآداب ـ جامعة عين شمس، وتدرج في وظائف هيئة التدريس إلى أن حصل على الأستاذية في عام 1967 م، ثم صار

 

(1/5413)

 

 

رئيساً لقسم التاريخ منذ عام 1972 حتى عام 1978 م، وعمل أستاذاً متفرغاً بالقسم نفسه منذ عام 1981 إلى عام 1999 م. كذلك يذكر عن الراحل الفاضل أنه عمل مديراً لمركز الدراسات البردية من عام 1981 إلى 1983 م. ثم خبيراً وطنياً بالمركز المذكور منذ عام 1985 إلى عام 1999 م، كذلك كان عضواً في المجالس القومية المتخصصة ولجان الترقية العلمية لأعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية.

... ونجد أن الراحل الفاضل أرسل خلال حياته العلمية الحافلة في إعارة إلى جامعة بيروت العربية من 1964 إلى 1966 م، وإلى جامعة الجزائر

 

(1/5414)

 

 

فيما بين 1967 و1970 م، كما دعته هذه الجامعة الأخيرة في عام 1974 م أستاذاً زائراً بها، وكذلك فعلت جامعة بغداد عام 1975 م وجامعة الموصل في العام نفسه. وعمل أستاذاً زائراً لجامعة هولواي الملكية بلندن (Royal Holloway Collège University of London).

... كما قام بإلقاء محاضرة في مدرسة اللغات الشرقية بلندن عام 1977 م، وعمل أستاذاً زائراً لجامعة الخرطوم في عام 1980 م، ووجهت له الدعوة لإلقاء محاضرتين في أبو ظبي والعين بدولة الإمارات العربية المتحدة من جانب وزارة الدفاع فيها في عام 1984 م، كذلك عمل

 

(1/5415)

 

 

أستاذاً زائراً لجامعة اليرموك بالأردن خلال فصل دراسي من عام 1990 م.

... وهكذا نجد أن مؤرخنا الراحل تنقل في العديد من الأقطار العربية أستاذاً زائراً ومحاضراً وأمن نشاطه العلمي إلى إنجلترا في الاتجاه نفسه. ولا نغفل هنا حقيقة مهمة، وهي أنه أرسل في مهام علمية إلى تركيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا من أجل البحث في أرشيفات تلك الدول والإفادة من ذلك في مؤلفاته التي قام بإعدادها. ومنطقي بعد كل ذلك الجهد العلمي الكبير أن يحصل مؤرخنا الراحل على عدد من مظاهر التكريم، وهي كالتالي:

 

(1/5416)

 

 

... أولا: وسام جمهورية مصر العربية من الدرجة الثانية؛

... ثانياً: درع القوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة بأبي ظبي؛

... ثالثاً: درع جامعة الإسلاميات في لبنان بمناسبة المؤتمر الخاص بكتابة التاريخ الإسلامي الذي عقد في بيروت خلال المدة من 14 إلى 16 نوفمبر 1997 م.

... رابعاً: منح المؤرخ الكبير شهادة التاريخ العربي في فبراير عام 1990 م من جانب الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب؛

... خامساً: شهادة تقدير بمناسبة ندوة "الأندلس: الدرس والتاريخ" منحته إياها كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية

 

(1/5417)

 

 

بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية، وذلك في أبريل عام 1994 م.

... ومن ناحية أخرى، أود أن أوضح للقارئ العزيز أن قيمة الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد تأتي من قيامه بكتابة مؤلفات التاريخ الإسلامي منذ البعثة النبوية حتى نهاية حكم المماليك بمصر. وذلك يعني أنه قدم محاولة ـ لعلها الأخيرة من جانب مؤرخ مصري منفرد في أواخر هذا القرن ـ للتأليف عن تاريخ المسلمين بصورة مسحيّة عامة شاملة سواء على المستوى السياسي والحضاري ـ وكل ذلك من خلال محاولات وإسهامات جادة بالاعتماد على المصادر العربية الأصيلة وكذلك

 

(1/5418)

 

 

الدراسات المتخصصة من جانب المؤرخين الغربيين، مع عدم إغفال الجهد البارز الذي قام به الأستاذ الدكتور أحمد شلبي الذي ألف موسوعته القيمة الخاصة بالتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.

... على أية حال، فها هي قائمة بمؤلفات الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد، أقدمها لكافة المهتمين بدراسة التاريخ الإسلامي.

 

... (أ) الكتب

... ( نظم الفاطميين ورسومهم في مصر، الجزء الأول، القاهرة، طبعة أولى 1953، وثانية 1973، وثالثة 1985. (مكتبة الأنجلو المصرية).

 

(1/5419)

 

 

... ( مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، وتعريف بمصادر التاريخ الإسلامي ومنهاجه الحديث، القاهرة، طبعة أولى 1953، وثانية 1964، وثالثة 1971، ورابعة 1986. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( السجلات المستنصرية: سجلات وتوقيعات وكتب لمولانا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، إلى دعاة اليمن وغيرهم، قدس الله أرواح جميع المؤمنين، تقديم وتحقيق، القاهرة، طبعة أولى 1954، وثانية 1985. (دار الفكر العربي).

 

(1/5420)

 

 

... ( نظم الفاطميين ورسومهم في مصر، دراسة شاملة لنظم القصر الفاطمي ورسومه، الجزء الثاني، القاهرة، طبعة أولى 1955، وثانية 1977، وثالثة 1985. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( التاريخ السياسي للدولة العربية، عصور الجاهلية والنبوة والخلفاء الراشدين، الجزء الأول، القاهرة، طبعة أولى 1956، وثانية 1960، وثالثة في بيروت 1965، ورابعة في القاهرة 1966، وخامسة 1975، وسادسة 1979، وسابعة 1983. (مكتبة الأنجلو المصرية؛ مكتبة الجامعة العربية ببيروت).

 

(1/5421)

 

 

... ( التاريخ السياسي للدولة العربية، عصر الخلفاء الأمويين، الجزء الثاني، القاهرة، طبعة أولى 1956، وثانية 1960، وثالثة في بيروت 1965، ورابعة في القاهرة 1966، وخامسة 1975، وسادسة 1979، وسابعة 1983. (مكتبة الأنجلو المصرية، مكتبة الجامعة العربية ببيروت).

... ( الناصر صلاح الدين الأيوبي، القاهرة، طبعة أولى 1858، وثانية في بيروت 1967، وطبعة ثالثة شعبية بالقاهرة 1987. (مكتبة الأنجلو المصرية؛ مكتبة الجامعة العربية ببيروت؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب).

 

(1/5422)

 

 

... ( الحاكم بأمر الله، الخليفة المفترى عليه، القاهرة، طبعة أولى 1959، وثانية 1983. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( الأطلس التاريخي للعالم الإسلامي في العصور الوسطى، بالاشتراك مع عليّ البنا، تصنيف وتقديم، القاهرة، طبعة أولى 1960، وثانية 1967، وثالثة 1985. (دار الفكر العربي).

... ( الإمام المستنصر بالله الفاطمي، القاهرة، 1960. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، القاهرة، ط. 1، 1963؛ 2، 1973؛ 3، 1974؛ 4، 1977؛ 5، 1987. (مكتبة الأنجلو المصرية).

 

(1/5423)

 

 

... ( نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر، الجزء الأول، القاهرة، ط 1، 1965؛ ط 2، 1979. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، بيروت، 1969، (نفدت الطبعة). (مكتبة الجامعة العربية).

... ( ظهور الخلافة الفاطمية وسقوطها في مصر، التاريخ السياسي، الإسكندرية، ط 1، 1968, (دار المعارف بالإسكندرية)؛ القاهرة، ط 2، 1976؛ ط 3، 1985. (مكتبة جامعة عين شمس)؛ ط 4، 1986. (دار الفكر العربي).

 

(1/5424)

 

 

... ( تاريخ أفريقيا، تأليف شارل ـ أندريه جوليان، تقديم ومراجعة، القاهرة، 1968. (نفدت الطبعة).

... ( العصر العباسي الأول أو القرن الذهبي في تاريخ الخلفاء العباسي، التاريخ السياسي، الجزء الأول، القاهرة، ط 1، 1973؛ ط 2، 1979؛ ط 3، 1984. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( طومان باي ـ آخر سلاطين المماليك في مصر، دراسة الأسباب التي أنهت حكم دولة سلاطين المماليك، القاهرة، 1978. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( ذيل على مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، دراسة لمفهوم التاريخ عند المسلمين، ودور المؤرخ الإسلامي

 

(1/5425)

 

 

الحديث، القاهرة، 1979. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( جدول السنين الهجرية بلياليها وشهورها بما يوافقها من السنين الميلادية بأيامها وشهورها، حققه Wustenfeld، ترجمة وتقديم وتقديم، بالاشتراك مع عبد المحسن رمضان، القاهرة، 1981. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( خواطر سائح مصري في رحلة إلى إسبانيا في الماضي والحاضر، القاهرة، 1983. (مكتبة الأنجلو المصرية).

... ( التاريخ السياسي لدولة سلاطين المماليك في مصر، دراسة تحليلية للازدهار والانهيار، القاهرة، 1984 ـ 1988. (مكتبة الأنجلو المصرية).

 

(1/5426)

 

 

... ( الدولة الأيوبية في تاريخ مصر الإسلامية، التاريخ السياسي، القاهرة، ط. 1، 1995؛ ط. 2، 1997. (مكتبة دار الفكر العربي).

... ( مذكرات مبعوث مصري إلى باريس، حوار بين نحن والآخر. (تحت الطبع).

 

(ب) المقالات باللغة بلفرنسية

- Magued, « Le personnel de la Cour Fatimide en Egypte », in Majallat al-Aadab, Université Aïn Shems, 1955.

- « La fonction de juge suprême dans l’Etat Fatimide en Egypte », L’Egypte contemporaine, Janvier 1960.

 

(1/5427)

 

 

- « De quelques juridictions Fatimide en Egypte », L’Egypte contemporaine, Juillet, 1961.

- « L’organisation financière en Egypte sous les Fatimides », L’Egypte contemporaine, Avril, 1962.

- ... L’encyclopédie de l’Islam (art «Hâfiz »), 2 éd; pp. 56-57.

- « La Divination de Calife Hâkim, Résumé des Communications XXIX », Congrès international des Orientalistes, 1973.

- ... Les Origines persanes dans le Cérémonial de la cour Abbaside à Baghdad, Téhran, 1977.

 

(1/5428)

 

 

- « Science papyrologique arabe, pour la première fois... » Congrès International à Naples , 1983.

- ... « Massignon: Histoire », Colloque à l’Université de Caire, 1983.

- « Le Papyrus était la cause de l’expansion du droit de l’Antiquité », Congrès International du Caire, 1984.

 

(ج) المقالات باللغة العربية

... ( »العلاقات بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم«، مجلة الرسالة، العددان 703 و704، ديسمبر 1946.

... » (حكم المفكرين الغربيين على محمد علي«، مجلة الرسالة، العدد 683، أغسطس 1946.

 

(1/5429)

 

 

... » (أصل حفلات الفاطميين في مصر«، صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد الثاني، 1954، العددان 1 ـ 2، صص. 253 ـ 257.

... » (ما ساهم به المؤرخون العرب في المائة سنة الأخيرة في دراسات التاريخ العربي وغيره«، إشراف هيئة الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية، بيروت، 1959، ونشرت في حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس، المجلد السادس، 1961.

... » (أسس السياسة الحربية للفاطميين في مصر«، مجلة المعهد الثقافي بالجزائر، جوان ـ جوليه، 1968.

 

(1/5430)

 

 

... » (موقف المصريين من حكم المماليك في العصور الوسطى«، فصلة من حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس، العدد 2، 1969.

... » (أضواء على البرامكة ونكبتهم«، محاضرة ألقيت في الجمعية التاريخية المصرية، ونشرت بمجلتها في 1973.

... » (البارود والمدفع والبندقية ـ اختراعات مصرية«، في مجلة آخر ساعة الأسبوعية، العدد 2044، 26 ديسمبر 1969. (دراسة تاريخية).

... » (قال عماد الدين الأصفهاني: "المصريون السمر وحدهم خلصوا القدس من الصليبيين"«، بحث ألقي في الجمعية التاريخية المصرية؛ ونشر في مجلتها؛ ونشر ملخص له في مجلة

 

(1/5431)

 

 

آخر ساعة، العدد 2037، 7 نوفمبر 1973؛ وفي أعداد جريدة الوفد، 82 و90 و102 و114، 1985 ـ 1986. (دراسة تاريخية).

... » (قلم الحبر النباع ـ من اختراع الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله«، في مجلة آخر ساعة، العدد 2043، 19 ديسمبر 1973، وفي جريدة الوفد، العدد 73، الخميس 18 يوليو 1985. (دراسة تاريخية).

... » (كل هؤلاء الأنبياء خرجوا من الموصل«، في مجلة آخر ساعة، العدد 2120، 11 يونيه 1975.

... » (مكان عبد الرحمن الجبرتي بين المؤرخين المسلمين«، بحث ألقي في ندوة عبد الرحمن الجبرتي وعصره، نظمها المجلس الأعلى

 

(1/5432)

 

 

للفنون بالاشتراك مع الجمعية التاريخية المصرية، في مايو 1974. وقد نشر المقال بعدد مجلة الهلال، يوليو 1974، ص. 20 وما بعدها؛ كما نشر في كتاب خاص بهذه المناسبة، 1976.

... » (المصطلحات التاريخية عند الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية"«، بحث ألقي في ندوة عن الماوردي: الاحتفال بمرور ألف عام على مولد أبي الحسن الماوردي بمناسبة العيد الفضي لجامعة عين شمس، وقد نشر في كتاب خاص بهذه المناسبة، 1976؛ ونشر في جريدة المساء، العدد 4327، الأحد 26 سبتمبر 1976. (دراسة تاريخية).

 

(1/5433)

 

 

... » (عصر السيوطي«، بحث ألقي في ندوة عن جلال الدين السيوطي، نظمها المجلس الأعلى للفنون بالاشتراك مع الجمعية التاريخية المصرية، في مارس 1976؛ وقد نشر في كتاب خاص بهذه المناسبة، ونشر في جريدة المساء، العدد 7146، الخميس 25 مارس 1978. (دراسة تاريخية).

... » (أقفال ومفاتيح الكعبة الشريفة وأهميتها في تاريخ مصر الإسلامية«، بحث ألقي في ندوة كلية الآثار بجامعة القاهرة. وقد نشر في كتاب خاص بهذه المناسبة، عام 1976، ونشر له ملخص في مجلة آخر ساعة، العدد 2156، 18 فبراير 1976. (دراسة تاريخية).

 

(1/5434)

 

 

... » (امرأة تتزعم مظاهرة أيام الخليفة المستنصر بالله الفاطمي«، مقال نشر في الجمعية التاريخية، عام 1976، ونشر في جريدة المساء، الخميس 21 أكتوبر 1976، العدد 7352.

... » (مفهوم التاريخ الإسلامي في العصر الحديث«، بحث ألقي في مؤتمر الحضارة الإسلامية بين الأصالة والتجديد في بيروت، عام 1975؛ ونشر في مجلة المؤرخ العربي، بغداد، 1977؛ وفي جريدة المساء، العدد 7333، السبت 12 أكتوبر 1976.

... » (أضواء جديدة على معركة عين جالوت«، بحث ألقي في الجمعية التاريخية المصرية، عام 1977؛ ونشر في جريدة المساء، العدد

 

(1/5435)

 

 

7223، السبت 12 يونيه 1976. (دراسة تاريخية).

... » (العمران ـ نظرية لابن خلدون في تفسير التاريخ«، بحث ألقي في ندوة الحضارة الإسلامية، بمناسبة مرور عام على وفاة المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد فكري، ونشر في كتاب خاص بهذه المناسبة.

... » (تحقيق عن ندوة الحضارة الإسلامية في ذكرى وفاة المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد فكري«، نشر في مجلة آخر ساعة، مارس 1977. (دراسة).

... » (روابط الإيمان بين مصر وأفريقيا«، بحث نشر في مجلة المؤرخ العربي، العدد الرابع، 1977.

 

(1/5436)

 

 

... » (البارود وأثره في تغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط في القرن السادس عشر الميلادي«، بحث ألقي في ندوة الحضارة، نظمها مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس، ديسمبر 1976، ونشر في كتاب خاص عام 1977.

... » (سياسة الفاطميين في الخليج العربي، مستمدة من السجلات المستنصرية ـ وثائق فاطمية معاصرة«، بحث ألقي في مؤتمر الدراسات التاريخية لشرقي الجزيرة العربية بقطر، مارس 1977؛ ونشر في كتاب خاص بهذه المناسبة.

 

(1/5437)

 

 

... » (منهجية علي بهجت في كتابة التاريخ«، بحث ألقي في ندوة الجمعية التاريخية المصرية عام 1978؛ ونشر في كتاب خاص بهذه المناسبة.

... » (منهجية جديدة لابن خلدون في علم التاريخ«، بحث نشر في مجلة المؤرخ العربي، تونس، 1979.

... » (العالم الهجري وتقويمه«، مجلة الكويت، العدد 2، نوفمبر 1980. (دراسة تاريخية).

... » (علم البردي العربي لأول مرة«، بحث ألقي بالعربية في أول ندوة دولية عن البردي نظمها مركز الدراسات البردية بجامعة عين شمس عام 1983؛ ونشر في كتاب خاص مع مقالات أخرى صدر عن المركز عام 1989؛ وألقي

 

(1/5438)

 

 

بالفرنسية في المؤتمر الدولي السابع عشر لعلم البردي بنابولي، 1983.

... » (مدينة القاهرة«، جريدة الوفد، عدد 274، الخميس 8 أغسطس 1985. (دراسة تاريخية).

... » (البردي العربي ـ إعادة اكتشاف التراث العربي المجهول... الموجود«، مقال بجريدة الأهرام، العدد 36059، الجمعة 30 أغسطس 1985.

... » (موقف الروم العرب في صدر الإسلام«، بحث ألقي في المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام في صدر الإسلام؛ ونشر في كتاب خاص عام 1987؛

... ونشر في جريدة الوفد، أعداد 116، 117، 118، 118، عام 1986.

 

(1/5439)

 

 

... » (رمضان المعظم في مصر«، جريدة الوفد، العدد 47، الأحد 3 مايو 1987. (دراسة تاريخية).

... » (رمضان في الجاهلية والإسلام«، جريدة الوفد، العدد 57، الأربعاء 13 مايو 1987. (دراسة تاريخية).

... » (موكب رمضان في مصر أيام الفاطميين«، جريدة الوفد، العدد 61، الثلاثاء 18 مايو 1987. (دراسة تاريخية).

... » (موكب الخليفة الفاطمي في رمضان«، جريدة الوفد، العدد 68، الثلاثاء 26 مايو 1987. (دراسة تاريخية).

... » (أطباق الحلوى والذهب: هدية الخليفة الفاطمي إلى كبار موظفي الدولة في رمضان«، جريدة الوفد، العدد 69،

 

(1/5440)

 

 

الأربعاء 27 مايو 1987. (دراسة تاريخية).

... » (سوق السلاح ـ أشهر شوارع القاهرة التاريخية«، جريدة الوفد، العدد 196، الخميس 3 ديسمبر 1987. (دراسة تاريخية).

... » (مادة تاريخية عن: سد مأرب، لحساب التلفزيون في دول الإمارات العربية المتحدة لعام 1987 ـ 1988«. (لم تنفد).

... » (حليّ الكعبة الشريفة«، بحوث في أربع مقالات آخرها مقالة متحف لكنوز الكعبة الشريفة في إستانبول، نشرت في جريدة الوفد اليومية، أبريل 1988.

 

(1/5441)

 

 

... » (الخبر التاريخي عند المسلمين«، بحث ألقي في ندوة بغداد، بعنوان: مدرسة عربية في فهم التاريخ وكتابته (نشر مع بحوث أخرى في مجلة المؤرخ الغربي، بغداد 1988)؛ كما كتب تقرير عن الندوة، بعنوان: "قيام مدرسة عربية في التاريخ وكتابته"، نشر في جريدة الوفد، العدد 204، الخميس 4 فبراير 1988.

... » (حكاية عيد اسمه شم النسيم«، دراسة تاريخية نشرت في جريدة الوفد، العدد 342، الاثنين 11 أبريل 1988. (في صفحة كاملة).

 

(1/5442)

 

 

... » (مصر وعُمان في وحدة سياسية ومذهبية واقتصادية في أيام الخلافة الفاطمية، بالاعتماد على السجلات المستنصرية«، محاضرة ألقيت في الجمعية التاريخية المصرية، 1988. (لم تنشر بعد). وألقيت بحثاً في ندوة جامعة القاهرة، أبريل 1993. (لم تنشر بعد).

... » (جزيرة كريت بين الإخشيديين والفاطميين والروم«، بحث ألقي في ندوة تونس 1989. (نشرت مع أبحاث أخرى في عدد خاص بعنوان: الكراسات التونسية، فصل الثلاثة أشهر الأولى والثانية لسنة 1993، ص. 65 وما بعدها).

 

(1/5443)

 

 

... » (الأسرة المصرية من خلال البردي العربي«، محاضرة ألقيت في الجمعية التاريخية المصرية 1989. (لم تنشر بعد)؛ وملخص لها في ندوة مركز الدراسات البردية بجامعة عين شمس 1991؛ ونشر في مجلة المركز، العدد 9، القاهرة 1992؛ وملخص آخر لها في كتاب أوراق في التاريخ والأدب، مُهدى إلى نقولا زيادة في مناسبة عيد ميلاده الخامس والثمانين، ط. لندن، 1992.

... » (الضياع الأموية في العصر العباسي«، ندوة تاريخ بلاد الشام في عام 1990؛ نشر البحث في مجلة المؤرخ العربي، تصدر عن اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، العدد الأول،

 

(1/5444)

 

 

المجلد الأول، مارس 1993، صص. 109 ـ 170.

... » (النصوص البردية العربية في أقسام التاريخ«، ندوة في رحاب جامعة عمان بالأردن (أُجلت بسبب حرب الخليج)، ثم أُعيدت الندوة، 21 ـ 23 مارس 1994؛ ونشرت في مجلة المؤرخ العربي ببغداد، العدد 53، 1996، صص. 76 ـ 88. ثم ألقيت في مركز البرديات، ديسمبر 1994، بعنوان: "النصوص البردية في درس علم التاريخ وعلوم أخرى"، ونشرت في مجلة الدراسات البردية، العدد 3، القاهرة، 1996، مع ملخصها بالفرنسية، صص. 103 ـ 104 ـ 137 ـ 151.

 

(1/5445)

 

 

... » (علاقة مصر التجارية بالبندقية في حوض البحر المتوسط في وثائق أرشيف البندقية ـ وقت دولة سلاطين المماليك«، بحث لندوة قسم التاريخ بجامعة القاهرة، مارس 1991 ـ لم تنشر ـ، وأرسل لندوة تاريخ حضارة العصور الوسطى في الإسكندرية، 24 ـ 25 أبريل 1994، في ذكرى أ. د. جوزيف نسيم يوسف. (لم ينشر).

... » (الفاطميون مصريون«، مجلة الهلال، يونيه 1991.

... » (الإبداع عند المؤرخين المسلمين إضافة في منهجية علم التاريخ«، بحث ألقي في ندوة التاريخ بين التسجيل والإبداع، نوفمبر 1991؛ مجلة التاريخ العربي، العدد (3)،

 

(1/5446)

 

 

1998، صص. 179 ـ 185.

... » (دور المصريين في البحرية الإسلامية في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، من خلال وثائق البردي العربي«، بحث ألقي في ندوة مركز الدراسات البردية؛ نشر بالعربية، في مجلة المركز، العدد 9، 1993، صص. 365 ـ 369. أما ملخصه بالإنجليزية، فلم ينشر بعد؛ وألقي في ندوة اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة مع زيادات فيه، نوفمبر 1414 هـ/ 1993؛ نشر مع غيره في كتاب خاص بالندوة، صدر في القاهرة، صص. 271 ـ 277.

 

(1/5447)

 

 

... » (إنجازات الفاطميين الحضارية في مصر، من خلال كتاب "سفر نامة"، للرحالة الفيلسوف ناصر خسرو«، بحث ألقي في ندوة العصور الوسطى، 30 أكتوبر ـ 1 نوفمبر 193، نظمها قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة المنيا. (لم ينشر بعد).

... » (منطقة الأزبكية الخضراء، مشروع عمراني مستقبلي كبير، خرج من حوائط القاهرة، في زمن دولة سلاطين المماليك«. (بحث قُبل للإلقاء والنشر في المؤتمر العاشر لمنظمة المدن العربية الذي عقد في مدينة دبيّ بدولة الإمارات العربية المتحدة، خلال الفترة 3 ـ 7 أبريل 1994؛ ونشر مع أبحاث المؤتمر

 

(1/5448)

 

 

الأخرى في ثلاثة مجلدات ضخمة، من إصدارات المعهد العربي لإنماء المدن بالسعودية، حيث يقع البحث في المجلد الثاني، من صفحة 1193 وما بعدها، مع رسم تصوري للمشروع من واقع المصادر)؛ كما ألقي البحث في محاضرة عامة في افتتاح الموسم الثقافي للجمعية المصرية، في يوم الأحد الموافق 29/101995، مع زيادات وتعديلات، نشر في جريدة الوفد اليومية، في العددين 2741 ـ 1995 و2774 ـ 1995، بعنوان: "مشروع أزبك القديم، هل نعيد إحياء القاهرة، أمام فوضى قاهرة العشرين"، وبعنوان: مشروع أبك السكاني؛ قضى على عشوائيات القاهرة

 

(1/5449)

 

 

القديمة".

... » (النص (تولية الإمام) في خلافة الفاطميين والآثار المترتبة عليه«، بحث في الندوة العربية الأولى حول الزج بالإسلام في المعترك السياسي، المزمع عقدها بالجماهيرية العظمى. (أرسل البحث، ولم تنفذ الندوة، منذ مارس 1992).

... » (بيت المقدس بين الفاطميين والسلاجقة«، بحث للمؤتمر السادس لتاريخ بلاد الشام (العصر السلجوقي)، من 22 إلى 26 أكتوبر 1994. (أرسل البحث ولم تقم الندوة).

... » (وثيقة عربية نادرة في أرشيف البندقية«، بحث لندوة اتحاد المؤرخين العرب في الفترة 28 ـ 29/ 11/ 1994. نشرت في مجلة

 

(1/5450)

 

 

المؤرخ العربي، تصدر عن اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، العدد 3، المجلد الأول، مارس 1995، ص. 207 وما بعدها.

... » (الأمن التاريخي العربي في منهجيته الحديثة«، ضمن ندوة جامعة عين شمس، في الفترة 28 ـ 30/11/1994. (سوف يصدر مع أبحاث أخرى في كتاب خاص).

... » (الدور البارز للعسكر المصري في استرداد القدس من الصليبيين«، لندوة فلسطين عبر عصور التاريخ، 4 ـ 5 نوفمبر 1995. بحث ألقي في مركز البحوث والدراسات التاريخية، بكلية الآداب بجامعة القاهرة. (سوف ينشر مع بقية الأبحاث).

 

(1/5451)

 

 

... » (دور المصريين في تحرير القدس«، ندوة جامعة أسيوط، مركز الدراسات والمستقبل، 29 ـ 30 أكتوبر 1996م.

... » (خمس وثائق نادرة تبين ارتباط إقليم الخليج بمصر في عهد الخليفة المستنصر«، ندوة اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة في الفترة من 23 إلى 25 نوفمبر 1996 م.

... » (المسألة القومية في بحوث التاريخ الإسلامي«، ندوة الجامعة الإسلامية في لبنان خلال الفترة من 14 إلى 15 نوفمبر 1997 م.

... » (توثيق استرداد الفاطميين للمغرب بعد انفصاله عنهم؛ من واقع السجلات المستنصرية، وهي وثائق فاطمية معاصرة«، لندوة اتحاد

 

(1/5452)

 

 

المؤرخين العرب بالقاهرة من الفترة 26 إلى 27 نوفمبر 1997 م.

... » (نقولا زيادة مؤرخاً«، بحث ألقي في مهرجان تكريم المؤرخ الكبير المذكور لبلوغه التسعين نظمته مؤسسة الأوديسية في الجامعة الأمريكية ببيروت في 26 فبراير 1998 م.

... (ومن المرجع أن المقالة المذكورة آخر ما كتب مؤرخنا الراحل، إذ اعتلت صحته في أواخر أيامه وانصرف إلى أمر العلاج.

... ( الموسوعة الفلسطينية، مقالات:» صلح مآب«،» يبني أو أبني«، »داثن أو الذاثنة«،» بيسان«،» فحل«،» علقمة بن محرز الأعور«.

 

(1/5453)

 

 

... ( الموسوعة الأفريقية، مقالات: »المعز لدين الله«، »جوهر الصقلي«، »النعمان بن حيون «، »العزيز بالله«، »ابن كلس«، »الحاكم بأمر الله«، »ست الملك«، »المستنصر بالله«، »طلائع بن رزيك«.

... ( المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان بالأردن، نشر بحثاً بعنوان: "التعليم عند الفاطميين".

... ( موسوعة الحضارة الإسلامية بعمان بالأردن، "الآمر بأحكام الله".

... ( مشروع لكتابة تاريخ الأمة العربية. (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومقرها تونس) بموضوع: "الخلافة الفاطمية"، ويقع في 9 صفحات.

 

(1/5454)

 

 

... ( الموسوعة الإسلامية التركية (Islâm Ansiklopedisi)، بمادة عن: "عيسى بن موسى".

 

... ولديّ عدد من الملاحظات عن تلك القائمة الببليوغرافية لمؤلفات مؤرخنا الراحل، وهي كالآتي:

... 1 ـ بدأ مؤرخنا الكتابة التاريخية منذ وقت مبكر، وذلك في عام 1946 م عندما نشر مقالاً في مجلة الرسالة عن العلاقات بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم، وكان ذلك في العام الثاني لتخرجه من كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية وحصوله على الليسانس الممتازة في عام 1945 م.

 

(1/5455)

 

 

... 2 ـ من الملاحظ أن مؤرخنا جعل اهتمامه الأكبر تناول تاريخ مصر الإسلامية الفاطمية والأيوبية والمملوكية، وخاصة العصر الفاطمي الذي هو في الأول تخصصه العلمي الأول الذي ساهم فيه بأطروحته للدكتوراه عن نظم الفاطميين ورسومهم في مصر بإشراف كل من ماريوس كنار وليفي بروفنسال وهما من كبار المستشرقين الفرنسيين.

... 3 ـ ساهم الراحل الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد في مجال الكتابة التاريخية عن الحروب الصليبية. ونجد مثالاً وضاحاً على ذلك في صورة كتابة العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، وكذلك كتابه عن

 

(1/5456)

 

 

الناصر صلاح الدين الأيوبي حيث عمل على إبراز عصر الحروب الصليبية وجهاد المسلمين في مواجهة الغزاة الصليبيين.

... 4 ـ اهتم مؤرخنا بأثر منهجية الكتابة في التاريخ الإسلامي. ولذلك خصص دراستين صغيرتين حجماً كبيرتين أهمية هما: "مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي"، وّالذيل على المقدمة". وقد تنبه إلى أهمية التأليف في هذا المجال منذ وقت مبكر، فأفاد بذلك طلاب الدراسات العليا من الذين خاضوا غمار الكتابة التاريخية في المجال المذكور، وهو في ذلك كله يشارك قلة من المؤرخين المصريين المحدثين الذين اهتموا بتأليف دراسات

 

(1/5457)

 

 

عن منهجية الكتابة في التاريخ الإسلامي مثل الأستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف التي ألفت كتاباً بعنوان "مصادر التاريخ الإسلامي ومناهج البحث فيه"، وقد صدر بالقاهرة عام 1960 م. ومع ذلك، فمن الإنصاف أن نقرر أن الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد كانت له الريادة، حيث أصدر كتابه هام 1953 م، وما زال الكتابات المذكوران على جانب كبير من الأهمية على الرغم من مضي الأعوام وتقادم الكتابين.

... 5 ـ أدرك الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد أهمية الترجمة، وخاصة ترجمة الكتب الأساسية التي ألفها المستشرقون مثل "جدول

 

(1/5458)

 

 

التواريخ الهجرية وما يقابلها من التواريخ الميلادية" لوستنفيلد. وعكف على ترجمته بالاشتراك مع زميله الفاضل الدكتور عبد المحسن رمضان؛ فأسدى بذلك خدمة جليلة للمشتغلين بدراسات التاريخ الإسلامي بوجه عام.

... 6 ـ أدرك مؤرخنا منذ أمد بعيد أهمية تبسيط التاريخ الإسلامي للقارئ العادي غير المتخصص. ولذلك عمل على الكتابة في الصحف والمجلات مثل صحيفة الوفد ومجلة آخر ساعة. وقد أدى في هذا المجال خدمة كبيرة لما يمكن أن نصفه بالثقافة التاريخية وخروج التاريخ من أسر الأكاديمية وتوجهه إلى العطاءات الواسعة من عامة

 

(1/5459)

 

 

المثقفين، وهو يذكرنا في ذلك الراحل الفاضل الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال الذي اتجه من قبل الوجهة نفسها.

... 7 ـ يذكر لمؤرخنا أنه ساهم في مجال البيبليوغرافيا، ولا أدل على ذلك من مقالته التي بعنوان: "ما ساهم به المؤرخون العرب في المائة سنة الأخيرة في دراسات التاريخ العربي وغيره. وغني عن التقرير أهمية ذلك الجانب على نحو خاص في مجال الدراسات التاريخية بصورة عامة".

... 8 ـ أثار مؤرخنا الراحل بعض الجدل بشأن بعض مؤلفاته، ولا سيما كتابه الشهير "التاريخ السياسي للدولة العربية" (الجزء الأول)، وأودُّ

 

(1/5460)

 

 

أن أقر بأنني بصدد عمل دراسة على هذا الكتاب من أجل تقويمه بموضوعية وحياد من خلال إدراك ضرورة دراسته دراسة متأنية دون انفعال أو قولبة أو اعتساف في الأحكام.

... 9 ـ اهتم الراحل الفاضل بالكتابة في مجال أدب الرحلات. ولذلك نجده قد ألف كتاب "خواطر سائح مصري" في رحلة إلى إسبانيا في الماضي والحاضر الصادر عام 1983 م، وكتابه الآخر "مذكرات مبعوث مصري إلى باريس، حوار بين نحن والآخر"، وهو مخطوط لم يطبع بعد، وأسعى حالياً إلى نشره بالاتفاق مع عائلته الكريمة.

 

(1/5461)

 

 

... 10 ـ من المجالات الإبداعية الأخرى لمؤرخنا الراحل علم البردي. وقد ألف عدة مقالات في هذا المجال في وقت كانت فيه الساحة العربية تعاني من قلة المساهمين العرب بالتأليف في علم البردي بصفته مصدراً للتاريخ الإسلامي في مصر، وذلك من قبل ظهور باحثين من العناصر الشابة مثل الدكتور سعيد مغاوري صاحب الإسهامات المهمة في هذا المجال. وعلى كل حال، فيذكر لمؤرخنا الراحل أنه أسس مركز الدراسات البردية بجامعة عين شمس، وظل يعمل فيه باعتباره الخبير الوطني حتى وفاته.

 

(1/5462)

 

 

... 11 ـ اهتم الأستاذ الدكتور عبد المنعم ماجد بأمر تحقيق المخطوطات، وله إسهامه فيما يتصل بتحقيق السجلات المستنصرية التي أفاد منها في إعداد عدة مقالات عن السياسة الخارجية الفاطمية وعلاقات الفواطم بالقوى الإسلامية المجاورة. ويلاحظ أنه لم يستمر في أمر التحقيق حيث لم يتجه إلى مخطوطات أخرى باستثناء السجلات المذكورة.

... وبعد؛ فتلك حياة مؤرخنا الراحل التي كانت حافلة بالتأليف الذي تراوح بين الكتب والمقالات. وأسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يتغمّده برحمته الواسعة. آمين

 

(1/5463)

 

 

الماء في سبتة الإسلامية: تقنيات التجميع والتوزيع

... ... ... ... ... ... ... ... ...

... ذ. محمد الشريف

... كلية الآداب - تطوان

 

على عكس المدن المغربية الأخرى التي تحتفظ بتراث عمراني يعود إلى قرون خلت، فإن مدينة سبتة قد عرفت -وما تزال- عملية إتلاف لتراثها العمراني الإِسلامي بطريقة منتظمة حسب المصادر الأيبيرية المتعلقة بالغزو البرتغالي للمدينة(1)

__________

(1) G. de Mascarenhas, Historia de la ciudad de Ceuta, éd. Dornellas, Lisbonne, 1918, p.22. Zurara, Crَnica da tomada da Ceuta, pp. 234-235, cité par Ricard, Le Maroc septentrional..., pp. 14-15.

 

(1/5464)

 

 

وحسب شهادة الأركيولوجيين الإسبان المعاصرين أنفسهم(1). فالنواة الحضرية الحالية هي عبارة عن صورة للمدينة الأوربية، بحيث لا تقدِّم للمشاهد سوى منظر للعمران الإسباني وبقايا مادية برتغالية؛ في حين تكاد البقايا الأثرية الإِسلامية تنمحي كلية وبصفة مطلقة من الخريطة الحضرية السبتية. وإذا كنا في مقام لا يسمح لنا بالتفصيل في أسباب هذه الظاهرة ومحدداتها، فإننا نشير إليها لتوضيح الصعوبات التي تكتنف عملية

__________

(1) Posac Monc, ‘‘Datos para la arqueologia musulmana de Ceuta’’, Hespéris-Tumuda, vol.1, 1960, p. 159.

 

(1/5465)

 

 

توطين المعالم العمرانية التي تشير إليها مصادرنا واستحالة »إعادة التركيبة الحضارية للمدينة الإِسلامية«.

وإذا كانت هذه الصعوبات متعلقة بمورفولوجية المدينة وخلاياها القاعدية من منشآت دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية، فإنها تزداد حدة عندما يحاول المرء أن يتعرف على طرق

تجميع المياه وتوزيعها، وهو موضوع دقيق ومرتبط بالمرافق الأخرى الدينية والاقتصادية والعمومية وغيرها. فباستثناء نصّ فريد حول معالم سبتة الإسلامية وهو »اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سنيّ الآثار« لمحمد بن القاسم الأنصاري السبتي الذي

 

(1/5466)

 

 

أفرده الباحثون ما يستحق من عناية بحيث تعددت طبعاته، وترجم إلى لغات أجنبية عديدة(1)؛ فإن النصوص المتعلقة بالجوانب المعمارية السبتية قليلة ونكاد نفقدها فيما يخص موضوع الماء وتقنيات تجميعه وتوزيعه. فالنصوص العربية التي أولت اهتمامها لمسألة الماء مرتبطة أساساً بمنطقة بليونش، إحدى منتزهات الأرستقراطية السبتية خلال العصر الوسيط. فقد أطنبت النصوص في وصف خصبها الزائد ومتنزَّهاتها وعيونها

__________

(1) محمد بن القاسم الأنصاري، اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، 1983.

 

(1/5467)

 

 

الجارية، إلخ. أما قضية الماء بالمدينة نفسها، فإنها نادراً ما أثارت انتباه المؤرخين. كما أن شهادات الجغرافيين العرب بقدر ما هي قليلة ويعيد بعضها بعضاً، فإنها متضاربة وتحتاج إلى تأويل كما سيتبين لنا في حينه.

إن الغموض في نصوص الجغرافيين والمؤرخين العرب وغياب التحريات الأثرية هو الذي يفسر لنا تضارب آراء الباحثين المحدثين فيما يخص طرق تموين المدينة بالماء. فالأستاذ جرمان عياش يرى أن المدينة »لم تكن تتوفر على ماء (1)

__________

(1) G. Ayache, ‘‘Beliounech et le destin du Ceuta entre le Maroc et l’Espagne’’,

 

Hespéris-Tamuda, vol. XIII, 1972, p. 12. ...

 

(1/5468)

 

 

« وأن تزويدها به كان يتم من الخارج، أي من بليونش. بينما يؤكد أوغست مولييراس الذي زار المدينة في نهاية القرن التاسع عشر أن »سبتة تتوفر على ميزة كبيرة مقارنة مع باقي المناطق التي تحتلها [إسبانيا] على الساحل الريفي: إنها مزودة بكثرة بالماء. فعيونها وخزانات مائها وصهاريجها تحميها من الموت عطشا«(1). والواقع أن الرأيين في حاجة إلى تعديل. فلم يكن تزويد المدينة بالماء متوقفاً كلية على الخارج، ولم يكن باطن شبه الجزيرة السبتية زاخرا بالماء.

__________

(1) A. Moulièras, le Maroc inconnu, t. II, Paris, 1899, p. 710.

 

(1/5469)

 

 

1- الموارد المائية الطبيعية

من بين خمسة أمور، يرى ابن خلدون أنه يجب مراعاتها عند اختطاط المدن، نجد أربعة منها كانت تنقص مدينة سبتة؛ وهي الماء وطيب المراعي والمزارع والشجر. بل إن صاحب »المقدمة« وضع مسألة المياه على رأس الأمور التي يجب مراعاتها في أوضاع المدن »لجلب المنافع وتسهيل المرافق للبلد«(1). فكيف استطاع السبتيون توفير مادتهم الحيوية؟ وكيف استعملوها وخزنوها؟ وما طرق تجميعها وصرفها؟ وكيف تدخلت هذه المياه في إضفاء طابع خاص على

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992، ص. 371.

 

(1/5470)

 

 

المنشآت العمرانيَّة بالمدينة؟

خلافاً للمدن الأخرى، لم يكن وجود المدينة مشروطاً بعنصر الماء. فالأرض التي تقوم عليها شبه الجزيرة السبتية مكونة من أحجار شستيّة مانعة لنفاذ المياه ولا تسمح بخلق أكياس مائية تحت أرضها. إن غياب الماء كان أحدث الثوابت التي لم تقف حائلاً أمام تطور المدينة، لأن سكانها تمكنوا بوسائل متعددة من الحصول على المياه الضرورية. ومن المؤكد أن العيون التي كانت تتدفق في سبتة لم تكن تلبي حاجيات السكان. وباستثناء »عين ماء لطيفة لكنها لا تجف البتة«، أشار إليها الإِدريسي بأعلى جبال

 

(1/5471)

 

 

الميناء(1)، فإن أغلب عيون المدينة لم تكن تقدم سوى صبيب ضعيف وهي فترات محددة من السنة. وإذا كان مصادر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تشير إلى عيون عديدة ذات صبيب ضعيف بشبه الجزيرة السبتية وتجف في أغلب فترات السنة، باستثناء عين المينا والقبة(2)

__________

(1) الإِدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المجلد الثاني، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، (د.ت)، ص. 527.

(2) Cravioto C. Gozalbes, ‘‘El abastecimiento de agua en la Ceuta medieval’’, Boletin de la Asociaciَn Espaٌola de Orientalistas, XVII, 1981, pp. 229-230; Idem, ‘‘El agua en la Ceuta medieval’’, Transfretana, v, 1993, pp. 62-63.

 

(1/5472)

 

 

، فإنه يصعب التسليم بكونها كانت موجودة خلال العصر الوسيط.

السقايات:

يخبرنا الأنصاري في بداية القرن 15م أنه كانت توجد بسبتة خمس وعشرون سقاية عمومية. وضمن هذا العدد، يجب على الأقل إدخال بعض العيون التي كانت تقع داخل المدينة أو بالأرباض. والملاحظ أن أغلبية السقايات التي يذكرها الأنصاري في كتابه »اختصار الأخبار« كانت سقايات اصطناعية، بمعنى أن الماء لم يكن ينبع منها مباشرة، بل كان يجلب إليها إما بواسطة القنوات أو أنها كانت عبارة عن جباب تخزن مياه الأمطار.

 

(1/5473)

 

 

- سقاية باب الشواشين، التي لا يطرح موقعها على الخارطة الحالية لسبتة مشكلاً، كانت تقع بإزاء باب الشواشين من أبواب جامع سبتة (الكاتيدرائية حالياً) بطرف العطارين (شارع O’Donnell) وأول سماط العدول (شارع Jaudens). وقد اعتبرها الأنصاري »أبدعها صنعة ووضعاً [...] ذات العنابيب النحاسية والألواح الرخامية والزخرفية والتنميق«(1).

وقد تم اكتشاف صهاريج كبيرة مزدوجة ومتصلة ببعضها البعض في شارع Independencia و Jaudens يبدو أن لها ارتباطاً مع هذه السقاية أو مع الحمام

__________

(1) الأنصاري: Gozalbes, El agua, 63, p. 40.

 

(1/5474)

 

 

المجاور للجامع(1). ومع ذلك، فإن المكان الذي توجد فيه هذه السقاية هو عبارة عن طبقة سميكة من الحجر الشستي الذي يمنع تكوين أي حوض أو إمكانية توفير جيوب مائية في أيِّ فترة من السنة. لذلك يفترض أن هذه السقاية كان يتم تزويدها بواسطة قناة »الأقواس المنحنية« الآتية الذكر(2).

- سقاية جب الميناء:

__________

(1) Mon C. Posac, ‘‘La arqueologيa en Ceuta entre 1960 y 1970’’, Noticiario Hispanico Arqueolَgico, XV, 1971, p. 233.

(2) نفسه.

 

(1/5475)

 

 

يخبرنا الأنصاري أنه من بين السقايات المعدة لسقي الدواب من الخيل وغيرها »سقاية جبّ الميناء العظيم الهيكل« الذي ابتناه الفقيه الرئيس محمد العزفي. لقد كان عبارة عن »صهريجين مشتركين يمد أحدهما الآخر، قد أحكم الأسفل والأعلى منهما فرشا بألواح الصخر المنجور أتم إحكام وأكمله«(1). يمكن القول إن جباب الميناء كانت مفتوحة وتجمع مياه الأمطار المنحدرة من جبل هاشو. لذلك، فإنها لم تكن صالحة للشرب إلا في الحالات الاستثنائية.

 

- سقاية القبة:

__________

(1) الأنصاري، ص. 40.

 

(1/5476)

 

 

كانت سقاية القبة تقع حسب الأنصاري بالربض البراني، وهي عبارة عن »صهريج مستطيل متصل ببئر قريبة التناول طيبة الماء وعليها قبة على أربعة أعمدة وإلى جانبها آثار متعددة للسبيل وربما تبلغ الثمانين«(1). هذه السقاية تطابق بدون شك عين » «Chafaris البرتغالية أو عين « San Antonio » التي تظهر في عدة خرائط إسبانية وبرتغالية، توافق حاليا »حدائق الجمهورية الأرجنتينية«. إن هذه السقاية بآبارها الثمانين دفعت بعض الباحثين إلى افتراض أنها آبار لها علاقة بشبكة هدرولوجية تحت - أرضية تربط البئر الرئيسي بالآبار

__________

(1) نفسه.

 

(1/5477)

 

 

الأخرى التي قد تكون حفرت على مسافات متشابهة(1). إلا أن الأبحاث الأركيولوجية لم تؤكد بعد هذا الافتراض.

2- نقل المياه

تتضارب نصوص المؤرخين والجغرافيين العرب عندما تتعرض لطرق نقل المياه بمدينة سبتة الإسلامية. ففضلاً عن النقولات التي تأخذ بعين الاعتبار تطور تقنيات النقل المستعملة بالمدينة، فإن المصادر تذكر، عندما لا تلوذ بالصمت، استعمال »الشوني« أو »الشواتي« أو »الظهر« في عملية نقل المياه. وطرق النقل هذه تظل غامضة في غيبة سياق مفسر وموضح لها. فابن حوقل

__________

(1) Gozalbes, ‘‘El agua’’, op. cit., p. 63.

 

(1/5478)

 

 

يقول إن ماء المدينة »من داخلها يستخرج من آبار بها معين، ومن خارجها أيضاً«(1). أما البكري، فيذهب إلى أن »حماماتها يجلب إليها الماء على الظهر من البحر«(2)، بينما يخبرنا ابن عذاري بأنه »يجلب الماء إلى حماماتها من البحر«(3)؛ في حين يرى العمري أن »شرب أهلها من الماء المجلوب إليهم من البحر من بليونش

__________

(1) ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، 1963، ص. 79.

(2) أبو عبيد البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، نشر دي سلان، باريس، 1965، ص. 103.

(3) ابن عذاري، البيان المغرب، تحقيق ليفي بروفنسال، الجزء الأول، ص. 202.

 

(1/5479)

 

 

وغيرها« وأن »حماماتها يجلب إليها الماء على الظهر من البحر في الشواتي«(1)، بينما ينقل القلقشندي قوله: »الماء يجلب إليها في الشواني حتى للحمامات التي بها«(2).

بما أن العيون السبتية كانت تنقل صبيباً لا يغطي بتاتاً احتياجات السكان، فقد وجد منذ العهود القديمة ضرورة جلب الماء من الحقول الخارجية عن طريق مجرى مائي اصطناعي.

__________

(1) ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (من الباب الثامن إلى الباب الرابع عشر)، تحقيق مصطفى أبو ضيف، الدار البيضاء،

1988 ، صص. 137-138.

(2) القلقشندي، صبح الأعشى، 5/153.

 

(1/5480)

 

 

إن بقايا قناة مائية بنواحي سبتة تطرح بعض المشاكل في وجه المؤرخين والأركيولوجيين. فعلى بعد بضع كيلمترات من سبتة في اتجاه الحدود المصطنعة مع المغرب، وعلى مقربة من جدول Las Bombas بالقرب من شاطئ »طارخال«، توجد بقايا قناة أطلق عليها اسم »الأقواس المنحنية« (Arcos Quebrados). إن بقايا هذه القناة لا تزال بادية للعيان لحد الآن، وهي عبارة عن ركيزة للقوس الرئيسي، علوها حوالي 15 مترا وبجانبها بقايا ثلاثة أقواس أخرى فقط. وقد ظل قوس واحد منها -وهو أصغرها- قائماً. إن تركيب القناة غير منتظم؛ فهي مكونة من

 

(1/5481)

 

 

أحجار مشذبة في الزوايا، ومضمومة لبعضها البعض بملاط كلسي(1).

ترجع القناة من الناحية الأركيولوجية إلى الفترة الرومانية المتأخرة أو إلى الفترة البيزنطية. ويُعتقد أنها بنيت في فترة كانت فيها سبتة موضوع صراع بين السلطة الفيزيقوطية والسلطة البيزنطية(2). إن موقعها كان سيكون مستحيلاً عندما تتعرض المدينة لهجوم من ناحية الجنوب، أي من

__________

(1) Mon C. Posac, ‘‘El acueducto romano de Arcos Quebrados’’, Segovia y la Arqueologيa romana, Barcelone, 1977, pp. 325-327.

(2) Gozalbes, ‘‘El agua’’, op. cit., p. 66.

 

(1/5482)

 

 

الناحية القارِّيّة. فهل كان الخطر الوحيد الذي تعرضت له المدينة طيلة العصور القديمة يأتي من جهة البحر فقط؟

كان للـ»ـأقواس المنحنية« تخطيط ملتو. فهي بذلك يجب أن تسير بمحاذاة البحر. إن أول ذكر لهاته القناة يرجع للبكري الذي أشار إلى ذلك المنحنى عندما يقول إنها كانت تسير »مع ضفة البحر القبلي«(1)، وبالتالي فمن الممكن أنها كانت تخترق الربض البراني. إن قربها من البحر هو الذي يفسر لنا قول ابن عذاري بأن ماء المدينة »يجلب الماء إلى حماماتها من البحر« أو قول العمري: »وشرب أهلها من الماء

__________

(1) البكري، 104.

 

(1/5483)

 

 

المجلوب إليهم من البحر«.

من جهة أخرى، يخبرنا البكري بأن ماء سبتة كان يجلب »من نهر أويات مع ضفة البحر القبلي في قناة إلى الكنيسة التي هي اليوم الجامع«، أي المنطقة الوسطى لسبتة. ونعتقد أنه انطلاقاً من هاته المنطقة الوسطى كانت القنوات الصغرى توصل الماء الشروب إلى السقايات الأخرى بالنواة الحضرية.

ويبدو أن هاته القناة لم تعد تلبي كل حاجيات المدينة المائية المتزايدة بتزايد عدد سكانها وتوسع نسجها الحضري، أو أنها تعرضت للتلف؛ الأمر الذي استدعى ضرورة البحث عن وسائل أخرى لجلب المياه للمدينة. ففي القرن

 

(1/5484)

 

 

الثاني عشر يخبرنا صاحب »الاستبصار« أن الخليفة الموحدي أبا يعقوب أصدر أوامره سنة 580 [1181م] »بجلب الماء إليها من قرية بليونش المذكورة على ستة أميال من سبتة في قناة تحت الأرض حسبما جلبه الأوائل في قرية قرطاجنة وغيرها، وشرع في العمل فعرضت أمور أوجبت التربص إلى حين يأذن الله تعالى بذلك، والرجاء الآن مؤمل ونحن في سنة 87 [5]«(1). وإذا كنا لا نعرف مصير المشروع الموحدي، فإن بليونش التي كانت مقصد العائلات السبتية

__________

(1) مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، نشر سعد زغلول، الدار البيضاء، 1985، ص. 137.

 

(1/5485)

 

 

الميسورة خلال فصل الصيف، هي التي كانت تتوفر على مياه غزيرة. إن الأبحاث الأركيولوجية توضح وجود نظام واسع ومعقد للزراعة وتخزين المياه بهذه المنطقة(1).

__________

(1) P. Cressier (et autres), ‘‘El urbanismo rural de Belyounech aproximaciَn metodolَgica a un yacimiento del norte de Marruecos’’, Teruel, 1986, pp. 327-349.

H. Terrasse, ‘‘Recherches archéologiques d’époque islamique en Afrique du Nord’’, Compte rendu de l’Académie des Inscriptions et Belles Lettres de 1976, Paris, 1977, pp. 590-611.

 

(1/5486)

 

 

3- أساليب أخرى لاستخراج وجلب المياه

ولم يكن جلب المياه من بليونش العملية الجديدة ولا الوحيدة التي لجأ إليها السبتيون للحصول على الماء، فقد وجد طرائق أخرى لاستخراجه. يتعلق الأمر بماء البحر المستعمل في الحمامات. فالبكري يخبرنا أن حمامات المدينة كان »يجلب إليها الماء على الظهر من البحر«(1)، بينما يخبرنا العمري أن »شرب أهلها من الماء المجلوب إليهم من البحر«(2). في حين ينقل القلقشندي عن غيره قوله: »والماء يجلب إليها في الشواني حتى للحمامات التي

__________

(1) البكري، ص. 104.

(2) العمري، صص. 137-138.

 

(1/5487)

 

 

بها«(1).

ومن المحتمل أن يكون الأمر يتعلق بنظام الناعورات الرافعة للماء والتي تحركها الدواب بحيث تستخرج المياه من البحر وتصب في المصاريف التي توزعها بدورها على الصهاريج والحمامات. ويشير الأنصاري إلى هذه الطريقة -ولا شك- عندما يخبرنا أن الميضأة الكبرى، ميضأة الجامع الأعظم، كان يجلب إليها الماء بالدواليب. كما أن المقري يشير إلى التقنية نفسها في معرض حديثه عن مآثر الشريف أبي العباس الحسني إذ يقول: »وله بسبتة آثار تحكي الآثار العزفية كالرياض الأعظم الذي أمام باب

__________

(1) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص. 153.

 

(1/5488)

 

 

الميناء الأسفل الذي تأنق في بنيانه وأبدع صنعته وجلب إليه الماء بالدواليب حتى أوصله إلى القبة ذات الأعمدة«(1).

هذا، وقد استعملت طريقة أخرى أشار إليها كل من العمري وأبي الفدا والقلقشندي، وهي حمل الماء بواسطة المراكب. وأخيراً، فإننا لا نعدم وجود السقائين الذين يحملون المياه على أكتافهم أو على دوابهم(2) بسبتة في العصر الوسيط.

4- تخزين الماء: الأحواض والصهاريج

__________

(1) المقري، أزهار الرياض، ج 1، صص. 39-40.

(2) الأنصاري، ص. 43.

 

(1/5489)

 

 

لقد أشار ابن حوقل إلى استعمال الآبار بسبتة منذ القرن العاشر قائلا: »وماؤها من داخلها يستخرج من آبار بها معين«(1). ولكن نادراً ما كانت الآبار تعطي مياها غزيرة. وفي كل الحالات كانت مياهها أجاجاً، وذات نوعية رديئة. فقد وصف ابن الخطيب آبار المدينة بكونها »غير بكية« ولا غزيرة(2).

ولا تشير مصادرنا إلى استعمال الخزانات والصهاريج لتخزين مياه الأمطار ولجلبها إلا ابتداء من القرن الثالث

__________

(1) ابن حوقل، ص. 79.

(2) ابن الخطيب، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق محمد كمال شبانة، الرباط (د.ت)، ص. 146.

 

(1/5490)

 

 

عشر. فقد أشار إليها كل من أبي الفدا والعمري والقلقشندي والأنصاري. فالعمري يقول: »وفي داخلها صهاريج من ماء المطر«. أما أبو الفدا والقلقشندي، فيؤكدان أن ماءها مجلوب، »ولها صهاريج من المطر«.

ويبدو أن الصهاريج والجباب كانت لها أهمية كبيرة في المدينة، حتى صارت كتب التواريخ تحرص على تسجيل سنوات إنشائها وتعدها من المنجزات التي تستحق التنويه بالمدينة. فالأنصاري يتحدث عن سقاية »جب الميناء العظيم الهيكل الذي ابتناه الفقيه الرئيس محمد العزفي وخلده أثراً غريباً بعده«(1)

__________

(1) القلقشندي، 157؛ العمري، صص. 137-138؛ أبو الفدا، تقويم البلدان، ص. 133.

 

(1/5491)

 

 

بينما سجل صاحب »الذخيرة السنية« بناء الفقيه العزفي للجب بأسفل الميناء من مدينة سبتة ضمن أهم أحداث المغرب سنة 654 هجرية(1). بل إن المطامير التي استعملت على نطاق واسع بالمدينة لتخزين الحبوب(2) كانت في بعض الأحيان تستعمل لخزن المياه كما توضح ذلك نتائج الأبحاث الأركيولوجية(3).

__________

(1) الأنصاري، ص. 40.

(2) مجهول، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، الرباط، 1972، ص. 82.

(3) M. Cherif, Ceuta aux époques almohade et mérinide, l’Harmattan, Paris, 1995.

 

(1/5492)

 

 

أما المؤرخون البرتغاليون، فقد أشاروا كذلك للصهاريج. ف »زرارا« يخبرنا أنه كانت توجد »صهاريج وسقاية قرب الباب المسماة باب المينا التي تشرع على الربض الشرقي نحو جبل هاشو الحالي«(1). وقد ترك لنا أحد الكتاب البرتغاليين وصفاً لأحد هذه الصهاريج بما ينم عن أهميتها في تزويد السكان بالماء الشروب. يقول: »إنه صهريج جميل وكبير، مقبب، ويحتوي على

__________

(1) Mon. C. Posac, ‘‘Datos para la arqueologia musulmana de Ceuta’’, Hespéris-Tamuda, vol. 1, 1960, p. 161; R. Ricard, ‘‘Le Maroc septentrional’’, op. cit., pp. 9-10.

 

(1/5493)

 

 

أكثر من ثلاث مائة عمود من حجر. وسطه كله مغطى بالزليج أو الآجر المزلج«. وبعد أن يشبه هذا الصهريج بقرية من خمسمائة نسمة، يخبرنا أن »المسلمين كانوا يجمعون في هذا الصهريج كميات هائلة من المياه، بالإضافة إلى العيون التي تتدفق بالمدينة«. ويبدو أن سلطات المدينة لم تتكلف وحدها بنفقات صيانة هذا الصهريج، لأن »كل السفن التي تأتي إلى هنا وتريد أن تأخذ ماء كانت تؤدي قدراً معينا لإصلاح هذا الصهريج(1)

__________

(1) Valentin Fernandez, Description de la côte d’Afrique de Ceuta au Sénégal, Traduction par P. de Cenival et T. Monod, Paris, 1938.

 

(1/5494)

 

 

. ويبدو أن هذا الصهريج قد تعرض للتلف قبل بداية القرن الخامس عشر، لأن الأنصاري لم يشر إليه بتاتاً في »اختصار أخباره« بالرغم من حرصه على الإشادة بمآثر المدينة القائمة منها والمندثرة.

ومن بين أهم الصهاريج المائية التي كانت تزود سكان المدينة بالماء، نشير بصفة خاصة إلى صهريجين كبيرين على مقربة من الجامع الكبير، أحدهما كان يجمع مياه الأمطار؛ لكن ليس فقط عن فتحة الجب، وإنما بواسطة طريقة معقدة لصرف المياه. أما الصهريج الآخر، فكان يجمع المياه المنقولة بواسطة قناة الأقواس المنحنية(1)

__________

(1) Gozalbes, ‘‘El agua’’, op. cit., p. 69.

 

(1/5495)

 

 

.

ونتوفر على مثال لصهريج كبير عثر عليه في سراديب إحدى البنايات في بداية شارع Jaudenes ودرسه الباحث الأركيولوجي الإِسباني كارلوس بوساك مون. كان الصهريج يتألف من ثلاثة مستودعات (خزانات) متصلة ببعضها ومغطاة بقبو أزجي (Voûte en berceau) وكان حجم المستودعين الجانبيين أكبر، وكانت لهما فتحة مستديرة الشكل تدخل منها قناة تتكون من أنبوبين من الخزف. أما المستودع الأوسط، فقد كان سقفه فجوة رباعية الزوايا حيث كانت توجد فتحته. أما بالنسبة للمواد المستعملة، فكانت عبارة عن حجارة وآجر ملتصقة بجير. بينما كانت

 

(1/5496)

 

 

الحيطان مغطاة بملاط من كلس ومرمر مطلي باللون الأحمر(1)، كما عثر على صهريج آخر يتكون من مستودعين مستطيلين ومتصلين(2).

إن هذه الصهاريج كانت لها علاقة -ولا شك- بقاعة وضوء الجامع الكبير أو بقاعة وضوء المدرسة الجديدة أو بالحمامات الملحقة بها. كما أن كثيراً من هذه الصهاريج كانت توجد قرب جبل هاشو لاحتواء المياه السيالة من سفوحه. ويشير الأنصاري بدوره إلى »صهريجين مشتركين يمد أحدهما الآخر«

__________

(1) Mon C. Posac, Estudio arqueolَgico de Ceuta, Ceuta, 1962, p. 43.

(2) Mon C. Posac, Estudio arqueolَgico de Ceuta.

 

(1/5497)

 

 

بجبل المينا(1).

5- ترشيد استعمال الماء بسبتة: التخصص في الاستعمال

على عكس المناطق التي يتوفر بها الماء بكثرة والتي كانت تستعمل نوعية واحدة من الماء في جميع الاستعمالات والوظائف، فإن قلة الماء في سبتة دفعت بالسكان إلى الاستفادة من جميع أنواع المياه الموجودة وإلى استغلالها حسب نوعيتها، مما خلق نوعاً من التخصص في وظائفها. لقد استُعمل صنفان أساسيان من المياه في الحمامات وفي البيوت الميسورة وكذا في ريِّ البساتين داخل المدينة نفسها(2)

__________

(1) الأنصاري، ص. 40.

(2) يشير زورارا إلى المنازل ذات البساتين في الطرف الغربي بين المدينة وأفراك (Ricard, Le Maroc, op. cit., p.11. ).

 

(1/5498)

 

 

: الماء الشروب وماء البحر. لقد كان ربض المينا في هوامش جبل هاشو يستفيد من مياه الأمطار ومياه الآبار التي كانت توجد هناك بلا شك. كما كان يتم الحصول على الماء المخصص للشرب وللحمامات كذلك من الجباب والآبار التي كانت تتوفر عليها أغلب المنازل السبتية(1). وعندما تجف الآبار في فصل الصيف، كان يتم التزود من العيون أو من الصهاريج الكبيرة بالمدينة التي كانت توجد بجوار الجامع الكبير. وبهذا الصدد، يشير بوساك مون -وهو يستند على أبحاثه الأركيولوجية- أن

__________

(1) Mon C. Posac, Estudio arqueolَgico de Ceuta, p. 43.

 

(1/5499)

 

 

منازل سبتة كانت تتوفر على بساتين ملاصقة لها تجري إليها المياه بواسطة سقايات صغيرة أو في أنابيب من الرصاص والطين. إن أغلب المكتشفات الأثرية المتعلقة بفوهات الآبار تم العثور عليها بمنطقة الربض الأوسط(1).

ولقد أشارت المصادر التي تجمع على أن حمامات المدينة كانت تستعمل مياه البحر إلى هذا التخصص. من جهة أخرى، نجد الأنصاري يلمح إليه في معرض حديثه عن مياه أحواض جبل المينا التي لم تكن كلها شروباً. فهو يشير إلى »السقايات المعدة لسقي الدواب من الخيل وغيرها«، وعلى رأسها سقاية جب الميناء

__________

(1) نفسه، ص. 45.

 

(1/5500)

 

 

»العظيم الهيكل المشهور«(1).

وكانت كثير من الصناعات تحتاج إلى كميات هائلة من الماء مثل الطاحونات المائية والمقاصر والدباغة، إلخ. ويستنتج من »اختصار الأخبار« أن جميع مرافق المدينة الصناعية كانت تتوفر على كميات كافية من المياه. فقد كان عدد المقاصر بالمدينة خمسة وعشرين مقصراً توجد »تحت الأسوار والأبراج والأبواب« منها بالميناء ستة عشر. كما كانت بعض المقاصر توجد بأرباض المدينة وبقراها. والملاحظ أن غالبية هاته المقاصر كانت توجد قرب »القالات« التي كان الماء يجري فوقها داخل قواديس،

__________

(1) الأنصاري، ص. 40.

 

(1/5501)

 

 

كقالة الدنيفي وقالة البسابيس وقالة الصندل وقالة العين(1). أما طواحين المدينة، فقد كانت جميعها بمياهها »لا تفتقر ولا تحتاج إلى شراء ماء من سقاء ولا من غيره أصلا«(2). والملاحظ أن الطواحين كانت تقع في غرب المدينة في الجزء الخارجي لأسوار الربض البراني. وفي هذه الحالة، فإن الماء الضروري لها كان يجب أن يستخرج في غالبيته من البحر. وهذا ما يفترض وجود ناعورة كانت تقع في مرتفع الربض البراني وتطل على البحر الجنوبي.

__________

(1) نفسه، صص. 49-50.

(2) نفسه، ص. 43.

 

(1/5502)

 

 

ومن شبه المؤكد أن الطاقة المائية المحركة للطواحين السبتية كانت تستمد من مياه البحر. إن طبوغرافية البرزخ السبتي تمتاز بارتفاع الساحل الجنوبي عن الساحل الشمالي. ونعرف أن الماء كان يستخرج من البحر للحمامات. فإحدى الحلول الممكنة والمحتملة جداً لمشكلة الطاقة تكمن في كون أحجار الطاحونات كان يتم تحريكها بواسطة ماء البحر حسب الطريقة التالية: تستخرج المياه من البحر في الساحل الجنوبي عن طريق الناعورات، وكانت هاته المياه تخزن في الجباب والصهاريج، ومنها تطلق في القنوات (كانت مسندة إلى الجانب الداخلي

 

(1/5503)

 

 

للأسوار) التي تحملها في المنخفضات تنازلاً حتى الحمامات والطاحونات. وحتى الصناع التقليديون القريبون منها الذين يحتاجونها. ومن الواضح أن مياه البحر هي التي كانت تستخرج من البحر الجنوبي. بما أن هناك اختلالات في المستوى أكثر فجائية منه في الساحل الشمالي الذي كان وما زال ساحلا متوحلاً(1).

بفضل هذه التقنيات وبفضل التخصص في استعمالهم للمياه حسب الحاجة، سينجح سكان سبتة في التغلب على مشكلة قلة المياه بمدينتهم. بل إنهم سينجحون في تزويد جميع مرافق

__________

(1) Craviato C. Gozalbes, ‘‘El agua’’, op. cit., p. 72.

 

(1/5504)

 

 

مدينتهم بالمادة الأساسية حسبما يستخلص من وصف الأنصاري لسبتة في القرن الخامس عشر. إنه وصف يترك الانطباع لدى القارئ بأن مشكل الماء قد وجد حلاًّ بصورة نهائية بكل أنحاء المدينة وعلى جميع المستويات. فهو عندما يتطرق للمرافق المحتاجة للمياه مثل السقايات والميضآت والمقاصر وغيرها، يقدم لنا عنها وصفاً لا يدع مجالاً للشك في وفرة المياه بالمدينة. فعند تعرضه مثلاً للحمامات بالمدينة، يقول: »وعدد الحمامات المبرزة للناس إثنان وعشرون حماماً«، ويصف حمام القائد بكونه »بلغ الغاية في الكبر، يسع المئين من الناس«.

 

(1/5505)

 

 

أما »حمام عبود بناحية الميناء، [فكان] نظير حمام القائد في الضخامة والهيكل«؛ كما كان بـ»ـالقصبة عشرة حمامات«، بل كان »بكل دار من ديار سبتة حمام ومسجد إلا القليل«. أما بخصوص الطواحين المائة وثلاثة، فإنها كانت جميعها »بمياهها فيها لا تفتقر ولا تحتاج إلى شراء ماء من سقاء ولا من غيره أصلاً«. ويختم الأنصاري شهادته بالقول: »وذلك جميع مساكن سبتة حيثما كانت بأقطار المدينة حتى ذلك موجود في المصريات والعليات المحملة«(1).

__________

(1) الأنصاري، صص. 34-35، 39-41، 43، 49-50.

 

(1/5506)

 

 

لقد عرف السبتيون كيف يحصلون على الماء وكيف يخزنونه حتى أصبحوا من مهرة استعماله. لقد تم تجاوز مشكلة قلة المياه بطريقتين: تنويع طرق الحصول عليه بشكل يضمن أقصى غزارة ممكنة ولو عن طريق الحصول على كميات صغيرة. ومن جهة أخرى، تحقيق ما يمكن أن نسميه بالتخصص في وظيفة كل نوع من أنواع المياه مع ترشيد استغلالها على أحسن وجه.

أما بنية توزيع الماء بسبتة خلال العصر الوسيط، فقد ظلت صالحة لتزويد المدينة بالمادة الحيوية طيلة العصر الحديث والمعاصر(1)

__________

(1) Craviato C. Gozalbes, ‘‘El abastecimiento de agua’’, op. cit., p. 238.

 

(1/5507)

 

 

. وإلى حدود بدايات القرن العشرين، كانت البنية الوسيطية كافية لتلبية حاجات سكان شبه الجزيرة السبتية.

ومن الثابت الآن أن عملية تنظيم شبكة المياه من أهم العوامل التي ساعدت على إنشاء العديد من المنشآت المعمارية التي كانت تزخر بها مدينة سبتة الإسلامية. فالسقايات والميضآت

مثلا تعتبر أشكالاً معمارية ذات قيمة فنية وزخرفية أضفت رونقاً على الطرق العامة بالمدينة ومشآتها العمومية والخصوصية(1)

__________

(1) إن وصف الأنصاري يفصح جليا عن هاته العلاقة بين الماء والزخرفة المعمارية. يصف لنا حمام القايد ناصح قائلا: (صص. 34-53): »وهذا الحمام [...] قائم على أعمدة الرخام، مفروش بألواحه الساطعة البياض، والمسلخ متسع الساحة [...] وسقفه قبة مرتبة متقنة على أربع حنيات، وبالصحن صهريج كبير مرتفع عن الأرض، وفي وسط الصهريج سارية مجوفة فوقها طيفور من الرخام الموصوف يصعد الماء في جوف السارية إلى أن يفور في الطيفور وفيضه يملأ الصهريج«. أما ميضأة المدرسة الجديدة، فيقول عنها (ص. 141): »تحتوي على بيوت ثمانية ومطهرة كبيرة، وفي كل منها نقير من الرخام يصب فيه ميزاب من النحاس، وفرش الجميع ألواح منجورة من الصخر، وبوسطها صهريج مفروش بالزليج الملون وقبتها مونقة ومن بعضها صنائعها نور البابونج يخاله الناظر إليه خلقة من أحكام الصناعة، ويجلب الماء إلى ذلك كله بالدواليب«. أما سقاية باب الشواشين، فكانت أبرع سقايات المدينة »ذات العنابيب النحاسية والألواح الرخامية والزخرفية والتنميق« (نفسه، ص. 40).

 

(1/5508)

 

 

.

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة

الأنصاري، محمد بن القاسم، اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، 1983.

أبو عبيد البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، نشر دي سلان، باريس، 1965.

الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، المجلد الثاني، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، (د.ت).

ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992.

أبو الفدا، تقويم البلدان، ط. وترجمة، راينود، باريس، 1848.

ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، 1963.

 

(1/5509)

 

 

ابن عذاري، البيان المغرب، تحقيق ليفي بروفنسال وكولان...، الجزء الأول، ط. بيروت، 1980.

ابن الخطيب، معيار الاِختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق محمد كمال شبانة، الرباط، (د.ت).

مجهول، كتاب الاِستبصار في عجائب الأمصار، نشر سعد زغلول، الدار البيضاء، 1985.

مجهول، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، الرباط، 1972.

المقري، أزهار الرياض، الجزء الأول، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، القاهرة، 1940.

العمري (ابن فضل الله)، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (من الباب الثامن إلى الباب الرابع عشر)، تحقيق مصطفى

 

(1/5510)

 

 

أبو ضيف، الدار البيضاء، 1988.

القلقشندي، صبح الأعشا في صناعة الإِنشا، الجزء الخامس، ط القاهرة، 1915.

محمد الشريف، سبتة الإسلامية: دراسات في التاريخ الاِقتصادي والاِجتماعي، تطوان، 1995.

Ayache G, «Beliounnech et le destin de Ceuta entre le Maroc et l’Espagne», Hespéris-Tamud, vol. XIII, 1972.

Bravo Pérez (J.) y Bravo Soto (J.), Vestigios del pasado de Ceuta, Transfretana (Instituto de estudios ceutistas), Ceuta, n° 4, 1983-84.

 

(1/5511)

 

 

Cherif (M.), Ceuta aux époques almohade et mérinide, l’Harmattan, Paris, 1996.

Cressier P. (et autres), «El urbanismo rural de Belyounech aproximaciَn metodolَgica a un yacimiento del norte de Marruecos», Teruel, 1986.

Gozalbes Cravioto (C.), «El abastecimiento de agua en la Ceuta medieval», Boletيn de la Asociaciَn Espaٌola de Orientalistas, XVII, 1981.

Gozalbes Cravioto (C.), «El agua en la Ceuta medieval», Transfretana, V, 1993.

Moulièras (A.), Le Maroc inconnu, t. II, Paris, 1899.

 

(1/5512)

 

 

Posac (Mon C.), «Datos para la arqueologيa musulmana de Ceuta», Hespéris-Tamuda, vol. 1, 1960.

Posac (Mon C.), Estudio arqueolَgico de Ceuta, Ceuta, 1962.

Posac (Mon C.), «El acueducto romano de Arcos Quebrados», Segovia y la Arqueologيa romana, Barcelone, 1977.

Posac (Mon C.), «La arqueologيa en Ceuta entre 1960 y 1970», Noticiario Hispلnico Arqueolَgico, XV, 1971.

Ricard (R), «Le Maroc septentrional au XVe siècle d’après les chroniques portugaises», in Etudes sur l’histoire des portugais au

 

(1/5513)

 

 

Maroc, Coimbre, 1955.

Terrasse (H.), «Recherches archéologiques d’époque islamique en Afrique de Nord», Compte rendu de l’Académie des Inscriptions et Belles Lettres de 1976, Paris, 1977.

Valentin (Fernandez), Description de la côte d’Afrique de Ceuta au Sénégal, Traduction par P. de Cenival et T. Monod, Paris, 1938.

 

(1/5514)

 

 

المثلث العربي (الخليج-الشام-المغرب) وظهور الإنسان الأول

... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ عبد العزيز بن عبد اللٌه

عضو أكاديمية المملكة المغربية

... كانت منطقة الخليج العربي أول ساحة ترعرع فيها الإنسان الأول الذي عاش حول "خط الاٍستواء" في الربع الخالي من القارتين الأسيوية و الإفريقية و من هذه المنطقة انطلقت هجرات الأشوريين و البابليين و الكلدانيين الذين أسسوا ممالك حول (ميزوبوطانيا) (Mésopotamie) أو للاد الرافدين (دجلة و الفرات) ثم (آسيا الصغرى) (Asie Mineure) من حيث هاجرت قبيلتان هما

 

(1/5515)

 

 

الآخيون والدوريون لبحر (إيجي) حيث تم تأسيس مملكة الإغريق أو اليونان وقد توثقت هذه المعلومات من طرف علماء غربيين لاحظوا أن الأغارقة كانوا يكتبون من اليمين إلى اليسار و أن حروفهم مقتبسة من الألفبائية العربية وهو (Alfa B etc.) (أي الألف و الباء) و يرى بعض هؤلاء المؤرخين أن العرب الكنعانيين و هم الفينيقيون كانوا قد استقروا فترة من الزمن في شواطئ الخليج قبل أن ينتقلوا إلى سواحل الشام و أنهم سموا مدينة "صور" على شاطئ البحر المتوسط تيمنا باسم مدينتهم الأولى بالخليج و لعل الآثار التي تم مؤرخون محدثون

 

(1/5516)

 

 

أمثال (جان كاك بيريبي) في كتابه حول (الخليج) و بذلك يكون الكنعانيون قد هاجروا من الخليح إلى البحر المتوسط عبر الشام منذ خمسة الآف سنة كما يقول المؤرخ (رولنسون) وعندما وسع الفينيقيون مراكزهم التجارية على شواطئ البحر المتوسط أسسوا حوالي عام (1100 قبل الميلاد) مدن ليكس(Lixus) (قرب العرائش بالمغرب الأقصى) و لمطة بليبيا (Leptis Magne) (على وزن مكة و بكة)، و عتيقة (Ultique) ثم (Cartage) (قرية حداش أو القرية الحديثة) بتونس و مالقة و قادس الأندلس و هيبو (عنابة) و بنزرت.

 

(1/5517)

 

 

... و هنالك هجرات أخرى من الخليج إلى المغرب عبر فارس أشار إليها سالوست (Salluste) المتوفي عام 35 قبل الميلاد، في كتابه حول (حرب يوغورتا) ملك نوميديا عام(154ق.م) ملاحظا أن الفرس انتقلوا ضمن غاراتهم على (الجزيرة الإيبيرية) (إسبانيا و البرتغال) في عهد هيراكلس (Heraclius) (575 ه-641ه)فتحولت أشرعة مراكبهم بشدة الريح إلى المحيط الأطلنطيقي فوصلوا إلى جنوب المغرب حيث اتصلوا بالجيتول(Gétules) و هم أهل جزولة الحالية على ما يظهر، فتصاهروا معهم و سميت (سوس) (و كذلك كل من مدينتي سوسة التونسية (التي عرفت

 

(1/5518)

 

 

بحضرموت) و الليبية) اقتباسا من كلمة سوسيانة (Susiane) (أو أرض عيلام) الواقعة بمنطقة الأهواز على أن الفرس اشتهروا قديما بالنوميديين.

... و إذا رجعنا إلى الحفريات الجيولوجية لاحظنا أن عناصر مستحجرة قرب الدار البيضاء هي أقدم ما وجد في الشمال الإفريقي مما يدل على أن الإنسان ظهر في المغرب في عهد سحيق مثله في أوربا الغربية أي في "عتبة العهد الجيولوجي الرابع".

... كما يدل التوزيع الجغرافي لهذه العناصر على أن المغرب لم يحتله الإنسان الأول و لكن عبره في جميع الجهات منذ أعرق عصور ما قبل التاريخ ففي بعض

 

(1/5519)

 

 

المناطق كالمنحدر الأطلنطكي و نواحي الشرق بوادي ملوية يلاحظ نوع من الموصولية و الاستمرارية في مواقع السكن خلال العصر الرابع في حين أن الأطلسين الأوسط و الأكبر لم يعرفا تسربا بشريا جزئيا أو موسميا إلا ابتداء من العصر الجيولوجي الأعلى وهكذا يمكن القول بأن أقدم البقايا التي خلفها الإنسان تفتح أمامنا آفاقا جديدة عن ماضي المغرب في سحيق ما قبل التاريخ تشمل مئات الآلاف من السنين و قد تأكد وجود الإنسان الأول في المغرب عندما تم الكشف في أبواب الرباط (القبيبات) عن شظايا جمجمة بشرية كما يظهر بقايا إنسان ما

 

(1/5520)

 

 

قبل التاريخ من نفس الفصيلة أي إنسان (النيانديرتال) (Homo Neandertalensis) Neandertal و قد عثر عليها في مغارة قرب أشقار بإقليم طنحة و توجد نماذج من ذلك في مريكا( Peabod Museum of American Archaeology and Ethnology - Harvard University, Cambridge, mass...;USA)

... و يلوح أن المعطيات المستخلصة من "منجم القبيبات" تسمح بتحديد ميقات دقيق نسبيا لإنسان الرباط هو نفس تاريخ إنسان النيانديرتال بل إن ما عثر عليه في مناجم فلسطين يرجع لنفس التاريخ و هذا الثالوث المستحجر هو الوحيد الذي وقع الكشف عنه لحد الآن

 

(1/5521)

 

 

و مناجم فلسطين هذه هي مستحجرات جبل كرمل و جبل كفزة قرب الناصرة فإنسان جبل كفزة شبيه في فكه و حنكه بإنسان الرباط (هسبريس، ص. 35 عام 1945) .

... و قد عثر على جمجمة في (تافوغالت) إحدى جماعات دائرة بني إسناسن (إقليم وجدة) Abbé Jean Roche-l'épipaléolithique marocain-Bertran, Lisbonne, Didier, Paris, 1963, 2 vol (262 p.) حول حفريات كهف (تافوغالت) بالمغرب الشرقي في هضاب بني يزناسن وهي تعطي صورة عن أدوات يرجع تاريخها إلى ألفين من السنين قبل فجر العصر الحجري الحديث و تليه أيضا دراسة حول حفريات مغارة

 

(1/5522)

 

 

كيفان بلغماري بناحية تازة و في الأخير دراسة حول حفريات مناجم المغرب الأطلنطيكي بورغة العليا (مغارة عين معطوف و مركز تاونات).

... و قد عثر في الصين على قحف أو جمجمة يظهر أنه هو أقدم نموذج لإنسان ما قبل التاريخ و ذلك في Kung Wangling بإقليم Chensi و هو عبارة عن قحف الرأس بعظم الأنف و الجبهة اليمنى و بعض الفك الأعلى و سنين و عمره يقدر بستمائة ألف عام (600.000) حسب حسابات العالم الصيني Wu Yu Kang و هذا هو رابع نموذج لإنسان ما قبل التاريخ عثر عليه بعدما وجد في جاوا و Cro-maghon و بيكين (عن وكالة

 

(1/5523)

 

 

الصين الجديدة -يناير 1965) و كان يظن فيما قبل أن الإنسان الأول عاش في خط الاستواء قبل ثلاثمائة ألف عام ثم عثر في جزر المحيط الهادي على تلك الجماجم البشرية فتأكد بعد تحليلها أن تاريخها يرتفع إلى ستمائة ألف عام ثم عثر مرتين في بلاد التشاد و كينيا على جماجم يظهر أنها ترجع لمليون بل ملايين السنين حسب نتائج التحليل العلمية و إن كانت التجارب العلمية الحديثة أصبحت تثير الشك في هذه الأعداد الخيالية و مهما يكن فإن الإنسان ربما عاش في الصحراء الإفريقية كما تؤكد ذلك النماذج التي عثر عليها بشمال المغرب و

 

(1/5524)

 

 

القبيبات بالرباط و سيدي عبد الرحمن بالدار البيضاء.

... أما جمجمة إنسان النيانديرتال المكشفة في دوسلدورف بألمانيا عام 1857 و تاريخها 40000 عام قبل الميلاد فقد صور العلماء عصرا بأسره عنها ساد أوربا منذ 60000 عام و كان هؤلاء الناس قصارا لهم جماجم تزيد على جماجمنا 200 سنتمتر مكعب : Lull, The Evolution of Man, 6p. 2 /قصة الحضارة، ج 1، ص. 158 (ول ديورانت) حيث أكد المؤلف أن جنسا آخرا حل بأوربا حوالي 20000 عام ق.م.. كما تدل الآثار المكشوفة عام 1868 في مغارة Cro-Magon بفرنسا و يقول العلماء بأن هذه

 

(1/5525)

 

 

الفصيلة جاءت من آسيا الوسطى و إفريقيا و الآثار التي وجدت في تونس و الجزائر مما يشبه آثار العصر الأورجناسي حول عام 25000 ق.م (Aurignacian) تدل على أن إفريقيا هي الأصل التي شهدها العصر الحجري.

لاحظ العالم الباكستاني مولانا قوصر نيازي Causer Niazi) ) في كتابه خلق الإنسان (Creation of Man) (ص.6) أن العالم (كارلطون) أكد أن العالم خلق قبل الميلاد بسبعة الآف سنة وقد ورد ذلك مفصلا في كتاب تاريخ الإنسان (The History of Man, p.63) .

 

(1/5526)

 

 

كما لاحظ ويلز (H.G. Wells) في كتابه الخطوط الكبرى للتاريخ (Outliné History) أن هذه المدة يمكن رفعها إلى إثني عشر ألف سنة بل وحتى عشرين ألفا على الأكثر و لم يقل أحد من العلماء قبل قولة داروين عام 1858 م إن عمى الإنسان سبعمائة ألف سنة و قد فند العالم الباكستاني هذه الدعوى بالحجج العلمية في جزء كبير من كتابه مستندا إلى نصوص المؤرخين و الفلاسفة و النسابين العرب و المسلمين و النشوء و الارتقاء مذهب كان معروفا عند العرب قبل داروين فقد قال الخازن : "إن الجهلة حينما يسمعون بتحول بعض الأجسام بطريق

 

(1/5527)

 

 

التكامل يعتقدون أنه كان رصاصا ثم فضة إلى أن انتهى ذهبا و لا يدركون أن الفلاسفة يريدون بما يقولونه الإنسان أيضا إذا لم يصل إلى الحالة التي هو فيها الآن بالانقلاب السريع بل بالتدريج كان مر بصورة العجل فالحمار فالفرس فالقرد إلى أن انتهى إنسانا" (حاضر العالم الإسلامي، ج1، ص.153).

 

(1/5528)

 

 

المجتمع الإسلامي والثقافة اليوم

 

الدكتور سعيد بن سعيد العلوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية-بالرباط

 

الاهتمام بالمسألة الثقافية في المجتمع الإسلامي، إجمالا، والبحث في صلة الثقافة في ذلك المجتمع بمسألة القيم، اهتمام ضئيل، بل يكاد يكون منعدما. وحضور المسألتين في الفكر العربي الإسلامي المعاصر حضور خجول متردد، صنيع الوافد الغريب الذي يخشى أن يكون حضوره مزاحمة للحضور ومضايقة له. وحين يكون الحديث عن القيم أو يكون حديثا في الثقافة فهو إما يأتي متسما بسمة الخطابية والقول العقيم الذي لا يفيد في العلم ولا

 

(1/5529)

 

 

يحدث تقدما فيه، وإما أنه يكون خطاب من يرضى الوجود في منطقة الظل ويقنع من الترتيب من الأهمية بمكان المؤخرة- والحال أن القول في السياسة، من حيث طبيعته، هو قول في القيم (وإن بدا للبعض غير ذلك). والحال أن القول في الثقافة وتصورها وشطر أكيد من دلالتها ومعناها. فلماذا كان الأمر على هذا النحو في الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر؟ وما مصدر هذه الغرابة أو المفارقة (قول في السياسة أو احتفال بها يقصي القول في الثقافة ويدعو إلى غيابه)؟ وما دلالة هذا الواقع، لا على الماضي والحاضر، بل على المستقبل وآفاق

 

(1/5530)

 

 

ممكناته؟ أسئلة ثلاث نحاول الإجابة عنها في هذه المحاولة المتواضعة، في خلال وقفات ثلاث: نسعى في الأولى إلى النظر في مغزى غلبة الاهتمام السياسي على الفكر العربي الإسلامي المعاصر في عصر "النهضة". ونلمس، في الثانية فحصا إجماليا لدلالة هذه الغلبة، كرة أخرى، في فكر الحركات الإسلامية اليوم. ونهدف، في الثالثة، استخلاص ما يكون استخلاصه ممكنا من الفوائد والدروس بالنظر إلى وجودنا السياسي

والاجتماعي من جهة أولى، وبالنظر إلى آفاق مستقبلنا في عالم دينه التحول والتغير السريعان والدائبان وقوامه السعي نحو إرساء

 

(1/5531)

 

 

منظومة عالمية شمولية من القيم والمكونات الثقافية تحف بها وبالإسلام وبوجود ((حضارة وفكرا) صعوبات وعراقيل وتعترضه أشواك ومتاريس من الشك والتشكيك.

لكننا نرى أن نمهد لحديثنا بجملة من الاحتياطات لمنهجية يرجع أولها إلى مسألة " المجتمع الإسلامي" ومعنى القول فيه، وثانيها إلى المسألة الثقافية أو مسألة "الثقافة" وعلى أي نحو يكون القول فيها، وترجع ثالثتها وآخرها إلى "مسألة القيم" ومعانيها ودلالتها في حديثنا هذا.

 

I - احتياطات منهجية

 

(1/5532)

 

 

1- لسنا نقصد بنعت "الإسلامي" إصدار حكم قيمة على مجتمعات العالم الإسلامي اليوم فيما أبعدنا، في هذا القول، عن نعت هذه المجتمعات بالقرب من الإسلام أو الابتعاد عنه استنادا إلى مرجعية تقضي بإقصاء وإبعاد كل مختلف معها عن الانتماء الإسلامي. ذلك هو الشأن، على سبيل المثال، في حديث المتحدث اليوم عن "الجاهلية" وعن "المجتمع الجاهلي" بحسبانه نقيض المجتمع "الإسلامي" أو "المسلم" الحق. كذلك ليس من نعتنا الخوض في واقع وشروط غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية فهم، بحسب قوة المنطق وحكم التاريخ، ينتمون إلى

 

(1/5533)

 

 

المجتمع الإسلامي حضارة وثقافة. وما يزال إخواننا العرب المسيحيون، في بلدان المشرق العربي، يعلنون انتماءهم إلى الحضارة العربية ويرون في أنفسهم بعضا صميميا منها - والتصريحات والأقوال في ذلك، كثيرة ومشهورة. وحيث كنا نرى الأمر على هذا النحو فليس من شأن نعت "الإسلامي"، على نحو ما نورده، أن يسلمنا إلى متاهات قول عقيم يضيف نسبة الشيعي أو السني أو نحوهما إلى قولنا "المجتمع الإسلامي".

إذا اتضح قصدنا من هذا التحديد بالسلب، كما يقول المناطقة، أي تحديد الشيء من حيث أنه غير نقيض، فإننا نقول: بالمجتمع

 

(1/5534)

 

 

الإسلامي نقصد الوجود الحضاري والثقافي لجملة من الشعوب والأقوام والمكونات الثقافية واللسانية والإقليمية تلتقي عند انتسابها إلى الدين الإسلامي

من جهتي العقيدة والشريعة دون أن تنفي من كان على غير الملة الإسلامية (وهذا الشأن في العرب المسيحيين تخصيصا). هذا المجتمع يخضع "بالضرورة" لحتميات التاريخ والحضارة ويعرض له ما يعرض للمجتمعات الإنسانية كلها وتلك سنة الله في الخلق: تلك التي لا نملك أن نجد لها تبديلا ولا تحويلا. المجتمع الإسلامي، مع خصوصياته الثقافية ومكوناته الحضارية الذاتية، ومع فعل التلوينات

 

(1/5535)

 

 

العديدة لجملة الأقوام والشعوب التي تدخل في عداده، ينتمي إلى الوجود الإنساني في تنوعه وغناه، من جهة أولى، وبدليل إسهامه في الفعل الإنساني الحضاري، من جهة ثانية، ولذلك، فالمجتمع الإسلامي، بحكم هذا كله يدخل في عداد "المجتمع المفتوح" (Open Society)- وكل محاولات الحجر عليه أو تضييق الخناق حوله، بإقفال النوافذ والمنافذ ورفض "الآخر" والامتناع عن محاورته، وإنما هي محاولات تسيء إلى هذا المجتمع وتبعد عن مغزاه وطبيعته.

 

(1/5536)

 

 

2 - لا نحصر القول في الثقافة فيما كان مكتوبا ومدونا، فيما كان مسطرا في كتب ومجلدات، وفيما كان نظرا عقليا ساميا مجردا، وإنما الثقافة، على نحو ما نقصد الحديث عنها، كل شامل "يشمل المعارف والمعتقدات الدينية، ويشمل الفن، والأخلاق، والقانون، والعادات والتقاليد وكذا كل العادات والكفاءات التي يكتسبها المرء بحسبانه عضوا في المجتمع"(1) . والثقافة الإسلامية، أو الثقافة من حيث نسبتها إلى المجتمع الإسلامي على هذا الشرط، هي مجموع النسيج الحضاري الشمولي الذي قوامه

__________

(1) . E . B . Taylor, « Primitive culture »

 

(1/5537)

 

 

الدين الإسلامي: لا من حيث هو عقيدة وشريعة فحسب، بل من حيث هو حضارة وفعل إنساني تضافر في إبداعه مجموع الشعوب التي التقى بها الإسلام عن طريق الفتح، وعن طريق التجارة والاتصال، و عن طريق الترجمة والآداب والحكم المقتبسة (ذاك هو الشأن في الأثر اليوناني خاصة، وفي الأثر الذي يتفاعل معه عامة). ومن هذه الجهة فقد اغتنت الثقافة الإسلامية بكل المكونات التي كانت قاعدة لها (وهذه هي العربية وعلومها وما تعلق بها، وما كان الإسلام نفسه سببا في تقعيدها وتنظيمها أولا وفي تطويرها ثانيا)، ثم اغتنت، بعد ذلك، بما

 

(1/5538)

 

 

أدركته من آداب الفرس والرومان والكلدانيين وبما اقتدرت على استيعابه من الأثر الإغريقي (مع غناه وتعدده). ثم، من هذه الجهة أيضا أمكن لهذه الثقافة العربية الإسلامية في أبعادها الكثيرة هذه أن تسهم في بناء الصرح الحضاري الإنساني وأن تعمل على حفظها من الضياع أولا (في مراحل الهمجية والعنف) ثم أن تسعى إلى تطويرها وحثها على العطاء الجديد (العلوم العربية الإسلامية، العلوم "الدقيقة"، الفلسفة الإسلامية، الفكر الاجتماعي والسياسي عند كبار مفكري الإسلام...).

 

(1/5539)

 

 

وبالجملة، فنحن نقصد بالثقافة الإسلامية الثقافة في دلالتها الأنتربولوجية الفسيحة من جانب أول، ونقصد بها تلك الثقافة من حيث هي سمة للمجتمع الإسلامي "المفتوح" - وبالتالي فهي الثقافة وقد كانت انفتاحا على "الآخر" وقبولا له (مع الوعي بالاستقلال الروحي والتمايز الحضاري) وهي الثقافة وقد كانت اتجاها نحو المستقبل وقبولا له وإقبالا عليه.

3 - إذا تقرر معنى المجتمع "الإسلامي"، على النحو ما سعينا إليه إلى تعيينه أعلاه، وإذا تقرر معنى الثقافة في معناها الأنتربولوجي الشامل ثم تقرر معناها من حيث نسبتها إلى

 

(1/5540)

 

 

الإسلام (أو نسبة الإسلام إليها) كما حاولنا تحديد ذلك فإن حديثنا عن "القيم" لا يقبل التقييد في المعاني الدينية ولا في الحدود الأخلاقية المجردة وحدها. نقصد بالقيم ما به ينتظم سلوك الأفراد والجماعات، ما به يكون المجتمع البشري ويستقيم أمر الوجود الاجتماعي والسياسي. تستمد القيم قوامها، على نحو ما نتحدث عنه، مما أسميه"العما الثقافي". وبهذا الأخير أقصد ما هو عصب الحياة فيه. يمكن القول أيضا إن القيم، من حيث صلتها بالثقافة من وجه أول ومن حيث صلتها بالوجود الاجتماعي والسياسي للإنسان من وجه ثان، هي ما

 

(1/5541)

 

 

يعصم من الوقوع في العبث وفي الفوضوية من جهة أولى وهي ما يفرز الوعي الثقافي وينظمه، فينتظم أمر الإنسان في المجتمع من جهة ثانية.

وبالجملة، فالقيم شرط وجود المؤسسات السياسية وقيام المجتمع المدني، وهي شرط وجود المؤسسات السياسية وقيام المجتمع المدني، وهي شرط الصحة أو الوجود في تحقق الإيمان بالعمل، وبالجدية، وبالإنتاج، والإنتاج الاجتماعي.

 

II - المسألة السياسية في الفكر العربي الإسلامي في عصر "النهضة"

انشغل الفكر العربي الإسلامي، في القرن الماضي، بقضايا التقدم، والازدهار والتأخر والانحطاط انشغال

 

(1/5542)

 

 

كبيرا. وحيث نظر صوب أوربا فلمس من مظاهر قوتها وعظمتها ما جعل

ألمه وحيرته هائلين أمام تأخر العالم الإسلامي عن ركب الإنسانية المتقدمة وانحطاط المسلمين بالقياس إلى ما كانوا عليه في عصور القوة والغلبة.

اختلفت رؤى المفكرين وتباينت، بعضا أو كلا، ولكنها كانت تلتقي جميعها عند الحكم بأن السر في تقدم الغرب وقوته لا يرجع إلى ما استطاع أن يحققه من إنجازات تقنية وكشوف علمية، على أهميتها الكبرى، بقدر ما يرجع إلى أشكال الحكومات في ذلك الغرب وإلى طبيعة الأنظمة السياسية التي بها وجود تلك الدول والحكومات.

 

(1/5543)

 

 

وفي المقابل ذلك كان بين أولئك المفكرين، على تباين أنماط مقاربتهم وتباعد ديارهم (مع ميل البعض منهم إلى التصريح في القول في حين اكتفى آخرون بالتلميح فيه) إجماع على القول بأن أسباب انحطاط المسلمين وتأخرهم يرجع إلى فساد المؤسسات السياسية في بلاد الإسلام - ذلك الفساد الذي هو شكل من أشكال البعد عن الصراط المستقيم الذي يدعو إلى الدين.

1 - تبدو أولى صور هذا "الهم السياسي"، أو الربط بين التقدم والعدل من جهة أولى (وهذا حال الغرب الأوربي) وبين الانحطاط والظلم من جهة ثانية (وهذا واقع العالم الإسلامي) فيما

 

(1/5544)

 

 

دونه الرحالون المسلمون من ملاحظات. كان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، كما نعلم، شاهدا على حوادث ثورة 1830 في باريس وقد حصل له من العلم بشؤون الوجوديين السياسي والاجتماعي في فرنسا ما مكنه من إدراك ما يحدث من أعمال الفتن في الشوارع متعلما من مطالعة الصحف اليومية. "فلما كانت سنة 1830 وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر منها النهي عن أن يظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه وأن يطبعه بشروط معينة، خصوصا للكازيطات اليومية فإنه لا بد في طبعها من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة (...) فصنع وحده ما لا ينفذ إلا إذا كان صنعه

 

(1/5545)

 

 

مع غيره (...) فظهر بعض كازيطات الحرية آمرة بعصيان الملك والخروج عن طاعته ومعددة لمساويه وفرقت على الناس من غير مقابل"(1) .

نجد شيئا قريبا من هذا المعنى (في الربط بين العدل، في معنى المشورة والالتزام بالدستور وبالقوانين المسطرة) عند المغربي محمد بن عبد الله الصفار في مشاهداته في باريز سنة 1845.

__________

(1) رفعة رافع الطهطاوي، تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، نشرة محمود فهمي حجازي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974، ص. 249 - 348.

 

(1/5546)

 

 

فبعد أن يذكره بدوره "من جملة ما نقموا على ملكهم شارل العشر، الذي كان قبل هذا الملك الموجود الآن وكان السبب في قيامهم عليه (...) أنه أظهر النهي عن أن يظهر أحد رأيه أو يكتبه ويطبعه في الكازيطات إلا إذا أطلع عليه أحد من أهل الدولة. يضيف في إشارة بليغة الدلالة "وإن جدار سلطانهم، فضلا عن كبير من كبرائهم، أو خرج عن القانون في أمر ما يكتبونه في الكازيطة ويقولون إنه ظالم وليس على الحق"(1)

__________

(1) محمد بن عبد الله الصفار، الرحلة، انظر:

 

صدفة اللقاء مع الجديد: رحلة الصفار إلى فرنسا (1845 - 1846) ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (1995)، ص. 161 - 168 ؛ وانظر أيضا : سعيد بنسعيد العلوي، أوربا في مرآة الرحلة : صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (1995) ، وعلى وجه الخصوص الصفحات 49 - 70.

 

(1/5547)

 

 

.

 

2 - يخطوا النقد "الضمني" للمؤسسة السياسية في العالم الإسلامي خطوة أكثر جرأة عند مفكرين إسلاميين من مفكري القرن التاسع عشر لم يحظيا بالصيت الذائع الذي عرفه غيرهما من مفكري هذا القرن. أولهما مصري الجنسية وهو مصطفى فاضل باشا، وهو أخ للخديوي إسماعيل وحفدة محمد علي. ذلك أنه لا يرى للعالم الإسلامي استقامة حال ولا يرى للتخلص من واقع الانحطاط سبيلا، ولا يجد للالتحاق بركب الإنسانية المتقدمة طريقا آخر سوى القول بالفصل العلني والصريح بين السياسة وبين الدين. يخاطب السلطان العثماني عبد العزيز مكاتبا

 

(1/5548)

 

 

فيقول: "تعلمون، أفضل مني، أن سلطان الدين يحكم الأرواح وأنه هو الذي يجعل أبواب المستقبل مشرعة في وجهنا، ولكن ليس هو من ينظم حقوق الناس"(1). وثانيهما تركي، ينتمي إلى وسط اجتماعي أكثر تواضعا، ويدعى نامق كمال. يكتب بدوره إلى السلطان العثماني مشيرا عليه بتبني نمط من الحكم السياسي يفسح المجال للاستشارة الشعبية على نحو

__________

(1) أورده الباحث الفرنسي M. Colombo في دراسته.

« Trois réformateurs des institutions de l’Islam », Etudes d’orientalisme, les éditions Maisonneuve et Larose, 1962, Paris, Tome1, P. 1107.

 

(1/5549)

 

 

ما يقضي به النظام الذي يقوم على أسس احترام الدستور فقط محض فرغه تخوف بها روسيا، على ما تصنعه اليوم"(1).

3 - لا يمكن للناظر في الفكر العربي الإسلامي في عصر "النهضة"، من جهة غلبة الاهتمام بالمسألة السياسية على ذلك الفكر، أن يغض الطرف عما كتبه عبد الرحمن الكواكبي وتفرد به من قول في الموضوع. بل لسنا نعلم مفكرا مسلما معاصرا يربط بين الانحطاط، من جهة أولى، وبين فساد الواقع السياسي، من جهة ثانية، على نحو ما فعله مؤلف "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". يذكر في مقدمة

__________

(1) المرجع السابق الذكر، الصفحة 108.

 

(1/5550)

 

 

هذا الكتاب أنه، في زياراته المتعددة إلى مصر، قد وجد القوم في أرض الكنانة، على غرار ما عليه الشأن في البلاد الإسلامية الأخرى قد خاضوا "عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشرق عموما وفي بلاد المسلمين خصوصا وإنما هم كسائر الباحثين كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الداء (...) قد يمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، دواؤه دفعه بالشورى الدستورية"(1)

__________

(1) عبد الرحمن الكواكبي، "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ، ضمن الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1975، الصفحة 1131. وتشديدنا تأكيد لتشديد المحقق الناشر.

 

(1/5551)

 

 

.

لا يرجع "داء الشرق" أو "انحطاط المسلمين" إلى التهاون في الدين، فذاك قول يسلم إلى السقوط في الدور الفاسد (الاختلاف في الآراء، التهاون في الدين، سبب الاختلاف، الجهل...). بل إن هذا السبب وما إليه ليس، في العمق، إلا نتيجة لفساد التدبير السياسي - وقارئ تاريخ الإسلامي يرى أن بين تذني الحياة السياسية وابتعادها عن المثل الأعلى الذي جاء الإسلام مبشرا به وكان النبي، عليه السلام، مجسدا له في حياته بسلوكه وفعله قد سلك منحدر الفساد قبل أن يسقط سقطته الكبرى" يخيل إلي أن سبب الفتور هو تحول نوع السياسة

 

(1/5552)

 

 

الإسلامية، حيث كانت نيابية اشتراكية أي "ديموقراطية" تماما، فصارت بعد الراشدين، بسبب تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه بالمطلقة"(1) . القول إن السياسة الإسلامية « صارت أشبه بالمطلقة" قول يعني أنها أصبحت منتسبة، من حيث طبيعتها الجديدة هذه، إلى سياسة "الاستبداد" يصدق عليها من النعوت والأوصاف ما يصدق على هذه الأخيرة، ويكون في ارتفاع هذه

__________

(1) عبد الرحمن الكواكبي، " أم القرى"، انظر الصفحة 250 من الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق محمد عمارة... (سبقت الإشارة إليه).

 

(1/5553)

 

 

الطبيعة الجديدة وزوالها استقامة الحال والعودة إلى الحال الأول المستقيم.

يصير أمر المسلمين، في حكم الاستبداد، إلى حال اليتامى والقاصرين من حيث الحجر عليهم، بل إنهم يبتلون بمحنة "الوصي الخائن القوي" فهو يتصرف في حقوقهم وأموالهم كما يحلو له طالما كانوا قاصرين. والمستبد يحكم الطوق ويطيل أمد الوصاية بإشاعة الجهل" فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم"(1). و في مسيرة

__________

(1) عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد... (سبقت الإشارة إليه) ، ص. 153.

 

(1/5554)

 

 

تحليل منطقي صارم، من جهة بنائه الذاتي لا من جهة الواقع التاريخي، ينتهي المفكر العربي الإسلامي إلى وجوب الربط بين الثورة على الاستبداد من جهة أولى وبين مجاوزة حال التأخر والانحطاط من جهة ثانية - ولكن صاحب "مصارع الاستعباد" يرى لذلك الأمر بادئ وقواعد وخطوات طبيعية يلزم خطوها: أولها دفع الأمة إلى وعي هذا الأمر فتلك التي لا "يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية" وثالثها، وآخرها، أنه "يجب، قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد"(1)

__________

(1) عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد...، ص. 222

 

(1/5555)

 

 

.

في استطاعة الباحث أن يحدد الأمثلة أكثر مما فعلنا وأن يفسح مجال النظر في المجالات السياسية مما صنعنا: يولي فكره وجهة الشيخ الثائر جمال الدين الأفغاني، في التفاتة أولى، ويقوده نحو مناقشات المسلمين الهنود في مؤتمراتهم في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن (كما نجد ذكر ذلك عند محمد عبده في كتابه "الإسلام والرد على منتقديه")، في التفاتة ثانية، أو يولي فكره، في التفاتة ثالثة، صوب علماء المغرب في القرن الماضي وقولهم الضمني في وجوب الإصلاح السياسي والقوة السياسية شرطا لتحقيق إصلاح شؤون الأمة

 

(1/5556)

 

 

الإسلامية. وفي هذه النظرات كلها سيجد أن الفكر الإسلامي، في القرن الماضي ومطلع القرن العشرين وإلى غاية نهاية العقد الثاني منه سيرون الأهمية الأولى في الانتهاء من "الانحطاط" و "سلوك سبيل التقدم" مرتبطين بالمسألة

"الكبرى" كما يقول الكواكبي. (وهل لكتاب علي عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم" مغزى آخر غير ذلك).

يصح القول، إجمالا، إن الفكر العربي الإسلامي في "عصر النهضة" كان يقرأ في صورة أوربا، على نحو ما ترسمه نظرته إليها، ما كان بالضبط يفتقده في عالمه فلا يجده: يقرأ فيها معنى الحياة السياسية

 

(1/5557)

 

 

التمثيلية، ويقرأ فيها حضور "الشورى الدستورية". فما صنع قوة الغرب وتقدمه هو نقيض ما كان عنه ضعف المسلمين وانحطاطهم، وهو أمر يرجع إلى "السياسة" أولا وأخيرا. وهذه القراءة، أو على الأحرى موجهاتها، هي ما جعلت كل المطالب والقضايا الفكرية والاجتماعية تحتجب كلية، أو يدفع بها إلى منطقة الظل لتحتل مرتبة ظلت على الدوام هامشية. نعم، نحن نجد عند بعض دعاة الفكر العربي الإسلامي(1)

__________

(1) ذلك ما نجده، على سبيل المثال، عند ثلة من العلماء المغاربة وفي رحلات البعض منهم على وجه الخصوص. في هذه المسألة، وفي إشارتنا السالفة إلى علماء المغرب في القرن الماضي، انظر دراستنا: الاجتهاد والتحديث: دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مركز دراسات العالم الإسلامي، 1992، مالطة.

 

(1/5558)

 

 

المعاصر إعجابا بالصورة الأخرى لأوربا (تقدير العمل، حب النظافة، رعاية العلم والعلماء)، أوربا القيم الاجتماعية والفكرية ولكن إلحاح الاستعجال السياسي كان يعمل إما على ربط ذلك كله بالسياسة وما يتعلق بها، وإما كان يحيلها إلى مرتبة الكمالي أو الهامشي.

III - المسألة السياسية في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة

هل كان الأمر غير ذلك في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة، على نحو ما تظهر عليه منذ ثلاثينات القرن الحالي؟ هل كان من شأن انهيار الخلافة العثمانية من جهة أولى، وحصول التحولات السياسية التي عرفها

 

(1/5559)

 

 

العالم الإسلامي أن تغير من النظرة التي كان يأخذ بها مفكرو "عصر النهضة"؟ يلزمنا قبل محاولة القول في المسألة وقبل الشروع في فحص نماذج أو تيارات هذه "الحركات الإسلامية المعاصرة"، أن نقطع برأي دقيق وواضح في نقطتين لا يملك الناظر في فكر

هذه الحركات وعملها إلا أن يتخذ في شأنهما نظرا واضحا لا يعتبره غموض أو التباس في الفهم.

 

- أما النقطة الأولى فهي الصلة بين هذا الفكر الإسلامي المعاصر، عند هذه "الحركات" وبين الفكر العربي الإسلامي في "عصر النهضة": أهي صلة استمرار واتصال، فإنما هي تلوينات في النظرة

 

(1/5560)

 

 

الواحدة وهي لا تخرج عن الإطار العام للإشكالات التي أثارها مفكرو النهضة السلفيون؟ أم أن الأمر يتعلق، بالأحرى، بمغايرة تامة، بل وربما "قطيعة" تامة، بالنظر إلى التباعد البنيوي بين الظرفين السياسيين والتاريخيين وبالنظر إلى الجديد الذي نجده منذ كتابات المرحوم حسن البنا والذي يبلغ مدى بعيدا من الابتعاد والانفصال منذ كتاب "معالم الطريق" للمرحوم سيد قطب؟

وبكيفية واضحة ومباشرة نعلن مشاطرتنا رأي أصحاب التساؤل الثاني وتأكيدنا، معهم، لصحة القول بالمغايرة، بل "القطيعة" بين دعاوي المعاصرين (والمتأخرين

 

(1/5561)

 

 

المعاصرين لنا خاصة) وبين مفكري "عصر النهضة".

- أما النقطة الثانية، وهي إلى حد بعيد من مقتضيات الأخذ بالرأي الثاني في النقطة الأولى، فهي التساؤل عما إذا كان الأمر يتعلق في "التحركات الإسلامية المعاصرة" بحركة واحدة. يكون الاختلاف فيها في المظاهر والتعبيرات، أم الأمر يتعلق بتعدد وكثرة؟

وعلى غرار ما أعلناه في النقطة الأولى نسند، بدورنا الرأي الثاني الذي يقضي بلزوم الكلام عن حركات عدة ما دام الواقع السياسي والوجود الاجتماعي يقتضيان، بحكم المنطق والتاريخ معا، كثرة وتنوعا فيهما حكمت بها التحولات

 

(1/5562)

 

 

الاجتماعية والسياسية التي ما فتئ العالم الإسلامي يشهدها في العقود الثلاثة الأخيرة.

أما الجواب عن سؤالنا الأول (طبيعة "حضور المسألة السياسية" في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة) فنحن نلتمس الإجابة من خلال وقفات قصيرة عندما نعتبر النماذج الأكثر تمثيلية ودلالة.

1 - نقرأ "رسائل الإمام الشهيد" فنجد عند صاحبها اهتماما بالمسألة "التربوية" يكاد مهيمنا على ما سواه من الاهتمامات الأخرى. والتربية، عند المرحوم البنا، ليست سبيلا من بين سبل العمل الأخرى الممكنة في عقيدة "الإخوان المسلمين" ولكنها جوهر تلك

 

(1/5563)

 

 

العقيدة وماهيتها.

 

"تستطيع أن تقول، لا حرج عليك، إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية (...) وهيأة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والحرص على قوميته إلى أبعد حد (...) ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح"(1)

__________

(1) حسن البنا، الرسائل، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، بيروت، (د. ب)، الصفحة 156.

 

(1/5564)

 

 

.

التربية جوهر عقيدة "الإخوان المسلمين" لأنها برنامج شامل في الفعل والسلوك وخطة عملية لتنفيذ ذلك البرنامج. التربية إذن استراتيجية شاملة وبرنامج تنفيذها ثلاثي الخطوات. خطوة أولى هي الإعداد أو التعريف بالفكرة (مرحلة الدعوة)؛ وخطوة ثانية ("مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود")؛ وخطوة ثالثة حاسمة، هي خطوة ("التنفيذ والعمل والإنتاج"). التربية كذلك لأن الهاجس المسيطر عليها هو هاجس التنظيم، تنظيم العقيدة (وهذا معنى المحاسبة، محاسبة النفس كل ليلة والالتزام بقراءة أوراد ودعوات محددة) - ثم تنظيم

 

(1/5565)

 

 

الأنصار رجال العمل (ذلك هو مغزى "رسالة التعاليم") ... وهكذا حيث كان عمل البناء والتأطير، تأطير الرجال والعاملين، يتم في صور ثلاث على نحو ما يسهب المرحوم البنا في الحديث عن ذلك (الكتائب، الفرق، درس التعاليم) فنحن نجد أن لكل صورة هدفا معلوما. هدف الكتائب تحقيق التعارف "وتمازح النفوس والأرواح ومقاومة العادات والمألوفات (...) وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين". وهدف الفرق "تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان (...) وهذا هو معهد التربية الجسمية" وهدف درس التعاليم في الأندية "تنمية أفكار

 

(1/5566)

 

 

الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته (...) وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين"(1)

التربية استراتيجية شاملة من حيث أنها برنامج نقدي لعمل الأحزاب في أي السياسية لأنها "ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا، فهي

ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة (...) هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج ولا خلاف بينها إلا في الشخصيات"(2).

__________

(1) المرجع السابق، ص. 160.

(2) المرجع السابق، ص. 220.

 

(1/5567)

 

 

فهل تخرج التربية في هذه الاستراتيجية عن المنحى السياسي وهل تحيد عن قصدها المباشر؟

2 - تكاد كل الآراء الواردة في كتاب المرحوم السيد قطب "معالم في الطريق" ترتد إلى محورين إثنين أو إلى زوج مفهومي، عنهما تكون كل الأفكار التي ينتظمها الكتاب: الإسلام / الجاهلية (أو المجتمع الإسلامي/ المجتمع الجاهلي). والجاهلية، عند سيد قطب هي سمة العصر الذي نعيش فيه اليوم: "نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم

 

(1/5568)

 

 

وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم"(1). وحيث يكون الأمر على هذا النحو فإن الدعوة الإسلامية لا تعني شيئا آخر سوى إعلان القطيعة والانفصال مع "مجتمع الجاهلية" تمهيدا لإلغائه إلغاء فعليا عن طريق إزالته، متى أمكن استجماع الأسباب الكافية لذلك. وفي ذلك لا بد من صلابة في الموقف ومن صرامة في معاداة هذا المجتمع، "أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في نصف الطريق.

__________

(1) سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت، 1983.

 

(1/5569)

 

 

كلا ! إنا وإياه على مفرق الطرق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق"(1).

رفض المجتمع "الجاهلي" هو كما نلاحظ، رفض شامل ومطلق لكل القيم والتصورات والتقاليد والعادات، وكذا لكل الشرائع والقوانين. إنها "القطيعة" فعلا وهي مهمة شاقة وعسيرة ضعفين. عسيرة أولا لأن الإنسان يولد ويشب ويكبر في ظل "الجاهلية"، حيث، "الإسلام" غير متحقق بالفعل، وهي عسيرة ثانيا لأن "منهج التربية الإسلامية"، كما يقول محمد قطب مطلوب إقراره بعدما كان التيه عنه قرونا عديدة. "القطيعة"

__________

(1) المرجع السابق، ص. 22.

 

(1/5570)

 

 

(متى نظرنا إلى المسألة في وجهها السلبي) أو

تحقيق "المنهج الرباني" (متى نظرنا إلى المسألة في وجهها الإيجابي) مهمة عسيرة لكنه لا محيد عنها "لقد علم الله أنها ضرورة لازمة لتربية الجيل الأول على الأقل، الذي يحمل على أكتافه مسؤولية التأسيس وإقامة البناء فجعلها سنة دائمة مع ذلك الجيل الأول بالذات"(1) .

التربية، في قول جامع إذن، هي سبيل الانفصال عن "الجاهلية" أو عن "المجتمع الجاهلي" وهي منهج التحضير والإعداد

__________

(1) محمد قطب، مناهج التربية الإسلامية (جزءان)، القاهرة، دار الشروق، 1980؛ الجزء الثاني، ص. 59.

 

(1/5571)

 

 

لتحقيق "المنهج الرباني" (والعبارة لمحمد قطب). إنه التحضير لعمل تغيير شامل في الاجتماع وفي السياسة.

مع مرحلة "قطب" تمضي الاستراتيجية التي اختط لها حسن البنا خطوة جديدة حاسمة إلى الأمام.

3 - في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة مفهوم محوري نحسب أن مفاهيم عديدة غيره ترجع إليه أو أنه، على كل، التوطئة العقائدية لذلك الفكر فلا يقوم اعتراض عليه من هذه الفئة أو تلك، من هذه الجماعة أو الأخرى من الجماعات الفكرية والسياسية الإسلامية: ذلك، هو مفهوم "الصحوة". وإذا جاوز لنا أن نأتي للصحوة بنعت أو صفة (وليس

 

(1/5572)

 

 

بتعريف دقيق، فذاك ما يتكفل به أو يحاوله رجال الدعوة أنفسهم) فإننا نقول عنها: إنها حال يراد لوعي المسلم، في عالم اليوم، أن يتصف بها. إنها نوع من "الانتفاض في النفس" يلزم تحقيقه لأولا وأخيرا. ذلك أنه لا تغيير، اجتماعيا كان ذلك التغيير أو سياسيا، انعدام حال "الصحوة".

وسواء كان الحديث، في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة لنا، حديثا عن "حتمية الحل الإسلامي" أو عن دعوة إلى وجوب "تطبيق الشريعة" أو كان مجرد نداء من أجل "تكوين الطليعة المسلمة المرجوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل في عصرنا دور الصحابة في عصر

 

(1/5573)

 

 

النبوة"(1) . فإن الدعوة إلى "الصحوة" تظل، كما أشرنا إلى ذلك، هي التمهيد أو المقدمة الضروريان لعمل التغيير الإسلامي الحاسم: اجتماعيا وسياسيا، (بل سياسيا ثم اجتماعيا).

يربط الفكر المعروف الشيخ يوسف القرضاوي، في كتاباته الغزيرة والمسهبة، بين "الصحوة" من جهة أولى، وبين القول ب "حتمية الحل الإسلامي" من جهة ثانية ثم بين كل منهما على حدة وبين التربية من جهة ثالثة، إذا "التربية هي المدخل الأساسي والضروري لأي

__________

(1) يوسف القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، القاهرة، مكتبة وهبة، 1991، ص. 73.

 

(1/5574)

 

 

حركة إسلامية تعمل على تغيير الواقع بتغيير ما بالأنفس"(1). ثم إن الحل الإسلامي (أو حتمية هذا الأخير بالأحرى) يظل هو الحل الوحيد الممكن بعدما جرب العالم الإسلامي عامة والعربي الإسلامي خاصة حلولا أخرى غير ذلك. "أهدافنا السياسية الكبرى لم تتحقق ولم نقترب منها بل زدنا عنها بعدا": ضعف الأمل، بل إنه يكاد ينعدم في تحقيق الوحدة العربية "نتيجة للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمن والثوريين من دعاة الأيسار" . وقضية فلسطين ما تفتأ تزداد تأزما، وفي الموقف اللازم اتحاذه بإزاء

__________

(1) نفس المرجع والصفحة.

 

(1/5575)

 

 

نصرتها "فشلت الثورية السياسية في سنة 1967، كما فشلت من قبلها الليبرالية في سنة 1948" . أضف إلى ذلك، كله أن قضايا "بلبلة الفكر، وسوء الأخلاق، وفساد الذمم وضعف الوازع، واضطراب الأسرة، وتفكك المجتمع وما شابه ذلك، فحدث عنه و لا حرج"(1) .

يجتهد فكر "الصحوة" في تقديم نظرية شاملة في الوجود السياسي والاجتماعي، ويسعى إلى رسم معالم نظرية تشمل الفكر والثقافة (وذلك، ما يستهدفه الحديث عن التربية).

__________

(1) يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، القاهرة، مكتبة وهبة، 1988، الصفحات 5 ، 9 ، 17 ، إلخ...

 

(1/5576)

 

 

ولكن منطق "الدعوة، من جانب أول والانشغال بأولويات الحركة من جانب ثان، ثم الالتزام بما تقضيه "حتمية الحل الإسلامي"، من جانب ثالث - كل هذه أمور تجعل الأولوية والصدارة للعمل السياسي أو لعمل سبيله ووجهته معا هما السياسة وما يرتبط بها.

تمايز في المناهج وتعدد في المعالجة غي فكر الحركات الإسلامية المعاصرة: هذه حقيقة لا مجال لإنكارها، وشهادات النصوص في اختلافها (حسن البنا، وسيد قطب ومدرسته، والقرضاوي ومفكرو "الصحوة" عموما) - لكن الرؤية في أساسها تظل خاضعة لهيمنة "السياسي"، لا تنفك أن تحيد عن مقتضياته

 

(1/5577)

 

 

ومستلزماته.

في أحاديث البنا، وقطب، والقرضاوي مرارة ومعاناة تجد تبريرها وشرحها معا في ما كان هؤلاء المفكرون يفتقدونه بدورهم ولا يجدونه (بل إنهم قدما حياتهم ثمنا له في بعض الأحيان): ضعف المشاركة السياسية الفعلية ولربما غيابها، قوة الدولة بحسبانها مجموع "أجهزة إيديولوجية" تستهدف عمل الإبعاد والإقصاب من جانب، وتستهدف تركيز السلطة في جانب قليل من المجتمع من جانب آخر. وفي مقابل هذا، ضعف الدولة الشديدة، بحسبانها حضورا للعقل والمشاركة من جانب وتحقيقا لما ظل، منذ عصر الكواكبي، مطلبا ينتظر التحقيق:

 

(1/5578)

 

 

"الشورى الدستورية".

في أثناء هذا كله، ظلت "المسألة الثقافية" قابعة في زاوية النسيان، وإن بدا احتفال بها، وظلت قانعة من الوجود بمكانة المؤخرة والتبعية وإن بدا في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة أن الأمر غير ذلك. ومن هذه الزاوية تحديدا، يصح الحديث عن مماثلة أو مقايسه بين ما ينتهي إليه الفكر العربي الإسلامي في "عصر النهضة"، وبين ما يتقرر، بكيفية عفوية، في فكر "الحركات" الإسلامية المعاصرة اليوم.

 

IV - المجتمع الإسلامي والثقافة، والمستقبل

 

(1/5579)

 

 

بين المجتمع الإسلامي (على نحو ما عرفناه) وبين العالم من حوله أسباب وصلات قوية، فهذا المجتمع في سيره وفي صيرورته معا يخضع لأثر العالم ولتأثيره - ومن أجل تأكيد آخر لهذا المعنى، وفي سبيل طرح واع متبصر لآفاق المستقبل في هذا المجتمع نقف، في أسطر قليلة، وقفة استخلاص ومراجعة.

1 - ف "عصر النهضة" تعلق الأمر بالنسبة للمجتمع الإسلامي بما يحق نعته بالاكتشاف المزدوج، أو بالاكتشاف "الآخر" أو "الغير" - ذلك هو "الغرب".

 

(1/5580)

 

 

والنظر في أسباب قوته وازدهاره، عند المفكر المسلم، جعل الانتباه منه ينصرف إلى "الشورى الدستورية" وإلى سلامة المؤسسة السياسية وقوتها. واكتشاف ثان هو اكتشاف " الذات"، ذلك هو :"الشرق"، والنظر في علة تأخره وأسباب "انحطاطه" قاد إلى القول باعتبار "المسألة الكبرى" =كما يقول الكواكبي) الأساس والمصدر (على نحو ما رأينا).

في المقابل هذا الوعي المزدوج (التأخر/ التقدم) كان "الغرب" صعودا أمبرياليا وهيمنة استعمارية وكان "عصر النهضة" هو عصر التحضير لاقتسام تركة "الرجل المريض" وتوزيع غنيمة الوطن العربي والعالم

 

(1/5581)

 

 

الإسلامي.

2 - في الأزمنة المعاصرة، أي في المرحلة التي تشمل حركات التحرر الوطني وما بعدها يجوز الحديث عن تقابل بين أمرين اثنين هامين. أولهما أن "الزمان" كان زمان اقتسام للسيطرة العالمية بين العظميين أو القطبين وكان كل من المعسكرين (الرأسمالي والشيوعي) يسعى في استقطاب جزء من الوطن العربي وبعض من العالم الإسلامي. (وغنى عن البيان أن كلا منهما قد قطع على درب النجاح في مسعاه خطوات كبيرة). وبعبارة أخرى، فقد كان المجتمع الإسلامي يتفاعل مع واقع "الحرب الباردة" وينفعل بها. وأما الأمر الثاني فهو أن دول

 

(1/5582)

 

 

الإسلام (وقد كانت في أغلبها الأعم بصدد الخروج من هيمنة الاستعمار المباشر، دون أن تقدر على التخلص من براثن أحد القطبين العملاقين) كانت تصارع مشاكل ذاتية، مشاكل بناء دولة الاستقلال (تكوين الأطر، إحداث البنايات الاقتصادية والسياسية والقانونية الملائمة، مشكلات "الديمقراطية " وهيمنة الحزب الواحد - في الأغلب الأعم من الأحوال). ومشاكل بناء صرح المجتمع الجديد (البحث عن الهوية، والخضوع للأثر الإيديولوجي الخارجي، الصراع بين نظام العلاقات السابقة وما يفرضه منطق التحول من نظام جديد للعلاقات وسلم جديد

 

(1/5583)

 

 

للقيم...).

3 - لا يزال العالم يعيش اليوم (في التسعينيات) حالة التأهب والتوقع التي نشأت عن تداعي النظام الدولي المعروف (نظام الثنائية القطبية) نتيجة انهيار المعسكر الشيوعي. فلا تزال صورة "النظام الدولي الجديد" بصدد التكون والصياغة، ولربما كانت بساطة من المرء في التفكير أن يحسب أن القيادة في هذا النظام "الجديد" ستكون للولايات المتحدة الأمريكية وحدها دون منازع. نعم، هنالك مؤشرات كبرى تدل على ذلك، وعند رجال الاستراتيجية والتصورات المستقبلية يبدو هذا المشهد أو السيناريو الأكثر احتمالا وامتلاكا

 

(1/5584)

 

 

لأسباب القوة والنجاح. أضف إلى ذلك أن "النموذج الأمريكي" (من حيث هو صورة لثقافة وتعبير عنها، ومن حيث هو تجسيد لسلم من القيم وتأكيد لها في الوقت ذاته) يتجه، أكثر فأكثر، نحو الهيمنة شبه المطلقة في كافة أرجاء المعمور (بما في ذلك دول الشرق الأقصى من جانب أول، وما كان يشكل "المعسكر الاشتراكي" من جانب ثان). كل هذا صحيح، ومن العسير على الإنسان أن يجاحد فيه - ولكن احتمالات مشاهد أخرى تظل ممكنة. ولكن الإشكال لا يكمن في هذا وحده بالنسبة للمجتمع الإسلامي.

 

(1/5585)

 

 

يكمن الإشكال، في عمقه، من وجهة نظرنا أن ما كان عند "الآخر" تحققا تاريخيا لا يزال عندنا احتمالا وإمكانا في انتظار الكون والظهور - القصد بذلك بناء الدولة الحديثة على الحقيقة (دولة القانون والمؤسسات، دولة الديمقراطية في معنى مراقبة السلطة بالطرق القانونية وفي معنى تداولها وانتقالها من جهة إلى أخرى)، كما أن القصد به بناء ما به تتحقق أسس تلك الدولة ودعاماتها الحضارية وأسسها الثقافية.

يكمن الإشكال، من جهة أخرى، في الصورة التي يكتسبها الإسلام اليوم هذا النظام "الجديد" الذي لا يزال بصدد الكون والتشكل.

 

(1/5586)

 

 

فمن السهولة بمكان أن يطمئن المجتمع الإسلامي إلى صورة الإسلام بحسبانها خطرا أو قوة خطيرة يحسب لها حسابها بعدما كان من انهيار المعسكر الشيوعي. وبعبارة أكثر وضوحا نقول، من اليسير أن يطمئن المجتمع الإسلامي إلى صورة الإسلام المستهدف أو المهدد في وجوده ثم يحتسب كل المشاكل والصعوبات التي يعانيها على حساب الخطر الخارجي الذي يتهدده.

لا أملك أن أقطع في مسألة المجتمع الإسلامي والمستقبل برأي حاسم ولكني أدرك أن واقع المجتمع الإسلامي، من داخله (أي بالنظر إلى مشكلاته الذاتية من جهة أولى، وبالنظر إلى الأطوار

 

(1/5587)

 

 

التي مر بها في وتيرة متسارعة نسبيا منذ القرن الماضي من جهة ثانية)، وأن هذا الواقع "الدولي" الذي هو قيد الكون والتشكل، كل هذا يحملنا حملا على اعتبار أن الجذر والأساس في المجتمع الإسلامي يؤول إلى مسألة الثقافة وإلى قضية القيم في ارتباطهما وتضافرهما.

تعيش الإنسانية اليوم، في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين، مخاضا هائلا وتحولا عظيما يسهم فيه التقدم التكنولوجي نحوا من الإسهام يشي بإحداث نوع من الانتماء أو القطع مع العصور المتقدمة جميعها، وتجليات هذا المخاض والتحول قابلة للملاحظة والدرس في

 

(1/5588)

 

 

مظاهرها الكبرى الواضحة، فكأنما الإنسان يبحث، فعلا، عن جديد يفتقده فلا يجده، وكأنما العالم في امتداده واتساعه قد استحال إلى قرية واحدة تحت تأثير وسائل الاتصال وقوة الإعلاميات ووسائل المواصلات السريعة. وفي هذا كله لا يملك الإسلام، بحسبانه تراثا حضاريا كبيرا، أن يكون في موقع الغالب أو اللاهي. وطبيعة "المجتمع المفتوح" التي مكنته من الوجود والاستمرار قرونا وأزمنة شتى تحمل اليوم على النظر إلى المستقبل قوة وثقة.

هل نملك إحداث نقلة "كيفية" نجد بها لأنفسنا مكانة لائقة في العقود القليلة المقبلة؟.

 

(1/5589)

 

 

ذكرى تأسيس جامعة محمد الخامس

 

تحل في هذه السنة ذكرى مرور أربعين عاما على تأسيس جامعة محمد الخامس بمدينة الرباط (21 دجنبر 1957)، ومما جاء في خطاب المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه بهذه المناسبة:

"إن من حق هذه البلاد أن تعتز بتاريخ ثقافي عريق، فمنذ العهود الأولى لانبثاق فجر الإسلام في ربوعها ظهرت من بين المغاربة الوافدين عليهم طائفة من العلماء الذين انصرفوا إلى إماطة لثام الجهل عن العقول وغرس مبادئ الدين الحنيف في النفوس وتبصير الناس بما فرض عليهم دينا ودنيا ومن هذه الطائفة كانت النواة لأول

 

(1/5590)

 

 

مركز ثقافي عرفه المغرب وكان من بين المراكز الثقافية المعدودة على الأصابع آنئذ هذا المركز الذي عرف باسم القرويين.

... إلا أن هذا لم يكن من شأنه أن ينسينا ما يقتضيه العصر وما تتطلبه مقتضيات التطور من تأسيس جامعات عصرية كفيلة بسد حاجات البلاد إلى من يعوزها من الكفاة في جميع الميادين ...

... وها نحن ندشن اليوم بحمد الله أول جامعة مغربية عصرية مبتهجين بتحقيق أمل من أعز آمالنا مغتبطين بهذا الحدث الجليل الذي شاء الله أن يكون مما نتوج به عهد الاستقلال".

... ... ... انبعاث أمة، ج 3، ص. 118.

 

(1/5591)

 

 

"من المسلم به أن التعليم أضحى اليوم يلعب دورا أساسيا في تنمية البلدان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالانفتاح الاقتصادي والتعاون الدولي والتطور التقني والتكنولوجي كلها غايات ستجعل من التحكم في المعرفة عمادا للتنافس والشراكة بين أمم أصبحت - إن لم تكن كلها فجلها - متداخلة المصالح ...

إن نظامنا التعليمي يجب أن يتم تصوره والتنظير له في إطار سياسة شاملة منسجمة تتوخى المستقبل وتتسم بمرونة كبيرة حتى يمكنها أن توفي بما يلزم من الملاءة. ويتعلق الأمر بوضع سياسة قابلة للتكيف تمكن من الاستجابة للحاجيات

 

(1/5592)

 

 

الآتية والمستقبلية المتصلة بما تعرفه بلادنا من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية ...

إن تعليمنا يجب أن يعزز ويقوي شخصيتنا المغربية وأن يعيد لبلادنا المكانة المرموقة التي كانت تحتلها عبر التاريخ ضمن حظيرة الأمم، كما يجب أن يستمد هذا التعليم روحه من مبادئ الإسلام وأن يقوم عليها بصفة خاصة، ذلك أن الإسلام هو دين التفتح والتسامح الذي جعل من المغرب خلال حقبه الزاهرة بلدا محظوظا قويا محترما، بلدا يرفض الانكماش على النفس أو ممارسة سياسة الأنانية والتعصب، ويعرف تلقائيا كيف يعامل الآخرين باحترام وتقدير

 

(1/5593)

 

 

واعتبار، كما حض على ذلك ديننا الحنيف".

جلالة الملك الحسن الثاني، انبعاث أمة، ج. 39، صص. 237-241.

اتحاد جامعات العالم الإسلامي

 

إن الهدف الأساسي للاتحاد هو دعم الجامعات الوطنية والمعاهد العليا التي في مستواها في لعالم الإسلامي في إعداد الإنسان القوي القادر على خدمة أمته الإسلامية وتحقيق تطلعاتها في بلوغ الغايات النبيلة لهذه الأمة على أسس متينة نابعة من العقيدة الإسلامية فكرا وعملا والقيام بدوره الفاعل في تحقيق السلام والإخاء في هذا العالم بالعلم والثقافة من طريق التعاون بين هذه الجامعات والمعاهد

 

(1/5594)

 

 

الأعضاء في الاتحاد والاتحادات والروابط الجامعية الإسلامية وبينها وبين الجامعات الأخرى في العالم وخصوصا الجامعات الإسلامية في غير البلاد الإسلامية في مختلف المجالات.

ويعمل الاتحاد على تحقيق هذا الهدف بجميع الوسائل المشروعة مع التركيز على:

1 - التعاون على رفع مستوى البحوث العلمية في جميع المجالات وتبادل نتائجها وتوجيه العناية إلى البحوث التطبيقية التي تعالج مشكلات الأمة الإسلامية وربط موضوعات البحوث بالتنمية الشاملة،

 

(1/5595)

 

 

2 - التصدي للغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له الأمة الإسلامية عن طريق العناية بالتراث الإسلامي وحفظه ونشره وبيان مكانته وأثره في الحضارة الإنسانية.

3 - التعاون مع الاتحادات الجامعية الأخرى.

4 - تشجيع تدريس اللغة ونشرها في البلاد الإسلامية التي لغتها الرسمية غير العربية.

5 - تبادل الزيارات بين المحاضرين والطلبة.

6 - إتاحة الفرص لحضور المؤتمرات العلمية وعقد الندوات المشتركة.

7 - تبادل البرامج الدراسية واللوائح وغيرها بما يدعم المستوى العلمي.

 

(1/5596)

 

 

... ... المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ( إيسيسكو)

 

(1/5597)

 

 

المحمدية قاعدة بلاد السوس وأم القرى والأمصار وملاك باب السودان

 

... ... ... ... ... ... الدكتور عبد الكريم كريم

... ... ... ... كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط

 

... تعرضت سواحل بلاد السوس عند مطلع القرن 10 هـ/ 16 م للحملات البرتغالية والإسبانية المتوالية التي انتهت بإقامة مراكز نفوذ واحتلال عليها، وذلك للأهمية الستراتيجية التي أصبحت لهذه السواحل القريبة من جزر كناريا بعد اكتشاف العالم الجديد وتعرُّف طريق الهند البحرية من حيث التحكم في طريق التجارة العالمية الجديدة بين غربي أوروبا والهند

 

(1/5598)

 

 

والشرق الأقصى أو فيما يرجع لاتخاذها نقطة انطلاق للتوسع في بلاد السوس التي تشتهر بمزارع قصب السكر وبمراكز التجارة مع غربي إفريقيا وبلاد السودان.

... وهذه الحملات الأجنبية أثارت رد فعل قوي من قبل أهالي السوس الذين أعلنوا الجهاد على المحتلين ومن يتعاون معهم، خاصة وأن بلاد السوس كانت المنطلق الأول للطريقة الجزولية التي عمت شهرتها كل بلاد المغرب. ومن أشهر الأئمة الذين عرفتهم بلاد السوس العالم الحسن بن عثمان شيخ جزولة بقرية »اسجاور«، والإمام محمد بن مبارك بقرية »أقا« والشيخ علي بن محمد الأديب(1)

__________

(1) المختار السوسي، سوس العالمة، ص. 156.

 

(1/5599)

 

 

وغيرهم من الذين عرفوا بالورع والتقوى والقيام بشؤون التعليم والتدريس والذين دعوا إلى محاربة الغزاة وتزعموا صفوف المجاهدين.

... اتجهت أنظار قبائل السوس إلى الشيخ محمد بن مبارك بأقا الذي كان قد »وضع أياماً معلومة في كل شهر يسمونها أيام سيدي محمد بن المبارك لا يحمل فيها أحد سلاحاً ولا يقدر أحد على المشاجرة فيها ويجتمع الرجل مع قاتل أبيه وولده وما يقدر أحد أن يكلمه وذلك شائع عند قبائل العرب والبربر من أهل سوس«(1). فدلهم على أحد أشراف »تاكمادارت« ببلاد درعة، وهو

__________

(1) ابن عسكر، دوحة الناشر، ص. 74.

 

(1/5600)

 

 

المولى محمد بن عبد الرحمن: »فلو بعثتم إليه وبايعتموه، كان أنسب لكم وأليق بمقصودكم«(1). والمولى محمد بن عبد الرحمن كان يعرف بين قومه بسعة العلم و»التمسك بسيرة السلف الصالح من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر«(2)؛ كما ذاعت شهرته ببلاد السوس لقيامه بأعمال الجهاد والمرابطة، إذ كان »يستنفر الناس للرباط بأقدير حيث كان النصارى(3)، الشيء الذي يجعل له بين القبائل

__________

(1) الإفراني، نزهة الحادي، ص. 12.

(2) الزياني، المعرب في دول المشرق والمغرب، مخطوط بدار الوثائق بالرباط (د 258)، ص. 343.

(3) المصدر نفسه.

 

(1/5601)

 

 

السوسية نفوذاً كبيراً. فقد كان يأمر أشياخ القبائل فيمتثلون أمره«(1). ومن مجريات الأحداث نعلم أن اتصالات قد جرت مع المولى محمد بن عبد الرحمن الذي »بعث له فقهاء المصامدة وشيوخ القبائل واستدعوه إلى تقديمه عليهم وتسليم الأمر إليه، فلبى دعوتهم وأجاب رغبتهم«(2).

... وفي قرية »تدسي« القريبة من مدينة تارودانت اجتمع المولى محمد بن عبد الرحمن بزعماء القبائل ومشايخها، حيث »خطبهم خطبة عجيبة بلسان البربر ذكر فيها ووعظ وحض على الجهاد«(3)

__________

(1) المصدر نفسه.

(2) الإفراني، نزهة الحادي، ص. 17.

(3) الزياني، المعرب، ص. 343.

 

(1/5602)

 

 

واشترط على كل قبيلة تقديم عشرة أشخاص من أبنائها مجهزين بكامل الأسلحة والعتد. »فاستحسنوا رأيه وأنعموا له بذلك وقدموا له خمسمائة رجل وكذا بسلاحهم وخيلهم«(1)، أي أن القبائل السوسية التي أعلنت بيعة المولى محمد بن عبد الرحمن في قرية تدسي كانت خمسين قبيلة. تلقب المولى محمد بن عبد الرحمن بـ»القائم بأمر الله«، وأسند لابنه الأكبر المولى محمد قيادة القوات المجاهدة. وحسب رسالة الحاكم البرتغالي بأكادير Ignacio Martines إلى الملك البرتغالي عمانويل الأول والمؤرخة بيوم 5 نوفمبر 1510

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 344.

 

(1/5603)

 

 

م، فإن بيعة القائم بقرية تدسي كانت في مطلع نوفمبر 1510 م الموافق لمطلع شعبان 916 للهجرة(1). استغلت القيادة الجديدة في تدسي إمكانات البلاد، وخاصة قصب السكر، للاستعداد لمنازلة البرتغاليين؛ الأمر الذي يفسر لنا انقضاء نحو السنة قبل أن يقوموا بأول هجوم ضد حصن »سانتاكروز« يوم 18 غشت 1511 م(2)، وهو التاريخ الذي يعد بداية انطلاق الحركة الجهادية الرامية إلى تحرير السواحل المغربية من الاحتلال الأجنبي.

__________

(1) المصادر الأصلية لتاريخ المغرب، المجموعة الأولىالبرتغال، م 1، ص. 255.

(2) المصدر نفسه، م 1، ص. 334.

 

(1/5604)

 

 

... وفي عام 1516 م، تمكن المجاهدون من الدخول إلى مدينة تارودانت(1) أعظم المراكز ببلاد السوس والباب الموصلة إلى الحوز عبر جبال الأطلس؛ وارتبطت منذ هذا التاريخ مدينة تارودانت بحركات الجهاد وأصبحت الرباط الأول للمجاهدين.

... استمرت تارودانت، المركز الرئيس لأعمال الجهاد ضد قواعد الاحتلال البرتغالي بالسواحل السوسية؛ وتضاعفت هجوماتها عام 1518 م، مما أجبر القائد البرتغالي Don Francisco de Gastro لأول مرة على طلب النجدة من لشبونة(2)

__________

(1) المصدر نفسه، فرنسا، هامش، ص. 440.

(2) المصدر نفسه، البرتغال، م 2، ص. 93.

 

(1/5605)

 

 

. وفي مطلع يناير 1525 م، تمكن المولى أحمد الأعرج من دخول مدينة مراكش بعد أن استخلف أخاه المولى محمد الشيخ على تارودانت: »ارتحل من رودانة وقصد مراكش، فنزل عليها وحاصرها وملكها أحمد الأعرج وبايعه أهلها وقبائلها وخرجت من حكم بني وطاس«(1).

... تضاعفت هجومات المجاهدين وحصارهم لقواعد الاحتلال، وتمكن أحد المجاهدين من اغتيال الحاكم البرتغالي لسانتا كروز(2). وعندما كان يوم 12 مارس 1541 م، تحقق أول

__________

(1) الزياني، الترجمان، ص. 345.

(2) المصادر الأصلية لتاريخ المغرب، المجموعة الأولى، البرتغال، م 2، ص. 450.

 

(1/5606)

 

 

نصر حاسم، وذلك بفتح حصن سانتا كروز بقيادة المولى محمد الشيخ(1). وعن الأوضاع الجديدة لمدينة تارودانت يطلعنا تقرير للتاجر الأوروبي Sebastiao Alvares بتاريخ 5 يناير 1542 م على مدى استغلال المولى محمد لموانئ ساحل السوس في الاتصال مع العالم الخارجي، وكيف أن واردات مدينة تارودانت قد ازدادت: فقد وصلت إليها حمولة تسعة مراكب معظمها ثياب مختلفة مقابل السكر والنيلة والشمع والعنبر والجلود(2).

__________

(1) المصدر نفسه، م 3، ص. 560.

(2) المصدر نفسه، م 4، ص. 6.

 

(1/5607)

 

 

... ويضيف تقرير آخر أن التجار الفرنسيين يبيعون المولى محمد الأسلحة والعتاد الحربي ويستوردون معدن النحاس لصب المدافع(1).

... وهكذا أصبحت لمدينة تارودانت مكانة متميزة: »اختط محمد الشيخ مدينة تارودانت وأذن للناس عامة في إحيائها والغرس فيها قصد عمارتها ورغبة في استيطانها«(2). ولم تلبث أن اتسع عمرانها بفضل العناية التي لقيتها. »فهي من مشيدات مولانا الإمام المهدي رضي الله عنه قاعدة بلاد السوس وأم

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 133.

(2) التامنارتي، الفوائد الجمة، مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط، رقم 513، ص. 67.

 

(1/5608)

 

 

القرى والأمصار وملاك باب السودان«(1). ومنذ عهد المولى الشيخ، أصبحت تارودانت تعرف بمدينة المحمدية (إحدى الحواضر الثلاث وهي المحمدية ومراكش وفاس)(2). وعندما انتقل المولى محمد الشيخ إلى مراكش عام 1544 م، ولّى على المحمدية ابنه المولى محمد الحران.

... وفي عهد المولى أحمد المنصور ازدادت مكانة المحمدية:

__________

(1) عبد العزيز الفشتالي، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء، ص. 253.

(2) ظهير التوقير والاحترام، مخطوط بدار الوثائق بالرباط (كلا 278)، ص. 42.

 

(1/5609)

 

 

... 1 ـ فقد ولى عليها ابنه المولى أبا الحسن علي: »هذا ظهير كريم أمر به عبد الله أمير المؤمنين... لولده الأحظى... الأمير أبي الحسن... فقلدناه إمارة حضرة السوس الأقصى وجميع أفقها السهل والجبل وفوضنا له فيها التفويض المطلق في القول والعمل«(1).

... 2 ـ جاء في إحدى مراسلات المنصور عن مدينة المحمدية »قاعدة مملكتنا السوسية مشرق شمس خلافتنا الشريفة ومحل انبعاث أشعة بدر مملكتنا المنيفة«(2).

__________

(1) مخطوط بدار الوثائق بالرباط (ك 278)، ص. 76.

(2) المصدر نفسه، ص. 176.

 

(1/5610)

 

 

... 3 ـ كانت لقاضي الجماعة بمدينة المحمدية مكانة خاصة. فقد كان يطلعه على الكثير من مجريات الأحداث. ومن ذلك ـ كما تحفظه الوثائق ـ:

... مراسلة من المنصور إلى قاضي الجماعة بالمحمدية في ربيع الأول 997 هـ الموافق ليبراير 1589 م تتضمن ـ بصفة خاصة ـ الأخبار عن هزيمة الإسبان في معركة الأرماد (غشت 1588 م) ووصول الأمير البرتغالي »دون كريستوف« بن »دون أنطونيو« المطالب بالعرض البرتغالي لاجئاً بالمغرب (محرم 997 هـ الموافق يناير 1589 م) واستقباله لسفارة عثمانية بفاس(1). وعندما نجح المولى

__________

(1) المصدر نفسه.

 

(1/5611)

 

 

أحمد المنصور في فتح بلاد السودان، كانت مدينة المحمدية أول مدينة زف إليها البشير الخبر السعيد(1). وعن المكانة الاقتصادية لمدينة تارودانت، يهمنا بصفة خاصة أن نشير إلى زراعة قصب السكر ومعاصره التي كانت في ضواحيها:

 

... معاصر السكر الجاثمة حواليها جثوم أهرام مصر... ما شئت من توطيد وتشييد وبرك مستجرة وجفان كالجواب وقدور راسيات وحركات هندسية ولوالب فلسفية.. وأنهار تتسنم لإجراء أرحيتها العظيمة الأخشاب ذرى الأسوار الممتدة الأعراف إلى عنان السماء بتدبير وفلسفة (2)

__________

(1) الفشتالي، المصدر السابق، ص. 143.

(2) المصدر نفسه، ص. 254.

 

(1/5612)

 

 

.

وحول كل معصرة نشأت قرية صناعية: »وإذا ألقيت عصا التسيار بمعصرة وحشرت من الخلف ولا تسل عن هولها، ولغط الأصوات بها تدل على عظمة شأنها وضخامة أحوالها على ضخامة الملك وسعة ذرع الدولة«(1). وفي أولاد مسعود وتازموت وأميز، وهي قرى مجاورة لتارودانت توجد حتى اليوم أطلال هذه المعامل السكرية.

... ومن جهة أخرى، ظلت تارودانت تحتفظ بموقعها الاستراتيجي في طريق المبادلات التجارية مع غربي إفريقية وبلاد السودان: »المحمدية من مشيدات مولانا الإمام المهدي رضي الله عنه قاعدة بلاد سوس..

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 210.

 

(1/5613)

 

 

وملاك باب السودان«(1).

... وفي الجانب العمراني، ارتقت المحمدية إلى مرتبة العواصم الكبرى كمراكش وفاس، وأصبحت:

... أم القرى والأمصار... ذات القصور المشيدة والأواوين الموطدة والرياض المفوفة والأنهار المطردة والمساجد المزخرفة والمآذن المقرطة بلآلئ النجوم المشنفة... لا يطير تحت جناحها البلد الجديد من فاس الذي هو عند بني مرين... ولا قصبة مراكش التي هي عند الموحدين... وإذا ذكرت المحمدية، لف كل منهما رأسه استحياء (2).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 253.

(2) المصدر نفسه .

 

(1/5614)

 

 

... وأخيراً، لقد قضى المولى أحمد شبابه بالمحمدية، حيث درس بمختلف معاهدها:

 

... قال أيده الله: لما تحرك السلطان رحمه الله لسوس... رحلني معه رحمه الله، فبدأت الرسالة بالسوس على الفقيه أبي عمران موسى السوسي رحمه الله، وسلكتها على الفقيه أبي الربيع سليمان باللوح مرتين وكنت أقرأ "مختصر خليل" لنفسي وأكتب منه لوحاً. وبعد خروجي من الكتاب أدرسه، إذ لم يكن يكلفني السلطان رحمه الله قراءته لطوله. ثم درست "الرسالة" أيضاً باللوح على الفقيه النحوي أبي محمد عبد العزيز بن إبراهيم سلكتين وقرأتها عليه قراءة فهم

 

(1/5615)

 

 

وتدقيق بعد حفظها. وقرأت عليه أيضاً "مقدمة" ابن آجروم قراءة فهم وتدقيق مراراً وأعربها عليه وقرأت عليه أيضاً "ألفية ابن مالك" باللوح سلكتين أو ثلاثاً. وقرأت علم الحساب، وقرأت علم العربية على الفقيه الأستاذ نحوي زمانه بلا مدافع أبي العباس أحمد القدومي رحمه الله. وبدأت قراءة "الألفية" على الفقيه المتفنن الدراك الفهامة أبي عبد الله بن أبي القاسم الشريف وعاق عن التمام ما كان من تحرك الطاغية باستدعاء ولد أخينا. فتحركت لفاس ومعه لبسيط أزغار (1).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 266.

 

(1/5616)

 

 

المخطوطات العربية وفهرستها في دمشق

 

... ... ... ... ... ... ... الدكتور عزة حسن

... ... ... ... ... ... دمشق ـ سورية

 

... كانت دمشق أكبر مركز ثقافي في بلاد الشام، طوال عصور التاريخ، من أقدم الأزمنة إلى أيامنا الحاضرة. وفيها كانت مدارس العلم وخزائن الكتب، أنشأها وبناها خلال هذه الحقب أولو الأمر وأصحاب الفضل من الملوك والأمراء والحكام والوزراء والقضاة وشيوخ العلم الكبار، وجمعوا فيها أسفار العلم، ووقفوا عليها الأوقاف. ولهذا كانت هذه المدارس مجامع لمخطوطات الثقافة العربية الإسلامية على اختلاف

 

(1/5617)

 

 

فنونها. وكانت لذلك موئل العلماء وطلاب العلم على مر العصور، يلتقون فيها، ويقرؤون ويدرسون ويرجعون إلى مخطوطاتها في دراستهم.

... وإلى جانب هذه المدارس كانت هناك خزائن الكتب الخاصة في بيوت الأعلام والأسر المعروفة من عامة الناس. بل كان وجود خزانة الكتب في البيوت تقليداً عاماً من التقاليد التي يراعيها الناس، ويعدونها من كمال أسباب الحياة، وتمام أداة البيت، مثل قطع الأثاث والرياش ووسائل الزينة والزخرف. وهي خزانة خشبية كبيرة مزينة بالنقوش تسمى بالكتبية. وكانت تنصب في غالب الأحوال في صدر القاعة الكبرى

 

(1/5618)

 

 

في البيت، وترصف فيها المخطوطات صفاً صفاً، قليلة أو كثيرة، حسب مكانة صاحب البيت وعلى قدر اهتمامه بالعلم والكتب. فقد يكون عالماً من العلماء فتكثر كتبه، أو يكون رجلاً من عامة الناس فتقل كتبه، ولا تعدو بعض نسخ المصحف وبعض أسفار الحديث وعلوم الدين المعروفة.

... وفي القرن التاسع عشر حين بدأت نظم التربية والتعليم تتغير بتغير معطيات العلم والحضارة الجديدة في العالم، وصارت الكتب تطبع في المطبعة، وأنشئت مدارس العلم الحديثة في العالم الإسلامي على مثال المدارس في بلاد المغرب، قلّ اهتمام الناس بالمخطوطات،

 

(1/5619)

 

 

وانصرف معظم طلاب العلم من المدارس القديمة. فضعف لذلك شأنها، واختل نظامها، واستهان بها الرجال الذين كانوا يتولون أمرها وبما حفظ فيها من أسفار مخطوطة. فأخذت هذه الأسفار تتفرق شيئاً فشيئاً، وامتدت إليها الأيدي الطامعة بالربح من ثمن بخس تبيعه به، فضاع شيء كثير منها. فانتبه لذلك بعض النابهين من أولي الأمر والسلطة ومن ذوي الفضل والكرم، وفكروا في حفظها والإبقاء عليها.

... وكان معظم المخطوطات في بلاد الشام مجموعاً محفوظاً في دمشق وحلب وهما العاصمتان الثقافيتان الكبيرتان في هذا البلد. وسنقصر كلامنا هنا

 

(1/5620)

 

 

على المخطوطات الموجودة في دمشق وحدها، وفي الخزائن العامة المعروفة فيها، دون الخزائن الخاصة الكائنة في بيوت الناس. وهذا لا ينفي أن تكون هناك مخطوطات في أماكن غير هاتين العاصمتين. ولكن عددها قليل، وشأنها ضعيف ضئيل، فلا تستحق لذلك الذكر والبيان.

 

مخطوطات دمشق:

... عندما تذكر المخطوطات في دمشق، ينصرف ذهن الإنسان عفواً إلى اسم علم من الأسماء الشهيرة الجميلة في دمشق هو اسم الظاهرية، أو المكتبة الظاهرية كما يسميها الناس، أو دار الكتب الظاهرية، وهو اسمها الرسمي. والسبب في ذلك أن مخطوطات دمشق قد جمعت

 

(1/5621)

 

 

وحفظت في الظاهرية فصارت محلاً لها، كما صارت هذه المخطوطات شهرة للظاهريّة. وعرف الناس ذلك من أمرها داخل البلاد وخارجها.

... ولكن كيف تجمعت هذه المخطوطات في الظاهرية؟ إن لذلك حديثاً نرويه ها هنا في كليمات قصار، فنقول: هبط دمشق سنة 1878 الوالي العثماني المشهور مدحة باشا، وهو رجل ذكي لامع، كان يحب الإصلاح والتجديد. فاهتم بأمر العلم والمعارف، ورأى أن ينشئ في دمشق مكتبة عامة على مثال المكتبات الموجودة في إستانبول عاصمة الدولة. فدعا بعض علماء البلد وأعيانه، وشاورهم في الأمر. ولما اتفق رأيهم على ذلك،

 

(1/5622)

 

 

ألف منهم جماعة سماها الجمعية الخيرية، وكلفها أن تعمل على إنشاء المدارس والعناية بالتعليم والبحث عن الكتب وجمعها. فشرعت هذه الجمعية بجمع المخطوطات الموقوفة في مدارس دمشق المختلفة، ونقلتها إلى المدرسة الظاهرية بعد إصلاحها وإعدادها لذلك(1). ورتبتها في خزائن خاصة موضوعة في قبة ضريح الملك الظاهر على مثال خزائن المخطوطات في إستانبول تماماً.

__________

(1) حبيب الزيات، خزائن الكتب في دمشق وضواحيها، القاهرة، 1902، ص. 5.

 

(1/5623)

 

 

... وما كاد مشروع المكتبة يتم حتى عزل الوالي مدحة باشا عن دمشق، وأقبل مكانه أحمد حمدي باشا. فتم الأمر في زمنه، وفتحت المكتبة أبوابها للقراء من طلاب العلم والباحثين، وسميت بالمكتبة العمومية، ووضعت تحت إشراف لجنة من أعضاء الجمعية الخيرية دعيت جمعية المكتبة العمومية.

... وكانت الكتب التي جمعت في الظاهرية مخطوطات كلها إلا بضع عشرات من الكتب المطبوعة. وكان عددها حينذاك 2453 كتابٍ كما يظهر في الفهرس الذي صنع للمكتبة في ذلك الحين، وطبع بمطبعة الجمعية الخيرية. ويبدو أن هذا الفهرس كان من صنع الشيخ طاهر

 

(1/5624)

 

 

الجزائري. وقد أخذت هذه المخطوطات من مكاتب مدارس دمشق القديمة، وهي عشر مدارس كما ذكر في أول فهرس المكتبة. أولها المدرسة العمرية، ثم مدرسة عبد الله باشا العظم، ثم مدرسة سليمان باشا العظم، ثم مكتبة الملا عثمان الكردي وكانت في مدرسة سليمان باشا أيضاً، ثم مكتبة الخياطين وكانت في مدرسة إسماعيل باشا العظم، ثم المدرسة المرادية، ثم المدرسة الشميصاتية، ثم المدرسة الياغوشية، ثم مكتبة الأوقاف، ثم مكتبة بيت الخطابة في جامع بني أمية. إلا أن في فهرس المكتبة إشارات وملاحظات تدل على أن جملة من الكتب قد أهدي إلى

 

(1/5625)

 

 

المكتبة إهداء من بعض علماء المدينة وبعض موظفي الولاية. وكان عدد المخطوطات 2387 مخطوطة، وباقي الكتب وهو 66 كتاباً من المطبوعات.

... وأخذ عدد الكتب يزداد في المكتبة مع الزمن شيئاً فشيئاً عن طريق الإهداء والوقف فحسب. فقد كان علماء المدينة وفضلاؤها وموظفو الولاية ودوائرها الرسمية ونظارة المعارف العثمانية يرسلون إلى المكتبة الكتب المخطوطة والمطبوعة. ويظهر هذا جلياً في الذيل الذي صنع لفهرس المكتبة، وألحق به مكتوباً بخط اليد. وقد بلغ عدد المخطوطات فيها سنة 1894 في عهد الوالي رؤوف باشا الذي أولى

 

(1/5626)

 

 

المكتبة عناية خاصة 2548 مخطوطة.

... ثم قامت الدولة العربية في بلاد الشام أوائل سنة 1919 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأنشئ ديوان المعارف، وألحقت به المكتبة، وسميت بدار الكتب العربية. وهنا بدأت مرحلة جديدة، طيبة وخيّرة في تاريخ الظاهرية. فقد عزم ديوان المعارف على توسعتها، وخصص المال المطلوب لذلك. يظهر لنا ذلك من هذا الإعلان الذي أذيع في الصحف في العشرين من آذار سنة 1919 بعد قيام الدولة العربية، بتوقيع رئيس ديوان المعارف، وهذا نصه:

 

(1/5627)

 

 

... عزمت الحكومة العربية على إنشاء دار للكتب في هذه العاصمة، تجمع فيها نفائس الكتب القديمة والحديثة، من مخطوطة ومطبوعة، في العلوم والفنون المتنوعة؛ في اللغة العربية وغيرها من اللغات المشهورة، لكي يتسنى للأمة العربية الارتقاء العلمي والأدبي بمطالعة ما تختاره من تلك الكتب. فمن كان عنده شيء منها، وأراد بيعه، فليعلم بذلك ديوان المعارف، فيعطى الثمن الذي يتم عليه الاتفاق بلا تردد ولا مماطلة (1).

__________

(1) أسماء الحمصي، المدرسة الظاهرية، ص ص. 49 ـ 50.

 

(1/5628)

 

 

ثم ألحقت بالظاهرية في السنة نفسها بالمجمع العلمي العربي، ولقيت عناية كبيرة من رئيس المجمع الأول العلامة محمد كرد علي خلال سني رئاسته الطويلة للمجمع حتى توفي سنة 1953.

... وفي هذه المرحلة ازداد عدد الكتب في الظاهرية زيادة كبيرة. فقسمت مقتنياتها لذلك إلى ثلاثة أقسام: قسم المخطوطات، وقسم الكتب المطبوعة، وقسم المجلات والصحف. وقد كان عدد المخطوطات فيها 2833 مخطوطة في شهر حزيران سنة 1919. فبلغ عددها 3830 مخطوطة في نهاية سنة 1928. وصار عددها 3927 مخطوطة في نهاية سنة 1936، و7156 مخطوطة في نهاية سنة

 

(1/5629)

 

 

1951، و9062 مخطوطة في نهاية سنة 1960. وعددها اليوم يقارب 11500 مخطوطة.

 

مخطوطات الخزائن الخاصة بدمشق:

... أما المخطوطات المكنونة في الخزائن الخاصة، فما زال أمرها مكتوماً مجهولاً غير معروف. وكان في دمشق عدد من هذه الخزائن الخاصة الغنية التي لا تقل عن الظاهرية قيمة وشأناً، مثل خزانة أبي السعود الحسيبي نقيب الأشراف في العهد العثماني، وعبد المجيد السقطي، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ خالد الصاحب، والشيخ أحمد أبي الفتح، ومحمود حمزة، ومراد القوتلي، وكثيرين غيرهم. ذكر هذا كله حبيب الزيات في كتابه

 

(1/5630)

 

 

"خزائن الكتب في دمشق وضواحيها"(1) الذي طبعه في القاهرة سنة 1902. وعنه أخذت هذا الكلام، ولا أدري ما حقيقة كلامه. على أنني أجد فيه آثاراً من المبالغة التي يعمد إليها الإنسان لإثبات الشيء وتقويته، كما يقول أحدنا في حديث له مع أخ من إخوانه: »قلت لك هذا مائة مرة«.

 

فهرسة المخطوطات في الظاهرية:

1 ـ دفتر المكتبة الأول:

... وضع للمكتبة في أول تأسيسها فهرس بدائي كان أقرب أن يكون سجلاً للكتب أريد به إحصاء عددها وضبط أسمائها، وسمي بدفتر المكتبة. وقد وضع هذا الدفتر شبيهاً

__________

(1) انظر الكتاب المذكور، ص. 90.

 

(1/5631)

 

 

بالدفاتر الموضوعة لخزائن المخطوطات العربية في إستانبول أيام الدولة العثمانية. وسجلت الكتب في هذا الدفتر على أبواب مصنفة حسب أصناف العلوم، وأحصي عدد الكتب في كل صنف منها بأرقام متسلسلة. ولكن تصنيف الكتب في هذه الأبواب لم يكن دقيقاً. وفي ذلك قال حبيب الزيات في كتابه الذي ذكرناه آنفاً: »ومما يدل على تسرع اللجنة في إفراز هذه الكتب، وعدم تأنيها في تمييز مشتملاتها، هذا الخلط الواقع في توزيع المؤلفات على أصناف العلوم. فإن كثيراً منها مذكور في غير فنه الجدير به، حتى لقد يرى الكتاب الواحد في نسختين أو

 

(1/5632)

 

 

أكثر وكل منها في واد« (1).

... وطريقة وضع هذا الدفتر ساذجة، لا تعدو ذكر اسم الكتاب واسم مؤلفه في اختصار، وإيراد بعض الملاحظات الأخرى التي لا تنفع كثيراً في تقويم الكتب. وكل ذلك في سطر واحد وحسب. والاختصار آفة في مثل هذا المجال. فقد اقتصر الذين وضعوا هذا الدفتر على نقل جزء من أسماء الكتب وأسماء مؤلفيها في كثير من الأحيان لضيق السطر الواحد من استيعاب التفصيل في ذلك. واكتفوا كذلك بتسجيل العنوان الظاهر في أول المخطوطة دون السعي إلى تقليب صفحات المجلدات

__________

(1) خزائن الكتب في دمشق وضواحيها، ص. 20.

 

(1/5633)

 

 

وتسجيل الكتب الموجودة فيها. وكان بين المخطوطات آنذاك عشرات من المجاميع لم تسجل إلا باسم الكتاب الأول في كل مجموع منها في أغلب الأحيان. حتى قال حبيب الزيات في كتابه:

... إن المطالع الذي يقع إليه برنامج المكتبة الظاهرية خاصة لا يعلم من أمرها ومأخذها وتاريخ مصير هذه الكتب إليها إلا ما يقرؤه في الفاتحة من أسماء المكاتب العشر التي نقلت منها. ولا يدري أحياناً ما وراء هذه الأرقام والألقاب المدلول بها على المخطوطات إلا ما ينبئ عنه الظاهر فقط، فضلاً عما يفوته مراراً ضمنها من المؤلفات والأجزاء التي لم

 

(1/5634)

 

 

ينتبه لها عند التقويم والإحصاء (1).

 

2 ـ كتاب خزائن الكتب في دمشق وضواحيها:

... كان يتردد إلى الظاهرية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر عالم قارئ هاو، يهوى القراءة والاطلاع على المخطوطات، اسمه حبيب الزيات، وهو من أبناء دمشق كما يقول عن نفسه. وقد ذكرنا اسمه مرات أثناء كلامنا في الصفحات السابقة.

... رأى الزيات ـ كما يقول ـ فهارسَ الظاهرية في دمشق والمكتبة الخالدية في القدس، ورأى أنها تقتصر على سرد الأسماء دون تحقيق ولا استيفاء في البحث والنقل. فأراد أن يكمل هذا

__________

(1) المصدر نفسه، المقدمة د.

 

(1/5635)

 

 

النقص. وقال يبين ذلك:

 

... دفعتني آصرة البلدية والرغبة المخلصة في الخدمة الأدبية إلى أن أتولى بقدر ما يسعه الذرع القاصر سدّ جانب من هذه الثلمة في تاريخ وطني دمشق. فعلقت منذ أربع سنوات أقلب مخطوطات خزانتها الظاهرية وأطالع منها ما دعت الحاجة إلى مطالعته، إلى أن تم لي مراجعة كل كتبها الأدبية، خلا الحديث والفقه كما سيأتي شرح ذلك في مكانه. فأثبت باختصار ما اجتمع لدي من هذه التعليقات والقيود في الجزء الأول من هذا الكتاب (1).

...

__________

(1) المصدر نفسه، المقدمة د ـ هـ.

 

(1/5636)

 

 

وذكر الزيات في مكان آخر من كتابه أنه ظل يتردد على الظاهرية عشر سنين، طالع خلالها معظم كتبها الأدبية. فندب نفسه لذلك لصنع فهرس لمخطوطات الظاهرية(1).

... والظاهر هو أن الزيات كان قد اطلع على بعض الفهارس العلمية التي صنعها المستشرقون للمخطوطات العربية المحفوظة في مكاتبهم، مثل فهارس مكتبة برلين وغيرها(2). فأراد أن يحذو حذوهم، ويستفيد من مناهجهم في عمله. ولكن علمه وخبرته ضاقا عن ذلك، فلم يستطع السير في أثر هؤلاء المستشرقين، فقال يبين ذلك:

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 21.

(2) المصدر نفسه، المقدمة أ.

 

(1/5637)

 

 

... هممت أن أتلو في وصف هذه المخطوطات تلو الفهارس الأوربية من بسط الكلام على كل كتاب وتعريف ماهيته، وإيراد جانب من ترجمة مؤلفه حيث تدعو الضرورة إليه، واقتضاب نبذ منه، وتعيين تاريخ نسخه ومكانه، واسم الناسخ له، وما شاكل ذلك من الإيضاحات التي يتبين بها حال الكتاب، وتظهر أغراضهم. ولكني وجدت أن ما يستغرقه هذا التطويل من الأوقات والنفقات يضيق عن بلوغه ذرعي. فاكتفيت بنقل عنوان المؤلف واسم مؤلفه فقط، مع الإشارة إلى موضوعه الخاص، وذكر أوائله أحياناً (1).

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 26.

 

(1/5638)

 

 

... عمد الزيات أولاً إلى المجاميع، وهي من أغنى مخطوطات الظاهرية، وكان عددها حينئذ 132 مجموع، تضم مئات من الكتب والوسائل والأمالي القصار النادرة في فنون الثقافة العربية المختلفة، ولا سيما فن الحديث. فذكر ما تضمنه كل مجموع من الكتب والرسائل جميعاً. وهذا ما لم يذكر في دفتر الظاهرية الأول الذي تكلمنا عليه آنفاً، وهو أجود ما صنعه الزيات في كتابه وأحسنه.

... ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى المخطوطات الأخرى، فذكر عدداً منها كان يختاره من كل فن من الفنون واتبع في ذلك ترتيب الفنون في دفتر الظاهرية الأول دون

 

(1/5639)

 

 

تغيير البتة. وقد صرح بذلك قائلاً:

 

... ومع كوني خالفت الفهرست في أشياء كثيرة أوردها على غير وجهها الصحيح، فقد اضطررت أن أوافقه على ترتيبه الذي جرى عليه في نسق المؤلفات، ونسبتها إلى فنها الخاص بها فذكرت كل مخطوط في الباب الذي ساقه فيه، وإن كان غيره أحياناً أولى به وأحرى بمكانه، وذلك تسهيلاً للطلب، وحذراً من التشويش (1).

وقد بدأ الزيات ذلك بعلم الفرائض، وختمه بعلم الهيئة، تاركاً الفنون التسعة الأولى في دفتر الظاهرية الأول، وهي في علوم القرآن والحديث والفقه الإسلامي.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 27.

 

(1/5640)

 

 

... وهكذا نرى أن صاحب كتاب خزائن الكتب في دمشق وضواحيها لم يستطع صنع شيء كبير، ولم يمكنه الخلاص من الدوران حول دفتر الظاهرية الأول في جملة عمله. لقد أراد أن يضع فهرساً علمياً لمخطوطات الظاهرية، فقصر باعه عن ذلك، ووقفت به همته عن بلوغ ما كان يصبو إليه ويرغب فيه. وقد أحس بذلك من نفسه، فاعتذر عنه في مقدمته كما ذكرنا آنفاً. ولكن الزيات مع ذلك كان أول من فكر في هذا الأمر، ونبه إليه أذهان الناس في بلاد الشام. فكان له حسنى السبق إلى ذلك، وإن لم يكن له حسنى الإجادة فيه.

 

(1/5641)

 

 

... هذا وقد جعل الزيات كتابه أربعة أقسام سماها أجزاء. الجزء الأول منها في مخطوطات الظاهرية ( ص 1 ـ 90)، وهو الذي تكلمنا عليه في الصفحات السابقة. والجزء الثاني في خزائن الكتب في الأديار والكنائس (ص 91 ـ 120). والثالث في بلدة معلولا ولهجتها السريانية (ص 121 ـ 161). والرابع في بلدة يبرود ومكتبة المطران غريغوريوس عطا فيها (ص 161 ـ 246).

... والأجزاء الثلاثة الأخيرة من الكتاب لا صلة قريبة لها بالمخطوطات، ولا تضم سوى أخبار وروايات حول بعض المكاتب والمخطوطات الكنسية، وهي مع ذلك لا تتصف بالدقة، ولا

 

(1/5642)

 

 

تسير على خطة علمية.

 

3 ـ فهرس الكتب الخطية لدار الكتب الظاهرية للشيخ حسني الكسم

 

... عين الشيخ حسني الكسم مساعداً لمحافظ الظاهرية، واستلم عمله فيها سنة 1919، وظل في هذا العمل مدة طويلة امتدت إلى غاية كانون الثاني (يناير) سنة 1934. وكان في هذه الفترة الطويلة هو المدير الفعلي للظاهرية.

... ويبدو أن الشيخ حسني قد لاحظ أن الدفتر الأول الذي وضع للظاهرية لا يفي بالغرض، ولا يفيد كثيراً في تعريف المخطوطات وبيان أحوالها. فعزم لذلك على صنع فهرس آخر لهذه المخطوطات يكون أجدى وأوفى بالغرض. فاتبع طريقة دفتر

 

(1/5643)

 

 

الظاهرية الأول، وصنف المخطوطات حسب أصناف العلوم كما جاءت في ذلك الدفتر. وسار بعد ذلك على سنّة حسنة فساق أسماء الكتب في كل صنف مرتبة على حروف الهجاء. وهذا ما لم يفعله أصحاب دفتر الظاهرية الأول ولا حبيب الزيات في كتابه. وإنما هو شيء جديد بدأ به الشيخ حسني. ويغلب على ظننا أنه اقتدى في ذلك بالدفاتر الموضوعة لخزائن المخطوطات في إستانبول، وكان رآها في الظاهرية إذ أرسلتها إليها نظارة المعارف العثمانية فيما أرسلت من الكتب.

 

(1/5644)

 

 

... وكذلك سار الشيخ حسني على سنّة حسنة أخرى أيضاً، فذكر أسماء الكتب والمؤلفين مفصلة كاملة في أغلب الأحيان، مع ذكر وفيات المؤلفين. وفاق بذلك واضعي الدفتر الأول وحبيب الزيات معاً، وزاد في فهرسه أشياء أخرى لم يفطن لها هؤلاء جميعاً. فنراه يأخذ في وصف المخطوطات وبيان أحوالها وأشكالها، مثل بيان موضوعها ومضمونها، وذكر أجزائها، وأنواع خطوطها، وعدد صفحاتها، وتاريخ نسخها، وأسماء الناسخين، وإيراد جمل من أوائل الكتب تبين أغراضها في أغلب الأحيان، وغير ذلك من المعلومات المفيدة في هذا المجال.

 

(1/5645)

 

 

... وهذا مثال مما جاء في هذا الفهرس في وصف جزء مخطوط من كتاب "المجمل" في اللغة لابن فارس. قال:

 

... "المجمل في اللغة": لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازي القزويني الشهير بابن فارس المتوفى سنة 390. الموجود منه مجلد في 375 صفحة متوسطة، يبتدئ من مادة (ع ب ث) إلى آخر الكتاب. وهو معجم مرتب على الحروف كترتيب "المصباح"، التزم فيه الصحيح والواضح من الكلام العرب دون الوحشي المستنكر، وآثر فيه الإيجاز. كتب بقلم نسخ نفيس مضبوط الحركات سنة 589، رقم 123 (1).

__________

(1) فهرس الكتب الخطية، 176.

 

(1/5646)

 

 

... ومن الحق أن نقول إن عمل الشيخ حسني الكسم كان شيئاً جديداً فذاً في فهرسة المخطوطات في دمشق. فيمكننا أن نعده لذلك خطوة واسعة للوصول إلى وضع الفهرس العلمي الدقيق الصحيح للمخطوطات، وكاد الشيخ حسني يبلغ هذه الغاية، ويصيب الغرض بعمله هذا، لولا افتقار فهرسه إلى شيء من الدقة والتنظيم، ولولا نقص تجربته، وقلة معرفته وخبرته بالكتب وطبيعة المخطوطات.

... هذا، وقد أنجز الشيخ حسني فهرسة معظم مخطوطات الظاهرية في فهرسه هذا، فجاء في 187 صفحة كبيرة بخطه. ولكنه لم يكمله بعد أن قارب تمامه. فقد انتهى فيه إلى حرف

 

(1/5647)

 

 

الهاء من قسم كتب الفلك والميقات، ولم يتم هذا القسم بدليل أنه ترك فيه بياضاً في آخره كأنه كان يريد أن يكتب فيه شيئاً. ثم انتقل إلى كتب علم الحساب من قسم الرياضيات، ورسم عنوان هذا القسم، ولكنه لم يذكر فيه شيئاً من الكتب البتة.

... والظاهر أن المنية قد وافت الشيخ حسني، وحالت بينه وبين إتمام فهرسه، فبقي ناقصاً مبتوراً في مسودته. وأهمل هذا الفهرس بعد ذلك، وترك للنسيان. وهو اليوم لا يستعمل، ولا ينظر فيه أحد، وإنما بقي في الظاهرية ذكرى تمثل مرحلة مهمة في سبيل وضع فهارس علمية صحيحة لمخطوطات الظاهرية.

 

(1/5648)

 

 

4 ـ فهرس المجاميع

 

... في الوقت الذي كان فيه الشيخ حسني الكسم يقوم بإعداد فهرسه الذي وصفناه آنفاً، كان الشيخ صادق المالح يضع فهرساً آخر للكتب والرسائل والأجزاء والأمالي الموجودة ضمن المجاميع المخطوطة في الظاهرية. وقد أشرنا إلى هذه المجاميع فيما سبق من بحثنا هذا.

... كان الشيخ صادق موظفاً بوظيفة ناسخ في الظاهرية، فكلفه الشيخ حسني الكسم بأن يضع فهرس المجاميع بإشرافه. فقام الشيخ صادق بذلك، وكتب لهذه المجاميع سجلاً عاماً بخط يده في دفتر كبير، استوفاها فيه جميعاً، وأحصى ما تضمنته بالتفصيل كتاباً

 

(1/5649)

 

 

كتاباً ورسالة رسالة حسب ترتيب ورودها في كل مجموع مع ذكر أسماء أصحابها وعدد صفحاتها، دون أي ترتيب آخر. ولكنه لم يصنع شيئاً آخر وراء هذا الإحصاء، حتى إنه ذكر كل كتاب منها في سطر واحد وحسب. فكان عمله في جملته سجلاً عاماً لما في هذه المجاميع كما قلنا. وهذا هو الذي قصد إليه الشيخ صادق من عمله في الأصل، وليس غير ذلك. ويبدو أنه اقتفى في كتابة سجله خطى حبيب الزيات فيما صنعه في كتابه "خزائن الكتب" من نثر ما تضمنه عدد كبير من هذه المجاميع كما ذكرنا.

 

(1/5650)

 

 

... ولم يتم الشيخ صادق هذا السجل جميعه، وإنما بقيت منه بقية ضئيلة أتمها السيد فوزي العاني بخط يده.

... ويفيدنا هذا السجل في تيسير الاطلاع على ما تضمنه كل مجموع من كتب ورسائل في سهولة ويسر. ويوفر علينا الوقت الطويل الذي نصرفه في تقليب أوراق المجاميع الكثيرة طلباً للكتب والرسائل الصغيرة الضائعة في ثناياها.

 

5 ـ سجل المخطوطات

... كانت المخطوطات والكتب المطبوعة تحفظ معاً في مكان واحد في الظاهرية من يوم تأسيسها. وقد ذكرنا آنفاً في كلامنا على دفتر الظاهرية الأول أنها سجلت معاً أيضاً في هذا الدفتر،

 

(1/5651)

 

 

وكانت الكتب المطبوعة قليلة حينئذ، لا يعدو عددها بضع عشرات من الكتب. وكذلك ظلت المخطوطات والكتب المطبوعة التي دخلت الظاهرية بعد تأسيسها وطبع دفترها الأول، ظلت تسجل في أوراق ملحقة بهذا الدفتر، وعلى الترتيب نفسه الذي اتبع فيه، أي مصنفة حسب أصناف العلوم.

... وظلت الأمور تسير هكذا في الظاهرية حتى كثرت مقتنياتها مع مضي الأيام، وزاد عدد المطبوعات على عدد المخطوطات فيها في أيام الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى. وصارت الحاجة وضرورات التنظيم تدعو إلى فصل المخطوطات عن المطبوعات. وفي هذه الأثناء

 

(1/5652)

 

 

تولى إدارة الظاهرية الأستاذ عمر رضا كحالة أواخر سنة 1934، فرأى أن يحقق هذا الأمر. فتم استقلال المخطوطات في تلك الآونة، وجعل لها سجل خاص بها في دفتر كبير الحجم. وكتبت المخطوطات جميعاً في هذا السجل على الطريقة التي اتبعت في دفتر الظاهرية الأول بأسماء الكتب ومرتبة حسب أصناف العلوم، مع تغيير طفيف وزيادات قليلة في حقول الملاحظات والمعلومات. وأعطيت المخطوطات في هذا السجل أرقاماً متسلسلة إلى جانب أرقامها الخاصة القديمة.

 

(1/5653)

 

 

... على أن تسجيل المخطوطات في دفتر مثبت الأوراق حسب أصناف العلوم أمر يسير إذا كان عدد المخطوطات ثابتاً لا يزيد مع الأيام. فإذا كان عددها يزيد، أصبح تسجيلها على هذه الطريقة أمراً عسيراً جداً في دفتر مثبت الأوراق. وكانت مخطوطات الظاهرية تزيد زيادة مطردة على الزمن. وأمام هذا العسر رئي التخلي عن هذه الطريقة، وترجيح تسجيل المخطوطات في الدفتر بأسماء الكتب حسب ورودها ودخولها الظاهرية بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، واختيار إعطائها أرقاماً متسلسلة وحسب. والأمر مستمر على هذه الطريقة إلى اليوم. وتسجيل

 

(1/5654)

 

 

المخطوطة في هذا السجل يشبه بوجه من الوجوه شهادة ميلاد لها في الظاهرية أو وثيقة سجن مؤبّد فيها، لأنها لا تخرج منها في حال من الأحوال.

 

6 ـ فهرس المؤلفين

... في سنة 1935 عين الدكتور يوسف العش مديراً لدار الكتب الظاهرية، فبدأت بذلك مرحلة جديدة خيرة في تاريخ هذه الدار، نستطيع أن نسميها المرحلة العلمية في وضع الفهارس، وتنظيمها على أسس وقواعد معروفة واضحة في جميع أقسام الدار. وكان الدكتور يوسف العش قد حصل على شهادة المكتبات من باريس، وعاد للعمل في الظاهرية، فكان أول ما بدأ به في قسم المخطوطات هو

 

(1/5655)

 

 

تنظيم فهرس آخر للمخطوطات حسب أسماء المؤلفين أول مرة في تاريخ الظاهرية.

... لم ينظم هذا الفهرس في دفتر صغير أو كبير مثل الفهارس والسجلات التي وصفناها فيما مضى من كلامنا، وإنما نظم في جذاذات مفردة متساوية من الورق السميك، وحفظت في أدراج مقسمة ضمن خزانة خاصة.

... كتب لكل مخطوطة جذاذة خاصة في هذا الفهرس، تبدأ بالاسم أو الشهرة أو اللقب الذي عرف به المؤلف، أي بالاسم العلمي الذي يعرف به، مثل امرئ القيس وابن قتيبة والمبرد والجاحظ مثلاً. ويكتب مفرداً في سطر، ويكتب معه اسم المؤلف كاملاً وتاريخ وفاته.

 

(1/5656)

 

 

ويأتي بعد ذلك تعريف موجز للكتاب، وبعده وصف موجز للمخطوطة أيضاً، مضمونها وشكلها، مثل عدد أوراقها وتمامها أو نقصانها ونوع خطها وتاريخ نسخها واسم ناسخها وما إلى ذلك من المعلومات. وتختم الجذاذة برقم المخطوطة، وقد رتبت هذه الجذاذات بعد ذلك في أدراجها الخاصة حسب أسماء المؤلفين بترتيب حروف الهجاء.

... هذا الفهرس مفيد جداً للباحثين، ولا سيما في معرفة المخطوطات الموجودة للمؤلف الواحد في الظاهرية. ولكنه على فائدته ليس بدقيق ولا تام، إذ تعاورت عليه أيد مختلفة في فترات مختلفة من الزمن، من اليوم الذي بدئ

 

(1/5657)

 

 

فيه بتنظيمه إلى هذا اليوم. فهو لذلك يضل الباحثين في بعض الأحيان، ويحسن لذلك مراجعته وإصلاحه وتنظيمه بدءاً تنظيماً دقيقاً يجعل الاستفادة منه ميسرة مثمرة، ولكن ذلك شأن بعيد المنال الآن بسبب كثرة المخطوطات من جهة، وقلة الاختصاصيين الذين يجيدون العمل في ميدان المخطوطات من جهة أخرى.

...

7 ـ فهرس الموضوعات

... في الوقت الذي بدئ فيه بتنظيم فهرس المؤلفين الذي تحدثنا عنه قبل هذا، وضع فهرس آخر حسب الموضوعات، أي حسب أصناف العلوم. وقد وضع على شاكلة فهرس المؤلفين على جذاذات من الورق السميك حفظت كذلك في

 

(1/5658)

 

 

أدراج مقسمة في الخزانة الخاصة التي حفظت فيها جذاذات فهرس المؤلفين.

... كتب لكل مخطوطة جذاذة خاصة في هذا الفهرس تبدأ باسم الكتاب مكتوباً في سطر، ويتلو ذلك اسم المؤلف في سطر أيضاً، ويأتي بعده وصف المخطوطة وبيان أحوالها كما جاءت في الجذاذة الخاصة بالمخطوطات نفسها في فهرس المؤلفين. وقد رتبت جذاذات هذا الفهرس، في كل فن من العلوم، حسب أسماء الكتب وعلى ترتيب حروف الهجاء.

... هذا الفهرس مفيد جداً في معرفة المخطوطات الموجودة في الفن الواحد من العلوم في الظاهرية. ولكنه مع ذلك ليس بدقيق ولا تام للسبب نفسه

 

(1/5659)

 

 

الذي بيناه في كلامنا على فهرس المؤلفين غير بعيد، ويحسن لذلك إصلاحه وتنظيمه من جديد وإكمال نقصه لتحصل منه الفائدة. ولكن هذا مطلب عسير يستغرق زمناً طويلاً لكثرة المخطوطات وقلة الاختصاصيين. هذا، وقد سعت إدارة الظاهرية منذ سنوات في سبيل إنجاز الفهارس العلمية الموضوعة على الموضوعات، وهي التي ستغني الباحثين عن فهرس الموضوعات هذا وسواه من الفهارس.

 

8 ـ فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية

... وينتهي بنا البحث أخيراً إلى الكلام على فهرس ختم به هذا الجهد الطويل الذي استمر أكثر من خمسين سنة في سبيل الوصول إلى

 

(1/5660)

 

 

وضع فهرس علمي لمخطوطات الظاهرية. فقد كان أقصى ما فكر فيه الدكتور يوسف العش، بعد تنظيمه شؤون الظاهرية على أسس جديدة، أن يضع فهرساً علمياً قويماً لمخطوطاتها على نمط بعض الفهارس العلمية التي وضعها المستشرقون للمخطوطات المحفوظة في خزائن بلادهم.

... كان هذا الفهرس، كما تصوره الدكتور يوسف العش، سلسلة من الفهارس الموضوعة على تعريف المخطوطات ودراستها وتحليلها، تخصص كل حلقة منها لفن من فنون الثقافة العربية، وتطبع في كتاب قائم على جدته، وتوزع مثل سائر الكتب المطبوعة، ليطلع عليها القاصي والداني من

 

(1/5661)

 

 

الباحثين في الثقافة العربية في الشرق والغرب من بقاع الأرض.

... وكانت الفهارس المختلفة التي تحدثنا عنها آنفاً لا تفيد إلا القارئ الذي يقصد الظاهرية بنفسه، ويطالع فيها، لأنها كانت مكتوبة بخط اليد غير مطبوعة، سوى الدفتر الأول منها. وقد ابتدأ بهذه السلسلة الدكتور يوسف العش نفسه، فوضع الجزء الخاص بالتاريخ وملحقاته، وطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق في سلسلة مطبوعاته سنة 1947.

 

... أ ـ التاريخ وملحقاته

... كان عمل الدكتور يوسف العش فذاً فريداً في بابه، يجري أول مرة في العالم العربي. وبسبب ذلك كان فضل

 

(1/5662)

 

 

السبق للظاهرية في هذا الميدان. وقد جرت قبل عمله محاولتان اثنتان في هذا السبيل في الظاهرية. الأولى محاولة حبيب الزيات في كتابه "خزائن الكتب"، والثانية محاولة الشيخ حسني الكسم في "فهرس الكتب الخطية". ولكن المحاولتين كانتا ناقصتين غير تامتين، ولم تسيرا على منهج علمي صحيح كما بينا آنفاً. وكانت المحاولة الثانية مع ذلك أقوم وأوفى من المحاولة الأولى.

... بيّن الدكتور يوسف العش خطته التي اتبعها في فهرسه، فقال:

 

(1/5663)

 

 

... سرت في هذا الفهرس على نهج اختطته ليكون وافياً بغاية الباحث، قريب المتناول، سهل التصفح. فقسمت موضوعات التاريخ إلى أقسام توخيتها واضحة، ثم وزعتها إلى فصول تبين أجزاءها، وتضبط مناحيها، ثم أدرجت في كل فصل وصف المخطوطات التي تنتمي إليه خاصة، أو تنتسب إليه أكثر مما تنتسب إلى غيره. ورتبتها بتتابع وفيات مؤلفيها إن عرفتها، أو بترتيب تاريخ تأليفها إن اتضح لي، فقدمت القديم على ما هو أحدث منه، ثم أدرجت في آخر الفصل ما جهلت.

 

... وأقسام الفهرس التي أشار إليها المؤلف هي:

 

(1/5664)

 

 

... 1 ـ علم التاريخ ومقدماته. وفيه فصل واحد.

... 2 ـ التاريخ الإسلامي وعصوره. وفيه أحد عشر فصلاً.

... 3 ـ تاريخ الأقطار الإسلامية. وفيه ستة فصول.

... 4 ـ التراجم. وفيه أربعة عشر فصلاً.

... 5 ـ ملحقات التاريخ الإسلامي. وفيه فصلان اثنان.

... 6 ـ تاريخ الأنبياء وغير المسلمين. وفيه فصل واحد.

 

... ونفهم من كلام المؤلف في بيان خطته كما نرى في هذا التقسيم الذي عمد إليه أن هذا الفهرس قد قسم أقساماً وفصولاً على الموضوعات. وذكرت المخطوطات في هذه الفصول المختلفة، ورتبت فيها ترتيباً زمنياً حسب وفيات

 

(1/5665)

 

 

مؤلفيها أو زمان تأليفها، أي بتقديم القديم على ما هو أحدث. وهكذا.

... ونلاحظ للوهلة الأولى أن الدكتور يوسف العش قد أكثر من الأقسام والفصول في كتابه. فقد بلغت فصوله خمسة وثلاثين فصلاً، وفي هذا شيء كثير من الكلفة والتعقيد على المؤلف والباحث معاً. وقد زاد الأمر تعقيداً ترتيبه المخطوطات في الفصول ترتيباً زمنياً كما ذكرنا، وكان الأقوم أن ترتب على حروف الهجاء. هذا وقد صنع المؤلف فهارس لأسماء الكتب وأسماء المؤلفين وغير ذلك على حروف الهجاء، وألحقها في آخر كتابه، فكانت هذه الفهارس سبيلاً إلى تيسير الأمر

 

(1/5666)

 

 

وإزالة قسط كبير من التعقيد؛ ولولا هذه الفهارس، لشق أمر النظر في الكتاب على الباحثين.

... ولقد وصف الدكتور يوسف العش كل مخطوطة في فهرسه وصفاً قصد أن يكون دقيقاً وافياً، وجعل هذا الوصف في خمس فقرات بينها في مقدمته، فقال:

 

... 1 ـ الفقرة الأولى: ذكرت فيها اسم الكتاب والمؤلف بحروف دقيقة ثخينة بعد أن اختصرتها بأقصر عبارة.

... 2 ـ الفقرة الثانية: نقلت اسم الكتاب من طرة المخطوطة كما ورد فيها... ثم أوردت اسم المؤلف كما هو في طرة المخطوطة... وأتبعت بذلك بذكر تاريخ وفاة المؤلف.

 

(1/5667)

 

 

... 3 ـ الفقرة الثالثة: أشرت فيها إلى طبع الكتاب إن كان مطبوعاً، وقابلت فيها المطبوع بالمخطوط، وأشرت إلى الاختلاف بينهما، وذكرت وصف موضوع الكتاب إن لم يكن مطبوعاً، وتحقيقاً عنه إن استحق التحقيق، وبيان فصوله ومكانها من الكتاب إن اتضحت وكانت مما يستوجب البيان، أو نقلت من خطبة الكتاب ما يشير إلى موضوعه أو يفسر أمره، ومن خاتمته ما يفصح عن نهايته. وإذا كان الكتاب في التراجم، أشرت إلى ما حفل منها بالأخبار واتسع وفصل.

 

(1/5668)

 

 

... 4 ـ الفقرة الرابعة: وصفت فيها النسخة... ووصفت خط النسخة... وذكرت تاريخ النسخة إن عرفته... وذكرت اسم الناسخ إن عثرت عليه.

... 5 ـ الفقرة الخامسة: أوردت فيها رقم النسخة الذي تجلب به من خزائن الظاهرية.

 

... هذه هي خطة الدكتور يوسف العش في وصف المخطوطات. وهي ـ لعمري ـ طريقة مثلى في هذا المجال، لا ريب. ولكننا نرى الإطالة ظاهرة فيها، فليس من وظيفة واضع فهرس المخطوطات أن يحلل مضمون المخطوطة، ويوازن بينها وبين غيرها مما هو في موضوعها. وليس من وظيفته كذلك أن يقابل مخطوطة كتاب ما بالمطبوع منه، ويشير

 

(1/5669)

 

 

إلى الاختلاف بينهما. فهذا ومثله من عمل المحققين الذين ينشرون المخطوطات، وإلا طال الأمر على واضعي فهارس المخطوطات، وهم قلة قليلة في كل الأزمان، ومضت أعمارهم دون أن ينجزوا شيئاً مذكوراً. وهذا مع كثرة المخطوطات العربية التي تعد بالآلاف في معظم الخزائن كما في الظاهرية. ولهذا السبب نفسه نرى أن الدكتور يوسف العش لم يستطع إنجاز فهرس آخر غير فهرس التاريخ. فكان من الضروري إعادة النظر في طريقته لتحقيق التيسير المطلوب في فهرسة المخطوطات، والسرعة في إنجازها.

 

... ب ـ علوم القرآن

 

(1/5670)

 

 

... كان الدكتور يوسف العش قال في مستهل مقدمته لفهرس التاريخ: »وعسى أن يسعف الزمان بإتمام الأقسام الأخرى، أتولاها أنا أو غيري«. ولكن يبدو أن شواغل قد شغلت الدكتور يوسف العش، وصرفته عن الاستمرار في العمل الجليل الذي كان بدأ به. ولم يسعف الزمان كذلك بمن يتولى إتمام هذا العمل طوال سنين عديدة. ثم جئت إلى دار الكتب الظاهرية أواخر سنة 1959، وكنت قد تمرست بالاطلاع على مخطوطات التراث العربي في خزائن إستانبول وسائر مدن الأناضول خلال إقامتي الطويلة في تركية. وخزائن التراث العربي في تركية أغنى الخزائن في

 

(1/5671)

 

 

العالم إطلاقاً. فقضيت مثل رهبان الدير أياماً طويلة في عتمة هذه الخزائن ساعياً وراء عيون تراثنا المفقودة.

... قمت في أول الأمر بتنظيم المخطوطات في قبة الملك الظَّاهر. ثم كان جل اهتمامي منصرفاً بعد ذلك إلى وضع فهارس لفنون المخطوطات المختلفة، ووصل ما انقطع من هذا العمل العلمي الجليل الذي افتتحه الدكتور يوسف العش. فابتدأت بالعمل في مخطوطات علوم القرآن، وجعلتها في جزء ذكرت فيه جميع الكتب التي تمت إلى القرآن الكريم بسبب من الأسباب.

 

(1/5672)

 

 

... توخيت في هذا الفهرس أن يكون مختصراً ميسراً، خالصاً من التعقيد الواقع في فهرس التاريخ. وجوهر الأمر فيه قائم على تعريف المخطوطة وتعريف صاحبها تعريفاً صحيحاً، ثم بيان حال هذه المخطوطة وقيمتها، من غير عناية كبيرة بتحليلها أو دراستها مجملاً أو مفصّلاً للسبب الذي شرحته حين كلامي على فهرس التاريخ آنفاً. ولبلوغ هذه الغاية، رسمت لنفسي خطة خاصة تتفق وخطة الدكتور يوسف العش في خطوطها العامة. وسعيت إلى بيان الأمور التالية فيها:

 

1 ـ بيان اسم الكتاب المخطوط في تفصيل، وتعريفه في إيجاز.

 

(1/5673)

 

 

2 ـ بيان اسم مؤلفه في تفصيل، وذكر تاريخ وفاته، أو تعيين العصر الذي عاش فيه.

3 ـ وصف المخطوطة وبيان قيمتها في إيجاز.

4 وصف خطها، وذكر اسم الناسخ وتاريخ النسخ.

5 ـ ذكر السماعات المرقومة عليها وتاريخها، والتملكات وتاريخها حين اللزوم.

6 ـ بيان عدد أوراقها، وعدد السطور في كل صفحة، وقياس طولها وعرضها، وبيان رقمها.

7 ـ الإشارة إلى المصادر التي ذكرت الكتاب المخطوط أو تكلمت عليه.

 

... ولقد جعلت هذا الجزء في أقسام أيضاً مثل فهرس التاريخ، ولكنني أخليته من الفصول لتسهيل الرجوع إليه والنظر فيه. وأقسامه هي:

 

(1/5674)

 

 

... 1 ـ المصاحف الشريفة.

... 2 ـ كتب التجويد.

... 3 ـ كتب القراءات.

... 4 ـ كتب التفسير.

... 5 ـ كتب علوم القرآن العامة.

 

... ورتبت المخطوطات في كل قسم على حروف الهجاء لتسهيل المراجعة على الباحثين. وصنعت لهذا الجزء فهرسين أيضاً، أحدهما لأسماء المؤلفين، والثاني لأسماء النساخ، وألحقتهما في آخره.

... هذا، وقد طبع هذا الجزء الخاص بعلوم القرآن في سلسلة مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1962، أي بعد خمسة عشر عاماً من طبع الجزء الخاص بالتاريخ وملحقاته.

 

(1/5675)

 

 

... وبعد صدور فهرس علوم القرآن، مضى العمل حثيثاً في إعداد أجزاء أخرى من سلسلة فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية خلال عشر سنوات متتالية، على الطريقة التي رسمتها، وشرحتها آنفاً، مع تعديلات طفيفة فيها. فتم وضع عدة فهارس طبعت جميعها في سلسلة مطبوعات مجمع اللغة العربية، وهي:

الفقه الشافعي، من وضع الأستاذ عبد الغني الدقر، وقد طبع سنة 1963.

الشعر، من وضع الدكتور عزة حسن، وقد طبع سنة 1964.

الطب والصيدلة، من وضع الدكتور سامي خلف الحمارنة، وقد طبع سنة 1969. وقد سار المؤلف في هذا الفهرس على طريقة خاصة فيها

 

(1/5676)

 

 

دراسات وتحليلات كما في فهرس التاريخ.

علم الهيئة وملحقاته، من وضع الأستاذ إبراهيم خوري، وقد طبع سنة 1969.

المنتخب من مخطوطات الحديث، من وضع الأستاذ ناصر الدين الألباني، وقد طبع سنة 1970.

الجغرافية وملحقاتها، من وضع الأستاذ إبراهيم خوري، وقد طبع سنة 1970.

الفلسفة والمنطق وآداب البحث، من وضع الأستاذ عبد الحميد الحسن، وقد طبع سنة 1970.

التاريخ، الجزء الثاني، وهو يتضمن مخطوطات التاريخ التي اقتنتها الظاهرية بعد سنة 1945، من وضع الأستاذ خالد الريان، وقد طبع سنة 1972.

 

(1/5677)

 

 

اللغة وعلومها، من وضع الأستاذة أسماء الحمصي، وقد طبع سنة 1973.

الفقه الحنفي، من وضع الدكتور مطيع الحافظ، وقد طبع سنة 1973.

... ...

 

(1/5678)

 

 

المدلول التاريخي لنصوص الهدن المعقودة بين المماليك والفرنج

هدنة عكا (682 هـ/ 1283 م) نموذجاًً

 

... ... ... ... الدكتور أحمد حطيط

... ... ... ... ... الجامعة اللبنانية ـ بيروت

 

مدخل

... لم تكن العلاقات بين المماليك والفرنج الذين أقاموا كيانات سياسية في الشرق ـ بدءاً من أواخر القرن السادس الهجري/ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي ـ محكومة دائماً بمساق الصراع الدامي، بل تخللت حالة المواجهة بينهم فترات من الهدوء والاسترخاء العسكري، ضمنتها اتفاقيات هدن سعى إليها غالباً أمراء الفرنج، وبخاصة في أيام

 

(1/5679)

 

 

السلطان الظاهر بيبرس (658 ـ 676 هـ/ 1260 ـ 1277 م).

... والسلطان المنصور قلاوون (678 ـ 689 هـ/ 1279 ـ 1290 م). تنوعت محتويات هذه الهدن لتشمل ضمان ممتلكات الطرفين، وسلامة الحكام الشخصية، وسلامة رعاياهم، وحرية حركة التجارة، وتنظيم جباية الرسوم والضرائب من المكلفين، من تجار ومسافرين ومقيمين.

... عكست اتفاقيات الهدن حالة التجزئة، التي كانت تعاني منها السنيوريات الفرنجية القائمة على ساحل الشام، حيث كان يستحيل عليها أن تتواصل فيما بينها دون المرور بالمناطق الخاضعة للسيادة الإسلامية، أو اجتياز معابر

 

(1/5680)

 

 

ملامسة لهذه المناطق، أو واقعة على مقربة منها. فكانت هذه السنيوريات بمثابة جزر سياسية منعزلة في محيط إسلامي واسع: كان معبر إسكندرونة، مثلاً، يعزل سنيورية عكا عن سنيورية صور. وكان القسم الجنوبي من سنيورية صيدا معزولاً تماماً عن سنيورية صور. كما أُجبر أسياد بيروت على التنازل للتنوخيين أمراء الغرب عن قسم من بلدة الدامور التي شكلت، آنذاك، الحد الفاصل بين سنيوريتي بيروت وصيدا.

... لم تصل إلينا نصوص اتفاقيات الهدن المعقودة بين المماليك والفرنج كاملة، باستثناء عدد قليل منها نقع عليه لدى مصنفي سيرتي

 

(1/5681)

 

 

بيبرس وقلاوون(1). هذا، مع الإشارة إلى أن ما عُقد منها أيام قلاوون جاء موجزاً وعامّاً، وكان بمثابة تجديد لما سبق أن تعاهد عليه بيبرس مع أمراء الفرنج، مكتفياً،

__________

(1) ... ألفت لبيبرس سيرتان: الأولى لمحيي الدين بن عبد الظاهر، وهي "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر" واختصرها من بعده شافع بن علي بعنوان "المناقب السرية في السيرة الظاهرية"؛ والثانية لعز الدين بن شداد، وهي "تاريخ الملك الظاهر" فيما أفرد لقلاوون سيرة واحدة صنفها محيي الدين بن عبد الظاهر بعنوان "تشريف الأيام والعصورةفي سيرة الملك المنصور".

 

(1/5682)

 

 

في كثير من الأحيان، باستعادة مضمون الهدنات السابقة دون أية إضافات أخرى. وعليه، فإن من أكثر اتفاقيات الهدن أهمية، نظراً لاكتمالها، تلك المعقودة بين المنصور قلاوون وحكام عكا عام 682 هـ/ 1283 م(1) »لمدة عشر سنين كوامل وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات« مورخة بالتقويم الهجري وما يقابله بالتقويم الإسكندري (المقدوني)، وهو ما كان يعتمده المسيحيون الشرقيون والفرنج الأوروبيون، عندما كان

__________

(1) ... راجع نص هذه الهدنة كاملاً في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك" للمقريزي، ج 1، ق 3، صص. 285 ـ 990. (ملحق رقم 2).

 

(1/5683)

 

 

هؤلاء يكتبون مراسلاتهم بالعربية(1).

 

لماذا وقع اختيارنا على هدنة عكا (682 هـ/ 1283 م)؟

... لأن عكا أضحت بعد استعادة صلاح الدين القدس، على أثر معركة حطين عام 583 هـ/ 1187 م، بمثابة الحاضرة الرئيسة لمملكة اللاتين في بيت المقدس، وصار ملك بيت المقدس يدعى ملك عكا(2)

__________

(1) ... J. Richard, « Un partage de Seigneurie entre Fra ncs et Mamelouks; Les Casaux ... de Sur », In Syria XXX, 1953, Facs. 1-2, p. 74.

(2) ... أحمد حطيط، تاريخ لبنان الوسيط، دراسة في مرحلة الصراع المملوكي ـ الصليبي، بيروت، 1986، ص. 84.

 

(1/5684)

 

 

. وكان من الطبيعي أن يركز المماليك جهودهم للاستيلاء على عكا، منذ بدأ الظاهر بيبرس نشاطه العسكري في بلاد الشام. فسقوطها سيؤدي بالضرورة إلى تهاوي المناطق الفرنجية الواقعة في دائرة نفوذها، ولا سيما الشريط الساحلي بين بيروت وصور. وقد أسفرت العمليات العسكرية عن عقد السلطان اتفاقية هدنة مع أسياد عكا عام 666 هـ/ 1268 م، مدتها عشر سنوات، قضت وفق ما ذكره ابن عبد الظاهر (1)

__________

(1) ... ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تحقيق عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1976، ص. 332؛ المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 1، ق. 2، تحقيق محمد مصطفى زياد، القاهرة، 1957 ـ 1970، ص. 571.

 

(1/5685)

 

 

.

 

... أن يكون حيفاً للفرنج ولها ثلاث ضياع، وبقية بلادها مناصفة، وعثليت يكون لها خمس قرى، والباقي مناصفة، والقرين عشر قرايا، والباقي للسلطان، وبلاد صيدا: الوطأة للفرنج (المنطقة الساحلية) والجبليات للسلطان.

 

... وما لبثت هذه الهدنة أن جددت بعد انقضاء أربع سنوات على عقدها، ثم جددت ثانية في عهد السلطان قلاوون عام 680 هـ/ 1281 م (1)، لتعقد بعد سنتين هدنة جديدة بين السلطان وولده علاء الدين علي، وبين الحكام بمملكة عكا وصيدا وعثليت وبلادها.

__________

(1) ... المقريزي، المصدر نفسه، ج 1، ق 3، ص. 685.

 

(1/5686)

 

 

ماذا تضمنت بنود هدنة عكا؟

... تصدن هدنة عكا لمعالجة المسائل الخلافية الرئيسة بين المماليك وأسياد مملكة عكا. فاحتوت بنوداً نصت صراحة على التزام كل من الطرفين باحترام أمن بلاد الطرف الآخر وسلامتها، وتنظيم إدارة "المناصفات"، وضمان حرية التجارة، وانتقال الأشخاص، وضبط الممنوعات، واستيفاء الرسوم والضرائب المفروضة على السلع والسفار، وغير ذلك مما سنأتي على ذكره فيما يلي:

 

ما يتصل بالأراضي السلطانية

... تشمل مفاعيل الهدنة جميع بلاد السلطان وولده »وهي التي في تملكها وتحت حكمها وطاعتهما وتحويه يدهما،

 

(1/5687)

 

 

يومئذ، من جميع الأقاليم والمماليك والقلاع والحصون والأعمال والمدن والأراضي«. ثم تسهب الهدنة في ذكر بلاد السلطان المصرية والشامية والحجازية بالإضافة إلى أملاكه داخل مملكة بين المقدس وهي: غزة، والكرك، والشوبك، والصلت، وبصرى، والخليل، وبيت المقدس، والأردن، وبيت لحم، وبيت جبرين، ونابلس، واللطرون، وعسقلان، ويافا، والرملة، وأرسوف وقيصرية، وقاقون، واللد، والعوجة، وبيسان، والطور، واللجون، وجينين، وعين جالوت، والقيمون، وطبرية، وصفد، وتبنين، وهونين، وشقيف أرنون، ونصف مدينة إسكندرونه، وقلعة مارون، وشقيق

 

(1/5688)

 

 

تيرون، وبانياس، والصبيبة، وكوكب، وعجلون، فضلاً عما سيفتحه السلطان من بلاد وحصون وقلاع مستقبلاً(1).

... وتشمل الهدنة عساكر السلطان وجميع رعاياه من سائر الناس على اختلاف أجناسهم وأديانم، من عرب، وتركمان، وأكراد، وسكان محليين... المقيمين في بلاد السلطان والمترددين إليها ومنها، من سائر بلاد المسلمين وجميع التجار والسفار والمترددين براً وبحراً، وجميع هؤلاء يكونون آمنين مطمئنين، في حالتي صدورهم وورودهم، على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم وبضائعهم وغلمانهم

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 986 ـ 987.

 

(1/5689)

 

 

وأتباعهم وماشيتهم ودوابهم، وعلى جميع ما يتعلق بهم، وكل ما تحوي أيديهم من سائر الأشياء على اختلافها، من الحكام بمملكة عكا »ومن جميع الفرنج على اختلافهم الذين يستوطنون عكا والبلاد الساحلية الداخلة في الهدنة، وكل واصل إليها، في بر وبحر، على اختلاف أجناسهم وأنفارهم«(1).

 

ما يتصل بأراضي مملكة عكا

... ويقابل اللائحة المطولة لأملاك السلطان تعداد مقتضب لبلاد مملكة عكا. وهذه المناطق هي: مدينة عكا واثنتان وسبعون ناحية، ومدينة حيفا وسبع قرى تابعة لها، ومارينا(2)

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 987 ـ 988.

(2) ... منطقة ساحلية بين عكا وحيفا.

 

(1/5690)

 

 

، وثلاث عشرة قرية من بلاد الكرمل للإفرنج، وقريتان للسلطان (عفا والمنصورة)، ومدينة عثليت وقلعتها وبساتينها وكرومها وأراضيها المزروعة وست عشرة قرية تكون للفرنج، وللسلطان من عثليت قرية الهراميس بكاملها، على أن تكون بقية بلاد عثليت مناصفة بين الطرفين، وهي: ثماني قرى، وفلاحة الاسبتار بعمل قيسارية، ونصف مدينة إسكندرونه، ونصف قرية مارن تكون خاصاً للفرنج، وما عدا ذلك يكون خاصاً للسلطان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى صيدا: المدينة وقلعتها وكرومها وضواحيها وخمس عشرة قرية تابعة لها تكون للفرنج، وما عدا ذلك من

 

(1/5691)

 

 

مناطق صيدا الجبلية تكون بكاملها للسلطان(1).

... يحدد أحد بنود الهدنة كيفية استخراج عائدات أراضي المناصفات، فيذكر أنها تتم بإشراف ممثلين من الجهتين المتعاهدتين معاً دونما انفراد، وتقسم مناصفة بينهما(2).

 

الالتزام بضمان الأمن المتبادل

... يتعهد السلطان بعدم الاعتداء على أمن وسلامة البلاد العكاوية، الخاص منها وما هو مناصفة، وتكون هي ورعاياها وسائر سكانها والمترددين إليها، على اختلاف أجناسهم وأديانهم، من افرنج وتجار وسفار، في البر

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 988 ـ 989.

(2) ... المصدر نفسه، صص. 989.

 

(1/5692)

 

 

وفي البحر، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم »لا ينالهم ولا ينال هذه البلاد المذكورة التي انعقدت الهدنة عليها سوء ولا شرر ولا إغارة. ولا ينال إحدى الجهتين المذكورتين الإسلامية والفرنجية من الأخرى ضرر ولا أذية«. بيد أن تعهد السلطان السالف مشروط بتعهد مماثل، من أسياد عكا، وبعدم تجديد وترميم الحصون والقلاع والأبراج المهدمة خارج عكا وعثليت وصيدا (1).

 

قضايا ومسائل أخرى

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 990؛ المقريزي، المصدر السابق، ج 1، ق 3، صص. 985 ـ 997.

 

(1/5693)

 

 

... وثمة في اتفاقية الهدنة بنود تتعلق بتنظيم أحوال رعايا الجهتين المتعاهدتين، من مقيمين ومسافرين وتجار، والحفاظ على سلامتهم وعلى حقوقهم، فضلاً عن التزام كل جهة بضمان أمن ومصالح الجهة الأخرى مع تحديد آلية التنفيذ وفاقاً للآتي:

 

1 ـ ما يترتب على إبدال المعتقد الديني

... ـ عند المسلم

... إذا هرب أحد الرعايا المسلمين إلى عكا وبلادها وقصد الدخول في دين النصرانية وتنصر بإرادته، يلتزم أسياد عكا برد جميع ما يكون قد حمله معه من بلاد السلطان.

 

(1/5694)

 

 

... وفي حال دخول المسلم الهارب النصرانية دون أن ينتصر، يلتزم أسياد عكا بإعادته إلى بلاد السلطان بجميع ما حمله معه بعد أن يعطى الأمان(1).

 

... ـ عند النصراني

... إذا هرب نصراني من عكا وبلادها إلى بلاد السلطان قاصداً الدخول في دين الإسلام، وأسلم بإرادته يلتزم السلطان بإرجاع جميع ما حمله معه إلى مملكة عطا. أما إذا قصد الدخول في الإسلام، ولم يسلم، يعاد إلى عكا آمناً بجميع ما حمله معه(2).

__________

(1) ... المقريزي، المصدر نفسه، ج 1، ق 3، ص. 990.

(2) ... المصدر السابق، ص. 90.

 

(1/5695)

 

 

2 ـ ما يترتب علىالتعديات والجرائم والحكم فيها

... تلحظ بعض بنود الهدنة أنه متى اغتصب مال أو بضاعة أو قتل قتيل من الجانبين، لأي سبب كان، رد المال إلى أصحابه إن كان موجوداً، أو قيمته إن كان مفقوداً، ويعوض عن القتيل بنظيره من جنسه: فارس بفارس، وراجل براجل، وتاجر بتاجر، وفلاح بفلاح... وفي حال خفي أمر القتيل أو المال حددت مهلة أربعين يوماً للكشف عنه، فإن ظهر المال، وتحقق من أمر القتيل، أعيد المال بعينه، وعوض عن القتيل بنظيره، وإلا يتوجب على والي المكان المدعى عليه وثلاثة أشخاص يختارهم المدعى عليهم

 

(1/5696)

 

 

حلف اليمين، فإن لم ينصف الوالي المدَّعى، يحق لهذا الأخير، خلال أربعين يوماً، إحالة أمره إلى الحكام من الجهتين للبت في القضية العالقة(1).

 

3 ـ في التعامل التجاري وحقوق التجار

... وثمة بنود أخرى تشترط استمرار نفاذ ما هو مستقر من رسوم وضرائب مفروضة على التجار، فلا يُطرح عليهم، في حال صدورهم وورودهم، رسم ولا حقٍّ، ما لم تجربه عادة، وتُستوفي منهم الرسوم من غير زيادة في أماكن محددة ومعروفة من الجهتين، على أن يلتزم كل منهما بتأمين الحماية للتجار ولبضائعهم في حالتي

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 990 ـ 991.

 

(1/5697)

 

 

سفرهم وإقامتهم(1). بيد أن اتفاقية الهدنة تتشدد في شأن إدخال الممنوعات إلى بلاد الطرفين، فمتى ضُبط مع أحد التجار شيء من الممنوعات، كالسلاح وغيره، يعاد إلى المصدر الذي اشتُري منه، على أن يُرجع الثمن للتاجر دون أن يتعرض للأذية في الجهة الأخرى، وأن يُعاد التجار المتجاوزون إلى بلادهم كي تفصل في أمرهم سلطاتهم القضائية المختصة(2).

... أما من ترتب عليه مال نقدي أو عيني، وعجز عن السداد، يتعرض للاحتجاز ويصبح في حكم الرهينة حتى تسديد الدين، أو

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 990.

(2) ... المصدر نفسه، صص. 993

 

(1/5698)

 

 

إظهار والي المكان الذي منه الرهينة تعهده بذلك(1).

... وإذا توفي أحد التجار المسلمين الصادرين والواردين، على اختلاف أجناسهم وأديانهم، في بلاد مملكة عكا، يتوجب على حكام عكا أن يحفظوا ماله ويعيدوه إلى بلاد السلطان، وكذا حال التاجر النصراني المتوفى في ديار السلطنة(2).

 

4 ـ في ضمان حركة السفن التجارية وتموينها وإصلاح ما تضرر منها

... تُولي الهدنة حركة السفن التجارية اهتماماً خاصاً، فالتزمت الجهتان المتعاهدتان صراحة بتوفير صيانة السفن

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 993

(2) ... المصدر نفسه، صص. 992.

 

(1/5699)

 

 

التجارية التابعة لكل منهما، وإصلاح ما قد يتعطل منها، مميزة بين حالتين اثنتين:

... ـ الحالة الأولى: إذا قصدت سفن السلطان بلاداً معاهدة لحكام عكا، فلا يُلزم هؤلاء بتزويد هذه السفن بالمؤن، لكونها تستطيع الحصول على ذلك في البلاد المعاهدة لمملكة عكا. أما إذا كانت تلك البلاد غير معاهدة لمملكة عكا، فيتوجب على حكام عكا السماح للسفن الإسلامية بالتزود بالمؤن من موانئ البلاد التي انعقدت عليها الهدنة.

... ـ الحالة الثانية: إذا قصدت سفن السلطان بلاداً لها مع مملكة عكا عهد. ولم يكن للسلطان مع صاحب هذه البلاد

 

(1/5700)

 

 

عهد، وتعرضت سفنه لأعطال في أحد موانئ »البلاد العكاوية وسواحلها« يُلزم أسياد بحفظ سفن السلطان وتزويد بحارتها بالمؤن وتسهيل صيانة ما تعطل منها وتأمين عودتها إلى البلاد الإسلامية. أما إذا كان السلطان معاهداً »لتلك البلاد، فيصار بعد إصلاح أعطال السفن المتضررة إلى تسهيل حركتها إلى الجهة المرسوم لها بقصدها«(1).

 

5 ـ في التعامل مع القراصنة واللصوص والمجرمين

... يلتزم الطرفان المتعاهدان بإصدار أوامرهما إلى ولاة البلاد التابعة لهما، وبخاصة الساحلية منها، كي يمنعوا من تصفهم

__________

(1) ... المثصدر نفسه، ص. 992.

 

(1/5701)

 

 

اتفاقية الهدنة بـ "حرامية البحر" من التزود بالمؤن والمال، وأن يجدُّوا في القبض عليهم ومصادرة ما يحملونه من سلع مسروقة والاحتفاظ بها حتى يظهر أصحابها وتسلم إليهم، على أن يتعهد الطرفان يحفظ أراضيهما وممتلكاتهما التي انعقدت عليها الهدنة من عساكرهما ومن جميع المجرمين واللصوص والمفسدين ممن هم داخل حكمهما وطاعتهما، ضماناً لأمن بلادهما واستقرارها(1).

 

6 ـ في حال قدوم صليبية جديدة وحركة التتار

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 993 ـ 994.

 

(1/5702)

 

 

... يتعهد كفيل(1) مملكة عكا ومقدموها(2) بـ»أن يتعرّفوا السلطان وولده بحركة الملوك الفرنجية وغيرهم من جو البحر، بقصد الحضور لمضرّة السلطان وولده في بلادهما المنعقدة عليها الهدنة«، وذلك قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في الهدنة بمدة شهرين. كما يلتزم من علم من الطرفين بتهيؤ

__________

(1) ... أو نائب المملكة وكان يدعى Etude poilechien. (R. Grousset, Histoire des Croisades, Paris, 1963, Vol. III, p. 702).

(2) ... وهم مقدم الأسبتارية، ومقدم الداوية، ونائب مقدم التوتون، حسب ما جاء في نص المعاهدة.

 

(1/5703)

 

 

التتار لغزو الشام أن يخبر الطرف الآخر بذلك، كي لا يؤخذ على حين غرة. وفي حال توغل التتار في بلاد السلطان حتى المناطق الساحلية المشمولة بالهدنة، فعلى أسياد عكا محاربتهم، كما عليهم تأمين سلامة المسلمين المنكفئين إلى بلاد مملكة عكا والتعهد بـ»حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر«(1).

 

7 ـ حال الفلاحين الهاربين من إقطاعاتهم إلى بلاد الطرف الأخر

... تولي اتفاقية الهدنة اهتماماً خاصاً بالفلاح، العنصر المنتج في النظام الإقطاعي. ويُفهم مما جاء في أحد بنودها حرص

__________

(1) ... المقريزي، المصدر السابق، ص. 993.

 

(1/5704)

 

 

السلطان وأسياد عكا على وضع حد لهروب فلاحي بلاد السلطان إلى بلاد الفرنج المنعقد عليها الهدنة، وكذا الأمر بالنسبة لفرحي مملكة عكا(1).

 

8 ـ مسائل أخرى

... بالإضافة إلى ما تقدم، منح السلطان وولده الحجاج المسيحيين الواردين »من عكا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة« حق ممارسة شعائرهم الدينية بحرية تامة في كنيسة الناصرة، واستخدام أربعة بيوت قريبة منها لإيوائهم، على أن تكون طريق سهل عكا والطريق المؤدية إلى الناصرة آمنتين، شريطة أن لا يُعاد ترميم ما قد يتهدم من

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 993.

 

(1/5705)

 

 

كنيستها(1).

... ويتعهد الطرفان باحترام ما تضمنته اتفاقية الهدنة والعمل بأحكامها وعدم بطلان مفاعيلها بموت أحدهما، بل تستمر على حالها إلى حين انقضاء أجلها المحدَّد.

... وثمة استدراك في ذيل اتفاقية عكا، مفاده أنه متى انقضت الهدنة أو وقع فسخٌ قسريٌّ لها، حُدِّدت مهلة أربعين يوماً ليعود رعايا الجهتين، كل إلى دياره، متمتعاً بتسهيلات السفر والانتقال بأمن وسلام(2).

 

المدلول التاريخي لنصوص هدنة عكا (682 هـ)

__________

(1) ... المصدر نفسه.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 995.

 

(1/5706)

 

 

... تقدم هدنة عكا ثبتاً دقيقاً لما اشتملت عليه دولة المماليك بمصر والشام من بلاد في عصر المنصور قلاوون ومملكة الفرنج بعكا، وهو أمر قلما نقع عليه بالدقة عينها في المرويات التاريخية المعاصرة للحروب الصليبية والمتأخرة عنها. على أن ما تلحظه الهدنة من توافق الطرفين على الإدارة المشتركة لبعض الأراضي الداخلة ضمن سيادة مملكة عكا، فيما عرف بـ"المناصفات"؛ وكذا الحال في الكيانات الفرنجية الأخرى (كونتية طرابلس وسنيورية بيروت، وسنيورية صور...)، فإنما يدل على مدى السطوة التي كانت لسلطان المماليك في دويلات

 

(1/5707)

 

 

اللاتين في الشرق، حتى بلغ من نفوذ الظاهر بيبرس في سنيورية بيروت، وفق ما ذكره ابن الفرات، أن صاحبتها إيزابيلا إيبلان (Isabella Ibelin) كانت، كلما عزمت على السفر، ومغادرة بيروت، ذهبت بنفسها إلى السلطان بيبرس، واستودعته بلادها إلى أن تعود(1)

__________

(1) ... ابن فرات، تاريخ الدول والملوك، م 7، تحقيق قسطنطين زريق، بيروت، 1939، ص. 35. وتعزز شهادة وليم الطرابلسي الدومينيكاني المعاصر للأحداث ما ذكره ابن الفرات بقوله: »لو أراد السلطان (بيبرس)، لكان بمقدوره أن يجعلنا أكثر تعاسة مما نحن عليه اليوم، وأن الله الذي يرفق بنا هو وحده قادر على وضع حد لجموح السلطان المملوكي باحتياج المدن والقلاع المتبقية لنا« (M. L. De Mas Latrie, Histoire de l’ïle de Chypre, I, Paris, MDCCCLXI, p. 416).

 

(1/5708)

 

 

.

... أما المنصور قلاوون، فقد سعى حثيثاً لمنع التقارب بين الفرنج والتتار، وهذا ما يعلل تعهده بضمان سلامة أملاك أسياد عكا من أي اعتداء كي يتفرغ لجبه غزوات التتار لبلاد الشام. فأعاد السلطان للفرنج بعض الأراضي التي سبق أن استولى عليها، ومنه ضمانات للحجاج المسيحيين القاصدين من بلاد عكا زيارة كنيسة الناصرة. وتشير بعض نصوص هدنة عكا إلى حالة القلق التي كانت تراود السلطان قلاوون من شيوع أخبار مشاريع التحالف بين الفرنج والتتار، وهي مشاريع عمل اللاتين على تحقيقها جدّياً، لضمان سلامة ممتلكاتهم في فلسطين.

 

(1/5709)

 

 

لذا حرص السلطان على تضمين الهدنة نصاً يلزم أسياد عكا بإنذاره بعزمهم على فسخ الهدنة قبل شهرين على الأقل من قدوم صليبية جديدة إلى الشرق. أما إذا علم أحد الطرفين بحركة التتار، أو أية شعوب أخرى آتية من سهوب آسيا باتجاه الشام، فيتوجب عليه أن يخطر الطرف الآخر بذلك كي يتدبر أمره ويستعد لمواجهة الخطر الداهم. ولأن خطر التتار يستهدف المسلمين أساساً، فقد تعهد أسياد عكا بتوفير الحماية لهؤلاء إذا ما أرغموا على الانهزام أمام التتار إلى بلاد مملكتهم(1)

__________

(1) ظل هاجس خطر الهجمات التتارية يقض مضاجع سلاطين المماليك حتى فترة متاخرة من حكمهم. حول الغزوات التتارية لبلاد الشام في عصر المماليك، انظر: كتابات ابن عبد الظاهر، وعز الدين بن شداد، والنويري، وابن أيبك الدواداري، وابن خلدون، والمقريزي، والعيني، والجويني، ورشيد الدين، وابن عربشاه، ورمزي وGrouset, D’Ohsson, Cahen, Spuler, Lewis, Lemercier Quelquejay.

 

(1/5710)

 

 

.

... وتوفر هدنة عكا للمؤرخ معلومات مفيدة عن العلاقات السلمية بين المماليك والفرنج، والتي لم تعكرها ضراوة العداوة بينهم. فاستمرت حركة التجارة ناشطة بين الموانئ الشامية والمصرية من جهة والموانئ الأوروبية المتوسطية من جهة أخرى، بالرغم من فترات الانقطاع التي عرفتها (1). فكانت هذه التجارة ضرورة حيوية لاستيراد المماليك ما تحتاجه مخازنهم من المعادن والأخشاب وغيرها من الموارد الحربية، مقابل

__________

(1) ... راجع في هذا المجال: W. Heyd, Histoire de Commerce du Levant au Moyen-Age, Vol I-II, Leipzig, 1885-1886.

 

(1/5711)

 

 

ما يحتاجه الغرب من متاجر الشرق النادرة وبخاصة تجارة الكارم (التوابل) التي احتكرها المسلمون (1)، بالرغم من معارضة البابوية وتهديدها بفرض العقوبات الكنسية على التجار المتعاملين مع المسلمين (2).

__________

(1) ... أحمد حطيط، "الكارمية وتجارة الكارم في عصر المماليك"، مجلة الفكر العربي، عدد 54، كانون الأول، بيروت، 1988، ص. 107.

(2) ... ف. هايد، تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، تعريب أحمد محمد رضا، ج 2، القاهرة، 1991، ص. 255 وما بعدها.

 

(1/5712)

 

 

... وعلى قاعدة تقاطع المصالح، دأب المماليك والفرنج على توفير أفضل السبل لحركة التجارة، وانتقال الأشخاص، وتنظيم الموجبات الضرائبية وضبطها، وتوفير الأمن والطمأنينة للتجار على نفوسهم وأموالهم ومراكبهم ومتاجرهم، ما عدا الممنوعات من سلاح وغيره، على أن لا يُفرِّق بين أولئك من حيث الجنس أو الدين، ويشير رنسيمان (1) إلى أن تجديد الهدنة مع عكا أعاد إليها بعض الثقة من قبل التجار المسلمين، فعادوا يمارسون تجارتهم في

__________

(1) ... س. رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، بيروت، 1968، ج 3، ص. 692.

 

(1/5713)

 

 

اطمئنان، كما بدأ تجار دمشق يرسلون قوافلهم التجارية من جديد إلى الساحل وتوافد المزارعون المسلمون بمنتجاتهم إلى أسواق عكا. وكان هؤلاء يلقون معاملة حسنة من الفرنج حيث سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم الدينية بحرية تامة في بلاد مملكة عكا.

... ولضمان سلامة التجارة البحرية بين الشرق والغرب، كتجارة التوابل والعطور والعاج والأصباغ والعقاقير التي كان يؤتى بها من الشرق الأقصى والهند إلى شواطئ مصر والشام، عبر البحر الأحمر ونهر النيل، اتخذ المماليك والفرنج تدابير صارمة لقطع دابر متجرمة البحر (القراصنة) بتوفير

 

(1/5714)

 

 

الحماية المسلحة للسفن التجارية، واعتماد ضوابط إجرائية ورد ذكرها في هدنة عكا (1) لمنع »حرامية البحر من الزوادة من عندهم«، ولا من حمل ماء، »وإن ظفروا بأحد منهم يمسكوه، وإن كانوا يبيعون عندهم بضائع فيمسكهم كفيل المملكة بعكا والمقدمون... وكذلك يعتمد السلطان وولده«(2).

... وتعير اتفاقية الهدنة اهتماماً خاصاً للفلاح باعتباره مصدر الإنتاج الوحيد في النظام الإقطاعي إلى جانب التجارة. فهو يوفر للأسياد الإقطاعيين من ناتج عمله أسباب

__________

(1) ... المقريزي، المصدر السابق، ص. 993.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 993.

 

(1/5715)

 

 

العيش الرغيد، بينما يخضع هو نفسه، مسلماً كان أم مسيحياً، لأبشع أساليب القهرة والاستغلال. فكان يقوم بأعمال الحراسة والزراعة والحصاد بالإضافة إلى مختلف أعمال السخرة، كشق الطرق وحفر الخنادق، وإصلاح الجسور، وإقامة السدود، وتشييد القلاع والحصون. وأضحى، بالتالي، أقرب إلى العبد منه إلى الحر. بمعنى آخر، اتخذت العلاقات الاقتصادية/ الاجتماعية في مجتمع العصور الوسطى شكل علاقات السيد بالمسود، علاقات متبادلة بين نوعين من الناس يؤمن أحدهما (السيد) الحماية للآخر (المسود)، ويمده بأسباب الحياة و"حق" البقاء،

 

(1/5716)

 

 

فيما يزود الآخر سيده بالموارد الغذائية الأساسية/ المحاصيل الزراعية، والمالية/ الضرائب والرسوم مقدماً له الولاء والخدمات في أيام السلم كما في أيام الحرب(1).

... لذا أكدت الهدنة ضمان ارتباط الفلاح في بلاد الجهتين ارتباطاً وثيقاً بأرضه، بصفته فلاحاً قرارياً(2)

__________

(1) ... ج. و. كويلاند وب. فينو كَرادوف، الإقطاع والعصور الوسطى في غرب أوروبا، ترجمة محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1958، ص. 19؛ C. Cahen. art. « Ikta » EI2, IIIX, pp. 1115-1118.

(2) ... الفلاح القراري: يعيش على قطعة من الأرض يمنحها إياه سيده الإقطاعي، ويكون مربوطاً إليها، ولا يملك حرية الانتقال عنها، وليس له أن يتزوج من جهة خارج الإقطاع التابع له إلا بإذن من سيده(المرجع السابق، صص. 36 ـ 39).

 

(1/5717)

 

 

، ولم تسمح له بمغادرتها إلا نادراً، حيث ينتقل مع الأرض بانتقالها من سيد إلى سيد دون أن يكون له، بطبيعة الحال، حق المشاركة في القرار.

... وتبرز مجموعة القوانين والأحكام والقواعد الناظمة لأوضاع مملكة اللاَّتين في بيت المقدس والمعروفة بـ"الأسيز" (Assises de Jérusalem) (1) حالة الظلم والقهر التي كان الفلاح يعاني منها في المجتمع الإفرنجي، فهي تخضع »العبيد والفلاحين والأسرى لقانون البيع والشراء كالمواشي، وأن للسيد الإقطاعي أن

__________

(1) ... سعيد عاشور، تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، بيروت، 1972، ص. 333.

 

(1/5718)

 

 

يفعل بهؤلاء ما يشاء«، وعليه كان يعتبر هروب الفلاحين من إقطاعاتهم بمثابة جريمة كبرى. وقد شددت هدنة عكا على توافق السلطان قلاوون وأسياد عكا على وضع حد لمحاولات هروب الفلاحين إلى بلاد كل منهما، واضعة آلية لضمان ذلك. فنص أحد بنودها على أن يُنادى في البلاد الإسلامية والفرنجية الداخلة في هذه الهدنة: من كان من فلاحي بلاد الإسلام يعود إلى بلاد المسلمين مسلماً كان أو نصرانياً، وكذلك من كان من فلاحي بلاد الفرنج يعود إليها مسلماً كان أو نصرانياً مغروقاً قرارياً. ومن لم يعد بعد المناداة يطرد من الجهتين...

 

(1/5719)

 

 

على أن يكون عود الفلاح إلى موطنه آمناً.

... واللافت للنظر في اتفاقيات الهدن كما في المراسلات بين المسلمين والفرنج حِرْصُ منشئيها على تضمين نسخها العربية عبارات التعظيم والتفخيم بالحكام الفرنج. ومن ذلك ما ورد في رسالة السلطان بيبرس إلى بوهيمند صاحب كونتيه طرابلس ـ أنطاكية، على أثر استيلائه على أنطاكية عام 666هـ/ 1268 م، فجاء في مستهلها(1):»قد علم القومص الجليل المبجل المعزز الهمام الأسد الضرغام فخر الأمة المسيحية رئيس الطائفة الصليبية كبير الأمة

__________

(1) ... ابن عبد الظاهر، الروض، ص. 309.

 

(1/5720)

 

 

العيسوية...«.

... وورد في مقدمة الهدنة المعقودة بين السلطان بيبرس وصاحبة بيروت عام 667 هـ/ 1269 م(1): »استقرت الهدنة المباركة بين مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وبين المملكة الجليلة المصونة الفاخرة...«.

... واستهلت هدنة عكا بين السلطان المنصور قلاوون وأسياد عكا عام 682 هـ/ 1283 م بما يلي(2):»استقرت الهدنة بين مولانا الملك المنصور... وبين الحكام بمملكة عكا... وهم: »كفيل المملكة بعكا وحضرة

__________

(1) ... القلقشندي، صبح، ج 14، ص. 39.

(2) ... المقريزي، المصدر السابق، ص. 985 وما بعدها.

 

(1/5721)

 

 

المقدم الجليل...«؛ كما جاء في مقدمة اتفاقية هدنة صور بين السلطان قلاوون وصاحبة بيروت عام 684 هـ/ 1285 م(1): »... استقرت الهدنة المباركة بين مولانا السلطان الملك المنصور... وبين الملكة الجليلة دام مراريت... مالكة صور...«.

... تعكس ألقاب الأبهة والفخامة الآنفة مدى ارتقاء أدبيات التخاطب السياسي لحكام القرون الوسطى. فبالرغم من حالة العداء المستفحلة بين الشرق والغرب آنذاك، والتي عبرت عنها بوضوح كتابات مؤرخي الحرب الصليبية الأوروبيين والمسلمين،

__________

(1) ... ابن عبد الظاهر، تشريف، ص. 103 وما بعدها.

 

(1/5722)

 

 

مستخدمة مفردات وعبارات فظة تظهر صورة الأخر بأبشع أشكالها ـ ومن ذلك: "الكفار" و"الكلاب" و"الشياطين" و"قبحهم الله" و"خذلهم الله" و"لعنهم الله" ـ تحدد المصنفات الديوانية الإسلامية المعاصرة القواعد والأصول الواجب اعتمادها في مخاطبة ملوم الفرنج وأمرائهم، فضلاً عن رجال الدين من أهل الكتاب. فثمة ألقاب ونعوت تختص بهؤلاء كل حسب منزلته ومقامه. ومن هذه المصنفات: كتاب "صبح الأعشى" للقلقشندي وكتاب "التعريف بالمصطلح الشريف" لابن فضل الله العمري وكتاب "زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك" لابن شاهين

 

(1/5723)

 

 

الظاهري.

... وإذا كانت الحالة التي سادت بلاد الشام من تكرار هجمات التتار، وترقب المماليك الدائم لحركة المدد الأوروبية إلى الشرق، فضلاً عن التنافس الحاد بين أمراء اللاَّتين أنفسهم(1)، قد دفع المماليك والفرنج إلى تجديد الهدن، فإن ثمة عاملاً كان له أهمية أبعد مدى في الزمان أفسد كل جهد ممكن

__________

(1) ... عن الصراع داخل المعسكر الفرنجي، راجع: أحمد حطيط، تاريخ لبنان الوسيط، دراسة في مرحلة الصراع المملوكي الصليبي، بيروت، 1986، صص. 29 ـ 33؛ R. Grousset, L’Epopée des Croisades, Paris, 1936, pp. 371-372.

 

(1/5724)

 

 

لتحويل الصلح المؤقت إلى سلام دائم.

... ذلك بأن المماليك المطعون في مشروعيتهم من أنصار الأيوبية ومن بقايا الفاطمية في مصر والشام، وجدوا في إحياء خلافة بني العباس في القاهرة، بعد سقوطها في بغداد على يد التتار عام 656 هـ/ 1258 م، فرصة لإضفاء صفة الشرعية الدينية على حكمهم، ورأوا في متابعة حركة الجهاد ضد الفرنج والتتار ما يعزز مكانتهم لدى المسلمين كافة، ويجعل سلاطين المماليك في مرتبة أعلى من حكام البلاد الإسلامية الآخرين باعتبارهم حماة الإسلام والخلافة الإسلامية(1)

__________

(1) ... C. Cahen, La Syrie du Nord à l’époque des Croisades et la principauté d’Antioche, Paris, 1942, p. 713.

 

(1/5725)

 

 

.

... لذا لم يكن بوسع المماليك أن يرضوا باستمرار وجود دولة أجنبية دخيلة على بلاد المسلمين، بالرغم من "علاقات حسن الجوار" التي ضمنتها اتفاقيات الهدن، ولو إلى حين.

... لقد اندرجت اتفاقيات الهدن المعقودة مع الفرنج في سياق استراتيجية عمادها إقامة الأحلاف واستفراد الأعداء، أرسو قواعدها السلطان المظفر قطز (657 ـ 658 هـ/ 1259 ـ 1260 م)، حين نجح عشية معركة عين جالوت (658هـ/ 1260 م)، في عقد اتفاقية مع بارونات عكا قضت بالتزامهم الحياد من الصراع المملوكي ـ التتاري، والسماح لجيشه باجتياز أراضي عكا، وهو في

 

(1/5726)

 

 

طريقه إلى ساحة المعركة(1). وتابع سلاطين المماليك سياسة سلفهم قطز، ونقضوا عهودهم مع الفرنج كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، حتى أن البر بالوعود بات مستحيلاً »لديهم. في عام 661 هـ/ 1262 م، مثلاً«، وافق بيبرس على عقد الهدنة مع كونت يافا وفرسان المعبد أصحاب أرسوف(2). إلا أن ذلك لم يمنعه من الاستيلاء على يافا وأرسوف تدريجياً: »الأولى عام 666 هـ/

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، ص. 430؛ J. Prawer, Histoire, III, p. 433.

(2) ... ابن عبد الظاهر، الروض، صص. 152 ـ 157؛ J. Richard, Histoire, p. 456.

 

(1/5727)

 

 

1268م(1)، والثانية 664 هـ/ 1265 (2) م، دون أن يكون السلطان مضطراً« إلى تبرير خرق الهدن المعقودة مع أسياد المدينتين.

... ولم يَحد المنصور قلاوون عن نهج سلفه في نقض الهدن. فقبيل وقعة حمص مع التتار، عام 680 هـ/ 1281 م، سارع السلطان إلى عقد الصلح مع الداوية والاسبتارية، ومع بوهيمند السابع أمير كونتية طرابلس(3)، لكنه على أثر انتصاره على التتار،

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 292؛ J. Richard, Histoire, p. 456.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 235؛ J. Richard, Ibid.

(3) ... ابن عبد الظاهر، تشريف، صص. 210 ـ 215.

 

(1/5728)

 

 

وبعد مضيّ أربع سنوات على توقيعه الصلح مع الفرنج، جدَّ في قتال الاسبتارية، واستولى على حصنهم المنيع في المرقب عام 684 هـ/ 1285 م(1).

... إزاء سياسة المماليك هذه، رأى الفرنج في السعي للصداقة مع المسلمين خيانة لمُثُل الفارس الأوروبي، بالرغم من مبادراتهم المتكررة لطلب الصلح من السلطان، تحت وطأة الضغط العسكري والتنافس على زعامة مملكة بيت المقدس، فضلاً »عن حالة العداء الناشبة بين المدن

__________

(1) ... المقريزي، المصدر السابق، ج 1، ق 3، صص. 727 ـ 728؛ R. Grousset, Histoire des Croisades, Vol. III, p. 703.

 

(1/5729)

 

 

لإيطالية بسبب تضارب مصالحها التجارية«. وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نفسر ملابسات مبادرة أسياد اللاتين المهادنين للسلطان قلاوون لإرسال المدد إلى مدينة طرابلس إبان حصارها عام 688 هـ/ 1289م متناسين مؤقتاً »ما بينهم من عداء(1) واعتراض السلطان على ذلك متهماً« إياهم بنقض العهود كما جاء في الرسائل التي بعث بها إلى هنري دي لوزنيان، ملك قبرص، وإلى فرسان الأسبتار والداوية. فكان رد هؤلاء بأنهم حريصون على الالتزام بما عاهدوا السلطان عليه

__________

(1) ... المقريزي، المصدر نفسه، ص. 747؛ J. Prawer, Histoire, II, p. 537.

 

(1/5730)

 

 

بشأن مملكة عكا وبلاد السلطان، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقفوا مكتوفي الأيدي حيال الأخطار التي تهدد إخوانهم المسيحيين في طرابلس(1).

 

بعض الملاحظات الختامية

... تستدعي المراجعة الدقيقة لنصوص اتفاقيات الهدن المعقودة بين المماليك والفرنج إثارة جملة تساؤلات حول بعض ما ذكره المؤرخون عن واقع دويلات اللاتين في الشرق خلال القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي. فمهما كانت حالة الضعف والتردي التي ألمت بالفرنج وقتذاك، يلاحظ القارئ لنصوص الهدن، موضوع

__________

(1) ... M. L. De Mas Latrie, op. cit., I. p. 484.

 

(1/5731)

 

 

البحث، أن المناطق التي خضعت لسلطة هؤلاء وقت السلم كانت أكثر اتساعاً مما جاء في روايات المؤرخين المعاصرين التي قللت من شأن هذه المناطق وحصرتها في ثلاثة أو أربعة كيانات على الساحل الشاميّ.

... كما يستفاد من نصوص هذه الهدن أن الوضع السكانيّ في ساحل الشام والداخل الفلسطيني، حيث نشأت الكيانات الفرنجية، كان أكثر كثافة وأغنى مورداً »مما كانت عليه في الفترات اللاحقة. ويستفاد من هدنة صور (684 هـ) مثلاً »أنه كان يتبع لسنيورية صور خمس وثمانون قرية ودسكرة، وهي منطقة لم نجد فيها، حتى مرحلة متأخرة، سوى بعض

 

(1/5732)

 

 

القرى والدساكر المنعزلة. فيما تحدد هدنة عكا (682 هـ) اتساع مملكة عكا لتشمل ستاً وسبعين مقاطعة مكتظة بالسكان العاملين في الزراعة، بحيث أنه يتعين علينا ـ إذا ما أردنا إعادة تكوينها على أساس كثافة سكانها، وليس على أساس مساحتها الجغرافية، حسب تعبير دي ماس لاتري (De Mas Latrie) ـ أن نضيف إلى مدينة عكا الحالية الجزء الأكبر من مملكة اللاتين في بيت المقدس وامتدادها حتى حدود البحر الميت تقريباً«(1).

__________

(1) ... Ibid., p. 471.

 

(1/5733)

 

 

... وأدى نجاح المماليك بعقد هدن منفردة مع السنيوريات والبارونيات الفرنجية دون العودة إلى المرجعيات السياسية في مملكة بيت المقدس وكونتية طرابلس إلى إضعاف العلاقة بين المركز والأطراف وفقدان التوازن السياسي والعسكري لصالح المماليك. وبات مألوفاً أن يتكرر بند في اتفاقيات الهدن بنص على اشتمالها على ما سيفتحه ويضيفه السلطان وولده على يدهما وعلى يد نوابهما وعساكرهما من بلاد وقلاع وملك وأعمال وولايات برّاً وبحراً وسهلاً ووعراً، أو "الفتوحات السعيدة"، حسب الأدبيات الديوانية الإسلامية المعاصرة. والمقصود

 

(1/5734)

 

 

بطبيعة الحال الأراضي الإسلامية التابعة للإفرنج، كما أن موافقة الأمير مرغريت صاحبة صور على استثناء طائفة الإسماعيلية الخاضعة للسلطان من التعهد الذي قطعه على نفسه بضمان أمن السنيورية ـ "لا يتعرض أحد من عساكر مولانا السلطان وجنوده ومعاهديه للملكة دام مراريت لا في نفسه ولا في خيالتها وأصحابها، »خلا الإسماعيلية الذين تحت حكم مولانا السلطان«، حسب ما جاء في هدنة صور (684 هـ) ـ تركت للسلطان هامشاً واسعاً من حرية الحركة تسمح له باجتياح أراضي سنيورية صور متى شاء. بيد أن ما ذهبنا إليه يتعارض مع ما ذكره

 

(1/5735)

 

 

كاترومير (Quatremère) (1) الذي حاول أن يقلل من شأن عبارة »خلا الإسماعيلية...«، فاتهم السلطان بإقحام هذه العبارة في نص الهدنة مستغلاً جهل مفاوضيه اللغة العربية. وكان من الطبيعي أن تسفر هذه الأمور مجتمعة عن انحلال النسيج البنيويّ لمجتمع الفرنج السياسي والعسكري، مما أفسح المجال، تالياً، للإجهاز على دويلاتهم في الشرق الإسلامي، وإخراجهم من البلاد عام 690 هـ/ 1291 م.

__________

(1) ... M. Quatremètre, Histoire des sultans Mamlouks de l’Egypte de Makrizi, Paris, 1845, Vol. I, T. 2.

 

(1/5736)

 

 

... وخلاصة القول، توفر اتفاقيات الهدن، الآنفة الذكر، معلومات تستحق الوقوف عندها عن العلاقات السياسية بين المماليك والفرنج، فضلاً عن الصلات التجارية بينهم، وما يتصل منها بتسهيل أمور التجار وضمان سلامتهم في حلهم وترحالهم، وتنظيم استيفاء الضرائب والرسوم المفروضة على متاجرهم، وعلى حركة المسافرين والمقيمين في بلاد السلطان ودويلات اللاتين، ما يجعل نصوص هذه الهدن، لما احتوته من مادة تاريخية موثوقة، مصدراً لا غنى عنه في دراسة العلاقات بين الشرق والغرب في فترة ما سمي »عصر الحروب الصليبية«.

 

(1/5737)

 

 

المصادر والمراجع

 

ابن عبد الظاهر، محيي الدين عبد الله، تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، تحقيق مراد كامل، القاهرة، 1961 م.

ــ ــ ، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تحقيق عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1976 م.

ابن الفرات، ناصر الدين محمد، تاريخ الدول والملوك، م 7، تحقيق قسطنطين زريق، بيروت، 1939 م.

حطيط، أحمد، تاريخ لبنان الوسيط: دراسة في مرحلة الصراع المملوكي الصليبي، بيروت، 1986 م.

ــ ــ ، "الكارمية وتجارة الكارم في عصر المماليك"، مجلة الفكر العربي، عدد 54، كانون الأول، بيروت، 1988 م.

 

(1/5738)

 

 

رنسيمان، س. ، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، ج 3، بيروت، 1968 م.

عاشور، سعيد، "تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب"، بيروت، 1972م.

كوبلاند، ج. و. وفينوكَرادوف، ب.، الإقطاع والعصور الوسطى في غرب أوروبا، ترجمة محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1958 م.

المقريزي، تقي الدين أحمد، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 1، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1957 ـ 1970 م.

هايد، ف.، تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، تعريب أحمد محمد رضا، ج 2، القاهرة، 1991 م.

 

(1/5739)

 

 

Cahen. C. at. « Ikta », El 2, vol. III, pp. 115-118.

- -, La Syrie du Nord à l’époque des Croisades et la principauté d’Antioche, Paris, 1942.

De Mas Latrie, M. L., Histoire de l’خle de Chypez, vol. I, Paris, MDCCCIXI.

Grousset, R., L’Epopée des Croisades, Paris, 1936.

- -, Histoire des Croisades, vol. III, Paris, 1936.

Heyd, W., Histoire du Commerce du Levant au Moyen-Age, vol. I-II, Leipzig, 1885-1886.

Pawer. J., Histoire du Royaume Latin de Jérusalem, Vol. III, Paris, 1970.

 

(1/5740)

 

 

Quatremère, M., Histoire des sultans Mamlouks de l’Egypte de Makrizi, vol. I, Paris, 1845.

Richard. J., Histoire des Croisades.

- -, « Un partage de seigneurie entre Francs et Mamelouk; Les Casaux de sur », in Syria, XXX, 1935, Fasc. 1-2.

 

(1/5741)

 

 

المذهبية في فكر أبي الوليد بن وشد (الحفيد)

الدكتور فاروق حمادة

كلية الاداب – الرباط

 

بداية مشرقة :

 

ولد محمد بن أحمد بن رشد في بيت مجد وسؤدد، وعلم ووجاهة. وقد تميز هذا البيت بقيامه على مذهب مالك بن أنس وخدمته له ، بعد أن كثرت رواياته في الأندلس ، وتشعبت أقواله وتنوعت كتبه ، وتزايدت مؤلفاته وشروحاته ، حتى اعتاصت على العلماء، وتمتعت على كبار الفقهاء، ولم يذلل للدارسين صعابها، ويطامن لهم قننها وعقابها(1) إلا الإمام العلامة شيخ المالكية، وقاض جماعة قرطبة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد جد ابن رشد

 

(1/5742)

 

 

الفيلسوف . يقول أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال المتوفي د وهو من تلامذته : "كان فقيها عالما، حافظا للفقه ، مقدما فيه على جميع أهل عصره ، عارفا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه ، بصيرا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم "(2). ترك مؤلفات جليلة، ومن أجثها كتاب "البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل" شرح فيه "المستخرجة" للعتبي ، ووجه أقوالها، ومهد بين يدي هذا الكتاب وكتاب "المدونة" للإمام سحنون بكتاب "المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات ، والتحصيلات

 

(1/5743)

 

 

الممكنات لأمهات مسائلها المشكلات، برحله كضوابط كلية،

 

(1) القنن . جمع فنة : وهى ذروة الجبل وقمته ة والعقاب . جمع عقبة، بوزن رقاب ورقبة، وهى الطريق الوعر ي الجبل .

(2) انظر : الصلة، ج2 ، ص 576.

 

ونظرات شمولية إجمالية. وأما "البيان والتحصيل، فقد جع فيه ما تفرق من أقوال المالكية وكتبهم ، ومحص ذلك أفضل تمحيص ، وقرب الفقه المالكي إلى طالبيه وراغبيه أسهل تقريب . وفي ذلك يقول يحيى بن السكاك : "وقرب ابن رشد مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه "(3).

 

(1/5744)

 

 

وقال الضبي عن "البيان والتحصيل " : "كتاب كبير ظهر فيه ، وكان أوحد زمانه في طريقة الفقه "(4). ولهذا وغيره قد حلاه غير واحد بأنه شيخ المالكية، وأفقه أهل الأندلس . وقد عاش هذا الإمام ش حين سنة، ومتوفي 520 ، أي أنه عاش في ظلال الدولة المرابطية ومدة بقائها الذي استمر زهاء خمسة وسبعين عاما.

 

وقد تميزت الدولة المرابطية في الجانب العلمي بأمرين اثنين ، أولهما : سيادة عقيدة السلف والبعد عن التأويل ، وعدم العمق في آيات الصفات وأحاديثها. ويتجلى ذلك في مؤلفات العقائد في تلك الفترة في المغرب والأندلس ، وفي

 

(1/5745)

 

 

طلبعتها انتشار –رسالة-، الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386هـ . وقد صدرها بعقيدة سلفية صافية لا تزال محل اهتمام وقبول بالجملة إلى يومنا هذا(5).

 

وثانيهما : سيادة المذهب المالكي، وتمكنه من قلوب وعقول المغاربة والأندلسيين . وكان للفقهاء المالكية في الدولة المرابية العز والصولة، وفي طليعتهم ابن رشد الأكبر، إذ كان مكينا من السلطان ، ومن أهل الرفعة والشأن ، وقد وفد عليه إلى مراكش فلقيه أكرم لقاء، وبقى عنده أبر بقاء(6).

 

(1/5746)

 

 

في هذا الرسوخ العقدي والمذهبي، والوجاهة والمكانة للبيت الرشدي ، ولد ابن رشد الحفيد، في العام الذي توفي فيه جده سنة5520هـ إثر عودته من لقاء السلطان بمراكش وقبل وفاته بشهر، فتفاءل الأب والجد بالمولد الجديد، فأسماه محمدا وكنياه بأبي الوليد تفاؤلا تشبها.

(3) انظر : نفح الطيب ، ج 5، ص 346.

(4) انظر . بغية الملتمس ، ص51.ترجمة 24.

(5) في هذه العقيدة السديدة كلمة واحدة لا نوافق عليها المؤلف رحمه الله وهي قوله : "استوى على العرش بذاته . فكلمة "بذاته " لم يأت بها نص ، بل استوى حق سبحانه وتعالى على العرش

 

(1/5747)

 

 

وكفى.

(6) انظر . البناهي ، تاريخ قضاة الأندلس ، ص 99.

 

ولد أبو الوليد، والدولة المرابطية قائمة، وسطوتها مستحكمة، فرضع لبان العلم والعقائد وتشبع بالمذهب المالكي صدرا من شبابه ، وأهم مرحلة في حياته إبان فتوته وتحصيله ، أي في السنوات العشرين الأولى من عمره ، وكان ذلك قبل قيام الدولة الموحدية.

 

وقد جاء في ترجمته أنه ما ترك الاشتغال بالعلم منذ عقل سوى ليلتين ، ليلة موت أبيه ، وليلة عرسه (7).

 

ولهذا، فقد بلغ الحفيد من العلم مبلغا عظيما. قال فيه ابن الآبار القضاعي المتوفى 658هـ : لم ينشأ بالأندلس مثله

 

(1/5748)

 

 

كمالا، وعلما، وفضلا(8).

 

وما ذلك إلا لما تعهده به والده في صغره ، وأحاطه به من عناية ورعاية في مدارج طفولته . فقد حفظ –الموطأ-، عن ظهر قلب وعرضه على أبيه في هذه السنين الأولى من حياته ، كما أنه ألهم حب المعرفة فأقبل عليها. ومن كان بهذه الصفات العرفية فهو حقيق بأن يصبح عالما راسخا في سن العشرين ، عندما دخلت الأندلس تحت جناح الدولة الموحدية.

 

ولا شك أن هذه البداية العلمية المشرقة قد صاغته صياغة مالكية، وبرحلته مؤتمنا على إرث أبيه وجده العلمي تدريسا ونشرا واستمرارا، و"تهد ذلك أنه قد تولى منصب

 

(1/5749)

 

 

القضاء في بلده قرطبة، وهي كعبة العلم بالأندلس والغرب الإسلامي في هاتيك العصور، فكان قاض الجماعة فيها، وقد حمدت سيرته في ذلك ، ولم ينقم عليه حسب ما بلغنا لشيء فيما هنالك (،).

 

ومن يتولى منصب القضاء ويتصدر للفصل ي الخصومات وإقامة الأحكام الشرعية بين الخاصة والدهماء، لا شك أنه يدرك أنه لابد للعامة وللمستفتين والمتنازعين من لزوم محجة واضحة سواء، حتى لا يتهم بالتناقض أو يشار إليه بأفن الرأي أو بالتحيز والبغضاء. وما كان هذا المهيع الذي لزمه وتلك المحجة الواضحة إلا المذهب المالكي الذي رسخ دهرا غير

 

(1/5750)

 

 

قصير في المغرب والأندلس .

(7) انظر : ابن الأبار، التكملة، ج2 ، ص 552. (نقلا عن الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 21، ص 308).

 

(8) انظر : ابن الأبار، التكملة، ج2 ، ص 552. (نقلا عن الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 21، ص 308).

 

(9) النباهي، تاريخ قضاة الأندلس ، ص11 . وابن فرحون ، الديباج المذهب ، ج2 ، ص 257.

 

تحول كبير :

 

ولما قامت الدولة الموحدية نحوه 540هـ ومدت رواقها إلى الأندلس عام ا،لأر ودخلت تلك البلاد في طاعتها، كانت هذه الدولة دولة فكرية علمية.

 

(1/5751)

 

 

فمؤسسها وداعيتها عالم كبير ادعى التجديد والمهدوية. وخليفته عبد المؤمن ، وابنه يوسف ، وحفيده يعقوب كلهم علماء مذكورون في هذا الشأن ، وكانت هذه الدولة تقوم على دعامتين فكريتين مناقضتين للدولة المرابطية، أرساهما المهدي بن تومرت قبل وفاته وقبل قيام دولته ، وهما الألف حرية في العقائد، أو على الأدق مناهضة منهج المرابطين في العقائد وتصوراتهم فيها، ثم الاجتهاد في التشريع والفقه القائم على الكتاب والسنة، لنقض بناء الدولة المرابطية المتشبثة بالمالكية. وقد كان المهدي بن تومرت ينص على فقهاء المالكية الذين

 

(1/5752)

 

 

قالوا بأن كل مجتهد مصيب ، واتبعوا هذه المقالة سلما إلى هدم الشريعة، وإسناد الأحكام إلى غير مستندها، وعكس الحقائق عن موضوعها، وصيروا الحلال حراما والحرام حلالا، رجعوا الشرع تناقضا، واتبعوا قولة كل قائل وإن تناقضت ، واعتقدوا طق في المجتهدات وإن تعارضت (10).

وكان خليفته عبد المومن بن على عالما بالأصول ، القرآن والسنة، وكذلك ابن يوسف ، ومن بعده ابنه يعقوب المنصور، واسطة عقد هذه الدولة، وناشر لوائها، والمركز في التاريخ جلائل أعمالها. أما الطريقة الأشعرية، فقد حملها معه المهدي بن تومرت من المشرق

 

(1/5753)

 

 

وخاصة من الإمام الغزالي ، الذي تأثر به المهدي غاية التأثر. وقد ف س المهدى على المرابطين بأنهم في عقيدتهم السلفية التي تقوم على ظاهر نصوص الكتاب والسنة مع المبالغة في الإثبات مجسمون ، وأبدأ في ذلك وأعاد، وأعلن الحرب العقائدية على المرابطين لتخليص التوحيد، وتصفيته من شوائب التجسيم . ولهذا سمى نفسه وأتباعه بالموحدين ، وصنف الكتب في ذلك ، وفرضها على أتباعه ف حلما وحفظا وجادل على هذه العقيدة وناظر عليها في حضرة الخليفة على بن يوسف بن تاشفين المرابطي بمراكش، وقبلها في فاس وغيرها، وظهر على العلماء

 

(1/5754)

 

 

الذين كانوا يناظرونه . وقد اعتنى عبد المؤمن من

بعده بهذه العقائد التي كتبها المهدي بن تومرت ، ورتبتها في

(10) انظر : الدكتور عبد المجبد النجار، المهدي بن تومرت ، ص 332. (ونقله عر كتاب المهدي بن تومرت . أعز ما يطلب ، ص 25.

 

سفر جامع هو "أعز ما يطلب "، ودرسها بنفسه في مجالس كان بعقدها لهذا الغرض ، وأصدر مرسوما يلزم فيه العامة ومن في الديار بقراءة ، وهى العقيدة التي في أولها : "اعلم أرشدنا الله وإياك "، وحفظها وتفهمها، وهى ذات صبغة ألفمرية خالصة، وكان لها دور كبير في انتشار الأشعرية بالمغرب (11).

 

(1/5755)

 

 

وقد أصبح لهذه العقائد دعاتها ومؤلفاتها والمنافحون عنها، ومن أبرزهم المتكلم النظار أبو عمرو عثمان بن عبد الله السلالجي الفاسي المتوفى 574هـ ، الذي أتقن العقائد على الطريقة الألف حرية، وقصر عمره على نشرها وتعليمها وتعميمها، وقد قيل فيه : هو الذي أنقذ أهل فاس من التجسيم ، أي من اتباع مذهب السلف (14).

 

وبهذا، فقد غدت العقيدة الأشعرية في هذا العصر عقيدة الغرب الإسلامي دون منازع . ويجمع المؤرخون - حسب علمنا - أن بداية التمكن لأشعرية وانتشارها في الغرب الإسلامي كانت مع المهدي بن تومرت ، وإن كانت هناك

 

(1/5756)

 

 

إرهاصات و آثار لها قبل المهدي ، وقبل ابن العربي اللذين حملاها عن الغزالي وأضرابه من المشرق ، وخاصة في الأندلس مع الراحلين إلى المشرق ، وكانت كتبها موجودة في الأندلس ، وأفكارها لها رواج.

 

وما كان أهل المغرب .قبل هذه الفترة يدينون إلا بتنزيه الله تعالى، مع ترك الخوض فيما .نقصر العقول عنه . وكانوا كما يقول الإمام السبكي وغيره ينافرون هذه العلوم - أي التعمق – و بعادون من ظهرت عليه (13).

 

وأما الاجتهاد القائم على الكتاب والسنة في الفروع ، والتحرر من سيطرة المذهب المالكي ، فهو أمر س حروف مشهور متداول

 

(1/5757)

 

 

، وفقدت المالكية بذلك سيطرتها، ولكنها لم تمت ، بل خف أوارها، وانكسر قرنها. وما ذلك إلا لتأثر المهدي بن تومرت ، بل وجل الراحلين في عصره بالمدارس الفكرية في المشرق . وقد طاف المهدي ومعاهدها،

 

(11) انظر . المرجع السابق ، ص 444. ولا أسعد أن يكون المهدي بن تومرت قد اقتبس قوله : "أرشدكم الله" من مصنفات إمام الحرمين في العقيدة، ك"الشامل "، ومختصره –الأرشد-،. إذ أكو فيها ص ت قوله : "اعلموا أرشدكم الله. . . ".

(12) انظر : النبوغ الغربي، ج 1، ص 158.

 

(1/5758)

 

 

(13) انظر . المراكشي، المعجب ، ص 270. والسبكي ، الطبقات الكبرى، ج 6 ص116.

 

وجاب أقطارها، وسبر أغوارها، وعاد إلى المغرب الذي كان يلتزم المذهب المالكي ، ويغوص علماؤه في الفروع والتفريعات ، بعيدا عن الدليل من السنة أو التنزيل . ومما هو في حكم المتواتر أن الدولة الموحدية لم تلتزم المذهب المالكي التزاما جميأ، بل دعت إلى الكتاب والسنة . قال الحافظ أبو بكر بن الجد : "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي بعقوب (ت 580 هـ) أول دخلة دخلتها عليه ، وجدت بين يديه "كتاب ابن يونس "، فقال لي : يا أبا بكر، أنا أنظر في

 

(1/5759)

 

 

هذه الآراء المتعبة التي أحدثت في دين الله ، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد ؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك ، فقال لي ، وقطع كلامي : يا أبا بكر ليس إلا هذا، و"شار إلى المصحف ، أو هذا، وأشار إلى سنن أبي داود، وكان عن يمينه ، أو السيف "(14)

 

وفتح المهدي بن تومرت باب العمل بالسنة. فقد جمع أحاديث في الطهارة، وأمر بحفظها، واستمر ذلك إلى أيام بعقوب المنصور الذي وصفه عبد الواحد المراكشي في "المعجب "(15)

 

(1/5760)

 

 

بقوله : "وفي أيامه انقطع علم الفروع ، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بى حد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، ففعل ذلك فأجرق منها جملة في سائر البلاد - ك –ـمدونة-، سحنون ، وكهاب ابن يونس و-نوادر-، ابن أبي زيد، و-مختصراه- ، وكتاب "التهذيب " للبرادعي ، و-واضحة-، ابن حبيب ، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شهدت منها، وأنا يومئذ بمدينة فاس ، يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار. وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي ، والخوض في شيء منه ، وتوعد على

 

(1/5761)

 

 

ذلك بالعقوبة الشديدة، وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء والمحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة -الصحيحين -، و-الترمذي-، و-الوطأ-، و-سنن- أبي داود، و-سنن-، النسائي ، و-سنن-، البزار، و-مسند-ابن أبي شيبة، و-سنن-الدارقطني و-سنن- البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة، فأجابوه إلى ذلك ، وجص حوا ما أمرهم بجمعه ، فكان يمليه بنفسه على

 

(14) انظر : المعجب ، ص 402.

 

(15) انظر : المصدر السالف ، صص 400-401.

 

(1/5762)

 

 

الناس . ويأخذهم بحفظه ، وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب وحفظه الناس من العوام والخاصة، فكان بعل لمن يحفظه الجعل السني من الكسا والأموال . إلى أن يقول عبد الواحد المراكشي : "وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك ، وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث ، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده ، إلا أنهما لم يظهراه ، وأظهره

بعقوب ".

 

وإن كان قوله : "كان مقصده في الجملة محو مذهب مالك " يحتمل عداء المذهب كما ذهب إليه بعض الباحثين ويحتمل كذلك اقتلاع سيطرته ولفرده بالسيادة

 

(1/5763)

 

 

الفكرية، وهذا الذي نذهب إليه بدليل استمرار كتب المالكية و آراء علماء هذا المذهب إلى جانب مذاهب أخرى لم يكن لها حضور في المغرب كالحنفية والشافعية و الداودية واتباعها الأوائل إلى جانب آراء ابن حزم الذي كان قريب العهد. يقول ابن خلكان : "وكان الأمير أبو يوسف بعقوب يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس ، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكو الرعايا منهم ، وأمر برفض فروج الفقه ، وأن العلماء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين

 

(1/5764)

 

 

المتقدمين ، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس . ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا إلى البلاد وهم على ذلك الطريق ، مثل أبي الخطاب بن دحية، وأخيه إبي عمر، ومحمس الدين بن العربي نزيل دمشق "(16).

 

موقف متميز:

في هذا الجو العقائدي والمذهبي نتساءل . ما هو موقف ابن رشد من ذلك ؟ وما هو مذهبه العقدي والفقهي ؟

 

1 –من المعلوم أن ابن تومرت قد تأثر بالغزالي ، وتلقى عنه وحمل عنه الألف حرية. وهو أكبر أساتذته الذين وجههوه . وإنا لنجد أن

 

(1/5765)

 

 

الدولة الموحدية كانت سباقة في تطبيق بعض الآراء التربوية والمدرسية التي كان يراها الغزالي ، ولا يخفى على

(16) انظر : وفيات الأعيان ، ج 7، ص . 11.

 

أحد من الدارسين الحملة الشعواء التي كان ابن رشد يشنها على أبي حامد بمناسبة وبغير مناسبة، وكتب ابن رشد طافحة بها وفي طليعتها "تهافت الهافت "، وكذلك كتاب "مناهج الأدلة"، و"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ". وبهذا الحط والحمل على الغزالي بحق وبغير حق ، فإنه يأتي إلى أسطوانة الدولة الموحدية الفكرية ليهدمها، وبالتالي يأتي على أسس الدولة التي

 

(1/5766)

 

 

قامت عليها وسوغت وجودها بها ضد المرابطين.

 

يقول في كتابه "فصل المقال " : "يجب أن لا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين، لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان. فأما إذا أثبتت في غير كتب البرهان ، واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية كما يضعه أبو حامد، فخطر على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيرا، وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك ، ولكنه كثر أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم ، وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الثربعة، وقوم إلى الجمع

 

(1/5767)

 

 

بينهما، ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه.

والدليل كل أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلتزم مذهبا من المذاهب في كتبه بل هو مع الأشعرية أشعري ، ومع الصوفية صوفي ، ومع الفلاسفة فيلسوف ، وحتى إنه كما قيل :

يوما يمان إذا لقيت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدنان

والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن هذا العلم ، إلا من كان من أهل العلم ..."(17). وكأنه بذلك يؤيد عمل الدولة المرابطية وعلماءها في إحراق –الإحباء- بل إنه يصل بالغزالي إلى شفير التكفير، حين يقول : "إن المصرح بهذه التأويلات لغير

 

(1/5768)

 

 

أهلها فكافر"(،ا)، ويقول عنه في مكان اخر : "إنه ليس بصادق "(18).

 

(17) انظر . فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، صص52-53 .

(18) انظر : فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، ص59.

(19) انظر : ضميمة في العلم الإلهي مع فصل المقال ، ص 75.

 

2- وأما الأشعرية، وقد حول الموحدون المغاربة إليها، فقد نذر ابن رشد نفسه لمحاربتها ونقضها، كما يتجلى ذلك في كتابيه اللذين بقيا وطبعا: "مناهج الأدلة"، و"فصل المقال ".

 

(1/5769)

 

 

فإذا كانت الأشعرية طريقة لتفسير الآيات والأخاديث المتعلقة بالعقائد، فقد ألف ابن رشد كتابه "مناهج الأدلة" لينقضهما مسألة مسألة. يقول في تسويغ تأليفه هذا، ودواعي كتابته له : "فقد رأيت أن أفحص عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة، وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى نفسه أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح

 

(1/5770)

 

 

الدم والمال . . . واشهر هذه الطواائف في زماننا هذا أربعة : الطائفة التي تسمى الأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى

بالحشوية . . .(20).

 

ويقول عن المعتزلة إنها لم تدخل إليهم في جزيرة الأندلس . وكان رده على الباطنية والحشوية قصيرا جدا. فالحشوية الذين قالوا : "إن طريق وحرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل ". قال عنهم : "الظاهر من أمر هذه الفرقة الضالة أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها وبيض كما

 

(1/5771)

 

 

للجميع(21)، واتهمهم بالفدامة، وبلادة العقل.

 

وأما الصوفية الباطنية، فأكد أن طرقهم في النظر ليست نظرية، وإنما المعرفة عندهم بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب. وهذا الطريق يبطل طريق النظر الذي دعا إليه القران والسنة ولا تصلح لعامة الناس (22).

 

(20) انظر : مناهج الأدلة، صص 40-40.

(21) أنظر : مناهج الأدلة، ص 42.

(22) انظر : فاهج الأدلة، ص 43.

 

(1/5772)

 

 

وبهذا، فقد كان الكتاب كله منصبا على الألف حرية بدءا من الأدلة التي نصبوها للدلالة على وجود الصانع ، وانتهاء بما يجوز وما لا يجوز من التأويل .

 

ولأتناول شيئا من كلامه في الأسس الألف الأشعرية لنتبين مقدار ومعاداته للألف حرية وتشهيره بها. يقول عن طريقة الأشاعرة في "الأدلة" : إنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تعالى لا يكون إلا بالعقل ، لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها، ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها، وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم حادث ، وانبنى

 

(1/5773)

 

 

حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، إلخ (23).

 

إلى أن يقول : "والدلائل التي تستعملها الأشعرية في إثباته هي خطابية في الأكثر، ويناقشهم في طريقة البرهان ، ويحط عليهم بعبارات قوية جريئة كقوله : "هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية"(24)، و"هذا قول في غاية السقوط (25)، "فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية"(26).

 

(1/5774)

 

 

إنه بهذا يريد إثبات جفل الأشاعرة بالفلسفة وأحكام العقل ، وكذلك بعدهم عن الكتاب والسنة والوقوف عند حدود السمع . وهذا أمر خطير من مثل ابن رشد، بل إن فيه حيفا واضحا يستحق المناقشة، وخاصة في طريقة التصديق التي لا تكون إلا بالعقل.

 

وإمعانا في تخطئة الأشاعرة في الطرق الدالة على الله سبحانه وتعالى قدم ابن رشد طريق دليل العناية والاختراع كما أسماه . وقد أشار إلى مثل هذا المنى جده في "المقدمات الممهدات " من قبل ، وقد أكد بكل يقين وثبات أنه استقى ذلك من استقراء الكتاب العزيز، إذ يقول : "قلنا الطريق التي

 

(1/5775)

 

 

نبه الكتاب العزيز عليها، ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين : أحدهما طريق

(23) انظر : مناهج الأدلة، ص 43.

(24) انظر . مناهج الأدلة، ص 54.

(25) انظر : مناهج الأدلة، ص 58.

(26) انظر : مناهج الأدلة، ص 62.

 

الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنسم هذه دليل العناية، والطريقة الثانية . ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات ، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل ، ولنسم هذا الدليل دليل الاختراع .

 

(1/5776)

 

 

فأما الطريقة الأولى، فتنبني على أصلين : أحدهما أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان ، والأصل الثاني أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق ...

 

وأما دلالة الاختراع ، فيدخل فيها وجود الحيوان كله ، ووجود النبات ، ووجود السماوات . وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس ، أحدهما أن هذه الموجودات مخترعة، والأصل الثاني ، فهو أن كل مخترع فله مخترع . . .)، إلى أن يقول . "فهذان الدليلان هما دليلا الشرع"(27)، وإن

 

(1/5777)

 

 

كان في هذه عمليه درك ومعه مناقشات ، إلا أنه بسط الأمر ووضحه ، وما ذلك إلا لينسف الآلاف حرية من جذورها.

وعندما ناقش صفة الوحدانية لله سبحانه وتعالى ى، نالت الأشعرية حظها من هجومه ومعارضته ، فقال : "وأما ما تتكلف الأشعرية من الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية"(28)، وهو الذي يسمونه دليل الممانعة، فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية والشرعية. وقد خالف في ذلك جده أبا الوليد الذي قال قول الأشاعرة، وأخذ كلامهم ، وقال . "وهذا الدليل الذي يسمونه دليل التمانع ، وقد نبه الله عليه وذكره في كتابه "، وذكر

 

(1/5778)

 

 

الآيات (29).

ومما ذهب إليه الأشعرية في تقسيم الصفات بأن جعلوها صفات نفسية وصفات معنوية وعد ذلك ابن رشد من البدع التي حدثت في الملة، وحاول أن يقرب ذلك من اعتقادات النصارى ومشابهتها بالأقانيم الثلاثة.

(27) انظر : مناهج الأدلة، صص. 65-67.

(28) قوله تعالى : (قل لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) (سورة الأنبياء، الاية22 ) وقوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا* (سورة الإسراء، الآية 48) وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله ، إذا لذهب كل إله بما خلق

 

(1/5779)

 

 

ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون سورة المؤمنون ، الآية 41).

(29) انظر : المقدمات الممهدات ، ج 1، ص . .18

 

وفي مسائل التنزيه في الفصل الرابع من "مناهج الأدلة"، جهل الأشعرية في نفى الجسمية، ونفي الجهة، وكذلك جهلهم في مسألة الرؤية، وحط على أيي حامد وشيخه أبي العالي الجويني، وكثيرا ما كان يصف أدلتهم ومساعيهم بأنها مضادة للحكمة و الشريعة(30).

ومن قوله فيهم . "وبالجملة، فلما كان نظر هؤلاء القوم مأخوذا من بادئ الرأي ، وهو الظنون التي تخطر للإنسان من أول نظرة... فمن أظلم ممن أبطل الحكمة، وافترى

 

(1/5780)

 

 

على الله الكذب "(31). بل هم في نظره مبتدعة يفسدون عقائد الجمهور، إذ يقول : ".. . استعمال لفظ الحدوث أو القدم بدعة في الشرع ، وموقع في شبهة عظيمة تفسد عقائد الجمهور، وبخاصة الجدليين منهم ، ولذلك عرضت أشد حيرة تكون ، وأعظم شبهة للمتكلمين من أهل ملتنا، أغنى الاشعرية".

ويستمر ابن رشد في سائر المسائل العقدية في نقض الأسس الأشعرية في النبوات والمعجزات وفي القضاء والقدر، ويصفهم في بيان هذه المسائل بالتناقض وعدم الفهم حيث يقول : "وأما الأشعرية، فإنهم راموا أن يأتوا بقول وسط بين القولين ، فقالوا( : إن

 

(1/5781)

 

 

للإنسان كسبا، وإن المكتسب به والكسب مخلوقان لله تعالى .هذا لا معنى له ! فإذا كان الاكتساب والمكتسب مخلوقين لله تعالى، فالعبد مجبور على اكتسابه "(32).

وينقض على أبي العالي وأبي حامد ما ذهبا إليه ، واستدلا به ، إلى أن يقول : "وأما المتوسط - أي بين المعتزلة والجبرية - الذي تروم الأشعرية أن تكون هي صاحبة الحق بوجوده ، فليس له وجود أصلا"(33). وأما مسألة العدل والجور في حق الله وتعالى، فوصل فيها إلى قمة هجومه على الأشعرية، إذ قال : "قد ذهب الأشعرية في العدل والجور في حق الله تعالى إلى رأي

 

(1/5782)

 

 

(30) انظر . مناهج الأدلة، صص. 100 ، 101 ، 116 .

(31) انظر : مناهج الأدلة، ص.118 .

(32) انظر : مناهج الأدلة، ص.136.

(33) انظر: مناهج الأدلة، ص.143.

 

غريب جدا في العقل والشرع ، أعني أنها صرحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع ، بل صرح بضده ... ".

إلى أن يقول : "وما تقوله الأشعرية من أنه يجوز على الله تعالى أن يفعل ما لا يرضاه، أو يأمر بما لا يريده ، فنعوذ بالله تعالى من هذا الاعتقاد في الله سبحانه وتعالى، وهو كفر"(34). وقد صرح بتكفير بعضهم في كتابه "فصل المقال )، حين قال : "كثير من الأصول التي بنت

 

(1/5783)

 

 

عليها الأشعرية معارفها سوفسطائية، فإنها تجحد كثيرا من الضروريات مثل ثبوت الأعراض ، وتأثير الأشياء بعضها في بعض ، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات ، والصور الجوهرية، والوسائط .

ولقد بلغ تعدي نظارهم في هذا المعنى على المسلمين أن فرقة من الاشعرية كفرت من ليس بعرف وجود الباري سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم ، وهم الكافرون ، والضالون بالحقيقة"(35).

ومن خلال هذه النبذة اليسيرة التي كشفنا فيها عن موقف أبي الوليد الحفيد من الأشعرية، يمكننا أن ندون ونضيف إليها من خلال كتابيه سالفي الذكر : "فصل

 

(1/5784)

 

 

المقال " و"مناهج الأدلة" الملاحظات التالية :

ا - لقد كتب ابن رشد هذين الكتابين وهو متشبع بالفلسفة متمكن منها، ويظهر ذلك من خلال نصوصه ودفاعه عن الحكمة - أي الفلسفة - وإشاراته إلى أساطينها الأول ، وقد جاء في ختام النسخة التي بين يدي مطبوعة : "وكان الفراغ من سنة خمس وسبعين وخمسمائة،)، أي إبان فترة حكم يوسف ابن عبد المومن ، وذلك في قوة الدولة الموحدية وعلو شأنها. وهذه الملاحظة تقودنا إلى الملاحظة الثانية :

 

(1/5785)

 

 

2 - إن فيلسوفا متمكنا من الفلسفة واسع الأفق ، بعيد الغور كابن رشد نجده في كتابيه هذين يجنح كثيرا إلى الإثبات في آيات وأحاديث الصفات - بل يصل أحيانا إلى حد يقترب من التجسيم . فمن ذلك قوله : "فإن قيل : ما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح المشرع بنفيها عن الخالق أم هي من

 

(34) انظر: مناهج الأدلة، صص .142،145.

(35) انظر: فصل المقال ، صص . 63-64.

 

المسكوت عنها ؟ فنقول : إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها، وهى إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن

 

(1/5786)

 

 

الشرع قد صرح بالوجه واليدين في غيرما آية من الكتاب العزيز. وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق والمخلوق ، كما فضله في صفة القدرة والإرادة، وغير ذلك من الصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق ، إلا أنهما في الخالق أتم وجودا. ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام ، وعلى هذا الحنابلة وكثير من تبعهم "(36).

وقد حاول أن يلطف هذا النص ويدفع عن نفسه القرب من التجسيم أو التجسيم نفسه بقوله : "والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها

 

(1/5787)

 

 

على منهاج الشرع ، فلا يصرح فيها بنفي ولاإثبات ، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"(37). إلا أنه عاد ليدافع عن الفكرة الأولى، فكرة التجسيم ، بقوله : "الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل المحسوس وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس ، فهو عندهم عدم . فإذا قيل لهم : إن هاهنا موجودا ليس بجسم ، ارتفع عنهم التخيل ، فصار عندهم من قبيل المعدوم

ومنها قوله : "إذا صرح . بنفي الجسمية، وجب التصريح بنفي الحركة، فإذا صرح بنفي هذا عسر ما جاء في صفة الحشر من أن البارئ يطلع على

 

(1/5788)

 

 

أهل الحشر، وأنه يتولى حسابهم ، كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا*، وذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور،،(38).

وغير خاف أن للأشعرية أجوبة واضحة وقوية في هذه الآية وغيرها، وفي الأحاديث المتشابهة، وخاصة حديث النزول المشار إليه ، لا أطيل بذكرها(39).

 

(36) انظر . مناهج الأدلة، صص . 88 –89.

(37) انظر : مناهج الأدلة، ص . 90.

(38) انظر . مناهج الأدلة، ص. 90

(39) انظر مثلا : الجويني ، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد، ص . 156 وما بعدها ! وابن فورك ، تأويل مشكل الحديث و الرازي ، أساس التقدير،

 

(1/5789)

 

 

فقد جمع في ذلك فأوعى وغيرها من كتب الأشعرية.

 

ومن ذلك قوله : "القول في الجهة". وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشربعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرة الأشعرية كأبي العالي ومن اقتدى بقوله ، وظواهر الشرع كلها تقضى إثبات الجهة"(40).

إلى أن يقول . "إن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي انبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع "(41).

وقد خالف أبو الوليد جده ني هذا الذي تقدم حين قال في "المقدمات الممهدات ،، : "ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز على

 

(1/5790)

 

 

الجواهر والأجسام من الحركة والسكون ، والزوال والانتقال ، والتغير والمنافع والمضار، ولا تحويه الأمكنة، ولا تحيط به ) لأزمنة "(42) .

وهذا القرب من التجسيم يتنافى مع عقلية الفيلسوف الشارح ، ويقودنا كذلك إلى ذكر الملاحظة الثالثة .

3 - لقد أبدأ الحفيد وأعاد في ذكر الخاصة والعامة، وأكد عدم التصريح للعامة بما هو للخاصة في نصوص كثيرة. وهذا أمر فيه ما فيه ، بل إنه جنوح إلى الباطنية واضح جدا. وكان في ردوده على الأشاعرة، وموقفه من تشابه الآيات والأحاديث ، ونصوص الصفات يلجأ إلى هذا الأسلوب ويعتمده ويحيل

 

(1/5791)

 

 

عليه ، وإن كان أبو حامد الغزالي قد سبقه بهذه القضية وألح عليها قبله في كتابيه "إلجام العوام عن علم الكلام " و"المضنون به على غير أهله )،، بل قد صرح أبو الوليد كثيرا بالظاهر والباطن ، ولم يظهر لنا حدود الباطن الذي يذهب إليه ، ويخص به أهل البرهان ، أي المتحققين المتشبعين بالفلسفة والحكمة . فمن ذلك قوله . (انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن . فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان "(43).

 

(40) انظر: مناهج الأدلة، ص . 93.

 

(1/5792)

 

 

(41) انظر : مناهج الأدلة، ص .96.

(42) انظر : المقالات الممهدات ، ج 1 ، ص .23.

(43) انظر : فصل المقال ، ص. 46.

 

فإذا كان ابن رشد في العقائد قد باين المعتزلة، وانفصل عن الحشوية والسلف ، ونعى على الباطنية، وانقض على الأشعرية، فإن المرء ليحار في الكشف عن مذهبه الذي تستر له كثيرا خلف تقسيم الناس إلى عامة وخاصة، وبالغ في الإثبات في عقائد العامة، ونصر ذلك وأخفى عقائد الخاصة أهل اليقين والبرهان . ويمكنني القول إنه مع العامة كان ولجما لما نشأ فيه من عقائد وكان رائجا إبان الدولة المرابطية بما يقرب من

 

(1/5793)

 

 

التجسيم ولزوم الظاهر، وخفيا فيما أدته إليه الفلسفة والحكمة ووصله من التأثر بهما من آراء القدماء، مراعيا في تخفيه طبيعة المجتمع المغربي الذي كان يأبى الفلسفة، والخروج على القران والسنة.

4 - ومن الملاحظ أن أبا الوليد قد يهز هجومه على أبي العالي وأبي حامد، ولم في حرض في كتابيه سالفي الذكر إلى أئمة الألف حرية الكبار كالباقلاني وابن مجاهد البصري وأبي الحسن الباهلى وأبى إسحق الأسفرايينى وغيرهم . وما ذلك إلا لانتشار كتب هذين الإمامين وأفكارهما في المغرب في تلك الفترة - والله أعلم - فكان رد أبي الوليد

 

(1/5794)

 

 

جرأة عظيمة، وعارضة فكرية نادرة، علما بأن آراء الباقلاني والسمناني ومن هم أسبق من الجوينى والغزالي موجودة في كتب جده ابن رشد الأكبر. وتأثره بالشعرية ظاهر(44)، ويمكن أن أشير هنا إلى أن الأشعرية دخلت المغرب والأندلس عن طريق الباقلاني بواسطة تلميذه عبد بن أحمد أبي ذر الهروي ، وكانوا قبل ذلك إما أهل قران ، أو حديث أو فقه ، أو عربية، يتقنون ذلك ولا يخوضون في الكلام ، وأبو ذر الهروي توفي بمكة سنة 434ه(45).

 

(1/5795)

 

 

5 - وأما فقه ابن رشد الحفيد، فقد تجلى في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المعتقد،،. ويبدو أنه هو الكتاب الفقهي الوحيد الذي كتبه أو وصلنا خبره ! أما ما نكب إليه من كتب أخرى في الفقه ، فهي إما تحريف في عنوان "بداية المجهد،، أو تشابه مع كتب جده أورث خطأ.

وكتاب "بداية المجهد" مطبوع متداول ، ومن خلاله نستطيع البحث عن مذهبه الفقهي وتوجهه في الاستنباط .

(44) انظر على سبيل المثال : المقدمات الممهدات ، ج 1، ص .20، 22،58. (45) قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، ج 17، ص . 558.

 

(1/5796)

 

 

ا - يبدو لي - و"لله أعلم - أن ابن رشد قد أ لف "بداية المجتهد)، وهو في منصب القضاء وفي قمة الشباب ومجتمع العقل . ولهذا تكرر في ثنايا الكتاب : "قال القاضي رضي الله عنه ، أو "قال القاضي" ولا شك أن هذه من الناسخ للكتاب عنه أو راويه عنه ، ولو كتب ذلك في حده لقيل : "قال القاضي رحمه الله "(46).

وقد وجدت في آخر "كتاب الحج " من الكتاب قوله : "وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة، وهو جزء من كتاب "المجتهد" الذي وصفته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها.

 

(1/5797)

 

 

والحمد لله رب ا لعالمين" .

وجاء عقب ذلك : "كان بنى الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت "كتاب الحج ثم بدا له بعد فأثبته "(47).

ومعنى هذا أنه قد ألف الكتاب نحو سنة 560ه، وكان قد انقضى على قيام الدولة الموحدية ودخولها الأندلس نحو من عشرين سنة، وكان عمره عند تأليفه ، زهاء أربعين عاما، أي في نصف عمره الأول تقريبا أو مطلع النصف الثاني ، لأنه عمر خمسة وسبعين عاما.

ولم ير إدخال "كتاب الحج أولا فيه لأنه نادرا ما يحتاج إليه القاضي ، ثم بدا له أن يكمل أبواب الفقه كلها فأكمل به الكتاب في التاريخ

 

(1/5798)

 

 

المذكور. و - في المناخ الفكري الاجتهادي من الأصول القران والسنة، والدعوة إلى الفتوى المستقلة والاستنباط المتحرر، يصعب على قارئ "بداية المجتهد،) من أوله إلى آخره أن يجد في ثناياه آراء طريفة أو استنباطات مبتكرة أو أحكاما مستقلة قائمة تنسب لابن رشد، بل كل ما يجده القارئ المتأمل جزئيات قليلة، أو ترجيحات بين المذاهب مثل قوله في الماء المتغير : "والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة. فقد

(46) انظر على سبيل المثال : ج1، ص .87 ج2، ص . 371 ج 3، ص . 190 ج 7، ص .398، 451ج8 ص199،255،532 ،676.

 

(1/5799)

 

 

(47) انظر : البداية، ج 5، ص .487.

 

يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق ، مثل ما يقال : ماء الغسل ، وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط ،)، إلخ (48).

ومثل حديثه عن تقسيم الحنفية النجاسة إلى مخففة ومغلظة، فعقب بقوله : "وتقسيمهم إياها إلى مغلظة ومخففة حسن جدا"49.

وقوله في الحيضة المتقطعة : "والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو أيام النفاس ، كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع "(50). وهذه ، وأمثالها لا

 

(1/5800)

 

 

تكون مذهبا اجتهاديا أو اراء فقهية .ننسب إليه كالتى نسبت لابن حزم . إذا فماذا كان عمل ابن رشد في كتابه ؟

3 – لقد كانت الدعوة إلى الاجتهاد والتحرر من المذهب المالكي إبان تأليف "بداية المجتهد" في فورتها ودعوى الاجتهاد شيء خطير لا يحسنه إلا قمم العلماء، والصفوة النبهاء، عبر العصور. فأراد ابن رشد – في تقديري ، والله أعلم – أن يواجه هذه الدعوى الخطيرة بعمل علمي رصين يثبت فيه أن اجتهاد الأئمة كانت له مسالكه وضوابطه ، وقواعده وأصوله ؟ فمن لمن يحسن ذلك ويتقنه ، فلن يتأتى له أسباب فهم الاختلاف الذي حصل

 

(1/5801)

 

 

بين السلف الصاع وأئمة الاجتهاد من بعدهم . ومن أراد أن ينافسهم ويجتهد مثلهم ، فلتكن له أصوله وقو"عده الواضحة في ذلك مثل أولئك الأعلام . فوضع هذا الكتاب اليتيم الفذ في مؤلفات ابن رشد، بل وفي المكتبة الإسلامية عامة ليكون رداءا وجنة في وجه هذه الدعوى الخطيرة، وسماه "بداية المجتهد"، أي أن من بدايات الاجتهاد معرفة القواعد الأصولية، وأسباب الاختلاف بين الفقهاء، ثم ص حرفة مذاهب السلف الماضين في الأحكام التشربعية كلها بدءا من الطهارة ومسائلها، وانتهاء بالقضاء وشؤونه. وقدم له بمقدمة موجزة، ذكر فجها الطرق

 

(1/5802)

 

 

التي تتلقى منها الأحكام الشرعية، وأصناف الأحكام الشرعية، والأسباب التي الاختلاف ، بعبارة سهلة دقيقة، وإشارة لطيفة رقيقة، أشبه ما تكون بمفاتيح بين يدي المتفقهين المتمكنين ليكونوا في نظرهم إلى اختلاف الأئمة الماضين ، وتنازعهم في

 

(48) انظر : بداية المجتهد، ج 1، ص 272.

(48) انظر : بداية المجتهد، ج 2، ص 196

(48) انظر : بداية المجتهد، ج 2، ص 43.

 

المسألة الواحدة مذاهب شتى، من المنصفين الذين يلتمسون لهم العذر، ويدركون مرامي كلامهم ، وقوة أو ض حف حججهم .

 

(1/5803)

 

 

واستخدم في ذلك عقليته الأصولية، وقدرته التخيلية الفلسفية ليجمع أطراف الباب الواحد ويقسمه أقساما متتابعة تحيط به ، لا يشذ عنها شيء، ولا تختلط المسائل ببعضها.

وكان أول ما يبدأ به مسائل الإجماع والاتفاق ، لأن الإجماع – كما هو معلوم - أقوى الأدلة. ثم يبين مواطن الخلاف ويتقصى مذاهب الأئمة الثلاثة . مالك ، والشافعي ، وأيي حنيفة، ويذكر أحمد بن حنبل ، والليث بن سعد، والثوري ، والأوزاعى، وقبلهم مذاهب الصحابة والتابعين إن كان لهم ذكر في المسألة ويصل إلى أبي ثور، والطبري ، وداود الظاهري وأتباعه . والأمر

 

(1/5804)

 

 

المطرد عنده هو ذكر أدلة الأئمة وتوجيههم للنصوص التي أخذوا بها أو خالفوها. ولما كان زمانه زمان البحث عن السنة ونصوص الحديث ، فقد أكثر من ذلك إكثارا واضحا فجاء في كتابه نحو من ألف وخمسمائة حديث ، ولم يتسن لي حتى الآن عدها بدقة، ولكنها تزيد على هذا العدد بكل تأكيد، إذ فيه بالمكرر ألف وسبعمائة وتسعة وتسعون حديثا حسب تخريجه في "الهداية)، للحافظ الشيخ أحمد ابن الصديق الغماري . وعندما يسوق أدلة كل إمام ووجهة نظره ، يبين كخلاصة أسباب اختلاف الأئمة في المسألة . فمثلا في سؤر المشرك والحمار والحيوان يقول

 

(1/5805)

 

 

بعد أن ذكر المذاهب في ذلك : "وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء : أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب والثاني معارضته لظاهر الآثار والثالث ومعارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك "(51).

وبدأ يفصل هذه الأسباب تفصيلا منهجيا دقيقا مقنعات حأ، إلى أن قال : "فهذه هي الأسباب التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة، وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة)(52).

 

(51) انظر : بداية المجتهد ، ج 1، ص .274،275.

(52) انظر : بداية المجتهد، ج 1، ص .290.

 

(1/5806)

 

 

وقد أكثر بوضوح من بيان اختلاف الأئمة بسبب الآثار والنصوص الحديثة، إما تصحيحا وتضعيفا، وإما تعارضا واختلافا، وإما تفسيرا وتأويلا، وإما نسخا. ففي كل باب تقريبا يواجهك بمثل قوله . "وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في الآثار الواردة في ذلك (53). وكأنه يقيم الدليل على فساد دعوى الاجتهاد المباشر من السنة والكتاب دون مراعاة المسالك الدقيقة والآراء العميقة للأئمة حين اجتهدوا. فليس كل حديث صح يجوز الاستنباط منه ، وليس كل حديث ضعيف يحرم الاستدلال به . .. وكان كتاب "بداية المجهد،) في هذا المعنى، أي

 

(1/5807)

 

 

توجيه الأحاديث والآثار، وبيان مدارك الأئمة المتقدمين فريدا في بابه يذكرنا بالأوائل الكبار كالشافعي في كتابه "الأم ،)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار،،، والبيهقي في "السنن الكبرى" وغيرهم . وقد اقتدى ابن رشد في ذلك ببلديه وحامل راية السنة في الغرب الإسلامي وفقهها ابن عبد البر القرطبي المتوفى 463ه كما سيأتي مع تأصيل وتعقيد.

وكان للدلالات اللغوية من عمله نصيب غير قليل في بيان أسباب الاختلاف ، كما في قوله : "وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب . فإن العرب تطلقه مرة على اللمس

 

(1/5808)

 

 

الذي هو باليد، ومرة تكنى به عن الجماع ، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في اية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى : أو لامستم النساء*، وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد. . ."(54). ومن ذلك قوله في بيان وقت العشاء : "وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب . فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران ، كذلك الشفق شفقان أحمر وأبيض .. .،)(54).

(53) انظر على سبيل المثال : ج 1، ص . 331، 381،454 ،وج 2 ، ص . 288، 310، 322،352، 372،388 ج5، ص .176،317 ،325 ،وج 6، ص . ،282، 328، ،وج 7 ص . 285،

 

(1/5809)

 

 

وغيرها كثير.

(54) أنظر : البداية، ج 1، ص . ،340.

(55) انظر : البداية، ج2 ، ص . 285.

 

وقد أكد في مقدمته الموجزة أن للغة أثرا كبيرا في أسباب الاختلاف من حيث تردد اللفظ بين العموم والخصوص ، أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون ، أو أن يكون مشتركا كما أن الاختلاف في دلالة لفظ الأمر والنهي على أي شيء تحمل، وكذلك تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، والاختلاف في إعراب اللفظ ، وإطلاقه تارة وتقييده أخرى. كل هذا كان له أبلغ الأثر في استنباط الأحكام وقد كشف عنه في اجتهادات الأئمة أحسن كشف ، وطبقه أتم تطبيق .

 

(1/5810)

 

 

وكذلك كان للقواعد الأصولية التي التزمها كل إمام نصيب وافر في بيان مدارك الأئمة، وأعطى للقياس ومسائله حيزا غير قليل مما يصلح به هذا الكتاب أن يكون أنموذجا في بيان استعمال القياس وكيفية تطبيقه على الفروع الفقهية.

وكان في عمله هذا وذاك ، وهو يبين مذاهب الأئمة، يكشف عن مدى ارتباطها بأصولها أو ابتعادها عنها، وذلك في أمهات المسائل التي تستند إلى الأدلة الشرعية المعتبرة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس . وقد نص على ذلك بقوله : "وفي هذا الباب مسائل كثيرة، أعنى في اختلافهم في الصفات المشترطة في الإمام

 

(1/5811)

 

 

تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع . قال القاضي : وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة، .أو ما له تعلق قريب بالمسموع "(56). 4ـ - بعمد هذه الإشارة إلى منهج ابن رشد في بيان مدارك الأئمة الفقهاء الكبار أصحاب المذاهب المتبوعة خاصة، ومن سبقهم من السلف الصاع ، وجاء بعدهم من الأعلام ، نتساءل : ما موقع المذهب المالكي في عمل ابن رشد هذا، وما موقفه من هذا المذهب إذا تذكرنا ما تناقله المؤرخون من شدة إقصاء المؤرخين له ، وعيبهم على فقهائه إغراقهم في الفروع ، واضطرابهم في الأقوال ، أو كما

 

(1/5812)

 

 

وصف القاضي أبو بكر بن العربي فقهاء المغرب والأندلس في عصره بقوله : "أقواهم لا نظر لهم إلا المسائل ، فإذا طالبهم بالدليل كاعوا"(57). ويقول : "فكلما جاء أحد من المشرق بعلم ، دفعوا في صدره ، وحقروا من أمره ، إلا أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما

 

(56) انظر : البداية، ج 1 ، ص . 190 .

(57) انظر : العواصم من القواصم ، ج2 ، ص .337. وكاعوا : أي جبنوا.

 

عنده من علوم على رسم التبعية . .. ثم حدثت حوادث لم يلقوها في منصوص المالكية فنظروا فيها بغير عالم ، فتاهوا، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف ، حتى آلت

 

(1/5813)

 

 

الحال ألا ينظر إلى قول مالك ، وكبراء أصحابه ، ويقال : قد قال في هذه المسألة أهل قرطبة، وأهل طلمنكة، وأهل طلبيرة، وأهل طليطلة فانتقلوا من المدينة وفقهائها إلى طلبيرة وطريقها، وحدثت قاصمة أخرى ف حلم العلم ، فصار الصبي عندهم إذا عقل ، فإن سلكوا به أمثل طريقة علموه كتاب الله ، فإذا حذقه نقلوه إلى الأدب ، فإذا نهض فيه حفظوه "لموطأ"، فإذا لقنه نقلوه إلى "المدونة" ثم ينقلونه إلى "وثائق " ابن العطار، ثم يختمون له ب "أ حكام " ابن سهل ، فقال : قال فلان الطليطلى وفلان المجريطس ، وابن مغيث - لا أغاث الله

 

(1/5814)

 

 

نداءه ، ولا أناله رجاءه - فيرجع القهقرى أبدا إلى وراء. على أمه الهاوية"(58).

وإن الدارس لكتاب "بداية المجتهد"، يشعر بأن ابن رشد أراد أن يرش المذهب المالكي الذي وصلت حاله إلى ما تقدم بماء الحياة، ويرتقي به من جديد إلى مستوى المذاهب الثلاثة الأخرى . الشافعي والحنبلي والمالكي بل والظاهري . وكان لهذه المذاهب مدارسها التي تنافح عنها وتناظر بالأدلة والبراهين عليها، عامرة بعلمائها وأعلامها مما كان يبر الواردين عليها من المغرب وافي ندلس فيصدرون عنها ويعودون إلى الغرب فيصطدمون بما صوره وذكره ابن العربي

 

(1/5815)

 

 

فتحصل المفارقات والغرائب . ومن المعجبين بتلك العاهد والديار المهدي بن تومرت ، فرش المذهب المالكي بماء جديد، ونفض الكثير عنه من غبار طليطلة وطلبيرة، وأزاح عن صدره هذا الكابوس الثقيل بذكر مسائله بالدليل الواضح من النص الصريح ، أو بالإشارة والاستنباط المقبول المليح .

لقد جهد ابن رشد في هذا الكتاب في نصرة المذهب المالكي تجاه المذاهب الأخرى، وبيان أصوله المتينة، وقواعده الثابتة الرصينة، فكان على الأعم الأغلب ما يصدر به الأقوال ويسوق له حججه وأدلته في معرض الحجاج والاستدلال ، وكثيرا ما يقول : والحجة

 

(1/5816)

 

 

لمذهب مالك (59). وإذا ظهر له في مسألة ما أن استدلال المالكية

(58) انظر . العواصم من القواصم ، ج2 ، ص . 489،494 .

(59) انظر على سبيل المثال : ج 5، ص .309 ،311 ج8،ص 59.130 ج2 ، ص . 306 وج 7،ص 166.

 

ضعيف ، تلطف غاية التطلف في بيان ضعفها كقوله في مواطن عديدة : "ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار"(60).

وقد اكثر ابن رشد من آراء تلامذة مالك ، وخاصة ابن القاسم الذي كان لفكره الذي أودعه في "المدونة،) تأثير كبير في المغرب والأندلس ، وأشهب بن عبد العزيز، وعبد الله بن وهب ، وأبي مصعب الزهري ، وعبد العزيز بن

 

(1/5817)

 

 

أبى سلمة، وابن نافع ، ومطرف ، وابن كنانة، وابن الماجشون ، وأصبغ بن الفرج ، وسحنون بن سعيد، وابن عبد الحكم ، شعبان المصري ، ثم يصل إلى فقهاء الأندلس الكبار كعبد الملك ابن حبيب ، ومحمد بن المواز، وأبي الحسن اللخمي وابن لبابة، فيبرز اجتهاداتهم واختياراتهم ، ويذكر مصادرها ني كتبهم . قد ذكر "المدونة" التي أراد الموحدون إخماد ذكرها كما قيل ، وذكر "العتبية،) التي شرحها جده في "البيان والتحصيل " و"الواضحة،، لعبد الملك بن حبيب (61). وكان ينص على المشهور من غير المشهور(62) ي المذهب المالكي واختيارات

 

(1/5818)

 

 

المالكية في مدارسهم المتعددة، المدنيين والبغداديين ج وذكر اختيارات ألمع أئمة المالكية البغداديين ابن القصار، وابن الجلاب ، والقاضي عبد الوهاب (63) ولم يدخر وسعا في ذكر علماء المالكية وآرائهم في المسائل التي تحتمل النظر وتقبل تعدد الاجتهاد دون أن يذكر من أتباع المذاهب الأخرى إلا الطبقة الأولى منهم على قلة وندرة. وقد وصل في تقوية المذهب المالكي ودعمه إلى أن وصل إلى اختيارات جده فقواها، واعتمد عليها في عدد من المواطن ونص على مصدره فيها "المقدمات الممهدات " وهو من أمهات كتب المذهب المعتمدة(64). وإن

 

(1/5819)

 

 

بث آراء هؤلاء العلماء وتقويتها أو ذكرها مع علماء الاجتهاد الكبار، وتنبيه لها دون خوف ، ولو كانت الدولة لا ترى هذا الاتجاه ، أو على الأقل لا ترغب

 

(60) وانظر على سبيل المثال : ج 6، ص . 168.

(61) انظر : بداية المجتهد ، ج 8، ص .82،176.

(62) انظر : ح 6، ص .180،182 . وقد اكثر من ذلك ، ويقول في ج 6، ص. 300 : "وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم ".

(63) انظر على سبيل المثال : ج 3،ص191 ج5، ص . 275 ج6، ص .180.ج7 ص478.

(64) انظر : ج1 ، ص .291 . ج7 ص .502 ج8 ، ص .623 .

 

(1/5820)

 

 

فيه ولا تعمل على تأييده ونشره . وإني قد وجدت ابن رشد في "كتاب الحج " وصنفه بعد عشرين سنة من تأليف كتابه ، أي إبان فترة حكم يعقوب المنصور وكان أكثر آل عبد المومن تشددا تجاه المالكية كما نقل عنه - وجدته كسائر الكتاب ، يذكر أصحاب مالك : ابن القاسم (65) وأشهب (66)، وابن الماجشون (67)، وابن نافع (68)، وعبد الملك (69)، وابن حبيب (70)، وابن المواز(71) وذكر أصحاب مالك على التعميم ثلاث مرات (72) وأصحابه البغداديين مرة واحدة(73). بل إنه ينص بعبارة رشيقة على تشبعه بالمذهب المالكي بقوله : "ولا أعلم في هذا

 

(1/5821)

 

 

خلافا في المذهب "(74).

 

هذا وغيره بعطي الحق إلى حد كبير لمن يصنف كتاب ابن رشد من أمهات كتب المالكية، كما نصنف "المجموع " شرح "المهذب " للإمام النووي من أمهات كتب الشافعية، وكتاب (،فتح القدير" للكمال ابن الهمام من أمهات الكتب الحنفية، و"المغني" ، لابن قدامة المقدس من أمهات كتب الحنابلة. وبهذا يمكننا القول إن ابن رشد كان مدافعا صلبا عن المذهب المالكي في فترة حرجة من فترات تطوره واستمراره في الغرب الإسلامي ، وفيا لأسلافه في خدمة هذا المذهب ورئاسته. ولنا هنا أن نتساءل : هل كان هذا من ابن رشد معارضة

 

(1/5822)

 

 

للدولة الموحدية التي كانت تقدره وتكبره ، وتخطئة لها في نهجا وتوجهها ؟ أو كان وفاء للدولة المرابطية التي كانت ف حرف حق بيته وسلفه ، ولقوم على رعاية المذهب المالكى وفقهائه ؟ أو إخلاصا للحق الذي رآه في المذهب المالكي نفسه عندما قايسه بغيره من المذاهب ، وإن كان لم يصرح بشيء من هذا حسب ما أذكر في بدايته ؟!

 

(65) انظر . ج 5 ، ص362 .

(66) انظر . ج 5 ، ص362 -433.

(67) انظر . ج 5 ، ص 336.

(68) انظر . ج 5 ، ص393.

(69) انظر . ج 5 ، ص430-461.

(70) انظر . ج 5 ، ص485.

(71) انظر . ج 5 ، ص 346.

 

(1/5823)

 

 

(72) انظر . ج 5 ، ص296-275-336.

(73) انظر . ج 5 ، ص275.

(74) انظر . ج 6 ، ص284.

 

وهنا نتساءل : هل كانت الدولة الموحدية متسامحة إلى هذه الدرجة مع الفكر والمفكرين حتى ولو كانوا ممن يعارضون عقيدتها الرسمية، ومذهبها السائد، وتكون بهذا التسامح قد فسحت مجال القول للمفكرين والعلماء، وأقامت سوق الدرس والمناظرة بحضرة الخلفاء تجديدا لما رث من ناضر عهود العلم وزاهر رياض المعرفة في الغرب الإسلامي، وتنافسا مع معاهدها في المشرق ؟!

 

(1/5824)

 

 

أو أن هذه الآراء كان يخفيها ابن رشد أو يلقيها بتؤدة وتأن ؟ وقد يشعر القارئ بذلك في ثنايا كتابه وفي صدره حيث يقول : "إن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفس على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها. . . "(75). فيشعر القارئ بالاقتصاد في بسط الكلام وإظهار نفسه خلاف سابقيه جده ، أو ابن عبد البر، أو ابن حزم ، أو ابن العربي وغيرهم .

 

كل هذه الأسئلة ترد وتثور بعدما تقدم عندما نجد أن ابن رشد يحط بكل قواه على الأشعرية، وينافح بكل جهده عن المالكية. وفي ذلك شيء من الغرابة

 

(1/5825)

 

 

والمفارقة، وقبل أن أنهى هذه الومضات عن فكر ابن رشد، أنبه إلى أن ابن رشد قد اعتمد في بدايته بشكل كبير على كتاب "الاستذكار في الشرح الموطأ"، للحافظ ابن عبد البر القرطبى المتوفى 463هـ في نقل مذاهب السلف والعلماء، والتصحيح والتضعيف للأحاديث ، وذكر الإجماعات ومواطن الاتفاق عند المجتهدين (76).

وقد نص في كتابه على بعض ذلك فقد قال في "كتاب الطهارة"، : " وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب "الاستذكار"، وأنا أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه "(77).

 

(1/5826)

 

 

وقد أضاف إلى كتابه من مصادر أخرى، وخاصة فيما قي حلق بفقه المالكية والأندلسيين منهم ، وذكر مذهب ابن حزم في عدد من المواطن ، كما ذكر تصحيحه

 

(75) انظر : ج 1، ص 79.

(76) انظر على سبيل المثال : ج 1، ص 147-344-358 ، ج3 ، ص334-350-370، ج 3 ، ص 205، ج 5 ، ص 158-166-260-338-445-350-381-، ج 6، ص 54-76-148-291 وغيرها

(76) انظر : البداية ج 2، ص 241.

لبعض الأحاديث ومواطن أخطأ فيها(78). ويبدو أنه كان يتكئ على "المحلى بالآثار" في نقل بعض النصوص الحديثية ومذاهب الفقهاء، والأمر يحتاج لتدقيق ومقارنة لما يتسن لي

 

(1/5827)

 

 

بعد.

 

ونتساءل أخيرا عن موقع ابن رشد في عالم الحديث والسنة مع توجه الدولة والفكر في زمانه إليه وحنو الناشئة نحوه . ويمكنني القول بإيجاز بأن ابن رشد من خلال هذا الكتاب يظهر أنه / يكن بارعا في عالم الحديث ، إلا أنه لم يكن عاطلا عنه خاملا فيه ، بل كان مقلدا لغيره محيلا ومعتمدا في الغالب آراء وأقوال ونقولا أبي عمر بن عبد البر، ونقول قليلة جدا عن غيره ، كابن صفور(79)، وابن مفوز(80 ). وقد وقع في كتابه هذا في بعض الأوهام الحديثية.

 

نهاية محرقة :

 

(1/5828)

 

 

لئن بقيت أسباب نكبة يعقوب المنصور لابن رشد وهجره سرا مطويا في حنايا التاريخ وضمير الغيب ، أفلا يمكن أن تكون قد ساهمت هذه التوجهات العقائدية و"لفكرية والمذهبية التي كانت من أبي الوليد مع الأمور الأخرى التي نسبت إليه ، وهى خلاف التوجه العام لعصره ودولة زمانه ، في المحنة الخانقة، والنهاية المحرقة التي هجر بسببها، وأحرقت كتبه أمام ناظريه ، وسجن وأهين على كبر سنه وعلو قدره وجاهه ؟ وبقى منسيا مهجورا إلى أن لقي وجه ربه سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمراكش، ثم نقل بعمدها – ول حل ذلك بوصية منه – إلى قرطبة

 

(1/5829)

 

 

مسقط رأسه ، ومقبرة سلفه ، وفاء لهذا البيت العتيد. وحبا بهذه المدينة العظيمة، ؤرحبيرا عن عدم رضاه بالموحدين وأشياعهم ؟ ! !

(78) انظر : البداية، ج 1، ص 54-56-93-265-352-، ج 5، ص62، ج 6، ص 188،ج 7، ص 122 .

(78) انظر : ج6، ص 188.

(78) انظر : ج 1، ص 436.

 

(1/5830)

 

 

المرأة بين تكريم الإسلام وسلبيات الواقع

 

... ... ... ... ... ... ... الدكتور عباس الجراري

... ... ... ... ... ... عضو أكاديمية المملكة المغربية

 

ليس من شك في أن المرأة حظيت باهتمام كبير في المرحلة المعاصرة، نتيجة إدراك دورها الأساسي والحيوي في المجتمع. وليس من شك كذلك في أن هذا الاهتمام راجع أيضا إلى ما نالته المرأة من حقوق لم تكن تحظى بها من قبل عند كثير من الأمم والشعوب.

وفي هذا السياق، ولأمر لا تخلو من معاداة ورغبة في الكيد، يلاحظ أن غير قليل من خصوم الإسلام - ومعهم عدد من الجاهلين به حتى من

 

(1/5831)

 

 

المنتسبين إليه - يتخذون موضوع المرأة مطية للنيل من الدين الحنيف وشرائعه، منادين بإنصافها وإعطائها حقوقها ومساواتها بالرجل وما يقتضي ذلك من إعادة النظر في المساطر والقوانين. وإن كل ذي رأي سديد يسعى إلى الصالح العام لا يمكنه إلا أن يحبذ كل محاولة للمراجعة والتصحيح، سواء في هذه القضية أو غيرها، شريطة أن يتم ذلك في نطاق الشريعة بما فيها من ثوابت لا مجال لمسها، ومتغيرات قابلة للتكيف مع الزمان والمكان.

 

(1/5832)

 

 

وإذا كان المجال متسعا للتطوير والتجديد داخل هذه المتغيرات، فإن أي دعوة لمس الثوابت المحكمة بالنصوص تعد مسا بهذه النصوص وما تشكله من عقيدة وشرع. وهو ما يتطلب الكثير من الحيطة والحذر.

ولإدراك حقيقة المرأة في الإسلام، لابد من استحضار النظرة التي كانت سابقة عليه، أو معاصرة له، وحتى لاحقة، عند كثير من المجتمعات، سواء منها العربية أو غيرها، ولا سيما الأوروبية.

فقد كانت بعض قبائل العرب في الجاهلية - كبني تميم - تئد البنات (1) مخافة العار؛ في حين كانت قبائل أخرى - كخزاعة وكنانة -

__________

(1) أي تدفنهن حيات.

 

(1/5833)

 

 

تئدهن للاعتقاد بأن الملائكة بنات الله، وبأنه يلزم إلحاق البنات به.

كذلك كانت المرأة تعتبر عند كثير من العرب متاعا يورث كما يورث المال. وبذلك فإنها لا حق لها في الميراث شأنها في ذلك كشأن الصبيان؛ بل لاحق لها حتى في أن تتزوج ما لم يرض وارثها بأن يأخذ مهرها، أو تفدي نفسها بمال تعطيه.

أما في أوربا، فإن المرأة كانت مجرد متاع يمكن التصرف فيه بالبيع والشراء، بل إنها كانت تعد مخلوقا ناقصا لا روح له أو له روح حيوان؛ مما جعلها في هذا المنظور لا ترقى إلى بلوغ الحياة الآخرة. ووصل الأمر إلى حد إلجامها بقفل

 

(1/5834)

 

 

يوضع على فمها حتى لا يسمع لها صوت. وكانت - باعتبارها رجسا - تمنع من قراءة " الكتاب المقدس".

ومن ثم طال الجدل حول إنسانيتها، ووقع الاتفاق على إثبات هذه الإنسانية، على أن تعد من الرقيق، وعلى أن تكون - تبعا لذلك - في خدمة دائمة للرجل. وكذلك استمر وضع المرأة في غير قليل من البلاد الأوروبية حيث كانت محرومة من أدنى حقوق المواطنة.

وحين ظهرت الثورة الصناعية في هذه البلاد، بدأ تشغيل النساء والأطفال بأرخص الأثمان. ثم حدث بعد الحرب العالمية الأولى أن مات نحو عشرة ملايين من الشباب الأوروبي والأمريكي، مما

 

(1/5835)

 

 

خلف نساء دون عائل كن مضطرات إلى العمل. وزادت حاجة المصانع إلى من يشتغل بأقل أجر، ففتحت الأبواب أمام النساء. ومن ثم بدأت المرأة تشعر بضياع حقوقها، وأخذت تطالب بهذه الحقوق. ووصل الأمر في بعض البلاد الراقية - حتى الآن - إلى حد أن المرأة لا تتقاضى أجرا كالرجل، مهما يكن مستوى العمل الذي تؤديه. هذا، في الوقت الذي فتحت لها أبواب التحلل والتفسخ على مصراعيها، لتعود - كما كانت من قبل - مجرد أداة للعبث واللهو، ووسيلة للإغراء والإمتاع.

* ... * ... *

 

(1/5836)

 

 

أمام هذا المنظور المسيء للمرأة ، يحق التساؤل عن موقف الإسلام منها. وإن المتأمل في هذا الموقف لا يلبث أن يجده متجليا في جوانب كثيرة، كلها دالة على التكريم والاهتمام. هذه أهمها :

أولا : خصها بسورتين في القرآن الكريم هما : 1- سورة النساء؛ 2 - سورة مريم . هذا بالإضافة إلى سور أخر تعنى بالمرأة، كسورة النور، المجادلة والممتحنة، والطلاق؛ علما بأن الأحكام المتعلقة بها مبثوثة في سور أخرى كثيرة.

ثانيا : نظر إليها باعتبارها مخلوقا كالرجل لا يفضل أحدهما الآخر إلا بالتقوى؛ منهما تتكون الأسرة التي هي الخلية

 

(1/5837)

 

 

الأولى للمجتمع، ودونها لا إمكان لإيجاد هذه الخلية. يقول تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (1) . وبذلك أدان الإسلام وأد البنات. يقول عز وجل : { وإذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} (2) . كما حرم اعتبارها متاعا تورق أو تمنع من الزواج. يقول سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل

__________

(1) سورة الحجرات، الآية 13.

(2) سورة النحل، الآيتان 58 - 59.

 

(1/5838)

 

 

لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} (1) .

ثالثا : جعل علاقة الرجل والمرأة في إطار حميمي عبر عنه الحق سبحانه بالسكون المرتبط بالمودة والرحمة، وما ينشأ عنهما من حب وعطف وحنو:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (2) .كما عبر عنه باللباس الذي يحمي ويستر : { هن لباس لكم وأنتم لباس

لهن} (3)

__________

(1) سورة النساء ، الآية 19.

(2) سورة الروم، الآية 21.

(3) سورة الروم، الآية 21.

 

(1/5839)

 

 

رابعا : أقام هذه العلاقة على أساس الزواج، في نطاق مفهوم صحيح، قننه بأحكام دقيقة راعى فيها عوامل إنسانية واجتماعية كثيرة، تخلص في اعتباره عهدا بين الزوجين، وميثاقا وصفه الله بأنه غليظ : { وأخذن منكم ميثاقا غليظا} (1) . وهو ميثاق قائم على التساوي والتكافؤ بين الطرفين، وكذا على الرضى والقبول اللذين بهما تهدأ النفس وتطمئن وتسكن، ويزول طمعها ويذهب ما قد يساورها من وساوس. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح

__________

(1) سورة النساء، الآية 21. ومعنى "غليظ" أنه كبير وملزم.

 

(1/5840)

 

 

البكر حتى تستأذن". قالوا : "يارسول الله وكيف إذنها ؟ ". أجاب صلوات الله وسلامه عليه : " أن تسكت" (1) . وذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها للرسول الكريم : " إن البكر تستأمر فتستحيي فتسكت". فقال لها : "سكاتها إذنها" (2) .وحتى تتحقق هذه العلاقة على نحو متين ودائم، دعا الإسلام الرجل أن يتخير المرأة الصالحة وفق توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذ يقول : "تنكح

__________

(1) أخرجه البخاري عن أبي هريرة، والاستثمار أن يطلب رأيها وتستشار.

(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والدارمي عن أبي هريرة

 

(1/5841)

 

 

المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (1) . ويقول كذلك : " لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لمالهن فعسى أموالهن أن تطغينهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل" (2) .

إن تفضيل الإسلام لذات الدين يعني أمورا كثيرة، منها أن الرجل لن يتزوج المرأة طمعا في مالها أو جاهها، ولا تعلقا بجمال عارض قد يزول ذات يوم، والحياة الزوجية عمر ممتد. وحتى إذا لم

__________

(1) أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.

(2) رواه ابن ماجة عن ابن عمر.

 

(1/5842)

 

 

يزل، وهو لابد زائل مع الأيام، فإنه يصبح عند الرجل أمرا عاديا يألفه. ويعني كذلك أن الهدف من الزواج هو إقامة أسرة تؤسس على الفضيلة. ولهذا ألح رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - على عنصر الدين للزوج كذلك، كما في قوله : " إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (1) . وكررها ثلاث مرات.

إن التركيز على عنصر الدين في الزواج هو الذي يجعل من العلاقة الزوجية رباطا مقدسا قائما على الاقتناع وعلى القناعة أيضا. وهي كلها عوامل يتسنى

__________

(1) أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة.

 

(1/5843)

 

 

بها الدوام والاستمرار.

وفي إطار هذا الميثاق دعا الإسلام إلى المعاملة الطيبة القائمة على المعروف، كما أحل الطلاق عندما تتعذر العشرة الحسنة. يقول تعالى : { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} (1) . وفي هذا الطلاق - وعلى عكس ما يروج بعض المغرضين - يكمن جانب من حرية المرأة وكرامتها قبل ذلك؛ إذ هو من المنظور الإسلامي حل لمشكل، ولا يكون اللجوء إليه إلا حين لا يبقى أي حل آخر. ولهذا يقول رسول الله على - صلى الله عليه وسلم - : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (2)

__________

(1) سورة البقرة، الآية 231.

(2) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم عن ابن عمر.

 

(1/5844)

 

 

. وقد جعل له الإسلام قوانين وأحكاما تضبطه.

خامسا : سوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. يقول عليه الصلاة والسلام : "إنما النساء شقائق الرجال " (1) . وفي هذا الصدد الضابط للمساواة يقول عز وجل : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} (2) . وقد شكلت هذه الدرجة التي هي في الحقيقة درجة تكليف لا تشريف، والتي أسيء فهمها عند كثيرين، ذريعة للطعن في هذه المساواة؛ في حين شرحها القرآن

__________

(1) رواه ابن حنبل وأبو داود والترمذي والدارمي عن السيدة عائشة رضي الله عنها.

(2) سورة البقرة، الآية 228.

 

(1/5845)

 

 

الكريم في هذه الآية : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (1). وهي تحدد أمرين يوضحان حقيقة التفضيبل والقوامة :

1- مرد التفضيل إلى الطبيعة التكوينية للمرأة وما تتعرض له كل شهر، ثم ما تعانيه عند الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وما إلى ذلك مما اعتبر في آيات كثيرة كرها، على نحو قوله عز وجل : { حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (2) . ويكفي لإبراز هذه الحقيقة أن أحد كبار الأطباء قال في ندوة

__________

(1) سورة النساء، الآية 34.

(2) سورة الأحقاف، الآية 15.

 

(1/5846)

 

 

علمية حضرتها، إن ربانة الطائرة لا يسمح لها بالقيادة أثناء عدتها الشهرية، بسبب ما يتعرض له جسمها ومزاجها من اضطراب. ولعل هنا يكمن تفسير الحديث الشريف الذي كثيرا ما يردد في هذا السياق بأن النساء "ناقصات عقل دين" (1) .

وليس يخفى أن المرأة بحكم تكوينها أكثر عاطفة من الرجل، وأميل إلى إعمال الحدس، بالإضافة إلى أنها أثناء ما تتعرض له كل شهر معفاة من الفروض الدينية كما هو معروف. وهو ما يستفاد من بقية الحديث : "قلن : "وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله

__________

(1) أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري، كما رواه غيره.

 

(1/5847)

 

 

؟ " . قال : "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟". قلن : "بلى" . قال : "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ "؟ قلن : "بلى". قال : "فذلك من نقصان دينها " (1)

__________

(1) يأخذ الحديث الشريف اتجاها آخر، إذ أعطيت كلمة "العقل" معنى الدية، إذ كانت العادة أن يوتى بالإبل التي تعطى في الدية فتعقل - أي تربط- بفناء ولي المقتول. ثم أصبحت الدية بعد ذلك تقدم بالذهب والفضة. ومعروف في الفقه أن دية المرأة في النفس النصف، بالقياس إلى دية الرجل باتفاق. أما غير النفس - كالجراح والأعضاء - ، ففي المذاهب اختلاف تكفي فيه الإشارة إلى أن مالكا يرى ما يراه فقهاء المدينة من أن ديتها تساوي دية الرجل حتى تبلغ ثلث الدية الكاملة؛ فإذا زادت عليه، رجعت إلى نصف دية الرجل. وواضح أن مسألة الدية تنسجم مع قسمة الميراث وارتباطها بالقوامة التي سيتناولها العرض بعد.

 

(1/5848)

 

 

. على أن الإسلام خول للمرأة - بحكم وضعها التكويني - موقعا متفردا لا يبلغه الرجل، إذ هي بعد الحمل والوضع تمارس الأمومة التي تبوئها مكانة متميزة عبر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه رجل، فقال : "يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ ". فأجابه : "أمك". وسأل الرجل مرة : أخرى "ثم من ؟". فرد صلوات الله وسلامه عليه : "أمك". ثم استفسر الرجل ثالثة، فكان الرد النبوي الكريم كذلك : "أمك". وحين سأل الرجل بعد ذلك، قال الرسولالأعظم : "أبوك" (1) .و جاء جاهمة

__________

(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

 

(1/5849)

 

 

السلمي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال : "يارسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك". فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هل لك من أم؟" . قال : "نعم". فكان جواب النبي الكريم : "فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها" (1) . ومعروف قوله عليه الصلاة والسلام : "الجنة تحت أقدام الأمهات" (2) .

__________

(1) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث جاهمة.

(2) رواه الخطيب في " جامعـ" ـه والقاضي في " مسند" عن أنس مرفوعا.

 

(1/5850)

 

 

2- سبب القوامة راجع إلى أن الرجل مطالب في الإسلام بحمل أعباء الأسرة والنهوض بجميع التكاليف والنفقات، حتى ولو كانت الزوجة ذات مال. وخلف هذه المسؤولية الشرعية يكمن السر في أن { الذكر مثل حظ الأنثيين} (1) عند قسمة الميراث. ومع ذلك، فإن ما يحدث اليوم في كثير من الأسر التي تساعد فيها الزوجة زوجها في الإنفاق شيء محمود ولا شك أن المرأة في هذا الوضع تكون لها أموالها وممتلكاتها تتصرف فيها كما تشاء. وقد تكون شريكة لزوجها فيما يملكه، وهو أمر معروف كذلك وشائع. وتجدر الإشارة إلى أنه

__________

(1) سورة النساء، الآية 11.

 

(1/5851)

 

 

في إطار مسؤولية الزوج وإلزام الإسلام له بالإنفاق، لا يحق له أن يدفع الزكاة أو أي صدقة لزوجته. ولو دفعها، لكان كمن يدفعها لنفسه. في حين أن الزوجة إذا كانت ذات مال وكان زوجها فقيرا، فإنها تعطيه. فقد جاءت زينب امرأة عبد الله بن مسعود - ومعها امرأة أخرى - إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -

وسألتاه : "أتجزئ الصدقة عنهما إلى أزواجهما ؟ ". فأجابهما صلوات الله وسلامه عليه : "لهما أجران : أجر القرابة وأجر الصدقة " (1) .

__________

(1) رواه البخاري ومسلم عن زينب.

 

(1/5852)

 

 

بهذا وغيره مما يتسع المجال لعرضه، يتضح أن الدرجة التي خص الله بها الرجل لا تمس وضع المرأة، وهو وضع يزينه التكريم الذي أمر به النبي الكريم في أكثر من حديث، كقوله - صلى الله عليه وسلم -

"استوصوا بالنساء خيرا" (1) ؛ وقوله كذلك : " لا يفرك مومن مومنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر" (2) .

من خلال هذه الجوانب الخمسة تبرز المبادئ الكبرى التي جاء بها الإسلام لإعطاء المرأة حقوقها الإنسانية، وإحلالها المكانة اللائقة بها.

__________

(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

(2) رواه مسلم عن أبي هريرة، لا يفرك : لا يبغض.

 

(1/5853)

 

 

وبذلك أتاح لها أن تتحمل رسالتها في الأسرة وأن تنهض بدورها في المجتمع :

أولا : تتحمل رسالتها في الأسرة، باعتبارها أما تحمل وتضع وترضع وتربي، وتكون الأجيال الصالحة إذا صلح أمرها، وتنشئ الأجيال الفاسدة إذا فسدت حالها، كما هو معروف.

ثانيا : تنهض بدور فعال في المجتمع بطريق مباشر يتمثل في ممارستها مختلف الأعمال التي يقوم بها الرجل.

والدليل على ذلك أن المرأة في الإسلام اضطلعت بمسؤوليات عديدة، في تدبير التجارة وفي مجال الجهاد، وفي شتى ميادين العلم والحياة، بدءا من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،

 

(1/5854)

 

 

بما فيها ميدان السياسة التي يمثلها تقديم البيعة وفق ما سيأتي بعد. ويكفي أن نذكر أسماء بعض أمهات المومنين، كالسيدة خديجة رضي الله عنها في شؤون المال والتجارة، والسيدة عائشة رضي الله عنها في العلم ورواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إضافة إلى أنها كانت على رأس الجيش في حرب الجمل. واللائحة بعدهما طويلة قبل أن نصل إلى ما بلغته المرأة المسلمة في العهد الحاضر. وإن ما نشاهده في المغرب المعاصر وغيره من المجتمعات الإسلامية من اقتحام المرأة لمختلف ميادين العلم والعمل، لكاف للإقناع بمدى ما

 

(1/5855)

 

 

تتمتع به من حقوق وما تؤديه من واجبات.

هنا قد يأتي من يعترض محتجا بالحديث الشريف الذي يقول فيه النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه : " ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة". ومن غير أن ندخل في تفاصيل لا يتسع لها مجال هذا العرض، نكتفي بالقول بأن هذا حديث قال الفقهاء إن المقصود منه الولاية الكبرى - أي الخلافة - وإن اعتمد عليه الشافعية فلم يجيزوا تولية المرأة القضاء (1)

__________

(1) وهو غير ما هو معمول به في المغرب، بدليل تولية كثير من القاضيات مشهود لهن بالعدل والنزاهة. علما بأن الطبري أجاز تولية المرأة بإطلاق، وأن أبا حنيفة حصر هذا الجواز في قضاء الأموال، في حين يتجه الجمهور إلى اعتبار الذكورة شرطا في الحكم. هذا، وقد قاس الفقهاء على الإمامة الكبرى

 

(1/5856)

 

 

. والحقيقة أن المقصود منه يتضح من السياق الذي ورد فيه، الذي يربطه بما آلت إليه دولة الفرس حين تقوض أمرها، وغدت قيادتها إرثا لامرأة لا قبل لها بالحكم. إذ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - (1) : " من يلي أمر فارس؟ ". قالوا : "امرأة" قال : " ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة". ولو كان الإسلام رافضا تولية المرأة بإطلاق، لما جاء القرآن الكريم متحدثا عن بلقيس ملكة سبأ وما كان لها مع سليمان عليه السلام ومع قومها الذين وجهتهم بحكمة

__________

(1) رواه أحمد في "مسنده" عن أبي بكرة؛ وكذلك رواه البخاري والترمذي والنسائي.

 

(1/5857)

 

 

وذكاء وسداد إلى الإيمان بالله.

وفي مجال الحياة العامة، تعرض القرآن الكريم لبعض النساء اللائي كان لهن رأي وشخصية ودور، على نحو حديثه عن امرأة نوح وامرأة لوط اللتين كانتا على رأي مخالف لزوجيهما. إذ يقول سبحانه : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} (1) ؛ في وقت تحدث عن امرأة فرعون التي كانت على عكس زوجها مؤمنة، فقال عز من قائل : { وضرب الله مثلا للذين آمنوا

__________

(1) سورة التحريم، الآية 10.

 

(1/5858)

 

 

امرأة فرعون إذ قالت رب ابن عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} (1) .

 

* ... * ... *

 

وعلى الرغم من أن الإسلام بوأ المرأة هذه المكانة المرموقة التي تتمتع فيها بجميع الحقوق التي ما زالت النساء اليوم في بعض المجتمعات المتقدمة يطالبن بها، فإنه يتعرض للهجوم من الذين يبحثون عن أتفه الأسباب لبلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب بافتعال قضايا تثار لإظهار الإسلام

على غير حقيقته الوسطية المعتدلة؛ مما يفسح المجال لتيار الدين ونبذه عند البعض، ولتيار التشدد والغلو

__________

(1) نفسها، الآية 11.

 

(1/5859)

 

 

عند آخرين.

و إن من أبرز هذه القضايا التي لا تدل على غير واقع يضغط بتخلفه الفكري والاجتماعي، ما يروج حول الحجاب الذي ثار الجدل حوله في كثير من البلدان، ولا سيما الأوربية. وهو جدل يقصد منه إلى ربط الإسلام بلباس معين يتخذ ذريعة بعد ذلك للطعن في الدين، باعتباره أداة عرقلة للمرأة، أو مسا بما ينبغي أن يكون لها من حرية. وهذا رأي يجعل المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية، تشعر بأن الحجاب مظهر لفكر متحجر، وعائق يمنع من التحرك الذي تتطلبه مقتضيات الحياة الاجتماعية المعاصرة. وهو شعور قد يحسه الرجل وربما

 

(1/5860)

 

 

المجتمع كله. في حين قد تشعر امرأة أخرى في البيئات نفسها، ومعها كذلك رجال آخرون ومجتمع بكامله، أن الحجاب إنما هو عنوان عفة وحياء، ورمز للتمسك بالفضيلة، لا ينقص من المرأة ولا يعوقها عن ممارسة أي عمل.

إن اللباس من حيث هو، سواء أكان خاصا بالمرأة أم كان خاصا بالرجل، إنما هو مظهر حضاري اجتماعي خاضع للزمان والمكان، ومعرض للتغير حسب الظروف والأحوال. فما كان يلبسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم ليس هو ما لبسه المسلمون على امتداد العصور، فكيف بما نلبسه اليوم ؟

 

(1/5861)

 

 

ويكفي أن نذكر بالتطور الذي عرفه المغاربة خلال نصف القرن الأخير، سواء الرجل منهم أو المرأة. فهي في مدينة الرباط - على سبيل المثال - كانت حتى سنوات الأربعين، ترتدي " الحايك" وتضمه على وجهها فيما كان يعرف ب "التغنبيرة" أو " لعوينة"، إذ لا تبدي غير عين واحدة؛ بالإضافة إلى أن بعض النساء كن يزدن على ذلك "اللثام" الذي كان يعرف كذلك ب "النكاب"، أي النقاب. ثم انتقلت المرأة إلى ارتداء الجلباب مع النقاب. وكان الانتقال في ركاب الوعي الجديد الذي ظهر في المغرب يومئذ، وما صاحبه من نهوض لتعليم الفتيات. وكان لا

 

(1/5862)

 

 

يخلو من صعوبة بسبب موقف الذين يرفضون أن تلبس المرأة الجلباب، متشبهة بالرجال. ولم تلبث بعد ذلك أن تخلت عن هذا الجلباب للباس الجديد. ثم ظهرت العودة إليه عند البعض، وكأنه هو اللباس الصحيح؛ وكان مرفوضا من قبل. ومثل هذا يقال حتى عن الرجال الذين لم يكن لباسهم يختلف عما يرتديه النساء، إذ كانوا - ولا سيما منهم العلماء - يرتدون "القفطان" وفوقه "الفرجية" التي لم تكن تتميز عن "الدفينة" النسوية إلا في نوع قماشها ولونه الذي كان أبيض.

 

(1/5863)

 

 

وتجدر الإشارة إلى أن اللباس الذي يرتديه الجنسان اليوم، والذي يوصف بأنه "رومي" أو " أوربي"، غدا عالميا ومنتشرا في معظم البلدان، ولم يعد بذلك متميزا بصفة معينة أو خاصا بمجتمع محدد. وعلى افتراض أنه "رومي"، فإنه لا ضير منه؛ فقد لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رداء نجرانيا غليظ الحاشية" (1) .

__________

(1) كما في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه.

 

(1/5864)

 

 

ولعلنا هنا نقرأ قول الله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (1) ، وقوله كذلك من قبل : { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (2)، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - : "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة" (3) ،وقول ابن عباس : "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة" (4) .

__________

(1) سورة الأعراف ، الآية 32.

(2) نفسها ، الآية 31.

(3) رواه أحمد والنسائي عن ابن عمرو بن العاص. والمخيلة هي العجب والكبر.

(4) كما في البخاري.

 

(1/5865)

 

 

وإنه ليتضح من هذه التوجيهات أن الإسلام - في نطاق الحرية الشخصية - يحدد مقاييس تضبط اللباس وما قد يتولد عنه من سلوك يركز عليه القرآن الكريم في قوله عز وجل : { قل للمومنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم. إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمومنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أو

 

(1/5866)

 

 

التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ول

يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. وتوبوا إلى الله جميعا أيها المومنون لعلكم

تفلحون} (1) .

 

إن في هاتين الآيتين الكريمتين جملة تنبيهات أساسية، منها :

أولا : أن الأمر موجه للرجال والنساء معا، على عكس ما يتوهم البعض من أنه خاص بالنساء فقط.

ثانيا : أنه يحث على غض البصر ، أي خفضه وعدم إرساله وإطالته للتحديق وتتبع ما هو محرم، مما قد يفضي إلى الاستفزاز والإثارة. وهذا لا يعني عدم النظر،

__________

(1) سورة النور، الآيتان 30 - 31.

 

(1/5867)

 

 

وكأن المومنين مطالبون بأن تبقى رؤوسهم منحنية لا ينظرون إلا إلى أسفل بدليل قوله تعالى { من أبصارهم}. وهي صيغة تفيد التبعيض، أي بعض الغض. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي كرم الله وجهه : " لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية" (1). ويكفي بخصوص هذه النقطة أن نشير إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أباح للرجل أن ينظر إلى المرأة قبل خطبتها، إذ قال للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة : "أنظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" (2)

__________

(1) رواه الترمذي عن علي.

(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن المغيرة.

 

(1/5868)

 

 

. وأتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بأنه خطب امرأة من الأنصار فسأله - صلى الله عليه وسلم - : "أنظرت إليها ؟ ". أجاب : " لا ". قال صلوات الله وسلامه عليه : "فاذهب، فانظر إليها؛ فإن عين الأنصار شيئا" (1)

__________

(1) رواه مسلم عن أبي هريرة. والمقصود النظر إلى ما يقع بخطبتها. وقد يصل الأمر - كما عند الأوزاعي وابن حزم - إلى الجسد كله ما عدا السوأتين. وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا خطب أحدكم امرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إليها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل.

 

(1/5869)

 

 

.

ثالثا : أن غض البصر يحعل المومنين - والمومنات - ينشغلون بما هو أزكى لهم، أي أطهر وأعف وأنفع - مما هو مفيد من المحامد والفضائل والأعمال المجدية -، لأن المجتمع الإسلامي ليس مجتمع كبت وضغط ولا مجتمع مجون واستهتار، حتى يستبد موضوع الجنس باهتمام أفراده؛ ولكنه مجتمع شريف يحفظ الأعراض، ويحث على العمل الجاد الذي يشترك فيه الرجل والمرأة على السواء.

رابعا : أن المقصود بقوله تعالى: { إلا ما ظهر منها } ما جعله الله مكشوفا بالفطرة والطبيعة. وهو ما لا يثير الناظر من خفايا الجسد ومكامن الإثارة. وهذا ما جعل

 

(1/5870)

 

 

الفقهاء يفتون - كما عندنا في المذهب - بأنه لا ضير على المرأة في أن تكشف وجهها وكفيها للعموم(1) ، وأجاز بعضهم الشعر والقدمين.

__________

(1) اعتمادا على بعض الأحاديث النبوية الشريفة، كالحديث الذي رواه أبو داود عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن أسماء بنت أ[ي بكر الصديق رضي الله عنهما دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح لها أن تبدي منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه.

 

(1/5871)

 

 

خامسا: أن المرأة لا ينبغي أن تبدي زينتها ومفاتنها وتجملها، سواء ما كان من ذلك طبيعيا أو مصطنعا، إلا في الحالة التي لا تكون فيها معرَّضة ومعرِّضة للفتنة، أي حين تكون مع أقاربها وذوي المحارم.

سادسا: أن قوله عز وجل: { وليضربن لخمرهن على جيوبهن } ينبغي أن يفهم في سياق معاني مفردات التعبير القرآني الكريم. فالخُمر جمع خِمار، وهو ما تضعه المرأة على رأسها، ويقابله ما يعرف عندنا بـ"السَّبنية" أو "الدرة" وما أصبح يطلق عليه تأثرا باللغة الفرنسية: "الإشارب". والجيوب جمع جيب، وهو فتحة القميص الكاشفة للعنق

 

(1/5872)

 

 

والصدر. وكانت النساء يضعن الخمار ويلقين به على الظهر فقط.

سابعا: أن قوله سبحانه: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } يعني المشي بضرب الأقدام على الأرض، لإثارة انتباه الناس بالخلاخل التي اعتاد النساء في بلاد العرب وضعها في أرجلهن. ويدخل في ذلك كل ما يلفت النظر من عطر قوي أو ثوب شفاف أو لباس مكشوف أو ما إلى ذلك(1)

__________

(1) مما يذكر بتبرج الجاهلية الذي نهى عنه القرآن الكريم في سورة الأحزاب، الآية 33، { ولا تبرجن تبرج الجاهلية}. ومعروف أن التبرج يرتبط بمظاهر متعددة، منها أن تكون النساء "كاسيات عاريات مميلات مائلات" كما في الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم عن أبي هريرة. وقد روي كذلك في "الموطأ" و"مسند" ابن حنبل. والتبرج غير السفور الذي يجعل المرأة تكشف عن المباح من جسمها.

 

(1/5873)

 

 

؛ لأن الإسلام يريد من المرأة أن تكون شقيقة الرجل في الحقوق والواجبات، وأن تكون بهذا عضوا فاعلا ونافعا ومثمرا في المجتمع، وليس لعبة أو دمية أو أداة لهو وغواية. ثم إن الرجل في المنظور الإسلامي ليس مجرد حيوان تثير شهوته وتغريه أبسط مظاهر الزينة في المرأة التي عليه - من جانبه - أن يراعي مشاعرها فلا يسرف في مظهره وزينته.

 

إن جماع هذه التنبيهات كامن في قول الله تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون }(1)

__________

(1) سورة الأعراف، الآية 26.

 

(1/5874)

 

 

.

لقد جعل الله اللباس على ثلاث درجات:

الأولى: لباس لستر العورة، وهو ما يعتبر ضروريا ولازما للإنسان، وينبغي أن يكون عاديا غير مثير ولا لافت للنظر.

الثاني: لباس التزين والتجمل في المناسبات والأعياد، وهو المشبه بالريش، استعارة من ريش الطائر.

الثالث: لباس التقوى الذي هو رداء العفة والورع والطهارة الروحية. ويعتبر أفضل ما يمكن أن يتحلى به الرجل والمرأة على السواء. ومتى تحليا به، زال كل تخوف عليهما وعلى المجتمع من الانحلال والانهيار.

 

(1/5875)

 

 

إن القصد من هذا التوجيه الإسلامي في موضوع اللباس، مما هو مبثوث في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ليس هو التضييق على المرأة في لباسها أو في خروجها للعمل إلى جانب الرجال كما قد يتوهم كثيرون - وفيهم غير قليل من المغرضين -؛ ولكن القصد هو إشاعة آداب وأخلاق ينبغي أن يلتزم بها الجنسان معا، بعيدا عن الخلاعة والتبرج والتحلل والانحراف. وقديما قال الشاعر العربي عنترة متحدثا عن غض الطرف باعتباره من أبرز ملامح المروءة العربية: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها فهو إذا لقي جارته، لا

 

(1/5876)

 

 

يمعن فيها النظر ويدققه في تتبع لها، ولكنه يخفض بصره إلى أن تدخل دارها.

لقد ظلم الإسلام طوال عهود الانحطاط، فألصق به ما ليس منه، وارتبطت به مظاهر هي من قبيل العادات والتقاليد التي عرفتها بعض المجتمعات الإسلامية في هذه العهود، مما أشاع أنه متصل بظاهرة "الحريم" التي أساءت إلى المرأة المسلمة وخلفت عادات وتقاليد هي - بما تخفي خلف ستارها من فواحش وآثام - أبعد ما تكون عن الإسلام، وإن ألصقها به بعض الجاهلين أو المغرضين، وامتطوها للطعن فيه وفي موقفه من المرأة.

 

(1/5877)

 

 

وفي إطار هذه الظاهرة وما خلفت من مواقف متضاربة بدا توجه متشدد لا يقتصر على اللباس وما يراه من ضرورة الحجاب فيه، ولكن يتجاوزه إلى المناداة بحجب صوت المرأة، باعتباره عورة لا يجوز أن يصل إلى أسماع الرجال، خشية الفتنة، بدليل أنها لا تأذن ولا تجهر في الصلاة ولا ترفع صوتها بالتلبية في الحج. في حين أن الأمر ليس كذلك، وفق ما تدل عليه آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومواقف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من متعلقات الدين.

 

(1/5878)

 

 

وليس يخفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث النساء وكن يحدثنه. وكان صلوات الله وسلامه عليه يتلقى أسئلة من اللائي كن يستفسرنه عن مسائل دينية أو غيرها فيجيبهن، على نحو ما جاء في بعض الأحاديث النبوية التي وردت في هذا العرض. ويكفي أن نشير إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - تلقى بيعة النساء التي تحدث عنها القرآن الكريم في قوله سبحانه: { يا أيها النبيء إذا جاءت المومنات يبايعنك على أن يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ياتين ببهتان بين أيديهن وأٍجلهن ولا يعصينك في معروف

 

(1/5879)

 

 

فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم }(1)

__________

(1) سورة الممتحنة، الآية 12، وهي آيات همت بعض النساء المومنات اللائي كن يردن الهجرة من مكة إلى المدينة، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن بها، على حد ما روت السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث الوارد في "صحيح" البخاري ومسلم. وكان النبي الكريم يجري هذه البيعة على نساء الأنصار كذلك، بل كان يجريها حتى على غيرهن. ويبدو أن العمل بالآية استمر حتى بعد أن تحقق فتح مكة. إذ تحكي السيرة النبوية أنه - صلى الله عليه وسلم - جلس على الصفا يوم ثاني الفتح وأخذ البيعة من المومنين والمومنات.

 

(1/5880)

 

 

.

ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستمع إلى الشواعر ينشدن فيتأثر لإنشادهن، على حد ما روي عنه أنه سمع قتيلة بنت الحارث تبكي أخاها النضر بن الحارث - وقيل هو أبوها - وكان من أسرى بدر، وأمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقتل؛ وهي تقول:

هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل مُعرِق

ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المَغِيظ المحنَق

أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق

 

(1/5881)

 

 

فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتقٌ يعتِق

فتأثر - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لو بلغني هذا قبل قتله، لمننت عليه"(1) . ومن شديد تأثره بإنشاد هذا الشعر أنه أمر بعدم قتل أسرى قريش.

وعلى نهج الرسول الكريم سار الصحابة والتابعون، مما يكفي فيه التلميح إلى الأحاديث النبوية الشريفة التي أخذها الرواة عن السيدة عائشة رضي الله عنها. ومعروف عنها أنها كانت مكثرة، إذ ذكر المحدثون

__________

(1) ابن هشام، سيرة...، ج 2، صص. 42-43. وقد أسلمت قتيلة بعد ذلك، وهي تعد من روايات حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

(1/5882)

 

 

أنها روت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرا ومائتين وألفي حديث. وعنها روى صحابيون كثيرون، كأبي هريرة وأبي موسى الأشعري، وتابعيون كثيرون كذلك، كسعيد بن المسيب وعلقمة بن قيس وعائشة بنت طرحة التي كانت لها زميلات في التلمذة على أم المؤمنين، كعَمْرة بنت عبد الرحمن وحفصة بنت سيرين. ولا يخفى في هذا الصدد أنه شاع بين الناس حديث: "خذوا شطر دينكم عن الحميراء"(1)

__________

(1) "أو ثلث دينكم". وعلى الرغم من أن سند هذا الحديث واه، فإن معناه صحيح. والحميراء - وهو لقب السيدة عائشة - تصغير حمراء، بمعنى بيضاء، وكانت العرب تسمي الأبيض أحمر. ...

 

(1/5883)

 

 

.

إن صوت المرأة في حد ذاته ليس بعورة. وهو ليس كذلك حتى إن أدت غناء، شريطة ألا يكون في هذا الغناء ما يمس الحياء أو يخدش الأخلاق أو يقود إلى المنكر، وألا يكون في طريقة الأداء تفسخ وتحلل أو ميعة وتهتك. فقد قالت الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ وزوج إياس بن البكير الليثي(1): "جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل علي صبِيحة بُني بي فجلس

__________

(1) صحابية جليلة بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان وحضرت غزواته. وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يزورها في بيتها ليتوضأ ويصلي أو ليتناول الطعام.

 

(1/5884)

 

 

على فراشي كمجلسك مني فجعلتْ جُويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين"(1)

__________

(1) رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن الربيع. وتستفاد منه إباحة التغني بالأمجاد الدينية والوطنية، على الرغم من المواقف المختلفة من الغناء، انطلاقا من قوله تعالى في سورة لقمان، الآية5: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين }. وهي آية نزلت في النضر بن الحارث الذي كان له مجلس فيه قينات يسقين ويغنين. فكان إذا سمع بشخص يميل إلى الإسلام أو يريد الدخول فيه، دعاه إلى هذا المجلس مدعيا أن ما يقدمه له فيه من خمر وغناء هو خير مما يدعو إليه النبي الكريم. وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود أنه قال حين سئل عن هذه الآية: "والله الذي لا إله إلا هو - وكررها ثلاثا - إنما هو الغناء". وذكر الحسن البصري - كما عند الطبري - أن هذه الآية نزلت في الغناء والمزامير. هذا، ولا تخفى مواقف المذاهب الفقهية في هذا الصدد. فالأحناف والحنابلة يحرمون والشافعية والمالكية يرون الكراهة. والسبب في حقيقة الأمر ليس مرده إلى الغناء في حد ذاته ولكن ما يجر إليه من فواحش ومنكرات إذا وقع الانحراف به.

 

(1/5885)

 

 

.

هذا، وقد نبه الحق سبحانه إلى حديث النساء كيف ينبغي أن يكون مع الرجال، فقال مخاطبا أمهات المومنين: { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا}(1) . وهو خطاب موجه إلى أمهات المومنين - وعبرهم إلى النساء عامة - كي لا يتحدثن إلى الرجال بكلام فيه لين ورقة ولطافة، حتى لا يظن من يوجهن إليهم هذا الكلام أنهن يتقربن إليهم ويتحببن، ولا سيما إن كان هؤلاء من قليلي الإيمان وسيئي الأخلاق. وهو في الوقت نفسه دال على أن

__________

(1) سورة الأحزاب، الآية 32.

 

(1/5886)

 

 

محادثة المرأة للرجال مباحة إذا كانت في إطار جاد ومتزن. يؤكد هذا قوله تعالى: { وقلن قولا معروف}، أي قولا في نطاق المتعارف عليه، مما لا يمس الكرامة ولا يخدش العرض. وقد يفهم منه كذلك أنه عز وجل يدعوهن إلى أن يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر. وإن ما أدركته المرأة اليوم في شتى المجتمعات الإسلامية من تعليم بوأها مراكز عالية في الجامعات والمستشفيات والإدارات، لما يحث على تجنب أي موقف من شأنه أن يوصم بالتزمت والتخلف أو حرمان المرأة من حقوقها الإنسانية مهما تكن صغيرة أو كبيرة، أو الحيلولة دون أداء

 

(1/5887)

 

 

رسالتها في الحياة.

* * *

إن إثارة قضية الحجاب وما إليه من موضوعات جانبية، تزعم في قصدها الدفاع عن حقوق المرأة وكرامتها، لا يفضي إلى غير صرف المهتمين، بل صرف المجتمع كله، عن القضايا الأساسية التي تحتاج إلى أن يقع الانكباب عليها لما فيه تطوره. وقيه، ولما يتطلع إليه من مواكبة العصر ومستجداته والمشاركة في إبداعها وتقديمها، انطلاقا من الأصالة الحق القائمة على روح الدين الصافي وقيمه الثابتة، ومقوماته المبنية على مبدإ التغيير والتجديد والإنصاف المكرم للجنسين.

 

(1/5888)

 

 

إنه لا شك أن المرأة اليوم تشكو في العديد من الحالات حرمانها من حقوق أساسية، بل هي تعاني كذلك سوء المعاملة وقسوتها من المجتمع على العموم، ومن الرجل على الخصوص. وهي ظاهرة لا يمكن أن تجد تعليلها بعيدا عن السبب التربوي والسلوك الاجتماعي، بما يتحكم في هذا السلوك من رواسب عادات وتقاليد كانت وليدة معطيات ثقافية وحضارية خلفت أمزجة وعقليات ما زال - ويا للأسف! - شيء من آثارها في بعض الأذهان.

ولعل في هذا تفسيرا لكثير من الظلم المادي والنفسي الذي تقاسيه بعض النساء، وكذا تفسيرا لغير قليل من الحيف الذي

 

(1/5889)

 

 

يعانينه في قضاياهن بالمحاكم؛ على الرغم من جودة النصوص وصحة المساطر التي لو طبقت على نحو سليم، لأنصف أولئك النساء في مشكلاتهن.

على أنه ينبغي الظن بأن هذه الظاهرة لا تمس سوى المجتمعات الإسلامية. فما يمارس على المرأة من الرجل في كثير من البلاد الغربية المتقدمة، ليزيد في بعض جوانبه على ما تشكوه المرأة في بلاد الإسلام؛ مما يدل على أن المسألة وليدة أمزجة وعقليات وما ينشأ عنها من عقد ومركبات قد توجد في كل مجتمع. وقد تتجلى ليس عند الرجل فقط، ولكن حتى عند المرأة التي لا تخلو معاملتها له من تصرفات سيئة،

 

(1/5890)

 

 

كعدم الثقة فيه واللجوء إلى الشعوذة وما إليها من أنماط سلوكية سلبية لا تلبث أن تخلف ردود فعل شنيعة تعود عليها بالضرر.

ومع ذلك، فإن انتشار التربية والتعليم في المجتمع الإسلامي وما صاحبه من تعميم الثقافة عبر مختلف وسائل الإعلام، أنتجا وعيا جديدا عن الرجل والمرأة بحقيقة الحياة ومسؤوليتها والحاجة الملحة إلى أن يتحملا جميعا أداء الرسالة، في تعاون على الأعباء، بما فيها الأعباء المادية التي أصبحت الزوجة اليوم تشارك فيها بسهم وافر ونصيب كبير، إن لم تكن هي التي تنهض بها وحدها في بعض الزيجات.

 

(1/5891)

 

 

وإذا كان هذا الأسلوب الجديد من الحياة الأسرية يأخذ في الذيوع، فإنه يحتاج إلى أن يحصن بدعائم تربوية إسلامية، ويحتاج كذلك إلى أن يضبط بأحكام حتى لا يكون وسيلة لتخلي الرجل عن مسؤولياته، وسبيلا لإثقال كاهل المرأة وإرهاقها بالمزيد من التحملات.

وإن هذا التحصين للعلاقة بين الجنسين وضبطها، لما به تستقيم الحياة الفردية والجماعية، في نظام يحفظ للمجتمع توازنه، ولا سيما للأجيال الصاعدة منه، لما يتطلب مراجعة الذات، وإعادة النظر في السلوك الخاص والعام، وكذا في بعض النصوص التشريعية إن اقتضى الحال - كمسطرة

 

(1/5892)

 

 

الطلاق والحضانة في مدونة الأحوال الشخصية المغربية - على أن يتم ذلك في نطاق الشريعة الإسلامية ووفق ما تدعو إليه من تكريم للإنسان من حيث هو، ذكرا كان أو أنثى، وتمتيعه بحقوق إن حرم منها، فإنه لن يستطيع القيام بواجباته وأداء الأمانة الملقاة عليه.

 

(1/5893)

 

 

المغاربة في ساحل الشام تاريخهم السياسي والحضاري

(في العصر الفاطمي )

الدكتور عمر عبد السلام تدمري

الجامعة اللبنانية ، طرابلس وبيروت

...

... يرتبط تاريخ " ساحل الشام " - اعتبارا من النصف الثاني في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي - ارتباطا وثيقا بالمغاربة الذين ظهروا على مسرح الأحداث بقوة ، وذلك بعد دخول الفاطميين مصر مباشرة سنة 358 هـ/869 م وتأسيس قاهرة المعز .

... ويأتي " الكتاميون " في صدارة القوة المغاربية التي بسطت نفوذها في بلاد الشام عموما ، وفي ساحل الشام خصوصا ، وذلك بدءا من استيلاء

 

(1/5894)

 

 

قائد جيوش المغز لدين الله "جعفر بن فلاح الكتامي " على الرملة وطبرية بفلسطين . ويمكن القول إن الحكم الفاطمي في بلاد الشام قام على أكتافهم ، فمنذ أن تمكن " جعفر بن فلاح " من دخول دمشق سنة 360 هـ/971 م بدأ يقيم علاقات مع أمير التنوخيين في جبال لبنان المشرفة على بيروت ، والمعروفة في المصادر باسم " بلاد الغرب " نسبة لموقعها من دمشق حاضرة بلاد الشام ، حيث قدم " المنذر بن النعمان التنوخي " الطاعة للخليفة المعز فخلع عليه القائد " جعفر " وأقره على أعماله (1)

__________

(1) طنوس الشدياق ، أخبار الأعيان في جبل لبنان ، بيروت 1954 ، ج 2 ، ص . 500 .

 

(1/5895)

 

 

... أما بسط النفوذ والسيادة الفاطمية على كامل الساحل الشامي فقد تأخر لبعض سنين، إذ واجه القائد "جعفر " تحالفا مضادا تألف من : القرامطة والحمدانيين والعقيليين ، ولقي أمامهم مصرعه بالقرب من دمشق في أواخر سنة 360 هـ/971 م (1) إلى أن عين على دمشق ابنه " أبو محمود إبراهيم بن جعفر بن فلاح الكتامي " المعروف بالمغرب ، وتمكن من

__________

(1) المقريزي ، أنماط الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا ، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، القاهرة 1967 ، تحقيق جمال الدين الشيال .

 

(1/5896)

 

 

دخولها سنة 363 هـ/974 م (1)

__________

(1) ابن عساكر ، تاريخ دمشق ، ( مخطوط التمورية 1041 تاريخ ) ، ج 18 ، ص . 522 ؛ تهذيب تاريخ دمشق ، ج 7 ، ص . 120؛ ابن القلانسي ، ذيل تاريخ دمشق ، نشره أمدروز ، المطبعة الكاتوليكية ، بيروت 1908 ، ص . 4-9 ؛ ابن سنان وابن العديم الحلبي ، تاريخ أخبار القرامطة ، تحقيق سهيد زكار ، بيروت 1971 ، ص . 61-62 ؛ ابن أبيك الدواداري ، الذرة المضية في أخبار الدولة الفاطمية ، تحقيق صلاح الدين المنجد ، القاهرة 1961 ، ص . 1961 ؛ اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 210-211 ؛ المقريزي ، المعفي الكبير ، تحقيق محمد اليعلاوي ، طبعة دار المغرب الإسلامي بيروت ، 1411 هـ/1991 م ، ج 1 ،ص 129 ، ابن تغري براي ، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، طبعة دار الكتب المصرية ، 1962 ، ج 4 ، ص . 58 .

 

(1/5897)

 

 

وجرى في السنة نفسها تعيين " ريان الصقلبي " المعروف بخادم المغز (1) . كما دخل المغاربة مدينة صيدا وشحنوها بالجنود ، وإن كانت الولاية عليها بقيت في يد أسرة " ابن الشيخ " العربية المشرقية (2)

__________

(1) ابن شداد ، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة ، تحقيق سامي الدهان ، طبعة المعهد الفرنسي بدمشق ، 1962 ، ج 2 ، ص . 106 ؛ اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 220 .

(2) انظر عن أسرة " ابن الشيخ " بصيدا ، في كتابنا : لبنان من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الأخشدية ( 122-258 هـ/750 -969 م ) ، سلسلة دراسات في تاريخ الساحل الشامي ، طبعة جروس برس ، طرابلس 1912 ، ص . 57 ومابعدها .

 

(1/5898)

 

 

... إلا أن الحكم الفاطمي القائم على أساس مذهبي " ثيوقراطي " لم ينعم بالراحة بسبب الاختلاف في المذهب ، إذ أن أغلب أهل دمشق من السنة ، فلم يتقبلوا حكم الفاطميين وهم شيعة إسماعيلية . وزاد من تفاقم الأمور وصول مقدم العسكر الفاطمي " جيش بن الصمصامة " وهو ابن أخت القائد أبي محمود الكتاني المغربي ، فشبت الحرب بين الطائفتين، واضطرب البلد وخربت المنازل والدور ، وانقطعت المواد ، وبطل البيع والشراء ، وقطعت المياه ، وهلك الكثير من الجوع والبرد ، وانتشر الخوف في المسالك والطرقات ، مما دفع بالخليفة المعز أن

 

(1/5899)

 

 

يكلف والي طرابلس بالإشراف على تهدئة الأوضاع في دمشق ، وإخراج القائد المغربي منها (1) ولكن أهل دمشق لم يأنسوا لاستبدال قائد فاطمي بقائد فاطمي آخر ،

وتطلعوا إلى قيادة سنية ، ولذلك سرعان ما خرج شيوخها وأشرافها لمقابلة القائد التركي " هفتكين " القادم من بغداد والترحيب به ، ودعوته ليقيم بينهم ويتولى أمر دمشق وإزالة الحكم الفاطمي المتعارض مع مذهبهم (2) . وبذلك انحسر النفوذ الفاطمي في المناطق الداخلية من بلاد الشام وتجمع المغاربة في فلسطين ، وفي

__________

(1) الدولة المضية ، ص . 169 .

 

(2) ذيل تاريخ دمشق ،ص . 11 .

 

(1/5900)

 

 

المدن الساحلية .

... وجاء خروج دمشق من أيدي الفاطميين ليشكل تهديدا خطيرا لسياستهم التي كانت أهم أهدافها الوصول إلى العراق - عبر بلاد الشام - وإسقاط الخلافة العباسية في بغداد ، ولذلك كان على الفاطميين أن يتشبثوا بمواقعهم على سواحل الشام حتى تتهيأ لهم الفرصة لاستعادة دمشق من جديد . غير أن الدولة الفاطمية ما لبثت أن واجهت خطرا آخر كاد يقضي على سيادتها على ساحل الشام أيضا ، وجاء الخطر ، هذه المرة من الدولة البيزنطية ، حيث قام الإمبراطور " تزيمسكيس " ( Tzimisces ) - المعروف في المصادر العربية " ابن

 

(1/5901)

 

 

الشمشقيق " (1) - في أواخر سنة 364 هـ وأوائل 365 هـ / 976 م . بجملة برية ضخمة استهدفت أولا المدن الداخلية حمص ، وبعلبك، وإقليم البقاع ، وصلت إلى " الزبداني " بالقرب من دمشق ، ثم إلى عين الجر ( حاليا عنجر ) في البقاع بين بيروت ودمشق ، ثم تولت إلى الساحل ، فهاجمت كلا من صيدا ، وبيروت، وجبيل ، وطرابلس ، وبلنياس، وجبلة ،

__________

(1) يقال الشمشقيق ، وشميشق ، وسميسق ، وهو قريب من الصيغة الأرمنية ( chemshkik ) أو ( chemskik ) ( الدكتورالسيد الباز المريني ، الدولة البيزنطية ، القاهرة 1960 ، ص . 450 بالحاشية ) .

 

(1/5902)

 

 

وغيرها

... وقد تتبع المؤرخون من المسلمين والروم على السواء تفاصيل مسار الحملة البيزنطية وأحداثها (1)

__________

(1) انظر عن حملة " تزيمسكس " في : يحيى بن سعيد الأنطاكي ، تاريخ الأنطاكي المعروف بصلة تاريخ أوتيخا ، بتحقيقنا ، طبعة جروس برس طرابلس 1409 هـ، 1919 م ، ص . 161 ومن بعدها ؛ وابن القلانسي ، ذيل تاريخ دمشق ؛ وابن العبري ، تاريخ الزمان ، تعريب إسحاق أرملة ، نشره جان موريس فيه ، طبعة دار المشرق ، بيروت 1986 ، ص . 68 ؛ والدرة المضيئة ، ص . 170 ؛ وبسط ابن الجوزي ، مرآة الزمان ، ( مصور بدار الكتب المصرية ، رقم ( 55 تاريخ ) ، ج 11 ، ص . 55 ؛ واتعاظ الحنفا ، ج 1 ،ص .22 ؛ والنويري ، نهاية الأدب في فنون الأدب ، طبعة الهيئة العامة للكتاب ، تحقيق محمد محمد حلمي ، ومحمد حلمي محمد أحمد 1412 هـ/1992 م ، ج 28 ، ص . 150 ؛ كتابنا : لبنان من السيادة الفاطمية حتى السقوط بيد الصليبيين ( 258-518 هـ/969 - 1124م)، طبعة دار الإيمان ، طرابلس 1414 هـ/1994 م ، ص . 16 وما بعدها ، وفيه مصادر أخرى .

 

(1/5903)

 

 

، ولكنني سأركز - التزاما بعنوان البحث - على الوجود المغاربي في أثنائها على ساحل الشام ، حيث تشير المصادر إلى أن القائد الفاطمي " نصير الخادم الصقلبي " وصل إلى

بيروت بطريق البحر ومعه عسكر كثير من المغاربة للدفاع عنها (1) .كما أن " ريان الخادم " غادر دمشق بمن معه من المغاربة ليدافع عن طرابلس بعد أن جاءته الأخبار بنزول الإمبراطور لحصارها . وإلى ذلك ، فقد تحدث الإمبراطور نفسه ، في رسالة بعث بها إلى ملك الأرمن " أشوط شاهان " عن أن فرقة من

__________

(1) الدرة المضية ، ص . 170 ؛ اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 218 .

 

(1/5904)

 

 

المغاربة من حامية طرابلس ، تقدر بألفي رجل ، كانت تقوم بمهمة استطلاعية وترصد عند وجه الحجر (1) بين مدينتي طرابلس وجبيل ، وهو يدعو المغاربة بالإفريقيين ، ويضيف أن الجسارة والجرأة دفعت بهؤلاء المغاربة - الإفريقيين لمواجهة قواته ، وادعى أن قواته انقضت عليهم وأبادتهم عن آخرهم (2)

__________

(1) وجه الحجر نتو صخري ضخم يعترض الطريق الساحلي بين طرابلس وجبيل ويدخل في البحر ، وكان يشكل حاجزا طبيعيبا منيعا ، ويعرف بالأرمنية .

(2) "Chronique de Mathieu Recueil des Historiens des Croisades " documents Armébiens , vol . I, P.18.

 

(1/5905)

 

 

. فيما أفادت مصادر المؤرخين المسلمين عن انهزام الروم ، ووقوع القتلى والأسرى والغنائم بيد " ريان " وجنده عند طرابلس ، وأنهم سيروا في البحر إلى القاهرة ، وأظهر الخليفة المعز السرور ، وتصدق ، ودخل الناس عليه فهنئوه ، وقال الشعراء في ذلك ، وطيف برؤوس قتلى الروم في أسواق القاهرة (1) . وقد عاد الإمبراطور فاعترف في ختام رسالته بأن طرابلس هي التي منعته من الوصول إلى القدس .

__________

(1) اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 223 .

 

(1/5906)

 

 

... وفي تلك الأثناء حاول القائد " أبو محمد المغربي " وهو في طبرية بشمال فلسطين - أن يعود لأخذ دمشق ومعه نحو الألفين من جنوده ، فسار إلى البقاع ولكنه وقع في قبضة " شبل بن معروف العقيلي " الذي قام بتسليمه إلى " هفتكين " صاحب دمشق ، فسلمه ، هذا بدوره إلى الإمبراطورية وهو في عين الجر (1) .

... أما مدينة صيدا، فقد شحنها الفاطميون أيضا بآلاف الجند المغاربة ، يتقدمهم قائد يدعى " ابن كرامة المغربي " تفرد بذكره " ابن إيبك

__________

(1) اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص .222 ؛ المطصفى الكبير ، ج 1 ، ص .135 وج 2 ، ص .118 .

 

(1/5907)

 

 

الدواداري " في تاريخه ، وهو يتحدث عن موقعة جرت عند أبوابها بين " هفتكين " صاحب دمشق ، من جهة ، و"أبي الفتح ابن الشيخ " صاحب صيدا ، و"المنذر بن النعمان " أمير بلاد الغرب التنوخي ، و" ظالم بن موهوب العقيلي " ، من جهة أخرى .

... وفي التفاصيل ، إن " هفتكين " قصد عقب حملة الإمبراطور " تزيمسكس " في سنة 365 هـ/976 م . فتصدى له صاحبها " ابن الشيخ " ومع رؤساء ومشايخ من المغاربة ، و"ظالم العقيلي"و" رجاله من العرب " ولما عجز عن اقتحامها لجأ إلى الحيلة والخداع ، فأظهر أنه عجز عن مقاتلتهم وعاد كالمنهزم ،

 

(1/5908)

 

 

فتبادر المدافعون إلى الخروج من باب المدينة ليلتحقوا به ، ولكن « ظالم العقيلي " فطن بخبرته وتمرسه في الحروب لمكر " هفتكين " ونبه أصحابه إلى أن في الأمر مكيدة ، وإن هدف " هفتكين " هو استدراجهم إلى خارج صيدا ، ولكن تحذره لم يلق آذانا صاغية ، بل إن أحد رؤساء المغاربة وشيوخهم " ابن كرامة المغربي " اتهمه بأنه " دسيس على أمير المؤمنين " (1) .

... ووقع ما توقعه " ظالم " ، إذ استدرج " هفتكين " المدافيعن عن صيدا بعيدا عنها لعدة أميال ، حتى وصل إلى نهر في الجنوب منها ، وأمر

__________

(1) الدرة المضية ، ص . 176 .

 

(1/5909)

 

 

ساقة العسكر أن يطلبوا طريق بانياس الداخلية ، فطمع عليهم وفاجئوهم بمن معه " فلقوهم بالصدور ، وأقبلوا باللتوت (1) عليهم، و داسوهم بالخيل عليها التجافيف (2)

__________

(1) اللتوت : مفردها : لت ، وهو الفأس العظمة ، ومعرب عن الفارسية . ( السيد إدي شير ، معجم الألفاظ الفارسية المعربة ، طبعة مكتبة لبنان 1980 ، ص . 141 .

(2) التجافيف : مفردها التجفاف ، وهو يوضع على بدن الفرس لحمايته من الأدى ، وقد يلبسه الإنسان أيضا ، وهو تعريب " تنيتاه " أي حارس البدن ( معجم الألفاظ الفارسية ، ص . 24 ) وهو كسوة من النسيج محسوة تبطن بها جواشن الفرسان والخيول .

Dozy , Supplément aux dictionnaire arabes , beirut , 1968 , P . 200 .

 

(1/5910)

 

 

، فانهزموا وأخذهم السيف (1) ولم يسلم منهم إلا المخف ، فقتل شيخ المغاربة " ابن كرامة " ، وانهزم " ابن الشيخ " و"ظالم " ، وأحصى القتلى بعد انتهاء الموقعة ، فبلغوا " أربعة آلاف من عساكر المغاربة " - على حد قول المقريزي " (2) .

... ولم يستعد الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام إلا بعد انتصار الخليفة " العزيز بالله " على القرامطة وحلفائهم من القبائل العربية في مدينة الرملة بفلسطين في آوائل

__________

(1) ابن القلانسي ، ذيل تاريخ دمشق ، ص . 10 .

(2) اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 229 .

 

(1/5911)

 

 

سنة 368 هـ/978م (1) وبعد ذلك ، تولى أمر طرابلس قائد مغربي هو " نزال الغوربي الكتامي" حيث يرد اعتبارا من حوادث سنة 370 هـ/980 م . وكان تحت إمرته بها ( 6000 ) ستة آلاف رجل (2) . واكن له دور هام في مواجهة البزنطيين ، حيث نازل مدينة اللاذقية لتي كانت في أيديهم آنذاك ، ونجح هو وقائد فاطمي آخر يدعى " ابن شاكر " في أسر القائد البيزنطي المعين عليها من قبل الإمبراطور " باسيليوس الثاني " (3)

__________

(1) تاريخ أخبار القرامطة ، ص . 65 - 66 ؛ اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 244 .

(2) ذيل تاريخ دمشق ، ص . 30 .

(3) Schumberger , L’époquée Byzantine , PARIS 1925 , V.3 P. 488 .

 

(1/5912)

 

 

ويورد " النويري " هذا الخبر في حوادث سنة 372 هـ/ 982 م . ويضيف أن " نزالا " دخل القاهرة ومعه 500 أسير من الروم مقيدين بالسلاسل (1) .

... ومن جهة أخرى ، فقد أدى دورا آخر لايقل أهمية عما سبق ، وهو إعادة النفوذ الفاطمي وتثبيته في الشام ، ووضع دمشق ضمن دائرة نفوذه المباشر ، فجمع في وقت واحد بين ولايته على طرابلس ودمشق معا ، وذلك في سنة 381 هـ/991 م (2)

__________

(1) نهاية الأدب ، ج 28 ، ص . 158 - 159 .

(2) الروذاوري ، ذيل تجارب الأمم ، نشره أموروز ، مصر ، 1916 ، ج 2 ،ص. 208 -211 ؛ ذيل تاريخ دمشق ، ص . 20-24 ؛ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، طبعة صادر ، بيروت 1957 ، ج 9 ، ص . 58 و 85-86 ؛ الذرة المضية ، ص 210 و 222 .

 

(1/5913)

 

 

وبعد وفاته في السنة نفسها خلفه ابنه " المظهر . بن نزال الكتامي " على ولاية طرابلس (1) ، إلا أنه لم يكن بمستوى أبيه في الشجاعة ، إذ أبدى تخاذلا مهينا أمام الإمبراطور " باسيليوس الثاني " عندما قام بحملة إلى طرابلس وحاصرها فيسنة 385 هـ/995 م . فخرج ‘ليه " المظهر بن نزال " ومعه جماعة من وجوه أهلها ، وطرحوا أنفسهم بين يديه ، وأعلموه أنهم في طاعته ، فخلع عليهم وأحسن إليهم ، وعادوا إلى البلد على أن يسلموه إليه . وكان في البلد قاض من

__________

(1) العظمى ، تاريخ حلب ، تحقيق إبراهيم زعرور ، دمشق 1984 ، ص . 212 .

 

(1/5914)

 

 

أهله هو " علي بن عبد الواحد " ويعرف بحيدرة ، فأغلق هو والرعية الباب في وجوههم ، وأخرج عيال « المظهر بن نزال " من البلد ، فأخذهم وسار مع الإمبراطور (1) ويذكر " المقريزي " أن أهل طرابلس اجتمعوا على أن ينصبوا أخا " المظهر " مكانه (2) .

... وجاءت حملة الإمبراطورية إلى طرابلس ، وطرد واليها لتعجل بإيفاد القائد " جيش بن الصمصامة " فتولى إمرتها لفترة قصيرة من سنة 386 هـ/995 م . حيث صرفه عنها القائد "سليمان بن جعفر بن

__________

(1) تاريخ الأنطاكي ، ( بتحقيقنا ) ، ص . 229 - 220 .

(2) اتعاظ الحنفا ، ج 1 ، ص . 286 .

 

(1/5915)

 

 

فلاح " ، إذ كان " جيش " من شيوخ كتامة المغربية ، إلا أن "سليمان" كان سيء الرأي فيه لعداوة بينهما (1) . غير أن التهديد الخطير الذي كانت بلاد الشام الشمالية تتعرض له من البزنطيين دفع الخليفة " العزيز بالله " أن يجهز حملة برية أعطى قيادتها ل" ابن الصمصامة " ، الذي ما لبث أن دخل طرابلس من جديد ، كما أمر الوزير "عيسى بن نسطوس " بإنشاء أسطول بحري ليتوجه إلى طرابلس أيضا (2) وبدا واضحا أنها أضحت أهم قاعدة متقدمة للدولة الفاطمية على ساحل

__________

(1) ذيل تاريخ دمشق، ص.44.

(2) تاريخ الأنطاكي ، ( بتحقيقنا)، ص.222.

 

(1/5916)

 

 

الشام في وجه التوسع البيزنطي .

... وعندما آلت الخلافة إلى " الحاكم بأمر الله " سنة 386 هـ/996 م . أعطى ولاية الشام للقائد " سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي " ، وأمره بالخروج لتمهيد البلاد وبسط سيادة الدولة الفاطمية عليها ، وقبل أن يتوجه إلى دمشق نظر في أمور السواحل ، فصرف بعض الولاة ، وعين آخرين (1) ، فأعطى ولاية طرابلس لأخيه " علي بن جعفر " وصرف عنها "جيش بن الصمصامة " (2)

__________

(1) ذيل تاريخ دمشق، ص.48.نهاية الأرب، ج 28، ص.171؛ الشدياق، أخبار الأعيان،ج2، ص.502.

(2) المصادر نفسها، مع ذيل تجارب الأمم،ج2،ص.224؛والكامل في التاريخ، ج9، ص.119.

 

(1/5917)

 

 

. ثم أجرى حركة مثاقلات في السنة التالية 387 هـ/997 م . تولى فيها مدينة صور الأمير " فحل الكتامي " ، فدخلها في جمع كبير من المغاربة بحيث زاحموا أهلها مزاحمة شديدة وضايقوهم ، مما دفع بالأهالي إلى إعلان الثورة ضدهم ، وضد الدولة الفاطمية ، وأمروا عليهم رجلا ملاحا من رجال البحر ، يعرف ب"العلاقة " وقتلوا أصحاب الخليفة وموظفيه ، وقام أمير الثائرين بضرب السكة باسمه (1) وانفرد المؤرخ "شمس الدين الذهبي" بتوضيح

__________

(1) ونقش على النقود : "عز بعد فاقة، وشطارة بلبقاة، للأمير علاقة" ( نهاية الأرب، ج28، ص.174).

 

(1/5918)

 

 

دوافع هذه الثورة فقال : "وكان الفاطميون قد أذاقوا المسلمين القتل والنهب، حتى أن أهل صور قاموا عليهم وقتلوا فيهم، فهربوا وحتى أن أهل صور استنجدوا بنصارى الروم وكان أهل صور قد لحقهم من المغاربة من الظلم والجور وأخذ الحريم من

الحمامات والطرق أمر كبير" (1) .

... وشهدت دمشق ثورة مماثلة ضد القائد "سليمان بن جعفر الكتامي" قام بها جماعة "الأحداث" برئاسة رجل منهم يعرف ب "الدهيقين" (2)

__________

(1) الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، تحقيق أكرم البوني ، طبعة مؤسسة الرسالة بيروت 1982 ، ج 16 ، ص : 468 .

(2) ذيل تاريخ دمشق ، ص : 48 .

 

(1/5919)

 

 

. واستغل "ابن الصمصامة" تلك الأوضاع المتردية في بلاد الشام ، فأغرى "برجوان الخادم" وكان وصيا على "الحاكم بأمر الله" وأوغر صدره على القائد "سليمان" خصمه اللدود، وأطلعه على شدة بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم(1) ، فأعطاه تفويضا بتدبير أعمال دمشق وغيرها، وكانت أول خطوة اتخذها هي الخروج إلى الرملة والقبض على القائد "سليمان"، وتمكن فيما بعد من القضاء على الثورتين في صور ودمشق سنة 388 / 998 م. وأعطى ولاية صور للحمدانيين تهدئة لخواطر أهلها (2)

__________

(1) المصدر نفسه .

(2) المصدر نفسه ، ص : 51 ؛ الكامل في التاريخ ، ج 9 ، ص : 121 ؛ الأعلاق الخطيرة ، ج 2 ، ص : 165 ؛ المصفي الكبير ، ج 2 ، ص : 499 .

 

(1/5920)

 

 

، وأعطى ولاية طرابلس للقاضي "علي بن عبد الواحد حيدرة الكتامي" الذي جمع بين منصبي الولاية السياسي، والقضاء والدعوة الدينية (1) ، فيما أبقى صيدا بيد الشيخ الشيبانيين، وبيروت تابعة لأمراء الجبل التنوخيين.

... وبلغ نفوذ قاضي طرابلس "ابن حيدرة الكتامي" أقصى اتساع حازه أي قاض أو وال، قبله أو بعده، حيث وصل نفوذه إلى ما وراء مدينة حلب شمالا، وإلى مدينة

__________

(1) انظر عنه في كتابنا : لبنان من السيادة الفاطمية حتى سقوط بيد الصليبيين ( القسم السياسي ) ، ص : 58 وما بعدها ( والقسم الحضاري ) ، ص : 20 وا بعدها .

 

(1/5921)

 

 

صور جنوبا، وكانت حلب بحكم موقعها المتوسط لدائرة النفوذ البيزنطي في الشمال، والنفوذ الفاطمي في الجنوب، تعاني من حالة عدم التوازن في الحكم، وزاد من ذلك الخلافات والمنازعات التي كانت لا تفتأ مستمرة بين أمرائها الحمدانيين، وكان على طرابلس بحكم موقعها المتقدم كقاعدة فاطمية على ساحل الشام أن تقوم بمواصلة دورها السياسي في تثبيت السيادة الفاطمية، وبسط النفوذ الفاطمي إلى أقصى حدود بلاد الشام الشمالية، بعد أن مارست هذا الدور في دمشق وما حولها من قبل على عهد القائدين "ريان" ثم "نزال" وعادت في سنة 400 هـ/

 

(1/5922)

 

 

1009 م. تمارس هذا الدور على حلب وما حولها، في عهد قاضيها "ابن حيدرة الكتامي"، وقائد جندها "أبي سعادة المغربي"، حيث استنجد "مرتضى الدولة ابن لؤلؤ" الوصي على "أبي الهيجاء الحمداني" أمير حلب بالخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" ليساعده ضد صاجب ديار بكر الذي كان يطمع في الاستيلاء على حلب، وأرسل إليه يشترط على نفسه أن يقيم على المدينة واليا فاطميا من قبله (1) . فرأى "الحاكم" في ذلك فرصة ليخرج

__________

(1) ابن العديم الحلبي، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان، طبعة المعهد الفرنسي بدمشق، 1945، ج1، ص199.

 

(1/5923)

 

 

بعسكر كثيف، وضم معه القاضي "ابن حيدرة" ونجح القاضي - بشكل خاص - في إنزال الهزيمة بحلفاء الروم، وتحييد القبائل العربية عن الصراع بين الأمراء، وسجل الشاعر "التهامي" الذي صادف وجوده بطرابلس آنذاك خروج القاضي "ابن حيدرة" مشيدا بدوره في قصيدة مطلعها :

شاء المهيمن أن تسير مشرقا ... ... "حلب فقيض ما جرى وأتاحا

واردت إصلاح الأمور فأفسدت ... ... فنهضت حتى استحكمت إصلاحا

كانوا يرونك مفردا في جحفل ... ... ووراء سور إن نزلت براجا (1)

__________

(1) ديوان التهامي، تحقيق محمد زهير الشاويش، نشره المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية ( ؟ ) ص.13.

 

(1/5924)

 

 

... وكان في قلعة "عزاز" شمالي حلب غلام من غلمان "مرتضى الدولة" متهم بأنه كان يميل إلى الأمير الحمداني "أبي الهيجاء" فطلب منه "مرتضى الدولة" أن يتنازل عن القلعة، فلم يجبه الغلام إلى ذلك، وتملكه الخوف منه، ولما شدد "مرتضى الدولة" طلبه، أجابه الغلام بأنه لا يسلم القلعة إلا لقاضي طرابلس "ابن حيدرة" المستولي على النظر في طرابلس وفي سائر الحصون" (1) . ولما كان "ابن حيدرة" ما يزال عند حلب، فقد ذهب إلى "عزاز" وتسلم قلعتها، وسلمها بدوره إلى "مرتضى الدولة" ، وكتب

__________

(1) تاريخ الأنطاكي، ( بتحقيقنا)، ص .216.

 

(1/5925)

 

 

إلى الخليفة يخبره بذلك (1) .

... ويذكر "الأنطاكي" عقب هذا الخبر أن بني كلاب طالبوا "مرتضى الدولة" بالوفاء بما شرطه على نفسه من منحهم الإقطاع إن نصروه، وعندما دافعهم عنه تسلطوا على حلب، وحاصروه في القلعة وضيقوا عليه حتى احتال عليهم وقبض على زهاء سبعمائة من أمرائهم

ورؤسائهم وذوي الشجاعة فيهم، وقتل جماعة منهم، وأسر الباقين (2) .

... أما الشاعر "التهامي" الذي كان بطرابلس في ذلك الوقت، فقد ضمن ديوانه قصيدتين يفهم منهما أن بني كلاب تحركوا في جنوب "لبنان" أيضا،

__________

(1) الأنطاكي ، ص.216.

(2) نفسه، ص.218.

 

(1/5926)

 

 

ودخلوا صور فنتزعوها من يد الدولة الفاطمية، فخرج "ابن حيدرة الكتامي" لقتالهم وهزمهم بعد معركة طاحنة، فقتل من قتل من رجالهم، وفر الباقون تاركين نساءهم وراء ظهورهم، فقال "التهامي" من قصيدة :

غادرت أسد بني كلاب أكلبا ... ... ... إذ زرتهم، وزئيرهن نباحا

فنسوا النساء، ودمروت ما دبروا ... ... ورأوا بقا أرواحهم أرباحا

يتلو هزيمهم السنان كأنه ... ... ... حر ان يطلب في قراه قراحا

والسمر قد لفتهم أطرافها ... ... ... لفا كما اكتنف البنان الراحا

فمعفر حسد الحياة، وهارب ... ... ... حسد الرفات العبر والصفاحا

 

(1/5927)

 

 

حتى إذا افتنت القنا أواحهم ... ... ... قتلا، وقدمت الصفاح صفاحا

رفعوا أصابعهم إليك ونكسوا ... ... ... أرماحهم فثنين منك جماحا

وتركت أعينهم ب"صور" في الوغى ... ... ... صورا، وقد جاح الورى ما جاجا (1)

... ووضع "ابن حيدرة" عاملا على صور من قبله، وصفح عن أهلها فقال "التهامي" :

أغدى ندى كفيه "صور وأهلها ... ... ... والبدر يقلب طبع كل ظلام

ولو أن "صورا جنة مااستكثرت ... ... ... وأبيك من غلمانه لقلام

__________

(1) ديوان التهامي، ص.12.

 

(1/5928)

 

 

يعفو، فيفعل حلمه بعدوه ... ... ... ما تفعل الأسياف بالأجسام (1)

... وهكذا نرى أن قاضي طرابلس كان يبسط نفوذه إلى أقصى بلاد الشام في الشمال، وأقصى مدن "لبنان" في الجنوب.

... وقد أعاد "ابن حيدرة" إلى "مرتضى الدولة" يطلب منه إنجاز وعده الذي قطعه له وللخليفة بإقامة وال على حلب، ولكن "مرتضى الدولة" دافعه ولم يبر بوعده، فعاد إلى طرابلس بمن ورد معه (2) ، دون أ ن يحقق ما كان يرغب به الخليفة، فنقم عليه "الحاكم بأمر الله" لكونه سلم قلعة عزاز إلى "مرتضى

__________

(1) ديوان التهامي، ص.125-126.

(2) الأنطاكي، ص.217.

 

(1/5929)

 

 

الدولة" ، وبعث إلى طرابلس قائدا وخادمين معه، فقطوا رأس القاضي في شهر ذي الحجة سنة 401 هـ. وحملوه إلى مصر (1) ، وخسرت طرابلس قاضيا من أعظم قضاتها، و تعاقب على القضاء بعده إبناه : القاضي "الحسين بن علي حيدرة" (2) ، والقاضي "هبة الله بن علي حيدرة " (3)

__________

(1) زببدة الحلب، ج1، ص.200؛ طبعة دار الكتاب العربي، بيروت 1412هـ، 1992 م، ص.45-46، رقم 21، وفيه حشدت مصادر أخرى.

(2) ذكره التهاي في ديوانه، ص.112.

(3) ذكره التهامي في ديوانه، ص.176-178، وعبد المحسن الصوري في ديوانه،تحقيق مكي السيد جاسم وشاكر هادي شاكر، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1980، ج1، ص.208.

 

(1/5930)

 

 

.

... فيما بقي "أبو سعادة" يتولى قيادة عسكرها ومعظمهم من المغاربة، واستنجد به والي "المعرة" لدفع المحاصرين لبلده، فوافاه في ثلاثة آلاف رجل، وذلك في سنة 402 هـ/1011 م(1).

... ونرى في بعض النواحي من "لبنان" ابن ثعبان الكتامي "وهو يرسل عشرة أحمال تفاح إلى الخليفة "الظاهر" (2) .

__________

(1) مرآة الزمان، ( المخطوط))، ج11، ق2، ص.221-222.

(2) المسبحي ، أخبار مصر في سنتين، تحقيق وليم ج. طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980، ص.204.

 

(1/5931)

 

 

... ولما استولى "بنو أبي الفتح" على طرابلس حول منتصف القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، جاءهم الأمير "حيدرة بن منزو الكتامي" وتمكن من القضاء على حركتهم بمساعدة ابن قبيلته أيضا "أمين الدولة ابن عمار" (1) . بل إن "ابن منزو" مات وهو على صور، يتعقب "بدرا الجمالي" سنة 462 هـ/ 1070م. وكان "جلال الملك ابن عمار" صاحب طرابلس قد تزوج ابنة "حيدرة بن منزو" وأوى أخاها "معلى الكتامي" إلى صور، ثم إلى طرابلس قبل أن يحمل إلى مصر ويقتل هناك

__________

(1) ذيل تاريخ دمشق، ص.90؛ مرآة الزمان، ( المخطوط) / ج12، ص.102-102.

 

(1/5932)

 

 

(1) .

 

... وظل بنو عمار الكتاميون يقبضون على زام الإمارة في طرابلس إلى مطلع القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، مما يدل على الحضور القوي للجالية المغاربية في ساحل الشام، وبشكل خاص في الولايات الساحلية ب «لبنان» . وتجدر الإشارة أيضا إلى أن المغاربة لم يكونوا كلهم إسماعليين على مذهب الدولة الفاطمية، بل كانوا في الغالب من الشيعة الأمامية، وبعضهم من السنة على المذهب المالكي.

__________

(1) ابن عساكر، تاريخ دمشق، مخطوط التيمورية، ج42، ص.27؛ ذيل تاريخ دمشق،ص.96.

 

(1/5933)

 

 

... وتستحوذ إمارة بني عمار الكتاميين المستقلة في طرابلس الشام الكثير من الأخبار في المصادر التاريخية لمدة تنيف على الخمسين عاما، هي مدة قيام إماراتهم التي امتدت من جبلة شمالا إلى جنوبية جنوبا. ووقفت على الحياد بين الدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، والدولة السلجوقية السنية في العراق، وواجهت الحملات الصليبية حتى سقطت سنة 502 هـ/ 1109م. ودمر الصليبيون دار العلم بطرابلس وأحرقوا مكتبتها الرائعة التي قيل إنها كانت أكبر مكتبة في الدينا، وتضم نحو ثلاثة ملايين مخطوط (1)

__________

(1) جيبيون ، تاريخ الدولة الرومانية، طبعة أوربا، ج2، جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، القاهرة ، 1958،.2، ص.224.

 

(1/5934)

 

 

. وإن الحديث عن إمارة بني عمار سياسيا وعسكريا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا يتطلب كتبا قائما بذاته. كذلك الأمر فيما يتعلق بدار العلم وتأسيسها، وتطور بنائها، ونظارها، ومعلميها، وتلامذتها، والمؤلفات التي تحتويها...وبما أن المقام لا يتسع لذلك، أكتفي بهذه الإلماعية السريعة، محيلا الباحثين الكرام إلى بعض ما كتب عن بني عمار، وعن المكتبة (1) .

__________

(1) أنظر كتابنا : لبنان من السيادة الفاطمة...( القسم السياسي)، ص.142 ومابعدها. و ( القسم الحضاري)، ص.222 وما بعدها.

 

(1/5935)

 

 

... ولما كان ساحل الشام قد خضع لاحتلال الصليبيين ما يقرب من القرنين من الزمان

( 6 و 7 هـ/ 12 و 13 م )، فإن أخبار المغاربة في المنطقة انحسرت بشكل شبه كامل، ليعود ذكر المغاربة من جديد عند حملات المسلمين التحريرية لساحل الشام الصليبية، وفي عصر المماليك. وقبل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحروب الصليبية، أتوقف قليلا للتعرف على بعض المغاربة الذين نزلوا سواحل الشام وشاركوا في حركتها الثقافية، وأبدأ بأحد أعلامهم في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي وهو :

 

(1/5936)

 

 

... ° عقبة بن علقمة الفهري المعافري، أبو سعيد البيروتي أصله من المغرب، سكن الشام، ونزل ببيروت وأقام فيها فنسب إليها. وتتلمذ على إمام أهل الشام وفقيهم "عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي" الذي انتشر مذهبه في بلاد المغرب والأندلس في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكان "عقبة" يلازم "الأوزاعي" حتى عد واحدا من أصحابه العشرة الذين اختصوا بصحبته. وتفرد هو بأحاديث عن "الأوزاعي" لا يرويها غيره. وهو الذي حكى سبب موته.

 

(1/5937)

 

 

... روى عنه : انبه محمد بن عقبة ، والعباس بن الوليد البيروتي، وشيبة بن أبي ملك البيروتي، وعبد الحميد بن بكار البيروتي، وتمام بن كثير الجبيلي ( من جيبل بين بيروت وطرابلس) ، وغيرهم وهو توفي سنة 204 هـ (1)

__________

(1) ابن زير الريفي، تاريخ مولد العلماء ووفياتهم، تحقيق عبد الله بن أحمد بن سليمان الحمد، طبعة دار العاصمة الرياض 1410 هـ، ص.455؛ ابن أبي حاتم الرازي، الجرح والتعديل، ج2،ق1، ص.214؛ تقدمة المعرفة بكتاب الجرح والتعديل، ص.209-210؛ وكتبانا : لبنان من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الأخشيدية، ص.228-229 ، وفيه حشدت مصادر الترجمة.

 

(1/5938)

 

 

.

... وفي العصر الفاطمي نتعرف على شاعر كتامي الأصل، وهو :

... ° جعفر بن علي بن دواس الكتامي، أبو طاهر، المعروف بقمر الدولة وهو من أهل مصر، ولكنه نشأ بطرابلس الشام ودرس فيها، ثم رحل إلى بغداد وأقام بها مدة في خدمة "قسيم الدولة البرسقي" وكان نديما له. وكان شاعرا رقيق الألفاظ، عذب الإيراد، لطيف المعاني، وله في الغناء وضرب العود والتطريب طريقة حسنة بديعة. ذكره "العماد الأصفهاني" في " الجريدة " وأفاض في وصف براعته بالعزف على العود، والغناء ولعب الشطرنج، والنظم والنثر، وحكاية النوادر. ومن شعره :

 

(1/5939)

 

 

تعجبت "در" من شيبي فقلت لها : ... ... ... لا تعجبني، فطلوع البدر في السلف

وزادها عجبا أن رحت في سمل ... ... ... وما درت "در" أن الدر في الصدف

ولم تؤرخ المصادر لوفاته (1)

__________

(1) العماد الأصفهاني، جريدة النصر وجريدة العصر، ( قسم شعراء العراق)، ج2، ص.64-56، (قسم شعراء مصر)، ج2، ص.218-220؛ الحظيري، لمح الملح، مخطوط أحمد الثالث 2244)، ورقة 72، الملك المنصور الأيوبي، أخبار الملوك ونزهة الملك والمملوك في طبقات الشعراء، ( مخطوط لندن 269)، ورقة 229أ؛ ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، ص.224-225؛ الدرة ص.57؛ السلفي، معجم السفر، ( مصور بدار الكتب المصرية 2922 تاريخ)، ق2،ص.262.

 

(1/5940)

 

 

وبعدها، ونزل في رحلته بساحل الشام، فقرأ علي ابن رجاء بعسقلان، وإسماعيل بن عليان بارسوف، وجامع بن الخضر بصيدا، والخضر بن أحمد بصيدا أيضا، وسليم بن أيوب الرازي الفقيه بصور، ومحمد بن إسماعيل الجوهري ببيروت، وسمع وقرأ في بلاد كثيرة إلى أن قال : فجملة من لقيت في هذا العلم ثلاث مائة وخسمة وستين شيخا من آخر المغرب إلى باب فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا، ولو عملت أحدا يقدم علي في هذه الطريقة، في جميع الإسلام لقصدته. وله كتاب "الوجيز" وكتاب " الهادي" ،ثم ألف كتاب "الكامل» وجعله جامعا للطرق المتلوة،

 

(1/5941)

 

 

والقراءات المعروفة، ونسخ به مصنفاته، وذكر فيه الشيوخ الذين قرأ عليهم، وعدتهم مائة واثنان وعشرون شيخا (1) .

__________

(1) ابن بشكوال، الصلة، ج2، ص.680؛ العبر في خبر من غير، ج3، ص.260 ؛ ومعرفة القراء الكبار، تحقيق بشار بن عواد معروف، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت 1404هـ / 1984م، ج1، ص.429-422، رقم 267؛ نكت الهميان في نكت العميان، ص.214؛ ابن الجزري، غاية النهاية في طبقات القراء، ج2، ص.297-401؛ موسوعة علماء المسلمين، ق1، ج5، ص.220-222 رقم 1871.

 

(1/5942)

 

 

... هذا، عدا عشرت الأندلسيين الذين نزلوا سواحل الشام وشاركوا في الحياة العلمية، وهم يستحقون أن نفرد لهم بحثا آخر.

... أما من أعلام المغاربة الذين نزلوا سواحل الشام في فترة الاحتلال الصليبي، فنذكر :

... ° عبد الوهاب بن عيسى بن محمد، أبو محمد البسكري المغربي الفقيه المالكي، قدم دمشق وهو شاب سنة 525 هـ، وكان يختلف إلى مدرسة الفقيه أبي البركات بن عيد، ثم رزق عناية من الأمير فتحلق تحت النسر بالجامع الأموي، واجتمع في الوعظ، وفتح عليه، ودرسهم مذهب مالك في حياة الفقيه الفندلاوي، ثم شرع في الوعظ، وفتح

 

(1/5943)

 

 

عليه، فلما استشهد الفندلاوي جلس في حلقة المالكية، فلما مات "أنر" قصده ابن الصوفي رئيس دمشق، فخرج إلى بعلبك فأحسن إليه أميرها عطاء بن حفاظ السلمي الحصني. فلما جاء عطاء إلى دمشق أعاده إلى الحلقة، وعزل عنها الفقيه عيسى بن هارون.

... مات ليلة الخميس 6 رجب سنة 554 هـ (1).

 

... °عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي، أبو محمد الأشيري الصنهاجي الشيخ الحافظ مجد الدين الأشيري، نسبة إلى أشير حصن بالمغرب الفقيه

__________

(1) تاريخ دمشق، (مخطوط التيمورية)، ج25، ورقة 182؛ موسوعة علماء المسلمين ...، ق2، ج2، ص.293،رقم 644.

 

(1/5944)

 

 

المالكي.

روى عن أبي الحسن الجذامي، والقاضي عياض، وكان عالما بالحديث وطرقه وبالنحو واللغة والنسب، كثير الفضائل.

... أجاز للمؤرخ أبي المحاسن يوسف ب رافع المعروف بابن شداد صاحب "السيرة" جميع ما يرويه عن اختلاف أنواعه.

... قال "ابن شداد" : في فهرستي خطه بذلك مؤرخا بشهر رمضان سنة 559 وفهرسته عندي بذلك.

... توفي في شوال سنة 561 بالشام ودفن ببعلبك ظاهر باب حمص شمالي البلد، وقبره ظاهر ببعلبك (1)

__________

(1) ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، ج7،ص.86؛ ابن العمار الحنبلي، شذرات الذهب، ج4، ص.198؛ موسوعة علماء المسلمين...، ق2، ص.274 رقم 617.

 

(1/5945)

 

 

.

... ° محمد بن سليمان بن معالي بن أبي سعيد المغربي الشافعي له سماع للحديث، حضر مجلس الشيخة الصالحة أم الفضل كريمة حفيدة محمد بن أبي ذر الصوري من مدينة صور بساحل الشام، وسمع عليها "مسند عبد الله بن عمر" بقراءة أحمد بن إسماعيل بن فلوس، وذلك بالميطور بالبقاع، في 7 ربيع الآخر سنة 641 هـ واسمه مذكور في سماعات المسند (1)

__________

(1) مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، تخريج أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، تحقيق أحمد راتب عرموش، طبعة دار النفائس، بيروت 1981، ص.52-54؛ موسوعة علماء المسلمين...ق2،ج4،ص.22،رقم1012.

 

(1/5946)

 

 

.

... ° مروان بن عثمان، أبو الحسن الصقلي المغربي فقيه، له شعر لابأس به. قدم دمشق سنة 478 هـ، ونزل صور بساحل الشام وأنشده شيئا من شعره. ذكره "ابن عساكر" وقال : وهو رجل صدر إمام، زاهد، فقيه، عالم، أحسن الناس خطا، وأكثر في العلم حظا. وصل إلى دمشق فأنزله الشيخ الأمين أبو محمد بن الأكفاني بمنزله وتكفل بجميع حوائجه مدة مقامه عنده، ولم يكن يقبل الهدية ولا له في التكسب نية، ولم يدرس أحدا، وكان يكاد يظهر، ولم أجتمع به إلا بعد أن استأذنه الشيخ، ففسح في حضوري فحضرت ومعي

 

(1/5947)

 

 

" الجمل" ( للزجاجي) وقرأت عليه منه كراسة واحدة. وسار إلى بغداد واتصل بالخليفة وعزم عليه في تعليم ولده، فدخل داره وهناك توفي، ولم يذكر ابن عساكر تاريخ وفاته.

... وهو القائل :

... هل من لواعج البين من جار ... ... لمتسهام غريب دمعه جاري

... حيران مغترب مكتئب ... ... ذي دمع سرب كالسيل خرار

... وكلما نسمت بخديه نظمت ريح ... ... الجنوب بتاريخي وأفكاري

... فيض الدموع ونيران الضلوع معا ... ... يا قوم كيف اجتمع الماء و النار؟(1)

__________

(1) تاريخ دمشق( مخطوط التيمورية)، ج61، ص.164-165؛ موسوعة علماء المسلمين، ق2، ج4، ص.251-252 رقم 1269.

 

(1/5948)

 

 

... وكان للمغاربة دور واضح في ساحل الشام على عهد المماليك، سياسيا وحضاريا، ولا تزال آثارهم قائمة حتى الآن في عدة معالم عمرانية، وخاصة في مدينة طرابلس الشام، آمل أن أتناوله في بحث قادم إن شاء الله.

 

(1/5949)

 

 

المغاربة والجهاد البحري ضد الصليبيين

... ... ... ... ... الأستاذ عبد المجيد بهيني

كلية الآداب ـ بني ملال

 

... يكتسي الجهاد البحري أهمية خاصة للفترة موضوع الدراسة، وذلك لأنها فترة شهدت حملات وحروباً شنّها الغرب الأوربي المسيحي على البلاد الإسلامية عرفت في التاريخ العام باسم »الحروب الصليبية«. وقد استمرت هذه الحملات على مدى قرنين من الزمان، ومكنت أوربا من توطيد سيطرتها في العديد من المناطق الإسلامية المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وخاصة سواحل بلاد الشام والمناطق المجاورة لها، حيث تمكن الفرنجة من

 

(1/5950)

 

 

تأسيس ثلاث إمارات ومملكة بيت المقدس. وكان لهذه الأحداث أصداء في كل أنحاء العالم الإسلامي، أفرزت ردود فعل عبر عنها بأشكال مختلفة ومتفاوتة الأهمية. وقد سجلت المصادر وجود مشاركة مغربية مكثفة في الجهاد ضد الصليبيين بصفة عامة، والجهاد البحري في الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وبالبحر الأحمر بصفة خاصة. فما طبيعة هذه المشاركة؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار هذا الوجود المغربي بالمشرق وهذه المشاركة تجسيداً لإرادة سياسية؟

... للإجابة على هذين السؤالين، قسمنا هذه المداخلة إلى أربعة عناصر:

... ـ مقاربة منهجية.

 

(1/5951)

 

 

... ـ أسباب وجود المغاربة بمصر والشام.

... ـ مكانة المغاربة في نفوس المشارقة.

... ـ مظاهر مشاركة المغاربة في الجهاد البحري ضد الصليبيين.

I ـ مقاربة منهجية:

... 1 ـ المصادر:

... شكل موضوع »الحروب الصليبية« مجالاً خصباً لظهور مئات المؤلفات والمقالات. وقد تنوعت هذه الدراسات بتنوع الاتجاهات والموضوعات والزوايا التي نظر منها إلى هذا الحدث، حيث عولجت من زاوية غربية، وكذلك من وجهة نظر شرقية. ولم تكن هذه الدراسات لترى النور لولا وجود مادة مصدرية غزيرة ومتنوعة الأصول والمشارب. وإذا كانت هذه المادة تحتوي

 

(1/5952)

 

 

على معلومات مهمة بخصوص الأحداث العسكرية والحربية والمعاهدات والاتفاقيات، فقد خلدت كذلك أسماء العديد من الرجال الذين شاركوا في هذه الحروب، وكانت لهم فيها أدوار بارزة، سواء إلى جانب القوات الصليبية أو في صفوف القوات الإسلامية. هذا التنوع في المعلومات لا ينطبق علىموضوع عرضنا، حيث يلاحظ وجود معلومات قليلة من حيث الكم لكنها تبقى مع ذلك مهمة، إلا أنها غير متكافئة في ما بين المصادر المشرقية والمصادر المغربية؛ إذ أنه في الوقت الذي نعثر فيه على بعض الإشارات المتفرقة في المؤلفات المشرقية على اختلاف

 

(1/5953)

 

 

أجناسها، تكاد المصادر المغربية تخلو ـ حسب علمنا ـ من المعلومات التي تفيد موضوع جهاد المغاربة البحري في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إبان هذه الفترة؛ الأمر الذي يجعل مهمة الباحث صعبة جداً في التعامل مع هذه الإشارات ذات النظرة الأحادية، ويفسح المجال، في غياب وثائق واضحة وصريحة، للقياس والاستنتاج. وفي هذا الإطار، وأمام ندرة المعلومات، عمدنا إلى استغلال كل الإشارات التي وردت في المصادر والدراسات وحاولنا التنسيق بينها، رغبة في استنتاج بعض الحقائق.

 

(1/5954)

 

 

... من المصادر التي اعتمدناها لإنجاز بعض عناصر هذه الدراسة نذكر "كتاب الاعتبار" لأسامة بن منقذ (ت 1188 م)، و"الرحلة" لابن جبير الأندلسي (ت 614 هـ/ 1217 م)، وكتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (ت 630 هـ/ 1232 م)، و"الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة الدمشقي (ت 665 هـ/ 1268 م)، وكتاب "الذيل على الروضتين" المعروف بـ" تراجم رجال القرنين السادس والسابع" للمؤرخ نفسه، ثم كتاب " الإلمام بالإعلام لما جرت به الأحكام المقضية في وقعة الإسكندرية " لمحمد بن القاسم النويري السكندري

 

(1/5955)

 

 

المالكي (عاش في القرن الثامن الهجري) (1)

__________

(1) هو غير شهاب الدين النويري صاحب كتاب "نهاية الأرب في فنون الأدب" المتوفى سنة 732 هـ/ 1332 م. وكتاب "الإلمام" هو مخطوط بدار الكتب المصرية. وقد أورد السيد عبد العزيز سالم بعض الصفحات والفقرات منه في كتابه المفيد: "تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي"، الإسكندرية، ط 2، 1969 م. واعتمد عليه أحمد مختار العبادي في كتاب "تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام"، القسم الثاني، دار النهضة العربية، بيروت، 1981. وقد اعتمدنا بدورنا في اقتباس بعض نصوص "الإلمام" على المرجع الأخير.

 

(1/5956)

 

 

، وكتابا "السلوك لمعرفة دول الملوك" و"المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" لتقي الدين أحمد المقريزي (ت 845 هـ/ 1442 م)، ومصادر أخرى...

...

... 2 ـ الدراسات:

... يبدو أن قلة المعلومات في المصادر، المغربية على الخصوص، هي التي يمكن أن تفسر قلة اهتمام الباحثين بموضوع مشاركة المغاربة في الجهاد البحري ضد الصليبيين بسواحل بلاد الشام ومصر. ومع أنه لا توجد ـ حسب علمنا ـ دراسة مخصصة لهذا الموضوع، فإن هنالك من الأبحاث والمؤلفات ما أشار إلى بعض عناصره في إطار اهتمامات وانشغالات بقضايا أخرى.

 

(1/5957)

 

 

... من بين الدراسات نذكر كتاب "تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام"(1) للسيد عبد العزيز سالم وأحمد مختار العبادي حيث أوردا بعض الإشارات المتعلقة بمشاركة البحريين المغاربة في مهاجمة سفن الصليبين، وبالعناية التي أولاها المشارقة لهؤلاء إبان العهدين الأيوبي والمملوكي. ثم هناك كتاب "الأندلسيون والمغاربة في بلاد الشام من نهاية القرن الخامس وحتى نهاية القرن التاسع الهجري"(2)

__________

(1) دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1981 م.

(2) دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1989.

 

(1/5958)

 

 

لأحمد علي الذي خصص بعض السطور للحديث عن انخراط المغاربة في جيش نور الدين محمود بن زنكي (511 هـ/ 569 هـ) في حربه ضد الفرنجة ببلاد الشام، وعن مسألة الأسرى. ونذكر كذلك كتاب الأستاذ عبد الهادي التازي عن "التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم"(1) في عشر مجلدات حيث يبرز في بعض فقراته الدور العسكري والحربي للمغاربة بالمشرق، ويحاول ربط هذا الدور برغبة سياسية مغربية مبنية على التعاون بين المغرب والبلدان

__________

(1) مطابع فضالة، المحمدية، المجلدان السادس (1407 هـ/ 1987 م) والسابع (1408 هـ/ 1988 م).

 

(1/5959)

 

 

المشرقية. لكن إن صح ذلك في فترات معينة من تاريخ علاقات المغرب بهذه البلدان، فإنني أعتقد أنه لا ينطبق على الإطار الزمني الذي رسمته لهذه المداخلة. ثم هناك دراسة لصاحب هذا المقال نشرت في مجلة "المناهل"(1) سلطت الأضواء على الأثر الواضح الذي تركه المغاربة ـ بالمفهوم الواسع للكلمة ـ بالمشرق في شتى

__________

(1) عبد المجيد بهيني، »أثر مهاجري المغرب الإسلامي في الحياة العامة بالمشرق خلال القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني والثالث عشر الميلاديين«، مجلة المناهل، العدد 53، دجنبر 1996، ص ص. 138 ـ 157.

 

(1/5960)

 

 

المجالات، ومن بينها المجال العسكري والجهاد ضد الصليبيين(1).

...

II ـ أسباب وجود المغاربة بالبلدان المشرقية

... في أغلب الحالات وانطلاقاً من المعلومات المتوافرة في كتب التراجم، نستنتج أنه من الصعب تحديد تاريخ مدقق لتوافد المغاربة على المشرق بشكل عام على الرغم من ذكر بعض الرحالة والعلماء والتجار لتواريخ وأسباب رحلاتهم(2)

__________

(1) وهو الأمر الذي جعلني أفكر في تعميق الدراسة في موضوع جهاد المغاربة البحري على عهد الحروب الصليبية.

(2) انظر بهذا الخصوص: أبو شامة، تراجم رجال القرنين السادس والسابع المعروف بـ"الذيل على الروضين"، دار الجيل، بيروت، ط. 2، 1974، ص . 7 و 186.

 

(1/5961)

 

 

؛ مع ذلك، ليس من العسير إستنتاج أسباب وجودهم بالبلدان المشرقية، وذلك باعتبار الظروف والتطورات التي طرأت على الساحة السياسية بالغرب الإسلامي. ففضلاً عن الرحلات العلمية والدينية، يمكن تلخيص هذه الأسباب في ما يلي:

... ( سقوط الخلافة الأموية بالأندلس، وظهور ما يسمى في تاريخ هذه المنطقة بـ »دويلات ملوك الطوائف«، ونتائج ذلك على أوضاع الأندلسيين الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.

... ( تعاقب أسر ذات مبادئ إيديولوجية وعقائدية مختلفة على حكم هذه المنطقة بعد سقوط ملوك الطوائف تتمثل في: دولة المرابطين (485

 

(1/5962)

 

 

ـ 541 هـ/ 1092 ـ 1146 م)، ودولة الموحدين (541 ـ 668 هـ/ 1146 ـ 1270 م). هذا التبدل في الدول رافقه تبدل عقائدي، الأمر الذي أضر بمصالح فئة مهمة من الأندلسيين أصبحت معارضة للحكم، وتمخض عنه حروب شبه مستمرة بين الدول الحاكمة والمعارضين تسببت في اضطراب الأوضاع بالأندلس، مما دفع بالكثير إلى الهجرة إلى أقطار أخرى.

... ( ما تمخض عن حروب الاستردادات (التي انتهت بشكل نهائي في حدود 659 هـ/ 1261 م باستثناء غرناطة 1492 م) من إجراءات قاسية فرضت على كل من أثر البقاء من العرب المسلمين في مدنهم شروطاً بلغت حداً

 

(1/5963)

 

 

من الإهانة لا يطاق، مما أجبر أعداداً كبيرة من الأندلسيين على النزوح عن أرضهم إلى أقطار عربية إسلامية متعددة(1).

... وفيما يتعلق بالمغرب، تكمن الأسباب في:

... ( نقل مركز حكم الدولة الفاطمية إلى مصر، وآثار ذلك على النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمنطقة بلاد المغرب (فقدان إفريقية لمكانتها الاقتصادية نتيجة اهتمام الفاطميين بالمشرق ـ التنافس في أمور التبذير بين الولاة الذين تركهم الفاطميون في المهدية وبين أسيادهم في القاهرة، إلخ).

__________

(1) علي أحمد، المرجع السابق، ص. 90.

 

(1/5964)

 

 

... ( دخول قبائل بني هلال وبني سليم إلى إفريقية، وما نتج عن ذلك من خراب وتدمير أوقع البلاد في حالة من الفوضى والاضطراب الدائمين.

... ( الهجوم النورماندي على إفريقية، واستيلاء ملوك صقلية المسيحيين على المهدية وكل المناطق الساحلية.

... ( بداية تفوق أوربا في الملاحة وانعكاس ذلك على الأحوال الاقتصادية.

... ( قيام الدولة الموحدية وما ترتب عليه من مضايقة أنصار النظام السابق.

 

... صحيح أن هذه المعطيات التاريخية تلقي الضوء على أسباب وجود المغاربة بمناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وتساعد على فهم الإطار

 

(1/5965)

 

 

العام لهجرتهم ونزوحهم، لكن هنالك أيضاً نصوصاً مباشرة ومعاصرة لفترة موضوعنا تمكننا من فهم بعض أسباب هذا الوجود. فهذا أسامة بن منقذ يذكر أن الفرنجة استولوا، في حدود منتصف القرن السادس الهجري، على مركب كان يقل على متنه حوالي أربعمائة نفس، رجالاً ونساءً، من الحجاج المغاربة وأن المشارقة أولياء الأمور، ومن بينهم أسامة نفسه، عملوا كل ما في وسعهم من أجل افتدائهم من أيدي الصليبيين(1).

__________

(1) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، تحرير فيليب حتي، مكتبة الثقافة الدينية، ص. 81.

 

(1/5966)

 

 

... ويخبرنا أبو شامة عن مغاربة أندلسيين قدموا إلى دمشق في سنة 627 هـ بعدما تم افتكاكهم على ساحل الشام من أيدي الفرنجة(1).

... ويفترض كلود كاهن (Claude Cahen) ثلاثة أصول محتملة لوجود المغاربة بالبلاد المشرقية: حجاج ألقى عليهم الفرنجة

__________

(1) انظر أدناه. ويتحدث أبو شامة أيضاً عن حالة هجرة الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله الضرير الأندلسي الإشبيلي الذي »ورد من الأندلس في سنة إحدى وعشرين وستمائة في البحر، فأسرته الفرنج ثم نجاه الله منهم... سكن دمشق...«، حيث توفي سنة 648 هـ ( تراجم رجال القرنين، ص. 186).

 

(1/5967)

 

 

القبض في طريقهم إلى الحج، أو كان قد طال مقامهم من أجل المشاركة في الجهاد فأسروا، وتجار كان لهم المصير نفسه أو تجار وحجاج أسرهم في البحر القراصنة الصليبيون وباعوهم على سواحل بلاد الشام. هذه الاحتمالات تنسجم مع ما جاء في الإشارات الآنفة الذكر بالرغم من أن كاهن (Cahen) يقر بعدم وجود أمثلة ملموسة تسمح باعتماد فرضية محددة لتفسير هذا الوجود(1)

__________

(1) C. Cahen, «Ibn Jobayr et les Maghrebins de Syrie», R.O.M.M, N° 13-14, 1973, p. 208;

 

... كلود كاهن، الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية، ترجمة أحمد الشيخ، سينا للنشر، القاهرة، ط. 1، 1995، ص. 176.

 

(1/5968)

 

 

.

... على أن من بواعث توافد المغاربة على المشرق، يمكن أن نذكر الرغبة الملحة في المشاركة في الجهاد وتحرير المدن الإسلامية التي سيطر عليها الصليبيون عموماَ، وبيت المقدس على الخصوص(1).

... بعد هذا الجرد للظروف والتطورات التي أسهمت في هجرة المغاربة ونزوحهم من الغرب الإسلامي، سنحاول في عنصر آخر مناقشة أسباب اعتماد الحكام في كل من مصر والشام عليهم في ميدان البحر.

...

III ـ مكانة البحارة المغاربة في نفوس المشارقة

__________

(1) ابن جبير، الرحلة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، 1981، ص. 247.

 

(1/5969)

 

 

... كان للموقع الجغرافي ولطبيعة المغرب الإسلامي دور بارز في تمرّس المغاربة بأمور البحر. وقد لاحظ ابن خلدون ذلك عندما قال:

... والساكنون بسيف هذا البحر (البحر الأبيض المتوسط) وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار. فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله. ولما أسف من أسف منهم إلى ملك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى إفريقية، والقوط إلى المغرب، أجازوا في الأساطيل وتغلبوا

 

(1/5970)

 

 

على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة... وطنجة. وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد، فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حقاً فيه معروفة في القديم والحديث(1).

 

... هذا التمرس، وما ترتب عليه من شهرة بحرية للمغاربة، أشادت به المصادر التاريخية وكتب الرحلة ليس في الغرب الإسلامي فقط، ولكن في المشرق كذلك. فيذكر المقريزي

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، دون تاريخ، ص. 199.

 

(1/5971)

 

 

مثلاً أن فقراء المغاربة الذين وجدوا في القاهرة قد أكرههم الفاطميون على الخدمة، دون تمييز، في الأسطول المصري(1) لكونهم يتمتعون بسمعة حميدة، وأيضاً لشهرتهم في ميدان البحر. ويتعلق الأمر هنا بأهل إفريقية على الخصوص(2). أما ابن سعيد المغربي، فقد ذكر أن الأساطيل كانت وقفاً على المغاربة

__________

(1) المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، بولاق، 1270 هـ/ 1853 م، ج 1، ص. 368.

(2) جواتياين، دراسات في التاريخ والنظم الإسلامية، تعريب وتحقيق عطية القوصي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 1، 1980، ص. 245.

 

(1/5972)

 

 

لمعرفتهم بمعاناة الحرب والبحر(1). كما أن العدد الأعظم من البحريين (نواتية الأسطول) في العصر الفاطمي كانوا مغاربة عرفوا بمهارتهم في قيادة السفن والملاحة في البحر منذ وقت مبكر(2).

... واستخدم صلاح الدين الأيوبي ـ من جهته ـ الملاحين المغاربة في أساطيله في إطار قيامه بالإصلاحات التي استهدفت تقوية الأسطول المصري(3)

__________

(1) المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1949، ج 3، ص. 111.

(2) أحمد مختار العبادي، المرجع السابق، ص. 130.

(3) المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، نشر وتحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1936، ج 1، ص. 45.

 

(1/5973)

 

 

الذي لم يكن قادراً في نهاية حكم الدولة الفاطمية على التصدي للأسطول الإيطالي أو إلحاق الهزيمة به(1).

... وبخصوص اهتمام صلاح الدين بالملاحين المغاربة، أورد العماد الكاتب الأصفهاني (ت 597 هـ) إشارة على قدر كبير من الأهمية تفيدنا في فهم الدور الذي أدّاه هؤلاء على الصعيد العسكري بصفتهم مقاتلين أشداء. مفاد هذه الإشارة أنه أثناء حصار الجيوش الإسلامية لمدينة عكا سنة 587 هـ/ 1191 م، جاء رسول من قبل أحد قادة الصليبيين ومعه أسير مغربي، فقدمه إلى السلطان صلاح الدين

__________

(1) كلود كاهين، المرجع السابق، ص. 117.