Translate

الأربعاء، 22 مارس 2023

ج9. مجلة التاريخ العربي

ج9. مجلة التاريخ العربي

وينقل نصوصا من البيان والتحصيل كما هي كما اقتبس من المقدمات الممهدات عدة نصوص مع تسمية الكتاب(1) .

... وقد كان لأمهات كتب المالكية قبل الدولة الموحدية ورجال الفقه حضور أثناء هذا العهد في آرائهم ونصوصهم، فمن ذلك العتبية لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بالعتبي (ت 255ه) وسمى المستخرجة، وهي التي شرحها ووجهها ابن رشد الجد ، واقتبس منها بن القطان وابن رشد (2) .

__________

(1) انظر : ص. 144، 322.

(2) انظر إحكام النظر، ص. 122؛ وانظر : ابن رشيد، بداية المجتهد، ج8، ص. 82.

(1/6834)

... والمجموعة لابن عبدوس، محمد بن إبراهيم بن بشير (ت 260ه ) الإمام الزاهد الثقة. وقد وصفها الخشني بقوله(1) وألف كتابا شريفا سماه المجموعة على مذهب مالك وأصحابه، وهي نحو خمسين كتابا وقد اقتبس منها الحافظ ابن القطان في إحكام النظر(2) .

... وكانت غير هذه الكتب من أمهات المالكية تذكر وآراؤهم تتداولها حلقات الدرس بدءا من ابن القاسم إلى حبيب الأندلس وكتابه الواضحة وغيرهم، وأشهب، وأصبغ بن الفرج، وبن دينار وعبد الله بن وهب بن كنالة ... وغيرهم .

__________

(1) انظر : ترتيب المدارك، ج4، ص. 223.

(2) انظر : ص. 306.

(1/6835)

... وإن تدقيقا وتفحصا في تطور المذهب المالكي ومصنفاته يؤكد لنا أن هؤلاء هم بناة المذهب فما كان العهد الموحدي عهد خمول للمذهب المالكي كما هو شائع، بل عهد تجديد وتمحيص ودعم بالأدلة والحجج ببعث أمهات كتبه وإحياء مصنفات رواده، وقد أكدنا ذلك في بحث آخر لنا يتمم هذا البحث(1) ، ولهذا نستطيع القول بأن الفقه المالكي قد جدد شبابه خلال العهد الموحدي .

__________

(1) تحت عنوان المذهبية في فكر أبي الوليد بن رشد، ضمن ندوة ابن رشد في حاضرة مراكش، سنة 1997.

(1/6836)

... وإذا كان للفقه المالكي رسوخ في المجتمع المغربي والأندلسي قبل العهد الموحدي وأثناءه، فإن المذهب الشافعي كان له حضور أثناء العهد الموحدي ولكتبه سوق نافقة، وسأذكر طائفة الأئمة الذين وقع الاقتباس من كتبهم؛

... * فمنهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي صاحب المذهب المتوفى204 ه، وكان عديد من كتبه حاضرا واقتبس ابن القطان في كتابه الإقناع من كتابيه الرسالة، واختلاف الحديث نصوصا عديدة(1) .

__________

(1) انظر : الإقناع، الأرقام التالية : 182، 256، 508، 537/ 758.

(1/6837)

... * ومنهم محمد بن نصر المروزي شيخ الإسلام المتوفى 294 ه، وهو أحد أئمة الدنيا ممن جمع وصنف في فنون العلم، وبرع في الحديث وفقهه، واختلاف العلماء والأحكام، وله كتب جليلة مطبوعة، منها : اختلاف العلماء، وقد اقتبس الحافظ لبن القطان نصوصا كثيرة في كتاب الإقناع(1) .

... * ومنهم الإمام محمد بن المنذر النيسابوري شيخ الحرم المتوفي 318ه صاحب المصنفات التي يحتاجها الموافق والمخالف، كالإشراف على كذاهب العلماء، والإجماع، والأوسط، والتفسير وغيرهاو من كتابه الإشراف على مذاهب العلماء أكثر

__________

(1) انظر منها رقم 384.

(1/6838)

الاقتباس ابن القطان في كتابه الإقناع وإحكام النظر(1) .

... * ومنهم الإمام أحمد بن محمد الأسفيرايني المتوفى 408ه أبو حامد، انتهت إليه في عصره ببغداد رئاسة الدين والدنيا ، قال السبكي : ما جاء بعد أبي العباس ين سريج من اشتهرت كتبه، وكثرت تلاميذته واتسعت أقواله وبعد عن القرين في زمانه وله كتب منها التعليقة، وهي شرح حختصر المزني، وكتاب في أصول الفقه، ومختصر يسمى : الرونق(2)

__________

(1) انظر : إحكام النظر، ص. 145؛ وفي الأقناع كثير جدا من نصوصه.

(2) انظر : الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 126؛ وطبقات الشافعية، ج4، ص. 61.

(1/6839)

.وقد اقتبس الحافظ ابن القطان في إحكام النظر كثيرا من الأسفيرايني مما يدل على انتشار كتبه(1) .

... * الإمام الجليل أبو سعيد الإصطخري الحسن ين أحمد القاضي المتوفى 328ه قال الخطيب البغدادي أحد الأئمة المذكورين، ومن شيوخ الشافعيين،ولي قضاء قم، وحسبهة بغداد، وله آراء ومواقف فقهية، ومن أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي قال الشيرازي : صنف كتابا حسنا في أدب القضاء وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان في إحكام النظر(2)

__________

(1) انظر : إحكام النظر، ص. 381، 386، 393، 205.

(2) انظر : إحكام النظر، ص. 380؛ وانظر ترجمة في : تاريخ بغداد، ج7، ص. 268؛ وطبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص.230؛ والشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 111.

(1/6840)

.

... * زمنهم الإمام الزاهد شيخ الخراسانيين عبد الله بن أحمد بن عبد الله يعرف بالفقال الصغير المروزي (ت 417ه) قال السبكي : ليس هو بالقفال الكبير، هذا أكثر ذكرا في الكتب، أي كتب الفقه، ولا يذكر غالبا إلا مطلقا، وذاك أطلق فيه بالشاشي، وكان من أعظم محاسن الدنيا، إماما كبيرا وبحرا عميقا، غواصا على المعاني الدقيقة، نقي القريحة، وثاقب الفهم، عظيم المحل كبير الشأن ... له في فقه الشافعي وغيره من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره(1) وقد اقتبس منه الحافظ ابن

__________

(1) انظر : طبقات الشافعية الكبرى، ج5، ص. 53.

(1/6841)

القطان(1) .

... * ومنهم الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المتوفى 505ه الذي طبقت شهرته الآفاق وملأت القماطر في ضروب العلم وفنون المعرفة. أما في جانب الفقه والأصول، وكان شافعي المذهب، فله فيها الباع الطولي، والقدم الراسخة وكتاباه المستصفى، والمنخول في الأصول عمدة في هذا العلم، أما كتبه الفقهية فمنها الوجيز وهو عمدة في المذهب الشافعي وصفه أبو القاسم الرافعي بقوله : غزير الفوائد، جم العوائد، وله القدم المعلى والحظ الأوفى من استيفاء أقسام الحسن والكمال، واستحقاق صرف

__________

(1) انظر : إحكام النظر، ص. 231.

(1/6842)

الهمة إليه، والاعتناء بالأكباب عليه والإقبال ، وله كذلك في الفقه: الوسيط ،والبسيط، والخلاصة.

... ومن كتب الفائقة إحياء علوم الدين، وكان له شأن في الغرب الإسلامي في دولة المرابطين ونظرا لأن الغزالي كان شيخ المهدي بن تومرت إمام الدولة الموحدية فقد كان لكتبه انتشار وحضور في العهد الموحدي، مع ما لها من قوة وريادة في ذاتها، وقد وقع الاقتباس من كتبه الفقهية كثيرا كما في أحكام النظر لابن القطان(1)

__________

(1) انظر عن سبيل المثال في الاقتباس : إحكام النظر، ص. 185، 231، 233، 279، 290، 321، وغيرها؛ وانظر ترجمة مطولة مفصلة للإمام الغزالي في : السبكي، طبقات الشافعية، ج6، ص. 191 وما بعدها.

(1/6843)

.

... وهؤلاء الأعلام من المذهب الشافعي، وكتبهم الفائقة تعطي خلاصة المذهب الشافعي وأدلته ونظرته للقضايا والأحكام .

... أما الفقه الحنفي وأعلامه، فقد ثبت عندي أن عددا منهم كان لهم حضورفي العهد الموحدي ولكتبهم مجال واسع في الحركة الفقهية الموحدية لما لكتبهم وآثارهم من مكانة وقوة فمنهم :

... * ناصر المذهب الحنفي بالحجة والدليل، وناشره بالبيان والتأصيل الإمام الحافظ الحجة أبو الطحاوي المتوفى 321ه ، وكتب هذا الإمام زينة المذهب الحنفي وركيزته ، وهي كثيرة وعديدة، أقبل عليها علماء المذاهب كلها من عصر

(1/6844)

مؤلفها إلى يومنا هذا ، ومنها : مشكل الآثار واقد اختصره عدد من المالكية المغاربة، ومنهم أبوالوليد بن رشد الجد المتقدم ذكره ،واختصاره مشهور، وله بقية في المكتبات حري أن يبحث عنها، وتنشر، ومنهم الإمام أبو الوليد الباجي المتوفى 474ه المتقدم ذكره، وله بقية في المتحف البريطاني. ومن كتب الإمام الطحاوي، كتابه العجيب : شرح معاني الآثار، وهو مطبوع.

... وله اختلاف العلماء، ويقع في نحو مائة وثلاثين جزءا حديثيا أي في نحو ألفين ومائتين وثمانين ورقة، ويذكر فيه المسألة الفقهية، وأقوال الأئمة الأربعة وأصحابهم،

(1/6845)

والإمام النخمي، والبتي، والأوزاغي، والثوري، والليث بن سعد، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى والحسن بن حي، وغيرهم من الأقدمين الذين صعب علينا اليوم الاطلاع على آرائهم في المسائل الفقهية، وقد اختصره غير واحد، وله كذلك بقية حري بالباحثين أن يبحثوا عنها. وله كذلك أحكام القرآن، وقال القاضي عياض : للطحاوي في تفسير القرآن ألف ورقة ، وهو الأحكام.

... وله المختصر في الفقه كمختصر خاله الإمام المزني، وهو مطبوع متداول وعليه شروح كثيرة . وله كتب أخرى جليلة في الفقه والحديث والعقيدة، ومنها عقيدته التي تداولها

(1/6846)

المسلمون شرقا وغربا وأجمعوا عليها.

... ونظرا لأن كتب الطحاوي تنافح عن المذهب الحنفي بالأدالة والأصول فقد حظيت بالمكانة والتداول والاعتبار في العصر الموحدي، واقتبس منها الحافظ ابن قطان كثيرا(1) .

... * ومنهم : الإمام القدوري أبو الحسين أحمد بن محمد المتوفى 428ه نسبته إلى بيع القدور أو صنعها(2)

__________

(1) انظر الاقناع ، الفقرة : 420، 458، 507، 511، 415، 649ومواطن أخرى كثيرة وترجنته مشهورة انظر : الكنوي، الفوائد النهية في تراجم الحنفية، ص. 31؛ والشيرازي، طبقات الفقرة، ص. 142.

(2) انظر ترجمة في : تاريخ بغداد، ج4، ص. 377؛ والفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص. 30.

(1/6847)

، وهو من شيوخ الخطيب البغدادي ، قال عنه : كتبت عنه وكان صدوقا، وانتهت إليه بالعراق رئاسة الحنفية وعظم وارتفع جاهه ...ومصنفاته في المذهب الحنفي جليلة معتمدة وعلى رأسها المختصر الذي أصبح اسم (الكتاب) علما عليه عند الفقهاء الحنفية، كما أصبح اسم الكتاب عند النحويين علما على كتاب سيبويه وله من الكتب التجريد في سبعه أسفار يشمل على الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وله التقريب الأول والتقريب الثاني، وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان كثيرا مؤكدا على أنه يأخذ نصه(1)

__________

(1) انظر : إحكام النظر، ص. 287، 303، 313، 322، 355، 381، 448 وغيرها في مواصع كثيرة.

(1/6848)

.

... أما أعلام الحنابلة في الفقه، فلم أجد لهم ذكرا سوى ما كان في جانب الحديث والتصنيف فيه، ولم أعثر على كتاب فقهي مبسوطا كان أو مختصرا ينسب للحنابلة، وذلك راجع والله أعلم إلى أن الفقه الحنبلي لم ينتشر ويتقعد وتمم مؤلفاته إلا مع المقادسة في نهاية القرن الخامس الهجري .

... وأما أئمة الظاهرية وكتبهم فقد كان لها رواج في الدولة الموحدية، ووجدنا نصوصا نادرة ولها شأن كبير مما يدل على غضمة المؤلفات التي أخذت منها، وجلالة مؤلفيها وقد وجدت الحافظ ابن القطان ينقل مسائل الظاهرية من كتبهم، ويفتش عن آرائهم

(1/6849)

من مصادرهم فمن ذلك قوله : وما يحكي عن داود من إباحة النظر إلى الفرج، لم أره عنه في كتب أصحابه ...(1) . ومن أعلام الظاهرية الذين تردد صداهم في حقبة الموحدين في المغرب الإسلامي:

... * محمد ابن داود بن علي بن خلف الظاهري المتوفى 274ه وعمره إثنتان وأربعون سنة وأبوه مؤسس المذهب الظاهري، وكان محمد هذا فقيها كبيرا، وأديبا مناظرا، يناظر أبا العباس بن سريج الشافعي، أمثاله من الكبار، وكان يضرب به المثل في ذكائه، وكان ذا بصر تام بالحديث، وأقوال الصحابة، وكان يجتهد ولا يقلد

__________

(1) إحكام النظر، ص. 392، 393.

(1/6850)

أحدا، وأثنى عليه الأئمة في دينه، وورعه وعلمه، وله مؤلفات جليلة منها : الإعذار، والإنذار، والتقصي في الفقه، والإيجاز والانتصار من محمد بن جرير الطبري ، والوصول إلى معرفة الأصول، واختلاف مصاحف الصحابة، وغير ذلك.

... وقد نقل الحافظ ابن القطان في كتابه الإقناع نصوصا كثيرة من كتابه الإيجاز(1) ، وهذا الكتاب أي الإيجاز لم يتممه محمد بن داود، وتممه من بعده يوسف بن عمر المتوفى 356 ه وكان مالكيا ثم

__________

(1) انظر الفقرات، 226، 638، 737، 808، 825، وغيرها وانظر ترجمته في : الشيرازي طبقات الفقهاء، ص. 175، 176.

(1/6851)

انتقل إلى مذهب أهل الظاهر، ولم نسمع بأثر لهذا الكتاب اليوم.

... * منهم أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفسر المتوفى 324 تلميذ أبي بكر محمد بن داود، وكان إماما في مذهب أهل الظاهر وعنه انتشر في البلاد وله فيه كتاب جليل كما يقول الشرازي أبو إسحاق، يعرف بالموضح على شاكلة كتاب المزني(1) وقد شرحه قاضي القضاة أبو سعيد بشر بن حسين، وقال الذهبي : وله من التصانيف : أحكام القرآن، والمبهج، والدافع في الرد على من خالفه وغير ذلك(2)

__________

(1) انظر : الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 177.

(2) انظر : سير أعلام النبلاء، ج17، ص. 77

(1/6852)

.

... ولجلالة كتابه الموضح، فقد اختصره أبو محمد بن حزم في مجلد(1) وقد اقتبس الحافظ بن القطان في كتابه الإقناع من هذا الكتاب كثيرا(2) .

... * ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن صالح المنصوري القاضي، قال ابن النديم في الفهرست : من أفاضل الداودييين، وله كتب جليلة حسنة كبار منها : المصباح، كبير، وكتاب الهادي، وكتاب النير(3)

__________

(1) انظر : سير النبلاء، ج18، ص. 194.

(2) انظر الفقرات : 679، 719، 246، 303، 340، 349، 679، 719 وغيرها كثير.

(3) انظر الفهرست، ص. 273؛ وانزر ترجمته في الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 178؛ واللباب في تهذيب الأنساب، ج3، ص.263.

(1/6853)

ووصفه الشرازي بأنه صاحب كتاب النير، وسمع من الأثرم وهم من شيوخ الحاكم النيسابوري كما يقول السمعاني .

... ومن كتابه النير اقتبس ابن القطان كثيرا في كتابه الإقناع(1) .

... * ومنهم حامل راية هذا المذهب وجامع أشتات كتبه وأفكاره، ومجدده بعد مؤسسه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي المتوفي 465ه وكان لكتبه حضور من عصره واستمر وعلا في العهد الموحدي، ومنها : مراتب الإجماع، والمحلي، وإحكام الأحكام وغيرها، وقد اعتمدها الموافق والمخالف، فقد كان أبو محمد

__________

(1) انظر : الفقرات : 263، 284، 351، 643، 813، 242.

(1/6854)

في نقله لمذاهب الفقهاء أمينا دقيقا، وفي اجتهاده يعلوا ثارة ويهبط أخرى لكنه مدافع عنيد عن السنة خاصة والنصوص عامة، يرفض القياس، ويحارب التعصب المذهبي ، وقد اقتبس الحافظ ابن القطان كثيرا من كتبه، وكذلك أبو الوليد ين رشد في بداية المجتهد نقل نصوصا كثيرة منها(1) .

... لقد كانت جميع هذه الكتب والمصنفات بتعدد مذهبيتها، واختلاف مشارب مؤلفيها محل استمداد واستلهام في العصر الموحدي، مما يؤكد لنا أن البحث عن الدليل الصحيح، والقول الرجيح كان غاية مقصودة،

__________

(1) انظر ترجمة مطولة له في : سير النبلاء، ج18، ص. 184.

(1/6855)

وخطة منشودة مما جعل الفكر الفقهي في المغرب يدخل مشاركا بنوع من التجديد، وبروز أئمة مجتهدين يحظون بالتقدير والإحترام، لأن توجه الدولة يسير في ضد الاتجاه، قال ابن خلكان في وصف يعقوب المنصور بعد أن أثنى وأطرى : وأمر برفض فرع الفقه، وأن العلماء لايفتون إلا بالكتاب والسنة النبوية، ولايقلدون أحدا بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من القرآن والحديث والإجماع والقياس، ولقد أدركنا جماعة من مشايبخ المغرب وصلوا إلينا، وهم على ذلك الطريق، كأبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمر، ومحي

(1/6856)

الدين بن عربي وغيرهم(1) .

... ولو راى ابن خلكان مؤلفات الحافظ ابن القطان وأمثاله لدهش من ذلك واهتبل بها ومنها الكتاب الفقهي الذي اعتمدناه إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر.

... وفي هذا العصر بدواعي التجديد الفقهي والازدهار التشريعي بدأت المشاركات الجادة للمغاربة في علم أصول الفقه الذي لابد منه في توجيه حركة الإجتهاد، واستمر مزدهرا خلال القرن السادس والسابع حتى بلغ القمة على يد الشاطبي في القرن الثامن الهجري ، وهذا يحتاج لتفصيل وبيان .

__________

(1) وفيات أبو عيان، ج7، ص. 11.

(1/6857)

... وخلاصة القول : مما تقدم يتأكد لنا العصر الموحدي كان فترة ازدهار فقهي عظيم خلد أرفع المصنفات وأحيى خطة الاجتهاد الأولى، وترك بصماته الفكرية في تاريخ الفقه الإسلامي على الدوام .

(1/6858)

الهجرات اليمينية إلى المغرب الكبير عربته قبل الإسلام بسبعة عشر قرنا

... ... ... ... عبد العزيز بنعبد الله

... ... ... عضو أكاديمية المملكة المغربية والمجامع العربية

إن الجزيرة العربية انطلاقا من الربع الخالي اليميني إلى الشام هي منبثق الحضارات السامية التي كيفت أقاليم الهلال الخصيب وما وراءه اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ولذلك يمكن القول بأن العرب البائدة الأرامية التي ترجع إلى إرم بن سام بن نوح ومنهم قبائل إبراهيم الخليل هم العرب الأصليون الذين وضعوا لجميع الشعوب السامية لغتهم العربية الأم وقد

(1/6859)

نزحوا حوالي أوائل الألف الثانية قبل الميلاد إلى جنوب العراق واستقروا في المناطق بابل وارتباط الخليل بجزيرة العرب وبالحجاز (أي بيت الله العتيق) لم يرد في القرآن وحده بل أبرزته الكشوف الأثرية واللسانيات المقارنة حول الهجرات السامية.

وقد اعتمدنا في دراستنا هذه على المصادر الإنجليزية خاصة والعربية عامة. ويرى المؤرخون العرب أن الأراميين من أصل واحد مع العرب البائدة أو العرب العاربة ويؤكد ذلك ما ورد من أن الملك الأشوري أسرحدون (668-625 ق.م.) يشير في كتاباته إلى أن حزائيل ملك العريبي أي العرب جاء

(1/6860)

خاضعا إلى نينوي(1) وحزائل اسم أرامي وقد ذكر الدكتور هوميل أن الأراميين والعرب من عنصر واحد(2).

وبخصوص اللغة الكنعانية (الفينيقية) ذكر ابن خلدون ج 1 , ص. 58 ط. مصر 1936) أن إبراهيم الخليل عليه السلام تزوج بعد سارة بقنطورة بنت يقطان الكنغانية فولدت له ستة

__________

(1) Rogers, Cuneiform Parallels ..., p. 353

(2) كتاب التقاليد العربية القديمة، F. Hommel, The Ancien Hebrew Tradition, p. 202 ولاحظ كروهمان أيضا في بحثه عن تاريخ العرب أن الأراميين هم أسلاف العرب (دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة، ص. 524).

(1/6861)

أولاد منهم يقشان الذي من نسله جيل البربر وقد انتقل البربر من جنوب فلسطين عن طريق مصر حوالي 1300 ق.م. ثم تتابعت الجاليات التي منها الفراعنة من الاستيطان بمصر حسب يوسف بن عبد البر القرطبي وفي عام 1095 ق.م. أجلى طالوت (وهو شاوول الذي باركه نبي الله صمويل كأول ملك لبني إسرائيل بعد عصر القضاة) الكنعانيين عن فلسطين وأخرج من بقي منهم بها نبي الله داود عام 1055 ق.م. وفي عام 1215 ق.م. انتصر الإسرائليون على الكنعانيين بفلسطين زأجلوهم فانتقل بعضهم إلى فينيقسة ومنها إلى إفريقية حيث التحقوا بإخوانهم

(1/6862)

الأقدمين عن طريق برزج السوس صحبة مصريين فروا من الاضطرابات السياسية بمصر آنذاك فكونوا الجيل الفينيقي العربي ومنهم فريق كنعاني مر بإيطاليا وصقلية فصحبهم إلى إفريقيا "الإتروسك" (Etrusques) والصقليون ويرى المؤرخون أن سكان الشمال الإفريقي من سلالة الجنس الأبيض هاجروا إلى أوربا وهم حسب ابن خلدون (ج 1، ص. 15) من السلالة الآرية ولعل تأثر الحضارة الإيجية في إفريقيا المتجلية في تقارب اللغة القديمة والبناء وصناعة الخزف واقتباس زراعة التين والزيتون والكرم وصناعة التعدين والتصوير على الخزف المقتبسة من

(1/6863)

الإيجيين حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد كل ذلك يدل على وحدة الأصل بين البربر والإيجيين المنتسبين إلى شعب أبيض ممتاز ذكي فلهذا قال العلماء بأن الإيجيين أصلهم من شمال إفريقيا وإليهم يرجع العنصر الأشقر اليوم في المغرب الكبير وهناك من يقول بأن قدماء المصريين هم من سلالة المغاربة ويقول بروكلمان بأن اليهود علموا على إقصاء الكنغانيين عن جدول بني سام وإلحاقهم بجدول بني حام الذي كان بزعمهم عاقا لوالده ويعم دوبرا (Duprat) أن البربر آريون هاجروا من نواحي الكنج بالهند.

(1/6864)

وقد تغلغلت اللغة الآرامية فيما بين النهرين وفارس ووادي النيل وآسيا الصغرى

وشمال جزيرة العرب حتى الحجاز وبقيت اللغة الرسمية طوال قرون قبل الميلاد في بابل

وآشور وفارس ومصر والشام وبها كتب الإنجيل على الأرجع وقد قامت الآرامية محل

الكنعانية وظلت اللغة السائدة في القرن السابع ق.م. حيث أخذت العربية تحل

محلها وعزز الأستاذ دايرنجر(1) هذه النظرية مؤكدا سيادة اللغة الآرامية من مصر إلى آسيا الصغرى إلى الهند وقد أبرز كروهمان علاقة الأراميين وقبائل "العبيرو" بالعرب

__________

(1) D. Diringer, The Alphabet, 1943, p. 253

(1/6865)

قائلا :

ومن المؤكد أن العنصر البدوي في شبه جزيرة العرب هو على الأرجح مصطلح مرادف مع تسمية آرام وعبيرو وخبيرو وجد في الأصل في المنطقة التي تمتد بين سورية وبلاد ما بين النهرين والتي تعد أقدم مركز للساميين(1) .

وكانت القبائل العربية التي نزحت من الجزيرة العربية تتكلم كلها لغة واحدة هي العربية الأصلية التي تفرعت إلى لهجات احتفظت بخصائصها وسميت باللهجات أو اللغات السامية تمييزا لها عن اللغات الآرية والطورانية ومن مميزات اللغة

__________

(1) Grohmann, « The Arabs », The Encyclopedia if ISLAM, New Ed, p. 525

(1/6866)

السامية أصولها الثلاثية الأحرف واشتقاقها الناتج عن مجرد تغيير الحركات.

ولم يعد هنالك ريب بعد الحفريات والكشوف الأثرية أن عنصر إبراهيم الخليل وهو بداية الألاف الرابعة قبل العصر الحاضر (القرن التاسع عشر قبل الميلاد) هو عصر عربي لغتة هي السامية العربية الأم فقد انبثق الجفاف الشديد الذي اكتسح شبه جزيرة العرب عن سلسة من الهجرات نقلت الكنعانيين والفنيقيين والعمورين العمالقة منذ أزيد من ألف عام قبل عصر الخليل وقد لخص الدكتور أحمد سوسة(1)

__________

(1) وفي كتابه العرب واليهود في التاريخ (طبعة وزارة الإعلام العراقية، 1972)

(1/6867)

هذه المعطيات مبرزا تفرعات اللغة السامية العربية الأم إلى لهجات قسمها السنيون إلى مجموعات هي السامية الغربية بعناصرها الكنغانية والفينيقية والمؤابية والعبرانية والسامية الغربية الشمالية (العمورية والأرامية) والسامية الشرقية (الأكدية البابلية والأشورية) وأخيرا لهجات جنوبي الجزيرة العربية وهي المعينية والسيئة والأثيوبية والعربية والأمهرية والذي يدل دلالة واضحة في نظر الكثير من خبراء اللغة واللسانيات على أن العربية هي اللغة الأصلية أي لغة بدو الجزيرة العربية مازالت إلى الآن أقرب كل اللهجات

(1/6868)

المذكورة إلى اللغة السامية الأم.

وتعتبر هجرة الأكديين نحو الفرات في العراق أقدم هجرة من هجرات الساميين العرب الذين انتقلوا من الجزيرة العربية إلى ضفاف الفرات وقد نزحت جماعات أخرى من جزيرة العرب إلى وادي النيل في حدود الألف الرابعة قبل الميلاد ويقال بأنها حملت معها حضارة أرقى من حضارة مصر وهي التي جاءت بفن التحنيط والكتابة الهروغليفية(1) التي يكون أصلها أيضا عربيا مثل الكتابة الكنعانية وعمموا لغتهم مطبوعة بالطابع العربي كما يتجلى ذلك من

__________

(1) الدكتور محمد عزة دروزة، تاريخ الجنس العربي، ج. 1، ص. 26.

(1/6869)

النقوش المصرية القديمة(1) منها صورة ملونة لأسرة عربية مهاجرة من جزيرة العرب والعموريون العمالقة هم الذين أسسوا الإنبراطورية البابلية القديمة (وهي ثاني إمبراطورية سامية وقبلها الأكدية) بعد أن نزحوا من جزيرة العرب منتشرين في الشام ومن بينهم ملوكهم 42 سنة بين 1792، 1750 ق.م. وهو صاحب التشريع المشهور الذي يقال بأنه وضع أصالة باللغة العربية.

__________

(1) تاريخ مصر لبريستد؛ والحضارة المصرية لغوستاف لوبون؛ وتاريخ المدينة المصرية لغوستاف بيكي إلخ.

(1/6870)

وأقام الأشوريون ثاني إمبراطورية سامية حيث اتجه الكنغانيون والعموريون والأراميون والأكديون والهكسوس والأدريون نحو الشام والعراق ومصر مستهدفا بعضهم الفرات واتجهت إلى دجلة قبائل أخرى حوالي أواخر الألف الرابعة أو أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد شمالي العراق على يمين دجلة فأسست مدينة أشور وهي عاصمة إمارة صغيرة على نسق المدن المدن الأكدية جنوبي العراق وقد تكلم الأشوريون بلغة سامية قريبة من لغة الأكدين جنوبا وكتبوا بالخط المسماري (Cuneiforme) لغتهم الأشورية وينتهي حكم أشور القديمة في نهاية مملكة بابل

(1/6871)

القديمة عام 1595 ق.م. وامتد العهد الأشوري الوسيط من 1595 إلى 911 ق.م. والعهد الحديث من 911 إلى 612 ق.م. (تكونت خلال هذه الفترة إمبراطورية سامية ضمت مجموع الشرق الأوسط ومن ضمنه آسيا الصغرى وسواحل إيجة ومصر والخليج العربي وعيلام وقد سقطت نينوي عام 612 ق.م. وقد اهتم الأشوريون بالفنون الجميلة والأدب وتركوا في خزانة الكتب أواح الطين التي أنشأها الملك أشور بانيال (669-626 ق.م.) الذي أخضع مصر كلها لحكمه، وقد عثر على نحو 25 ألف رقيم حضاري في الحفائر حفظت في المتحف البريطاني.

(1/6872)

أما الكلدانيون (الأراميون) فيرجع أصلهم إلى شواطئ الخليج العربي جنوبي العراق وقد أسسوا رابع إمبراطورية سامية دامت 73 سنة بعد سقوط نينوى وسميت سلالة بابل الحادية عشرة وكان له مضلغ في تقوية علم الفلك وهم أول من جزأ الواحد الصحيح إلى ستين وقسموا اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية ووضعوا أول التقاويم الفلكية العالمية وعنهم أخذ فيثاغورس كما برعوا في فن التطريز ورسم الصور عليه.

(1/6873)

وأعظم ملوكهم بنو ختنصر (605-562 ق.م.) الذي قضى على مملكة يهودا وسبى اليهود إلى بابل وفي هذا العصر بالذات بدأ التأثير العربي على بابل وما وراءها(1) .

والكنعانيون العرب هو مخترعو الحروف الهجائية الألفبائية وعنهم نقلها الفينيقيون ثم اقتبيها من هؤلاء منذ منتصف القرن الميلادي الإغريقيون واللاتين وكتابات اللهجة الكنعانية القديمة هي حلقة الوصل بين الهيروغليفية (المكونة من خمسمائة صورة تكتب من الجهات الأربع) وبين

__________

(1) راجع بحثنا "الفكر الصوفي وأصوله" في العدد الثالث من اللسان العربي (1385 هـ / 1965 م)

(1/6874)

المسمارية والأبجدية السينائية وهي التي تفرعت عنها أبجديات منها الفينيقية والقرطاجية والبونية والليبية والأرامية والنبطية والعبرية ويندرج الشمال الإفريقي في هذه المجموعة العربية لأن اللغنة البونية (Langue Punique) هي اللهجة الدارجة إلى اليوم في المغرب العربي وقد عثر على رخامة في البرازيل تحمل تاريخ 125 ق.م. أشار إليها الدكتور البرازيلي إديلونيتو وضمنها كتابه "الأنطروبولوجية"(1)

__________

(1) أشار إليها الأستاذ توفيق المدين في مجلة تقويم المنصور (العدد الثالث عام 1348 هـ) راجع بحثنا في مجلة اللسان العربي،

عدد 3، 1384 هـ / 1965 م.

(1/6875)

وهي مكتوبة باللغة البونية التي قورنت مع ترجمتها العربية فلوحظ أنها لا تختلف عن لهجة تونس خاصة ودارجة إفريقيا الشمالية عامة وعندما دخل الموسويون أرض كنعان وجدوا قبيلة كنعانية يتزعمها نبي كنعاني يدعى بلعام ينشر فكرة التوحيد ويتمتع بمكانة روحية سامية(1) .

وقد ألف مارينوس الصوري (Marinus of Tyre) كتابا في الجغرافيا ووضع

خارطة للعالم عام 120 للميلاد كانت تستند إلى معلومات جغرافية فينيقية ويرى

__________

(1) الأصحاح، ص. 22

(1/6876)

رولنسون(1) لأنه كان أول كاتب في الجغرافيا اتخذ الطريقة العلمية الرياضية في صنع الخرائط المستندة إلى خطوط الطول والعرض وعليه ارتكز بطليموس.

وكان القرطاجيون مثل الفينيقين يتسمون بالكنعانيين(2) .

وآخر من هاجر من الجزيرة العربية الأنباط وهم قبائل بدوية انتشرت منذ القرن السادس قبل الميلاد شرقي مملكة الأردن الحالية واقتبسوا من الآراميين ثقافتهم وتأثروا بلغتهم حتى غلبت الأرامية عليهم ولهجتهم هي التي تطورت منها لغة القرآن

__________

(1) Rawlinson, Phoenicia, pp. 404, 548

(2) Univ. Jewih, Encyclopedia, vol. 2, p. 651

(1/6877)

كما أن خطهم هو خط كتبة الوحي وهو القلم النبطي المقتبس من القلم الأرامي القديم.

وهكذا يمكن القول بأن الساميين عرب ولغتهم التي هي اللغة الأم اللغة العربية والنصوص كلها مجمعة على هذه الحقيقة، أما العبرية فهي لهجة سامية متأخرة.

وقد تأكد من جهة أخرى أن اليهود هم بقايا يهودا الذين نقلهم نبوختنصر إلى بابل قبل الميلاد بستة قرون وقد تكلم الموسوريون في الأصول الهيروغليفية التي دونت بها شريعة موسى ووصاياه العشر لأنها كانت لغة بلاط فرعون حيث تربى موسى ولم يعثر لحد الآن على أي أثر لهذه الشريعة الموسوية

(1/6878)

الأصلية لأن التوراة المتداولة اليوم ليست سوى ترجمة عبرية مشوهة مقتبسة من الآرامية يرجع تاريخ هذه التوراة اليهودية التي لا علاقة لها بتوراة موسى إلى عهد الأسر البابلي بعد ظهور موسى بثمانمائة سنة على أن يونس أرسل إلى مائة ألف أو يزيدون من أهل نينوى في القرن التاسع قبل الميلاد فكان ذلك انطلاقة أولى للموسوية في أرض الأشوريين.

ويرى العالم اليهودي يسلفر(1)

__________

(1) A. H. Silver, Moses and the original Torath N.V, 1961 وقد أشار الدكتور أحمد سوسة أيضا إلى مرجع آخر هو الأسس التاريخية للعقيدة اليهودية، 1969، ص. 8

(1/6879)

في كتابه "موسى والتوراة الأصلية" أن التوراة الحالية لا تمثل توراة موسى وحتى الوصايا العشر التي يكاد يجمع العلماء أنها الشيء الوحيد المتبقى من التوراة الأصلية لم يكن بكاملها وعلى هيئتها الحالية كالتي أتى بها موسى.

وظاهرة التشويه في هذه التوراة المزيفة اشتمالها على شرائع وتقاليد وطقوس دينية مقتبسة من الشرائع الكنعانية والبابلية وهاصة شريعة حمورابي كما أبرز ذلك البروفسور (ووتر من) استنادا إلى تحقيقات أركيولوجية على أن مزامير داود نفسها مشوهة وكذلك كل ما ورد في العهد القديم لغلبة الطابع الكنعاني

(1/6880)

العربي عليه حتى من حيث اللغة إذ لم تترجم إلى العبرية مدرجة في التوراة إلا في عصور لاحقة فاللغة العبرية لم تكن إذن من أصول اللهجات السامية بل ليست هي نفسها سوى اقتباس من الأرامية حفظت لنا كثيرا من مظاهر الحضارة الكنعانية العربية.

وقد أكد الكاتب الفرنسي جان لوي برنار (J. L. Bernard) أن الأحبار عبرنوا كل ما اقتبسوه من تواريخ الأقطار التي جاسوا خلالها ومنها سليمان الذي لم يكن يهوديا وإنما كان أشوريا وهو (شلما نصر) ولو كان سليمان يهوديا لاستحالت - كما يؤكد برنار - الصداقة مع ملكة سبأ العربية بل أكد

(1/6881)

بروكلمن أن هؤلاء اليهود قد تعمدوا لإقصاء الكنعانيين من جدول أنساب سام أي من السلالة السامية.

ويرى بعضهم أن اسم يهوه إله اليهود نفسه هو اسم أحد آلهة البدو الشماليين في جزيرة العرب وكان الكنعالي ملك أورشليم يدين بالتوحيد كما كانت لغة داود وسليمان هي الكنعانية العربية التي اقتبسها الموسويون من بني كنعان بعد كنعان بعد دخولهم أرض فلسطين فكانت هذه المعطيات الكنعانية لغة وحضارة هي قوام التراث العربي وفي ضمنه التوراة الجديدة وقد سمى

(1/6882)

النبي أشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد اللغة كلها وفي ضمنها العبرية شفة كنعان أي لسان

كنعان كما يقول (مندنهول) أستاذ جامعة ميسيسغان المريكية بنقل الدكتور سوسة

على أن كلمة "عبرى" نفسها ومثلها "عبيرو" أو "خبيرو" قد وردت في الكتابات القديمة

وكان يراد بالعبريين القبائل البدوية العربية وبذلك يوجه وصف إبراهيم الخليل في

التوراة بالعبراني ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد في دائرة المعارف البريطانية(1) من أن استعمال كلمة عبري بمعنى يهودي يرجع إلى الحاخامين بفلسطين في عهد متأخر على أنه

__________

(1) طبعة 1965، ج 11، ص. 279

(1/6883)

تم العثور على كتابة من عهد (رعمسيس الثاني) وهو فرعون الذي رقع الخرجون (Exode) في عهده سميت فيها بقايا الهكسوس ب "العبريو" والمقصود هنا القبائل العربية البدوية وهي التسمية التي

عرف بها الهكسوس عند المصريين وإسرائيل نفسها كلمة كنعانية عربية أطلقت على موضع في فلسطين وأشارت إليها في هذا السياق كتابات مصرية قبل بعثة سيدنا إبراهيم وأرض فلسطين الكنعانية العربية هي مهجر لحفدة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم اغتربوا إليها نازحين من حاران أو حران الحالية.

(1/6884)

وكثيرا من التعابير والأسماء التي يظن أنها عبرية الأصل هي في الحقيقة عربية نذكر منها على سبيل المثال فقط تسمية أورشليم (أي القدس) التي وردت في الكتابات لكنعانية أي رسائل العمارنة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد (أي قبل عصر موسى بنحو مائتي سنة) وقبل ظهور العبرية ومودناتها ومنها توراة اليهود (لا توراة موسى) بأزيد من ألف عام وقد ورد ذكرها عبر الشعر الجاهلي في شكل أورشليم كما اعترفت التوراة نفسها في نص صريح بعدم وجود أية صلة بين اليهود وهذه الميدنة(1) .

__________

(1) الدكتور أحمد سوسة، مقدمة كتابه المذكور

(1/6885)

و"موسى" اسم مصري قديم لا صلة له بالعبرية ولا العبريين وقد ورد ذلك بخصوص أحد فراعنة مصر باسم "آح - موسى" وهو مؤسس السلالة الثانية عشرة (1580-1546 ق.م.) كما أن الكاهن الأعلى لمدينة (ممفيس) عاصمة مصر المشهورة في عهد (تحوطمس الثالث) (1479-1447 ق.م.) كان يدعى "بتاج موسى"(1) .

وننشر فيما يلي بعض النصوص التي تشهد بعروبة الساميين :

__________

(1) أودلف أرمان، ديانة مصر القديمة، الترجمة العربية، ص. 29-314، عن كتاب العرب واليهود في التاريخ "المقدمة".

(1/6886)

فقد أكد سبرنجر (Sprenger) أن جميع الساميين عرب(1) :

وقال الأستاذ أولمستيد في كتابه "تاريخ فلسطين" (ص. 36) : "إن البدو العرب

كانوا أول من تكلم باللغة السامية وإذا أردنا أن نتفهم الخصائص الأصلية لهذه

المجموعة من اللغات السامية على حقيقتها فعلينا أن نتجه إلى العربي ابن البادية السورية

الذي يجوب شمال جزيرة العرب لأن هؤلاء وحدهم حافظوا على العادات والتقاليد

القديمة دون أن يطرأ عليها أي تغيير" وقد أيده المستشرق عبد الله فيلبي في

__________

(1) الدكتور علي حسني الخربوطي، العرب والحضارة، ص. 13

(1/6887)

كتابه "تاريخ العرب قبيل الإسلام" حيث قال : "إن اللغة العربية التي يعترف الخبراء في كونها أقرب من جميع اللغات السامية إلى اللغة الأم الأصلية التي اشتقت منها جميع اللغات هي على أغلب الاحتمالات أقدم لغة في العالم ما زالت حية حتى يومنا هذا".

وقد لاحظ الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (ج 1، ص. 255) أن جماعة من المستشرقين ترى أن اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة لأنها لغة لم تختلط كثيرا باللغات الأخرى

(1/6888)

فبقيت في موطنها المعزولة أصفى من غيرها محافظة على خواص السامية القديمة.

وقال (فيلبي) في كتابه "تاريخ العرب قبيل الإسلام" (الإسكندرية، 1947، ص. 9): "إنني أعتبر بلاد العرب الجنوبية (ومن ضمنها اليمن) هي الوطن الأصلي لهذا الجنس من البشر المعروف الآن باسم الساميين وهو يمتاز عن سائر الشعوةب بلغته المعروفة باسم العربية" ثم لاحظ أنهم هاجروا بسبب الجفاف الذي ظهرت بوادره بعد العصر الباليوليثي وهو العصر الحجري القديم الذي يبدأ قبل 35 ألف سنة نحة الشمال إلى أطراف الهلال الخصيب. العزيز 2

(1/6889)

وأيد الأستاذ فيلبي خبير أنثروبولوجي آخر هو الدكتور (هنري فيلد) ملاحظا "أن اليمن وعدن كانتا مأهولين بالسكان في العصر النيولوثي (وهو العصر الحجري الحديث المحدد بين 7000 و 5000 ق.م.) هاجر منهم إلى عمان والخليج وآخر إلى الصومال وكينيا وتنجانيقا وفريق ثالث إلى نجران وسيناء وفلسطين.

وقد لاحظ الرحالة الألماني (شوينفرت) أن القمح والشعير والجاموس والمعز والضأن والماشية وجدت في حالتها لابدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق(1)

__________

(1) العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، القاهرة، 1960، ص. 11.

(1/6890)

.

وقد انطلق الإنسان الأول من اليمن لينتقل بعد نحو سبعة آلاف سنة قبل

الميلاد إلى الخليج ومنه إلى الشام في مراحل ثلاث إحداها عبر مصر حيث انتقل من (دلتا

النيل إلى الفيافي الليبية ومنها إلى المغرب الأقصى بعد عبور المغربين الأدنى والأوسط وفي مرحلة أخرى انتقل اليمنيون مع إفريقس الحميري عبر بحر القلزم إلى الصحراء الإفريقية الكبرى مرورا بالسودان والتشاد وهو ما أنكره ابن خلدون اعتمادا على أن الهجرات الأخرى كانت عن طريق النيل.

(1/6891)

وهذا المسار قد تأكد لدينا بعد اللجوء إلى الدراسات الجيولوجية التي حللت الطرق التي يمكن أن يكون قد قطعها هذا الإنسان الأول وقد تم الكشف عن المناطق التي قطعها وهي تونس والمغرب الشرقي (تافوغالت) ثم ناحية فاس والقبيبات بالرباط وسيدي عبد الرحمن بأنفا (الدارالبيضاء الحالية) وآسفي ولكن العنصر الجيولوجي في هذه الجماجم المستحجرة التي عثر عليها قد تعزز بصنف فلسطيني يؤكد منطلق الإنسان الأول عبر الشام الكبرى ومنها فلسطين على أن أصناف من هذه المستحجرات دخلت إلى إفريقيا الجنوبية آتية من اليمن أيضا عبر المحيط

(1/6892)

الهندي وقد عثر في جنوب إفريقيا على ما يعزز هذه الأطروحة ومعنى ذلك أن الصنهاجية اليمنية ومنها (الزنهاجية والزنجية) قد انتشرت في طول إفريقيا وعرضها لعدم الوجود اليمني في مجموع القارة وهذه الحقيقة تحسم من الأساس فكرة الزنجية التي يدعو إليها بعض الأفارقة ويظهر من كشوف تمت في إفريقيا الجنوبية هذه السنة (1997) أن العنصر الحديث من الإنسان الأول قد عثر على بقاياه في شكل بصمات رجلية في ناحية كاب (Cap) يرجع تاريخه إلى (117.000) سنة حسب تحديد عالمين من إفريقيا الجنوبية(1)

__________

(1) انعقد في الثمانينات مؤتمر في داكار بإشراف رئيس الجمهورية آنذاك سنغفور (Senghor) وكان القصد هو إثبات السلالة الزنجية وقد عينت آنذاك لحضور المؤتمر من طرف صاحب الجلالة الحسن الثاني صحبة وزير الشؤون الإسلامية الشيخ المكي الناصري، ففندت هذه النظرية وأوضحت بحجج تاريخية اجتماعية أن الزنجية أصلها الزنهاجية اليمنية.

(1/6893)

.

كان للشام دور كبير في تعريب المغرب الكبير منذ أوائل القرن الحادي عشر قبل الميلاد أي منذ أزيد من ثلاثة آلاف سنة حيث دخل الكنعانيون العرب إلى القسم الشمالي الغربي من القارة الإفريقية وأسسوا عام 1101 قبل الميلاد مدينة Leptis Magne (وهي لمطة الحالية، في ليبيا) ثم عتيقة (Ultique) في تونس أعقبها عام 814 ق.م. تأسيس حضارة قرطاج (Carthage).

وقد فسح الوجود القرطجي (الكنعاني العربي) المجال بعد ذلك لانتشار اللغة البونية (Langue Punique) في آفاق شاسعة من الشمال الإفريقي ضمن مصطلحية شاملة مع العامة

(1/6894)

الدارجة في المنطقة ويتجلى ذلك بصورة واضحة في الرخامة التي كشف عنها الدكتور البرازيلي الأديزلو نيتو وضمتها الجزء الأول من كتابه "الأنطروبولوجية" وهي تحمل تاريخ 125 ق.م.(أي بعد أن استولى الرومان على قرطاج بنحو العشرين سنة) حيث توجد عشرات الألفاظ والتراكيب مفرغة في قالب عربي مع تحريف لا يخفى حتى على غير الاختصاصيين في فقه اللغة وعلم الاشتقاق(1).

ففي الفقرة الأولى جملة حررت بالبونية هي :

__________

(1) راجع مجلة تقويم المنصور، توفيق المدني عام 1343 هـ.

(1/6895)

"هنا أحنا بني كنعان فرنم حقرة حمل" يمكن أن تقلبها إلى عامية الشمال الإفريقي وخاصة التونسية فنقول :

"هنا احنا بني كنعان من فرانم حملنا الحقرة" معناها بالفصحى :

(هنا نحن بني كنعان من فرانم تحملنا الإحتقار) ففي هذه الفقرة وحدها سبع كلمات لا يوجد فيها أي دخيل وإنما هو انحراف بسيط عن الفصحى بسبب الاستعمال العامي المتداول على أن البونية قد بدأت تتسرب إلى المغرب الأقصى مواكبة دخول القرطاجنيين الرسمي حوالي 480 ق.م. وأكد القديس غسطين (St. Augustin) أنها ظلت متغلغلة في أنحاء البادية المغربية إلى نهاية

(1/6896)

عهد الواندال أي إلى عهد الفتح الإسلامي في حين اندرست لغة الرومان باندراس معالم الحضارة اللاتينية التي تطورت في نطاق محدود لم يتجاوز مثلثا تمتد حدوده من طنجة إلى وليلي إلى شالة عاشت جاليته الرومانية في قفص مقفل بعيدة عن المحيط البربري الذي كان يلفها وقد اعترف بهذه الظاهرة مؤرخون طالما دعوا إلى "غربية" البربر ولكنهم أدهشوا أمام هذا التجاوب العميق الذي مهد المغاور والأوعار البربرية أمام الفتح الإسلامي بانتشار "لغة قريبة من العربية" فكلمة قرطاج نفسها معناها قرية حداش أي القرية الحديثة صحفت إلى

(1/6897)

قرتاش بتعطيش الجين كما نطق بها الرومان وكذلك حنبعل (Hannibal) أصله حني بعل أي نعمة الله وكان اسم أبيه هاملكار (Hamilcar) أي حامي القرية الذي حارب الرومان في صقلية.

وكانت منطقة الخليج العربي أول ساحة ترعرع فيها الإنسان الأول الذي عاش حول "خط الاستواء" في الربع الخالي من القارتين الأسيوية والإفريقية ومن هذه المنطقة انطلقت الهجرات (الأشوريين والبابليين والكندانيين الذين أسسوا ممالك حول (ميزوبوطامي) (Mesopotamie) أو بلاد الرافدين (دجلة والفرات) ثم (آسيا الصغرى) (Asie Mineure) من حيث هاجرت قبيلتان

(1/6898)

هما الآخيون والدوريون لبحر (إيجي) حيث تم تأسيس مملكة الإغريق أو اليونان وقد توثقت هذه المعلومات من طرف علماء غربيين لاحظوا أن الأغارقة كانوا يكتبون من اليمين إلى اليسار وأن حروفهم مقتبسة من الألفبائية العربية وهي B et C Alfa (أي الألف والباء) ويرى بعض هؤلاء المؤرخين أن العرب الكنعانيين وهم الفينيقيون كانوا قد استقروا فترة من الزمن في شواطئ الخليج قبل أن ينتقلوا إلى سواحل الشام وأنهم سموا مدينة "صور" على شاطئ البحر المتوسط تيمنا باسم مدينتهم الأولى بالخليج ولعل الآثار التي تم الكشف عنها في

(1/6899)

المنطقتين تضفي على هذه الرواية سمة من الحقيقة التي أكدها مؤرخون محدثون أمثال (جان كاك بيريبي) في كتابه حول الخليج وبذلك يكون الكنعانيون قد هاجروا من الخليج إلى البحر المتوسط عبر الشام منذ خمسة آلاف سنة كما يقول المؤرخون (رولنسون) وعندما وسع الفينيقيون مراكزهم التجارية على شواطئ البحر المتوسط أسسوا حوالي عام (1100 قبل الميلاد) مدن ليكس (Lixus) (قرب العرائش بالمغرب الأقصى) ولمطة بليبيا (Leptis Magne) (على وزن مكة وبكة) وعتيقة (Utique) ثم قرطاج (Cartage) (قرية حداش أو القرية الحديثة) بتونس ومالقة

(1/6900)

وقادس بالأندلس وهيبو (عنابة) وبنزرت.

وهناك هجرات أخرى من الخليج إلى المغرب عبر فارس أشار إليها سالوست

(Salluste) المتوفى عام 35 قبل الميلاد في كتابه حول (حرب يوغورتا) ملك نوميديا

عام (154 ق.م.) ملاحظا أن الفرس انتقلوا ضمن غاراتهم على (الجزيرة الإيبيرية)

(إسبانيا والبرتغال) في عهد هيراكلس (Herecluis) (575 هـ-641 م) فتجولت أشرعة

مراكبهم بشدة الريح إلى المحيط الأطلنطيقي فوصلوا إلى جنوب المغرب حيث اتصلوا

بالجيتول (Gétules) (وهم أهل جزولة الحالية على ما يظهر، فتصاهروا معهم

(1/6901)

وسميت (سوس) (وكذلك كل من مدينتي سوسة التونسية (التي عرفت بحضرموت)

والليبية) اقتباسا من كلمة سوسيانة (Susiane) (أو أرض عيلام) الواقعة بمنطقة الأهواز على أن الفرس اشتهروا قديما بالنوميديين.

وإذا رجعنا إلى الحفريات الجيولوجية لاحظنا أن عناصر مستحجرة قرب الدار البيضاء هي أقدم ما وجد في الشمال الإفريقي وقد عثر على عناصر مستحجرة قرب الدارالبيضاء هي أقدم ما وجد في الشمال الإفريقي مما يدل على أن الإنسان ظهر في المغرب في عهد سحيق مثله في أوربا الغربية أي في "عتبة العهد الجيولوجي الرابع".

(1/6902)

كما يدل التوزيع الجغرافي لهذه العناصر على أن المغرب لم يحتله الإنسان الأول ولكن عبره في جميع الجهات منذ أعرق عصور ما قبل التاريخ ففي بعض المناطق كالمنحدر الأطلنطكي ونواحي الشرق بوادي ملوية يلاحظ نوع من الموصولية والاستمرارية في مواقع السكن خلال العثر الرابع في حين أن الأطلسبن الأوسط والأكبر بم يعرفا تسربا بشريا جزئيا أو موسميا إلا ابتداء من العصر الجيولوجي الأعلى وهكذا يمكن القول بأن دراسة أقدم البقايا التي خلفها الإنسان تفتح أمامنا آفاقا جديدة عن ماضي المغرب في سحيق ما قبل التاريخ قد تشمل مئات

(1/6903)

الآلاف من السنين وقد تأكد وجود الإنسان الأول في المغرب عندما تم الكشف في أبواب الرباط (القبيبات) عن شظايا جمجمية بشرية كما يظهر بقايا إنسان ما قبل التاريخ من نفس الفصيلة أي إنسان (النيانديرتال) ( Homo Neandertalensis)Neandertal) قد عثر عليها في مغامرة قرب أشقار بإقليم طنجة وتوجد نماذج من ذلك في أمريكا (Peabody museum of American Archaeology and Ethnology - Harvard University, Cambridge, Mass..., USA).

(1/6904)

ويلوح أن المعطيات المستخلصة من "منجم القبيبات" تسمح بتحديد ميقات دقيق نسبيا لإنسان الرباط هو نفس تاريخ إنسان النيانديرتال بل إن ما عثر عليه في مناجم فلسطين يرجع لنفس التاريخ وهذا الثالوث المستحجر هو الوحيد الذي وقع الكشف عنه لحد الآن ومناجم فلسطين هذه هي مستحجرات جيل كرمل وجبل كفزه قرب الناصرة فإنسان جبل كفزه شبيه في فكه وحنكه بإنسان الرباط ("هسيريس"، ص. 35 عام 1945). وقد عثر في الصين على قحف أو جمجمة يظهر أنه هو أقدم نموذج لإنسان ما قبل التاريخ وذلك في Kung Wangling

(1/6905)

بإقليم Chensi وهو عبارة عن قحف الرأس بعظم الأنف والجبهة اليمنى وبعض الفك الأعلى وسنين وعمره يقدر بستمائة ألف عام (600.000) حسب حسابات العالم الصيني Wu Yu Kang وهذا هو رابع نموذج لإنسان ما قبل التاريخ عثر عليه بعد ما وجد في جاوا و Cro-Magho, وبيكن (عن وكالة الصين الجديدة - يناير 1965) وكان يظن فيما قبل أن الإنسان الأول عاش في خط الاستواوء قبل ثلاثمائة ألف عام ثم عثر في جزر المحيط الهادي على تلك الجماجم البشرية فتأكد بعد تحليلها أن تاريخها يرتفع إلى ستمائة ألف عام ثم عثر مرتين في بلاد التشاد

(1/6906)

وكينيا على جماجم يقال إنها ترجع لمليون بل ملايين السنين. ومهما يكن فإن الإنسان ربما عاش في الصحراء الإفريقية كما تؤكد ذلك النماذج التي عثر عليها بشمال المغرب والقبيبات بالرباط وسيدي عبد الرحمن بالدارالبيضاء أما جمجمة إنسان النيانديرتال المكتشفة في دوسالدورف بألمانيا عام 1857 وتاريخها 40.000 عام قبل الميلاد فقد صور العلماء عصرا بأسره عنها ساد أوربا منذ 60.000 عام وكان هؤلاء الناس قصاؤا لهم جماجم تزيد على جماجمنا 200 سنتمر مكعب. (Lull, The Evolution of Man, p. 26؛ "قصة الحضارة"، ص. 158) (ول

(1/6907)

ديورانت) حيث أكد المؤلف أن جنسا آخر حل بأوربا حول 20.000 عام ق.م. كما تدل الآثار المكشوفة عام 1868 في مغامرة Cro-Magnon بالدور ودني بفرنسا ويقول بعض العلماء بأن هذه الفصيلة جاءت من آسيا الوسطى بإفريقيا والآثار التي وجدت في تونس والجزائر مما يشبه آثار العصر الأورجناسي (Aurignacian (حول عام 25.000 ق.م.) تدل على أن إفريقيا هي الأصل في الثقافات التي شهدها العصر الحجري القديم.

وقد لاحظ العالم الباكستاني مولانا قوصر نيازي (Causer Niazi) في

(1/6908)

كتابه ""خلق الإنسان" Création of Man (ص. 6) أن العالم (كارلطون) أكد

أن العالم خلق قبل الميلاد بسبعة آلاف سنة وقد ورد ذلك مفصلا في كتاب

"تاريخ الإنسان" (The History of Man, p. 63) كما لاحظ ويلز (H. G. Wells)

في كتابه "الخطوط الكبرى للتاريخ" (Oultime of History) أن هذه المدة يمكن

رفعها إلى إثني عشر ألف سنة بل وحتى عشرين ألفا على الأكثر ولم يقل أحد من

العلماء قبل قولة داروين عام 14958 م أن عمر الإنسان سبعمائة ألف سنة وقد فند العالم

(1/6909)

الباكستاني هذه الدعوى بالحجج العلمية في جزء كبير من كتابه مستندا إلى نصوص المؤرخين والفلاسفة والنسابين العرب والمسلمين.

والنشوء والارتقاء مذهب كان معروفا ومنقودا عند العرب قبل داروين فقد قال الخازن : "إن الجهلة حينما يسمعون بتحول بعض الأجسام بطريق التكامل التي ذهب أنه مر بصور الأجسام المعدنية الأخرى أي انه كان رصاصا قصديرا ... إلى أن صار على الحالة التي هو فيما الآن بالانقلاب السريع بل بالتدريج كأن مر بصورة العجل فالحمار فالفرس فالفرد إلى أن انتهى إنسانا" ("العالم الإسلامي"، شكيب أرسلان، ج 1،

(1/6910)

ث. 1563) ويظهر أن منطقة (أنفا) أقدم جهة في المغرب عرفت حياة الإنسان الأول في القارة الإفريقية بعد امتدادها إلى العدوة الجنوبية من نهر أبي رقراق والقبيبات قرب رباط الفتح (بعضها (قبل 7.000 عام) فقد عثر في المنجم الحجري المعروف بمنجم (سيدي عبد الرحمن) بالقرب من (عين الذياب) بالدارالبيضاء على أحفور (Fossile) إنسان مغربي ينتمي لما يعرف عند علماء المستحجرات بالأطلانطروب (Atla,thrope) (وهو الإنسان المستحفر المعثور على بقاياه في (الأطلس) ويرتفع تاريحه - حسب تقديرات العلماء إلى ما بين 30.000 و 100.000

(1/6911)

سنة قبل الميلاد وقد يرتبط بالصنف الأقدم الذي وقع الكشف عنه في أندونيسيا والصين وقد تم ذلك خلال عصر الحجارة المنحوتة أي العصر الحجري الأدنى أو القديم (Paléolitique inférieur) الذي أعقبه العصر الحجري الأوسط حيث ظهر رجل (جبل الرهود) قرب أسفي أو (رجل فاس) الذي عثر على نموذج هيكله الكامل أوائل (عام 1985) يرجع تاريخه إلى نحو الخمسين ألف (50.000) عام وهو معاصر لرجل (النيانديرتال) (Néanderthal) وهنا ظهرت في المغرب سلالة قبصية (Capsien)(1)

__________

(1) نسبة إلى مدينة (قصبة) التونسية حيث عثر على أول نموذج منه في (المقطع) بالقرب منها.

(1/6912)

وانحدرت من أقصى شرق المغرب الكبير خلال نفس الفترة فبلغت نماذج منها إلى (تيط مليل) وتوقف معظمها في المغرب الشرقي (بتاقوغالت) حيث انضافت إليها فلول من الصحراء الكبرى فارة من جفافها منذ حوالي عشرة آلاف (10.000) عام قبل الميلاد وذلك انتجاعا للماء والمرعى وهذا الثالوث هو الذي أطلق عليه وصف (أمازيغ) أي الأحرار الذين امتلكوا البلاد كمجموعة خلفت

السكان الأصليين من غير هؤلاء البربر وهي نظرية يقول بها غالب البحاثين لأنها مدعمة بدراسة نقدية مقارنة لجماجم سلالة (اليمن) التي انحدرت إلى (ليبيا) عبر (مصر)

(1/6913)

أعقبها رجال (كنعان) من الفنيقيين الذين أسسوا مدينة ليكسوس (Lixos) قرب العرائش حوالي عام 1001 ق.م. وكذلك عتيقة (Utique) بتونس و (لمطة) (Leptis Magna) على مسافة (60 كلم) من (طرابلس الغرب) وقد أكد هذه النظرية المؤرخ (بوسكي (Bousquet) الذي أورد حججا دامغة تشهد بأن البرابرة لم يكونوا سكان المغرب الأصليين لأن الكتابة الليبيكية البربرية التي عثر عليها في المغارب الأربعة قد وجدت أيضا في مصر وبلاد النوبة وسيناء بالإضافة إلى تشابه هذه الكتابة بكتابات الجزيرة العربية.

(1/6914)

وقد تنتسائل لماذا انتقل الإنسان الأول من (تافوغالت) إلى (فاس) عبر الأطلس دون أن يمر على السهول بينما رأبناه يحاذي المتوسط بين الجزائر والمغرب الشرقي ليعود إلى محاذاة الشواطئ بالرباط إلى منجم سيدي عبد الرحمن بعين الذياب بأنفا إلى جبل الرهود بأسفي والجواب عن ذلك أن السهول كانت مغمورة بالمياه إلى ممر تازة لأن البحر كان يغطي في العصر الأكاديمي (Acadien) مجموع بلاد الهبط ولم تنحسر إلا خلال العصر الكمبري الأعلى وسيدي بوقنادل الواقع على بعد نحو (15 كلم) شمال شرقي الرباط تحتوي مناجمه على حصيات متنوعة

(1/6915)

الحجم يرجع تاريخها إلى العصر الحجري الرابع (Jacques Boucart, « Notice sur un essai de carte géologique du Dictionnaire de la zone atlantique du Maroc », Paris, 1931 Congrés intern de Géographie, p.3).

ومهما يكن فإن الإنسان الأول الإفريقي، استقر وترعرع بمنطقة (أنفا)

في (تيط مليل) واردا من الشرق إلى ما قبل الميلاد ببضعة آلاف من السنين ثم

توالت الهجرات الشرقية اكتمل بها التزواج بين الشقين (المشرق والمغرب)

(1/6916)

بمرور (حانون القرطجي)(1) بخمسة أو ستة قرون بعد الميلاد والماركز الأثرية العتيقة

مازالت تبرز من حين لآخر في المنطقة فقد عثر في منجم حجري بالدارالبيضاء في

العقد الأخير على بقايا أثرية (ريما كانت مركز صيد وقنص) يرتفع تاريخها حسب لجنة

من الخبراء المغاربة والفرنسيين إلى ما بين 480.000 و 400.000 سنة قبل الميلاد وتدل كشوفات أخرى على مدى ترابط مناطق إفريقية بعضها ببعض مثل العثور في (عين جمعة) قرب الدارالبيضاء عام 1926 على حجارة تشهد بأن حروف (تيفيناغ) الليبيكية

__________

(1) Perpime d’Hannon عرف بترجمة إغريقية

(1/6917)

استعملت في المنطقة وأن هنالك علاقة وثيقة من خلالها مع (الخكار) (Coissac de Chaverliére, Hisoire du Maroc, p. 21).

ويستخلص من كشوف أخرى وجود عنصرين أساسين في تاريخ المنطقة هما أولا امتدادها من الأطلس إلى المحيط وثانيها وجود عناصر شرقية انحدرت من اليمن مع إفريقش الحميري ولعل للعثور من جهة أخرى في (أزيلال) (وهو امتداد شرقي لمنطقة تامسنا، على الديناصور (وهو حيوان عاش منذ 150.000 سنة بأمريكا) شاهدا على ارتباط هذه المنطقة بمآوي الحضارة شرقا وغربا منذ أعرق العصور وربما يؤيد ذلك تقارب القارتين

(1/6918)

الأمريكية والإفريقية عبر مجال محيطي أطلسي ضيق.

A. Breuil - Faits nouveaux reculant considérablement l’antiquité de l’homme du Maroc - C.R. des séances de l’Ac. des Inscription et Belles Lettres, 30 oct. 1942.

- Cheryniers, L’homme au temps des cavernes, Ed. du Scorpion, 1965.

- G. Choubert et Jean Marçais, Le Quatenaire de senviron de Rabat et l’âge de l’Homme de Rabat, Académie des Sciences, 1947.

(1/6919)

- Lionel Balout, Les hommes fossiles du Maghreb et du Sahara Inventaire descriptif et critique, p. 214.

- J. Marçais, « Découvertes de restes humaines fossiles dans les grés quaternaire de Rabat, l’entropologie, t; XLIV, 1934.

R. Neuville at A. Ruhlman, La palce du paléolithique ancien dans le quartenaire marocain, Casablanca, 1941, pp. 49-91. Publ. du Service des Antiquitées du Maroc fas., 6, Rabat, 1941, pp. 15-35.

(1/6920)

- Henri V. Vallois, l’homme fos. de R.C.R. des Séances de l’Ac. des Sc. 26 nov. 1945 (la nature, 15 avril 1946).

- R. Neuville et A. Ruhlmann, L’Age de l’homme fossile de Rabat, R.V. l’Anthropologie, T.S.I., n° 1-2 (1949).

- A. Ruhlmann, l’homme f. de R., Liste de la faune malacologique des différents niveaux marins du gisment de Kébibat, Hespéris, XXXII, 1945.

وهكذا فالقارة الإفريقية وحدة متراصة في أبعادها الطبيعية، ومن مظاهر

(1/6921)

وحدتها أن لشقي القارة في أقصى جنوبها وأقصى شمالها أسيسة مشتركة المعالم يطبعها المناخ المتوسطي بأصناف مزروعاته ومختلف أطرزة مجالية الاقتصادية والاجتماعية -

يفصلها في قلب القارة خط الإستواء بصحرائين أحدهما صحراء المغرب الكبرى شمالا وثانيهما صحراء (كالا هاري) في بحبوحة وديان وأنهار أعظمها الكزنغو والنيجر والنيل والملوية وقد امتزج النيلان (نيل مصر ونيل السنغال) ضمن السودان الموحد في طرفيه الشرقي والغربي تحت راية الإسلام التي شكلت منذ القرن الأول للهجرة المحرك الجوهري في تاريخ إفرقيا السوداء

(1/6922)

بإمبراطوريتها الشاسعة (غانا وسونغاي وبرونووكانم ومالي ويوروبا وأويو وأشانتي والهوسة وبونان)(1) .

وقد كان المؤرخون القدامى يعتبرون إفرقيا مأوة الضواري من فيلة وأسود وفهود ولمط ونعام وهو وصف للقارة التي أكد كزيل

__________

(1) كانم إقليم سوداني يلي صعيد مصر شاعره إبراهيم بن محمد بن فارس من بن ثاكلة توفي بمراكش عام 608 هـ (أو 609 هـ) مدح يعقوب المنصور بعد انتصاره في موقعة الأرك، وكانم من بني عمومة تكرور (معجم البلدان، ج 4، ص. 432، طبعة القاهرة، 1957، ص. 2؛ الاستقصا، ج 1، ص. 181؛ صبح الأعشى، ج 5، ص. 280.

(1/6923)

(Gsell) أنه منذ أوائل القرن الثالث الميلادي قامت الخضرة اليانعة مقام الصحراء والحقول المزروعة مكان الغابات وقطعان الماشية بدل الحيوانات المفترسة(1) .

والمحيط الأطلنطيكي (أو اقيانوس) يستمد اسمه من كونه يحيط من جميع الجهات بالعالم المسكون في عرف الأقدمين(2) ، أو على الأقل من جهات ثلاث لأن خط الاستواء كان هو الخط الجنوبي للعالم الآهل بالسكان.

__________

(1) كوتيي، العصور الغامضة في المغرب، ص. 157

(2) المسعودي، التنبيه، ص. 26

(1/6924)

وكان اليونان والرومان يطلقون كلمة بربر على كل ما ليس بيوناني أو روماني خارج عن الإمبراكوريتين مثل مدينة بربرة بالصومال والبحر البربري على المحيط الهندي.

والواقع أمن الجنوب الإفريقي الذي يفصله عن شماله خط الإستواء كان أقرب

إلى جزء آخر هو البحر البربري في المحيط الهندي من حيث انحدر عرب بيمنيون منذ

أعرق العصور لنشر العمران في المهامه المتوسطية من جنوب القارة، وقد استشف الأثريون

معالم الحضارة اليمنية في عاديات هذه المنطقة وبذلك يكون العرب والبربر وخاصة

(1/6925)

اليمنيين وصنهاجة وهما من حمير هو الذين وصلوا جنوب القارة بشمالها

الممتدين على طول المحيط الأطلسي غربا والمحيط الهندي جنوبا وبحر القلزم أو البحر الأحمر شرقا.

وقد تحدث المؤرحون العرب عن أمة بربرية في آخر بلاد اليمن بين أرض الجوش الزنج وهو سودان ويقال لأرضهم بربره كما توجد سوق وهي من أوساط الفسطاط(1) .

وتطلق كلمة بربر على إقليم ميرفاب وهي قبيلة عربية اللهجة على صفتي النيل من الشلال الخامس إلى عطبراء ومعظمهم في بلاد النوبة

__________

(1) ياقوت الحموي، المشترك وضعا والمفتري صقعا، ص. 31، طبعة كونتجن، 1946.

(1/6926)

والصومال(1) .

والبربر اسم كان يطلق على جيل يسكن النواحي الممتدة من سيوا بحدود مصر إلى المحيط وإلى نهر النيجر بالسنغال ويرى المؤرخون القدامى قبل الإسلام أن أصلهم إما من إفريقيا بنفسها وهو عرب حميريون انحدروا من اليمن ليعمروا القارة الإفريقية شمالا وجنوبا وقد تعززت نظرية عروبة البرابرة الأفارقة بأدلة ذات قيمة علمية أبرز بعضها هلفريبز(2) (Helphritz).

__________

(1) تاريخ السودان، القاهرة، ج 1، ص. 37، عام 1903.

(2) الموسوعة الإسلامية، الطبعة الفرنسية، 1960، ج 1، ص. 1208

(1/6927)

وقد اعتمد ابن خلدون في نفيه ليمينه البربر على "جمهرة" ابن حزم إلا أنه وهم عندما حصر طريق اليمن إلى المغرب في "السويس" مع أن أقرب الطرق المعقولة هي الصحراء المغربية ومنها إلى أقصى جنوب القارة الإفريقيةة عن طريق بحر القلزم (البحر الأحمر) في جهته المقابلة لليمن لا سيما وأن مؤرخي القرن الثالث وغيرهم كالأصطخري وابن خرداذبة أشاروا إلى القوافل التجارية التي كانت تنطلق من المغرب مارة بسجلماسة خلال الساحل الإفرقي للبحر الأحمر للوصول إلى اليمين ومنه إلى الخليج والعراق وكذلك يقال بأن كلمة إفريقش أصل لاسم

(1/6928)

الأفارقة والقارة الإفريقية وقد سمى ابن خرداذبة (المتوفى عام 272 هـ / 885 م) هذه القارة كلها ليبيا وفيها مصر والحبشة وبلاد البربر(1) .

ومهما يكن فإن ابن خلدون، ج 1، ص. 58 طبعة مصر، 1936 ذكر أن البربر

انتقلوا من جنوب فلسطين عن طريق مصر حوالي 1300 ق.م. ثم تتابعت

الجاليات التي منها الفراعنة من الاستيطان بمصر حسب يوسف بن عبد البر القرطبي وفي عام 1095 ق.م. أجلى طالوت (وهو شاوول الذي باركه نبي الله صمويل كأول ملك لبني إسرائيل بعد عصر القضاة) الكنعانيين عن فلسطين وأخرج من بقي منهم بها

__________

(1) المسالك، ص. 24

(1/6929)

نبي الله داود عام 1055 ق.م.

والمعالقة (عرب معقل) من أصل بمني أيضا حسب ابن خلدون(1) فهم عرب حميريون يلتقون في النسب مع صنهاجة وكتامة وكانوا يستوطنون الخليج قرب البحرين فهاجم نحو المائتين منهم إلى المغرب انحازوا إلى بني هلال وانتشروا في الصحراء إلى السودان.

وإمارة البراكنة التي تأسست عام 1042 هـ ممتدة من تبريس إلى نهر السنغال تنتمي هي أيضا لعرب معقل أضف إلى ذلك أن الملثمين الصنهاجيين موطنهم الأصلي أرض الصحراء إلى السودان وهي أكبر

__________

(1) تاريخ ابن خلدون، ج. 1، ص. 519؛ ج 6، ص. 58؛ الاستقصا، ج 4، ص. 24

(1/6930)

صحراء في العالم قام بأمرهم محمد بن تيفاوت ثم يحيى بن إبراهيم الكدالي إلى عام (427 هـ) وهو الذي ابتنى رابطة في بحر النيجر تجمع فيها ألف رجل ساهم المرابطين تجندوا لنشر الإسلام في قبائل صنهاجة(1) .

وقد تعززت الرابطة العربية والإفريقية بعد الإسلام بتوغل عقبة بن نافع وخلفه في قلب القارة إلى غانا حسب بعض الروايات.

والرحالون العرب هم الذين اتخدوا المبادرة للكشف عن مجاهل إفريقيا والمحيط الهندي مما فتح الطريق للحالين الغربيين بعد القرن الخامس عشر الميلادي.

__________

(1) الإستقصا، ج 1، ص. 98.

(1/6931)

وقد أدرج الشريف الإدريسي في خريطته كمنابع لنهر النيل البحيرات الكبرى الاستوائية عن هذه الينابيع من طرف الأوروبيين لم يتم إلا منذ عصور حديثة(1) .

وللمولى إدريس الأكبر عقب كثير ببلاد السودان منهم فرق في برنو وهوسة وبولان وفزان وتنبكتو(2) تعززت بها الرابطة العربية في مجموع القارة الإفريقية الصنهاجية اليمنية (ومنها زنهاجة : زنزج) فالعرب والبربر من جنس واحد وكلمة بربر لا تشير حسب أندري جوليان

__________

(1) كوستان لوبون، حضارة العرب، الطبعة الفرنسية، ص. 507، الفرنسية.

(2) الفيضيلي، الضرر البهية، ج 2، ص. 200

(1/6932)

("تاريخ إفريقيا الشمالية" ص. 46) إلى معنى سلالي لأن فيه إخلاصا من عرب وبربر وهو يعني في الحقيقة شعبا أصبح يتكلم لهجات مشتركة تخلت عنها بعض القبائل لصالح اللغة العربية - حسب تعبير جوليان.

ونضرب أمثلة للعرب الأقحاح الذين انتظموا في سلك البربر وهو في حين أن أصبهم من قبائل عربية مختلفة أو من العرب المستعربة ومنهم :

- أولاد أبو سرغين : شرفاء أدارسة يوجد بعضهم بالصحراء وكلوان من ناحية تازة وبني يازعة وبني ليث والمغارة من غزوان قرب آسفي وزمور الشلح والسوس الأقصى، ("الدرر البهية"، ج 2، ص. 58).

(1/6933)

إداو كنسوس في الأطلس الصغير : لعل الكنسوسيين من الحجاز استقروا بتامدولت ومنها مراكز (إغرم) (Lumale, Ida ou Kensous, Arch. SHA, 1941).

أولاد سيدي هاشم أمراء معلاكة تحمل اسم هاشم شرفاء سملاليون في آيت باعمران بسوس وهم من حفدة سيدي أحمد وموسى.

وسملالة قبيلة بالأطلس الصغير (راجع الأشراف السملاليون لمحمد بن علي السوسي السملالي). ومن السملاليين إبراهيم بن أبي القاسم السملالي توجد نسخة من كتابه "أجنحة الرغاب" مع شرح أحمد بن سليمان الرسموكي في خع 2035 ونسخة من الأصل في خح (9222 - 6634).

(1/6934)

وكذلك المجاهد بآيت عطا موحا حمو نيفروض، الشريف السملالي الذي كافح ضد الاستعمار الفرنسي من عام 12 م إلى 1929.

والشبانات :

من عرب معقل ويذكرون أيضا بين قبائل خوارة التي هي بني جرار الذين تفرقوا بن الصحراء مسقط رأسهم وبين سوس حيث الحدود في عهد السعدين (راجع أولاد جرار) فهو إذن هوراة اليوم وهم شرفاء علميون يعرفون بالجعفريين قديما (الدرر البهية، الفضيلي، ج1، ص. 142).

ينتمون إلى مكان بقبيلة المنابهة إزاء تارودانت ويوجد جعافرة في سوس بنواحي (أقا) و (إيربن) و (أزاغار) و (ماسة) و (تيلكات) وردوا كلهم من

(1/6935)

مساكن اخوانهم الصحراويين الذين يكثرون بين قبائل الصحراء وقد أطال سيدي أحمد بن خالد الناصري في "طلعة المشتري في النسب الجعفري" في تعقيبه على ما زعمه ابن خلدون من عدم وجود الجعفريين في المغرب صحراء وحضرا (راجع المعسول للمختار السوسي، ج 16، ص. 151.

والطاهريون أشرف من ذرية علي الرضى أصلهم من مصمودة بناحية فاس الدرر البهية ج 2، ص. 211.

العروسيون أشراف علميون أدارسة جعدة المرابطين الذي استقروا عام 552 هـ / 1157 م في الساقية الحمراء لاجئيين إليها من شمال المملكة (كتاب دومينيخ لافوانتي، ص. 26).

(1/6936)

وهم جزء من أولاد دليم يقطنون الساحل الجنوبي وخاصة حول الدهلة بوادي الذهي وهم عرب أقحاح نقلوا إلى الصحراء لغة الضاد وشيم النجدة والشجاعة والكرم وهم كعرب الجزيرة ينتجعون الكلأ ويبرون الإبل وينتقلون في أنحاء الصحراء للتجارة ويتبارزون في الفروسية وروح الإيثار والسخاء.

وأصل دايم من القبائل التي كانت تقطن صحراء سوس ثم نقل بعضها إلى حوز مراكش أيام السعديين منهم الشيخ علي الدليمي الهشتوكي (1332 هـ / 1913م)، (المعسول، 14، ص. 108).

والمناليون أشراف يعرفون بالزياديين يوجدون بسوس والصحراء وفاس وهم

(1/6937)

من منالة بالأطلس ومن الأدارسة فريق يقطن (تاماسين) إحدة قبائل وزكيته

قرب مركز تازناخت ينتمي إلى إحدى قراها وهي قرية انزال عبد الله بن محمد البولماني الإدريسي المتوفي عام 1334 هـ (المعسول، ج 14، ص. 201).

وآخر يسكن (الحفونية) وهي قرية تقع على بعد 120 كلم شرقي قرية الأوكرشي توجد فيها أضرحة آل السيد بن سيدي أبو بكر من الأسرة العلوية وهو مزار مقصود فيه دار صيافة وملجأ اللاستشفاء.

والزكراويون شرفاء أدراسة في (حاحة) ودرعة من حفدة سيدي محمد بن المولى إدريس الأزهر أمير أصيلا والبصرة وما والاهما من قرى

(1/6938)

ومداشر.

وزعير قبيلة عرب السوس استقروا في رباط الفتح عاصمة المغرب الأقصى الاستقصا، ج 3، ص. 108 (الإعلام، للمراكشي، ج 2، ص. 86).

توريج الرباط - كاييي Caillé، ج 1، ص. 331 وألف لوبينياك Loubignac "نصوص عربية لزعير" (طبعة باريس 1952) حيث ذكر أن زعير من عرب معقل ناقلا عن نزهة الحادي للأفراني (ترجمة هوداس، ص. 329) وأنهم انتقلوا عبر الأطلسين الأكبر والأوسط.

وقصر مجار :

بفيلالة وقيل بسوس فيه ولد السلطان مولاي اسماعيل عام 1056 هـ وتوفي عام 1139 هـ وقد أشار الحسين الوزان إلى وجودهم قرب حنيفرة كما أكد أن

(1/6939)

اين خلدون يعتبرهم برابرة لكنهم تبربروا فقط من وجهة القانون الخاص والحياة الاجتماعية والأوضاع السلالية أما لغتهم فهي عريقة في العروبة (راجع كتابنا نحو تفصيح العامية) - مطبعة فضالة - المحمدية، 1392 هـ / 1972 م.

- Victorien Loubignac - Textes arabes des Zaêr - Publicat. de l’I.H.E.M., t. XLVI, Paris, Max Besson, 1952.

والبربرية يتكلم بها البربر في جزء كبير من افريقيا وخاصة الشمالية ويجهل

تاريخها نظرا بعدم وجود وثائق مكتوبة عدا ما كتب بحروف عربية حول الإسلام

(1/6940)

أو العادات والأعراف في جنوب المغرب أو ما سجل من أسماء بربرية وتعتبر بربرية

كذلك بعض بقايا الكزانش Guanche في جزر كباريا الإفريقية إلى القرن السابع

عشر الميلادي وقد بدأ الموحدون يترجمون بعض كتب الدين إلى البربرية تسهيلا على المؤمنين من الناطقين بتشلحيت أو تمازيغت ولحد الآن لم تكشف رموز اللهجة الليبيكية حتى ندرك مدى علاقتها بالبربرية إلا أن التنظير بين الكتابات الليبيكية والكتابات التوارقة أي حروف تيفناع لابما يبرز نوها من الشيه لا وحدة الأصل وعلاه الاستقاق ر يبدر منهم ما يوذن بالاتفاق على عنصر

(1/6941)

موجب في الموضوع وإن كان البعض يحاول التقريب بين حروف سامية أخرى (راجع الجدول في مادة تيفناغ).

موسوعة الإسلام م1، ص. 1220 عام 1960 وقد حاول البعض المقارنة بين كلمتي Puniva وتفنك.

أما لاحضارة البربرية بما تنطوي عليه من شعر ورسوم ونسيج وفلكلور علاوة على الكتابات فالظاهر أنها كانت وعاء وبوتقة انصهرت فيها معطبات مختلف الحضارات التي تعاقبت عليها كالرومانية وخاصة الفينيقية والعربية وخاصة الصنهاجية العربية اليمنية التي اتخذت أسماء مكتعددة في الأطلس الصغير في الأنكاضيون السوسيون هم من أزكاض قرب طاطة

(1/6942)

نسبة إلى التي تسمى تزناخت أو ثزكنت وزناكة.

A. Basset, Les études Linguistinques berbéres depuis le Congrés de Paris (1948-1954), Congress of Orientalists, Cambridge, 1954.

Ch. Pellat, Textes berbéres dans le parler des Aït Seghrouchen de la moulouya, Paris, 1955

J.D. Wolfel, « Le probléme des rapports du gaunche er du bérbere », Hespéris, 1953.

J.D. Wolfel, « Le probléme des rapports du J.D. Février, Que savons-nous du lybique ? » R. Afr., 1956 (p. 263-73).

(1/6943)

P. de Foucauld, Dictionnaire toureg-français (Dialecte de l’Ahaggar), 4 vol., Paris, 1951-52, XIII + 2028 p. ).

Abbé Chabot, Receuil des inscriptions libyques, Paris, 1940.

M. Reygasse, Contribution à l’étude des gravures rupestres et inscriptions du sahara central, Alger, 1932.

Th. Monod, L ’Adrar Ahnet, Paris, 1932 (p. 135).

Th. Monod, Gravures, peintures et inscriptions rupestres, Paris, 1938.

G. Marcy, Les Inscriptions libyques bilingues de l’Af. du Nord, Paris, 1936.

(1/6944)

Le même, « Introd. à un déchifferement méthodiques des inscriptions du Sahara Centrale », Hespéris (1-2).

E. Brémond, Berbéres et Arabesn La Berbérie est un pays euripéen : C.R. des séances de l’Arc. des Sc. c., 2 avr. 1943 (218-9) E.M., Af., Madrid, nov. 1951.

E. Garcia Gomez, Al-Hakam il y los berbéres, Segun in texto inedito de Al-Andalus, XIII., I, 1948 (209-26).

E. Laoust, Mots et choses berbéres, notes de linguistiques et d’ethnographie, Dialetes du Maroc, Paris 1920.

(1/6945)

Quedenfled, Répartition de la population berbére au Maroc, Tard. par Simon, Alger, 1904.

Mtouggui Lhaoussine, Vue générale de l’histoire berbére, Larose (200 p.).

St-Quentin, 3.000 ans avec les Berbéres, Delagrave, 1949 (220 p.)

P. Curcy, « En pays berbére), in Europe, 1928 (15 sep. et 15 oct.)

H. Raynaud, Les Berbéres sont-ils des barbares ? R.G. m. n° 4, 1946

D.P. Barrows, Berbers and Blocks, impressions of Marocco, Timbuktu and western Sudan, New-York and London, 1927 (251 p.)

(1/6946)

Fournel, Les Berbéres, Paris 1875-81 (2 vol).

Ch. de Foucauld, Poésies touarégues, Paris, 1925-30

F. Nicolas, Pémes touareg, ETI, 1941-2

G. de Gironcourt, « l’Art chez les Touareg », Rev. d’Eth. et de Sociol., Jan.-Fév., 1914.

P. Ricard, « Tissages berbéres des Aït Aissi », Hespéris, 1925; « Les Tissages sur métier de haute laine à Aït Hicham et dans le Haut Sebou », in R. Afr., 1941-2.

« Les Tissages décorés chez les Béni Mghild », in Hespéris, 1945.

(1/6947)

H. Balfet, La poterie des Aït Smaïl de Jarjora.

G. Marçais, L’Art des Berbéres, Alger, 1956.

ولهذا فنحن نعتز كمغاربة - مهما يكن أصلنا - باللغة البربرية (بفروعها الأمازيغية والريفية والشلحية) كأنها جزء من تراتنا الوطني فاللغة البربرية واللغة العربية - لغة القرآن - صنواه في حضارة المغرب الخالدة.

(1/6948)

الوجود الإسلامي في الممالك النصرانية بشبه الجزيرة الإبيرية قبل سقوط غرناطة

الدكتور على الكتاني

رئيس جامعة ابن رشد الإسلامية قرطبة - الأندلس

ا-مقدمة: كان الوجود الإسلامي في الممالك النصرانية خارج حدود دولة الأندلس الإسلامية قائما وكثيفا ومتواصلا لمدة قرون ، أي منذ احتلال الممالك ا"نية لأرض إسلامية ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السادس عشر بعد سقوط غرناطة. ولا شك أن قرار فرناند وإيزبيلا (الملكين الكاثوليكيين ) ومن تبعهما من الملوك في القرنين التاليين القضاء على الإسلام نهائيا

(1/6949)

جريمة شنيعة ضد الإنسانية وذنب لا يغتفر ليس في حق ضحاياهم فقط ، ولكن كذلك في حق إسبانيا.

صحيح أن المسلمين لم يكونوا في الممالك النصر"نية في أحسن الأحوال ، ولكن كان لهم وضع قانوني ووجود معترف به ، كما كانت لهم مساجدهم ومدارسهم وعلماؤهم وفقهاؤهم . وهؤلاء المسلمون يعرفون بالمدجنين . وهم رغم معرفتهم باللغة العربية في بعض المناطق كبلنسية، كانوا يتعاملون باللغة العجمية، فكتبوا بها المؤلفات حتى أصبحت اللغة العجمية (أي الإسبانية المكتوبة بالحروف العربية( لغة إسلامية مثلها مثل الفارسية والتركية وغيرها

(1/6950)

من لغات المسلمين المكتوبة بالحروف العربية.

ولنرى الآن كيف كان وضع المسمين عبر القرون المختلفة في كل مملكة من ممالك الجزيرة الإيبرية النصرانية.

II-المسلمون في البرتغال :

تأسست البرتغال كإمارة صغيرة على حدود الدولة الإسلامية الشمالية الغربية. وقد استولى على هذه الإمارة المنصور ابن أبي عامر، لكنها اغتنمت فرصة سقوط الدولة الأموية فاحتلت براغة سنة 1040م ، وهى بلدة مجاورة لعاصمتها الأولى "أبوزلو" أو "بورتوغال " التي أعطت أسمها للبلاد. وتجزأ غرب الأندلس إلى عدة ممالك أيام الطوائف . فأصبح الجنوب تحت

(1/6951)

سلطة بنى هارون سنة 1026م ، وعاصمتهم شنتمرية الغرب (الفارو اليوم )، وسقط وسط البلاد في يد بني الأفطس سنة 1022 ، وعاصمتهم بطليوس (بإسبانيا اليوم ).

وتابع البرتغاليون غزوهم للأراضي الإسلامية على حساب بني الأفطس . فاحتلوا مدينة قلمرية سنة 1064م ونقلوا إليها عاصمتهم . وتجزأت دولة بني هارون في شنتمرية الغرب ، إذ نشأت دولة بني مزين وعاصمتها حلب سنة 1068 م، وانضم الباقي إلى دولة بني عباد وعاصمتهم إشبيلية (بإسبانيا اليوم ). ثم قضى المرابطون على بني الأفطس وبني عباد ووحدوا البلاد واستقرت الحدود لمائة

(1/6952)

وخمسين سنة بعد أن احتل البرتغاليون مدينة الأشبونة سنة 1093م .

وحلت الدولة الموحدية. محل الدولة المرابية فاحتل البرتغاليون مدينة يابورة سنة 1166م. ولما ضعفت الدولة الموحدية، سيطهر البرتغاليون على مدن إسلامية أخرى، فغزوا قصر بني دنيس سنة 1249م ، ثم باجة وشنتمرية وشلب وجميع غرب الأندلس سنة 1217م، فنقلوا عاصمتهم من قلمرية إلى الأشبونة واستقرت حدود البرتغال على ما هي عليه اليوم .

وعند احتلال الأراضي الإسلامية، صادر البرتغاليون جميع أراض المسلمين وبيوتهم ووزعوها على نبلاء النصارى. فهاجر عدد كبير من

(1/6953)

المسلمين إلى ما تبقى من الأراضي الإسلامية بينما استقر معظم الباقين كمدجنين بنسب عالية في الجنوب . ولما أرغمت إسبانيا المسلمين على التنصير، تبعتها البرتغال سنة 1502م بتنصير المدجنين . فهاجر منهم عدد كبير إلى شمال المغرب وكحت لهم إسبانيا بعبور أراضيها بينما استقر الباقون كنصارى ظاهرا ومسلمين سرا. وبقيت هذه الجاليات إلى سنة

1540م عندما تزوج ملك البرتغال بأخت ملك إسبانيا. وكان شرط الزواج طرد المسلمين . فهاجر عدد كبير منهم إلى العرائش والقصر الكبير والمناطق المجاورة لهما بشمال المغرب . بينما بقى

(1/6954)

الباقون كنصارى في البرتغال . وينتمي اليوم معظم سكان البرتغال بجنوب الأشبونة إلى أصول إسلامية وهم لا يختلفون في سماتهم عن ا لأندلسيين.

III - المسلمون في قشتالة :

عند سقوط طليطلة سنة 1085م هاجر إلى باقي الأراضي الإسلامية عدد كبير من المسلمين ، بينما بقى الآخرون تحت حكم النصارى كمدجنين . وكثرت أعداد هؤلاء بعد سقوط أراض إسلامية ر(دحة في القرن الثالث عشر في يد قشتالة، كمرسية وقرطبة وإشبيلية. وكان القشتاليون يوقعون عقودا مع المسلمين المنهزمين يضمنون لهم فيها حقوقهم الدينية، ولكن سرعان ما كانوا

(1/6955)

ينكرونها بعد استتباب أمرهم ، ويعاملونهم معاملة ظالمة.

في سنة 1258م وضع ألفونسو العاشر قانونا عاما لمملكته سماه "الأقسام السبعة، صنف فيها المسلمين إلى أربع فئات وجي حل لكل فئة منها معاملة خاصة، وهم المتنصرون والعبيد والمعتقون والمدجنون . أما المتنصرون ، فكانوا موضع احتقار من طرف النصارى القدامى، فوحد القانون بين الفئتين ، وأعطى ميراث الأب المسلم لأولاده المتنصرين دون غيرهم من الأبناء. وكانت عقوبة من يرتد منهم الموت وفقدان الحقوق ومصادرة الأموال . أما الأرقاء المسلمون ، فكانوا معرضين لكل أنواع

(1/6956)

الظلم والإيذاء، وكان لسيدهم عليهم حق الموت والحياة والتعذيب والاغتصاب والتفريق بين الأقارب وبيع من شاء منهم . ولم يكن حال المعتقلات أفضل بكثير من حال الرقيق . أما المدجنون ، فكانت حريتهم الدينية تحترم لحد ما، وكانوا يعيشون في أحياء خاصة بهم لهم شرائعهم وقضاتهم وتقاليدهم ومساجدهم وأعيادهم ، وإن كانوا دائما عرضة للاضطهاد حسب أهواء طاغية الوقت وسياسته الخارجية.

نتيجة هذه العاملة السيئة، ثار المدجنون سنة 1261م وانقضوا على جميع الحصون الممتدة بين شريش غربا ومرسية شرقا، ورفعوا علم مملكة غرناطة

(1/6957)

وأعلنوا

انضمامهم لها. وساند ابن الأحمر هذه الثورة بادئ الأمر. كان ألفونسو العاشر في شقوبية، فطلب من ابن الأحمر مساعدته على القضاء على الثورة حسب الاتفاق الذي بينهما، فاعتذر، وسانده خايمي الأول ، ملك أراغون . وضرب ملك قشتالة الحصار على شريش في مايو سنة 1264م، فاستسلمت بعد ستة شهور فطرد أهلها. ثم احتل ألفونسو من جديد شلوقة وشذونة والبربجة وأركش وأخيرا قادس سنة 1266م . واحتل ملك أراغون لقنت سنة 1263م ، ثم قرطاجنة. ثم فرض الحصار على لمرية مع جيش قشتالي برئاسة ابن ملك قشتالة، فاستسلمت المدينة في

(1/6958)

13/2/1266م . وفي 5/6/1266م فرق ملك قشتالة بين مسلمي ونصارى مرسية في حيين وبنى بينهما سورا. وكان الحي الإسلامي يسمى الرشاقة، وبقيت إدارته بيد بني هود المسلمين إلى سنة 1308م حيث انتقلت الإدارة إلى يد القشتاليين.

ثم توالت القرارات التي تحد من حقوق المسلمين ، وكل ملك تولى الحكم يشرع تشريعات جديدة ضد المسلمين . ففي سنة 41348م أصدر ألفونسو الحادي عشر أمرا من قلعة النهر يحرم فيه على المسلمين أن تعاملوا بالمال أو يقرضوا بالفائدة، ثم حرم عليهم في قرار من مجريط أن يشغلوا وظيفة مالية مع الحكومة أو مع

(1/6959)

النبلاء، ومنعهم من المحاماة في القضايا القائمة بين النصارى. وحدد عقوبة من يخالف بمصادرة جميع الأموال والتعذيب الجسدي . وجدد الملك أنريكى الثاني في برغش سنة 1368م التحريمات السابقة وأصدر أمرا آخر سنة 1371م يحرم فيه على المسلمين التسمي بأسماء نصرانية ويفرض عليهم وضع إشارة مميزة في ثيابهم .

وأصدر خوان الأول في شورية مرسوما سنة 1387م يجدد فيه منع المسلمين من الوظائف المالية ويمنع شتم المتنصرين وإهانتهم بتسميتهم 3 بالكلاب والخنازير، ويعاقب من يخالف ذلك بغرامة قدرها 300 مرابطي أو الحبس 15 يوما. كما

(1/6960)

يحرم على النصارى تربية أولاد المسلمين ويعاقب المخالفين بغرامة قدرها55 مرابطي وسمح للمزارعين النصارى بالعمل لدى المسلمين وحمايتهم في أسفارهم . وينص المرسوم بألا يعتق الرق المسلم من اليهودي إذا اعتنق اليهودية بل يسترق سيده .

وأصدر خوان الأول مرسوما آخر سنة 1387م يمنع فيه المسلمين من العيش مع النصارى أو العكس ، ويعاقب المخالف بالتعذيب ومصادرة الأموال . ويحرم على النصارى استعمال المسلمين إلا إذا كانوا عبيدا لديهم ، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها555، مرابطي إلا إذا كان المسلم طبيبا. ويحرم على

(1/6961)

المسلمين العمل يوم الأحد علنا، ويعاقب المخالف بغرامة قدرها 30 مرابطي . ويجبر المرسوم المسلمين على إخلاء الطريق التي يمر بها الصليب . وإذا تعذر عليهم ذلك وجب عليهم الركوع للصليب، وعقوبة المخالف مصادرة ثيابه وإعطائها للنصراني الذي يقبض عليه ويسلمه للقاضي .

ثم أصدر خوان الأول مرسوما ثالثا سنة 1388م في بلد الوليد يجدد منع النصارى من معايشة المسلمين أو تربية أبنائهم ، ويعاقب من يخالف بالجلد. ويمنع المرسوم المسلمين مرة أخرى من دخول الوظائف العامة، خاصة المالية منها.

(1/6962)

وأصدر خوان الثاني مرسوما في بلد الوليد سنة 1308م يكرر فيه منع المسلمين من دخول الوظائف المالية، ويعاقب كلا من المسلم المخالف ومستخدمه النصراني بغرامة قدرها 2000 مرابطي . كما يمنع المرسوم المسلمين من الأكل أو الشرب مع النصارى ويعاقب من يخالف بالجلد مائة جلدة. وإذا تكررت المخالفة في هذه الحالة والحالة السابقة، يدفع المخالف ألف مرابطي ، يمنح ثلثها للمخبر النصراني . ويمنع المرسوم المسلمين من الحضور في أعياد النصارى كما يمنعهم من أن يكونوا عرابين في حفلات التعميد، يعاقب من يخالف بغرامة قدرها 2000

(1/6963)

مرابطي ويمنع المرسوم المسلمين من زيارة المرضى النصارى، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها300 مرابطي . ويمنع المسلمين من مزاولة مهنة الجراحة أو العطارة أو الصيدلة أو بيع المواد الغذائية أو الأدوية، يعاقب من يخالف بدفع غرامة قدرها 2000 مرابطي وبالجلد. ويجبر المرسوم المسلمين على السكن في أحياء خاصة، ويلغي المحاكم الشرعية الإسلامية ويوصى القضاة النصارى بأن يقضوا بين المسلمين وفقا للحقوق التي منحتهم إياها امتيازاتهم . ويمنع المرسوم النبلاء من قبول المسلمين الذين يغيرون محل إقامتهم ، ويعاقب المخالف بغرامة

(1/6964)

قدرها 200 مرابطي ، ولمن يكرر المخالفة غرامة قدرها 100.000 مرابطي ، وتصادر كل أملاك وإقطاعهات من يخالف للمرة الثالثة. ويقضي المرسوم على المدجن

المسلم الذي يقبض عليه وهو هارب إلى مملكة غرناطة بأن يسترقه النصراني القاضي عليه .

وتصادر أملاكه لصا، النصرافي المذكور.

ثم أصدر خوان الثاني مرسوما ثانيا في نفس السنة أجبر فيه المدجنين في طليطلة وغيرها من المدن على ترك منازلهم وأموالهم والانتقال إلى قشتالة القديمة.

(1/6965)

وأصدر خوان الثاني مرسوما سنة 1422م يقضي فيه بالإعدام على كل مسلم يمنع آخر من اعتناق النصرانية ولو كان ابنه ، ويقضي باسترقاق المسلم القادم من مملكة غرناطة لصالح النصراني القابض عليه. ثم أصدر أمرا سنة 1435م. يعتبر فيه على النصارى توقيع كتب التزام وإقرار بدين لمسلم إلا إذا كان خاليا من شرط دفع فائدة عن هذا الدين . وأصدر أمرا سنة 1438 م يعتبر فيه بطلان يمين النصراني أمام القاضي بالاعتراف بدين لمسلم إلا إذا كان المقر له مزارعا.

(1/6966)

ثم أصدرت الملكة إيسابيلا في مجريط سنة 1476م مرسوما تلغي فيه ما تبقى من المحاكم الشرعية الإسلامية، وتمنع فيه المسلمين من لبس الثوب أو الحرير أو الذهب أو الفضة. كما حرمت عليهم أن يكون ذلك في جهاز خيولهم، ويعاقب من يخالف بمصادرة ذلك . ويجبر المرسوم المسلمين على وضع قطعة ثوب حمراء على أكتافهم ، وقلنسوة أو فبعة خضراء على رؤوسهم ، والمسلمات على حمل قطعة ثوب أزرق عرضها أربعة أصابع.

ثم أصدرت الملكة إسبابيلا في طليطلة أمرا آخر سنة 1480م أكدت فيه على عزل المسلمين عن النصارى في السكن ، وكررت فيه الأمر

(1/6967)

باسترقاق المسلمين الهاربين إلى غرناطة لحساب القابض عليهم . وكحت للمسلمين ببناء مساجد جديدة في أحيائهم (1 ).

هذه هي الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون المدجنون في مملكة قشتالة قبل سقوط غرناطة. أما بعد سقوطها، فقد أخذت الدولة الإسبانية ف حاملهم بكيفية أسوأ بكثير على غرار معاملتها لمسلمي غرناطة، إلى أن قرر المكان الكاثوليكيان إرسال

( 1 ) Luis del Marmol Caravajal, Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada.

Biblioteca de Antores Espanoles t.XXI, p, 123y so.

(1/6968)

أمر إلى حاكم قرطبة سنة 1502م يطلبان منه فيه اتخاذ قرار حازم يقضى بقتل المسلمين الرافضين للتنصير أو طردهم خارج البلاد. كما أصدرا أمرا يحرمان فيه على مسلمي قشتالة الاتصال بمسلمي غرناطة أو الاختلاط بهم . ثم صدر قرار ملكي بتاريخ 12/2/1502 م نعثر بإشبيلية يأمر بتنصير جميع مسلمي قشتالة وليون وإخراج من يرفض التنصير. فتنصر ظاهرا معظمهم (1).

1 - وضع المدجنين في سكة أواغون :

كانت مملكة أراغون تنقسم إلى أربع مناطق إدارية : أراغون القديمة وقطلونية ومملكة بلنسية والجزر الشرقية. وقد تكونت مجموعات كبيرة من

(1/6969)

المدجنين في كل هذه المناطق بعد أخذها من يد المسلمين . ونجد في القرن السادس عشر مجموعات إسلامية على مصب ش أبره في منطقة طرقونة وطرطوشة التابعين لقطلونية، بقيت هنا منذ سقوط الأولى من يد المسلمين سنة 960م والثانية سنة 1200 م . كما بقيت مجموعة كبيرة من المدجنين في منطقة أراغون القديمة منذ سقوط سرقسطة سنة 1118م، حتى أصبحوا يكونون في القرن السادس عشر خمس السكان ، وكانت نسبهم أعلى خارج المدن وفي السهول . وسقطت مملكة بلنسية في يد النصارى سنة 1238م، ما ورغم الهجرة والطرد فقد بقي ثلث سكانها مسلمين في

(1/6970)

القرن السادس عشر، بينما كونوا أكثرية في كثير من مناطقها. واحتل النصارى اكبر الجزر الشرقية، ميورقة، سنة 1220م ويابسة سنة 1235م ، ومنورقة سنة 1286م ، وبقي بها عدد من المدجنين . وكان معظم مدجني مملكة أراغون مزارعين يعملون في أراض يملكها نبلاء نصارى يعيشون عالة عليهم. ولذا عمل النبلاء على حمايتهم دفاعا عن مصالحهم.

احتل خايمي الأول ملك أراغون بلنسية سنة 1238م، بعد أن عقد مع أهلها معاهدة يتعهد فيها بصيانة المسلمين وأموالهم وعقيدتهم ولغتهم والشريعة الإسلامية وأن يهادن ما تبقى من منطقة بلنسية في يد

(1/6971)

المسلمين لمدة ثمان سنين. لكن خايمي تنكر لعهوده فور تملكه المدينة، فلاحق المسلمين داخلها وخارجها، وحول أجمل المساجد

(2 )Comte de Circourt, Histoire des Arabes d’Espagne, Paris 1846

وأكبرها إلى كناش ، وأتى بمهاجرين نصارى من الشمال ، وأسكن المسلمين في أحياء خاصة بهم . وأخذ النصارى القادمون يزعجون المسلمين دون ردع من الدولة. ثم صادر خايمي الأول أموال المسلمين وأقطعها للنبلاء من النصارى الوافدين حتى أصبح جميع المسلمين شبه أرقاء يعملون لساداتهم من النصارى . وفى سنة 1248 م، نشر خايمي الأول تشريع خاصة

(1/6972)

بالمسلمين لا تختلف عن مثيلاتها المطبقة في قشتالة، وكانت معارضة تماما لمعاهدات الاستسلام .

وفى سنة 1251 م احتل خايمي الأول مدينة شاطبة فأصدر منشورا بتاريخ 23/11/1251 م يتضمن شروطا سخية لهم مماثلة لتلك التي وقعها مع بلنسية عند استسلامها.

ثم أخذ بابا روما يضغط على خايمي الأول لإبادة العنصر الإسلامي الموجود في مملكته . فحاول ملك أراغون إطاعته في ذلك ، لكنه واجه معارضة من الإقطاعيين النبلاء الذين رأوا في المسلمين عنصرا لإغنائهم ، كما تعرضت أوامر البابا مع سياسة أراغون المتظاهرة بمعاملة أفضل

(1/6973)

للمسلمين من قشتالة لتنافسهما على غزو ما تبقى من الأراضي الإسلامية، كما أن العنصر الإسلامي كان يكون أكثرية السكان والطبقة العاملة. وكان يصعب ملء الفراغ الذي يتركونه إذا طردوا.

وأمام هذه المعاملة السيئة والتنكر الصريح للمعاهدات ، ثار المسلمون سنة 1254م تحت زعامة رجل اسمه الأزرق واستولوا على عدد من الحصون بين شاطبة ودانية ولقنت ، وسيطروا على الجبال الواقعة جنوب نهر شقر. فتوجه خايمي الأول على رأس جيش إلى بلنسية، وعقد فيها مجلس النواب (الكورتس ) الذين قرروا طرد المسلمين من مملكة أراغون ، وسمحوا لهم

(1/6974)

أن يحملوا ما يستطيعون حمله من أموالهم و أمتعتهم . فشجع ذلك المترددين من المسلمين على الانضمام إلى الثورة. فاندلعت الثورة شمال نهر شقر، وانضم المطرودون إلى الثوار واستولوا علىء ا حصنا، لكن مسلمي مدينة بلنسية وضواحيها فضلوا النزوح إلى مرسية على الثورة. ودامت الثورة بمساعدة مملكة غرناطة بين مد وجزر إلى سنة 1257م حيث اضطر الأزرق وباقي المسلمين إلى الاستسلام ، ونزح من أراد من قواد الثورة إلى غرناطة وبقي من أراد البقاء في أرضه دون أن يشمله الطرد.

(1/6975)

واستغل البابا كليمانت الرابع مساعدته للملك خايمي الأول في إخماد ثورة بلنسية بالمال لفرض شروطه ، وأعلن أن الكنيسة مي حدة أن تتنازل عن حصتها في الضرائب المسماة بال حشر شرط أن يقسم الملك أمام مذبح العذراء في كنيسة بلنسية بأن يبيد المسلمين الموجودين في مملكته برحا. فأقسم الملك على ذلك والتزم به علنا، لكنه تردد في تطبيق ذلك خوفا من أن تقلص مملكته ، وتوصل إلى حل إجرامي وهو رفع حماية الدولة عن المسلمين نهائيا. فأصبح المسلمون عرضة للاعتداءات وهجوم الجنود النظاميين لأخذ أبنائهم وبناتهم وبيعهم كعبيد. ولم

(1/6976)

يرد الملك على شكاوي المسلمين بل زاد على ذالك بقوانين تعسفية سنة 1268م حدد فيها حق اللجوء إلى الكنائس بثلاثة أيام ، وكان كثير من مستضعفي المسلمين يهربون إلى الكنائس من ظلم المعتدين عليهم فيحصلون مقابل التنصير على حماية دائمة.

وعندما يشر المسلمون من إنصاف الملك خايمي الأول قرروا الثورة مرة ثانية في شهر مارس عام 1276 م، جنوب نهر شقر، واحتل الثوار أربعين حصنا واستغاثوا بسلطان غرناطة، أبي عبد الله. فعامل خايمي أولا الثوار بالحيلة، إذ هادن الحصون التي لا ترفع علم غرناطة وحارب الحصون الأخرى، بهذا شجع

(1/6977)

النزاعات الداخلية بين المسلمين . ثم حاصر الملك خايمي مدينة شاطبة عاصمة الثوار، فاختار الثوار الأزرق رئيسا لها مرة ثانية.، ولما استشهد أمام حصن الكيل ، تسلم ابنه القيادة فاستشهد بدوره. ورغم ذلك ،لم يستطع النصارى احتلال شاطبة ونجح الثوار في تحرير حصن الكيل .

ومرض خايمي الأول إبان الثورة، فنشر عند احتضاره منشورا في 18/7/1276م ، ضمن فيه وصيته لابنه وخليفته بدور الثالث جاء فيها : "لقد تقدمنا بالوعد أما العذراء في بلنسية بأن نخرج المسلمين من أيخمنا، وذلك مقابل تنازل البابا عن العشر، فإننا نرجو من

(1/6978)

ولي العهد دون بدرو أن يطرد جميع المسلمين من مملكة بلنسية وأن لا يبقي منهم فيها أحدا لأي سبب كان ، حتى ولو دف حوا ما عليم كم ". وحينما قربت وفاته ، سلم أبنه سيفه وأوصاه بأن يستعمله ضد المسلمين دون توقف ولا هوادة إلى أن يقضي عليهم جميعا ويطردهم من المملكة. ومات خايمي الأول في 627/7/1276 م وثورة المسلمين في أوجها.

وعندما تسلم السلطة بدر الثالث تفاوض مع الثوار، واتفق معهم ا على هدنة مدتها ثلاثة شهور، باستثناء ستة حصون نجح في احتلالها في شهر أبريل سنة 1277م. ثم احتل مويلة في 29/9/1277م ، وأخيرا

(1/6979)

استسلمت له منتيسة، فتلاشت الثورة. فأمر الملك بنزع سلاح الثوار دون معاقبتهم ، ووزعهم على أنحاء المملكه لإعمارها دون أن يأبه بوصية أبيه .

وفي سنة 1283م أصدر الملك بدرو الثالث قانونا يسمح ، فيه للمسلمين بالانتقال والإقامة حيثما شاؤوا في مملكته والتجارة بحرية، لكنه حرم عليهم وظائف القضاء والشرطة المال، وألزمهم بأن يقسموا يمينا أن لا يقرضوا أحدا بأكثر من 20 في المائة سنويا، يعاقب المخالف بغرامة قدرها خس دوقات ذهبية، ومنع قبول شهادة المسلم إلا بشروط حددها، وقضى بسقوط الدين غير العقود أمام القضاء بعد

(1/6980)

ست سنين إن كان المقرض مسلما.

وفي سنة 1301م أصدر الملك خايمي الثاني قانونا ينص فيه على أنه تكفي شهادة نصرانيين بحق المسلم دون حاجة لشهادة مسلم معها كما كان معمولا به من قبل وفي عام 1311م ، أيام هذا الملك ، دعا البابا كليمنت الخامس إلى عقد مجمع كنسي في فيينا طالب فيه ملوك أراغون وقشتالة والبرتغال بإخلاء ممالكهم من الإسلام ، وإن لم يفعلوا أوعدهم بنزول غضب الله عليهم.

وفي سنة 1328م أصدر الملك ألفونسو الرابع قانونا في بلنسية يعطي فيه السلطة المطلقة للسيد الإقطاعي أن يقضي بين المسلمين الذين تحت

(1/6981)

حكمه، وأن يعاقب ويبتر الأعضاء ويجلد ويقتل ويصادر ويحتفظ بما يصادره لنفسه أو يقتسمه مع أشخاص في أحيان محددة.أما ابنه بدرو الرابع ، فقد سن عام1342 م، قانونا يؤكد فيه القانون السابق . وفي سنة 1370 م ،سن قانونا يمنع فيه المسلمين من الهجرة إلى غرناطة أو إلى المغرب حتى لو دف حوا خمس ممتلكاتهم كما كانوا يفعلون من قبل . وسن قانونا ثالثا سنة 461 م يمنع فيه فرض مراقب نصراني على المسلمين كما كان من قبل . وفي سنة 1389م أصدر الملك خوان الأول قانونا يحرم فيه على الأسرى المسلمين أن يفتدوا بأموال من مملكة

(1/6982)

بلنسية إن كانوا خارجها وإن فعلوا، تعرضوا لعقوبة الاسترقاق .

وفي سنة 1403م أصدر الملك مارتين الأول قانونا يؤكد فيه ما شرع من قبل حول فدية أسرى المسلمين ، يقضي بمصادرة أموال كل من هاجر من المسلمين ، واسترقاق من يقبض عليه منهم ، وتوزيع أموالهم ثلاثة أثلاث : للملك ، وللإقطاعي الذي كان يسكن عنده المهاجر، وللإقطاعي الذي قبض على أرضه . ويمنع القانون المسلمين من الانتقال من أرض إقطاعي إلى أرض غيره إلا بشروط ، ويوجب على الإقطاعي الذي يلجأ عنده مسلم بأن يسلمه خلال ثمانين يوما من الإنذار النهائي لتسليمه

(1/6983)

وإلا غرم 1000 فلوران .

وفي سنة ،2151 أصدر الملك فراندو الأول قانونا يحرم فيه على المسلمين الخروج من مملكة أراغون إلا لخدمة سيدهم النصراني ودون اصطحاب أبنائهم . وقرر القانون بأن المسلمة المسترقة التي تحمل من سيدها لا تصبح حرة إلا إذا اعترف السيد النصراني بأنه منها. وإذا حملت من غير سيدها، إن كان نصر"نيا تظل مسترقة ويجبر النصراني على أخذ ابنه ، وإن ماتت المرأة عند الولادة، دفع ثمنها لسيدها. وأمر القانون أن توضع أحياء المسلمين تحت إشراف مراقب نصراني ، وحرم على المسلمين الأذان تحت طائلة الإعدام ،

(1/6984)

وفرض عقوبة الموت على المسلم الذي يجرح نصرانيا في غير الدفاع المشروع ، وغرامة تعادل ضعفي الغرامة التي يدفعها النصراني في حالة الدفاع المشروع .

وأصدر الملك ألفونسو الخامس قانونا يمنع فيه هجرة المسلم حتى لو حصل على موافقة سيده الإقطاعي . وأصدر سنة 1428م. قانونا أكد فيه حق السادة الإقطاعيين في القضاء بين جميع أتباعهم بمن فيم كم المسلمين ، وأصدر أمرا يقضي بأنه لا يحق للمسلم أن يدعي الفقر ليتخلص من لمضاء سيده وليطالب بمحاكمته أمام عام الدولة كما هو الوضع بالنسبة للفقراء. وقرر أن المسلم إذا بدل مقر

(1/6985)

سكناه من إقطاع إلى إقطاع آخر دون تصفية حساباته ، صودرت كل أملاكه المنقولة وغير المنقولة! وإذا بدل مقره دون موافقة سيده الإقطاعي ، فرض عليه الرق وعلى زوجته وأولاد ه .

(3) E.Ciscar y R. Garcia Carcel Moriscos I Agermanats, Valencia, 1974 pp 31-32.

هذا هو الوضع الذي كان عليه المسلمون في مملكة أراغون قبل سقوط غرناطة. وكانوا يعيشون كمسلمين تحت حكم النصارى لمدة تتراوح بين القرنين والثلاثة قرون يعملون كمزارعين لساداتهم النصارى لهم عليهم سيطرة تشبه سيطرة السادة على العبيد. ونظموا أنفسهم دينيا في

(1/6986)

جماعات تعيش حول مساجدها، لها فقهاؤها وعلماؤها. لكن هذا التوازن الذي تعود عليه المدجنون في مملكة أراغون سيختل إلى الأسوإ بعد سقوط غرناطة .

أصبحت مخاوف مسلمي أراغون تتزايد مغذ صدور الأمر بتنصير مسلمي غرناطة ثم مسلمي قشتالة سنة 1502م. فتدخل السادة الإقطاعيون الذين يعمل المسلمون في أراضيهم أمام مجلس الكورتش في برشلونة سنة 1502م لحمايتهم من التنصير الإجباري أو الطرد. ولقد جاءت هذه الحماية بعض النتائج في أول الأمر حتى أن الملك كارلوس الأول اضطر سنة 1517م إلى أن يكذب الشائعات التي تنسب إليه نية طرد

(1/6987)

المسلمين من مملكة أراغون (3). لكن عداوة الكنيسة وعامة النصارى للمسلفين كانت قوية، كما أن الدولة سلحت عامة النصارى سنة 1509م لرد هجوم المجاهدين الأتراك على السواحل ومنعت المسلمين من سكنى السواحل .

وأصبح هذا العداء يظهر بشكل واضح ودموي بعد حادث قتل عبدين من طرف مسلمين في 20/5/1521م ، فهاجم النصارى قرى إسلامية في منطقة بلنسية في شهر يونيو سنة 1521م ، وفي 15/7/1521م هاجمت قوة من النصارى قوامها 400 شخص بلدة مربيط الإسلامية. وفي شهر غشت من نفس السنة أجبر النصارى15000.مسلم على التنصر بالقوة خاصة في

(1/6988)

بلدة بولوب وضواحيها. وفي مارس سنة 1522م قامت قوة من النصارى بالإغارة على قريتين مسلمتين هما البركة والكوثر(4).

ومنذ مارس سنة 1523م أخذت محاكم التفتيش، تناقش موضوع تشبث المورسكيين (وهو الاسم الذي أطلق على المسلمين المنصرين عنوة) بالإسلام ، فقام المفتش العام دون ألونسو منريكى بعقد اجتماع لمحاكم التفتيش في شهر يناير عام

(4) Ref.3.pp.122-125.

1524م لدراسة موضوع رجوع الذين تنصروا منذ عام 1521م إلى الإسلام . وتأجل الاجتماع عدة مرات ، ثم عقد أولى جلساته في 19/2/1525م ودامت الاجتماعات إلى 22/6/1525م

(1/6989)

. فقرر الجيم بأن المسلمين الذين أجبروا على التنصر هم نصارى وجب عليهم أن يعيشوا حياة النصارى، وعلى "محاكم التفتيش " أن تعاملهم معاملة المرتدين إذا رفضوا ذلك .

وفي نفس الوقت طلب كارلوس الخامس رأي البابا في الأمر. فأصدر البابا كليمنت السابع أمرا بتاريخ 12/5/1524م يتضمن تبرئة الملك من قسمه في المحافظة على حقوق المسلمين ومطالبته بتحويل المسلمين إلى النصرانية بالقوة ومنحه حق فرض الرق على من رفض ونصحه باستعمال محام التفتيش لإرهاب المسلمين وإجبارهم على التنصر. وفي 16/11/1525م أصدر الملك أمرا بتنفيذ

(1/6990)

مضمون الأمر البابوي وقضى بتنصير المسلمين ونزع السلاح منهم وتحويل جميع المساجد إلى كنائس تحت طائلة إيقاع المعارضين في الرق بعد 8/12/1525 . وفي 10/12/1525 م طلب مفوض ديوان التفتيش من المسلمين الرافضين التنصر الاستعداد لترك بيوتهم والخروج من المملكة في موعد أقصاه 21/1/1526م (5).

V-خاتمة:

إن أوضاع المسلمين في الممالك النصرانية الإيبيرلية لم يكن بالجيد، كما رأينا سابقا. ولكن بالمقارنة مع ما كانت عليه في أوروبا النصرانية آنذاك ، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، فعلى الأقل كمان مسموحا بوجود جاليات

(1/6991)

إسلامية جيلا بعد جيل في الدولة الإيبيرلية. ولم ينته هذا الوضع إلا بسقوط غرناطة الذي أدى إلى اكبر جريمة في تاريخ إسبانيا، وهذه قصة أخرى.

(5)A.Redondo,Fray antonio de Guerera de son temps, Paris 1976 section 2, chapitre 5.

(1/6992)

انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أورباوأثر ذلك في تطور علم الطب عند الأوربيين

الدكتور إبراهيم بن محمد الحمد المزيني

كلية العلوم الاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض

... حظي علم الطب باهتمام بالغ من المسلمين في ظل الحضارة الإسلامية، ولقي تشجيعا كبيرا وعناية واسعة من خلفاء المسلمين وسلاطينهم على مر العصور الإسلامية. تجلى ذلك في الاهتمام الكبير في هذا العلم تعلما وتعليما وعناية بتعريب الآثار السابقة لهم وتطوير هذا العلم بمدارسه وفروعه وتشجيع المنتمين له. وقد برع المسلمضون

(1/6993)

في الانفتاح على مآثر الطب عند الأمم السابقة، وبخاصة الطب اليوناني، وعملوا على نقل مجموعات كبيرة من المؤلفات الطبية اليونانية إلى اللغة العربية في مختلف فروع العلم. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أضافوا إليها الكثير من بحوثهم وابتكاراتهم وتجاربهم الشخصية، فكثرت شروحاتهم لها من واقع مشاهداتهم، وازدادت عناية المسلمين في هذا العلم حتى بلغ درجة عالية من التطور وسار به العلماء شوطا كبيرا، فوضعوا له أصولا ومناهج نظرية، وألفوا فيه كتبا كثيرة في مختلف التخصصات الطبية بجانب التجارب العملية التي كانت تجرى في

(1/6994)

المستشفيات حيث كان طلبة الطب يمرون على المرضى مع أساتذتهم ويقابلون ما درسوه نظريا بما يشاهدونه واقعا، مما كان له الأثر الواضح في تطور العملية التعليمية للطب عند المسلمين. وقد أدى ذلك بدوره إلى إنتاج كم هائل من الآثار والدراسات الطبية المبتكرة التي كان لها الأثر الواسع في إثراء الدراسات الطبية وارتقائها حتى بلغ المسلمون بهذا العلم موقع الريادة بين الأمم، وكان لهم الفضل الكبير في تقدم الإنسانية ورقي الأمم في هذا العلم.

(1/6995)

... وكان من مظاهر تشجيع المسلمين لهذا العلم ذلك الاهتمام الكبير بإنشاء دور التعليم التي تعنى بتدريس العلوم الطبية، وفي اختيار الأطباء المبرزين للتدريس في هذه المراكز والإشراف عليها حيث تعددت تلك المراكز وتنوعت. فدرس علم الطب في المساجد ومنازل العلماء ومجالس طبية عامة والبيمارستانات. وفوق هذا كله، تميزت الحضارة الإسلامية بظهور مدارس أنشئت خصيصا لتدريس هذا العلم، لم يكن لها غرض آخر غير تدريس الطب يشرف عليها أساتذة متخصصون ويدرس فيها رؤساء الطب المتميزون ويطبق فيها نظام تعليمي دقيق، مما كان له

(1/6996)

الأثر الواضح في تطور الدراسات الطبية وارتقائها.

... وبتعدد تلك المراكز الطبية وتنوعها عند المسلمين اشتهر فيها عدد كبير من الأطباء المتميزين الذين خلفوا تراثا طبيا رائعا ودراسات رائدة أثرت هذا العلم بصورة كبيرة. ليس هذا فحسب، بل إن من هؤلاء الأطباء من بلغ بروزه في هذا العلم درجة جعلته منشد طلبة العلم في كل موقع سواء بالحضور إليه أو بدراسة آثاره ومؤلفاته بلغاتها العربية أو ترجمتها إلى لغات أخرى، الأمر الذي أكد فضل علماء المسلمين في تطور الطب الحديث وأثرهم على غيرهم من الأمم في معرفة هذا العلم

(1/6997)

والارتقاء به، وهو أمر واضح وجلي لمعظم المشتغلين في حقل الطب وتاريخه في مختلف دول العالم. وقد جسد ذلك الأثر عدد من العلماء والكتاب في الحضارة. من ذلك ما كتبه خوسيه لويس بارسلو في بحث ألقاه في المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي، المعقود في دولة الكويت تحت عنوان: "أثر العلوم الإسلامية في تطور الطب":

إن الأهمية الحقيقية والحاسمة للعلوم الإسلامية في الماضي تكمن في أثرها في تطور الطب في المستقبل. فبفضل الإسلام، وجدت القواعد الحالية لعلوم الطب. ولقد حان الوقت لنعرف مثل هذه الحقائق، وأن يحتل العالم

(1/6998)

الإسلامي مكانته الصحيحة في حقل العلم إحقاقا للحق. ففي عام 953م أرسل أوتو العظيم ملك الألمان سفيرا من لدنه إلى قرطبة، إلى راهب يدعى جون الذي عاش ما يقرب ثلاث سنوات في عاصمة الخلافة الأندلسية. وقد تعلم العربية بإتقان. وعند عودته إلى موطنه، حمل معه مئات المخطوطات الطبية والعلمية القيمة، والتي ساعدت على نشر جوهر علوم العرب العظيمة في أوربا الغربية بصورة سريعة ومدهشة(1).

__________

(1) الفاضل عبيد عمر، "الطب الإسلامي عبر القرون"، الرياض، دار الشواف، جده، دار المطبوعات الحديثة، 1410هـ/1989م، ص.82.

(1/6999)

... وفي احتفال أقيم في جامعة برلين بألمانيا، أشار الدكتور غريسيب رئيس فرع الطب فيها إلى فضل العلماء المسلمين على الإنسانية في علم الطب فقال:

أيها الطلاب المسلمون، والآن قد انعكس الأمر، فنحن الأوربيين يجب أن نؤدي ما علينا تجاهكم. فما هذه العلوم إلا امتدادا لعلوم آبائكم، وشرحا لمعارفهم ونظرياتهم، فلا تنسوا أيها الطلبة تاريخكم، وعليكم بالعمل المتواصل لتعيدوا مجدكم الغابر، طالما أن كتابكم المقدس، عنوان نهضتكم، ما زال موجودا بينكم وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا للمستقبل. ففي

(1/7000)

قرآنكم علم وثقافة، ونور ومعرفة، وسلام عليكم يا طلابنا إن كنا في الماضي طلابكم(1).

... ويضيف الأستاذ جلال مظهر في كتابه: "حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي" قائلا:

كان المسلمون في خلال القرن التاسع الميلادي قد تمثلوا واستوعبوا استيعابا تاما المعارف الطبية التي خلفها القدماء، وخاصة اليونان، واستطاع الأطباء المسلمون في أقصر وقت ممكن أن يجلسوا على عرش الطب وحدهم، ويميزوا أنفسهم باعتبارهم حاملين لواء هذا العلم

__________

(1) جلال مظهر، "أثر العرب في الحضارة الأوربية"، بيروت، دار الرائد، 1967م، ص.192.

(1/7001)

والمسؤولين عن تقدمه وارتقائه في خلال العصور الوسطى برمتها. ولقد بقي تأثيرهم في بعض الحالات إلى عصر النهضة وبعده أيضا. والحق أنهم تفرقوا على اليونان. وتدلنا جميع الوثائق التاريخية على أن جميع الأطباء والمؤلفين الأوربيين في الطب في القرون الوسطى استقوا معظم كتاباتهم وأهمها عن العرب لا عن اليونان(1).

... ويذكر الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه "لمحات من تاريخ الطب عند المسلمين الأوائل" أن هناك إجماعا

__________

(1) جلال مظهر، "حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي"، القاهرة، مكتبة الخانجي، صص.320-321.

(1/7002)

بين مؤرخي العلوم على أن ما قدمه العلماء المسلمون الأوائل في حقل الطب يعتبر الأساس المتين للطب الحديث. ويؤكد ذلك الأستاذ قالدستون الذي أورد في مقالته "مكتشف الطب في بلاد العرب" أنه مما لا يقبل الجدل أن المعلومات التي وصلت إلينا من أطباء العرب هي في الحقيقة الحجر الأساسي للطب الحديث؛ ولولا هذه الإسهامات العظيمة، لما وصل الطب الحديث إلى المستوى الذي وصل إليه(1).

__________

(1) علي عبد الله الدفاع، "لمحات من تاريخ الطب عند المسلمين الأوائل"، الرياض، دار الرفاعي، 1983م، ص.27.

(1/7003)

... ويضيف الأستاذ روم لاندو في كتابه "الإسلام والعرب":

لم يوسع المسلمون في دراستهم وبحوثهم الطبية آفاق الطب فحسب، بل وسعوا المفاهيم الإنسانية على وجه العموم. وإذا كان من واجبنا أن نعتبر فلق الذرة والقنبلة الذرية رمزا لأروع المنجزات العلمية في منتصف القرن العشرين، فلن يبدو من مجرد المسافة أيضا أن تكون جهود المسلمين الطبية المبكرة قد قادتهم إلى اكتشاف لا يقل عن هذا الكشف الذري ثورية.

... وهكذا يتضح لنا جليا المجهود الذي بذله الأطباء المسلمون الأوائل في سبيل تقدم الطب وازدهاره. ويظهر لنا الأثر

(1/7004)

الذي تركته هذه المجهودات في تثبيت قواعد الطب الحديث في العالم على أساس سليم قائم على العلم(1).

... أما "انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أوربا وأثر ذلك في تطور علم الطب عند الأوربيين"، وهو موضوع حديثنا في هذه الورقة، فقد سجل في تاريخ الإنسانية بمداد من نور وتواترت شهادات المنصفين في تجسيد ذلك. إذ أنه في الوقت الذي ازدهر فيه علم الطب عند المسلمين وبلغ درجة عالية من التطور بالاكتشافات الطبية الرائدة والمؤلفات العلمية المهمة، وبما اشتهر

__________

(1) الفاضل عمر، "الطب الإسلامي عبر العصور"، صص.83-84.

(1/7005)

به المسلمون من طرق مبتكرة في تشخيص الأمراض وطرق العلاج وصنع العقاقير والمركبات الطبية المتنوعة، وتطوير مجالي الجراحة والتشريح، والتوسع في بناء المستشفيات (البيمارستانات) والتفنن بها، فقد بقيت أوربا -وخاصة بين القرنين الأول والخامس الهجري (أي بين القرنين السابع والحادي عشر الميلادي)- في ظلام دامس يعتبر ما وصل إليه العلماء المسلمون في الطب خرافة ووهما لا فائدة منهما. ولم يتغير ذلك الاعتقاد إلا في عصر النهضة الأوربية، أي نصف القرن الخامس عشر الميلادي. لذا اعتمدت معظم جامعات ومستشفيات أوربا اعتمادا

(1/7006)

كليا على إنتاج علماء المسلمين(1).

... وقد نشرت مجلة "العالم الإسلامي" الطبية الصادرة في لندن مقالا للدكتور عبد العزيز عاشور تحدث فيه عن أوربا في العصور المظلمة ودخول الطب الإسلامي إليها، ودور الأندلس في نشر الوعي الطبي بين الأوربيين. فذكر الكاتب أنه في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الذهبي، كانت أوربا الغربية تعيش في ظلام وبربرية؛ وكانت الكنيسة تتحكم في الطب؛ وكان الدجالون والمشعوذون هو

__________

(1) علي عبد الله الدفاع، "أعلام العرب والمسلمين في الطب"، دار الرسالة، 1983م، 2، ص.21.

(1/7007)

الذين يعتمد عليهم المرضى في العلاج. فقد أصاب سقوط الإمبراطورية الرومانية أوربا كلها بالشلل، واختفت المدارس الرومانية الوحيدة في أوربا، وحلت محلها مدارس كنسية لم تهتم كثيرا بالعلوم الطبية.

... ومما بلغ حدا واسعا في التأثير هو تلك المؤلفات الطبية الإسلامية التي لقيت اهتماما كبيرا من الأوربيين وترجمت إلى مختلف اللغات الأوربية. واستمرت تلك المؤلفات قرونا عدة كانت خلالها هي المصادر الأساسية التي يعتمد عليها الأوربيون في تعلم الطب سواء بأصولها العربية أو بترجماتها. يقول رونلد كامبل في كتابه "الطب

(1/7008)

العربي": "لقد بقيت جامعات أوربا تستند تماما على إسهامات علماء العرب في الطب، بل إن مقرراتهم في كليات الطب بقيت تستعمل "القانون" لابن سينا و"الحاوي" للرازي وغيرهما حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي"(1).

... كما طغى تأثير أطباء المسلمين على العالم الغربي عبر القرون اللاحقة، وبالأخص خلال الفترة من القرن الخامس إلى الثامن الهجري (الموافق الحادي عشر إلى الرابع عشر الميلادي). فقد بقي علماء أوربا يتعلمون في مدارس وجامعات الأمة الإسلامية في الأندلس وصقلية وغيرها،

__________

(1) الفاضل عمر، المرجع السابق، ص.80.

(1/7009)

حتى تمكنوا من اللغة العربية. ثم قاموا بترجمة علوم المسلمين في الطب وغيره. يقول كل من ج. قراتان وشارلز سنجر في كتابهما "السحر والطب عند الأنجلوسكسوني":

ومما لا يقبل الشك أن تأثير علماء العرب والمسلمين في الطب على أطباء أوربا خلال القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الرابع عشر الميلادي، لا يحتاج إلى برهان. والجدير بالذكر أن كثيرا من المنصفين من علماء أوربا الغربية، يعترفون بما قدمه علماء العرب والمسلمين في العلوم، كما أن النظريات والأفكار الطبية صارت تدرس في جميع أنحاء المعمورة. ومن يحب أن يتفنن

(1/7010)

في حقل الطب بفروعه المختلفة، يلزمه إجادة اللغة العربية(1).

ويقول العلامة دريبر، المدرس بجامعة هارفارد بأمريكا:

إن جامعات المسلمين كانت مفتوحة للطلبة الأوربيين الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم، وكان ملوك أوربا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها. وأول مدرسة أنشئت للطب في أوربا هي المدرسة التي أسسها العرب في "باليرم" من إيطاليا(2).

__________

(1) المرجع نفسه، صص.81-82.

(2) أحمد عبد الرحيم السايح، "أضواء على الحضارة الإسلامية"، الرياض، دار اللواء، 1401هـ/1981م، ص.106.

(1/7011)

... ويشار هنا إلى أن أوربا قد استمدت معارفها وعلومها من الحضارة الإسلامية، من خلال ثلاثة طرق رئيسة هي: بلاد الأندلس في الغرب الإسلامي، وجزيرة صقلية، والحروب الصليبية في الشرق الإسلامي.

... وهناك طرق أخرى أقل تأثيرا من الطرق السابقة، تتمثل في الرحلات التي قام بها الأوربيون إلى العالم الإسلامي والبعثات العلمية المرسلة من قبل ملوك أوربا إلى الديار الإسلامية. وقد انتقل علم الطب شأنه شأن العلوم الأخرى إلى أوربا عبر هذه الطرق جميعها. ويمكن إيضاح ذلك وفق التفصيل الآتي:

أولا: طريق الأندلس:

(1/7012)

... استمر وجود المسلمين في الأندلس مدة تزيد على ثمانية قرون (12-897هـ) عاشت فيها بلاد الأندلس في مجمل عصور الحكم الإسلامي فيها نهضة علمية مزدهرة شهدت خلالها الأندلس قمة التفوق العلمي والتطور الفكري الذي شمل مختلف أوجه المعرفة وفروعها، شجع على ذلك التشجيع المطلق الذي لقيه التعليم في تلك البلاد والتنافس بين الحكام في رعاية العلم والعلماء.

... وكان من بين العلوم التي بلغت حدا كبيرا في نشاطها علم الطب الذي حقق فيه المسلمون في تلك البلاد إنجازات رائعة، فأضافوا إلى المعارف الطبية اكتشافات ومعارف

(1/7013)

جديدة رفعت من مكانة المسلمين في هذا العلم.

... وقد اشتهرت الأندلس بتعدد المراكز العلمية المنتشرة في جميع أنحاء مدنها مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية وغيرها من المدن التي كان يفد إليها طلبة العلم من مختلف بلاد العالم الإسلامي بالإضافة إلي طلاب أوربا، وكانوا يلتحقون بمعاهدها العليا ينهلون من معين الحضارة وينبوع المعارف العامة ومنها الطب. وكان ممن وصف الأثر العلمي لبلاد الأندلس على أوربا الدكتور محمد الصديقي حيث قال:

(1/7014)

وارتحل كثير من تلامذة الإفرنج إلى مدارس الأندلس، ودخلوا في جامعاتها أفواجا، وكانت الأندلس في ذلك العصر في أسمى منزلة من منازل العلوم والآداب، ثم رجعوا إلى أوطانهم متنورين متبحرين في العلوم والفنون(1).

... أما عن انتقال العلوم الحضارية بعمومها إلى أوربا عبر هذا الطريق، فقد أفاق الأوربيون من سباتهم على نور الحضارة الإسلامية في الأندلس وبهرهم شعاعها ولفت نظرهم تألقها، فاتجهوا نحوها ينهلون من معين تلك الحضارة. ويمكن أن

__________

(1) "انتشار العرب وعلومهم في فرنسا"، الهند، مطبعة أسرار كريمي، 1941م، ص.14.

(1/7015)

نشير إلى أن طور التأثير الحضاري للأندلس في أوربا قد بدأ تقريبا من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. ففي هذا القرن، وهو عصر الخلافة الأموية في الأندلس، ارتقت الأندلس في مدارج المعرفة درجة عالية فاجتذبت إليها الأنظار وشدت إليها القلوب من أقطار أوربا كإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا لدراسة علوم العرب ومعارفهم المختلفة، واقتباس ألوان الحضارة والتمدن. وكان بعض هؤلاء الطلبة الأوربيين من أبناء الأمراء والنبلاء، وكانوا يقصدون بلاطات خلفاء وأمراء المسلمين ليتلقوا ألوان الأدب والفروسية(1)

__________

(1) زيغرد هونكه، "شمس العرب تسطع على الغرب"، تعريب فاروق بيضون وكمال دسوقي، بيروت، المكتب التجاري، ط2، 1969م، ص.50.

(1/7016)

.

... وفي الوقت نفسه استقدمت إنجلترا عددا من العلماء والمهندسين العرب الذين شيدوا أكبر جسر على نهر التايمز في بريطانيا. وقد عرف باسم جسر هليشم (Helichem)، وهو تحريف لكلمة هشام خليفة الأندلس عرفانا بفضله عليهم ومساعدته لهم. وكذلك كان للمهندسين العرب فضل في إنشاء قباب الكنائس في بافاريا، ولا تزال توجد بمدينة شتوتغارت الألمانية حتى اليوم سقاية ماء تدعى أميديو (Amedeo)، وهو تحريف لاسم أحمد. ويبدو أنه اسم المهندس العربي الذي بناها(1)

__________

(1) خليل السامرائي وآخرون، "تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس"، جامعة الموصل، ص.376.

(1/7017)

.

... كما أن التأثير العلمي للأندلس في أوربا كان يتم عن طريق ترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأوربية المختلفة منها، بل أهمها آنذاك اللاتينية والعبرية. وكانت الترجمة أهم وسائل الاتصال العلمي بين الأندلس وأوربا وأكثرها أثرا. يقول الدميلي حول ذلك:

... في شبه جزيرة الأندلس كانت حركة نقل العلم العربي إلى العالم المسيحي أعمق تغلغلا وأشد قوة، ودامت مدة أطول عهدا من كل مكان آخر(1)

__________

(1) "العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي"، ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف موسى، دمشق، دار القلم، 1962م، ص.453.

(1/7018)

.

... ويضيف ولز في أثر الترجمة قائلا: "وازدادت معرفة الناس –يقصد أوربا- بواسطة الترجمات اللاتينية المنقولة عن النسخ العربية"(1).

... ويمكن ربط بدايات التأثير الطبي للأندلس في أوربا في وجود نسخة لاتينية من "حكم" أبقراط كانت تدرس في مدينة شارتر بفرنسا سنة 381هـ/991م. وهذا يعني افتراضا وجود تأثير ثقافي عربي مبكر في فرنسا، لأن مثل هذه الترجمة كانت عن أصل عربي. فالغرب اللاتيني

__________

(1) "معالم تاريخ الإنسانية"، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1950م، ج3، ص.802.

(1/7019)

كان جاهلا جهلا تاما بالأصول اليونانية لآثار اليونان العلمية(1).

... وكان الملوك والأمراء المسيحيون في شمال إسبانيا وفرنسا وغيرها إذا أصاب أحدهم وعكة أو ألم به مرض رمى ببصره إلى الأندلس وسعى إلى استقدام ذائعي الصيت من أطبائها وحكمائها، لما يأنسه فيهم من اقتدار في الطب وعلاج الأمراض.

... وكانت معظم الكتب تترجم في طليطلة التي أصبحت مركزا علميا هاما يشع ألوان المعرفة إلى جميع أنحاء أوربا. ولم يكن

__________

(1) جلال مظهر، "الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث"، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، ص.129.

(1/7020)

هذا الإشعاع إلا نتاج قرائح علماء المسلمين في الأندلس وغيرها. واستمرت طليطلة على دورها في ترجمة عيون المصنفات العربية في فروع العلم المختلفة.

... وفي عهد ألفونسو السابع تولى أسقفية طليطلة الأسقف ريموند (526-547هـ/ 1131-1152م). فقام هذا الأسقف بدور كبير في ازدهار الترجمة نقل كثيرا من الآثار العربية إلى اللاتينية، وتولى بعنايته طائفة من المترجمين والكتاب عرفت في التاريخ بمدرسة المترجمين الطليطليين، وكان كثيرا ما يحفزهم على العمل ويشجعهم على الترجمة ويبذل لهم على ذلك الصلات والعطايا الجزيلة. فتم عن

(1/7021)

طريق هؤلاء المترجمين ترجمة مقدار ضخم من التراث العلمي الإسلامي في الفلك والطب والكيمياء والطبيعة والمنطق والرياضيات والأدب وغيرها(1).

... وقد ساعدت هذه الجمعية على دفع عجلة الترجمة، وتركت أثرا واضحا للطب الإسلامي في أوربا اللاتينية، وبدأت تظهر جامعات أوربية تعنى بالطب الإسلامي مثل جامعة نابولي وباريس وبولونيا وغيرها. وفي هذه الجامعات لمعت

__________

(1) سعد بن عبد الله البشري، "الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس"، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414هـ/1993م، صص.540-541.

(1/7022)

أسماء الأطباء المسلمين الرازي وابن سينا والزهراوي، وأصبحت كتبهم مراجع أساسية لطلاب هذه الجامعات وأساتذتها. وصارت الأدوية والوصفات الطبية وأدوات الجراحة الإسلامية متداولة في أروقة هذه الجامعات حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.

... وفي القرن الثاني عشر الميلادي بلغت حركة الترجمة من العربية غايتها من النشاط، فترجم عدد كبير من الكتب الطبية المشهورة، أو أعيد ترجمة الكتب التي كان ترجمها قسطنطين الإفريقي ترجمة رديئة أو ناقصة. وكانت معظمها على يد أشهر المترجمين الأوربيين وأكثرهم نشاطا وهو جيرارد

(1/7023)

الكريموني (1114-1187م) الإيطالي الذي جاء إلى طليطلة وانضم إلى مجموعة المترجمين الذين كانوا تحت رعاية رئيس أساقفتها ريموند. ومن هؤلاء المترجمين ماركوس الطليطلي، وغنديسلاوي، ويوحنا الإشبيلي؛ ومن الأجانب روبرت الرتيني، وأديلارد الباثي، وألبرت، ودانيال مورلي وهرمان الدلماشي، وكانت طليطلة قد سقطت في أيدي النصارى الإسبان في سنة 1085م، فنشطت فيها حركة الترجمة المنظمة. وعرفت هذه الحركة بمدرسة طليطلة. وجاء إليها بعض العلماء الإنجليز والطليان والألمان، ليتعلموا العربية وينهلوا من منهل الثقافة العربية

(1/7024)

فيها.

... فمما ترجم جيرارد الكريموني من كتب الطب، "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" (قسم الجراحة) للطبيب الجراح الأندلسي أبي القاسم الزهراوي، وكان كتابا تعليميا زهاء خمسة قرون في أوربا، وكتاب "التذكرة في طب العيون وجراحتها" لعلي ابن عيسى الكحال الدمشقي، وعرف هذا المؤلف في أوربا اللاتينية باسم Haly، وترجم معه كتاب عمار الموصلي في طب العيون أيضا، وقد استخدما معا في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر، وكتاب "المنصوري" للرازي، وقد ذاعت المقالة العاشرة منه عن الحميات

(1/7025)

ذيوعا كبيرا في أوربا، وطبعت عدة مرات(1). وقد بلغ ما ترجمه جيرارد زهاء مائة كتاب ويقال بأن بعضها من نتاج تلاميذه، وبعضها بالاشتراك مع غيره خاصة غالب (Gallipus)(2)، وهو مستغرب وكان نزيها وذا كفاءة عالية في الترجمة وحسن الاختيار للكتب التي ترجمها. وكان موسوعيا في الترجمة حيث قام أيضا بترجمة كتب في الطب كالفلك والرياضيات والأدب.

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب ودورهم في الحضارة العالمية"، الرياض، دار المريخ 1407هـ/1987، صص.111-112.

(2) سعد البشري، المرجع السابق، صص.542-543.

(1/7026)

... وظل حال الترجمة في طليطلة على هذا الوضع حتى القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي)، حيث ظهر الملك ألفونسو الحكيم (650-683هـ/1252-1284م) الذي قام بجهود جبارة في الترجمة والاقتباس عن العلوم والمعارف العربية إلى اللغتين اللاتينية والقشتالية.

... وكان يعمل لديه عدد من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وقد أنشأ ألفونسو الحكيم معهدا للدراسات اللاتينية العربية سنة 652هـ/1254م في إشبيلية؛ كما اتجه اهتمام ألفونسو الحكيم إلى تدوين واسع للأحداث العامة تحت نظره، وكان اعتماده في ذلك على

(1/7027)

مصادر التاريخ العربي ووثائقه، كما ركز جهده على ترجمة المصنفات والآثار العلمية في الفلك(1).

... وفي القرن الثالث عشر الميلادي ترجم فرج بن سالم أشهر الكتب الطبية العربية وأوسعها بعد "القانون" لابن سينا، وهو كتاب "الحاوي" لأبي بكر الرازي، كما ترجم في هذا القرن كتاب "التيسير في المداواة والتدبير" لابن زهر الأندلسي الذي كان أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في العصر الموحدي الذي شهد نهضة طبية رائدة؛ وهو الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة 557هـ والذي

__________

(1) المرجع نفسه، ص.543.

(1/7028)

ترك لنا مؤلفات جليلة مشهورة كان من أبرزها هذا الكتاب الذي ركز فيه على فكرة أن التجربة خير وسيلة لاكتشاف الأمراض وعلاجها، مما قاده إلى الخروج بآراء مبتكرة تقوم على الحقائق الثابتة. وقد تنبه الأوربيون لأهمية هذا الكتاب منذ القرن الثالث عشر الميلادي، حيث ترجم إلى العبرية أولا ثم إلى اللاتينية. وصار هذا الكتاب أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي(1)

__________

(1) يوسف بن علي العريني، "الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي"، الرياض، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1416هـ، صص.332-335.

(1/7029)

، وكان قد ترجمه جون الكابوني (John of Capoa). ومن أهم الكتب الطبية العربية التي ترجمت خارج إسبانيا كتاب "الكليات" لابن رشد الفيلسوف الطبيب الأندلسي المشهور، وقد ترجمه أحد المترجمين غير المشهورين، بوناكوسا (Bonacosa) من بادوا (Padua) بإيطاليا سنة 1255م بعنوان (Colliget) وفصوله عن التنفس تمتاز بالنقد الأصيل لنظرية جالينوس(1).

... ولم يكد القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يؤذن بالزوال حتى انتهى العصر الذهبي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، وإن

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، صص.112-113.

(1/7030)

بقيت الترجمة حتى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي قائمة. غير أن ما ترجم حتى نهاية القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يعتبر بحق مفتاح النهضة الحضارية والازدهار العلمي والفكري لأوربا(1).

... وجدير بنا أن نتحدث هنا عن تلك المدرسة الطبية التي أدت دورا مهما في نقل ألوان التراث الطبي العربي الإسلامي إلى أوربا. وهذه المدرسة هي مدرسة مونبيليه بجنوب فرنسا. وقد ذاعت شهرتها في دراسة الطب منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وكان يعيش بهذه

__________

(1) سعد البشري، المرجع السابق، ص.543.

(1/7031)

المدينة التي تنتسب إليها المدرسة طوائف كبيرة من العرب واليهود بالإضافة إلى المسيحيين الذين يجيدون اللغة العربية. وفي ظل شيء من التسامح الديني، عاشت تلك الطوائف معا في خدمة العلم وترجمة كتب الطب العربية وتدريسها. وكان لهذه المدرسة في أوائل القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي روابط وصلات متينة مع مراكز الطب العربية في جنوب الأندلس، وهو ما يؤكد عظم المهمة التي تولتها هذه المدرسة في نشر المعارف الطبية العربية في أوربا(1).

__________

(1) المرجع السابق، ص.546.

(1/7032)

... وقد قام بتأسيس هذه المدرسة الكاردينال كونراد سنة 1220م ونظمها على شبه مدارس الطب الإسلامية. واحتل الطب الإسلامي مركز الصدارة في برنامج التدريس فيها طيلة القرن الثالث عشر والرابع عشر، فكان الأساتذة يشرحون كتب ابن سينا والرازي وأبي القاسم الزهراوي. وكانت هذه المدرسة على اتصال دائم بالمدارس العربية في جنوب إسبانيا، الأمر الذي يؤكد التأثير الفاعل لمدرسة مونبليه على تطور الطب الأوربي على الطريقة العربية(1)

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين: تاريخ ومساهمات"، جدة، الدار السعودية، 1407هـ/1987، ص.383.

(1/7033)

.

... ولعل أهم ما تميزت به هذه المدرسة الطبية الشهيرة ما ضمته من مخطوطات طبية عربية كثيرة في الوقت الذي لم يكن في مكتبة جامعة باريس سوى تسعة كتب طبية أهمها "الحاوي" للطبيب المشرقي الرازي.

... وكان لما صنفه بعض أطباء الأندلس أثر عظيم في ازدهار الدراسات الطبية في أوربا. فمنهم الطبيب والصيدلي عبد الرحمن بن وافد (كان حيا سنة 460هـ/1067م) والذي عرف عند الأوربيين بابن ويفيت (Eben Guefith) وبأسماء أخرى مشابهة. وكان من أعظم الأطباء والصيادلة الذين أثروا حقل الطب بدراساتهم العلمية القيمة. فكتابه الشهير

(1/7034)

عن الأدوية المفردة لقي إقبالا عظيما من أهل عصره ومن بعدهم من مسلمين وأوربيين في القرن السادس والسابع الهجريين/الثاني عشر الميلادي، وترجم إلى اللاتينية والعبرية والقطلانية وأفادوا منه في علم الصيدلة وتركيب الأدوية وصناعة العقاقير(1).

ثانيا: طريق جزيرة صقلية

... وهي الطريق الثاني لانتقال العلوم الإسلامية إلى أوربا حيث كانت تلك الجزيرة تنعم بالرقي والتقدم العلمي في ظل الحضارة الإسلامية، وكانت مركزا من مراكز الثقافة الإسلامية.

__________

(1) سعيد البشري، المرجع السابق، ص.547.

(1/7035)

... وكانت قبلها صقلية تعيش حالة من التأخر والجهل إلى أن افتتحها المسلمون سنة 212هـ/877م على يد الأغالبة بقيادة القائد المسلم أسد بن الفرات، فوفدوا إليها بعقلياتهم وثقافاتهم ومذاهبهم وحملوا معهم إليها طائفة من الكتب العربية أو المنقولة إلى العربية متنوعة في ثقافاتها. ومن هنا بدأ التلاقح الفكري. فما هي إلا فترة قصيرة استراحت فيها بعض الراحة من الحروب والفتن حتى أنتجت إنتاجا متنوعا في الفقه والحديث واللغة والفلسفة والطبيعة والطب والهندسة والنجوم، وكان ذلك في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس

(1/7036)

للهجرة.

... وقد استمر الحكم الإسلامي في صقلية إلى سنة 848هـ عندما سقطت في أيدي النورمان الذين ساروا على نهج المسلمين في التسامح وتنشيط الحركة العقلية في الجزيرة، فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا فريقا كبيرا منهم في حروبهم وحاشيتهم. فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في الدولة الجديدة؛ وظلت اللغة العربية لغة رسمية في الجزيرة طوال حكم النورمان، بل لقد تعلم هؤلاء العربية؛ ومنهم من برز فيها ونظم الأشعار. وتخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في التسامح الديني

(1/7037)

والسياسي، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بالإسلام، وما زالوا حتى قضوا عليهم بهذه التهمة الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة(1).

... وكان للموقع الجغرافي الفريد الذي تتمتع به جزيرة صقلية عظيم الأثر في قيامها في مهمة نقل التراث الإسلامي إلى أوربا، حيث كانت صقلية وعلى الأخص عاصمتها "بالرمو" أكثر مدنها ازدهارا وتألقا ونقلا للعلوم الإسلامية وخاصة إلى جنوب أوربا (إيطاليا وفرنسا).

__________

(1) محمد عبد الرحمن مرحبا، "الموجز في تاريخ العلوم عند العرب"، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1970، ص.238.

(1/7038)

... وفي بالرم (Palerme) التي اتخذها المسلمون عاصمة لهم في صقلية أنشأوا مدرسة للطب لم يعد مثلها في العالم اللاتيني آنذاك. وعلى غرار هذه المدرسة، أنشئت مدارس للطب في بلاد إيطاليا(1).

... في القرن الثاني عشر الميلادي أسس روجر في جزيرة صقلية أول كلية طب في أوربا قامت بتدريس طلاب الطب ومنحهم شهادات بعد التخرج تؤهلهم لممارسة مهنة الطب.

... وقد تركز أثر صقلية على أوربا في الترجمة والنقل من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية باختلافها حيث تصدت طائفة من المترجمين في صقلية لنقل التراث

__________

(1) المرجع نفسه.

(1/7039)

الإسلامي إلى أوربا في مقدمة هؤلاء قسطنطين الإفريقي الذي كان رائدا من رواد نقل التراث في القرن الحادي عشر، وقسطنطين الإفريقي (1020-1087م) عربي الأصل ولد في قرطاجة بتونس وساح في البلاد العربية حيث أتقن اللغة العربية بجانب معرفته اللغة اللاتينية واليونانية. وانتقل إلى إيطاليا حيث اتصل بجيزوفلو، أمير مدينة سالرنو، وبأخيه الطيب. ثم أمضى معظم حياته في دير مونت كاسينو حيث قام بترجمة الكتب العربية وبالتأليف. عمل بعض الوقت في مدرسة سالرنو الطبية، فأثر فيها تأثيرا بالغا بترجمته عددا من الكتب الطبية

(1/7040)

اللاتينية، وإدخاله التعليم الطبي العربي فيها كما أنه كان يكتب أيضا في القانون الصحي الذي كان يحرره عدد من أساتذة مدرسة سالرنو. ويذهب البعض إلى أنه كان قد أسلم ولكنه كتم دينه خوفا من الاضطهاد الذي كان سائدا ضد الإسلام والمدنية العربية خلال الحروب الصليبية. وظهرت أول طبعة من كتبه في بازل سنة 1537م في سبعة أجزاء. كما ترجم قسطنطين الإفريقي عددا من الكتب الطبية العربية التي كان قد أتى بها من الشمال الإفريقي والشرق العربي إلى الحكام النورمان الجدد في سالرنو. فتفرغ لترجمة هذه الكتب في دير بإيطاليا،

(1/7041)

ومنها "كتاب كامل الصناعة" لعلي بن العباس المجوسي طبيب عضد الدولة البويهي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)(1)

__________

(1) كتاب "الملكي"، أو "كامل الصناعة الطبية"، كتاب جليل في الطب كان أساسا لتدريب الطب إلى أن ظهر "القانون" لابن سينا. وهو يفرق عن "القانون" في أن مؤلفه علي بن عباس "اعتمد فيه على مشاهداته العلمية في المستشفيات لا على مجرد الدراسة النظرية. لذا يقول العلماء إن "الملكي" في العمل أبلغ؛ و"القانون" في العلم أثبت. ويتميز هذا الكتاب بمقالتيه الأولى والثانية والمشتملتين على فصول رائعة في التشريح كانت مرجعا لعلم التشريح في سالرنو بإيطاليا مدة من الزمن" (الماحي، "مقدمة في تاريخ الطب العربي"، ص.83).

(1/7042)

. وقد عرف هذا الكتاب في أوربا باسم "الكتاب الملكي". وقد قام قسطنطين بتدريس هذا الكتاب في ترجمته اللاتينية بالجامعة الطبية في سالرنو التي تخرج منها(1). كما ترجم كتاب "زاد المسافر" لابن الجزار القيرواني (ت395هـ/1004م) وعرف الكتاب باللاتينية "Liber Regius"(2).

__________

(1) عبد الحليم منتصر، "تاريخ العلوم ودور العلماء في تقدمه"، القاهرة، دار المعارف، 1980، ص.230.

(2) توفيق الطويل، "الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية. دراسة مقارنة"، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، ص.157.

(1/7043)

... وترجم أيضا كتب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي في البول والحميات وكتب الرازي وكتاب "طب العيون" لحنين بن إسحاق وغيرها، وقيل إنه ترجم ما يقرب من سبعين كتابا طبيا من العربية، نسب بعضها إلى أطباء يونانيين. كما أصبحت بعد ذلك من الكتب التي كانت تدرس في جامعة مونبليه المشهورة بدراساتها الطبية بالإضافة إلى كتب طبية عربية أخرى مهمة ترجمت في القرن التالي(1). وكان قسطنطين أول وسيط لنقل العلوم الإسلامية إلى أوربا عن هذا الطريق، وظل تأثير قسطنين يتزايد

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، ص.111.

(1/7044)

-بفعل تلامذته- وبتأثير مدرسة سالرنو بوجه أخص -لأن تأثيرها سرعان ما امتد إلى أنحاء أوربا كلها(1).

... كما نبغ عدد من المترجمين في صقلية، منهم فرج بن سليم اليهودي المعروف عند الغرب باسم فراجوت أو فراريوس الذي ترجم كتاب "الحاوي" للرازي ترجمة رائعة انتهى منها سنة 1289م(2) وترجم أيضا "تقويم الأبدان" لابن جزلة

__________

(1) توفيق الطويل، المرجع السابق، ص.157.

(2) ماكس مايرهوف، "العلوم والطب"، ضمن مجلد "تراث الإسلام"، إشراف، توماس أرنولد، تعريب وتعليق جرجيس فتح الله، ط3، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص.499.

(1/7045)

البغدادي. كما ترجم كتاب "الطب التجريبي" لجالينوس.

... وعن هذه الجهود جميعا نشأت مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا التي ركزت على دراسة الطب، وكانت مركز إشعاع لعلم الطب في جنوب إيطاليا حيث ازدهر الطب العربي على يد أساتذة من العرب وغيرهم في أواخر القرن الحادي عشر. وبفضل عدد من المترجمين الأكفاء أمست هذه المدرسة معينا لا ينضب للثقافة والعلوم العربية ودعامة صلبة للنهضة العلمية الأوربية وبرزت مدرستها الطبية سنة 985م.

(1/7046)

وألفت كتب طبية في سالرنو أظهرت أن أطباءها لم يمتصوا المعلومات الحديثة العربية فقط، بل تمكنوا من توسيعها. وأهم مؤلفات مدرسة سالرنو هو "الموجز السالرني" و"النظام الصحي السالرني" (Regimen Satiates Salenitonum) الذي يبدو أنه ألف حوالي سنة 1100م، وهو قصيدة من 352 بيتا في الأصل. وأشهر شرح لها هو شرح أرنولد فلانوفا (Arnold of Villanova) (1235-1312م)، وهو طبيب وأديب من كاتلونيا أتقن العربية وترجم منها وألف باللاتينية. واشتهر من طلاب سالرنو مايكل سكوت [Michael Scot] (1175-1236م) الذي تضمنت إحدى وصفاته

(1/7047)

التخدير بالاستنشاق(1).

... من شواهد التأثير الفاعل للثقافة العربية في إيطاليا في تلك الحقبة إنشاء مدرسة لتعليم اللغة العربية في جنوا وإدخال كثير من الألفاظ والاصطلاحات العربية إلى اللغة الإيطالية. وكان تسامح الحكام المسلمين في صقلية كعادتهم في كل مكان حلوا فيع، عاملا مباشرا في ازدهار الثقافة والفنون والعلوم فيها، حيث شملت لغات العالم العلمية الثلاث في ذلك الزمان وهي اللاتينية واليونانية والعربية. وتم نقل المؤلفات من لغة إلى

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.385-388.

(1/7048)

أخرى، وبذلك أصبحت صقلية خير نموذج لامتزاج الثقافات وصاحبة مدنية لاتينية يونانية عربية فريدة.

... وهكذا كانت صقلية تحت الحكم الإسلامي مسرحا لنقل الحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب على الأخص إلى أوربا.

ثالثا: طريق الحروب الصليبية في الشرق

... بالقدر الذي بلغ فيه علم الطب عند المسلمين درجة عالية من التطور والرقي، وخاصة في بلاد الشام ومصر زمن الحروب الصليبية، كان الصليبيون وقتها في مستوى متدن للغاية حتى أن الطب كان عبارة عن خرافات وشعوذة. وما رواه أسامة بن منقذ يظهر لنا مدى التدني الذي كان عليه طب

(1/7049)

الصليبيين. فمن المعروف أن أسامة كان شاهد عيان اختلط بالصليبيين، ولذلك يعد حديثه عنهم حجة لها أهميتها. فقد روى أن جيلوم بوبور أخبره أثناء رحلة من عكا إلى طبرية برفقة معين الدين أنر عن فارس في أوربا مرض مرضا شديدا، فجيء إليه بقس كبير فوضع عليه يديه، وكان الحاضرون يتوقعون شفاءه فور قدوم القس. غير أن القس طلب شمعا ولينه، وعمله مثل عقد الإصبع ووضع كل واحدة في جانب أنفه فمات. وما كان من القس إلا أن التفت إليهم وقال سددت أنفه حتى يموت فيستريح(1)

__________

(1) أبو المظفر أسامة بن مرشد الشيرازي (ت584هـ-1188م)، "الاعتبار" حرره فيليب حتي، مطبعة جامعة برنستون، 1930، صص.137-138.

(1/7050)

.

... ومثل هذا الموقف الذي يحدث من جانب الصليبيين جعلهم يقدرون الطب عند أهل الشام ومصر، ويفضلون أطباء المسلمين على أطبائهم، على الرغم من معارضة رجال الكنيسة وعلى رأسهم برنار دي كليرفو الذي كان أحد معاصري أسامة بن منقذ وكان يؤمن بالمعجزات الشفائية، لذلك حرم على رهبانه الذين يداهمه المرض أن يتناولوا أي نوه من أنواع الأدوية، أو أن يتصلوا بالأطباء؛ لأنه يجدر بهم حسب رأيه أن يموتوا دون أن تعبث بهم العقاقير.

(1/7051)

... ولم تكن هذه المعتقدات نابعة من برنار وأمثاله، بل كانت متأصلة في الزعي الديني عند النصارى آنذاك، الذين يعتبرون المرض نوعا من الجزاء والعقاب الإلهي لا يصح للإنسان أن يتسبب في علاجه والبرء منه(1).

... وعلى الرغم من هذا الاعتقاد، فقد كان تقدير الصليبيين لأطباء مصر والشام كبيرا. وخير مثل على هذا ما حدث عندما أصيب بودوان بن عموري ملك بيت المقدس بالجذام. فقد استقدم عموري طبيبا من الديار المصرية هو داود بن

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي"، الرياض، 1415هـ/1994م، ص.118.

(1/7052)

أبي المنى لمعالجة ابنه. وكان الأمراء الصليبيون يلجأون إلى أطباء المسلمين عندما يصاب أحد منهم بمرض، مما جعل وليم الصوري يقول بشيء من الأسى: "إن أمراءنا الشرقيين، تحت تأثير نسائهم، يزرون بالأدوية وبالوسائل الطبية اللاتينية ولا يؤمنون إلا بالأطباء اليهود والسامريين والسوريين والعرب"(1).

... وكان بعض الطلاب الأوربيين المحبين للمعرفة يفدون إلى الشام لدراسة الطب في مدرسة طرابلس. وكانوا يبدأون دراستهم بعد تعلمهم وإتقانهم اللغة العربية(2)

__________

(1) عبد الله الربيعي، المرجع السابق، ص.122.

(2) عمر عبد السلام تدمري، "الحياة الثقافية في طرابلس خلال العصور الوسطى"، بيروت، دار فلسطين، 1973، ص.69.

(1/7053)

. وكان هؤلاء الطلاب يمارسون الطب بعد عودتهم بالمستوى الرفيع الذي وصلوا إليه. وقد طلب بعضهم من البابا إنوسنت الثالث أن يعمل على إقامة عدد من المشافي، فبادر في سنة 1204م بإنشاء مستشفى في روما سماه مستشفى الروح القدس. وأعقب هذا إنشاء عدد من المستشفيات على غراره في مختلف أنحاء أوربا. وقد وصل عدد هذه المستشفيات في القرن الثالث عشر الميلادي في ألمانيا وحدها إلى أكثر من مائة مستشفى. وفي فرنسا كثرت المستشفيات التي تعنى برعاية العجزة والفقراء. وفي عام 1260م أنشأ لويس التاسع في باريس ملجأ الثلاثمائة،

(1/7054)

وكان في بداية الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أصبح مستشفى للرمد، والآن يعتبر من أهم المراكز الطبية في باريس. ومن المعروف أن الملك لويس كان قد قاد حملة إلى الشرق في عام 1249م. ولا شك أنه رأى في الشرق نماذج من المستشفيات، فعمد إلى إقامة مثيل لها في بلاده. أما في إنجلترا، فقد أنشئ مستشفى القديس بورثولميو في لندن في سنة 1123م، ويعتبر أقدم مستشفى في هذه البلاد. وفي عام 1215م أسس مستشفى القديس توماس في لندن(1).

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأدبي"، صص.123-124.

(1/7055)

... وإضافة إلى الطلاب الذين كانوا يفدون إلى الشرق للدراسة، كان هناك أطباء يرافقون الحملات الحربية ويجدون في هذا فرصة للتزود من معارف الشرق، ولا سيما في مجال الطب من الناحيتين العلمية والعملية. وكان من هؤلاء جراح إيطالي يدعى هوج البولوني قدم إلى الشرق في عام 1218م ومكث ثلاث سنوات اطلع خلالها على طرق العلاج، واتصل بالأطباء ليكتسب الخبرة. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأى المستشفى العسكري المتنقل الذي يحمله أكثر من ثلاثين جملا. وأثناء حصار دمياط تعرف هوج على الطريقة التي يضمد بها المصابون؛ فقد تعلم

(1/7056)

كيف تلف الجروح بخرق نظيفة ساخنة مبلولة بالخمر ثم تترك مدة أسبوع حتى تندمل(1).

... وقد أبدى هوج إعجابه بصفة خاصة بطريقة التخدير التي كان يتبعها الأطباء المسلمون قبل إجراء العمليات. وكان الأطباء المصريون يستعملون نبات الخشخاش والشوكران لتخدير المرضى. ورأى عملية تجبير الكسور التي تتم بطرق علمية لا تستخدم فيها آلات التعليب التي كانت متبعة في أوربا. وعندما عاد هوج إلى أوربا في عام 1221م، اهتم بنشر هذه الطرق والأساليب. وقد ترك بعد وفاته مدرسة

__________

(1) زيغريد هونكه، "شمس العرب تسطع على الغرب"، صص.300-301.

(1/7057)

للجراحة في بولونيا، تولاها ابنه ثيودريك، الذي كان أبوه قد أوصاه بالاهتمام بتضميد الجروح على نحو ما تعلمه من العرب، واتباع طريقتهم في التخدير. وقد أثبت ثيودريك أنه خير خلف لأبيه؛ فلقد زاول مهنة الطب وألف كتابا في الجراحة ضمنه تعاليم أبيه الطبية، وبخاصة في هذا الحقل(1).

... وكانت الكنيسة قد حرمت ممارسة الجراحة بموجب مرسوم صدر في سنة 1163م. ولكن بعد أن أخذت الكتب الطبية المترجمة عن العربية تنتشر في أوربا وتأسست عدة مراكز

__________

(1) عبد الله الربيعي، "أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي"، صص.124-126.

(1/7058)

طبية على غرار مراكز الشرق، بدأ الاهتمام بالجراحة. وقد جاء في سجلات شارك دانجو، ملك صقلية، ذكر الكثير من المؤلفات اللاتينية المترجمة عن اللغة العربية. وقد رافق سَارْك أخاه لويس التاسع ملك فرنسا في حملته على مصر، وتسنى له الاتصال بالعلماء العرب، وقد عرف عنه أنه أسس مدرسة للترجمة(1).

... هذا، وقد تمت في الشرق ترجمة بعض الكتب العربية إلى اللاتينية. ومن أشهر هذه الترجمات ترجمة الكتاب الملكي "كامل الصناعة الطبية" الذي ألفه علي بن عباس المجوسي. وهذه الترجمة قام بها ستيفن

__________

(1) المرجع نفسه، صص.125-126.

(1/7059)

الأنطاكي ستيفانو دبيزا أثناء وجوده في أنطاكية في سنة 1127م وسماه "الكتاب الملكي"، وهو العنوان الذي عرف به الكتاب في أوربا وقد ترجم هذا الكتاب تحت اسم "Liber Pantegni". الواقع أن هذه الترجمة إعادة للترجمة التي قام بها قسطنطين الإفريقي في دير مونتي كاسينو في إيطاليا في القرن الحادي عشر الميلادي، وقد قوى الأثر العربي في هذه جامعة سالرنو بإيطاليا بالمعلومات الطبية التي كان الصليبيون العائدون من الشرق يحملونها معهم، فكانت إلى جانب الكتب العربية رافدا من روافد التعليم الطبي في هذه الجامعة. وظلت

(1/7060)

المقالتان الأولى والثالثة مرجعا لطلاب هذه الجامعة في علم التشريح مدة قرن من الزمان(1).

... وممن برز في نقل الطب إلى أوربا عبر هذا الطريق أدلار بات الذي اشتهر بنشاطه العلمي بين 1115 و1142م، حيث عاش في الشرق لسنوات عديدة وألف كتبا عديدة فيها الكثير من الآراء العلمية العربية؛ كما قام بترجمة عدد آخر من الكتب العربية إلى اللاتينية. وساهم المرضى والأطباء من المحاربين العائدين أيضا في نقل كثير من الوصفات الطبية العربية إلى الغرب، وكان المحيط الرئيس لهم لدى العودة مدينة

__________

(1) المرجع نفسه، صص.126-127.

(1/7061)

سالرنو حيث أفاد في دفع الحركة الطبية في مدرستها. وعلى الرغم من كون تأثير الحروب الصليبية على الثقافة والطب لم يكن بحجم المعابر، فإن ذلك التأثير ظهر جليا في أوربا بعد القرن الثاني عشر بظهور المستشفيات والملاجئ التي أخذوها عن المشرق الإسلامي(1). إذ أنه يمكن أن نجزم بأن من أبرز الآثر الملموسة للطب الإسلامي في أوربا عن هذا الطريق هو تلك المستشفيات التي أخذت تنتشر في العواصم الأوربية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي حيث كان الشرق

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.390-391.

(1/7062)

الإسلامي ميدانا لمشاهدة الأوربيين لتلك البيمارستانات المنتشرة عند المسلمين والتي بلغت حدا من الرقي والتقدم كالبيمارستان النوري والمنصوري بالقاهرة.

... ومن المعابر الثانوية:

... 1- الرحلات:

... كان من بين المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب بخاصة، إلى أوربا تلك الرحلات التي قام بها الأوربيون إلى عدد من مناطق العالم الإسلامي وبلاده. وكان الغرض الأساسي من هذه الرحلات هو التجارة والسياحة وتلقي العلوم. فعلى سبيل المثال ماركو بولو صاحب الرحلة السياحية المشهورة، وليوناردو دافنشي الذي

(1/7063)

ولد في بيزا عام 1180م؛ وخلال عمله في التجارة في بجاية في الجزائر تعلم الحساب وزار طوروس وسبتة وتونس، وتردد على مكتبات الإسكندرية ودمشق، وناقش كبار العلماء في القاهرة، ودرس كل ما حوته مخطوطات كبار الرياضيين من الإغريق والهنود والعرب، فنبغ في ذلك؛ وبعد أن عاد إلى إيطاليا تنبه إليه القيصر فردريك الثاني وضمه إلى خلصائه من العلماء. فهناك ألف الكتب وعلم الغربيين الأرقام العربية والصفر العربي(1).

__________

(1) محمود الحاج قاسم محمد، "الطب عند العرب والمسلمين"، صص.393.

(1/7064)

... وقد أدرك كثير من الأوربيين أهمية الطب عند المسلمين ومدى ما وصلوا إليه من تطور في هذا المجال، فشرعوا في الرحلة إلى عدد من بلدان العالم الإسلامي والإقامة بها سنوات طويلة تعلموا خلالها اللغة العربية ودرسوا ما احتاجوا إليه من علوم ومنها علم الطب. وكان ممن رحل لهذا الغرض الطبيب الأنطاكي أندرياس ألباكوس (Andreas Alpaqus) (1450-1523م) الذي قضى أكثر من ثلاثين سنة في سوريا حيث ذهب خصيصا لدراسة اللغة العربية وللاطلاع على النصوص والمخطوطات العربية في أصولها، ثم عاد إلى بادوا وعين أستاذا للطب في

(1/7065)

جامعتها، فترجم عددا من الكتب العربية إلى اللاتينية مع شروح على بعضها. وقد نشر قسم منها بعد وفاته، منها ترجمة شرح ابن النفيس للقسم الخامس من "قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، ونقح ترجمة جرارد الكريموني لـ"قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، وأعيد طبعه بعد ذلك مرات متعددة وبلغت طبعات "القانون" 36 طبعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وطبعت ترجمته لكتاب "الأدوية" لابن البيطار سنة 1602م. "ولكن من المؤكد أنه لم تطبع كل الكتب التي ترجمها ألباكوس لغرض النشر"(1).

__________

(1) المرجع نفسه، صص.392-393.

(1/7066)

... وقد أصبحت نسخته من "شرح التشريح" لابن النفيس في مكتبة أسرة ناني (Nani) في البندقية. وقد اطلعت على فهرس المكتبة الذي أعده أستاذ اللغات الشرقية في جامعة بادوا سيموني أسماني (Simon Assemani)، ونشر سنة 1792م في بادوا. فإذا هو يحتوي على وصف النسخة التي كتبت سنة 734هـ/1333م، أي خمس وخمسين سنة بعد وفاة المؤلف ابن النفيس. وتقع في 306 صفحات. إن لوجود هذه النسخة أهمية كبرى في تاريخ اكتشاف الدورة الدموية(1).

... 2- البعثات العلمية:

__________

(1) محمود الجليلي، "تأثير الطب الغربي في الطب الأوربي"، صص.200-201.

(1/7067)

... كما أن من ضمن المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة وعلم الطب بخاصة إلى أوربا، تلك البعثات العلمية التي يقوم بإرسالها بين الحين والآخر ملوك أوربا إلى الديار الإسلامية لدراسة علوم المسلمين ونقلها إلى اللغات الأوربية، ومنها علم الطب.

... ومن البعثات العلمية المبكرة التي أرسلت إلى العالم الإسلامي من أوربا تلك البعثات المتواصلة التي كانت تفد إلى الأندلس من الأقطار الأوربية كإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا حتى بلغت سنة 312هـ في عهد الخليفة الناصر زهاء سبعمائة طالب وطالبة. وكان من بين تلك

(1/7068)

البعثات بعثة علمية فرنسية برئاسة الأمير إليزابث ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا آنذاك(1).

... كما أن فيليب ملك بافاريا بعث إلى الخليفة الأموي هاشم الثالث (حوالي سنة 403هـ) برسالة يستأذنه فيها أن يرسل بعثة من الطلاب والطالبات للاطلاع على النهضة العلمية التي تعيشها الأندلس للاستفادة منها والاقتباس عن حضارة الأندلس الراقية. وكان على رأس هذه البعثة وزير الملك المدعو ويلمبين الذي سماه العرب "وليم الأمين"، وكانت هذه

__________

(1) سعد البشري، "الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس"، صص.532-533.

(1/7069)

البعثة تتألف من 215 طالبا وطالبة تم توزيعهم على حواضر العلم في الأندلس. وتذكر الروايات التاريخية أن ثمانية من أفراد هذه البعثة اعتنقوا الإسلام ومكثوا في الأندلس، ومن هؤلاء الثمانية ثلاث فتيات تزوجن بعدد من مشاهير رجال الأندلس(1).

... ويذكر التاريخ أن ملك إنجلترا جورج الثاني أرسل بعثة من بنات النبلاء والأشراف، وفي مقدمتهن الأميرة دوبانت ابنة أخيه، إلى الأندلس ووجه معهن خطابا إلى الخليفة الأموي يقول فيه: "أردنا لزبنائنا اقتباس

__________

(1) خليل السامرائي وآخرون، "تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس"، ص.376.

(1/7070)

حضارتكم لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل"(1). كما يشير فؤاد سزكين إلى طريق آخر لنقل العلوم الإسلامية ومنها الطب إلى أوربا. ذلك هو الطريق الشفوي. إذ عمد عدد من الأوربيين منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبخاصة الذين لا يفهمون العربية، إلى الترجمة الشفوية لإنتاج العلماء المسلمين حيث كانوا يستفيدون من مؤلفات المسلمين دون أن تكون قد ترجمت إلى اللغات الأوربية أو أنها كتب ترجمت ثم خفيت ترجماتها على الناس(2)

__________

(1) سعد البشري، المرجع السابق، صص.533-534.

(2) "محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية"، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ألمانيا، 1404هـ/1984م، صص.128-129.

(1/7071)

.

... هذا وقد تعددت مجالات التأثير في الطب الإسلامي على أوربا وشملت مختلف فروع الطب وجوانبه. إلا أنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب التي يمكن تلمس ذلك الأثر عن طريقها بصفة واضحة، ومنها:

... - الصيدلة:

... نشأت الصيدلة منذ زمن قديم وارتبطت ارتباطا وثيقا بعلم الطب، إذ كان الطبيب هو الذي يعد الدواء ويركبه للمرضى. ومع مرور الزمن وتشعب العقاقير وطرق تركيبها، ظهر التخصص في هذا العلم مع اتصاله الملح مع الطب. فالأسس والاحتياجات والمقادير يصنعها الطبيب، والصيدلي هو الذي يعمل على جمعها وتركيبها واختيار

(1/7072)

الأجود من أنواعها.

... وقد برع المسلمون في تحضير وضع الضمادات والمساحيق والمراهم وتركيباتها، واكتشفوا أدوية جديدة منها: الكافور والصندل واللاوند والمسك والتمر هندي والحنظل، كما اخترعوا الكحول والمستحلبات والخلاصات العطرية، وهم أول من ابتكر الشراب الحلو المستخرج من نبات الكرنب مع السكر. وما زال الغرب يطلقون عليه كلمة (Syrop) وهي مأخوذة من كلمة "شراب" التي تردد في المصادر العربية.

... ولذا، فإن من المسلم به لدى المختصين في تاريخ العلوم أن المسلمين هم أول من جعل الصيدلة علما مستقلا، وعملوا على

(1/7073)

تقدمه تقدما ملحوظا. وبذا تقول زيغريد هونكه حول مكانة الصيدلاني عند المسلمين:

لقد نقل العرب حقل محضر الدواء عن حقل واصفه وأوجدوا مهنة الصيدلاني الذي ارتفع إلى مركز عال بفضل علومه ومسؤولياته الخاصة. وكانوا أول من افتتح الصيدليات العامة، وذلك في العام الثمانين من القرن الثامن في ظل حكم الخليفة المنصور؛ كما أنهم ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به(1).

... ونما تبعا لذلك علم العقاقير أو الأقراباذين (Materia Medica) عند المسلمين نموا كبيرا حيث أكثروا من التأليف

__________

(1) "شمس العرب تسطع على الغرب"، ص.329.

(1/7074)

في الأدوية المفردة من الأعشاب وغيرها، وفي الأدوية المركبة في صور مختلفة. وتضرب زيغريد هونكه مثالا من عمل ابن سينا في كتابه المشهور "القانون في الطب" الذي ذكر فيه ما ينوف على سبعمائة عقار أدخلت كلها في علم النبات وعلم الصيدلة للأوربيين. وظل الكثير منها بأسمائها العربية في اللغات العربية في اللغات الأجنبية كالعنبر والزعفران والكافور والمسك وعود الند والصندل والتمر هندي وغيرها(1).

__________

(1) جلال مظهر، "أثر الحضارة العربية على أوربا"، ص.272.

(1/7075)

... واشتهر عدد من صيادلة العرب شهرة واسعة ونالت أعمالهم استحسانا كبيرا في أوربا. ومن هؤلاء ماسويه المارديني (المتوفى سنة 406هـ/1015م) الذي عاش في بغداد والقاهرة، وعرف في أوربا بماسويه الصغير أيضا، وله مؤلف ضخم في العقاقير في اثني عشر جزءا ترجم إلى اللاتينية وشاع واشتهر اشتهارا واسعا في أوربا اللاتينية، واستمر مدة قرون عديدة الكتاب المدرسي الأول في الصيدلة في أوربا(1).

__________

(1) أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، دمشق، دار الفكر، 1981، ص.144.

(1/7076)

... وكان ممن برز في علم الصيدلة عند المسلمين الطبيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الملقب بابن وافد الطليطلي المتوفي سنة (467هـ/1074م). وكانت اهتماماته في الأدوية المفردة، وألف فيها كتابا ضاع أصله العربي، بينما هو موجود في ترجمته اللاتينية بعنوان Meineralibus Simplicibus. ويقدر تأثيره بأن طبع منه حوالي خمسين طبعة ملحقا بمؤلف ماسويه الصغير المذكور آنفا وانتشرت في مختلف أنحاء أوربا(1).

__________

(1) جلال مظهر، "أثر الحضارة العربية على أوربا"، ص.272.

(1/7077)

... ومن أشهر وأوسع الكتب في الموضوع كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (ت698هـ/1298م). وقد ترجمت أجزاء من هذا الكتاب إلى اللاتينية وطبعت منذ 1598م في البندقية، ثم في باريس 1606م. والترجمة الكاملة ظهرت في ألمانيا، وطبعت في شتوتجارت في سنة 1842م(1).

... وكان تأثير علم الصيدلة عند المسلمين كبيرا جدا في أوربا. ويظهر ذلك من ترجمة المصادر العربية من الصيدلة إلى اللاتينية منذ عهد مبكر وطبعها وتداولها أو الاستفادة منها حتى أوائل القرن التاسع

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، ص.67.

(1/7078)

عشر. كما يظهر هذا الأثر من خلال اطلاع الأوربيين على أسماء وأوصاف عقاقير أسيوية وإفريقية لم يعرفها اليونانيون من قبل(1).

... وقد امتد أثر علماء المسلمين على غيرهم من الأمم في علم الصيدلة أن أخذ العلماء في كل من أوربا وأمريكا، قبيل عهد قريب وبالتحديد سنة 1964م، بإعادة قراءة

__________

(1) محمد زهير البابا، "مصادر الأدوية المفردة أو العقاقير في الطب العربي"، مجلد أبحاث المؤتمر السنوي الثاني للجمعية السورية لتاريخ العلوم المنعقدة بجامعة حلب في أبريل 1977م، معهد التراث العلمي العربي جامعة حلب 1979م، ص.198.

(1/7079)

كتاب ابن داود "تذكرة أولي الألباب" في محاولة للكشف عن أدوية جديدة للأمراض(1).

... - الجراحة:

... أما عن الجراحة وفنونها، فقد تقدمت عند المسلمين تقدما كبيرا وقدموا فيها أروع الإنجازات واشتهر منهم عدد من أعلام الجراحة في التاريخ كان من أبرزهم رائد الجراحة في قرطبة أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م الذي ألف كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وجعل للجراحة بابا خاصا مهما من هذا

__________

(1) أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ط2، دمشق، دار الفكر، 1981، ص.144.

(1/7080)

الكتاب. وكان هذا الباب شرطا في ممارسة الجراحة. وقد نشر باللغة اللاتينية باسم Chirurgia. وقال عنه الدميلي إنه أعظم الجراحين العرب على وجه الخصوص(1).

... ويمتاز كتاب "التصريف" بكثرة الرسوم التوضيحية للآلات الجراحية التي كان يستخدمها في عمله. ولقد استمر هذا الكتاب مدة خمسة قرون عمدة في الأمور الجراحية في أوربا وترجم مرات عديدة إلى اللغة العبرية واللاتينية.

... وقد استمر تطور علم الجراحة عند المسلمين في القرون اللاحقة، مما حدا بالمؤرخ الإنجليزي كامبل إلى أن يصف

__________

(1) "العلم عند العرب"، ص.353.

(1/7081)

الجراحة في الأندلس بقوله:

فكانت الجراحة في إسبانيا المسلمة في القرن الثالث عشر تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس ولندن وأدنبره. ذلك أن ممارسي مهنة الطب في سرقسطة كانوا يمنحون لقب طبيب جراح، بينما كان لقبهم في أوربا حلاق حراج. وظل هذا التقليد ساريا في إسبانيا حتى القرن السادس عشر(1).

... وقد أخذ الأوربيون معارفهم في الجراحة من علماء المسلمين. فكان باب الجراحة من كتاب "التصريف" للزهراوي مرجعا لكل من مارس الجراحة في أوربا آنذاك.

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، صص.63-64.

(1/7082)

... وكان من أبرز العلماء المسلمين الذين كثرت تآليفهم في علم الطب وازداد أثرهم وذاع صيتهم في الغرب:

- الرازي (240-320هـ/854-932م)

... هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من أشهر الأطباء الكبار وأنبغهم وأكثرهم تأليفا وابتكارا، طبقت شهرته الآفاق عبر العصور، وقد عرف في أوربا منذ العصور الوسطى بـ Rhazes، وانتشرت مؤلفاته بها مترجمة إلى اللاتينية.

... ولد الرازي بالري في سنة 240هـ/854م، وتوفي في حدود سنة 320هـ/932م بعد عمر مديد أصيب بالعمى في آخره. وعلى ذلك، فإنه عاش في النصف الثاني من القرن الثاني والربع

(1/7083)

الأول من القرن الثالث للهجرة، أي أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر للميلادي.

... والرازي غزير الإنتاج. كتب في موضوعات شتى من الفلسفة والكيمياء والطب وغيرها، وبلغ عددها 13 كتابا و24 رسالة أو بحثا، ونصفها في الطب. وأشهر وأوسع مؤلفاته في الطب كتاب "الحاوي". وهو موسوعة طبية حافلة، حوى جميع المعارف الطبية لدى اليونان والعرب والهند، كما ضمنه المؤلف تجاربه الشخصية من المداواة وهي مهمة، وآراءه المبتكرة في هذا المجال. وكان تأثيره كبيرا في تقدم الطب في الشرق والغرب فأصبح من الكتب المدرسية الذي كان

(1/7084)

يرجع إليه الأطباء دائما. وقد طبع منه 23 جزءا حتى الآن.

... أما تأثيره في أوربا، فيذكر أنه ترجم إلى اللاتينية لأول مرة في سنة 1279م برعاية الملك شارل أنجو ملك صقلية. ترجمه الطبيب اليهودي فرج بن سالم، وعرف في اللاتينية باسم Continens، وانتشر في نسخ خطية كثيرة. ثم عندما اخترعت الطباعة، طبع لأول مرة في سنة 1468م، ثم أعيد طبعه مرارا وأصبح من الكتب المعتمدة في دراسة الطب في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي. وهو من الكتب التسعة التي كانت تتكون منها مكتبة الكلية الطبية في باريس سنة 1395م.

(1/7085)

وتكررت طباعته في أوربا بترجمته اللاتينية، وبقي القسم الخاص بالصيدلة المرجع المهم في التداوي زمنا طويلا(1).

... وكانت رسالة أبي بكر الرازي المشهورة في الجدري والحصبة أول بحث علمي متقن في الأمراض المعدية. ويمكن تقدير شهرتها وتأثيرها بأنها طبعت أربعين طبعة باللغة الإنجليزية بين سنتي 1498 و1866م. وكانت هذه الترجمة الإنجليزية من ترجمة الكتاب باللاتينية التي تمت في عصر مبكر في القرن الحادي عشر الميلادي(2).

__________

(1) سيد رضوان علي، المرجع السابق، ص.74.

(2) المرجع نفسه، ص.60.

(1/7086)

... وقد اعترف به الغربيون عموما؛ كما أن علماء أمريكا وجامعاتها وضعوا له اعتبارا خاصا في جامعة برنستون الأمريكية بتخصيص ناحية فخمة من بنائها لمآثر الرازي، وأنشأوا دارا لتدريس العلوم العربية والبحث عن المخطوطات الطبية وإخراجها(1).

... ومن كتبه المشهورة المهمة ذات التأثير العظيم في معارف أوربا الطبية كتاب "المنصوري" الذي ألفه للأمير منصور بن إسحاق أمير سجستان وهو في عشرة أجزاء، وقد نقل هذا الكتاب إلى اللاتينية أيضا في القرن

__________

(1) أحمد عمر الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ص.138.

(1/7087)

الثاني عشر الميلادي وعرف باسم Liber Almansoris. وطبع لأول مرة في ميلانو بين 480 و1489م. وظلت تدرس في جامعات أوربا بجانب كتب الرازي الأخرى حتى القرن السابع عشر للميلاد.

... وكان من تقدير أوربا وأمريكا لهذا العالم الطبيب العبقري الفذ أن علقت صورته في القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس كما سميت قاعة من أفخم قاعات جامعة برنستون الأمريكية باسمه.

- علي بن العباس المجوسي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)

... طبيب عضد الدولة البويهي وأحد تلامذة الطبيب الرازي. اشتهر في ممارسة الطب وتعليمه وألف كتاب "كامل

(1/7088)

الصناعات الطبية"، وهو أول كتاب عربي كبير يترجم إلى اللاتينية ترجمه قسطنطين الإفريقي وعرف بالكتاب الملكي "Liber Regius"؛ وقيل فيه إنه:

... كتاب جليل وكناش نبيل اشتمل على علم الطب وعمله. وكانت أفضل أقسامه القسم الذي يبحث في علم الأغذية الصحية وعلم العقاقير الطبية. ومن الأمور المبتكرة فيه إشارته إلى وجود الحركة الدموية الشعرية، وبرهانه على أن الطفل في الولادة لا يخرج من نفسه، بل بفعل تقلصات عضلية داخل الرحم إلى غير ذلك من الإضافات الطبية المهمة(1)

__________

(1) فيليب حتي وآخرون، "تاريخ العرب"، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

(1/7089)

.

- ابن سينا (370-428هـ/980-1037م)

... أما الطبيب ابن سينا، فهو أشهر الأطباء في تاريخ الطب العربي على الإطلاق، وفاق في الشهرة والتأثير سلفه الرازي، وإن كان أقل منه ابتكارا عند البعض، وكان بجانب نبوغه في الطب فيلسوفا بارعا، بل هو عالم موسوعي درس جميع العلوم الفلسفية القديمة عند اليونان من الطبيعيات والرياضيات والفلك والمنطق والفلسفة حتى عرف بلقب "الشيخ الرئيس". ولا شك أنه أحد كبار عباقرة العلوم في تاريخ الإسلام، بل على المستوى العالمي.

(1/7090)

... واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله، واشتهر بابن سينا. وقد ولد في إحدى قرى مدينة بخارى في سنة 370هـ/980م، وتوفي بهمذان في سنة 428هـ/1037م.

... وكان من أعظم وأشهر كتبه في موضوع بحثنا "القانون في الطب"، ويعرف بـ"القانون". وقد اشتهر اشتهارا كبيرا في الشرق والغرب على السواء. والذي دفع أحد العلماء الأمريكيين أن يقول: "إن كتاب "القانون" ظل الحجة والمرجع في الطب مدة أطول من أي مدة بلغها كتاب طبي آخر". وأصبح هذا الكتاب كتابا مدرسيا في المعاهد الطبية في الشرق وكذلك في كليات الطب وجامعات أوربا

(1/7091)

بعد ترجمته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وظل يدرس فيها حتى نهاية القرن السابع عشر للميلاد(1).

... ويقدر مدى انتشار هذا الكتاب في العالم الغربي في العصور الوسطى أنه طبع خلال ست وعشرين سنة (1174-1500م). وقد طبع في بولاق بمصر في أواخر القرن التاسع عشر في ثلاثة مجلدات كبار. وهو كتاب ضخم شامل في جميع المعارف الطبية، ويفوق في دقة التنظيم والتنسيق كتاب "الحاوي" للرازي، وفيه ذكر ستين وسبعمائة دواء.

__________

(1) سيد رضوان علي، "العلوم والفنون عند العرب"، صص.76.

(1/7092)

... ومن الجدير بالذكر أن كتابه "القانون في الطب" لا يزال يدرس ويستعان به في كليات الطب العربي والهند والباكستان، كما يمارس هذا الطب الذي يسمى في تلك البلاد بالطب اليوناني على مدى واسع. وهذا العلاج أرخص وأقل ضررا من الطب الأوربي، وله أطباء مشهورين منتشرون في جميع أنحاء شبه القارة الهندية. وتزين صورة ابن سينا القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس بجانب صورة الرازي الطبيب(1).

- الزهراوي:

__________

(1) المرجع نفسه، ص.78.

(1/7093)

... خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م، وهو أشهر أطباء الأندلس ورائد الجراحة في قرطبة. وقد اشتهر بتأليف كتابه المشهور "التصريف لمن عجز عن التأليف" والذي قال بالنثيا صاحب كتاب تاريخ الفكر الأندلسي:

... إنه أهم وأذيع كتاب في تاريخ الطب كله، وإن الزهراوي قد ارتفع به في أعين الناس إلى طبقة أبقراط وجالينوس، وإنه يحوي رسوم الآلات الجراحية. وهو أول مؤلف جعل الجراحة علما قائما بذاته مستقلا عن الطب وأقامها على أساس من العلم بالتشريح(1)

__________

(1) أنخل جنثالث بالنثيا، "تاريخ الفكر الأندلسي"، نقله عن الإسبانية حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ص.466. وقد جعل وفاته سنة 403هـ/1013م.

(1/7094)

.

... وقد نشر ضمن هذا الكتاب 200 شكل عن آلات الجراحة واستعمالاتها. وقد نقل جزءا من هذا المؤلف المترجم جيراد الكرموني، وصدرت منه طبعات مختلفة: واحدة في البندقية عام 1497م وأخرى في بلسل عام 1541م وثالثة في أكسفورد عام 1778م، وظل في مدرستي سالرنو ومونبلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة(1).

... ويذكر الدميلي أن الزهراوي أشهر أطباء الأندلس في ذلك العصر، بل من أعظم أطباء المسلمين أيضا... وربما كان الزهراوي أعظم الجراحين

__________

(1) فيليب حتي وآخرون، "تاريخ العرب"، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

(1/7095)

العرب على وجه الخصوص(1). ويذكر العالم الشهير هالو أن كتب أبي القاسم الزهراوي كانت المصدر العام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر، وترانا مدينين لأبي القاسم بكثير من الآلات الجراحية التي تظهر صورها في كتبه.

- ابن زهر:

... أبو مروان عبد الملك بن زهر (ت557هـ/1162م)، وهو أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في عصر الموحدين، وكان أحد أفراد أسرة ابن زهر التي تفرع منها ستة من الأطباء المرموقين. وقد اشتهر ابن زهر بمؤلفه الطبي كتاب

__________

(1) "العلم عند العرب"، ص.353.

(1/7096)

"التيسير في المداواة والتدبير" الذي جعل محور اكتشاف الأمراض هو التجربة، مما أوصله إلى آراء مبتكرة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية، وصار أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي(1). وكان ابن زهر قد ألف هذا الكتاب استجابة لطلب صديقه ابن رشد الذي كان من أشد المعجبين به، وقد أثنى عليه كثيرا في "كلياتـ"ـه، واعتبره أعظم طبيب عرفه العالم بعد

__________

(1) يوسف العريني، "الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي"، صص.334-335.

(1/7097)

جالينوس. وأقل ما يقال عنه أنه أعظم طبيب سريري في الإسلام بعد الرازي(1).

... ومع مرور الزمن، آتت تلك الجهود ثمارها؛ وظهر تأثير الأوربيين في المعرفة الطبية بالطب الإسلامي، وظهر جيل من مشاهير الأساتذة في الطب في عدد من العواصم الأوربية، وأظهر علم وظائف الأعضاء بعض النشاط والانتعاش، وصدرت كتب في علم التشريح بأقلام

__________

(1) صالح رمضان محمود، "أهم المبدعين في مجالات الفكر والعلم التي أغنت بها الحضارة الإسلامية المسيرة الإنسانية"، مجلة "المؤرخ العربي"، العدد الثامن عشر، بغداد، 1401هـ/1981م، ص.29.

(1/7098)

الأوربيين أنفسهم، وأصبحت أمراض النساء وعوارض الحمل والولادة موضوعا للدراسة العلمية بعدما كانت من اختصاص القوابل والمولدات، وانتقلت أمراض العين من أيدي القداحين الجوالين إلى أيدي الأطباء المدركين لمهنتهم. وأسس في البلاد الأوربية أعدادا من الجامعات والمعاهد التي تعنى بتدريس الطب حيث يتأكد أنه من ضمن آثار انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أوربا أن نشأت المدارس الخاصة بتعليم الطب في كل من مونبيلييه ونابولي وبولونيا وبادوا وأورلياتن وأكسفورد وبكريدج وغيرها، وهذه المدارس جميعها كانت تستخدم كتب

(1/7099)

الطب الإسلامية بلغاتها العربية أو المترجمة إلى اللغة اللاتينية، وكانت الأساس في تقدم المعارف الطبية عند الأوربيين قرونا عديدة. وأصبحت مصادر الطب على اختلافها ميسورة باللغة اللاتينية، وازداد التقدم في ميداني الصحة والجراحة وإدارة المستشفيات أيضا. فاضطلع كي دي شولياك كبير جراحي مونبيلييه (ت1368م) بعمليات الفتق، كما برز لانفراشي الميلاني الذي زاول الطب في فرنسا بطرق محسنة لربط الأوعية الدموية وخياطة الجروح إلى غير ذلك من الآثار الطبية(1).

__________

(1) ماكس مايرهوف، "تراث الإسلام"، صص.502-503.

(1/7100)

... ويشار هنا إلى أن من مظاهر التأثر الأوربي بالطب الإسلامي وجود عدد كبير من الألفاظ والمصطلحات العلمية العربية في مجالي الطب والصيدلة تستخدم في اللغات الأوربية الحديثة برسمها أو ببعض التحوير الذي لا يخفي أصلها ومصدرها، ومن ذلك:

... الكلمات الطبية المستخدمة في اللغة الإنجليزية والتي اشتقت من العربية(1):

الإكسير

Elixir

حكيم

Hakeem

حشيش

Hasheesh

معجون

Majoon

مرئ

Meri

موميا

Mummy

نخاع

Nucha

صداع

__________

(1) جلال مظهر، "مآثر العرب على الحضارة الأوربية"، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960، ص.413.

(1/7101)

Soda

سبات

Subeth

سنبل

Sumbul

طباشير

Tabashee

... أما في مجال الصيدلة والنبات، فمنها:

كمون

Cumin

أبو المسك

Abelmosk

الحناء

Alcanna

الحنظل

Alhandal

البرقوق

Apricot

أرجان

Argan

الخرشوف

Artichoke

الباذنجان

Aubergine

بندق

Bonduc

كافور

Caphor

قهوة

Coffee

قطن

Cotton

كركم

Corcus

كبابة

Cubeb

كمون

Alcanna

... وأشير ختاما لهذا البحث إلى أن ترجمة الكتب الطبية العربية إلى اللغات الأوربية كانت أساسا للمعرفة الطبية عند الأوربيين، ثم هي سبب رئيس فيتطور الطب الأوربي حيث ترجم في أوربا من

(1/7102)

العربية إلى اللاتينية أكثر من ثلاثمائة كتاب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. وهذا العدد كبير جدا بالنسبة لهذه الفترة. ومن هذا المنطلق بدأت الصحوة الأوربية بعد أن عرف الأوربيون الحضارة الإسلامية عن كثب، فعملوا على صنع حضارة خاصة بهم مستفيدين من الأفكار والنظريات التي انتهى إليها العلماء المسلمون، فواصلوا المسيرة العلمية حتى استطاعوا أن يشيدوا صرح الحضارة الحديثة(1).

__________

(1) أحمد الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ص.143.

(1/7103)

... ثم إنه يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن اللغة العربية كانت هي لغة الطب ممارسة وتعليما في أروقة المستشفيات ومراكز الطب على اختلافها. وقد أغنت هذه اللغة كل الثقافات التي نقلت إليها ولم تعجز عن حمل هذه الرسالة الواسعة. ولا تزال لغتنا العريقة قادرة على الاستيعاب وقبول كل ما ينقل إليها من علوم ومعارف وأن تسير في مواكبة الرقي والتقدم الحضاري في هذا الزمان.

... وربما يأتي اليوم الذي يعود فيه المسلمون إلى أسباب تلك الحضارة المجيدة السابقة ويعملون على استعادة ماضيهم المشرف وتقوى معارفهم العلمية

(1/7104)

واكتشافاتهم، فتعود الأمم تتطلع إلى نتاج المسلمين كما كانت سابقا وليس ذلك على الله ببعيد.

المصادر والمراجع

أحمد عبد الرحيم السايح، أضواء على الحضارة الإسلامية، الرياض، دار اللواء، 1401هـ/1981م.

أحمد علي الملا، "أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية"، ط2، دمشق، دار الفكر، 1981.

الدميلي، العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي، ترجمة عبد الحليم النجار ومحمد يوسف موسى، دمشق، دار القلم، 1962م.

(1/7105)

أنخل جنثالث بالنشيا، تاريخ الفكر الإسلامي، نقله عن الإسبانية حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ص.466، وقد جعل وفاته سنة 403هـ/1013م.

توفيق الطويل، "الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية. دراسة مقارنة، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي.

جلال مظهر، حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العلمي، القاهرة، مكتبة الخانجي.

جلال مظهر، الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط.

جلال مظهر، مآثر العرب على الحضارة الأوربية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م.

(1/7106)

جلال مظهر، مآثر العرب على الحضارة الأوربية، بيروت، دار الرائد، 1967م.

خليل السامرائي وآخرون، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، جامعة الموصل.

زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، تعريب فاروق بيضون وكمال دسوقي، بيروت، المكتب التجاري، ط2، 1969م.

سعد بن عبد الله البشري، الحياة العلمية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414هـ/1993م.

سيد رضوان علي، العلوم والفنون عند العرب ودورهم في الحضارة العالمية، الرياض، دار المريخ، 1407هـ/1987م.

(1/7107)

صالح رمضان محمود، "أهم المبدعين في مجالات الفكر والعلم التي أغنت بها الحضارة العربية الإسلامية المسيرة الإنسانية، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثامن عشرة، بغداد، 1401هـ/1981م، ص.29.

الشيرزي أبو المظفر أسامة بن منقذ (ت584هـ/1188م)، الاعتبار، حرره فيليب حتي، مطبعة جامعة برنستون، 1930م.

عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي، أثر الشرق الإسلامي في الفكر الأوربي، الرياض، 1415هـ/1994.

عبد الحليم منتصر، تاريخ العلوم ودور العلماء في تقدمه، القاهرة، دار المعارف، 1980، ص.230.

(1/7108)

علي عبد الله الدفاع، لمحات من تاريخ الطب عند المسلمين الأوائل، الرياض، دار الرفاعي، 1983م.

علي عبد الله الدفاع، أعلام العرب والمسلمين في الطب، بيروت، دار الرسالة، 1983م.

عمر عبد السلام تدمري، الحياة الثقافية في طرابلس خلال العصور الوسطى، بيروت، دار فلسطين، 1973م.

الفاضل عبيد عمر، الطب الإسلامي عبر القرون، الرياض، دار الشواف-جدة، المطبوعات الحديثة، 1410هـ/1989م.

فؤاد سزكين، محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ألمانيا، 1404هـ/1984م.

(1/7109)

فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب، الجزء الثاني، ط4، بيروت، 1965، ص.685.

ماكس مايرهوف، العلوم والطب، ضمن مجلد تراث الإسلام، إشراف توماس أرنولد، تعريب وتعليق جرجيس فتح الله، ط3، بيروت، دار الطليعة، 1978، ص.499.

محمد زهير البابا، "مصادر الأدوية المفردة أو العقاقير في الطب العربي"، مجلد أبحاث المؤتمر السنوي الثاني للجمعية السورية لتاريخ العلوم المنعقدة بجامعة حلب في أبريل 1977، معهد التراث العلمي العربي جامعة حلب 1979م.

محمد الصديقي، انتشار العرب وعلومهم في فرنسا، الهند، مطبعة أسرار كريمي، 1941م.

(1/7110)

محمد عبد الرحمن مرحبا، الموجز في تاريخ العلوم عند العرب، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1970م.

محمود الجليلي، "تأثير الطب العربي في الطب الأوربي"، مقال بمجلة المجمع العلمي العراقي، ذو الحجة، 1401هـ، ج32.

محمود الحاج قاسم محمد، الطب عند العرب والمسلمين: تاريخ ومساهمات، جدة الدار السعودية، 1407هـ/1987م.

ولز، معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1950م.

(1/7111)

يوسف بن علي العريني، الحياة العلمية في الأندلس في العصر الموحدي، الرياض، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، 1416هـ.

(1/7112)

بريطانيا وتجارة الرقيق في الخليج

... ... ... ... ... ...

... ... ... ... ... ... الدكتور محمد مرسي عبد الله

... ... ... ... ... ... المجمع الثقافي- أبو ظبي

في اتفاقية السلام عام 1820 استطاع كابتن تومبسون وهو من المتحمسين لمنع تجارة الرقيق، إقناع ماجور جنرال كير وضع بند فيها يقول إن نقل العبيد من إفريقيا في السفن يعتبر عملا من أعمال القرصنة. وقد أهملت السلطات البريطانية في الخليج تنفيذ هذا البند. وتركزت محاولات بريطانيا في منع تجارة الرقيق في الخليج مع السيد سعيد بن سلطان، وذلك لوقف هذه التجارة

(1/7113)

في مهدها مع زنجبار في ممتلكاته بشرق إفريقيا منذ عام 1822. وبعد جهود طويلة نجحت بريطانيا في أن تعقد مع السيد سعيد بن سلطان اتفاقية عام 1845 لمنع تجارة الرقيق من ممتلكاته في شرق إفريقيا إلى الخليج وإلى المستعمرات الفرنسية والبرتغالية في المحيط الهندي. كما نجحت المحاولات البريطانية في إسطمبول وصدر فرمان في يناير 1847 يمنع السفن التركية من الاتجار في رقيق شرق إفريقيا ويحذر من بمصادرة السفن المتعاملة في الرقيق. وسمحت الدولة العثمانية للسفن الحربية البريطانية بتفتيش السفن التركية وهذا هو ما تحرص عليه

(1/7114)

بريطانيا. وأخطر والي بغداد نجيب باشا بفحوى هذا الفرمان(1) .

وصل خبر هذا الفرمان التركي إلى المقيم هينيل في أبريل عام 1847. وكان يستعد للجولة السنوية لساحل الإمارات. وما أن وصل إلى الإمارات في 30 أبريل حتى فاتح الحكام في مسألة اتفاقية منع تجارة الرقيق وأخطرهم أن السيد سعيد بن سلطان قد وقع اتفاقية منذ عامين بذلك. كما أخبرهم أن الباب العالي قد أصدر في إسطمبول حديثاً فرماناً بهذا الخصوص. وفي

__________

(1) J.B. kell, Britian and the Persian Gulf, London 968, p.587.

(1/7115)

اليوم نفسه وقع الشيخ سلطان بن صقر القاسمي اتفاقية بمنع استيراد العبيد في سفنه الخاصة وسفن رعاياه. ووافق الشيخ سلطان بن صقر على تفتيش السفن البريطانية لسفنه وسفن رعاياه. ويبدأ تنفيذ هذه الاتفاقية اعتبارا من 9 ديسمبر 1847 الموافق أول السنة الهجرية عام 1264. ووقع أيضا على هذه الاتفاقية الشيوخ في إمارة أبو ظبي وإمارة دبي وإمارة العجمان وإمارة أم القيوين. ويذكر هينيل أن الشيوخ جميعاً وقعوا على هذه الاِتفاقية دون اقتناع منهم ولكن إرضاء للحكومة البريطانية(1) .

__________

(1) Kelly, ibid., p.589.

(1/7116)

إن دراسة موضوع الرقيق ووضعه في الإمارات لا يمكن فهمه بصورة جيدة بمجرد ذكر الاِتفاقيات التي عقدها الحكام مع الحكومة البريطانية، لأن ذلك يعطي انطباعاً تاريخياً غير سليم عن هذه المسألة. لابد أن يدرس هذا الموضوع في أبعاد ثلاثة حتى تتضح حقائقه ويوضع في إطاره التاريخي الصحيح. وهذه الأبعاد الثلاثة هي:

1-تجارة الرقيق التي قام بها البرتغاليون والبريطانيون وبقية الأوروبيين في غرب إفريقيا خلال القرون الثلاثة السادس والسابع والثامن عشر. وقد قدم لنا إحصاءات دقيقة عن حجمها الضخم الباحث الدكتور الأمريكي فيليب

(1/7117)

كرتين (Philip Curtin) في كتابه » تجارة الرقيق عبر الأطلنطي، دراسة إحصائية«. لابد أن نعرف ما هي المكاسب المادية التي جنتها بريطانيا وأوروبا من هذه التجارة اللاإنسانية والتي قاموا بها بالرغم ممَّا رافقها من أعمال بشعة. وأين كان ضمير بريطانيا وأوروبا خلال ثلاثة قرون. وما هي الأسباب المادية الجديدة وراء الاِستجابة فجأة لرجال المال والسياسة في بريطانيا لنداءات الكتاب الأحرار ورجال الكنيسة بتحريم تجارة الرقيق.

(1/7118)

2- البعد الثاني: نظام الرقيق في المجتمع الإسلامي والخليج واختلاف وضع العبيد والنظرة إليهم ومعاملتهم في هذا المجتمع. وكذلك تجارة الرقيق في شرق إفريقيا وهي المصدر الرئيسي لهذه التجارة في الخليج واختلافها تماماً عن تلك التجارة الأوربية في غرب إفريقيا في أسلوبها وأهدافها ونتائجها.

3- البعد الثالث: جهود بريطانيا وأسلوبها لإلغاء تجارة الرقيق في الخليج والإمارات خلال القرن التاسع عشر والمكاسب التي جنتها من وراء ذلك.

(1/7119)

في العالم الجديد من جلب للأفارقة كأيد عاملة في المزارع الجديدة والمعاملة غير الآدمية التي لقيها الأفارقة من جلد وسوء تغذية وقتل يختلف عن الرقيق الذي عرفه الخليج واستقدمه العرب من شرق إفريقيا. ولهذا يجب أن نغفل ونحن نقرأ نصوص الاِتفاقيات بين بريطانيا والإِمارات لمنع تجارة الرقيق حقيقة تاريخ ثلاثة قرون من تاريخ بريطانيا المتهم بأبشع تجارة عرفتها الإنسانية وهي التجارة في البشر جريا وراء الكسب والمال، مع ارتكاب أعمال بشعة أثناء نقل الرقيق من غرب إفريقيا إلى المستعمرات في العالم الجديد أيام كانت

(1/7120)

السفن والشركات المتخصصة البريطانية في نقل العبيد تقوم بنقل نصف عدد هذه التجارة وحدها. ويقدر عددهم الباحثون بأربعين ألف عبد إفريقي سنوياً. وكان يموت يومها 10% من هؤلاء العبيد أثناء نقلهم لعدم الاِهتمام بطعامهم أو صحتهم. ولا ننسى أيضا كيف كان وقتذاك ميناء ليفربول أكبر ميناء يتعامل في تجارة الرقيق في أوروبا. ولم يكن يستخدم وقتذاك النقود في هذه التجارة. لقد شجعت بريطانيا والأوروبيين الزعماء والحكماء في غرب إفريقيا على الحروب مع جيرانهم. وقدمت لهم مقابل الرقيق الذين يجلبونه لهم إلى سفنهم الراسية على

(1/7121)

الشواطئ في غرب إفريقيا البنادق والذخيرة والخمور لمتابعة الحروب وأسر أعداد ضخمة من أعدائهم. وعاش غرب إفريقيا ثلاثة قرون في حروب وقتال من أجل تدبير هذا المورد البشري المتدفق من الرقيق للتجار الأوربيين(1) .

ولم تخل حركة تحرير الرقيق التي انبعثت في أوروبا بوحي من مبادئ المساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية، والتي رفعت شعارها بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر من تحقيق مكاسب استعمارية حينما صدر قانون عام 1807 يمنع تجارة

__________

(1) Philip D. Curtin, The Atlantic Slave Trade, Wisconsin , 1996, pp. 130-134.

(1/7122)

الرقيق في بريطانيا والمستعمرات ومحاربته في العالم. كانت بريطانيا آنذاك غاضبة على المستعمرات الأمريكية التي استقلت عنها وتريد حصارها وحربها اقتصادياً بمنع مورد اليد العاملة عنها وهم رقيق غرب إفريقيا.

ويشرح لنا عن هذه الأسباب أيضا باسيل دافيدسون (Basil Davidson) في كتابه»تجارة الرقيق في إفريقيا«: »إن بريطانيا اكتشفوا أن جلب زيت النخيل من غرب إفريقيا والتجارة فيه لسد حاجة المصانع البريطانية أمرٌ مربحٌ. كما أن التجارة مع داخل إفريقيا يعوض الكثير من خسارة تجارة الرقيق. وهنا وجد الساسة ورجال المال أن

(1/7123)

الاستجابة لمطالب الكتاب الأحرار والكنيسة بتحرير الرقيق أمر يحقق آنذاك الكثير من المنافع. وظهرت الآراء التي تنادي ببقاء الأفارقة في بلادهم وفتح القارة السوداء أبوابها لاستقبال استثمارات الرجل الأبيض وبدء حركة الاستعمار. واحتلت بريطانيا والدول الأوروبية مدنا على ساحل إفريقيا الغربي تمهيداً للغزو والتدخل العسكري. وظهرت المحميات الأوروبية. وانتهى القرن التاسع عشر بتقسيم قارة إفريقيا إلى مستعمرات بين الدول الأوروبية ولبريطانيا بطبيعة الحال نصيب الأسد فيها(1)

__________

(1) Basil Davidson, The African Slave Trade, Boston, 1961. p.71-75.

(1/7124)

هذا إلى جانب أن بريطانيا وجدت في محاربة الرقيق ستاراً تفرض به سيطرتها البحرية على البحار وهي تمتلك وقتذاك أقوى أسطول في العالم بعد استخدام البخار في مراكبها. كان حق تفتيش السفن في البحار الذي حصلت عليه من الدول الضعيفة التي وقعت معها اتفاقيات تحرير الرقيق فرصة مواتية لفرض سيادة بريطانيا ونفوذها في العالم. وهكذا رافق تبني بريطانيا لمبدأ محاربة الرقيق حركة الدخول إلى داخل القارة الإفريقية وإنشاء مستعمرات زراعية وصناعية فيها تحت شعار مسؤولية الرجل الأبيض في تنوير إفريقيا ونشر التجارة والمسيحية

(1/7125)

فيها.

والسؤال هنا: هل تحرر الفرد الإِفريقي في فترة الاستعمار؟ لقد عاملت أوروبا الشعوب الإفريقية أسوأ معاملة بفرض السخرة عليهم للعمل في مزارعهم وتهجير للقرى لاستثمار أراضيهم. لقد استبدلوا تجارة الرقيق والأفراد باستبعاد الشعوب الإفريقية واستغلال ثرواتها.

أما البعد الثاني في هذا الموضوع، فهو وضع الرقيق في مجتمع الإمارات والمجتمعات العربية الإسلامية. عرفت المجتمعات نظام الرق في العصور والحضارات القديمة قبل ظهور الإسلام. وظهرت في المدن القديمة طبقة السادة الأحرار وطبقة العبيد ويقوم نظام الرق على

(1/7126)

فكرة عدم المساواة بين الناس وغلبة القوي على الضعيف واسترقاقه. وقد حارب الإسلام واستنكر فكرة الرق حين أعلن أن البشر جميعاً متساوون، فهم أبناء آدم وحواء. ومن وحي هذا الفكر الإسلامي قال الخليفة عمر بن الخطاب قولته الشهيرة وهو يعاقب في موسم الحج ابن عمرو بن العاص بسبب اعتدائه على قبطي مصري. قال عمر بن الخطاب موجهاً الكلام لابن عمرو بن العاص: »متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً« .

مع محاربة الإسلام لفكرة الرق، وتمهيده بذلك للقضاء عليه، وجد أن نظامه من القوة إلى درجة أنه يحتاج إلى الوقت

(1/7127)

لعلاجه. ولكنه اتخذ خطوات متقدمة للقضاء على هذا النظام. كان للرق مصادر عديدة منها الأسر في الحروب ومنها الوراثة للأرقاء، ومنها الاسترقاق لغلبة دين، ومنها الخطف والبيع والشراء. حصر الإسلام للرقيق مصدراً واحداً فقط وهو أسرى الحرب. وإلى جانب ذلك يسر القضاء على رقيق هذا المصدر الوحيد حينما ترك للإمام أو القائد أن يمن على الأسرى بالحرية أو يسمح لهم بافتداء أنفسهم. أعطى الأسرى هاتين الفرصتين. وكثيراً ما منح قادة الجيوش الإسلامية الأسرى حريتهم(1)

__________

(1) علي عبد الواحد وافي، حقوق الإنسان في الإسلام، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1979، ص.312.

(1/7128)

. وقد حرم الرسول عليه الصلاة والسلام بشدة مصدر خطف الأحرار وبيعهم. جاء في البخاري في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: »قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدره ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره«(1)

أما ما بقي من نظام الرق قائماً في المجتمع الإِسلامي، فقد فتح الإِسلام له الأبواب الواسعة لتحريره. لقد جعل من القربى إلى الله فك رقبة لتجاوز عقبة يوم

__________

(1) عز الدين إبراهيم، الأحاديث القدسية.

(1/7129)

القيامة، وجعل من تحرير العبد نيل الثواب عند الله، كما جعلها كفارة في الإفطار في شهر رمضان، وجعلها تكفيراً لحلف اليمين أو طمعاً في غفران السيئات، ورصد الإِسلام سهما في مال الزكاة لفك الرقاب وتحرير العبيد. يقول الله سبحانه وتعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب}. وخلاصة القول أن الإسلام أقر فكرة المساواة بين الناس التي لا يقبل معها الرق، ويصبح في نظر المسلمين أمراً غير طبيعي. وحدد باباً واحداً شرعياً لقبول نظام الرق فقط بعد ظهور الإسلام وهو أسرى الحرب.

(1/7130)

وفتح الباب على مصراعيه للتخلص من هذا الرقيق. وفي الطريق إلى إلغاء هذا النظام وضع أسسا للمعاملة الحسنة الإنسانية التي لم تعرفها البشرية من قبل. وقد جمعها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: »إخوانكم خولكم. فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم ويلبسه مما يلبس. ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل يقل فتاي وفتاتي«(1).

ولكن نظام الرق لم يختف من المجتمع الإسلامي حتى القرن التاسع عشر لظروف تاريخية عديدة. ومع ذلك، شهد العالم الإِسلامي أن عدداً كبيراً من الإماء نبغن في

__________

(1) علي عبد الواحد وافي، المصدر السابق، ص.315.

(1/7131)

العلوم والفنون، إذ كانت أبوابه ميسرة أمامهن. كما أن الطريق إلى النفوذ والسلطان كانت مفتوحة لذوي المواهب والكفاءة وقصة كافور الأخشيدي الذي سيطر على الحكم في مصر وصيا على أبناء الأخشيد مع المتنبي الشاعر العربي المرموق حكاية معروفة. كما أن الأمة حين تلد، تصبح أما للولد حسب تعاليم الشريعة وترفع بذلك إلى مصاف الأحرار. ويرث ابنها أباه. وكم حفل التاريخ الإسلامي بهذه الظاهرة الفريدة في التاريخ بأسماء خلفاء وقواد هم أبناء إماء. وتاريخ بني العباس في بغداد وحكام المسلمين في الأندلس وسلاطين آل عثمان شاهد

(1/7132)

على ذلك. بل إن بعض الخدمات العسكرية التي قدمتها بعض جماعات المماليك في الدول الإسلامية رفعتهم في المجتمع وجعلت منهم سلاطين وحكاماً لهم مكانتهم في التاريخ مثل دولة المماليك في مصر الذين استطاعوا رد جماعات المغول في معركة عين جالوت عام 1261. كما حرر المماليك ساحل الشام من بقايا الجيوش الصليبية.

وفي منطقة الخليج، رفع العلم عدداً كبيراً من الإِماء ليصبحوا أوصياء على أبناء الحكام. بل ومن المعروف في منطقة الخليج أيضا أنه إذا قتل السيد، فإن من بين من يطالب أدبياً بأخذ الثأر له هو العبد لوطيد علاقته

(1/7133)

بسيده أكثر من أبنائه. والمتتبع لأسماء كثير من الشخصيات التجارية أو السياسية في إمارات الخليج يجد أن بعضها يعود إلى أبناء إماء.

لقد كان نظام الرق في المجتمع الإسلامي رقيقاً عائلياً يختلف تماما عن نظام الرق الذي عرفه الأوروبيون في صورة جماعية من نقل للأفارقة من غرب أوروبا في ظروف صعبة لتسخيرهم وعملهم للكسب المادي في مستعمراتهم في العالم الجديد تحت ظروف سيئة ومعاملة قاسية تحت ضربات السياط. وليس أبلغ في الرد على النظرة لنظام الرق ووضع العبيد في المجتمع الغربي من مهانة وسوء معاملة وفصل عن المجتمع

(1/7134)

الأبيض وفكرة ضرورة منع تجارته وطبيعة رؤية هذا النظام ووضع العبيد في المجتمع الإسلامي من حسن معاملة وفرص متاحة للوصول لدرجات من النفوذ والمكانة الاِجتماعية خلال بداية القرن التاسع عشر من رد الصدر الأعظم على السفير البريطاني في ديسمبر عام 1840 حينما فاتحه في موضوع إصدار فرمان يمنع الرقيق في الدولة العثمانية. كتب السفير البريطاني برونزوى إلى حكومته يقول:

ذكرت الموضوع لفخامته، ولكني أحسست باستغرابه الشديد له وأجابني بابتسامة أن هذا الاقتراح يحطم نظاما في صلب نسيج المجتمع بهذا البلد ويرتبط وثيقا

(1/7135)

بالقانون والعادات ويصل إلى عقيدة كل الطبقات من السلطان حتى أقل الفلاحين. إن السلاطين لقرون لم يتزوجوا زواجا عاديا والعرق الإمبراطوري جاء من أمهات إماء. وفي أغلب العائلات الأرستقراطية الإِماء هن أمهات الأولاد الشرعيين. وهؤلاء الأولاد محل الاحترام مثل الأبناء من الزوجات الشرعيات. إن القباطنة وقادة الجيش والوزراء في كل أنحاء الدولة هم في الأصل من نسل إماء. وفي كل العائلات ينعم العبيد بأعلى درجات الثقة والنفوذ من رب العائلة. ولتنفيذ ما يريده سعادتكم فإن هذا يغير قانون وراثة العرش والسياسة التي سار

(1/7136)

عليها السلاطين. ويغير بصورة أساسية النظام السياسي والمدني وتنظيمات الحياة العائلية للشعب. ولسوف يؤدي هذا التغيير الثوري إلى فوضى عامة. وإن العبيد الذين تتوقع سعادتكم أنهم سوف يستفيدون من ذلك سيكونون هم أكثر من سيقاسي من هذا التغيير.

وختم السفير رسالته بقوله:

إن الترك يعتقدون أننا أكثر منهم تقدماً في العلم والفن والسلاح. ولكنهم يعتقدون أنهم أرفع منا في الحكمة والأخلاق والحياة الاِجتماعية(1) .

__________

(1) Kelly, op, cit., p.586.

(1/7137)

إن الرقيق الذي جاء إلى الخليج عاش في الأسرة العربية فردا فيها وعومل حسب قواعد الشريعة الإسلامية ولم يستغل في عمل قاس فهو لا يشتغل فعلا في عمل اقتصادي لا يقوم به سيده فهم يشتركون معاً في الغوص والملاحة معاً وهم أهم المهن في الخليج وقتذاك. وسنأخذ أقوال المسؤولين البريطانيين خلال مائة عام منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين حول الرقيق في هذه المنطقة وكلها تتفق في الرأي. ولنبدأ بتقرير ستانس المقيم البريطاني في الخليج في 20 مارس 1823 حول أوضاع الرقيق في الخليج:

(1/7138)

وإنه لمن المهم أن نعرف أن الرقيق لا يعامل فقط بصورة إنسانية حسنة جداً ويتمتعون بحماية سادتهم العرب بل إنهم أيضا يتمتعون بدرجة كبيرة من القوة والنفوذ. وقد لاحظت في كل مكان أنهم الأكثر قوة بدنية وتغذيتهم جيدة ويبدون في سعادة وراحة. ويجب أن نعترف أن التوبيخ لسوء معاملة الرقيق يجب أن توجه إلينا نحن الإنجليز وليس إلى الشعوب الشرقية الإسلامية(1) .

كما يكتب المقيم البريطاني في الخليج كمبول في تقرير له عام 1842:

__________

(1) R. Coupland, East Africa and Its Invaders, Oxford, 1938, p.514.

(1/7139)

إن معاملة الرقيق لدى عرب الخليج ليست قاسية. ومنذ شرائهم تتحول حياتهم إلى الأحسن. فهم يطعمون مثل طعام سادتهم ويعاملون كأفراد في العائلة. وهم يعملون بجد ويشعرون بالسعادة(1) .

كما يذكر المعتمد همرتون لدى السيد سعيد بن سلطان في زنجبار بشرق إفريقيا عام 1844 أن الرقيق لدى العرب يعاملون بالحسنى ويهتم بإطعامهم وأنهم نادراً ما يجلدون. وكتب الكثير من الموفدين البريطانيين إلى زنجبار أنه لا يوجد طبقة في المجتمع سعيدة ومتحررة من المسؤولية وتعامل جيدا مثل الرقيق لدى المسلمين.

__________

(1) Kelly, op, cit., p.411.

(1/7140)

كما قال نائب المقيم البريطاني في الخليج ارنولد ويلسون:

مع أن طريقة نقل العبيد في السفن مفزعة وقاسية أيضا طريقة الحصول عليهم، ولكنهم حال وصولهم أراضي المسلمين فهم يعيشون أحسن حالاً مما كانوا عليه في بلادهم. ورغم أن حياتهم قاسية في الجزيرة العربية ولكنها مثل قسوة الحياة التي يشاركهم فيها الأحرار العرب. وهي على كل حال ليست أصعب من حياة رجل قبلي في إفريقيا. لا يعرف العبد المهانة بين العرب ويصل إلى أعلى درجات الثقة وخاصة حينما يعتنق الإسلام وغالبيتهم أسلم وحصل على حريته(1)

__________

(1) A. Wilson, The Persian Gulf, Oxford, 1928, p.214.

(1/7141)

.

ويذكر برترام توماس وقد عاش فترة طويلة في عمان وحضرموت في النصف الأول من القرن العشرين:

إن موقف العرب من العبيد يزيل العار الذي يصم العبد في بلاد أخرى، لأن طبيعة الرق في البلاد العربية خالية من نظرة المذلة له. وبينما يعمل الرقيق في أعمال البيت والزراعة أو في صيد السمك والغوص في الخليج فإن بعضهم وصل إلى درجات من السلطة والثراء. وفي حالات من تاريخ مصر والعراق كونوا دولا حاكمة(1) .

__________

(1) B. Thomas, The Arabs, London, 1937, p.149.

(1/7142)

وبسبب هذا الاختلاف الجوهري بين وضع الرقيق في الغرب ووضعه لدينا في الخليج حينما نجحت الحملة ضد الرقيق في الغرب وفي المجتمعات الإسلامية لا يزال الأفارقة يعيشون في الغرب والولايات المتحدة مضطهدين وفي مجتمعات مغلقة. وأمكن للباحث جونافان ديريك في كتابه »رقيق إفريقيا اليوم« الذي صدر عام 1975 أن يسجل من إحصاء للأفارقة السود خارج بلادهم بمائة مليون نسمة من الأفارقة السود خارج القارة منهم 22 مليوناً في الولايات المتحدة وهم يمثلون 10% من عدد السكان. وأكثر هؤلاء الأفارقة اليوم في البرازيل إذ يوجد بها ما

(1/7143)

يقرب من خمسين مليونا. أما الهند الغربية، ففيها حوالي عشرين مليونا. ولا يزال يعيش بقايا تجارة الرقيق في الغرب اليوم بعد تحريرهم من الجانب القانوني، مجتمعات متميزة لهم أحياؤهم المنعزلة في مدن الغرب وتمتلئ الأحياء بمآسي معاملتهم والتفريق العنصري حيالهم. أما في المجتمع العربي والإسلامي، يذكر أيضا الباحث جونافان ديريك أن عددهم قليل، كما أنه لا يمكن حصر عددهم لأنهم ذابوا في المجتمع. ويعيش أحفادهم ونسلهم اليوم في مساواة تامة في المجتمع العربي الإِسلامي إذ يتزاوجون مع العرب والمسلمين دون أي مشكلة عرقية

(1/7144)

أو تعصب ضد اللون.(1)

ولقد استخدمت بريطانيا قضية منع تجارة الرقيق في الخليج سببا لتفتيش السفن العربية. وتحت ستار محاربة الرقيق قضت على النشاط العربي الملاحي في الخليج.

وكان اختلاف الرأي والنظرة نحو تجارة الرقيق بين البريطانيين من ناحية وأهالي الخليج من ناحية أخرى. هذا، إلى جانب أسلوب القمع والشدة الذي اتبعه قباطنة السفن البريطانية في منع هذه التجارة، سببا لانتشار شعور الاستياء والتذمر وازدياد فقد الثقة بين سكان

__________

(1) Jonathan Derrick, Africa’s Slavery Today, London, 1975, pp.110, 137-140, 144.

(1/7145)

الإمارات والبريطانيين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. واعتبر الأهالي أعمال قباطنة البحر البريطانيين من حرق ومصادرة الرقيق إجراءات ظالمة، وأنها تدخل غير مستساغ ولا مبرر له في الشؤون الداخلية للإمارات.

وفي أواخر القرن التاسع عشر انتعشت تجارة الرقيق في الخليج مرة أخرى، حينما قدم الفرنسيون أعلامهم لربابنة السفن في ميناء صور لحمايتهم من التعديات البريطانية. ولقد كان من النتائج القريبة المتوقعة من معاهدة 1892 مع شيوخ الإِمارات منعهم من تقبل العلم الفرنسي مثل بقية بحارة سلطنة عمان. وفي

(1/7146)

31 أغسطس 1892 كتب عبد اللطيف الوكيل السياسي في الشارقة في تقرير له بعض الملاحظات التي أبداها شيخ دبي حول رفض بريطانيا السماح بتجارة الرقيق للمواطنين العرب، بينما هي تترك هذه التجارة في الوقت نفسه حرة تحت راية العلم الفرنسي في عمان. وفي هذا التقرير يبدي الشيخ دهشته لأن سفينة حربية بريطانية قد جاءت إلى ساحل عمان ترفع العلم الفرنسي، وأفرغت حمولتها من رقيق في رأس الخيمة دون أن تتعرض لها السفينة الحربية البريطانية الراسية قريبا منها. وهنا اقترح الشيخ في حديثه أنه من الأجدر به وبعَرب الساحل أن يقبلوا

(1/7147)

العلم الفرنسي وبهذه الطريقة يأمنون شرور البريطانيين.(1)

وهنالك خطاب كتبه أوتافي (Ottavi) القنصل الفرنسي في مسقط يوم 26 فبراير 1896، ذكر فيه رغبة الشيخ زايد بن خليفة حاكم أبو ظبي في قبول الحماية الفرنسية، بسبب الغرامة التي فرضها عليه المقيم السياسي البريطاني تحت التهديد بقصف قصره بالمدافع. وشكا الشيخ زايد بن خليفة هذه الحادثة للسطان فيصل بن تركي الذي ساعده في دفع هذه الغرامة. ويفسر أوتافي سبب هذه الحادثة بأن

__________

(1) I.O.R.R/15/1/0, Residency Agent, Sharjah to Political Resident, 13, August 1892.

(1/7148)

الوكيل السياسي عبد اللطيف، الذي كان يمثل بريطانيا في الساحل كان يفرض على الشيوخ والأهالي مبلغا من المال على كل واحد من الرقيق يصل إلى الساحل، وأنهم إذا لم يدفعوا له قام بإبلاغ السلطات البريطانية التي سرعان ما تستخدم القوة دون دراية بحقيقة دوافع وكيلها السياسي. ووصف أوتافي الوكيل السياسي عبد اللطيف بأنه أكبر تاجر رقيق في منطقة الخليج. ولكن الشيخ زايد بن خليفة اعتزازا منه بمكانته، رفض أن يدفع هذه الإتاوة عن أهالي أبو ظبي للوكيل عبد اللطيف الذي سرعان ما أثار السلطات البريطانية ضده.(1)

__________

(1) Archives Françaises, Asie Océanie, N.S. Mascate 3, Ottavi à Ministre des Affaires

Etrangères, 26 Février 1896.

(1/7149)

ولكن بالرغم من أن البريطانيين قد استخدموا محاربة تجارة الرقيق لتحقيق أهدافهم السياسية من فرض سيطرتهم على المحيط الهندي والخليج، وتحطيم الملاحة والتجارة العربية في هذه المنطقة، ونجحت بريطانيا في تحقيق أهدافها السياسية في تقسيم إمبراطورية عمان إلى دولة في عمان ودولة أخرى في زنجبار، وتدخلت في شؤون الإمارات الداخلية وهددت الحكام تحت ستار هذه الحملة الإنسانية بعدم الاتصال بأيّ دولة أوروبية في نهاية القرن التاسع عشر. كما أنها عادت واستخدمت هذا الشعار لفرض اتفاقية توقيع امتياز البترول مع الشركة

(1/7150)

البريطانية عام 1936 وأرسلت تعليماتها للوكيل السياسي باتهام الإمارات بالتجارة في الرقيق والسلاح وفرضت إعادة غواصي الإمارات من العمل في المغاصات وسحبت من تجارهم وثائق السفر، بالرغم من كل هذا تبرز حقيقة واضحة، وهي أن للبريطانيين فضلا كبيراً في وضع حد لهذه التجارة في منطقة الخليج. ولعل أحد أسباب نجاح البريطانيين في منع هذه التجارة بالرغم من ضيق الأهالي بها هو أن منع تجارة الرقيق وتحريمه أصل من المبادئ الإِسلامية التي عمل الإِسلام على تحقيقها. وكان انتعاش تجارة الرقيق لا يتمشى أبدا مع التعاليم

(1/7151)

الإسلامية. ونحن نرى كيف عملت حكومة الكويت وحكومة قطر بعد الحرب العالمية الثانية على شراء كل من العبيد الموجودين وقتذاك في بلدهما وكان قليلا، وذلك حين دفع الشيخ عبد الله الجابر الصباح والشيخ علي بن عبد الله آل ثاني قيمة تحرير من بقي من الرقيق لديهما لمن طلبوا مبالغ لذلك من أوليائهم، بينما أطلق الكثير من أولياء الرقيق عن رضا فتيانهم.

وتثبت هذه القضية أن اتصال البلاد الإسلامية مع الغرب، وتأثر هذه البلاد بكثير من عناصر الحضارة الأوروبية الحديثة لم يكن بالضرورة شرا كله أو منافيا كله لتعاليم الإسلام.

(1/7152)

ونحن نرى في موضوع الرقيق كيف أن البريطانيين قد ساعدوا المسلمين بمنعهم هذه التجارة على تحقيق مبدإ من الأصول الإِسلامية التي غفلوا عنها لظروف تاريخية.

(1/7153)

بسمارك والمغرب

... ... ... الدكتور محمد خير فارس

... ... ... ... ... كلية الآداب - دمشق

سياسة بسمارك العامة

تسلم بسمارك السلطة في بروسيا عام 1862. وكان قد شغل قبل ذلك مناصب دبلوماسية رفيعة ممثلا لبروسيا في الدييت الجرماني، وسفيرا في سانت بطرسبورغ وفي باريس. وقد ساعده ذلك على اكتساب خبرة كبيرة في المسائل الألمانية وفي السياسة الروسية والفرنسية، فعرف نقاط القوة كما عرف نقاط الضعف. وساعده هذا كله في تحقيق الاتحاد الألماني، بعد خوضه ثلاث حروب ناجحة ضد الدانمارك ثم النمسا ثم روسيا، وقد ساعدته

(1/7154)

خبرته الدبلوماسية على الانفراد بكل من النمسا وفرنسا دون أي تدخل خارجي من دولة أخرى. و ما من شك في أن هذا النجاح الضخم وقيام هذه الدولة القوية في وسط أوربا سبب القلق والخوف لدى جيرانها المباشرين، كذلك لدى انكلترا الحريصة على المحافظة على توازن القوى في القارة، والمعارضة لهيمنة أي دولة فيها.

وقد أدرك بسمارك ذلك، فسعى لإزالة هذا القلق وهذه المخاوف. كان يدرك أن هذه الإمبراطورية التي كانت ثمرة الحرب يمكن أن تنهار للسبب نفسه. ولذلك كان حريصا على اتباع سياسة سلم ومداراة، وتجنب كل ما يثير الخلاف مع

(1/7155)

الدول الأخرى. كان يرى أن السلام ضروري لألمانيا، لأنه يسمح بتوجيه الرساميل نحو التنمية الاقتصادية التي سترسخ الوحدة الألمانية(1) .

وقد استفاد بسمارك من اختلاف المصالح بين الدول الكبرى للاحتفاظ بالتفوق القاري. وكان يسعى لأن تكون ألمانيا أقوى دولة في أوربا بما تملكه من قوى عسكرية وسياسية واقتصادية، وأن يلعب بهذا دور الحكم الذي يسعى الجميع إليه.

__________

(1) .Pierre Renouven, Histoire des relaations internationales, Tome 5, P. 383

(1/7156)

كان أكثر ما يخشاه بسمارك نهوض فرنسا وسعيها للانتقام من ألماني واسترجاع الألزاس واللورين. وكان يدرك أن فرنسا التي سعت أكثر من مرة لفرض الهيمنة على القارة، والتي كانت في أغلب الأحيان تعتبر نفسها القوة الرئيسية في أوربا، لن تستكين لهده الهزيمة المنكرة التي لحقتها في "سيدان" والتي حولتها إلى دولة من الدرجة الثانية. كان واثقا أن فرنسا ترغب في حرب انتقامية، وأنها لن تقبل خسارة الألزاس واللورين. وكان هذا يبدو له منطقيا ومحتما. قال هذا بصراحة للقائم بالأعمال الفرنسي في برلين في آب 1871: "سأقول لك

(1/7157)

بصراحة ما أفكر فيه: لا أعتقد أنكم ترغبون الآن في خرق الهدنة القائمة. إنكم ستدفعون لنا المليارين، ولكن في 1874 حيث عليكم تسديد المليارات الثلاثة الباقية ستعلنون الحرب"(1). وكان تيير من جهته، يرى أن سنة 1872 أنه "إذا حدث اضطراب في أوربا، فسيكون من الطبيعي جدا أن نرغب في استغلال الفرصة التي تتاح لنا"(2). وبانتظار اللحظة المناسبة، فإن على فرنسا - حسب رأي تيير - أن تعيد تكوين جيشها، وأن تهيئ الجو لتحالفات

__________

(1) .Ibid., Tome 6, P. 28

(2) Kvostov et Mintz, Histoire de la diplomatie, Tome 2, PP. 13-14.

(1/7158)

مقبلة(1) . وكان تيير وخلفاؤه في جمهورية الدوقات "يرون أن حلفاءهم في المستقبل: النمسا وإنكلترا، وبخاصة روسيا. وقد كتب جول فافر وزير خارجية تيير: "نحن نعرف إلى أي درجة كانت العلاقات بين سانت بطرسبورغ وبرلين وثيقة، ونحن لا نستطيع - دون أن نتعرض لخيبات أكيدة - أن نطلب من روسيا خدمة ما، يمكن أن تجر إلى برود حاد بين الدولتين... إن بذرة الشقاق الحاد في المستقبل موجود بالتأكيد"(2).

__________

(1) Ibid., p. 14.

(2) Ibid..

(1/7159)

كان بسمارك يسعى إلى إبقاء فرنسا على حالة من الضعف لا تسمح لها بالتفكير في حرب انتقامية. فرض عليها في معاهدة فرانكفورت 1871 - عدا سلخ الألزاس واللورين - غرامة حربية باهضة (خمس مليارات) سيؤدي سدادها إلى الإضرار بالاقتصاد الفرنسي. كما فرض بقاء القوات الألمانية في الأراضي الفرنسية المحتلة حتى سداد الغرامة. وعند أي محاولة فرنسية لإعادة تنظيم قوتها العسكرية، كان يلجأ إلى التهديد بحرب وقائية. ولكنه بالرغم من أنه لم يهمل التخطيط لحرب وقائية، فإنه لم يكن يرغب بعد علم 1871 في اللجوء إلى السلاح. فقد كان

(1/7160)

يرى أن ألمانيا قد أصبحت مكتفية ووصلت إلى حد الإشباع، وأنه ليس هناك ما تكسبه من حرب أخرى. وكان يعتقد أن حربا فرنسية ألمانية جديدة تهدد هذه المرة بألا تبقى محصورة بين الدولتين(1) . ولكن فشل سياسة التهديد وإسراع فرنسا في تسديد الغرامة قبل موعدها، واتخاذ التدابير لاستعادة قوتها العسكرية - قوانين 1872 و 1875 العسكرية - جعل بسمارك يعتمد على السلاح الدبلوماسي، أي عزل فرنسا وإحاطة ألمانيا بسور من التحالفات. كان يدرك أن فرنسا لن تفكر في حرب انتقامية لوحدها، إذ قال

__________

(1) .Renouvin; op. cit., Tome 6, p. 28

(1/7161)

لسفيره في باريس : "نحن بحاجة لمنع فرنسا من إيجاد حلفاء إذا كانت لا ترغب في السلام؛ ومادام ليس لها حلفاء، فلن تكون خطرة علينا"(1) .

سعى بسمارك لجذب النمسا وروسيا اللتين كان موقفهما أكثر أهمية في نظر بسمارك من بريطانيا، ذلك لأنه ليس لبريطانيا جيش؛ ولأنه كان يخشى أن تجد فرنسا - التي كان يحكمها في هذه الفترة أكثرية ملكية تدعمها أقلية ليبرالية محافظة أبعدتها ثورة الكومون عن الجمهورية - بسبب نظامها تعاطفا من النمسا التي لا تزال

__________

(1) .Maurice Baumont, L’essor Industriel et Limpériaalisme colonial, P. 67

(1/7162)

متأثرة بجراح عام 1866، أو روسيا القيصرية التي أزعجها قيام ألمانيا القوية على حدودها.

نجح بسمارك في جذب هاتين الدولتين إلى فلكه وإبعادهما عن فرنسا، وذلك باتفاق الأباطرة الثلاثة عام 1873. وقد ظهرت بدايات هذا الاتفاق في صيف سنة 1872 بلقاء الأباطرة الثلاثة في برلين، أي في الوقت الذي أظهر تيير رئيس الدولة الفرنسي رغبته في دفع الغرامة

الحربية بأسرع مما نصت معاهدة فرانكفورت. وقد رافق توقيع هذا الاتفاق تغيير حصل في فرنسا لصالح اليمين الملكي في أيار 1873 : فقد حل مكماهون الملكي محل تيير و بدأ في فرنسا

(1/7163)

ما عرف ب»جمهورية الدوقات". وقد وصف جاك بيرين هذا الاتفاق بأنه "حلف مقدس جديد" للمحافظة على السلم والنظام القائم تحت رعاية الدول الثلاث الموقعة على الاتفاق(1). كان هناك تضارب مصالح بين روسيا والنمسا في البلقان يضعف هذا الاتفاق، ولكن بسمارك عرف كيف يربط الدولتين بعربته. فقد كانت النمسا بحاجة إلى ألمانيا لدعم سياستها التوسعية في البلقان. وكانت روسيا التي تواجه مشاكل كبيرة مع إنكلترا في الشرق الأسيوي، ومع النمسا في

__________

(1) Jacques Pirenne, Les grands courants de Lhistoire universselle, Tome 5, P. .

(1/7164)

البلقان بحاجة إلى ألمانيا أيضا.

وكان بقاء هذا الاتفاق مرتبطا بعدم قيام أزمة بلقانية تهدد بتغيير الوضع الراهن وتفجر الخلاف بين النمسا وروسيا كما سيحدث في أزمة 1875 - 1878.

وكانت أوربا تمر الآن بمرحلة الإمبريالية، وكان هناك تسابق بين الدول للسيطرة على آسيا وإفريقيا. وقد سبب هذا توترا في علاقات الدولة المتنافسة. كان بسمارك يدرك مخاطر السياسة الاستعمارية على ألمانيا، وفي الوقت نفسه فوائدها عليها. ولهذا اتبع بسمارك سياسة قارية، وكان يرى أن المسائل الاستعمارية التي بقيت ألمانيا بعيدة عنها، وبخاصة تلك

(1/7165)

التي تستدعي المواجهة بين الدول الأخرى، ليس لها أي قيمة إلا من جهة أنه يمكن أن تتيح له الفرص لتعزيز نظامه القاري.

ولم يكن بسمارك يرى أنه من المفيد لألمانيا الحصول على ممتلكات ما وراء البحار. فهذا يحتاج لأسطول قوي، كما سيزج بألمانيا في مشاكل مع الدول المتنافسة؛ مما يتيح لفرنسا العثور على حلفاء. وترك لفرنسا أن تبدد قواها وأموالها في حملات بعيدة، مما يزج بها في مشاكل مع إنكلترا ويحقق لألمانيا أمنا على"الرين".

سياسة بسمارك المغربية

(1/7166)

لم يكن لألمانيا حتى السبعينيات من القرن التاسع عشر سوى علاقات بسيطة وغير منتظمة مع الغرب. ولم تعر الدول الألمانية، حتى عام 1869، المغرب سوى اهتمام بسيط.

كان لمدن الهانس نشاط تجاري في البحر المتوسط. وقد جرت محاولة لعقد معاهدات مع المغرب في أواخر القرن الثامن عشر، ولكن ضآلة المبادلات لم تكن تبرر دفع جزية كبيرة. وكذلك فعلت بروسيا في آخر القرن الثامن عشر.

وفي سنة 1805، اضطرت هامبورغ إلى عقد معاهدة مع المغرب، وتبعتها مدن الهانس الأخرى. ولكن سريان المعاهدات توقف على أثر استيلاء نابليون على مدن

(1/7167)

الهانس. وبعد فشل المحاولة الدولية للقضاء على القرصنة، استؤنفت المفاوضات لعقد معاهدات جديدة لم يعد لها مبرر بعد نزول الحملة الفرنسية في الجزائر.

كانت المبادلات التجارية بين ألمانيا والمغرب شبه منعدمة، ولم تجد أي دولة من دول الاتحاد الجرماني من حاجة لإقامة علاقات دبلوماسية مباشرة ومستمرة. واعتمدت مدن الهانس على بريطانيا للدفاع عن مصالحها متى تطلب الأمر ذلك. واكتفت بروسيا بدءا من 1838 باعتماد قنصل السويد ممثلا لها في المغرب(1) . وفي 1852، زار

__________

(1) ..Pierre Guillen, L’Allemagne et Maroc, P 6

(1/7168)

"مينوتالي"، قنصل بروسيا في برشلونة، طنجة ووضع تقريرا يبين فيه المزايا التجارية والسياسية، وذكر فيه أنه سيكون من الممكن استخدام المغرب للحصول من فرنسا وإنجلترا على تنازلات مفيدة للسياسة البروسية في أوربا(1) . وبهذا يكون "مينوتالي" أول من طرح فكرة ستكون فيما بعد دليلا في أغلب الأحيان للسياسة الألمانية المغربية، وهي استخدام المغرب ورقة في لعبتها الدبلوماسية.

وفي 1852، تعرضت سفن بروسيا لهجوم على شواطئ الريف وقتل عدد من بحارتها. فشلت بروسيا في الحصول على تعويض أو على ترضية. وفي

__________

(1) . Ibid., p. 7

(1/7169)

1856، وبمناسبة رحلة تدريب في المتوسط، مر الأميرال البروسي أدالبرت ابن عم الإمبراطور أمام المكان الذي تم فيه الهجوم الريفي، ونزل على رأس قوة لمعاقبة الريفيين. فأجبر الريفيون الحملة على الانسحاب بعد أن خسرت عددا من القتلى بينهم الأميرال وأمير ألماني آخر. ورفض السلطان طلب الغرامة الذي تقدم به قنصل السويد باسم بروسيا. وحينئذ، توجهت برلين نحو باريس ولندن ومدريد. وأعلن نابليون الثالث رغبته في اتخذ تدابير بالاتفاق مع إنكلترا وإسبانيا لمنع تجدُّد هذه الحوادث، ولكن لم يتخذ أي قرار في هذا الصدد(1)

__________

(1) .Ibid., p. 8

(1/7170)

. وردا على موقف المغرب، أعلنت بروسيا تأييدها لإسبانيا في الحرب التي شنتها على المغرب 1859 - 1860، وحضرت بعثة روسية عسكرية هذه الحرب. وقد كتب أفراد هذه البعثة مذكراتهم التي أسهمت في تعريف الألمان بالمغرب(1) . وقام عدد من المستكشفين الألمان بزيارة المغرب، شكا أن الزولفراين لم يفعل شيئا حتى الآن لفتح سوق له في المغرب، وأبدى أسفه على عدم وجود قنصل هناك. وفي العام نفسه، استطلع هنريخ بارت موانئ الشمال وأبرز أهمية طنجة في السياسة

__________

(1) انظر .Boudet et poulier, Une mission pprussienne au Maroc :

(1/7171)

الأوربية. وفي 1858، استطلع كارل فون مالتزن الريف ووصل إلى مراكش وقابل السلطان عبد الرحمن. وكان جرهار رولفس أهم المستكشفين الألمان. إذ قام رولفس بعدة رحلات شملت شمالي المغرب وجنوبه، حيث وصل في الرحلة الأولى إلى أغادير ومراكش ثم الجزائر عبر تارودانت وواحات درعة وتافيلالت وفجيج. وفي الرحلة الثانية عبر الأطلس ووصل إلى واحة توات وتيديكلت وانتقل إلى طرابلس عبر عين صلاح وغدامس. ومول ملك بروسيا الرحلة الثالثة إلى لاجوس عبر الهجار. وهكذا أصبح رولفس شخصية أوربية بارزة. فاستقبله ملك بروسيا وبسمارك، ودعاه

(1/7172)

قيصر روسيا إلى سانت بطرسبورغ، ومنحته الجمعية الجغرافية في باريس ميدالية ذهبية، ومنح دكتوراه شرف من عدة جامعات. أصبح رولفس حجة في كل ما يمس إفريقيا؛ وسيكلف بمهمة خاصة في شمالي إفريقيا خلال حرب 1870. ولقيت مؤلفات رولفس نجاحا كبيرا، وكان لا يفتأ يثير في مقالاته الاهتمام بالسلطة المغربية التي وصفها بأنها جنة حقيقية للاستعمار الأوربي؛ وكان متعطشا لرؤية المغرب من نصيب ألمانيا(1) .

__________

(1) .P. Guillen, op. cit., p. 22

(1/7173)

لم يكن رجال الأعمال البروسيون يعيرون المغرب اهتماما باستثناء هامبورغ التي طالبت فيها غرفة التجارة ومجلس الشيوخ بافتتاح قنصلية في المغرب عام 1869. ولكن بسمارك لم ير ضرورة لذلك في ذلك الوقت، لأن اهتمامه كان منصبا آنذاك على إتمام الوحدة الألمانية وإعداد العدة للحرب مع فرنسا.

كشفت الحرب البروسية - الفرنسية سنة 1870 عن الأهمية السياسية والاستراتيجية لبلد مجاور للجزائر. فمنذ بداية الحرب، رغبت الحكومة الألمانية في تجنب إمكان استدعاء جيش إفريقيا الفرنسي إلى أوربا، وذلك بإثارة الاضطراب في الجزائر. وقد

(1/7174)

أرسل لاجئون جزائريون في إستنبول اقتراحات بهذا المعنى إلى المفوضية الألمانية.

جذب المشروع اهتمام مولتكه، رئيس الأركان العامة الألماني. عرض رولفس خدماته لإثارة الجزائر، وقبل بسمارك العرض. وحاول رولفس بمرافقة أستاذ اللغة العربية وتيزشتاين ومحي الدين عبد القادر الجزائري إثارة القبائل الجزائرية القريبة من الحدود التونسية. ولكن المحاولة فشلت، لأن الباي أسرع بإبعادهم بضغط من الحكومة الفرنسية. أرسل بسمارك بعد ذلك وتيزشتاين إلى جبل طارق للقيام بمحاولة جديدة من المغرب.

(1/7175)

وبالرغم من فشل المحاولتين في إثارة الاضطرابات في الجزائر، فإنهما حققتا جزئيا الهدف الذي اقترحته الأركان العامة الألمانية. ذلك بأن الحكومة الفرنسية، بسبب قلقها من هذه المحاولات، قررت أن تترك في الجزائر قوات كانت تفكر في نقلها إلى فرنسا. كذلك أدت هذه المحاولة إلى إدراك بسمارك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المغرب في العلاقات الفرنسية الألمانية. إذ سيكون من الممكن، انطلاقا من المغرب، تهديد الجزائر والحصول على أداة ضغط على فرنسا. وهذه الفكرة ستقود معظم الجهود الألمانية لمد نفوذها في المغرب(1)

__________

(1) .Ibid., pp. 18 - 19

(1/7176)

.

سياسة بسمارك المغربية الفرنسية

ترتبط سياسة بسمارك المغربية بعلاقته مع فرنسا. فتوتر العلاقات أو تحسنها ينعكس على سياسته المغربية. وفي الواقع، لم يكن المغرب غاية في حد ذاته؛ بل كان وسيلة ضغط أو إغراء تخدم سياسته الأوربية بعامة والفرنسية بخاصة. فقد كان المغرب أحيانا قاعدة يستطيع منها إثارة اضطرابات في الجزائر ليجمد القوات الفرنسية الموجودة هناك، ويحول دون نقلها إلى ميدان الحرب الأوربية، إذا ما نشبت حرب ألمانية فرنسية. وفي أحيان أخرى، كان المغرب وسيلة إغراء لتحويل أنظار فرنسا عن الراين، كما كان

(1/7177)

أيضا ورقة يلعبها الساسة الألمان في المنافسات الاستعمارية للحصول على تعويض ثمنا للتخلي عن المغرب(1) .

مرت العلاقات الألمانية الفرنسية في عهد بسمارك بثلاث مراحل:

1- مرحلة التوتر في العلاقات (1871 - 1878)؛

2- مرحلة التحسن في العلاقات (1878 - 1884)؛

3- مرحلة عودة التوتر (1885 - 1890)؛

1 - مرحلة التوتر (1871 - 1878):

كان الخوف يسيطر على بسمارك من سرعة نهوض فرنسا، كما بدا من القوانين العسكرية التي أقرها البرلمان الفرنسي (1872 و 1875) والهادفة إلى

__________

(1) .Jean Brignon et autres, Histoire du Maroc, p. 297

(1/7178)

إعادة تنظيم الجيش وزيادة عدد أفراده؛ ومن دفعها الغرامة قبل موعدها المحدد في معاهدة فرنكفورت، مما أجبر بسمارك على سحب قواته من الأراضي الفرنسية المحتلة، وفقد بذلك ميزة إستراتيجية هامة. كما كان يخشى أن تستطيع فرنسا، في ظل حكومة محافظة تعتمد على أكثرية ملكية، أن تجد لها حلفاء من بعض الدول الملكية المحافظة، أو على الأقل تعاطفا من قبل هذه الدول. وفشل أسلوب التهديد بحرب وقائية 1875 بسبب تدخل إنجلترا(1)

__________

(1) كان دزرائيلي الذي خلف جلاد ستون سنة 1874 قلقا من طرف السياسة الألمانية وأهدافه. كتب إلى الملكة فيكتوريا أن بسمارك هو نموذج من نابليون. ولكن الحكومة الانجليزية كعادتها تجنبت إعطاء فرنسا وعدا بالدعم. كل ما هنالك أنه إذا حاولت ألمانيا القيام بحرب وقائية ضد فرنسا، فإن انجلترا ستعلن استنكارها. وبالمقابل، أطلعت الحكومة الانجليزية بسمارك على وجهة نظرها. وبالرغم من أنها عرضت ذلك بصورة ودية، فقد كان مسعاها صريحا. إن الحكومة الألمانية مدعوة لتهدئة قلق أوربا. (op. cit., Tome 6 P. 55 Renouvin,).

(1/7179)

وروسيا(1)

__________

(1) كان عمل روسيا مشابها لعمل انجلترا، ولكن كان له مدلول أكبر، لأن روسيا قد وقعت سنة 1873 اتفاقا عسكريا مع ألمانيا. تدخل القيصر الروسي شخصيا وقرر الذهاب بنفسه إلى برلين يصحبه المستشار غوتشاكوف، بقصد واحد وهو إبداء ملاححظات لبسمارك لتهدئة الموقف. وكان القيصر قد قال للسفير الفرنسي إنه يرغب في تهدئة التوتر الألماني الفرنسي دون اللجوء إلى التهديد و "سنصل إل ذلك".

(Renouvin, op. cit., Tome 6, p. 56). وقال غورتشاكوف لبسمارك : "قلقكم يمنع أوربا من النوم".

.(Henri Hawser et autres, du libéralisme à l’impérialisme, p. 355)

(1/7180)

. ومن هنا برزت أهمية المغرب بما هو قاعدة لإثارة الاضطرابات في الجزائر تؤثر في قرار فرنسا في موضوع حرب انتقامية، أو على الأقل يضعف قدرتها العسكرية بتجميده القوات الفرنسية في الجزائر والحيلولة دون نقلها إلى ميدان الحرب الأوربية. في سنة 1872، أعلن تيودور ويبر - قنصل ألمانيا في بيروت - أن القبائل الثائرة في الجزائر تأمل في مساعدة ألمانيا لها بالسلاح. وعد بسمارك بتزويد هذه القبائل بثلاثين ألف (30.000) بندقية لو استؤنف النزاع بين فرنسا وألمانيا(1)

__________

(1) . Jean-Louis Miège , Le Maroc et l’Europe , Tome 4, p. 19

(1/7181)

وفكر بسمارك في كسب نفوذ عدة شخصيات متنفذة في الغرب كشريف وزان، أو أعيان جزائريين لاجئين إلى المغرب عند الحاجة للتحرك ضد الجزائر أو إجبار فرنسا بهذه التوقعات على التخلي عن فكرة الحرب الانتقامية(1)

كل هذا أقنع بسمارك بالإسراع إلى إقامة تمثيل دبلوماسي في المغرب. صرح بسمارك بقوله: "إن إيجاد مركز طنجة الذي هدفه خدمة المصالح التجارية الألمانية له أهمية سياسية لدى احتمال حرب جديدة مع فرنسا". وكان الفرنسيون يدركون هدف بسمارك هذا : "إن إنشاء بعثة دبلوماسية ألمانية لا يمكن أن

__________

(1) .Guillen, op. cit. , p.28

(1/7182)

يفسر إلا فكرة كامنة. لقد أقامت ألمانيا على الجنب الأيسر من مستعمرتنا الإفريقية وبدأت تهيئ يدا طويلة لتجميد قسم من القوات التي يسمح لنا الهدوء على حدودنا الغربية باستخدامها في حالة نشوب حرب أوربية". وأكدت الصحف الألمانية هذا التفسير قائلة: "إن إرسال وزير ألمانيا معركة حقيقية من أجل التأثير في الحكومة المغربية، معركة بين ألمانيا وفرنسا، وسيصبح المغرب قريبا مسرح حرب. فإما أن نضع حدا للسيطرة الفرنسية في إفريقيا وإما أن تتوسع هذه السيطرة حتى الأطلنطي"(1)

__________

(1) .Ibid.

(1/7183)

كان الجو ملائما للوجود الدبلوماسي الألماني. فقد أثار الانتصار الألماني دهشة المغاربة وإعجابهم، وأعطى ألمانيا سمعة كبيرة لديهم. وقد وجد الرحالان الألمانيان فريتشن ورين سنة 1872 ترحيبا من المسؤولين المغاربة وسمعا منهم: "لقد ابتهج كل الشعب أن الله أعطى السلطان غليوم النصر على فرنسا، تلك الأمة التي تسعى لفرض قانونها على جيرانها"(1)أبدى السلطان الحسن اهتماما شديدا بالجيش الألماني، وسعى للاستعلام عن أسباب تفوقه، ورأى أنه يمكن أن يستفيد من دعم ألمانيا ضد مطامع الدول الأخرى. وكان هناك

__________

(1) .Ibid., p.33

(1/7184)

اعتقاد في المغرب بأن الدعم الألماني سيكون نزيها، لأن ألمانيا لم تكن دولة استعمارية، وليس لها ماض تاريخي في شمال إفريقيا، ولا حدود مع المغرب كفرنسا، ولا تملك مركزا تستطيع تهديد المغرب منه كإنجلترا في جبل طارق؛ كما أنه ليس لها مطالب لصالح مواطنيها - وعددهم كان لا يزال بضعة أفراد - وليس لها محميون.

كان بسمارك يريد من ممثليه أن يتعاونوا تعاونا كاملا مع ممثلي إنكلترا التي كانت لها أهداف ألمانيا نفسها في معارضة فرنسا. وكان هذا يتجاوب مع محاولات بسمارك التي استمرت حتى عام 1880 في جذب إنكلترا إلى حلف

(1/7185)

أو اتفاق مع ألمانيا. ويرى مييج أن هذا الحلف كان قائما عمليا في المغرب: فقد كان ممثلو ألمانيا حتى عام 1880 يقفون صفا واحدا مع ممثل إنكلترا. وفي فترة غياب ممثل ألمانيا، كان ينوب عنه في تمثيل المصالح الألمانية الوزير المفوض الإنجليزي(1)

طلب بسمارك من جوليش، ممثل ألمانيا الأول، دراسة إمكان جر السلطان إلى مهاجمة الجزائر في حالة نشوب حرب في أوربا. وطلب منه أن يقدر إمكانات المغرب العسكرية قائلا : "إن لعلاقاتنا مع المغرب أهمية عسكرية في حالة حرب مع فرنسا؛ إنها كذلك عام

__________

(1) .J.L.Miège, op. cit., p.21-22

(1/7186)

1874"(1).

كان اختيار جوليش، الوزير المفوض، غير موفق. فقد كانت تنقصه الخبرة بالعالم الإسلامي. فوقع الاختيار على تيودور ويبر قنصل ألمانيا في بيروت. وكان ويبر قد أمضى سنوات طوالا في البلاد العربي، وكان يتقن جيدا اللغة العربية، وصحب معه ترجمانا سوريا مسلما،

هو منصور ملحم، مما كان له وقع طيب لدى المغاربة الذين كانوا يرون فيه واحدا منهم. وكان لهذا الترجمان فضل كبير في نجاح مهمة ويبر في المغرب.

__________

(1) .Guillen, op. cit., pp.32

(1/7187)

أكد بسمارك لويبر أهمية إقامة علاقات وثيقة مع الحكومة المغربية. وكان بسمارك يعتقد أنه بفضل مساعدة ألمانيا للمغرب قي تطوير قوته الاقتصادية والعسكرية يمكن أن يصبح حليفا ثمينا لألمانيا مخيفا لفرنسا. وطلب من ويبر أن يدرس بعناية هذا الاحتمال وأن يجيبه بدقة على مسألة "هل الدولة المغربية في تنظيمها الحالي قادرة على التحسن، وما أهمية مواردها إذا نجحت في تطويرها، وهل بالإمكان أن تكون حليفا محتملا؟".

كانت العادة المألوفة أن يذهب الوزراء المفوضون المعينون حديثا إلى البلاط المغربي ليقدموا أوراق اعتمادهم.

(1/7188)

لكن لم يتح لجوليش أن يقوم بهذه المهمة. وكان من المفروض أن يقوم بها ويبر عام 1875؛ ألا أن الأزمة الفرنسية الألمانية في هذا العام، وما أثارته من مشاعر في أوربا دعت بسمارك إلى تأجيلها. تمت السفارة سنة 1877، وكان تشكيلها يعكس الأهمية المعلقة على هذا الاتصال الأول. فقد اصطحب ويبر سبعة ضباط اختبروا من أحسن عائلات النبلاء الألمان، وصحافيين اثنين ومصورا وسكرتيرا وترجمانين واثنين من صف الضباط. وفي تقرير إلى الإمبراطور، بين بسمارك: "أن نفوذنا سيصبح كبيرا، إذا نحن أقمنا مع السلطان علاقات مباشرة. إن هذا

(1/7189)

لموكب الرائع والهدايا الثمينة التي يحملها ويبر لابد من أن تؤثر في المخزن، وأن تقنع السلطان الحسن بأن ليس له من حليف أفضل من الإمبراطور غليوم، وتجعله يقبل عقد معاهدة تجارية ومساعدة ألمانيا له في إعادة تنظيم جيشه"(1) .

و في أيار، وصلت سفارة مغربية وعلى رأسها حاكم آسفي الطيب بن هيمة إلى برلين. قوبلت هذه السفارة بحفاوة وسعى بسمارك إلى إبهارها بفخامة البلاط الإمبراطوري. قابل الإمبراطور بن هيمة كما قابله بلوف، سكرتير الدولة للشؤون الخارجية. صرح بن هيمة بأن سيده "لديه ثقة كبيرة بألمانيا

__________

(1) .Ibid ,. 71

(1/7190)

أكثر من أي دولة أخرى". وإذا كانت هذه السفارات قد وثقت العلاقات، فإنها لم تحقق ما كان بسمارك يسعى إليه: عقد معاهدة تجارية وإرسال بعثة عسكرية ألمانية. ويرى مييج أن الاهتمامات السياسية والاستراتيجية لم تكن غائبة، ولكن الهدف الرئيس هو وضع أسس النفوذ الألماني في المغرب وتهيئة السبل لهجوم اقتصادي لمؤسسة "كروب" الذي كان يرغب في أن يكون له موطئ قدم في المغرب(1). وقد حصل ذلك.

__________

(1) J. L. Miège, op . cit., p 24.

(1/7191)

فشل ويبر في الحصول على موافقة السلطان على عقد معاهدة تجارية، لأنه لم يكتف بطلب الحصول على منافع المعاهدات القائمة مع الدول الأخرى، بل قدم مطالب أكثر لم يكن السلطان مستعدا للموافقة عليها، لأنه كان يفكر في أن يستخدم هذه التنازلات - وخاصة مل يتعلق بتصدير الحبوب والمواشي وتحديد رسوم التصدير - في مجالات التجارة عملة تبادل مقابل تنازلات في مجالات أخرى، كمسألة الحماية التي كان يسعى للتخلص منها أو للحد منها وإزالة مفاسدها.

(1/7192)

وكان على ويبر أن يقترح تزويد المغرب بالسلاح وبمدربين ألمان لتدريب الجيش المغربي. وكانت فرنسا قد قدمت عروضا مماثلة ونجحت في الحصول على موافقة السلطان على مجيء بعثة تدريب عسكرية فرنسية، وستكتفي ألمانيا ببيع كمية من الأسلحة. جاء هذا الفشل عشية التغيير الذي طرأ على سياسة بسمارك نتيجة التغيير الذي حدث في فرنسا بعد فوز الجمهوريين المعتدلين في انتخابات 1877.

2 - المرحلة الثانية: مرحلة السعي للتقارب مع فرنسا (1878 - 1884):

(1/7193)

رحب بسمارك بانتصار الجمهوريين المعتدلين والليبراليين الذين يمثلون البورجوازية المحافظة التي كانت أكثر اهتماما بالمحافظة على النظام العام وحسن الإدارة المالية من المغامرات الخارجية. قال للسفير الفرنسي الجديد دوساتت فالييه: "قيل كثيرا إنني مؤيد للجمهورية في فرنسا لأني أرى فيها سببا لضعف بلادكم. والحقيقة أن الجمهورية الحكيمة والمعتدلة كجمهوريتكم الآن هي - في نظري - ضمانة للسلام، للأسر المالكة التي لا جذور لها كما هو حال تلك التي كانت لديكم"(1)

__________

(1) .Jean Ganiage, Les origines du protectorat français en tunisie, pp. 408 - 409

(1/7194)

.

وكان بسمارك يرى في نجاح الجمهوريين أن فرنسا لن تجد تعاطفا في سانت بطرسبورغ أو في فيينا. وكان يرى أن الجمهورية هي ضمانة السلام؛ ذلك لأن هذا النظام عاجز عن الإيحاء بالثقة للدول الأخرى(1). وعمل بسمارك على تشجيع الحكومة الفرنسية على المشاريع الاستعمارية التي ستحول - في رأيه - أنظار فرنسا عن الألزاس واللورين وتعطيها ترضيات في حقل عمل ليس لألمانيا مصالح مباشرة فيه(2) . وكان يأمل في أن تصطدم فرنسا بهذه المبادرات مع مصالح بريطانيا أو مصالح إيطاليا،

__________

(1) .Pierre Renouvin, op . cit., p. 57

(2) .Ibid.

(1/7195)

مما يجعل هاتين الدولتين تشعران بالحاجة إلى التقارب مع ألمانيا(1). كان بسمارك يفكر على هذا النحو منذ سنة 1875. فقد قال للسفير الألماني في باريس في بداية 1875: "أن تسعى السياسة الفرنسية لتجد في إفريقيا الشمالية أو في المشرق التركي مجالا لنشاطها، ليس بأمر أو ميل يحارَب في نظرنا"(2).

وليبدد بسمارك الشكوك التي كانت تخامر السياسيين الفرنسيين الذين كانوا يعيشون في خوف من ألمانيا، ويخشون أن يكون هناك فخ تنصبه مكيافيلية بسمارك، أكد للسفير الفرنسي

__________

(1) .Ibid., pp. 57-58

(2) .J. Ganiage , opp. cit., pp. 409

(1/7196)

في برلين في بداية 1879 أن رغبته هي:

... ... ... إعطاؤكم برهانا على حسن نيتي من المسائل التي تخصكم، والتي ليس فيها ... ... ... ... مصلحة ألمانية متعارضة مع مصالحكم. إن مصلحة سياستي تدفعني إلى هذا ... ... ... ... ... السلوك، لأني كالإمبراطور الذي يرغب في أن يموت بعظمة وهدوء. أنا لا أكترث ... ... ... ... أن أرى في حياتي حربا أخرى، إني لا أرغب في ضم... وأرفض ... ... ... ... ... ... المغامرات وأتمسك بالهدوء وبالأمن المضمون بالعلاقات الودية مع جيراننا، وبخاصة ... ... ... ... معكم. هذا هو سبب كوني

(1/7197)

مستعدا لدعمكم في مشاريعكم غير المعاكسة لمصالحنا ... ... ... ... الخاصة. ولكني أكرر أني أعتقد أنه يلزم للشعب الفرنسي ترضية لكرامته. وأنا ... ... ... ... أرغب بإخلاص في أن أراها تحصل على تلك التي تسعى إليها في حوض المتوسط، ... ... ... ... مجال توسعها الطبيعي. فكل نجاح في هذه الناحية يقلل من الصعوبات بيننا والآلام ... ... ... ... التي لا أناقش شرعيتها، ولكن لدينا إمكان تهدئتها...(1)

وعاد بسمارك في تشرين الثاني 1880، فكرر قائلا:

__________

(1) . Ibid., p. 410

(1/7198)

... ... بدعمكم في تونس وفي حوض المتوسط، ليس لدي مقصد خفي لتشجيعكم على مغامرات ... ... ... اغتنمها لمهاجمتكم واقتطاع جزء آخر من أرضكم؛ ليس لدي أفكار مكيافيلية تعزى إلى هدفي ... ... ... البسيط، ومصلحتي ليست معقدة. لدي الاعتقاد أن بلدا عظيما كفرنسا بحاجة لأن يحصل ... ... ... على إرضاءات في سياسته ... الخارجية. وبما أني - مع الأسف - لا أستطيع إرضاءها في مجال ... ... ... الألزاس واللورين، فإني أرغب في أن أرضيكم في أي مكان لا تكون فيه مصلحة ألمانيا ... ... ... ... متعارضة مع مصلحة فرنسا. وأعتقد أنكم

(1/7199)

إذا وجدتم في المتوسط ما يتجاوب مع حاجيتكم ... ... ... الطبيعية والمشروعة في التوسع، فإن أفكاركم ستتحول مع قليل من المرارة نحو أقاليمكم ... ... ... ... المفقودة، وسيصبح السلام والعلاقات الطيبة بيننا وبينكم أكثر أمنا وأكثر سهولة. هذا هو ... ... ... سر حسن النية الذي أظهره لكم دوما سواء في تونس أو في المغرب أو في مصر أو في اليونان. ... ... ... لا تبحثوا إذن عن أسبابي الخفية، أحب أن أقول لكم بصراحة إني أرغب وآمل في أن أتوصل ... ... ... إلى تحويل أنظاركم عن متز وستراسبورغ، وذلك بمساعدتكم على أن

(1/7200)

تجددوا ترضيات في ... ... ... مكان آخر.(1)

و بالرغم من أن تصريحات بسمارك للسفير الفرنسي كانت تقصد تونس وأنه لم يثر موضوع المغرب إلا عرضا، فمن المؤكد مع ذلك أن السلطة المغربية بدأت تظهر له منذ الآن مجالا خاصا بالنشاط الاستعماري. وبالرغم من أنه وصف المغرب بأنه "هند ممكن أن تصبح أكثر غنى ومجالا أكثر ربحا من الهند الإنكليزية"، فإنه قرر أن يطلق يد فرنسا هناك. وذكر شارل رو أن بسمارك كان يفكر سنة 1879 - 1880 في مشروع تقسيم شمالي إفريقيا: مصر لإنكلترا وليبيا لإيطاليا وتونس

__________

(1) Ibid., pp. 410 - 411

(1/7201)

والمغرب لفرنسا(1) . وفي موضوع إطلاق يد فرنسا في المغرب، حدث خلاف بين القادة العسكريين وبسمارك. كان القادة العسكريون، وعلى رأسهم مولتكه، يرغبون في تعزيز قدرات المقاومة المغربية لشغل فرنسا أطول مدة ممكنة. أما بسمارك فقد كان - على العكس - يريد أن يساعد فرنسا على تحقيق أهدافها: "لا يمكننا إلا أن نكون مسرورين إذا امتلكت فرنسا المغرب؛ فعليها الكثير مما يمكن أن تفعله هناك، وسيكون في وسعنا منحها توسعا في مجالها تعويضا عن كونها خسرت الألزاس واللورين". وكان يرى في ذلك تحويلا

__________

(1) .Guillen, op. cit., p. 98

(1/7202)

لاتجاهاتها

العدوانية ضد ألمانيا. واتفق الطرفان أخيرا على حل وسط: ألا تعارض ألمانيا السياسة الفرنسية، ولكنها تعمل على تقوية المغرب سرا. فإذا ما شرعت فرنسا في احتلال المغرب، فستنشغل فيه لمدة طويلة؛ وإذا تخلت عن ذلك، فإنه ستضطر - في حالة قيام حرب أوربية - إلى الاحتفاظ بقوات كبيرة في الجزائر لحماية مستعمرتها من هجوم محتمل من قبل الجيش المغربي الحديث(1) .

بالغ بسمارك في محاولة التقريب من فرنسا، ووصل إلى حد التحالف: إذا رأى أن على الدولتين الاتفاق لمجابهة إنكلترا أو تحطيم سيطرتها

__________

(1) .Ibid. , p. 99

(1/7203)

على البحار. وبلغ به الأمر سنة 1882 إلى حد أنه تلفظ بكلمة "التحالف"، وذلك في مقابلة مع السفير الفرنسي بين له ضرورة إقامة ما يوازن الهيمنة البحرية الأنكليزية: "على بريطانيا العظمى أن تعتاد فكرة أن التحالف الفرنسي الألماني ليس أمرا مستحيلا"(1). كان هنالك شك لدى بعض السياسيين الفرنسيين في أن أهداف بسمارك هي الإيقاع بين فرنسا وانكلترا. وفي الحقيقة لم يتوقف بسمارك لحظة عن الاتصال بإنكلترا. وقد وجد مؤرخ ألماني في أوراق بسمارك في 2 آب 1884 أنه "ينبغي أن نسعى إلى زرع

__________

(1) .. P. Renouvin, op. cit., p 59

(1/7204)

الشقاق بين فرنسا وانكلترا"، وأن بسمارك "حين كان يقدم عروضه لفرنسا، كان لا يأمل في نجاحها، بل كان يرغب في أن يثير قلق إنكلترا لدفعها للسعي للتقارب مع ألمانيا"(1) .

شجع بسمارك في مؤتمر برلين سنة 1878 وزير الخارجية الفرنسي وارينجتون على احتلال تونس، وللكنه في الوقت نفسه عرضها على وزير الخارجية الإيطالي كورتي الذي كان حاضرا في مؤتمر برلين.

كان هذا يعني أن بسمارك يريد الاستفادة من الخلف الفرنسي الإيطالي(2) . وفي حين رفضت إيطاليا العرض، استغلت فرنسا التأييد

__________

(1) .Ibid.

(2) .Baumont, op. cit., p. 67

(1/7205)

الألماني المقرون بالتشجيع الإنكليزي، فذهبت إلى تونس واضطرت إيطاليا إلى أن تذهب إلى برلين. ويبدو أن بسمارك أراد للمغرب أن يلعب

بين فرنسا وإنكلترا الدور الذي لعبته تونس بين فرنسا وإيطاليا (1) .

انعكس موقف بسمارك من فرنسا في أوربا على المغرب. هذا، بعد أن كانت الصلاة حميمة بين ويبر، ممثل ألمانيا، وهاي، ممثل إنكلترا، بحيث أنه حين كان ويبر يغيب عن المغرب، كان يعهد لهاي بتمثيل المصالح الألمانية. وفي موضوع الحماية، كان التعاون بين الرجلين وثيقا ضد تطرف فرنسا. ولوحظ أن

__________

(1) .J. L. Miège, op. cit., p. 22

(1/7206)

ألمانيا لم تعط إسبانيا وإنكلترا جوابا عما إذا كانت ستشترك في مؤتمر مدريد حتى أعلنت فرنسا قبولها الاشتراك في هذا المؤتمر؛ وحينئذ أعلنت ألمانيا موافقتها.

وقد صرح بسمارك للسفير الفرنسي في برلين "أن لدى المندوب الألماني تعليمات بالاتفاق مع زميله الفرنسي ودعمه في المؤتمر"(1).

ولكن المندوب الألماني في المؤتمر لم يقدم المساندة التي وعدت بها فرنسا دون تحفظ. ذلك بأنه لم يؤيد توسعا ضخما في حق الحماية، وكان هذا التحفظ نتيجة تحذير ويبر الذي كان يخشى أن يؤدي التأييد الألماني

__________

(1) .Guillen, op . cit., p. 100

(1/7207)

الكامل لوجهة النظر الفرنسية إلى تدمير الجهود التي بذلها لإقامة علاقات جيدة مع المغرب، كما وقف المندوب الألماني إلى جانب الدول التي عارضت فرنسا في مسألة الوسطاء. ولكن تعليمات بسمارك الحازمة أعادته إلى صف المندوب الفرنسي وقدم له دعما مطلقا.

وغداة المؤتمر، استمر الدعم الألماني لفرنسا في المغرب بشكل واضح. فقد أكد بسمارك أكثر من مرة أنه ينظر إلى هذه المناطق وكأنها واقعة في المجال الطبيعي لنفوذها الشرعي. ودعت الصحافة الألمانية بإيعاز من بسمارك الفرنسيين إلى مد سيطرتهم على مجموع شمالي إفريقيا، وأشارت

(1/7208)

إلى أن ألمانيا لا يمكنها إلا أن تقف شاهدا مؤيدا لهذا العمل الحضاري العظيم(1)

وإبان ثورة بوعمامة في الجنوب الجزائري، حرص ويبر على البقاء بعيدا عن زعماء القبائل الذين جاءوا إلى المغرب يطلبون مساعدة السلطان. بل إنه نقل المعلومات التي أمكنه الحصول عليها عن خطط الثوار وقواتهم إلى وزارة الخارجية الفرنسية(2) .

وفي أواخر سنة 1881، وصل لاديسلاس أورديجا وزيرا مفوضا لفرنسا في المغرب، وكان صديقا لأوجين إيتيين أحد أبرز زعماء الاستعماريين الفرنسيين، كما كان صديقا لغامبيتا،

__________

(1) .Ibid, p. 103

(2) .Ibid., p. 104

(1/7209)

وكان يريد أن يلعب في المغرب دور "روستان" في تونس، وكان يسمي نفسه "روستان المغرب"(1) .

كان فرنسيو الجزائر يطمحون دوما إلى مد الحدود الجزائرية حتى ملوية، وجاءت ثورة بوعمامة لتعطيهم الفرصة للتحرك نحو ملوية. وفي بداية 1882، طالبت جرائد وهران باحتلال واحة فجيج. كما نشط الحديث عن مشروع سكة حديدية عبر الصحراء تصل الجزائر بمستعمرات فرنسا في غربي إفريقيا، وذلك عبر توات. كان أورديجا متحمسا لهذه المشاريع، ولكن خروج صديقه غامبيتا من الوزارة، وتوقف الحكومة الفرنسية عن متابعة

__________

(1) .Ganiage, op. cit., p. 367

(1/7210)

هذه المشاريع، دفعت أورديجا إلى الاندفاع في "سياسة الطرق" الصوفية التي ستسرع في تفكيك السلطة المغربية. منح شريف وزان سنة 1884 حق الحماية، مخالفا بذلك مقررات مؤتمر مدريد. كانت الطريقة الوزانية منتشرة في مناطق عديدة في المغرب. وبهذا العمل الذي أقبل عليه أورديجا، صار بإمكان فرنسا أن تجعل من هذه الطريقة دولة ضمن الدولة، وأن تغدي مطامع شريف وزان ليطالب بالعرش. وصار هناك - حسب تعبير صحافي في طنجة - "خطر تفجير السلطة". كتب أورديجا إلى جول فري يقول: "إنهم بانتظارنا في المغرب، وسيستقبلوننا بأذرع

(1/7211)

مفتوحة"(1) . وفي حين وقفت إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا ضد هذا النشاط الذي يبديه أورديجا، وضد منحه حق الحماية لشريف وزان، ظل بسمارك على تأييده لفرنسا، بل اقترح على فرنسا التفاهم مع إسبانيا لتحديد

مناطق نفوذ كل من الدولتين، وعرض خدماته لهذا الغرض. وهكذا وصل بسمارك إلى طرح فكرة تقسيم المغرب(2) . ولكن انشغال فرنسا في التونكين، واحتمال الحرب مع الصين دعياها إلى الهدوء في المغرب، وإبعاد أورديجا من المغرب إلى بوخارست، وعادت إلى سياسة المحافظة على الوضع الراهن.

__________

(1) .Ibid., p. 364

(2) .Ibid., p. 365

(1/7212)

كانت إيطاليا قد انضمت إلى الحلف الألماني النمساوي سنة 1882 لتحصل على دعم الدولتين ضد فرنسا. ولكنها لم تستطع أن تضمن المعاهدة شرطا حول المحافظة على الوضع الراهن في شمالي إفريقيا. ومع ذلك، شرعت في العمل على عرقلة النشاط الفرنسي في المغرب. لكن بسمارك لم يجارها في هذا العمل، بل كان يؤيد فرنسا تأييدا كاملا، ويتدخل في روما للضغط على إيطاليا للحد من نشاطها في المغرب. وكان ويبر متحفظا مع زميله الإيطالي. خاب أمل إيطاليا التي كانت تعتمد على دعم ألمانيا لمنع توسع فرنسي جديد في شمالي إفريقيا، كما كانت تأمل

(1/7213)

في أن يدعم الوزير الألماني المفوض زميله الإيطالي في جهوده لتقوية وضع ألمانيا في السلطة المغربية. وقد شكا الوزير الإيطالي المفوض أن التحالف الثلاثي غير موجود في المغرب(1) . وحين اشتكت إيطاليا من سلبية ألمانيا تجاهها في المغرب وحذرت بالقول: "سيكون لإيطاليا خيبة مرة إذا حصل في المغرب تغيير لغير صالحها ودون أن تعمل شيئا لمقاومته"، لم يكترث بسمارك.

ووقف بسمارك من إسبانيا الموقف نفسه الذي وقفه من إيطاليا. كانت إسبانيا تسعى إلى تقارب مع ألمانيا، وكانت تأمل في الحصول على

__________

(1) . Miège, op. cit., p. 29

(1/7214)

تأييد بسمارك لسياستها المغربية. وحين قامت ثورة بوعمامة، خشيت إسبانيا أن تستغل فرنسا هذه الثورة للاندفاع نحو ملوية. ففكرت في الاستيلاء على العرائش وطنجة وطلبت مساعي بسمارك للحصول على موافقة إنكلترا وإيطاليا؛ ولكن بسمارك رفض، "لأن ندخل ألمانيا سيثير شكوك فرنسا ويؤذي مشاريع إسبانيا"(1) . عمل السفير الألماني في مدريد على تهدئة مخاوف الحكومة الإسبانية وفقا لتعليمات بسمارك، وكرر

__________

(1) .Guillen, op. cit., p. 105

(1/7215)

أن مصالح ألمانيا لن يؤذيها عمل محتمل تقوم به فرنسا، وأن ألمانيا تأمل في رؤية فرنسا "تفطن إلى التعقيدات الكبيرة في إفريقيا"(1) . ورفض بسمارك تأييد إسبانيا التي رغبت في الدعوة لعقد مؤتمر دولي يعلن سلامة الدولة المغربية، وأعلن "أن المغرب يقع خارج المصالح الألمانية السياسية".

3 - عودة التوتر في العلاقات الفرنسية الألمانية (1885 - 1890)

شهدت أوربا منذ العام 1885 أحداثا هامة كان لها تأثير كبير في العلاقات الدولية:

__________

(1) .Ibid.

(1/7216)

أ - انفجرت الأزمة البلقانية بسبب أحداث بلغارية أحدثت توترا في العلاقات النمساوية الروسية أدى إلى إنهاء اتفاق الأباطرة الثلاثة، وكاد أن يؤدي إلى تقارب روسي فرنسي لولا مهارة بسمارك.

ب - وتعكرت العلاقات الفرنسية الألمانية بعد سقوط وزارة جول فري، عقب هزيمة فرنسية في التونكين أمام الصين. وأسفرت الانتخابات عن فوز الملكيين والرادكاليين الذين علت صرختهم: "يسقط البروسيون"! . ودخل الجينرال بولانجيه في وزارة فرينية وزيرا للحرب في آذار 1886، وذلك بدعم من كليمنصو. كان بولانجيه طموحا دون وازع، وقد انساق وراء

(1/7217)

دعايتين كانتا تلهبان الرأي العام الفرنسي: إحداهما موجهة ضد النظام الذي فقد مصداقيته بسبب الفضائح السياسية والمالية التي وصلت حتى أسرة رئيس الجمهورية، والأخرى لصالح الانتقام من ألمانيا(1) . كان بولانجيه يصرح بأن ليس على فرنسا أن تخشى سيدان ثانية، وبدأ في تقوية الجيش، وأصبح يسمى "جنرال الانتقام" و "معبود باريس"(2) .

ساد الاعتقاد في برلين أن فكرة الانتقام تتقدم في فرنسا بالقوة نفسها التي تتقدم بها شعبية الجنرال. فأدى هذا إلى توتر

__________

(1) .Pirenne, op. cit., Tome 5, p. 516

(2) .Baumont, op. cit., p. 199

(1/7218)

العلاقات الفرنسية الألمانية. ومنذ ربيع 1886، بدأ الحديث عن حرب في الصيف.

سارع بسمارك إلى اتخاذ إجراءات مضادة بسرعة. ففي ألمانيا طلب من الرايخشتاع الموافقة على اعتمادات لتقوية الجيش. رفض الرايخشتاع؛ فحله بسمارك، واعتمد على دعاية شوفينية أدت إلى فوز أكثرية موالية له في الانتخابات صوتت على الاعتمادات. وفي الوقت نفسه، بدأ حملة دبلوماسية سنة 1887 أسفرت عن تجديد التحالف الثلاثي الألماني النمساوي الإيطالي، بعد أن قدم تنازلات لإيطاليا في شمالي إفريقيا وفي البلقان. وشجع على قيام اتفاقات المتوسط: اتفاق

(1/7219)

إنكليزي - إيطالي موجه ضد فرنسا روسيا وانضمت إليه النمسا، ثم اتفاق إيطالي إسباني موجه ضد فرنسا. وسعى بسمارك لإبقاء روسيا بعيدة عن فرنسا بعد انهيار اتفاق الأباطرة الثلاثة بسبب الأزمة البلقانية.

وكان قد ظهر له بوادر بين الدولتين. فقد أعلن قيصر روسيا في ربيع 11887 أنه لن يترك ألمانيا تشوش أوربا. فإذا هوجمت فرنسا وضعفت، فإن روسيا ستعدل الميزان(1) . نجح بسمارك في عقد معاهدة سرية مع روسيا ("معاهدة إعادة الضمان") اعترف لها مقابل حيادها في حرب دفاعية مع فرنسا

__________

(1) .Renouvin, op. cit., pp. 110 - 111

(1/7220)

بتنازلات هامة في البلقان والمضايق، وبهذا حقق بسمارك عزل فرنسا.

ج - حتى منتصف الثمانينيات، كانت دوافع بسمارك في المغرب سياسة، ولم يكن اهتمامه بتنشيط الوجود الاقتصادي الألماني في المغرب إلا لخدمة هذه السياسة. وكانت سياسة بسمارك العامة قارية وتعارض أن تباشر ألمانيا سياسة استعمارية، لأن هذا سيخلق لها مشاكل وأعداء جددا، ويتيح لعدوته فرنسا أن تجد لها حلفاء ضد ألمانيا. ولكن ألمانيا كانت قد انقلبت بعد= وحدتها إلى آلة صناعية جبارة، واتجهت نحو الإنتاج الضخم لتخفض أسعار منتجاتها إلى أقصى حد كي تستطيع أن

(1/7221)

تجد لها مكانا في الأسواق العالمية. وقد ارتفع رقم تجارتها بين سنتي 1881 و 1885 من 6 ملايير مارك إلى 190 مليار مارك(1) . وبدأ قسم هام من الرأي العام الألماني تدركه حمى الاستعمار، وبدأ الضغط على بسمارك. كانت حجة الاستعماريين الألمان أن أقوى

الدول سياسيا وعسكريا والأكثر نموا ديمغرافيا واقتصاديا، ينبغي أن تنال نصيبها في عمل تمديني؛ وأنه على الإمبراطورية الألمانية الحصول على مستعمرات يهاجر إليها أبناؤها الذين كانوا حتى الآن مكرهين على الاتجاه نحو مناطق

__________

(1) .Bulow, La oliitique d’Allemagne, p. 34

(1/7222)

أجنبية. وبدلا من الضياع بالآلاف عبر العالم، سيذهبون لإعمار أراض ألمانية(1) . ولم يعد بإمكان بسمارك أن يقاوم هذا الضغط، ولكنه عمل جاهدا للابتعاد عما سماه "أعشاش الدبابير" كالبلقان والمتوسط والخليج العربي ومبدأ موثرو(2).

بدأ النشاط الألماني الاقتصادي في المغرب يتزايد بوثيرة متسارعة بعد مؤتمر مدريد. ففي هذا المؤتمر، حصلت ألمانيا على حقوق مماثلة لبقية الدول التي كان لها علاقات قديمة. وقد أشار بسمارك في

__________

(1) .F.W. Foester, L’Europe et la question d’Allemagne, p. 172

(2) .Renouvin, op. cit., p. 94

(1/7223)

مفكرته سنة 1883 إلى فوائد "سياسية إفريقية اقتصادية تتابع بحذر". وأعلن ما يمكن تسميته البرنامج المغربي. فقد كتب يقول: "كل خط ملاحة تجارية جديد يحمل راية الإمبراطورية لا يمكن إلا أن ينمي التجارة، حتى لو عانى من عجز في بداية الأمر"(1) . لقد سمحت الفترة الأولى (1873 - 1884) لألمانيا بأن تحصل سياسيا وتجاريا على موطئ قدم لها في المغرب، وبأن تتقن المعطيات الدبلوماسية للعبة المغربية، وبأن تقيم نقاط الضعف في موقعها والتدابير اللازمة لتحسين هذا الموقع.

__________

(1) .Miège, op. cit., p. 29

(1/7224)

بدأت ألمانيا نشاطا واسعا، تجاوبا مع تحريض المستكشفين الألمان كرولفس وباناخ وأصحاب السفن (سلومان) والتجار والصناعيين (كروب). وفي بادئ الأمر، باركت حكومة الأحرار البريطانية هذا التوجه، وصرح جلادستون في مجلس العموم قائلة: "إذا أصبحت ألمانيا دولة مستعمرة، قلت لها بارك الله جهودها. إنها ستكون حليفتنا لخير الإنسانية، وسأُسرُّ بأن تصبح شريكتنا في حمل مشعل الحضارة إلى البلاد الأقل حضارة، وسنبذل لها في هذا العمل عواطفنا الطيبة وكل التشجيع الذي بإمكاننا تقديمه"(1) .

__________

(1) .Baumont, op. cit., p. 94

(1/7225)

وانعكس هذا التوجه على تعون إنكلترا مع حلفاء ألمانيا في اتفاقات المتوسط وفي المغرب. وكان هناك تعاون وثيق بين وزراء الدولتين المفوضين وبخاصة في عهد "تستا"، الوزير المفوض. التحق "تستا" بمنصبه في طنجة بعد مروره بلندن، وحصل في طنجة على مساعدة هاي، الوزير المفوض الأنكليزي في طنجة، بتوصية من الخارجية الإنكليزية(1) . وكان هي، أمام تزايد نشاط الوزير الفرنسي أورديجا، يفضل - كما كتب في 16/1885 - أن تستولي ألمانيا على المغرب بدلا من أن تستولي عليه فرنسا(2) . واستمر

__________

(1) .Miège, op. cit.,, p. 171

(2) .Ibid.

(1/7226)

هذا التعاون بين الوزيرين بعد ذهاب هاي ومجيء وزير مفوض بريطاني جديد هو "كيربي غرين". ولدعم النشاط الألماني في المغرب، أرسلت النمسا - التي كان الوزير المفوض البريطاني - إلى طنجة قائما بالأعمال؛ قد أعطى هذا ل"تستا" صوتا إضافيا في المجلس الدبلوماسي في طنجة. ومن الطبيعي أن يطابق ممثل النمسا موقفه مع موقف "تستا".

تميزت هذه الفترة باستئناف المفاوضات من أجل عقد معاهدة تجارية. ففي أيلول 1885، حل البارون "شارل تستا" محل ويبر. وقد فسر هذا التعيين في طنجة بأنه علامة على توجه جديد في السياسة الألمانية. خدم

(1/7227)

تستا قبل ذلك ترجمانا في السفارة الألمانية في إستمبول، وكان يتقن اللغة العربية، ويملك خبرة جيدة بسياسة الدول الإسلامية، كما كان يملك رصيدا طيبا وعلاقات حميمة مع البلاط العثماني . وقبل أن يلتحق بعمله، أجرى مباحثات طويلة مع بسمارك. كانت مهمة "تستا" الرئيسية الحصول بسرعة على عقد معاهدة تجارية مع المغرب. وقد أعطاه بسمارك صلاحيات كاملة للعمل، واستدعى ويبر، بالرغم من تقاعده، للذهاب إلى طنجة وتقديم خبراته ل"تستا".

(1/7228)

أبلغت الخارجية الألمانية الخارجية الإنكليزية رغبتها في الشروع فورا في المحادثات، ورغبتها في أن يتم التعاقد بسرعة. وأبدت الخارجية الألمانية رغبتها في أن تعمل الحكومتان والمفوضيتان معا. وافق سولسبري، وذهب تستا و وبر إلى لندن لوضع مشروع معاهدة مشترك. كان بسمارك يرغب في توسيع المبادلات الجرمانية المغربية لأسباب اقتصادية وسياسية في آن واحد. فبعد أن خاب أمله في التقارب مع فرنسا، عاد المغرب - في نظره - وسيلة ضغط على السياسة الفرنسية بعد أن كان في الفترة السابقة وسيلة إغراء.

(1/7229)

عمل "تستا" بالتعاون مع هاي في طنجة. وخوفا من أن تدرس فرنسا ضدهما لدى السلطان، حاولا إشراك الوزير المفوض الفرنسي معهما. لم يكن بسمارك موافقا، لأنه كان يخشى دسائس فرنسا، وطلب مسبقا موافقة الحكومة الفرنسية على المشروع الألماني الإنكليزي. لم توافق الحكومة الفرنسية التي كانت ترى أن نجاح المفاوضات سيشجع على خلق مصالح ألمانية في المغرب سيكون توسعها ضد مصالح فرنسا(1) .

__________

(1) .Guillen, op. cit., pp. 1167 - 169

(1/7230)

اصطدم "تستا" بمماطلة الحكومة المغربية ومحاولتها التفريق بين المفوضيتين الألمانية والإنكليزية، وذلك بأجراء مفاوضات منفصلة بدلا من مفاوضات مشتركة. وقد تنبه الوزيران وقدما احتجاجا مشتركا، واضطر السلطان إلى التخلي عن هذه المحاولة. حاول السلطان التذرع برغبته في إرسال سفارة إلى برلين مكلفة بتأكيد صداقة المغرب لألمانيا، ولكن "تستا" رفض هذا الطلب بموافقة بسمارك: "لا يبدو أن هذه السفارة ملائمة، ما دام توقيع المعاهدة لم يحصل". انتهت المفاوضات دون نتيجة، ووجهت ألمانيا وإنكلترا وفرنسا رسالة موحدة إلى

(1/7231)

الوزير الأعظم؛ فطالبه بالموافقة على الاتفاق التجاري المقدم. (كان مشروع المعاهدة يتضمن مكاسب للتجارة الأوربية أوسع مما كان في المعاهدات السابقة؛ وإذا ما وقع السلطان المعاهدة، فستستفيد مما جاء فيها كل الدول التي تملك حق الأمة الأكثر رعاية).

وقبل أن يجيب السلطان، أجرى استشارات واسعة مع أعيان فاس والتجار والفقهاء ورجال الدين: هل يوافق على مطالب دولة أجنبية بالسماح بتصدير الحبوب والمواشي؟ وكانت هذه أبرز نقاط الخلاف. وكان الجواب على العموم سلبيا. والحق أن السلطان كان يرفض التنازل عن الامتيازات

(1/7232)

التجارية التي كانت تطالب بها ألماني مدعومة من إنجلترا أو فرنسا دون مقابل، في الوقت الذي كان يسعى فيه لعقد مؤتمر لمراجعة ميثاق مدريد بخصوص الحماية.كان يريد تقديم تنازلات في التجارة مقابل تنازلات في مسألة الحماية.

وبالرغم من أن الحكومة الألمانية كانت ترغب في الوصول إلى اتفاق، فإنها لم تخرج عن تحفظها طيلة المباحثات, ولم تغير مصلحة التجار الألمان المتزايدة في عقد معاهدة تجارة مع المغرب في موقف بسمارك. كان هدفه الحصول على النفوذ وتوثيق العلاقات مع الحكومة المغربية. وهذا يتطلب تجنب أي ضغط من شأنه أن

(1/7233)

يستفز السلطان.

سبب سلوك تستا المتعالي ولهجته المتغطرسة استياء المخزن. وجاء حادث السفينة الألمانية غوتروب ليزيد في هذا الاستياء. فقد قامت هذه السفينة، وعليها نماذج من البضائع الألمانية، برحلة إلى المغرب بصفتها معرضا متنقلا وزارت عددا من الموانئ المغربية المفتوحة للتجارة. لكنها فشلت في النزول في وادي نون وهي منطقة محرمة، وهبت عاصفة وأسر المغاربة قادة المشروع وعلى رأسهم الدكتور ياناخ وقادوهم إلى السلطان. أرسل السلطان مذكرة احتجاج إلى السلك الدبلوماسي ضد روسو سفن أجنبية في غير الموانئ المفتوحة

(1/7234)

للتجارة. وزاد في استياء السلطان رسائل تستا التي تطالب بتحرير ياناخ بأسلوب فظ. أسرع بسمارك بعزل تستا.

ظل بسمارك حريصا على موضوع المعاهدة. وكي يظهر للسلطان خيبة أمله المريرة، دعا الإمبراطور إلى الرد على طلب السلطان في 15 آيار 1887 إرسال سفارة مغربية إلى ألمانيا، بأن لن يستقبل إلا سفارة مكلفة بعقد معاهدة تجارة. وحين اقترح السلطان في آب 1887 عقد مؤتمر دولي لوضع حد لمفاسد الحماية، أبدى بسمارك على الفور موافقته من حيث المبدأ. ولكنه أعلم السلطان أن إقرار نتائج المؤتمر لا يمكن أن تتم إلا بعد منح

(1/7235)

الحكومة المغربية فوائد تجارية.

لوحظ في هذه الفترة أنه بالرغم من حاجة الطرفين إلى بعضهما، فإن كليهما كان متحفظا في علاقاته بالآخر. فالسلطان لم يستجب لمطلب ألمانيا بعقد معاهدة تجارية، وبسمارك لم يندفع في تأييده للسلطان أمام تحرشات الفرنسيين على الحدود الجزائرية المغربية وفي الواحات. وبالرغم من حالة التوتر في العلاقات الفرنسية الألمانية، فإن بسمارك كان حريصا جدا في سياسته

المغربية. ففي صيف 1886 ، لقي فاجنر مندوب كروب استقبالا حارا، وأسر له آل بركاش، وهم من الميالين للتعاون مع ألمانيا وعلاقتهم جيدة

(1/7236)

مع المفوضية الألمانية، أن السلطان يملأ صدره الشك

من فرنسا و إسبانيا، وهو يرغب في توثيق علاقات الصداقة مع الإمبراطور غليوم، وأن تعاونا عسكريا يمكن أن يقوم بين الدولتين: تعيد ألمانيا تنظيم الجيش المغربي وتزوده بالسلاح، ويتعهد المغرب بجعل الفرنسيين عبر هجوميين في الجزائر إذا نشبت حرب في أوربا.

و في مقابلات فاجنر في الخارجية الألمانية، ثم في رسالة تلتها مذكرة وجهها إلى بسمارك ومولتكه، طور فاجنر هذا الإمكان، فقال: "إن جيشا مغربيا حسن التنظيم يحيط بالحدود الجزائرية سيكون أهم لنا من فرقة إسبانية وراء

(1/7237)

البيرنية. وسيجمع السلطان قواته ليهاجم المستعمرة الفرنسية، وسيثير نفوذه الديني كل شمالي إفريقيا: "ثورة في الجزائر وأخرى في تونس". ولما كان السلطان سيصل قريبا إلى الرباط، نصح فاجنر إرسال "تستا" إلى الرباط بكل سرعة مع أسطول لتحية السلطان بطلقات مدفعية : "إن ضجيج المدافع الألمانية سيسمع في الجزائر وتونس". ولكن بسمارك رفض سلوك هذا الطريق ولم يكترث لعروض بركاش. ففي رأيه أن التوتر مع فرنسا لم يكن يتطلب تعاونا عسكريا وثيقا ولا استعراضيا، بل يتطلب حذرا شديدا(1).

__________

(1) .Ibid., pp. 197 - 198

(1/7238)

أيد بسمارك عقد مؤتمر مدريد ثان لإعادة النظر في مسألة الحماية دعت إليه إسبانيا، ولكن المحاولة فشلت بسبب رفض فرنسا واختلاف وجهات نظر إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا. وقد سبب هذا خيبة أمل شديدة للسلطان الحسن، وبدا له أن توثيق العلاقات مع ألمانيا بات ضروريا. توجهت بعثة مغربية وعلى رأسها حاكم الشاوية بن رشيد لتهنئة الإمبراطور غليوم الثاني على جلوسه على العرش. وصلت البعثة إلى ألمانيا في 29 كانون الثاني 1889 واستقبلت رسميا في 6 شباط، وكانت موضع تكريم خاص. فقد زارت شخصيات ألمانية كبيرة رئيس السفارة ، كما كان

(1/7239)

استقبال الإمبراطور لها رائعا. مهد ذلك للوزير المفوض الألماني تاتنباخ ليستأنف المفاوضات

من أجل معاهدة تجارة ونجح في عقد المعاهدة سنة 1890 تضمنت شروطا أفضل من معاهدة سنة 1856 مع إنكلترا.

محاولة ألمانيا إقامة علاقات دبلوماسية تركية مغربية

كان النفوذ الألماني في الثمانينيات في تركية، وكان ل"تستا" علاقات وثيقة مع المسؤولين الأتراك، سعى لاستخدامها في إقامة علاقات دبلوماسية بين الحكومتين الإسلاميتين. لم يكن "تستا" أول من فكر في هذا المشروع: فقد كانت هناك محاولات سابقة لإقامة هذه العلاقات بمبادرة من

(1/7240)

الباب العالي سنة 1877 كما يقول مييج(1) ، ومن السلطان الحسن كما يدعي إسماعيل سرهنك(2) . ثم جدد السلطان عبد الحميد المحاولة بوساطة بريطانية سنة 1879 ، وكانت علاقته بها آنذاك جيدة بسبب وقوفها إلى جانبه في صد التقدم الروسي نحو المضايق، وفي تحجيم مكاسب روسيا في معاهدة سان استفانو. قام الوزير المفوض الإنكليزي "هاي" بمساع لدى المخزن، وكان يرى في هذا التقارب ضربة لمحاولة ألمانيا إرسال بعثة عسكرية إلى

__________

(1) .Miège , op. cit., pp. 173 - 174

(2) انظر: محمد المنوني، مظاهر يقضة المغرب الححديث، ج1 ض. 68.

(1/7241)

المغرب كان ويبر يسعى إليها، وفي الوقت نفسه ليحول دون تنفيذ السلطان الحسن وعده للوزير الفرنسي بقبول بعثة عسكرية فرنسية لتدريب جيشه. لكن مساعي هاي لم تنجح. فقد امتنع السلطان عن الاستجابة لأسباب مالية لم يقتنع بها هاي، بل عزاها لأسباب تتعلق بالجفاء التقليدي بين الدولتين، وادعاء كل من السلطانين بأحقيته بالخلافة(1)

__________

(1) عبد الرؤوف ستو، "فكرة الجامعة الإسلامية بين السلطنة العثمانية والمغرب الأقصى" ، مجلة الاجتهاد،

ع 27 - 26، شتاء وربيع 1995، ص. 338

(1/7242)

. وتجددت المحاولة بعد احتلال فرنسا تونس، إذ لعب الوزير المفوض الإيطالي سكوفاسو دور المحرض سنة 1881. كتب سكوفاسو إلى الكونت جريبي وزير إيطاليا المفوض في مدريد قائلا: "بإمكاني أن أسأل الوزير الأعظم لمعرفة هل السلطان مستعد لإرسال سفارة فوق العادة إلى إستنبول... إني أعتقد أن حدوث تعاون بين الدولتين المسلمتين سيكون سياسة جيدة إلى حد ما، ذلك لأنه يجب تجربة كل الوسائل الممكنة لمنع هذه السلطة من الانهيار أو من السقوط تحت حماية فرنسا كما في تونس(1)

__________

(1) .Miège, op. cit., p. 174

(1/7243)

وكرر سكوفاسو المحاولة سنة 1882 وسنة 1883، وشجعت إسبانيا هذه المحاولات كذلك سنة 1884(1) . حتى سنة 1885، كان مشروع إقامة علاقات بين الدولة العثمانية والمغرب يمر عبر قنوات دبلوماسية بريطانية وإيطالية وإسبانية. ولكن منذ العام 1885، تسلم الألمان زمام المبادرة لتحقيق هذا المشروع. ولم يكن دور بسمارك واضحا في هذا الموضوع. قيل إنه كان حريصا على ألا يضعف مركز عبد الحميد بعد سقوط تونس ومصر بأيدي فرنسا وإنكلترا. كما كان يريد

__________

(1) مفاتحة بين وزير الدولة الإسباني وممثل تركيا في مدريد سرمد أفندي (Ibid ).

(1/7244)

استخدام نفوذ عبد الحميد بصفته حليفا وزعيما للجامعة الإسلامية لصالح مشاريعه الاستعمارية في إفريقيا. وكان الاعتقاد سائدا أن وزير مفوضا عثمانيا في طنجة سيديم السياسة الألمانية في المغرب، وسيكون عميلا طيعا لسياستها. فبصفته مسلما، سيكون موضع ثقة المخزن وسيحصل على موافقة المخزن على الاقتراحات التي توجهها الحكومة الألمانية: " إن وزيرا عثمانيا يساوي وزيرين"(1) . لعبت ألمانيا دور الوسيط بين تركيا والمغرب. ففي بداية 1886، أثار الصدر الأعظم أمام "رادويتز"، السفير الألماني في

__________

(1) .Guillen, op. cit., p. 182

(1/7245)

إستنبول، مشروع افتتاح مفوضية تركية في طنجة، وتساءل هل بإمكان الوزير الألماني أن يكون وسيطا. حين أعلم رادويتز بسمارك برغبة الباب العالي، أعطى موافقته وكلف تستا بأن يجس نبض الحكومة المغربية. ولكن المحاولة لم تثمر. كرر الصدر الأعظم المحاولة مع السفير الألماني، وبين لهه أن الحكومة التركية تعلق أهمية كبيرة على إقامة علاقات مع المغرب. نصح بسمارك الحكومة التركية بالقيام بالخطوة الأولى وإرسال رسالة إلى وزير الخارجية المغربية يطلب فيها إقامة مفوضية تركية، وسينقل ممثل ألمانيا الرسالة إلى الحكومة

(1/7246)

المغربية. وبالفعل، قام "سالديرن"، القائم بالأعمال الألماني في طنجة، والذي حل محل تستا، بنقل الرسالة التركية إلى الجانب المغربي. يورد ابن زيدان(1) نص الرسالة وفيها وصف الحكومة المغربية ب «حكومة فاس" والسلطان المغربي ب «حكمدار فاس". وكان هذا كافيا لأن يرفض السلطان الحسن الطلب العثماني. اكتفت الحكومة المغربية في بادئ الأمر بتجاهل الرسالة والامتناع عن الرد. اتصل الوزير الألماني الجديد ترافرس بوزير الخارجية المغربي: "إن صمت

__________

(1) ابن زيدان، اتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، ج2 صص. 359 - 360.

(1/7247)

الحكومة الطويل هذا لا يتجاوب مع حسن العلاقات بي بلدينا". تحجج الوزير المغربي تارة بمرض السلطان، وتارة بانشغال السلطان بحملة على السوس. قرر بسمارك إرسال منصور ملحم إلى مكناس ليتصل مباشرة بالسلطان. أكد منصور ملحم للسلطان أنه إذا قبل وجود مفوضية تركية، فإن تركيا ستساند المغرب في المؤتمر. لم تثمر هذه المحاولة وجاء الرد المغربي رفضا مهذبا(1)

__________

(1) جاء في جواب الخارجية المغربية أنه رأت "من ملاحظة حق الأخوة في الدين ألا تفتقر الأحداث وسيلة من جانب الوداد، ورأت من اعتبار مرحم الإسلام في الوصلة إجراءها مجرى الاتحاد يقينا بأن نعمة هذه الأخوة لا يقبل حكمها التشكيك ولا يطرق من مركبه تفكيك. فلا داعي لتنزيل جانبها منزلة ملل الاختلاف. حتى تحتاج لنصب وسائط تمهيدا لائتلاف، ولتفهيم القواعد والقوانين والأعراف؛ لأن من المقرر المعلوم أن المقتضي لذلك هو ضرورة المعاملات المتوقفة على المفاوضة بين الأجناس المحتاجة لبيان الاصطلاحات واللغات. وذلك منتف في أهل الملة الإسلامية والأخوة الإيمانية لاتحاد جميعهم في أصول الأحكام والأعراف الشرعية واتفاقهم في سلوك المساعي الصالحة على متابعة اللسيرة" (ابن زيدان، مرجع مذكور، ج2، ص. 360).

(1/7248)

.

ويعزى هذا الرفض إلى الخلاف التقليدي بين حكام تركيا والمغرب في موضوع الخلافة، وتعالي السلطان العثماني في مخاطبة السلطان المغربي ب «حكمدار فاس". كما لعب الوزير المفوض الفرنسي دورا هاما في تحريض السلطان الحسن على الرفض. شارك الوزير الفرنسي وزراء إنكلترا وإيطاليا وإسبانيا المفوضين، بالرغم من أن حكوماتهم كانت تؤيد المشروع. كان هؤلاء الوزراء المفوضون يخشون أن يؤدي وجود مفوضية تركية بواسطة ألمانيا إلى تعزيز مركز ألمانيا. وحين علم بسمارك أن الوزير الأنكليزي المفوض كيربي غرين يؤيد الوزير الفرنسي، كلف

(1/7249)

سفيره في لندن بأن يعرب عن دهشة الحكومة الألمانية. استنكر سولسبري موقف وزيره المفوض قائلا: "إن لإنكلترا مصلحة تامة في دعم مشروع الباب العالي"(1) .

ولا شك أن في تردد السلطان الحسن وتأخره في الجواب يعود إلى خشيته إغضاب ألمانيا التي لا غنى عن تأييدها لتحقيق مشروع المؤتمر الدولي. وبرر الوزير المغربي سبب رفض العلاقات مع تركيا قائلا: "إن الوقت والحال لم يقتضيا ما أشرتم إليه لعلل شرحت للترجمان المذكور (منصور ملحم)

__________

(1) .Guillen, op. cit., pp. 180 - 181

(1/7250)

وبينت له تبيانا كافيا؛ وأهل مكة أدرى بشعابها"(1). ويرى جيلين أن بسمارك ل م يكن متحمسا لهذا المشروع، لأنه كان يعلم عداء المغاربة لتركيا، وأن أغلب الحكومات الأوربية لا تشجع هذا المشروع.

كما أن بسمارك لم يكن يرغب - في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها العلاقات الفرنسية الألمانية منذ صعود الحركة البولانجية * في أن يتخذ مواقف تزيد التوتر بين البلدين. كما أنه من أجل نجاح سياسة الاتفاقات المتوسطية، كان عليه أن يتجنب كل ما يمكن أن يثير شكوك إنكلترا وإسبانيا وإيطاليا.

__________

(1) عبد الرؤوف ستو، مرجع مذكور، ص. 351.

(1/7251)

وتفسر هذه الاعتبارات - دون شك - الحذر الذي أظهره في هذه القضية كلها. وإذا كان قد أظهر بعض الإصرار، فينبغي أن نفتش عن السبب في صراع النفوذ بين فرنسا وألمانيا لدى عبد الحميد. كان بسمارك يخشى أن تستغل فرنسا نجاحها برفض الطلب التركي وتضخيم هذا النجاح في إستمبول، وتصويره نصرا دبلوماسيا على ألمانيا، وعلى النفوذ الكبير الذي تملكه في البلاد الإسلامية. وستكون نتيجة ذلك محزنة، لمركز ألمانيا في تركية(1) . ومنذ أن رفض السلطان الحسن طلب عبد الحميد، لم يعد بسمارك يكترث لهذه

__________

(1) .Guillen, op. Cit., p. 188

(1/7252)

المسألة. وتلقت الحكومة العثمانية نصيحة بالتوجه إلى لندن وروما: "على الحكومة التركية التوجه نحو هاتين الدولتين التين لهما في المتوسط مصالح أكثر أهمية وأكثر مباشرة مما لنا". وحين كررت تركية المحاولة، لم ترغب ألمانيا في أن تزج بنفسها في هذه المسألة قبل التأكد من مساندة أنكلترا وإيطاليا. سأل بسمارك سولسبري هل يرغب في إقامة علاقات بين تركية والمغرب، وهل ستدعم المفوضية الإنكليزية سلبا: "إن مولاي الحسن يظهر عداء لتركية، ومبادرات الباب العالي لا يمكن إلا أن تدفعه إلى أحضان فرنسا أو إسبانيا". وبرر

(1/7253)

الوزير المفوض الإنكليزي معارضته بأن فرنسا ستسعى حينئذ لفتح مفوضية روسية... كما أنه ليس هناك أي تركي في المغرب، ولن يفعل ممثل تركية سوى المتاجرة بالحماية. وبررت إيطاليا رفضها بالحجج نفسها. وبعد ذلك، أخطر بسمارك عبد الحميد بأن مشاريعه ليس لها أي حظ في النجاح، ورفض التوسط(1).

حين استقال بسمارك سنة 1890 كان مركز ألمانيا في المغرب قد ترسخ اقتصاديا وسياسيا. فقد حصلت في مؤتمر مدريد على حقوق مماثلة للدول الأخرى كفرنسا وإنكلترا وإسبانيا، وأعطى المؤتمر ألمانيا - منذ الآن -

__________

(1) .Guillen, op. cit., p. 188

(1/7254)

الحق في أن تكون لها كلمة في المسألة المغربية. كما نجح بسمارك في تمهيد الطريق أمام التجارة والصناعة الألمانية، واكتسب لألمانيا مركزا متفوقا في البلاط المغربي. وفي الأزمات اللاحقة، كأزمة توات سنة 1899 والأزمة المغربية سنة 1905، كانت أنظار المغاربة تتجه نحو ألمانيا منتظرين الخلاص على أيديها. وستستمر الدبلوماسية الألمانية - بالرغم من اندفاع ألمانيا في السياسة الاستعمارية - في اعتبار المغرب ورقة ضغط وإغراء ومساومة.

(1/7255)

بلاد الحجاز في المخطوطات المغربية المدونة خلال القرنين الحادي عشر الثاني عشر للهجرة

الدكتور عبد الكريم كريم

كلية الآداب - الرباط

طبوغرافية المنطقة :

فرضت طبيعة المنطقة الواقعة ما بين (خليج العقبة) و (مكة المكرمة) على القوافل سلوك طريق خاص يضيق شمالا لاقتراب السلاسل الجبلية من البحار، ويتسع كلما اتجهنا نحو الجنوب.

وهذا الطريق ينقسم الى مناطق متباينة من حيث البيئة والمناخ وصلاحيته للحياة البشرية وقد عكست (مخطوطاتنا) جميع هذه المظاهر الطبية الى حد يمكن معه القول بأنها تعد دراسة طوبوغرافية

(1/7256)

للمنطقة.

وأهم ما تتصف به الطريق :

1 - من (خليج العقبة) الى (عش الغراب) :

الطريق ساحلي تكثر به المرتفعات والوهاد وعبره القوافل في عدة ممرات ولا تخلو بعض نواحيه من وجود إحساء ونخيل.

والمخطوطات تكاد تجمع على أن العقبة هي (أول أرض الحجاز ... فإن من هنالك تخالف الأرض ما قبلها وتباين الجبال ما سواها ويشتد شبهها بجبال الحجاز السود ويتقوى الحر وتسترمل الأرض) (العياشي. ص. 176).

والطريق بعد العقبة (ثم ارتحلنا من العقبة وسرنا في مسلك ضيق بين البحر والجبل لايمر به إلا جمل إثر جمل كأنه متن الصراط إلا أنه

(1/7257)

غير مستقيم (الدرعي، ص. 91).

2- من (عش الغراب) إلى (عيون القصب) :

تصبح الطريق داخلية بوجه عام، تكتنفها مرتفعات جبلية (ومن هنا لا يرى البحر إلى عيون القصب بعد ثلاث مراحل بين جبلين في أرض كثيرة الغبار تسمى وادي القر لبرودته وهو طويل متصل إلى مغارة شعيب وليس به ماء) (الناصري. ص. 203).

وأهم مناطق هذه المرحلة مغارة شعيب التي توجد (بها مياه جارية عذبة طيبة خفيفة وفيها مرعى للإبل والبغال) (الدرعي الصغير، ص. 108).

أما مدين فهي (بلدة بساحل البحر كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة) (الصغير، ص. 108).

(1/7258)

3- من (المويلح) إلى (الوجه) :

الطريق ساحلية تتدفق في بعضها المياه الغزيرة كما تنتشر أشجار النخيل ولا تخلو بعض مناطقها من زراعة وبعض الحبوب.

وتتوفر هذه المرحلة على أربعة موانئ هي بالتوالي : المويلح والأزلم واصطبل وعنتر والوجه.

4- من (امره) إلى (الينبوع) :

تصبح الطريق داخلية وتشتد حرارتها ولا توجد فيها عمارة.

ويمكن تسمية هذه المرحلة بطريق الأدوية لوجود ست أودية أهمها :

وادي واكره والعقيق والنبط والنار (هبت على الناس ريح السموم وتسقيم من نضيج اليحموم واشتد الحر وتوالى الكر بعلى الناس واشتد العطش

(1/7259)

على الرجال فبركت الإبل وفرت لظلال الأشجار) (الدرعي، ص. 95).

والطريق بين المويلح والينبوع يعد من أهم المراحل (فلا عمدة للحجاج في طعام ولا في علسفوي الماء عند الحاجة إليه وجله قبيح فلا ينزلون في المفاوز إلا النزول المعتاد الذي لا يحصل بدونه المراد ويسمونها اليوم العاشرية لأنها عشر مراحل متوالية لا إقامة فيها) (الزبادي،ص.66).

5- من (الينبوع) إلى (مكة المكرمة) :

الطريق داخلي، آهل بالسكان وتعزر به الينابيع وتكثر به الأراضي الزراعية (الينبوع أول بلاد الحجاز العامرة فيها قرى كثيرة ومزارع ونخيل وعيون

(1/7260)

جارية ... وهذا العمران متصل نحو ثلاثة أيام) (العياشي، ص. 176).

ومن أشهر أودية هذه المرحلة : رابغ ووادي العميان ووالزاهر.

ومن الملاحظ أن الطريق الذي تعبره قوافل الحجاج بين العقبة ومكة لم يتغير طوال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة كما تؤكد ذلك دراستنا لهذه المخطوطات. وإذا كانت مسافة هذا الطريق نحو 1150 كم فإن القوافل تقطعها (خلال شهر تقريبا بعد أن ترحل 25 رحلة، وأهم المراحل :

بعد خليج العقبة، حفائر النخل وظهر الحمار وعش الغراب ومغاير شعيب ومدين والمويلح وبندر والأزلم واصطبل عنتر وبندر الوجه

(1/7261)

واكره والعقبة الزرقاء والحوراء والعقيق والنبط والنار والينبوع والسقائف وبدر ومستورة ورابغ وقديد وخليد وعسفان ووادي العميان ووادي الشريف ومكة المكرمة.

ومن مكة نحو المدينة تعود القوافل من نفس الطريق حتى بدر ومنها تتجه نحو

الجديدة والنازية والعريش فالمدينة المنورة. وهذا الطريق يعرف : (بالطريق السلطاني).

وتقطعه القوافل خلال إحدى عشرة مرحلة. ومن المدينة المنورة تتجه القوافل نحو الينبوع

فخليج العقبة. أما الطريق بين مكة وجدة فتقطعه القوافل في مرحلة واحدة.

(1/7262)

وما بين مكة والطائف فخلال يومين لوجود المرتفعات الجبلية : (والطريق فمن مكة

إلى الطائف فيها قهاوي ويستريح المارة بالنزول فيها واشتراء ما يحتاج من طعام

وعلف ... أخذنا في صعود الجبل العظيم . وغالب الطريق في هذا الجبل قد نقر من

الصخور العظام وتصدت الحجارة فيها ببنا، رشيق مصفح ... وفي هذا الجبل أشجار

عظيمة من العرعار وغيره ... ورأينا القرود تصيح وتثب في أعالي تلك الصخور فتعجبنا من ذلك ... ثم سلكنا في شعاب ذات مياه غزيرة ... إلى أن وصلنا إلى قرن الثعالب وبإزائه قرية ذات مزارع وأشجار من أنواع

(1/7263)

الفواكه... إلى أن وصلنا بلد الطائف) (العياشي، ص.116،ج2).

اقتصاديات المنطقة :

تعكس مخطوطات الأوضاع المختلفة للحياة الاقتصادية في هذه المنطقة من زراعة ورعي وتجارة ومواصلات، ومهما قيل عن قساوة الطبيعة فإن سقوط الأمطار في بعض الفصول ووجود ينابيع المياه بالإضافة إلى سهولة استخراج الماء من الآبار تساعد جميعا على إنتاج أنواع مختلفة من المزروعات وعلى تربية أعداد مهمة من الماشية (وهذه البلاد الحجازية مطرها قليل وإن نزل كان طوفانا في لحظة لكثرة الجبال والأودية والشعاب المتطاولة بها). (الناصري، ص. 210).

(1/7264)

يضاف إلى ذلك وجود أراضي خصبة صالحة للزراعة (وعادة أهلها كغالب أودية الحجاز يزرعون ماء المطر في الأماكن التي يستنقع فيها الماء) (الناصري، ص. 230).

ومن الأمثلة التي ساقها رحالتنا عن خصب بعض المناطق ومنتوجاتها :

مزارع مدين (فعادة أعراب مدين أي تتسوق الحجاج هناك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه) (الدرعي الصغير، ص. 108).

وتبوك حيث توجد (بساتين وكان أهلها يأتون بالرمان والعنب ويبيعونه للحجاج) (رحلة ابن عثمان).

(1/7265)

والينبوع وبدر ورابغ (الذي تزرع فيه مقاتي كثية ودخن وذرة وهو من أخصب أودية الحجاز) (العياشي، ص. 185).

أما اراضي القديد فتنتج الفواكه المختلفة وبه (دلاع جيد رخيص ويسمونه بلغتهم حبحب ولا يكاد ينقطع شتاء ولا صيفا إلا في السنة الجدبة) العياشي، ص. 186).

وفي وادي الشريف (قرى متعددة ذات نخيل وبساتين وعيون تجري وأعظمها القرية التي ينزل فيها الحاج وفيها سوق وعين كبيرة وبساتين مؤنقة) (العياشي، ص. 187).

وفي وادي الزهر (جنان مكة آبار وأشجار وخضروات) (العياشي، ص. 189).

(1/7266)

أما في ضواحي المدينة المنورة فتوجد (فواكه في غاية الجودة خصوصا عنبها ورطبها وأما الخضر فأكثرها وجودا الجزر والباقلا والملوخية والبامية والبصل واللفت) (العياشي، ص. 301).

وفي المنطقة آبار علي توجد (أبار كثيرة عذبة باردة تسقى بها نخيل عليها وخضر كثيرة سيما الباذنجال الكثيرة والقرع بأنواعه الجيد) (الناصري، ص. 289).

ثم (نمشي في أرض متسعة خصبة تجتمع إليها سيول كثيرة وتزرع فيها مقاتي متنوعة تسمى برقة) (الناصري، ص. 232).

(1/7267)

أما الظهران (فهو واد كبير به قرى ونخيل وبساتين وفواكه وخضر وعيون عذبة ... تقام به سوق عظيمة ... ومنه يحمل لمكة أودية من الوفاكه والخضر) (الناصري، ص. 232).

وبوجه عام (أكثر المقاتي في بلاد الحجاز إنما تزرع على ماء المطر في الأماكن التي يستنقع فيها الماء) (العياشي، ص. 186).

وفي الطريق من مكة إلى الطائف تتعدد المناطق الخصبة التي تنبت أنواعا مختلفة من الفلفل والفواكه (وادي نعمان ... واد عظيم أفيح ... به أدواح يانعة وقد كساه الخصب ألوانا ... وبإزاء قرن الثعالب القرية ذات مزارع وأشجار من أنواع

(1/7268)

الفواكه) (العياشي، ص. 116، ج 2).

ومن نماذج الري التي أثارت انتباه بعضهم خليص حيث (سيق الماء في قنوات محكمات من العين ينفجر في مواضع للسقي ... إلى أن خرج الماء إلى بركة عظيمة تحت القرية ... ثم يخرج الماء من البركة إلى مزارع قرية من البلد) (العياشي، ص. 186).

أما تربية الماشية فتقوم بها مجموعة من القبائل التي تنتقل في البادية إلى حيث الكلأ والعشب وقد سجل بعض رحالنا حالات مختلفة لمتاجرة هذه القبائل مع قوافل الحجاج بأنواع الماشية ومنتوجاتها :

(1/7269)

(ونزلنا بندر الازلم ووجدنا شردمة من الأعراب يبيعون الحشيش والغنم ... ولما بلغنا العقبة السوداء ... تلقت الأعراب الركب بكثرة السمن واللبن والخرفان للبيع) (الدرعي، ص. 96).

وكثيرا ما تستعد هذه القبائل لمواسم الحج (وأخبرت أن العرب بستعدون لذلك في أول السنة فيحصدون في البادية أيام الربيع وييبسونه وينفعلونه إلى قرب الأمطار حتى تأتي الركبان فيجتمع لهم من ذلك ما يقوم بكفاية سنتهم)(العياشي، ص. 300).

كما أن متاجرة أعراب البادية مع المدن لا تنقطع (ومن عادتهم في الشراء من الأعراب الذين يجلبون اللبن والجبن

(1/7270)

والسمن والغنم أن يشتري منهم قوم من الأعراب الساكنون بالمدينة وأطرافها ... فيدخلونه الأسواق ويشتري منهم أهل المدينة) (العياشي، ص. 300).

كانت للتجارة الأهمية الكبرى في النشاط الإقتصادي بهذه المنطقة ويمكن القول بأن جميع المراكز التي كانت تحيط بها الرحال هي أسواق تجارية بالدرجة الأولى : (أعراب مدين ... تسويق الحجاج هناك بأحمال كثيرة من أنواع العنب وغيرها من الفواكه) (الصغير، ص. 108).

وأهل تبوك (يأتون بالرمان والعنب ويبيعونه للحجاج) (ابن عثمان).

(1/7271)

وفي الينبوع يوجد أهم سوق في (القرية التي ينزل بها الحاج ... وتعمر هناك سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج) (العياشي، ص. 178).

وفي بدر (أسعارها في الغالب أرخص من غيرها مع صغرها وانقطاعها عن البلاد) (العياشي، ص. 183).

وفي الفروع قرى متعددة متفرقة ذات نخيل وذات ظل ظليل وعيون جارية عذبة ... وقامت بين أهله وبين الركب سوق عظيمة في المحتاج من زرع وغنم وعنز) (الناصري، ص. 287).

وإلى جانب تجارة المزروعات والغلل هناك تجارة الأسماك والجواهر (وسرنا فنزلنا الحوارء ... وبها الجبل المنقطع في البحر يسكنه أعراب

(1/7272)

كثيرة عيشهم صيد السمك وقد باعوا في الركب منه كثيرا ... وهم يغوضون في بعض الأحيان بمكان قريب منهم في البحر فيقعون على جواهر نفسية يشتريها منهم بعض من مر بهم من الحجاج بثمن بخس) (الناصري، 212).

وأعظم المراكز التجارة المدن الأربعة : مكة والمدينة وجدة والطائف، ومن أهم أسواق مكة : المروة (ثم أتينا المروة في زخام كثير في السعي لأنه من أسواق البلد العظيمة) (العياشي، ص. 192).

وفي جدة (أسواق ممتدة مع جانب البحر وغالبها أخصاص واسعة متفتحة إلى البحر) (الدرعي، ص. 132).

(1/7273)

أما الطائف ففيها (أسواق حافلة يحضرها الناس من أطراف نجد ويجلب إليها الحبوب والثمار والزبيب والعسل ما قضينا العجب من كثرته بحيث يخيل إلينا أننا لم نر مثل ذلك في الكثرة في الأسواق العظيمة) (العياشي، ص. 116، ج 2).

وعن وسائل المواصلات هناك الرواحل من القوافل، وقد كانت (من عاداتهم في أكرية الرواحل من القوافل الذاهبة إلى مكة والينبوع أن بالمدينة رجالا يعرفهم غالب الجمالين فمن احتاج الكراء من أرباب الدواب أو أرباب السلع أتى إليهم فيعقدون له الكراء مع صاحبه ويتكلفون بما عسى أن يصدر من الجمال من غدر في

(1/7274)

الطريق بهروب أو مكر ... ويأخذون بذلك حلاوة من الجمال ومن المكري وذلك دأبهم بمكة أ]ضا) (العياشي، ص. 300).

أما كيفية السير (فصرنا نرحل عند الزوال وننزل عند الفجر والشروق على حساب ما اقتضاه الحال) (الزيادي، ص. 55).

وكثيرا ما كانت بعض مراحل الطريق والوعرة منها تنظم بشكل خاص (فسلكنا طريق المصانع ... والمصانع سواري مبنية في سبخة لا يظهر فيها أثر الطريق فجعلوا تلك الأعلام البنية دليلا عليها وجعلوا في رؤوس الأبنية حجرا طويلا خارجا إلى ناحية الطريق ليستدل به الماشي ليلا وربما علقوا على بعض الأعلام

(1/7275)

مصابيح بليل وبين كل علم وعلم نحو فرسخ أو أقل حتى انتهوا إلى راس وادي الرمل) (الزيادي، ص. 56).

ولا تخلو بعض المراحل من أماكن خاصة يستريح بها الحاج (والطريق من مكة إلى الطائف فيها قهاوي ويستريح المارة بالنزول فيها واشتراء ما يحتاج من طعام وعلف كما ذلك بطريق جدة ... وقد آوانا الحر إلى قهوة بأصل الجبل بين صخور عظام حولها ماء صاف عذب بارد سهل التناول للصادر والوارد) (العياشي، ص. 116، ج2).

وفي الموانئ توجد السفن التي تربط بلاد الحجاز بالمناطق المجاورة لها، كميناء المويلح (وبه مرسى حسنة تنزل بها السفن

(1/7276)

القادمة من سويس واولقادمة من جدة) (الدرعي، ص. 93).

وميناء الحوراء (مرفأ سفن مصر) (الناصري، ص. 212).

ترسو بينبوع البحر ما كان منها للمدينة)(الناصري، ص. 215).

ويعد ميناء جدة الأول في بلاد الحجاز (فهي من أعظم البقاع وهي مدينة ممتدة مع ساحل البحر نحو ميلين وفي مرساها سفن كثيرة كبار وصغار وغالبها معمول بالشريط بصنعة عجيبة ليس فيها مسمار وهي مع ذلك كبيرة المقدرا واسعة الأنحاء تحمل أضعاف ما يحمل غيرها في السفن) (العياشي، ص. 104، ج 2).

(1/7277)

وإلى جانب ما تقوم به الموانئ من دور في المواصلات يتوفر كل منها على (حصن كبير فيه عسكر وأمين ويخزن فيه الميره) (الدرعي، ص. 93).

(وشأن هذه البنادر أن يخزن فيها الطعام على الدوام ليجده الركب في الذهاب والإياب ويترك الناس فيها ما استثقلوه من الأزودة والأطعمة إلى الرجوع ولولا لطف الله بالعباد بوجود هذه البنادر لما قدر أحد على سلوك هذه الطرق لكثرة مخاوفها وقلة مرافقها) (الزيادي، ص. 56).

والحديث عن التجارة يجرنا إلى ذكر ما أوردته مخطوطاتنا عن الأسعار والعملة وأنواع المكاييل، ففي موسم الحج تعيش البلاد

(1/7278)

ظروفا خاصة (فلا سعر معلوما ولا مكيال وافيا ولا ميزان صحيحا كل يفعل ما يشاء ولا يتكلم الولاة في شيء من ذلك) (العياشي، ص. 285).

وبعد انقضاء أيام الموسم (رجعوا إلى معتاد حالهم في الأمور الدنيوية من الفلاحة والتعسير في الأسواق وتصحيح المكاييل والموازيين) (العياشي، ص. 285).

وترتفع الأسعار أيضا في الفصول الغير الممطرة (ولم تزل الأسعار على ما تقدم من الغلاء إلى أن هجم الشتاء وقرب زمن الربيع فلانت الأسعار وكثر اللبن والجبن في الأسواق) (العياشي، ص. 302).

(1/7279)

وعن أثمان بعض الحاجيات (كان القمح ثلاثة اصاع بريال ... أما الثمر فنحو أربعة اصاع بالريال والشعير ليس بينه وبين القمح إلا يسير تفاوت ... والعسل اشتريت رطلا منه بقريب من ثلث الريال ... وأما الفواكه ... العنب بثلاثة مائدية للرطل ... واللبن يباع بمائدتين للرطل) (العياشي، ص. 302).

أما لاعملة المستعملة فنجد :

- الدينار الذهبي

- الريال الفضي

- القيراط المسكوك من الفضة

- القرش

- المائدية

وقد كان الريال يساوب 50 قيراطا. وعن المكاييل هناك : الصاع أو الربعي وأجزاؤه الركيله.

الناحية الإجتماعية :

(1/7280)

رغم الأحوال الصعبة للحياة في المنطقة ما بين خليج العقبة والطائف فإن الطابع

المميز للسكان بها يكاد يكون الاستقرار بوجه عام، وذبك في الواحات التي

تتوفر علىالمياه وبعض الأراضي الصالحة للزراعة وتربية الماشية. والمراكز التي تحط بها الرواحل على طول الطريق جميعها قرى تتوفر على الكثير من الشروط التي يتطلبها نزول الحجاج من طعام وشراب وإقامة وعلف للدواب وغير ذلك، وحسب مخطوطاتنا هذه، يوجد ما بين خليج العقبة ومكة وهي مسافة تقدر بنحو 1150 كم، أزيد من 25 قرية تختلف عن بعضها من حيث الأهمية والسعة وتجمع السكان

(1/7281)

:

ففي الينبوع مثلا (قرى كثيرة ... وهذا العمران متصل ثلاثة أيام ... وغالب أهل القرى يأتون إلى هذه القرية التي ينزل بها الحاج للتسوق وتعمر سوق كبيرة يوجد فيها غالب المحتاج) (العياشي، ص. 878).

وفي خليص حيث عين ماء تجري، أبنية وقهاوي وسوق) (العياشي، ص. 187).

ويتجلى طابع الإستقرار في المدن الأربع الرئيسية : مكة والمدينة وجدة والطائف ولكل منها طابعها المميز بحكم موقعها وأهميتها وظروفها العامة :

(فأهل المدينة أهل رفاهية وتوسع في المعيشة في زماننا هذا وتغال في الملابس الفاخرة وتزينوا بزي الأعاجم في

(1/7282)

مآكلهم ومشاربهم وملابسهم لكثرة سكنى الأعاجم بها فإن بها طائفة كبيرة من عسكر الترك ... خلاف أهل مكة فإنهم لم يزالوا على أعرابيتهم واستعمال البداوة وعدم المبالاة والاعتناء في الملابس والمآكل قد غلبت عليهم البداوة وكثرة مخالطتهم لأهل البادية وسكناهم بها حتى امراؤها من الإشراف فإن غالب سكناهم بالبادية وإن كانت لهم منازل بمكة ... ولباسهم على زي لباس العرب) (العياشي، ص. 303).

أما جدة (فمن أعظم البقاع وهي مدينة كبيرة ممتدة على ساحل البحر نحو ميلين ... فيها قهاوي ومجالس حسنة يبالغ أصحابها في كنسها

(1/7283)

وتنظيفها ورشها بالماء وفيها جلوس غالب أهل البلد وقد اتخذوا فيها اسرة كبيرة منسوجة بصفة محكمة) (العياشي، ص. 104، ج 2).

وفي الطائف (قصور تحيط بها جنان من نخيل قليل وأعناب كثيرة وفواكه مما يشتهون) (العياشي، ص. 116، ج 2).

لقد كان من نتيجة تعامل أعراب هذه المناطق مع الوفود المختلفة للحجاج أن تأثروا وآثروا وظهرت لديهم مع الأيام عادات وتقاليد لم يغفل رحالتنا عن تدوين بعضها (لا زالت معهم في كلامهم بعض فصاحة ونطق بلغة قديمة منهم عرب برقة لقلة مرور الناس بهم وعدم مخالطتهم لغيرهم وقلة جولاتهم وعدم دخولهم

(1/7284)

الأمصار عكس الحجاز) (الناصري، ص. 288).

وإذا كان الحجاج يفدون على الحرمين من جميع بقاع العالم الإسلامي ف‘ن أهم الوفود الإسلامية كما دونتها بعض مصادرنا هذه، كانت تتكون من (الركب الفاسي ثم الجزيري ثم المصري الشامي ثم اليمني ثم الإصطنبولي ثم العراقي ثم الكوفي ثم البصري ثم الهندي ثم العجمي ثم الكنكي السرتي ثم القرماني ثم البنكلي والبعض من هذه القبائل الرحل هي التي كانت تقوم بأعمال النهب وقطع الطريق على قوافل الحجاج وعند استقصاء عوامل خروج هذه الجماعات كما جاء في مخطوطاتنا، نجد :

(1/7285)

1- جدب مناطقها أو اشتداد القحط في بعض المواسم.

2- جهالتها الجهلاء.

3- انعدام السلطان.

4- طغيان نفوذ بعض القبائل.

5- عمليات انتقام وثأر.

وكثيرا ما كانت تستغل التضاريس الوعرة للتربص بها كأن ترابط في بعض الممرات والأودية وعند المرتفعات :

(ثم ارتحلنا من العقبة وسرنا في مسلك ضيق بين البحر والجبل لا يمر به إلا جمل إثر جمل كأنه متن الصراط إلا أنه غير مستقيم وقلما يخلو هذا المحل من لصوص يتعرضون للركب فتشتد إذايتهم وتعظهم نكايتهم لا سيما عند البرج قرب بنذر العقبة) (الدرعي، ص. 91).

(1/7286)

(ثم سرنا إلى مرحلة تنتهي عند اصطبل عنتر وقد اختفى العربان للأذى وتستروا) (الصغير، ص. 110).

وعن طغيان بعض القبائل هناك (حرب التي عمرت من البلاد الحجازية مسافة اثنى عشر مرحلة ... ينيفون على مائة ألف رجل لا يقيمون وزنا لقبيلة من قبائل الحجاز) (النصاري، ص. 223).

وغالبا ما كانت عمليات قطع الطريق تستهدف الحصول على أموال ومؤن وذخائر ولم تكن للقتل وسفك الدماء أي لسد الحاجة بالدرجة الأولى : (وكانوا لقوا من الحرامية شدة في الطريق ... ودفعوا للأعراب مالا كثيرا نحو مائة ألف بعدما انتهب من ركبهم وقتل أناس)

(1/7287)

(العياشي، ص. 190).

وقد كان لانعدام السلطان أثره الكبير في هذه العمليات (فالسراق يهجمون على الناس هجوما ويعظم أذاهم في أيام الموسم لقلة الحكم بتهاوي الحكام وإرخاء العنان لهم) (العياشي، ص. 192).

كما أن هذه العمليات كانت تتم لانتقام الثأر (عند عسفان وجدنا الأعراب هناك تهيئوا لمحاربة المصري، لشنآن بينهم وبعثوا إلينا لما نزلنا رسولا وهم بالجبل بذكر للشيخ أن المغاربة ليس بيننا وبينكم إلا الخير وأردناكم أن ترحلوا وتخلوا بيننا وبين المصري إنه تعدى علينا) (الصغير، ص. 138).

(1/7288)

وبالمقابل هناك قبائل كثيرة في بوادي هذه المناطق كانت تقوم بالإضافة إلى خدمة الحجاج، بحمايتهم والتعهد بشؤونهم مقابل أموالهم معلومة (وبعث لهم عشرة آلاف ريال مرتب سنة فامتنعوا عن قبولها وردوها وقالوا لا نقبل شيئا إلا إذا دفعت لنا مرتب أربع سنين السالفة) (الناصري، ص. 309).

وإذا ما داهمت القافلة المحمية أخطار، هب حماتها من أفراد القبيلة عنها (فأخرج الشيخ خزانة البارود وأمر بتفريقه على المراة في المحلة ... وعند ما حط الركب في فضاء متسع وخلع على الأعراب ما رآه من الخلع عادوا بسلام) (ابن مليح، ص. 860).

(1/7289)

ومن جهة أخرى أن دراستنا لهذه المصادر تكشف لنا عن حقيقة هامة وهي أن ما كان يلاقيه الحجاج من أهوال ومحن ناشئة بالدرجة الأولى عن قساوة الطبيعة ووعورة التضاريس وأخطار السيول وشدة البرد إلى جانب عمليات النهب وقطع الطريق :

(وفي وادي النار هبت علينا ريح غريبة كانت أول النهار باردة ووسطه وآخره سموما لقي منها شدة ولم يروا أشد منه قبله) (العياشي، ص. 177).

(وقع به سيل عرم بعث الحجاج فذهبت بسببه رقاب ودواب وأموال عريضة ولم ينج إلا من كان على التلول والكرى) (الناصري، ص. 209).

(1/7290)

(وما رأينا قط مثل هذه الرحلة في درب الحجاز طولا وبردا حتى مات بها خلق كثير من الجوع والبرد) (الناصري، ص. 311).

(وربما نزل البرد بهذه البلاد يحاكي في الكبر بيض الدجاج فيهلك الناس والدواب) (الناصري، ص. 210).

وفي بنذر الوجه (هب على الناس ريح السموم وتسقيهم من نضيج اليحوم واشتد الحر وتوالى الكرب على الناس واشتد العطش على الرجال فبركت الإبل وفرت لضلال الأشجار ... مات من المغاربة زهاء الستين ... نساء وصبيانا ورجالا وولدانا هو ما رأينا عيانا) (الدرعي، ص. 91).

(1/7291)

ووادي النبط (واد كبير بين جبلين لاسعة فيه في النبط إلى الخضيرة فإذا طلع النهار واشتد الحر حجبت الجبال عنه الهواء فينعكس غريبا أو شرقيا صاعدا مع الوادي أو منهبطا فيصير سموما محروقا ولا ماء هناك من النبط إلى الينبوع فربما اتلف الناس فيه العطش فتموت المئات بل الآلف في أسرع مدة (الدرعي، ص. 97).

وعمليات قطع الطريق وما ينشأ من مضاعفات خطيرة لم تكن تخلو منها بلد من البلدان، فالرحالة المغربي الدرعي الصغير الذي حج عام 1152 هـ، أثبت في مذكراته عن هذه الرحلة) مقارنة عجيبة، فقد قطع المسافة ما بين فاس

(1/7292)

وإيمنتانوت (بسوس) خلال ثلاثة أشهر وسبعة أيام وهي نفس المدة التي قطع خلالها المسافة ما بين طرابلس الغرب ومكة (وهذه مسافة عشرة أيام بيننا وبين فاس قطعناها في ثلاثة أشهر وسبعة أيام مع مالقينا فيها من الأهوال والأمور المفزعة وما ذلك إلى لقلة الأحكام وكثرة الفساد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (الصغير، ص. 272).

وعن أسماء بعض القبائل التي ورد ذكرها في المخطوطات، هناك :

- عرب بن عطية عند خليج العقبة.

- أعراب مدين عند بلدة مدين ويدعون العمريات.

- عند المويلح أعراب بني عقبة ومغارة.

(1/7293)

- عند اكره أعراب هيثم.

- عند الجوراء أعراب جهينة.

- قرب بدر عرب صبح.

- قبائل حرب بلادهم في الدهناء إلى الطائف إلى المدينة المنورة.

- أعراب عنزة عند منطقة هدية.

- قرب الينبووع أرعاب الاحويطات وبنو سعد.

المظهر الفكري :

أبرزت مخطوطاتنا في هذا الجانب :

1- دور مكة والمدينة كمركزين ثقافين رئيسين في بلاد الحجاز لمكانتهما الدينية.

2- حلقات العلم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف لمختلف العلوم، ولكل منها كراسي خاصة وأماكن معينة وأوقات محدودة.

(1/7294)

3- العلمامء ينتمون إلى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي شرقا وغربا، وتتضمن هذه الخطوطات قوائم طويلة لهؤلاء العلماء خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة.

4- لكل عالم اختصاص ومؤلفات عديدة في ميادين اختصاصه وتتوفر مكتباتهم الخاصة على مؤلفات لا حصر لها، وكثيرا ما كانوا يطلعون عليها طلبتهم ويسمحون لهم بالنقل عنها، أي أن حلقات العلم لا تقتصر على المسجد وحده وإنما تنعقد في منازل العلماء أيضا (فكانت بيني وبينه محبة وقال لي كلما تحتاج من الكتب للنظر فعندي) (الصغير، ص. 176).

(1/7295)

(ذاكرنا في مسائل من لاعلم واطلعنا على جملة مؤلفاته ومصنفاته وهي كثيرة) (الاسحاقي، ص. 287).

ولما كان قسم هام من المصادر التي اطلع عليها حجاجنا قد ضاع أو وقع به تحريف وغيره فإن مخطوطاتنا قد أصبحت مصدرنا الأول حسب القاعدة المعروفة (إذا ضاع الأصل حل الفرع محله).

5- لقد أجاز هؤلاء العلماء طلبتهم المغاربة في شتى أنواع المعرفة، وكل إجازة تتضمن التعريف بالعالم وموطنه وشيوخه الذين درس عليهم، وموضع الإجازة. كما تحمل اسم طالب العلم المجاز وتوقيع العالم وخاتمه وتاريخ الإجازة.

(باسم الله الرحمن الرحيم

(1/7296)

الحمد لله المنفرد بصفتي الجمال والجلال وشرع الحرام والحلال

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي من الضلال وعلى آله وأصحابه الذي خصهم الله بأعظم الأعمال ومن تبعهم من ورثة الأنبياء على أحسن حال مستديمين إلى يوم ظهور محامد الصفات ومحاسن الجلال.

أما بعد فإن إجازة من سنن العلماء ومن طريقة الناسكين والعاملين ولهذا طلبني ذلك وإن أكن أهلا لذلك من هو بالعلم موصوف والكمال معروف الشيخ عبد الله أبو مدين ابن أحمد الصغير الدرعي فأجبته كذلك فأقول : قد أخذت فقه الحنابلة عن مولانا مفتي الحنابلة في المدينة

(1/7297)

المنورة الشيخ إبراهيم بن محمد سنده المعروف وعن السيد مصطفى القادوي البغدادي سنده المعروف أيضا وأجرته بذلك حسبما أجازاني وأسأله أن لا ينساني في دعواته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجميعن وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين حرر يوم الخميس الثالث من شهر ذي الحجة عام ثلاثة وخمسين ومائة وألف ... كتبه الفقير إلى الله تعالى محمد حديدي الحنبلي بن الشيخ محمد سنبل الفقيه بالمروة) (الصغير، صص. 193-194).

6- إلى جانب التدريس يتولى العلماء أيضا مناصب القضاء والفتوى والإمامة والخطابة والشهادة، وإن رغبوا عنها لما

(1/7298)

أصبح عليه الأمر من التزام وبيع وشراء لهذه المناصب (وأما الخطبة فهي كالإمامة موزعة بين فقهاء المدينة لكل واحد مقدار معلوم من الأيام على قدر حصته التي يأخذها من جامكية الخطباء) (العياشي، ص. 288).

7- وقف مدونو مخطوطاتنا طيلا عند تسجيل الأحداث التي عرفتها الأماكن المختلفة التي مروا بها ما بين العقبة والطائف، دون أن يغفلوا عن ذكر الأوضاع اقائمة، وقد رجعوا في ذلك إلى مصادر ومراجع عديدة في المشرق والمغرب ونقلووا عنها الكثير من المعلومات، مما جعل مذكراتهم أشبه بدائرة المعارف بالنسبة لكل منطقة أو

(1/7299)

مدينة، أو قرية.

8- في الحرمين الشريفين مكتبات عمومية تتوفر على العدد العظيم من المؤلفات الهامة في مختلف العلوم والفنون، وقد رجع إليها رحالتنا ونقلوا عنها :

(... خزائن الكتب العلمية الموقوفة بالحرم الشريف يستعير منها الناس للقراءة) (العياشي، ص. 284) (فصل في ذكر ما شاهدته بمكة من الكتب مما لم أكن رأيته إلا نادرا في خصوص خزانتها) (الناصري، ص. 281).

(انتهى كلام ابن رشيد رحمه الله حسبما نقلته من نسخة عليها خطه وإجازته لتلميذه وصاحبه عبد المهيمن الحضرمي رحمه الله تعالى رأيت هذه النسخة بمكة المشرفة

(1/7300)

عذة أسفار) (العياشي، ص. 228).

9- قيام بعض علمائنا الحجاج بالتدريس في الحرمين الشريفين :

(لما كان أول شهر صفر ألجاني أصحابنا المالكية بالمدينة المنورة أن أقرأ لهم مختصر الشيخ خليل في فقه مالك ... فابتدلأت قراءته في مؤخر المسجد بالجانب الغربي منه وكانت قراءتنا من بعد صلاة العصر إلى قرب المغرب) (العياشي، ص. 286).

10- من عادات علماء الحرمين انقطاعهم عن التدريس يومي الثلاثاء والجمعة (ومن عادة المدرسين بالمدينة تعطيل القراءة في المكاتب والتدريس يوم الثلاثاء والجمعة) (العياشي، ص. 289).

(1/7301)

11- وكما نقل حجاجنا الكثير عن علمائهم في الحرمين الشريفين ودونوا ذلك في مخطوطاتهم، قام البعض منهم بشراء العديد من المؤلفات في الموضوعات المختلف. وفي مكتباتنا اليوم عدد من هذه المخطوطات إنما لا يوجد بها ما يؤكد بأن نقلها إلى المغرب قد تم في هذه الفترة المتحدث عنها، ومن ذلك على سبيل المثال :

- أخبار مكة، محمد بن عبد الله الازرقي، الخزانة العامة بالرباط، ق. 43.

- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، الخزانة العامة بالرباط، ك. 2356.

(1/7302)

- النبذة اللطيفة، شهاب الدين أحمد القليوبي، الخزانة العامة بالرباط، ك. 1411.

- الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها والبيت الشريف، لمحمد جار الله بن القاضي القرشي، الخزانة العامة بالرباط، ك. 245.

الأحوال السياسية :

أهم ما دونته مخطوطاتنا في المجال السياسي لبلاد الحجاز خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر للهجرة :

1- التعرض لأوضاعها العامة المتمثلة في :

أ- انحصار مناطق نفوذ الثمانيين وشريف مكة.

ب- التزام المنماصب الشرعية.

الأمر الذي نتج عنه مضاعفات خطيرة أبرزها :

(1/7303)

... 1- انعدام الأمن بوجه عام في البوادي والمدن.

... 2- الجهالة الجهلاء التي أصبحت عليها الأغلبية العظمى من الناس.

... 3- انتشار البدع المختلفة.

2- الدعوة إلى إصلاح العباد والبلاد :

أ- بمحاربة البدع.

ب- بالعودة بالناس إلى الدين الإسلامي القويم.

ج- بإقرار الأمن في ربوع البلاد.

3- وعندما قامت حركة الإصلاح بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر للهجرة وتزعم جيوش الموحدين حفيد الشيخ الأمير عبد العزيز، تردد صدى الحركة في بعض مخطوطاتنا هذه.

(1/7304)

لقد لاحظ حجاجنا انحصار النفوذ العثماني في مراكز محدودة :

- في بندر المويلح (هناك حصن كبير فيه عسكر) (الدرعي، 93).

- في بندر الوجه (حصن حصين في جرف واد كبير) (الدرعي، ص. 94).

- في جدة (في كلا طرفيها حصار متقن البناء فيه مدافع كثيرة وعسكر لا يفارقه وقد رأيت في الحصار متقن البناء فيه مدافع كثيرة وعسكر لا يفارقه وقد رأيت في الحصار القريب منها ما يستغرب وصفه من المواقع طولا وكبرا ورأيت بها مدفعا له خمسة أفواه بصنعة غريبة) (العياشي، ص. 104).

- وفي المدينة (كبير العسكر الساكن بالقلعة) (العياشي، 309).

(1/7305)

كما أن نفوذ شريف مكة لم يكن يتجاوز أحيانا ربضها (عمالتها اليوم من خارج جدة والطائف والظهران وما كان بالقرب منها هو الذي في إيالة أميرها وقد كانت إيالتها من قبل أوسع من هذا) (الناصري، ص. 253).

ومما زاد في اضطراب الأوضاع بالبلاد التزام المناصب الشرعية :

(والحاصل أن المناصب الشرعية كلها في البلاد الشرقية حجازا أو مصرا أو شاما من أمامة وخطابة وأذان وإقامة وقضاء وفتوى وشهادة بل ووقيد المساجد إنما تنال بالشراء من الولاة فإذا مات صاحب خطة أو عزل دفع الراغب فيها مالا للولاة فيولونه مكانه على أي حال كان

(1/7306)

من صلاحيته لذلك أم لا، فعظم الخطب على المسلمين والإسلام في ذلك خصوصا مناصب القضاء) (العياشي، ص. 288).

وهكذا كان من مضاعفات الأوضاع السياسة السيئة أن مهد الإسلام لم يعد يعرف طمعا للسلام بسبب :

1- انعدام الأمن بوجه عام :

(وأعراب الحجاز اليوم لا تنالهم الأحكام الشرعية من ناحية من ولي الحرمين) (النصاري، ص. 253).

وقبائل حرب (التي عمرت في البلاد الحجازية مسافة اثنى عشر مرحلة ... ينيفون على مائة ألف رجل لا يقيمون وزنا لقبيلة من قبائل الحجاز أصلا مع ما هم عليه من الظلم والحرابة والتوغل في الفحش والجهل)

(1/7307)

(الناصري، ص. 221).

الأمر الذي يخشى معه حدوث ما لا تحمد عقباه (وأخشى إن طال هذا الأمر أن يتعطل الحج) (الناصري، ص. 310).

وحتى في الحرمين الشريفين لا يأمن الإنسان على نفسه وماله :

ففي مكة (السراق يهجمون على الناس هجوما ويعظم أذاهم في أيام الموسم لقلة الحكم بتهاون الحكام وإرخاء العنان لهم) (العياشي، ص. 191).

وفي المدينة (وعلى طول إقامتي بالمدينة لم أدر كيفية تصرف الولاة فيها ولا من له التصرف التام بها) (العياشي، ص. 191).

(1/7308)

فلا عجب والحال كما ذكرنا أن يثير انتباههم وجود الأمن في نواح من الحجاز (وقد شاهدنا في هذه الحضرة من العافية التي بسطها الله في الطرق والقرى والأمان التام ما قضينا منه العجب) (العياشي، ص. 132).

2- وللجهالة الجهلاء التي أصبحت عليها أغلبية المسلمين :

(قدم كثير من الأعراب ... وأكثرهم عرب جفاة ليس لهم من دين ولا مذهب جلهم لا يعرف صلاة وصوما ... وبالجملة فعرب الدرب والحجاز وتهامة ونجد أجهل العرب وأكثرهم جفاء قلما تجد أحدهم يحسن شيئا من رسوم الشريعة الظاهرة من صلاة وصيام إلا القليل) (العياشي، ص. 312).

(1/7309)

3- ثم انتشار البدع الضالة التي أثرت في عادات الناس وأخلاقهم، من ذلك تصرف الحجاج في موضع (يسمى السقائق ويقال له دار الوقدة يقدون فيها الشمع الكبير ... وشاع عندهم أن الصحابة في غزوة بدر أوقدوا هنا نارا ... وكم مثلها من بدعة محدثة يرى الناس أنها من أعظم القربات) (العياشي، ص. 181).

وفي بدر (هضبة في الجبل ... والحجاج يتمسحون به ويتطارحون عليه ... رأيت هناك حجرا مخروقا شبه مغارة ينزل الناس متبركين بها ... ويؤثرون في ذلك خرافات لا أصل لها) (الناصري، ص. 221).

(1/7310)

وقد بلغت الجرأة والتطاول بالبعض ممن التقى بهم الشيخ العياشي في المدينة حدا جعل شيخنا يدون بصريح العبارة (وهذه جرأة عظيمة منه قاتله الله ... إلا أن الاهتمام بمثل هذا في هذه الأوطان أغرب من غريب) (العياشي، ص. 284).

ونتيجة للأوضاع السيئة التي آلت إليها احوال العباد والبلاد توجه حجاجنا بالدعوة إلى الله أن يهيئ لمهد الإسلام من يحارب البدع ويعود بالناس إلى مبادئ دينهم القويم حتى يعم الأمن وتصلح أحوال المسلمين :

(1/7311)

(فعرب الدرب والحجاز وتهامة ونجد أجهل العرب وأكثرهم جفاء قلما تجد أحدهم يحسن شيئا من رسوم الشريعة ... فمتى يعرف هؤلاء صلاة أو صياما أو حدا من حدود الشريعة ؟) (العياشي، ص. 312).

(وكم مثلها من بدعة محدثة يرى الناس أنها من أعظم القربات نسأل الله أن يميتنا على سنة النبي المستقيمة لا نرى فيها عوجا ولا أمتا) (العياشي، ص. 181).

(والسراق يهجمون على الناس هجوما ... لقلة الحكم بتهاون الحكام) (العياشي، 192).

(فلو قيض الله الأمراء لمنع الناس من التسوق فيه أيام الموسم لكان في ذلك نفع كبير) (العياشي، ص. 192).

(1/7312)

(ولو قيض الله لذلك الموضع من يعمره لكانت فيه أي إعانة للحجاج، ولكن الله يفعل ما يريد) (العياشي، ص. 231).

فالأوضاع التي استنكرها بعض حجاجنا ممن زاروا البلاد خلال النصف الثاني من القرن الحادي عشر للهجرة والنصف الأول من الذي يليه، والأماني التي عبروا عنها لإنقاذ البلاد والعباد هي نفس المبادئ التي ستقوم عليها حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عند منتصف القرن الثاني عشر للهجرة والمتمثلة خاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعودة إلى مبادئ الدين القويم.

(1/7313)

وعندما انطلقت حركة الإصلاح الوهابية بزعامة الأمير عبد العزيز بن سعود، رددت بعض مخطوطاتنا صدى ذلك :

1- التأكيد على أن الإصلاح ليس وقفا على جهود الحاكم وحده :

و(عهدتهم على الأمير وعلى كل من له على ذلك طاقة) (النصاري، ص. 211).

وهذا تأييد صريح للحركة الإصلاحية بعد أن عجزت السلطة القائمة عن تحقيق ذلك.

2- تفصيل القول في القبائل التي تجاوبت مع الحركة الإصلاحية وعمليات الانتقام التي تعرضت لها من قبل شريف مكة.

(1/7314)

(وأعراب الحجاز اليوم "عام 1196 هـ" غالبهم لا تنالهم الأحكام الشرعية من ناحية من ولي الحرمين ... وفي سنتنا هذه وقعت دائرة بينه وبينهم ... ومع ذلك لم ينقادوا له ولا أقاموا له وزنا وحجة الأمير عليهم أنهم يتحزبون عليه ممن والاهم من الأعراب فنكثوا بيعته بعد أن دخلوا فيها) (الناصري، ص. 253).

ومن أهم المناطق التي انضمت للحركة الإصلاحية التي تعرضت لنقمة شريف مكة :

(وقد وصلناها "أي الجديدة" ووجدناها مخربة خربها سلطان مكة سرور عند توجهها إلى المدينة) (ابن عثمان).

(1/7315)

(ووجدنا أهل رابغ فارين من بيوتهم خوفا من الشريف سلطان مكة) (ابن عثمان).

(وحتى قديد خربها سلطان مكة في وجهته هذه إلى المدينة) (ابن عثمان).

(الوجه ... داثر من العمارة في هذا الزمان (1196 هـ) (الناصري، ص. 209).

(قديد ليس به الآن عمارة ولا نخل ولا بستان) (الناصري، ص. 203).

(خليص اليوم خالية ما بقي بها إلا أثر انقاضها) (الناصري، ص. 231).

وعندما قامت الحركة الإصلاحية وتمكنت من القضاء على بعض البدع كبدعة دار الوقدة سجلت مصادرنا ذلك :

(1/7316)

(دار الوقدة كانت من قبل دار الحاج وبها يوقدون الشمع ... والآن (عام 1196 هـ) لا ينزلها الراكب غالبا) (الناصري، ص. 217).

مصادر البحث

- محمد بن أحمد الملقب بابن المليح، أنس الساري والسارب من أقطار المغرب إلى منتهى الآمال والمآرب، الخزانة العامة، دار الوثائق، الرباط، ك. 2341، حج عام 1040 هـ.

- أبو سالم العياشي، الرحلة العياشية، المكتبة الملكية بالرباط رقم 156، حج عام 1074هـ.

- أحمد الهشتوكي، هداية الملك العلام إلى بيت الله الحرام، الخزانة العامة بالرباط، ق. 190، حج عام 1096 هـ.

(1/7317)

- أحمد بن ناصر الدرعي، الرحلة الكبرى، الخزانة العامة بالرباط، د. 1291، حج عام 1121 هـ.

- عبد الرحمن بن أبي القاسم الشاوي، رحلة القاصدين ورغبة الزائرين، المكتبة الملكية بالرباط، 5606، حج عام 1141 هـ.

- أبو محمد الشرقي الإسحاقي، رحلة الوزير الاسحاقي، المكتبة الملكية بالرباط، 1428، حج عام 1148 هـ.

- عبد المجيد بن علي الملقب بالزبادي، بلوغ المرام بالرحلة إلى بيت الله الحرام، الخزانة العامة بالرباط، ك. 398، حج عام 1148 هـ.

(1/7318)

- أحمد اللكوسي الحضيكي، رحلة إلى الحرمين الشريفين، الخزانة العامة بالرباط، د. 896، حج عام 1152 هـ.

- أبو مدين أحمد بن الصغير الدرعي، الرحلة الحجازية، الخزانة العامة بالرباط، ق. 297، حج عام 1152 هـ.

- محمد بن عبد السلام الناصري، الرحلة الكبرى، الخزانة العامة بالرباط، د. 2651، حج عام 1196 هـ.

- محمد بن عبد الوهاب بن عثمان، احراز المعلى والرقيب في حج بين الله الحرام، المكتبة الملكية بالرباط، 5264، حج عام 1200 هـ.

(1/7319)

بلاد الشام في نظر المغاربة والأندلسيين منذ بداية القرن السادس حتى نهاية القرن التاسع الهجري

... ... ... ... ... ... ... الدكتور علي أحمد

... ... ... ... ... ... ... دمشق ـ سوريا

مقدمة

... في مستهل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي أو قبل ذلك بقليل، هاجرت مجموعات مغربية وأندلسية بلاد المغرب والأندلس، وتوجهت إلى أقطار عربية إسلامية كان في طليعتها بلاد الشام، التي ظل يقصدها المغاربة والأندلسيون حتى نهاية العصور الوسطى. فما سبب ذلك وما أهم العوامل التي شجعت المغاربة والأندلسيين على هذا

(1/7320)

التحرك الذي تطور من عملية نزوح انفرادية في البداية إلى عملية نزوح جماعية اتسمت بالغزارة والنشاط؟

... في سياق الجواب عن هذا الأمر، نقول إن السبب في ذلك كان موجوداً في الساحتين الشامية والمغربية الأندلسية على حد سواء. فالأسباب التي كانت موجودة على الساحة المغربية (الأندلسية) في تلك الفترة اتسمت بالسلبية في مجموعها، مما أجبر الكثيرين من السكان على النزوح عن وطنهم نهائياً بعد أن غدا أمر بقائهم مستحيلاً فيه لعدة عوامل يمكن أن نسمها بعوامل الطرد، التي تجسدت في الاضطرابات والتبدلات السياسية في المغرب

(1/7321)

والأندلس، وكذلك في الأخطار التي أحدقت بشكل خاص بالأندلس وسكانها بفعل الهجمات الإسبانية الفاعلة. أما الأسباب التي تجسدت في بلاد الشام، فيمكن أن نسميها عوامل الجذب والاستقطاب؛ فهي عوامل إيجابية يمكن حصرها بأنها كانت فكرية واقتصادية وسياسية وطبيعية ونفسية، وكلها توافقت مع تطلعات القادمين من المغرب والأندلس إلى بلاد الشام، وأصبح هؤلاء القادمون يُستقبلون ويُعاملون على قدم المساواة مع إخوتهم أهل الشام، وربما عوملوا بعناية واهتمام واحترام في بعض الأحيان أكثر من أهل الشام أنفسهم، كما حدث على سبيل

(1/7322)

المثال في عصر صلاح الدين الأيوبي وقبله نور الدين محمد زنكي الشهيد. فقد روى ابن جبير الأندلسي الذي زار الشام في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي عن نور الدين محمود زنكي الشهيد، أنه اهتم بفك الأسرى من المغاربة والأندلسيين قبل أسرى الشام بقوله:

... وقد كان نور الدين ـ رحمه الله ـ نذر في مرض أصابه تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة. فلما أبلَّ من مرضه، أرسل في فدائهم فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وإخراج عوض عنهم من المغاربة وقال:

(1/7323)

هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم والمغاربة غرباء لا أهل لهم (1).

... نتيجة هذه العوامل الإيجابية المشجعة، شكل المغاربة والأندلسيون جالية كبيرة العدد متنوعة الاختصاصات، شاركوا من خلالها في جميع شؤون الحياة العامة ووجوهها؛ وعبروا في كثير من الأحيان عن عميق صدقهم وتفانيهم في الأعمال التي أوكلت إليهم، وغدوا في أحيان كثيرة أيضاً رواداً ومعلمين في ميادين اختصاصاتهم، وترك بعضهم آثاراً علمية خالدة في عدد من العلوم. كما عبّرت مجموعة منهم عن حس عربي

__________

(1) ابن جبير الأندلسي، الرحلة، طبعة بيروت، 1959، ص. 280.

(1/7324)

إسلامي، ترجموه إلى حقيقة وفعل حينما وقفوا مدافعين عن مصالح بلاد الشام، مضحين بأنفسهم وحياتهم أحياناً وبأموالهم وثرواتهم أحياناً أخرى.

... فقد شغلوا في ميدان العلوم عامة دوراً رائداً، ظهرت آثاره الإيجابية في مختلف الظروف. وهذا ليس غريباً عليهم، لأنهم أبناء بيئة حضارية عالية المستوى. فقد حملوا لواء المشاركة في كل فرع من فروع العلوم العقلية والنقلية المعروفة والمسموح بها في تلك الفترة من الزمن موضوع هذا البحث. فظهر منهم عدد من المرموقين نذروا حياتهم للعمل والعطاء بلا حدود.

(1/7325)

... ففي ميدان العلوم العقلية التطبيقية، اشتهروا بشكل فعال في ميدان علم الطب والصيدلة، إضافة إلى معرفة بعضهم في علم الهندسة والفلك والكيمياء. ففي مجال الطب الذي اشتغلوا فيه بكثافة، لم يكونوا مجددين، أي أنهم لم يأتوا باكتشاف يمكن اعتباره جديداً في بلاد الشام، على الرغم من أن معظمهم كانوا على درجة عالية من العلم والمعرفة الطبية، التي لم تكن في الوقت نفسه غريبة على الأطباء الشاميين. وتأتي أهمية الدور الذي شغلوه في هذا الميدان من خلال الخدمات الجليلة، التي قدموها للمجتمع الشامي في أصعب الظروف

(1/7326)

وأحوجها إلى خدماتهم ورعايتهم في عصر صلاح الدين الأيوبي، حينما كان يخوض حربه المقدسة من أجل تحرير بيت المقدس وغيرها من مناطق الساحل الشامي من دنس الاحتلال الفرنجي. فقد قُدِّر لبلاد الشام في فترات مختلفة، أن تحتضن أنماطاً رفيعة المستوى من الأطباء المغاربة والأندلسيين وأعظمهم في تلك الفترة. وتأتي عظمة هؤلاء الأطباء من أنه شغلوا مراكز، كان لها أكبر الأثر في رفد المجتمع الشامي بالأطر الطبية المؤهلة، هذا بالإضافة إلى اشتراكهم في الحرب أطباء في جيش صلاح الدين الأيوبي، وأطباء بمدينة دمشق التي كانت

(1/7327)

حينذاك محور استقطاب كل الفعاليات باعتبارها قاعدة التحرير.

... ويمكن التفصيل بشكل أكثر من ذلك بالقول إن أكثر من اثنين من الأطباء المغاربة والأندلسيين، توصلوا إلى رئاسة المستشفيات بمدينة دمشق، وإن أكثر من اثنين منهم عملوا أطباء معتمدين عند الحكام والسلاطين، نذكر منهم الطبيب عبد المنعم الجليائي(1) الذي خدم صلاح الدين

__________

(1) ولد سنة 531 هـ ومات بدمشق سنة 603 هـ. انظر عنه ابن سعيد المغربي، الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة، تحقيق إبراهيم الأبياري، طبعة مصر، دون تاريخ، ص ص. 104 ـ 106.

(1/7328)

الأيوبي فترة طويلة من الزمن، كان مُعظمها في ساحات الحرب والمعارك، التي دارت رحاها بين المسلمين والفرنجة على أرض فلسطين في الربع الأخير من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهو يشبه في عمله هذا إلى حد كبير رئيس المجموعة الطبية، التي ترافق في العادة أية فرقة أو قطعة من الجيش في أيامنا هذه.

... من جهة ثانية، فقد عمل قسم من الأطباء المغاربة والأندلسيين في المستشفيات التي شكلوا فيها إطاراً مؤهلاً للقيام بعملية التدريب في كثير من المدن الشامية على غرار ما يحدث في المستشفيات المركزية. فكانوا

(1/7329)

يخصصون وقتاً معيناً لهذه الغاية، على الرغم من كثرة مشاغل بعضهم وضيق وقتهم. وقد تخرج على يدهم عدد كبير من طلاب العلم، استطاع بعضهم أن يصل إلى مستوى عالٍ من المهارة في صناعة الطب. نذكر من هؤلاء على سبيل المثال واحداً من تلامذة الطبيب الأندلسي أبي المجد محمد بن أبي الحكم(1)، وهو مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن الحارثي الدمشقي المولد والنشأة، وكان يُعرف

__________

(1) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج 4، تحقيق محمد بن عبد الله ومحمد بن محمود، باعتناء س. ديورينغ، طبعة دمشق، 1959، ص. 24.

(1/7330)

بالمهندس لمعرفته بعلم الهندسة قبل أن يتحول إلى الاشتغال بالطب. درس هذا المهندس علم الطب على أبي المجد الأندلسي سابق الذكر حتى برع فيه، الأمر الذي مكنه من أن يصبح أحد الأطباء المرموقين في البيمارستان النوري بدمشق، والذي بقي يعمل فيه حتى وافته المنية سنة 599 هـ/ 1203 م. ومما يدل على براعته في علم الطب مؤلفه الموسوم بـ "كتاب الأدوية المفردة" المرتب بحسب تسلسل الحروف الأبجدية(1).

__________

(1) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ط.1، المطبعة البهية، 1882، ج 2، ص. 190.

(1/7331)

... أما في ميدان العلوم الصيدلانية، فقد كان الأمر أكثر جدة وحداثة على صعيد المجتمع الشامي. فقد وجد من بين الصيادلة المغاربة والأندلسيين من كان له فضل السبق في اكتشاف العديد من المواد الدوائية، التي لم تكن معروفة في بلاد الشام ولا حتى في غيرها من البلدان، والتي لم يذكرها أحد من الصيادلة من قبل. مثال ذلك الصيدلاني ابن البيطار، الذي ألف كتاباً سماه "الجامع في الأدوية المفردة". وقد عدّه البعض من أكمل ما صنفه العرب في هذا المضمار، فقد احتوى على اسم 300 مادة دوائية جديدة. وكان أبرز الذين استفادوا منه

(1/7332)

بمدينة دمشق الطبيب الدمشقي ابن أبي أصيبعة صاحب كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، الذي حرص على مرافقته في البحث على نوعية الأعشاب الدوائية في غوطة دمشق وما حولها حتى توفي على حين غرة في سنة 646 هـ/ 1249 م بمدينة دمشق(1). مثال آخر يتجلى بالطبيب الأندلسي عمر بن علي البذوخ الذي(2)

__________

(1) انظر عنه ابن أبي أصيبعة، المصدر السابق، ج 2، ص. 133؛ وابن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، ج 1، عني بنشره عزت العطار الحسيني، طبعة القاهرة، 1956، ص. 121.

(2) انظر عنه ابن أبي أصيبعة، المصدر السابق، ج 2، ص ص. 155 ـ 157.

(1/7333)

أسدى خدمات جليلة للمجتمع الدمشقي خلال فترة وجوده بدمشق. فقد اقتصر نشاطه الطبي على خدمة عامة الناس، بعكس العديدين من زملائه المغاربة؛ فكانت له دكان خاصة (عيادة) بمحلة اللبادين بدمشق القديمة، يرتادها الناس للاستشارة الطبية. فكان إضافة إلى أنه يقوم بتشخيص المرض وتعيين أسبابه ومواضعه، فإنه كان يعطي الدواء المناسب للمرض، الذي كان من صنع يده في معظم الأحيان.

... وبخصوص بقية الفروع الأخرى من العلوم العقلية البحتة، كالكيمياء والهندسة والفلك وغيرها، فإن المغاربة والأندلسيين ـ نزلاء بلاد الشام ـ لم

(1/7334)

يشتهروا ـ ويا للأسف! ـ بشكل يسمح للمرء أن يسجل الخدمات والفوائد التي قدموها للمجتمع الشامي كله. وهذا الأمر لا يعود إلى قصورهم العقلي على هذا الصعيد بقدر ما يعود إلى عدم الاهتمام بها، خاصة وأن بعضها لم يكد يُرحب بها كالكيمياء على سبيل المثال في بلاد الشام. ذلك لأن الفقهاء اعتبروها في هذه البلاد من أعمال السحر والشعوذة التي لا يسمح بها الشرع الإسلامي. ومع ذلك، فقد ظهرت عند بعضهم بوادر طيبة، أسفرت عن بعض الابتكارات الجديدة التي لم يُقدر لها أن تتطور وتنتشر، مما جعل الفائدة منها معدومة في حياة بلاد

(1/7335)

الشام العلمية العامة. نذكر من هذه الابتكارات تلك التي تجسدت بصنع عدة آلات هندسية صممها الطبيب المغربي المتفوق نزيل دمشق يحيى البياسي، وأهداها لأستاذه الدمشقي ابن النقاش(1). مثال آخر يتجلى في المتصوف الشهير ابن عربي الأندلسي المتوفى بدمشق سنة 638 هـ/ 1351 م، الذي كان يعرف الكيمياء على حد قوله بالفطرة. فقد ذكر في غير موضع من مؤلفاته العبارة الآتية: »أعرف الاسم الأعظم وأعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب« (2)

__________

(1) ابن أبي أصيبعة، المصدر السابق، ج 2، ص. 163.

(2) ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، طبعة بيروت، د. ت.، ج5، ص. 200.

(1/7336)

.

... لكن دور المغاربة والأندلسيين في مجال العلوم النظرية كان أوسع انتشاراً وأعمق أثراً لما لاقته هذه العلوم من رعاية واهتمام بالقياس إلى العلوم التطبيقية التي تحدثنا عنها. فقد اشتغل العدد الأكبر من العلماء المغاربة والأندلسيين، الذين حلوا بالشام في هذا الميدان. وتشمل هذه العلوم العلوم الدينية كالحديث والفقه والتفسير والقراءات، وعلوم اللغة العربية كالنحو والأدب والبديع والعروض، والعلوم الاجتماعية كالجغرافية والتاريخ والتصوف والفلسفة وعلم الاجتماع، إلى غير ذلك.

(1/7337)

... ففي مجال العلوم الدينية، اشتهر المغاربة والأندلسيون بشكل خاص على صعيد علم الحديث، هذا العلم الذي لم يكن جديداً على بلاد الشام، كأن يقال إن الأندلسيين هم الذين وجدوه وشجعوه على سبيل المثال أو المغاربة. لكن الشيء الجديد على الشاميين ينحصر في أنهم لم يعرفوا قبل هذه الفترة حفاظاً كباراً ومحدثين مؤهلين من أصل مغربي عملوا في هذا الشأن. فقد كان المغاربة في فترة ما قبل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي يأخذون عن المحدثين الشاميين، ثم يعودون بعد ذلك إلى بلدانهم. أما بعد هذه الفترة، فإن الصورة

(1/7338)

تغيرت بشكل جذري، وأصبح المغاربة يرتادون بلاد الشام بقصد العمل الذي كان يعني للبعض الدراسة والحفظ والمتابعة.

... ومهما يكن من أمر، فقد استطاع عدد من المغاربة أن يصلوا إلى أعلى مستويات العلم والأهلية والجدارة، وغدوا في أحيان متعددة معلمين بارعين وأساتذة كباراً في هذا العلم. وظهرت مكانتهم العلمية بوضوح في المدارس الشامية التي ترأسوها أو درَّسوا بها، حتى غدوا مقصداً للمهتمين من شتى الأقطار العربية الإسلامية. فتخرج على يدهم تلامذة كثر. والحق يقال، إنه باستثناء علم الطب، فلم يشتهروا المغاربة في ميدان

(1/7339)

علمي آخر كما اشتهروا في علم الحديث.

... فعلى الرغم من أن عدد هؤلاء المحدثين لا يتجاوز العشرة، فإن الذين حازوا على لقب »الحافظ« بلغ اثنين، هما: زكي الدين البرزالي المغربي(1) نزيل مدينة دمشق وشيخ الحديث بمشهد ابن عروة بالمسجد الأموي الكبير. هذا، بالإضافة إلى عمله في حقل التدريس حتى وفاته سنة 626 هـ/1239 م في مدينة حماه، حينما كان قادماً من مدينة حلب فدفن

__________

(1) أبو شامة، الذيل على الروضين، عني بنشره عزت العطار الحسيني، ط 1، 1947، ص. 168؛ ابن كثير، البداية والنهاية، طبعة بيروت، 1966، ج 13، ص. 153.

(1/7340)

فيها؛ وعلم الدين البرزالي الذي كان من أهم علماء دمشق في النصف الأول من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، والذي توفي أثناء تأديته فريضة الحج في سنة 739 هـ/ 1339 م(1).

... وعلى الرغم من قلة عدد هؤلاء المحدثين، فإن معظمهم تسلم مناصب تدريسية عالية من أمثال محمد بن علي الجياني، الذي اشتغل أمين خزانة الكتب بالمدرسة النورية بحلب سنة 563 هـ/1168 م، ومحمد بن سراقة الشاطبي الذي شغل مشيخة الحديث

__________

(1) النعيمي الدمشقي، الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق جعفر الحسني، طبعة دمشق، 1948، ج 1، ص ص. 86 ـ 87.

(1/7341)

بالمدرسة البهائية بمدينة حلب سنة 642 هـ/ 1245 م(1).

... وقد اشتهر المغاربة والأندلسيون في ميدان آخر غير علم الحديث هو علم القراءات. ويمكن القول إنهم كانوا مجددين على هذا الصعيد. وتجلى التجديد عندهم في أنهم نقلوا إلى بلاد الشام عدداً من الطرق في القراءات، لم تكن معروفة فيها قبل هذه الفترة، كطريقة المقرئ الأندلسي الشهير أبي عمرو بن العلاء الداني، الذي نقلها إلى الشام ونشرها عن طريق التعليم المقرئ الأندلسي أحمد بن محمد الأنصاري الشاطبي، الذي حلّ بمدينة دمشق

__________

(1) الصفدي، المصدر السابق، ج 4، ص. 162.

(1/7342)

منذ سنة 504 هـ/ 1111 م. وكان قد جسّد هذه الطريقة في كتاب سماه "قراءة أبي عمرو الداني". هذا، بالإضافة إلى بعض المؤلفات الأخرى التي وضعها ككتاب "المقنع في القراءات السبع" و"التنبيه على قراءة نافع"(1).

... كما حمل لواء التجديد في القراءات مقرئ أندلسي آخر هو ابن الطحان، الذي قيل فيه إنه لا يوجد بالمغرب أعلم منه. وقد تجلى التجديد عنده في عدد من الكتب التي ألفها مثل كتاب "نظام الأداء في الوقف والابتداء"

__________

(1) المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، طبعة بيروت، 1968، ج 2، ص. 135.

(1/7343)

وكتاب "مخارج الحروف" الذي هو عبارة عن مقدمة في علم القراءات(1).

... وبلغ الابتكار أوجه عند بعض المغاربة والأندلسيين في هذا العلم، إذ أقدم المقرئ أبو القاسم الشاطبي على وضع مؤلف في القراءات بقالب شعري جميل، حتى يُسهّل على المهتمين حفظ القراءات وإتقانها بطرقها المختلفة. واسم هذا الكتاب "حرز الأماني" الذي قيل فيه إنه لم يسبقه أحد في أسلوبه، وهو اختصار لكتاب "التسيير" لأبي عمرو الداني، ويسمى أيضاً "الشاطبية". فسهل بذلك على الناس استذكار قواعد

__________

(1) المقري، المصدر السابق، ج 3، ص ص. 389 ـ 390.

(1/7344)

القراءات وحفظها. وعدد أبيات هذا الكتاب ثلاثة وسبعون ومئة وألف بيت شعريّ، أبدع فيها كل الإبداع. ونظم قصيدة دالية أخرى من خمسمئة بيت، لخص فيها مضمون كتاب "التمهيد" لابن عبد البر في القراءات(1).

... خلاصة القول إن الذين اشتغلوا بعلم الحديث والقراءات من المغاربة في بلاد الشام استطاعوا أن يتركوا ذكراً طيباً وخالداً. ذلك لأنهم برعوا في هذا الميدان وأجادوه حفظاً وتدريساً وإنتاجاً، وأضفوا على مؤسساته هالة رائعة من النشاط والحيوية.

__________

(1) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص. 406.

(1/7345)

... أما في مجال علوم اللغة العربية، فقد كان للمغاربة فيه شأنهم البارز، وبخاصة في علم النحو والصرف، الذي كانوا فيه أقطاباً لا يقلون شأناً عن أمثالهم من علماء الحديث، الذين أتينا على ذكرهم. فكما ظهر منهم حفَّاظٌ ومحدّثُون كبار، فقد ظهر منهم نحويون عظامٌ، كان لهم بالغ الأثر في خدمة علم النحو والمهتمين به. واستطاع كثيرون منهم أن يتصدوا بجدارة لمهمة تدريس هذا العلم في العديد من مدارس بلاد الشام ومساجدها وزواياها، وعبروا في الكثير من الأوقات عن براعتهم وأهليتهم الكاملة في التصدي لهذه المهمة النبيلة،

(1/7346)

مما أضفى على بعضهم سمة الخلود والبقاء، وذلك من خلال المؤلفات التي خلفوها. ولعل أروع الأمثلة على ذلك ابن مالك النحوي المتوفى بدمشق سنة 672 هـ/ 1274 م، الذي لقب بشيخ النحاة، انطلاقاً من سعة علمه وإطلاعه وخبرته الواسعة في هذا العلم، الأمر الذي أهله لأن يتسلم رئاسة المدرسة العادلية الكبرى وشيخ النحو والنحويين فيها ولفترة طويلة من الزمن.

... ولا تنحصر أهميته بصفته شخصيّة نحوية مرموقة، بقدر ما تنحصر وتتجسد في أنه كان صاحب مدرسة كُتب لها الخلود لزمن طويل بعد رحيله، إلى درجة وصلت إلى أن جميع النحويين

(1/7347)

الذين خلفوه من المغاربة والشاميين لم يتمكنوا من التأليف والإنتاج بالشكل الذي يجاريه. وتوقف الأمر بأن أقدم كثير من مشاهير النحويين على شرح مؤلفاته. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل حقاً على المستوى الرفيع والمتقدم الذي بلغه ابن مالك في حقل النحو. وربما لم تعرف بلاد الشام نحوياً طوال فترة العصور الوسطى كابن مالك النحوي، من ناحية سعة علمه واطلاعه أو من ناحية مؤلفاته الكثيرة التي تبحث في مجاهيل علم النحو وقواعده والتي بلغت أكثر من عشرين مؤلفاً(1)

__________

(1) الصفدي، المصدر السابق، ج 2، ص. 359؛ الجزري، غاية النهاية في طبقات القراء، ج 2، عني بنشره ج. برحستراير، ط 1، القاهرة، 1962، ص. 180؛ الفيروزآبادي، البلغة في تاريخ أئمة اللغة، تحقيق محمد المصري، طبعة دمشق، 1972، ص. 229؛ اليونيني، ذيل مرآة الزمان، ط 1، حيدر آباد الدكن، 1960، ج 3، ص. 76.

(1/7348)

.

... وقد تخرج على ابن مالك النحوي عدد كبير من طلبة العلم، كان لهم شأن عظيم فيما بعد على صعيد العلم وعلى صعيد الإدارة. نذكر منهم على سبيل المثال: المزي، والعلم الفارقي، والشمس البعلي، والشيخ النووي(1)، وكذلك المدرس محمد بن عبد الرحمن السلمي المعروف بابن النويرة المتوفى سنة 675 هـ/ 1277 م(2) وزين الدين أبو البركات المنجا بن عثمان بن أسعد الدمشقي المتوفى سنة 695 هـ/ 1296 م، الذي برع في علم النحو على حياة

__________

(1) المقري، المصدر السابق، ج 2، ص ص. 427 ـ 428.

(2) اليونيني، المصدر السابق، ج 3، ص. 203.

(1/7349)

أستاذه ابن مالك، الذي قال عنه حينما سئل عن شرح "الألفية": »شرحها لكم ابن المنجا«(1)، ومحمد ابن إبراهيم الأزرعي الذي ولي قضاء مدينة دمشق سنة 715 هـ/ 1306 م(2)، ومحمد بن محمد شمس الدين الأنصاري الشافعي الذي يعد من أفضل من تخرج على ابن مالك في النحو والعربية، وتوفي بعد أستاذه بسنوات، أي في سنة 682 هـ/ 1284 م(3)

__________

(1) النعيمي، المصدر السابق، ج 3، ص ص. 120 ـ 121.

(2) ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ط 1، حيدر آباد الدكن، 1249 هـ، ص. 278.

(3) اليونيني، المصدر السابق، ج 4، ص. 197.

(1/7350)

، ومحمود بن سليمان بن فهد الحلبي المتوفى سنة 725 هـ/ 1325 م، الذي تسلم وظيفة كتابة السر، ووصفه بعضهم بأنه لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله، وبقي في ديوان الإنشاء نحواً من خمسين سنة بدمشق ومصر(1) وغير هؤلاء كثيرون.

... من ناحية أخرى، فإن ابن مالك النحوي استحوذ على الاهتمام بعد وفاته ما لم يستحوذ عليه أحد من قبله أو من بعده على صعيد بلاد الشام في العصور الوسطى، فأثنى عليه كثيرون من المهتمين بالنحو، ووصفوه بالكمال، والمعرفة التامة بعلم النحو. فقد ذكر

__________

(1) النعيمي الدمشقي، المصدر السابق، ج 2، ص. 236.

(1/7351)

أحدهم، وهو ركن الدين ابن القوبع، أن ابن مالك النحوي وضع حدّاً لعملية الابتكار والتجديد في ميدان علم النحو لا يمكن تجاوزه، فكان يقول دوماً: »إن ابن مالك ما خلّى للنحو حرمة... «، وقال شرف الدين الحصني يرثيه مبيناً سمو منزلته وتميز شخصيته في ميدان علمه، كما عكس ضخامة الفاجعة التي ألمت بعلم النحو من بعده يقول:

يا شتات الأسماء والأفعال بعد موت ابن مالك المفضال

وانحراف الحروف بعد ضبط ... بعد موت ابن مالك المفضال

(1/7352)

ومصدراً كان للعلوم بإذن الله من غير شبهة ومجال(1)

... مهما يكن من أمر، فإنه بالرغم من تفاوت النحويين المغاربة والأندلسيين في المستوى والأهلية، فإنهم أسهموا جميعاً من خلال التدريس في مدارس بلاد الشام، أو من خلال المؤلفات التي تركوها، أسهموا في إحياء علم النحو والصرف في كثير من الأحيان. ساعدهم على ذلك تمكنهم من علم النحو، الذي ظهر من خلال المناصب التدريسية العالية، التي شغلوها في المدارس الشامية. فقد تسلم ثلاثة أو أربعة مشيخة علم النحو في عدة

__________

(1) الصفدي، المصدر السابق، ج 2، ص ص. 362 ـ 363.

(1/7353)

مدارس شامية من أصل اثني عشر نحوياً مغربياً، وتسلم أربعة منهم رؤساء مدارس ودور علم شهيرة في بلاد الشام(1).

... وتأتي قيمة وعظمة الدور الذي شغله هؤلاء المغاربة أيضاً، إضافة إلى ما تقدم، من الكتب المختصة التي ألفوها، والتي كان بعضها غير معروف على صعيد بلاد الشام، وبخاصة من ناحية الأسلوب والمنهج الذي

__________

(1) من هؤلاء: أبو عبد الله الطليطلي مدير دار العلم في طرابلس الشام، ومحمد بن عبد الله شيخ المدرسة العادلية بدمشق، وابن معطي شيخ النحو بالمسجد الأموي، والقاسم بن أحمد المرسي شيخ النحو بالعادلية بدمشق.

(1/7354)

جاء جديداً مبتكراً. مثال ذلك "ألفية" ابن معطي المغربي، التي تُعد أول مؤلف في النحو صيغ بقالب شعري. وكان التجديد أقل من ذلك عند بعضهم كما هو حال القاسم بن أحمد اللورقي، الذي ألف عدداً من الكتب شرح فيها مؤلفات غيره ككتاب "شرح الجزولية" الذي يعد من أمهات الكتب النحوية المغربية الأندلسية، الذي لا يستبعد أن يكون نزلاء الشام من المغاربة والأندلسيين هم الذين نقلوه معهم إلى هذه البلاد.

... وفي العلوم الاجتماعية سنركز على آثار المغاربة في ميدان الجغرافية والتصوف. ففي ميدان الجغرافية خلفوا آثاراً واسعة

(1/7355)

ذات فائدة جمة. وقد تجلى ذلك في المعلومات القيمة التي دونها الرحالة المغاربة، كابن العربي وأبي حامد الغرناطي الذي جاءت معلوماته أكثر فائدة من غيرها، على اعتبار أنه زار مناطق من إيران وروسيا الحاليتين، فدلّ على أشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل الشاميين وبخاصة في ميدان العجائب، التي شاهدها في البلدين المذكورين، والتي كان منها ما يتعلق ببقايا الإنسان القديم أو علم المومياء. وقد أثارت عليه اهتماماته في هذا الشأن وغيره ثائرة بعض علماء مدينة دمشق، فاتهموه بالكذب والشعوذة. وكان في طليعتهم ابن عساكر

(1/7356)

صاحب "تاريخ مدينة دمشق"، الذي

لم يستطع أن يتمثل المعاني والأهداف السامية ذات القيمة العالية لمثل هذه الاهتمامات، لكونها تختلف عن ميدان اهتمامه الذي اقتصر على علم الحديث(1).

... يأتي بعد أبي حامد الغرناطي من حيث الأهمية العلمية ابن جبير الأندلسي، الذي زار مناطق شتى من بلاد الشام. وبغض النظر عن كبر الرقعة التي زارها هذا الرحالة وكتب عنها أو صغرها، فإنه اتفق مع جميع الرحالة الذين سبقوه أو الذين جاءوا بعده في ناحية واحدة،

__________

(1) انظر عن أبي حامد الغرناطي: المقري، المصدر السابق، ج 1، ص. 235 وما بعدها.

(1/7357)

تجلت في أن اهتمامهم ما عدا أبا حامد الغرناطي، كان واحداً تقريباً. وتأتي قيمة هؤلاء الرحالة من الملاحظات الذكية التي دونوها في أثناء زيارتهم لبلاد الشام. فقد ركزوا على وصف المواقع الأثرية والأماكن الدينية المشهورة، وتثوير ورصد الحالة الاقتصادية التي كانت سائدة في المناطق التي حلوا بها. كما وقفوا على جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية كالعادات والتقاليد والنهضة العلمية والعلاقات بين السكان الأصليين من جهة، وبينهم وبين الفرنجة من جهة أخرى. ويشغل ابن جبير الأندلسي مركز الريادة في ذلك، لأنه تميز في

(1/7358)

كتاباته عن الشام بالدقة العلمية والتركيز على نواح في غاية الأهمية، ما زالت تؤخذ بعين الاعتبار عند إجراء أي دراسة اجتماعية أو اقتصادية، وبخاصة عن مدينة دمشق ومدن الساحل اللبناني والفلسطيني(1).

__________

(1) انظر عن هذه الأمور تفاصيل واسعة: ابن جبير، الرحلة، طبعة بيروت، 1959، ص. 223 وما بعدها؛ الذهبي، العبر في خبر من غبر، تحقيق صلاح الدين المنجد، طبعة الكويت، 1966، ج 5، ص.51؛ المراكشي، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق إحسان عباس، طبعة بيروت، 1965، سفر 5، قسم 2، ص. 596.

(1/7359)

... وفي مجال آخر هو مجال التصوف، كان الأمر جيداً وأحسن حالاً من الفلسفة التي حوربت على كل صعيد. ففي مجال التصوف، انقسم المتصوفة المغاربة إلى قسمين متباينين: اقتصر نشاط القسم الأول على الزهد والتعبد وتقديم النصائح إلى غيرهم، إلى غير ذلك من أنشطة لا فائدة تُرجى منها. فقد شكل رجال هذا القسم عبئاً ثقيلاً على المجتمع، لأن هؤلاء الرجال عاشوا على هامش الحياة دون عمل مفيد ومنتج، وهو الأمر الذي دعا إليه الإسلام وأكَّده حتى جعله محور بقاء الحياة واستمرارها وتطورها. وهذا النوع من التصوف لم يكن جديداً على

(1/7360)

المجتمع الشامي، إنما كان معروفاً منذ فترة طويلة قبل حلول المغاربة في الشام، الذين وجدوا فيها بيئة صالحة لمثل هذا الاتجاه، الذي يمكن أن يكون سببه زهد صاحبه وعدم اكتراثه في الحياة الدنيا نتيجة تحولات مدمرة ومؤلمة على ساحة المجتمع الذي ينتمي إليه، بحيث يكون في هذا المجتمع مقهوراً لا قاهراً وعبداً لا سيداً.

... أما القسم الثاني من المتصوفة المغاربة، فقد مثله بوضوح المتصوف المغربي الأندلسي محيي الدين بن عربي، صاحب فكرة مذهب وحدة الوجود، الذي عُدَّ من المفاهيم الجديدة والغريبة على المجتمع الشامي في

(1/7361)

حينه. ويُعد ابن عربي هذا أعظم شخصية مغربية سكنت بلاد الشام في العصور الوسطى موضوع هذا البحث، من حيث تأثير أفكاره وإنتاجه. فقد كانت أفكاره مثار جدل ونقاش دام عدة قرون بعد وفاته وما زالت حتى أيامنا هذه. والجديد في مؤلفاته كما ذكرنا هو مذهبه في وحدة الوجود، الذي لم يكن له وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل ابن عربي. فهو الواضع الحقيقي لدعائمه، والمؤسس لمدرسته، والمفصل لمعانيه ومراميه، والمصدر له بتلك الصورة النهائية، التي أخذ بها كل من تكلم في هذا المذهب من العلماء المسلمين من بعده(1)

__________

(1) ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، طبعة بيروت، 1946، ج 1، ص. 25.

(1/7362)

. فهو بذلك صاحب أول مذهب فكري جديد ومبتكر، انفرد وتميز به عن كل المغاربة الذين احتضنتهم بلاد الشام. وتأتي عظمة وقيمة مؤلفاته، وبخاصة تلك التي جسد فيها مذهبه، من أنها لم تعتمد على مصادر مكتوبة، الأمر الذي جعل من ابن عربي شخصية مجتهدة، ذات فكر استقلالي ذاتي. وقد عبر عن هذه السمة في عدة مواضع. ففي رسالة كان أرسلها إلى فخر الدين الرازي، الذي عُرف بسعة علمه واطلاعه نقلها الشعراني في "طبقاتـ"ـه، جاء فيها قوله:

(1/7363)

... اعلم ـ يا أخي، وفقنا الله وإياك! ـ أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن من كان علمه مستفاداً من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات، وذلك معلول عند الله عز وجل... (1).

وعبّر في موضع آخر عن الفكرة ذاتها بقوله شعراً:

لقد حرّم الرحمن تقليد مالك ... وأحمد والنعمان والكل ما غدروا

وقال أيضاً:

__________

(1) الشعراني، الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، طبعة مصر، 1305 هـ، ج 1، ص. 5.

(1/7364)

لست ممن يقول قال ابن حزم ... ولا أحمد ولا النعمان(1).

... ويعلق المفكر الإسباني أنخل خنثالث بالنثيا على أقواله هذه »بأن ابن عربي يريد بذلك أن يمنع قارئه بهذه الحقيقة دونما شك، وذلك على الرغم من وجود أفكاره هذه بحرفيتها تقريباً في كتب سابقة عليه كأرسطو وغيره« (2).

... وأهم مؤلفاته من الناحية الفكرية والجديدة كتاباه "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية"، مع أنه ألف أكثر من عشرين كتاباً تُعد كلها جديدة على المجتمع

__________

(1) ابن العماد الحنبلي، المصدر السابق، ج 5، ص. 200.

(2) بالنثيا، المرجع السابق، ص. 383.

(1/7365)

الشامي في ذلك الوقت. ومهما يكن من أمر، فإن ابن عربي يُعد بحق من عظام المغاربة نزلاء الشام، الذين استطاعوا أن يتركوا بصمات خالدة على جبين الحضارة الإنسانية، وذلك بغض النظر عن أقوال الحاقدين والشناع، الذين لم ينصفوه بشيء فأساءوا له وللعلم ولأنفسهم على حدٍّ سواء.

... يظهر من كل ما تقدم أن الجالية العلمية المغربية الأندلسية ساهمت إلى حدٍ كبير في استمرار الزخم العلمي الحضاري على مختلف فروعه، وذلك من خلال التدريس والتأليف ونقل الكتب المغربية والأندلسية ذات الشهرة الكبيرة. فقد بلغ عدد الكتب التي ألفها

(1/7366)

رجال هذه الفئة من المغاربة، مضافاً إليهم ما وضعه هو وغيرهم من العاملين في المساجد والزوايا المالكية الخاصة، بلغ أكثر من مئة وخمسين كتاباً، كان بعضها جديداً ومبتكراً كما في القراءات والنحو والصرف والصيدلة والتصوف. أضف إلى ذلك أن عدداً كبيراً من المؤلفات المغربية(1)

__________

(1) من هذه المؤلفات: "الجزولية" و"الشاطبية" وكتاب "الشفاء" للقاضي عياض وكتاب "سراج الملوك" للطرطوشي، وبعض الكتب اليونانية التي نقلها بعض الأطباء المغاربة كابن البيطار الذي جاء بكتب جالينوس وديسقوريدس إلى دمشق. ونقل غيره كتب ابن زهر؛ كما أن بعضهم جاء بكتبه كابن الرومية النباتي، إضافة إلى كتب في المذهب المالكي كـ"الموطإ" وغيره.

(1/7367)

كان قد نقلها إلى الشام بعض العلماء المغاربة، فتلاقت بذلك الخبرة المغربية مع الخبرة الشامية، واتحدتا لتؤلفا ذخراً علمياً بديعاً، ما زال بعضه يشغل أهمية خاصة حتى أيامنا هذه. كما أن عدد التلاميذ الذين تخرجوا على العلماء المغاربة في مختلف الاختصاصات بلغ اكثر من ثلاثين تلميذاً ـ حسب معطيات المصادر ـ من الذين شغلوا مراكز قيادية عالية في مجال العلم والإدارة وغير ذلك. ووصل الأمر ببعض هؤلاء إلى أنهم تفوقوا على أساتذتهم في كثير من الأحيان، هذا عدا التلاميذ الآخرين الذين لم يشتهروا إلى الحد الذي وصل إليه

(1/7368)

أولئك الذين ذكرتهم كتب التراجم.

... ومن الأنشطة المغربية في الشام يمكن أن نتحدث عن مساهمات أهل المغرب في مجال الإدارة العامة، التي لم تكن كبيرة، باستثناء منصب القضاء على المذهبين المالكي والشافعي، على الرغم من أنهم أبناء بيئة خبيرة بهذه الشؤون. فلم يُعرف أن أحداً منهم تسلم نائباً في الحكم في أيّ منطقة شامية أو أصبح وزيراً، أو غير ذلك من المناصب الإدارية الكبيرة التي كان لها مساس بالحياة السياسية. وكانت أفضل المراكز التي شغلوها في هذا الميدان مراكز عادية، لم تتعد كاتباً صغيراً في ديوان الإنشاء

(1/7369)

أو في أي مركز مماثل، مع وجود بعض الاستثناءات النادرة. مثال ذلك أن أربعة منهم توصلوا إلى مناصب رفيعة إلى حد ما، وهي مناصب تلي منصب القضاء مباشرة. فقد تسلم واحد من هؤلاء المغاربة الأربعة ناظر الدواوين بدمشق، وتسلم الثاني وكالة بيت المال بمدينة الكرك، وتسلم الثالث مدير أمن السجن المركزي بدمشق. أما الرابع(1)، فلم يتسلم أي منصب إداري معين، وهو رجب الدين الرجيحي التونسي؛ ومع ذلك، فإنه كان من المقربين جداً إلى الحكام بمدينة دمشق، فكانوا

__________

(1) انظر عنهم: الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 5، ص. 348 و 383.

(1/7370)

يعتمدون عليه في كثير من الأمور كما يبدو من حديث الصقاعي صاحب كتاب "تأليف وفيات الأعيان" عنه، ولا أدل على قيمته الكبيرة ومكانته المرموقة عند الحكام، من أنه أُقطع إحدى قرى غوطة دمشق، الأمر الذي كان لا يحصل إلا للشخصيات الكبيرة المتنفذة في الحكم من الولاة والنواب والأمراء في فترة حكم المماليك في مصر والشام(1).

__________

(1) الصقاعي، تالي كتاب وفيات الأعيان، تحقيق جاكلين سوبلة، طبعة دمشق، 1974، ص. 135؛ ابن حجر العسقلاني، المصدر السابق، ج 2، ص. 108.

(1/7371)

... وربما تعود ظاهرة غياب المغاربة عن المراكز الإدارية العالية بالشام، إلى أن هذه المناصب كانت على ما يبدو حكراً على أهل البلاد الأصليين، وبخاصة منهم أولئك الذين يمتون بصلة القرابة والدم إلى الحكام، كما كان معروفاً ويحدث في فترة حكم المماليك، الذين استأثروا بكل المناصب الإدارية القيادية. ويمكن ذكر سبب آخر ربما لا يبتعد كثيراً عن الواقع، هو أن المغاربة الذين كانت لديهم رغبة في الحصول على مثل هذه المناصب، نزعوا عن هذه الرغبة حينما وجدوا في بلاد الشام شخصيات إدارية لا تجارى في مجال عملها. مثال ذلك

(1/7372)

ما حدث لبعضهم أيام حكم صلاح الدين الأيوبي بمصر، وهو أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب بركن الدين أو جمال الدين. فقد قدم إلى مصر وكله أمل في التوصل إلى منصب إداري في ميدان الكتابة والإنشاء، على اعتبار أنها كانت محور اختصاصه الرئيس، لكنه عدل عن ذلك حينما وجد نفسه لا شيء بالمقارنة مع القاضي الفاضل وعماد الدين الأصفهاني الكاتب كاتبي صلاح الدين الأيوبي(1). لكن هذه الاقتناعات لم تكن

__________

(1) ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، طبعة بيروت، 1970، ج 4، ص. 385.

(1/7373)

ثابتة، بحيث يمكن اعتمادها أو القياس عليها بشكل لا يقبل الجدل. فقد انتهز المغاربة وتحينوا الفرص في كثير من الأحيان، لكن محاولاتهم باءت بالفشل لسبب أو لآخر، على الرغم مما عُرف عنهم من أمانة وإخلاص وإقدام. وخير مثال على ذلك ما حدث سنة 688 هـ/ 1270 م، حينما قدم علم الدين سنجر الشجاعي أحد نواب السلطنة المملوكية من مدينة طرابلس إلى دمشق، وتعرض لأهلها بالظلم والمصادرة مدحه شمس الدين محمد بن سليمان بن علي المعروف بالتلمساني المتوفى سنة 688 هـ/ 1270 م بدمشق بقصيدة نالت منه كل تقدير وإعجاب. لكن المذكور

(1/7374)

توفي بعد فترة وجيزة، فقال الشجاعي ما معناه: »لو كان التلمساني حياً، لكان نقله إلى وظيفة عالية« (1).

... أما في مجال القضاء، فقد كان دورهم أكبر وأكثر ظهوراً من غيره، إضافة إلى أنه من المناصب الإدارية العالية الجديدة على المجتمع الشامي، بحيث يمكن القول إن استحداثه في كثير من المدن الشامية كدمشق وبيت المقدس وحلب وحماه وغيرها، كان منوطاً بوجود جالية مغربية تستحق استحداث منصب كهذا. وقد بدأ دورهم جلياً بارزاً منذ أن أحدث منصب قاضي قضاة المالكية بمدينة دمشق لأول مرة

__________

(1) الصقاعي، المصدر السابق، ص. 82.

(1/7375)

سنة 664 هـ/ 1266 م. وقد شكل القضاة المغاربة مجموعة هامة في التشكيلة الإدارية الشامية، ذلك لأنهم شغلوا منصب القضاء المالكي طوال فترة حكم المماليك، وكانت معظم الجرائم الكبرى والخطيرة تُحال إليهم كجريمة شتم الدين الإسلامي أو الارتداد عن الإسلام أو التقليل من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبقية الأنبياء وما يشابه ذلك من أمور. كما أنهم تأثروا بالجو الذي كان سائداً في عصر المماليك، وبخاصة في ميدان القضاء، الذي لم يكن قضاء عادلاً ولا نقياً، ذلك لأن الكثيرين من القضاة على جميع المذاهب شغلوا منصب

(1/7376)

القضاء من خلال شرائه من أكبر السلطات المملوكية، وكان العديد من المغاربة قد جاء إلى القضاء من خلال هذا الأسلوب غير السوي على اعتبار أن المغاربة كانوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الشامي الذي عانى من هذه المسألة كثيراً(1). وإذا أردنا التحدث بتفصيل عن ممارسات المغاربة في مجال القضاء، لاحتاج الأمر إلى عدد كبير من الصفحات. وهذا ما

__________

(1) انظر أمثلة عن القضاة المغاربة الذين جاءوا عن طريق الرشوة إلى القضاء: ابن حجر العسقلاني، المصدر السابق، ج 3، ص. 167، و ج 2، ص. 343؛ وتاريخ ابن قاضي شهبة، ص ص. 495 ـ 496.

(1/7377)

يخرجنا عن مضمون هذا البحث وتوجهه. وسوف أبحث إن شاء الله وضع القضاة المغاربة في بلاد الشام في بحث مستقل ومستفيض.

... وقد كان للمغاربة دورهم الرائع في مجال الاقتصاد الشامي، فلم يكن بأقل من دورهم في أي مجال آخر. فقد حدث أن نقلوا أموراً جديدة كانت غير معروفة في بلاد الشام، وبخاصة في الميدان الصناعي الذي كان دورهم فيه كبيراً ومميزاً لكونهم ورثة مجتمع صناعي متقدم. فقد نقلوا إلى الشام صناعة الحرير وصباغته وتلوينه، الأمر الذي ساعد على انتشار هذه الصناعة في معظم مدن بلاد الشام(1)

__________

(1) ابن حجر العسقلاني، المصدر السابق، ج 3، ص. 206؛ الإدريسي، المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، ص. 197؛ الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، ص. 583.

(1/7378)

. كما نقلوا إلى الشام صناعة بعض الأواني والصحون التي تستخدم للطعام عُرفت في بلاد الشام بـ »المالقي«، نسبة إلى مالقة في جنوب الأندلس. وجدير بالذكر أن هذه التسمية ما زالت معروفة ومتداولة في سائر أنحاء بلاد الشام تقريباً.

... وإذا ما أردنا أن ننتقل إلى الزراعة والتجارة، نرى أن دور المغاربة في مجال الزراعة كان دوراً باهتاً في بلاد الشام. أما في التجارة، فكانت الصورة أفضل بكثير، إذ قام عدد هام من المغاربة بالعمل في مجال التجارة، وقدموا للمجتمع الشامي خدمات جليلة في كل فروع التجارة تقريباً. فقد قام

(1/7379)

الطبيب المغربي يوسف بن يحيى بن إسحق السبتي منذ وصوله إلى مدينة حلب بعمليات تجارية خارجية، وصل فيها إلى العراق وفارس والهند، وجمع أموالاً طائلة خصص قسماً منها لبناء صرح طبي بمدينة حلب(1)، وكذلك فعل الطبيب المغربي المعروف بالكلي، الذي ترك مهنة الطب وتحول إلى التجارة، واقتصر عمله الرئيس على شراء حاجيات المماليك من أهل السلطة بأرخص الأثمان وأوفرها(2).

__________

(1) القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص. 257.

(2) اليونيني، المصدر السابق، ج 3، ص ص. 193 ـ 194.

(1/7380)

... كما أن مجموعة كبيرة العدد من المغاربة يمكن أن نسميها المجموعة العمالية، تمحور وجودها بشكل خاص في المدن الكبرى الشامية، ولا سيما مدينة دمشق، وقدمت للمجتمع الشامي خدمات جليلة في القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية. وتميز أفراد هذه المجموعة بأجورهم الضئيلة، التي كانوا يحصلون عليها من حراسة الطواحين أو من حراسة البساتين أو من خلال اشتغالهم طباخين ومجهزي حمامات مرافقين لفرق الجيش. لذلك علت شهرتهم بصفتهم عمّالاً يرضون بأقل الأجور وأرخصها، مثلما علت شهرتهم وطارت على صعيد الأمانة والجد والإخلاص في

(1/7381)

العمل. وهذا ما جعل الطلب عليهم شديداً في معظم الأحيان، وبخاصة من قبل المسؤولين في الحكم والإدارة في الدولة. وإن دلت ظاهرة كهذه على شيء، فإنما تدل على إنجاز الأعمال مهما كانت بأقل مقدار من المال، الأمر الذي ينعكس إيجاباً في نهاية المطاف على الاقتصاد العام. ولعل أوضح الأمثلة على هذا الواقع ما حدث بمدينة دمشق سنة 823 هـ/ 1420 م، حينما جاء نائب دمشق إلى الجامع الأموي، وأخذ يفند مرتبات العاملين بالعمارة والبناء وفي النواحي الأخرى المتفرقة، فوجد أن المبلغ المخصص للعمارة وغيرها كبير جداً فقال للناظر

(1/7382)

والمباشرين: »باشروا ذلك بأنفسكم؛ وإن احتجتم إلى أمين على آلات العمارة، هاتوا مغربياً كل يوم بدرهمين؛ فإذا فرغت حاجتكم فيه، يروح«(1). وهذا يدل أيضاً على أن العمال المغاربة في بلاد الشام كانوا يشكلون قاعدة واسعة لها دورها الرائد في دعم الاقتصاد الشامي في كل المجالات في فترة هذا البحث.

... وبالجملة، فقد وجد المغاربة في بلاد الشام أرضاً صالحة، تقيهم شر العوز والحاجة وتخفف عنهم مرارة الشوق والبعد عن الوطن الأم، مما ساعدهم على الاستقرار يحدوهم إلى ذلك

__________

(1) النعيمي الدمشقي، المصدر السابق، ج 2، ص. 404.

(1/7383)

شعور عارم بالطمأنينة والهدوء. فلقد أحبهم شعب الشام وحكامها، وأكرموا مثواهم وأحسنوا منزلتهم وأعلوا قدرهم، واختصوهم بكل عناية ورعاية على مختلف فئاتهم. فمن أجلهم ابتنوا عدداً من المدارس والخوانق والزوايا، وبخاصة في مدينة دمشق وحلب وبيت المقدس. ففي مدينة دمشق خُصصت زاوية للمالكية بدمشق في الجامع الأموي الكبير، وبقيت وقفاً على المغاربة حتى نهاية العصور الوسطى، وكان يتولاها في أكثر الأحيان فقيه مالكي مغربي. وأسهم بعض أغنياء مدينة دمشق ببناء زاوية أخرى للمغاربة في أوائل القرن التاسع الهجري الخامس عشر

(1/7384)

الميلادي. وهذا الغني هو علاء المشهور بابن وطية. وهذه الزاوية عُرفت بزاوية ابن وطية. التي تقع على الشمال من جامع جراح بدمشق القديمة. وكان شرطها الرئيس أن تكون برسم المغاربة على اختلاف فئاتهم، وأن لا يكون النازل بها شريراً أو مبتدعاً، وأن لا يكون شيخها من القضاة أو الحكام. ويقول عنها النعيمي الدمشقي صاحب كتاب "الدارس في تاريخ المدارس": »وقفت على كتاب وقفها في أواخر جمادى الآخرة سنة واحد وتسعمئة، وتعرف الآن بزاوية المغاربة«. وخصص ابن وطية واقف هذه الزاوية عدة حوانيت بالقرب منها من أجل الصرف على

(1/7385)

المغاربة الموجودين فيها(1). وخصصت للمغاربة زاوية ثالثة عُرفت بالخانقاه الأندلسية بدمشق، وزاوية رابعة عرفت بالخانقاه السمياطية.

... وبلغ من اهتمام الشاميين بالمغاربة أن وقفوا على موتاهم مقابر خاصة بهم كمقبرة خليل بن زويزان، التي تقع إلى الجنوب من مقابر الصوفية، والتي وقفها على ما يبدو على الصالحين من الصوفية وغيرهم من العلماء المغاربة المشاهير. وكان أول الذين دفنوا بها من المغاربة أبو الحسن علي المراكشي(2)، والمقبرة التي تعرف

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 204.

(2) أبو شامة، الذيل على الروضتين، ص. 153.

(1/7386)

بـ»مقبرة فقراء المغاربة«، وتقع في سفح جبل قاسيون في مغارة الدم في شمال دمشق(1).

... ومن ناحية أخرى، وجد من أهل دمشق من وقف جزءاً من ثروته على فقهاء المغاربة بعد وفاته، مثل أحمد بن عبد الله الذهبي الكتبي المتوفى سنة 663 هـ/ 1265 م الذي يقول عنه رفيقه أبو شامة المقدسي في كتابه "الذيل على الروضتين": »...ثم بقي عندنا مدة عمره وخلف كتباً كثيرة وثروة ووقف داره على فقهاء المالكية(2) وأوصى لهم بثلث ماله وحَرَّضْتُه أن يقف شيئاً من أصول كتبه فلم

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 173.

(2) المالكية هنا تعني المغاربة.

(1/7387)

يفعل« (1). هذا، بالإضافة إلى الأراضي والبساتين التي خصصت للصرف عليهم منذ الفترة الأولى لحكم نور الدين زنكي الشهيد. وكذلك كان الأمر في بيت المقدس، إذ خصصت لهم زاوية واحدة في المسجد الأقصى تشبه تلك التي خصصت لهم في الجامع الأموي بدمشق، وخانقاه واحدة دعيت الخانقاه الفخرية(2).

... في الجهة المقابلة شكل المغاربة والأندلسيون جالية كبيرة العدد إلى حدٍ ما، لكن غياب الإحصائيات والأرقام الخاصة بهذه الجالية تجعل المرء

__________

(1) أبو شامة، المصدر السابق، ص. 235.

(2) التميمي، الأنس الجليل، ج 2، ص. 580 وما بعدها.

(1/7388)

يلجأ إلى التقدير التقريبي. وبهذا يمكن القول بشيء من المجازفة إن عدد المغاربة والأندلسيين في بلاد الشام بلغ عشرات الآلاف من مختلف الفئات، التي كانت فئة العمال والفقراء تشكل الغالبية العظمى منهم، وذلك بالاعتماد على بعض الإشارات التي وردت في بعض المصادر وبخاصة عن رجال الخدمة في الجيش الشامي، كالمقريزي، والقطاعات الاقتصادية الأخرى كما عند غيره. ومما يدل أيضاً على ضخامة عدد الجالية المغربية في الشام ظهور مناصب إدارية كبيرة خاصة بالمالكية من المغرب والأندلس كمنصب القضاء، الذي يشير بوضوح إلى العدد

(1/7389)

الهائل الذي شكله المغاربة في الشام، وبخاصة في فترة حكم المماليك التي شهدت هجرة مغربية وأندلسية كبيرة، حينما سقطت أكثر معاقل العرب والمسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، ذلك لأن منصباً كبيراً كالقضاء لا يمكن أن يستحوذ في مدينة لا تحتوي على عدد كبير من أتباع المذهب المالكي. والدليل على ذلك أن مدينة حمصٍ بوسط سورية، التي لم تذكر المصادر رغم كثرتها وتنوعها، أن مغربياً أو أندلسياً سكنها أو صل بها بشكل دائم، الأمر الذي جعل الحكام لا يعتمدون فيها قاضياً مالكياً طوال فترة هذا البحث.

(1/7390)

... اتسم رجال الجالية المغربية في الشام بالحيوية والنشاط، يحفزهم في تنفيذ أعمالهم الإخلاص والوفاء لأرض أعطتهم بسخاء وكرم. فلم يُعرف أنهم تخاذلوا في عمل أو تأخروا عن أداء مهمة أوكلت إليهم في أي ميدان وجدوا فيه. ولولا شذوذ بعض القضاة منهم واندفاعهم وراء مآربهم الشخصية والمادية، لكان بالإمكان القول إنهم جميعاً عُرفوا بالاستقامة وتحلوا بالأخلاق الفاضلة. فقد غدت عبارات الصدق والأمانة عناوين بارزة ميزتهم عن غيرهم، وجعلتهم في المقدمة على هذا الجانب الإنساني البحت.

(1/7391)

... بقي أن ننوه أنه، حتى يومنا هذا، ما زالت الأسر والعائلات في مختلف بلاد الشام، تعرف بكنى وأسماء مغربية، كعائلة الزواوي والبكري والتونسي والمغربي والمالقي. فعائلة البكري تكاد تنحصر في مدينة دمشق، وهي من العائلات المعروفة، وإن كان الأمر لا يخلو من وجود أقرباء لهم في مدينة حلب. وينحصر وجود عائلة الزواوي بدمشق وفلسطين. أما عائلة المالقي، فلها وجود قليل من مدينة دمشق. أما عائلة المغربي، فأغلب الظن أنها لا تعود إلى أرومة واحدة، على اعتبار أن كل من جاء من الأندلس أو المغرب على حد سواء عُرف بتسمية

(1/7392)

»المغربي«. أما عائلة التونسي، فهي منتشرة بدمشق.

(1/7393)

بلدان البحر المتوسط الغربي : آفاق اقتصادية وبيئية

الدكتور عبد الله العوينة ... ...

... ... الأستاذة جوهرة الوزاني التهامي

كلية الآداب - الرباط والمعهد الجامعي للبحث العلمي-الرباط

معروف أن حالة البيئة محددة أساسا بنوعية الأنشطة الاقتصادية والمنشآت البشرية. ذلك أن التأثير يبلغ من العمق ما يجعل النشاط الحالي للصناعة يحول جذريا كيمياء ودينامية الغلاف الجوي وبالتالي يؤدي إلى تغيرات شاملة قد تكون لها نتائج غير متوقعة. وبالنسبة لنوعية الأوساط البيئية والنظم الإحيائية يمكن أن يقال بأن التحولات

(1/7394)

الاصطناعية صارت منذ الآن جد متقدمة وهي في المستقبل تؤذن بالوصول إلى حالة تدهور، كما ستخلق تطورات تمس جوهر الإنسان على الأرض.

ولذا فإن محاولة ترقب التطورات البيئية يلزمنا بأن نتمعن الاختيارات الاقتصادية والتكنولوجية واستراتيجيات التنمية في البلدان المتوسطة. وابتداء من هنا محاولة تخيل النزاعات البيئية فيما يخص توفر الموارد وإطار العيش وجودة المحيط البيئي.

والإطار المجالي الذي نهتم به هو إطار البحر المتوسط الغربي؛ ذاك البحر المشترك بين الدول المطلة عليه والتي تتميز ببيئة طبيعية مبنية على تواتر

(1/7395)

أحيائي متشابه رغم أهمية الفروق والاختلافات الجزئية. كما تشترك في تاريخها القديم والمعاصر.

وتتميز حاليا وضعية الاقتصاد والمجتمع والبيئة على ضفتي البحر المتوسط الغربي بالتناقض :

- من جهة نجد دولا صناعية مجهزة حيث مشاكل البيئة نتاج للتقدم

الاقتصادي يرافقه على الخصوص مقدار مرتفع للإرسالات الغازية الملوثة، تدهور

متقدم للجو في التجمعات الحضرية، مجال اصطناعي في أغلبه، تلويثات متنوعة مرتبطة بامتداد المدن، وأخيرا تهميش مجال الأرياف الذي تحول قبل كل شيء إلى مجال للاستجمام.

(1/7396)

- على الضفة الأخرى، بلدان في طريق النمو، ضعيفة التصنيع والتجهيز، تنتج فيها مشاكل البيئة، أولا عن الاحتياج الذي يتمثل في اقتلاع جائر للمواد يترتب عنه تدهور الأراضي، كما يبرز عدم توازن أنظمة الإنتاج والاستهلاك وتدبير المجال، في غياب لتجهيزات فعالة ومؤسسات تدبير كافية. ونعيش حاليا إطارا اقتصاديا يدعو إلى الانفتاح على العالم وإلى التعاون الأورو - متوسطي.

وفي هذا الإطار فإنه من الطبيعي أن نتساءل عن الافاق الإكولوجية للبلدان المطلة على البحر المتوسط تبعا للاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لكل من هذه

(1/7397)

الدول.

ومنهاجنا سوف يدفعنا إلى تتبع مختلف القطاعات والأنشطة كما سيتم ذلك على مقياس البحر المتوسطي الغربي كافة، ثم على مستوى المغرب على وجه التحديد. وفيما يخص بلادنا سوف نقوم بمقارنة اختيارين أساسين :

- سيناريو الانفتاح على أوربا الذي تقضي به المعاهدات الموقعة والذي سوف يتم في أفق سنة 2010.

- سيناريو يتوخى التنمية المستديمة أولا وقبل كل شيء ويسعى إلى تطوير بطاقات والمواد الذاتية وخاصة منها المواد البشرية.

1- الفلاحة وآثارها البيئة :

(1/7398)

لا تمثل الفلاحة في بلدان البحر المتوسطي الغربي سوى نسبة محدودة من المنتوج الداخلي الخام، بينما نراها تقريبا في كل البلدان مازالت تلعب دور المحرك بالنسبة للاقتصاد. ويعتبر الري في هذه اليلدان - التي تشكو من جفاف الصيف - العامل الأساسي والوسيلة المثلى لتحقيق تكثيف الزراعة والرفع من الإنتاج، وهذا ما يجعل هذا القطاع يستهلك أكثر من 80% من المياه المتوفرة.

كما أن الزراعة في تناقس دائم مع الأنشطة الأخرى فيما يخص الماء والمجال. وإذا اعتبرنا بلدان الجنوب المتوسطي فإننا نجد أنها صارت تعرف نزعة نحو الخصاص

(1/7399)

في الإنتاج الغذائي. بل صارت تستورد المواد الغذائية الأساسية (قمح - أرز - سكر - زيوت) في وقت نجدها فيه تصدر الفواكه والخضر.

وهذا الخصاص في الإنتاج يميل إلى التفاقم باعتبار استمرار النمو الديموغرافي.

أما إذا قارنا الآثار البيئية للفلاحة في بلدان الشمال والجنوب المتوسطي فإننا نلاحظ :

- في الشمال : تعرف المساحة المزروعة الإجمالية تراجعا عاما، بينما تمتد المساحات المسقية، وهذا يعني مجموعة من الآثار على مستوى البيئة. أولها الحاجة إلى المزيد من الماء في وقت تطغى فيه الاستعمالات الحضرية والصناعية،

(1/7400)

الشيء الذي يلزم كثيرا من البلدان إلى إعادة مياه الواد الحار بعد تصفيتها للاستجابة لهذا الخصاص.

ثانيا : إن الإنتاج الفلاحي يتمركز في المواقع الأكثر صلاحية أي في السهول المتوسطية المعتدلة والمسقية والتي تتلقى فلاحات متخصصة، بينما تعرف المجالات الهامشية إفراغا بشريا وفي النشاط الفلاحي، وقد يؤدي هذا التخلي إلى نزعة نحو استرجاع هذه الأراضي المتدهورة لبعض من خصوبتها، وتوازنها.

وآخر مظهر تعرفها الفلاحة في بلدان الشمال التطور التقني المفرط والتطور السريع في المردودية، وهذا يعني قوة الارتباط بين الفلاحة

(1/7401)

من جهة، والأنشطة الأخرى الواقعة في عاليتها وسافلتها وخاصة الصناعة التي تمدها بالمعدات والموارد، وشبكات التجارة التي تتكفل بتسويق المنتوج الفلاحي.

- في بلدان الجنوب المتوسطي : في شمال افريقيا مازالت افريقيا الرقعة الزراعية تمتد كما يعرف الري التوسع والتقدم التقني، وهذا يعني ازدواجية القطاع الفلاحي الذي يضم إلى جانب المجالات المزروعة شديدة التطور إلى حد احتسابها لمظاهر صناعية - وجود قطاع منالفلاحة الهامشية التي تخص الأراضي الرديئة والمتدهورة. وقد صارت بعض جهات المغرب العربي وخاصة الجبال تسجل

(1/7402)

بوادر ظاهرة التخلي البشري عن طريق الهجرة. أما في عموم الأراضي الفلاحية فإن الخصاص في المكننة والتطوير التقني يساهم في تفسير التغايرات السنوية التي تطرأ على المردود.

ولذا فإن بلدان الجنوب المتوسطي توجد الآن أمام تحديات عدة تخص القطاع الفلاحي وتتجلى في ضرورة الانفتاح على السوق الخارجية في إطار من العولمة دون التخلي عن سياسة التدبير المستديم للمواد.

ويمكن أن نوجز النتائج البيئية للتطورات الطاعية المرتقبة في بلدان شمال افريقيا فيما يلي :

(1/7403)

- الرقعة الزراعية وصلت في هذه البلدان إلى حدود امتدادها المعقولة. وتوضح الدراسات بأن التوسعات التي تقع في المناطق الهامشة على حساب المراعي والتي تتطلب اجتثاث الغطاء النباتي الطبيعي، كلها تؤدي إلى ارتفاع خطورة آليات السيل والتذرية الريحية، وبالتالي إلى ظهور بوادر للتصحر.

- يظهر كذلك بأن السقي يقترب من حدوده القصوى ارتباطا بمحدودية الثروات، وبالتالي لم يبق ينتظر سوى ما سينتج عن مجهود التكثيف الزراعي. هذه المحدودية تعني بروز تنافس حول الماء فيما بين الاستعمالات المتعددة (الري - الماء الشروب -

(1/7404)

الصناعة - السياحة ...). كما أن تمليح الأراضي يمثل ظاهرة تهدد المجالات المسقة، وخاصة منها تلك التي تتلقى مقادير مفرطة من مياه الري.

أما تهديد التوحل الذي يكون أخطر ظاهرة تصيب الموارد المائية السطحية، والتي تتجلى في تناقض حقينات السدود على إثر تراكم الأوحال بسبب ارتفاع منسوب الانحراف في أعالي أحواض التصريف، فإنها قد تتسبب في تهديد أحد الاختيارات الأساسية التي تقوم عليه الفلاحة في هذه البلدان وخاصة منها المغرب الأقصى والذي يتمثل في توجيه جل المجهود للقطاع السقوي.

(1/7405)

- أصبح نظام التبادل في بلدان الجنوب يرتكز على ظاهرة استيراد المواد الغذائية الأساسية التي تصل إلى شمال افريقيا بأثمان السوق الدولية وتصدير الفواكه والخضر وهذا يعني القضاء على الزراعة التقليدية للمواد الغذائية الأساسية التي لن تتمكن من مجابهة منافسة المواد المستوردة وبالتالي ستعرف مزيدا من التهميش ومزيدا من الهجرة القروية، وفي وقت تعرف فيه المدن التضخم والتوسع. أما تصدير الفواكه والخضر فهو كثيرا ما يعني في المناطق التي تشكو من الخصاص المائي تسويقا للماء الذي يتطلب توفيره مجهودات ضخمة ومصاريف

(1/7406)

عالية.

- من أجل الحصول على تكثيف فلاحي لابد من إدماج الزراعة داخل نظام فلاحي صناعي متكامل وهذا يطرح مشكلين بيئيين :

أولهما أن استعمال المزيد من المخصبات والمواد الكيماوية يتسبب في مشاكل عظمى. التلوث يصيب في نفس الوقت مياه الفرشات الباطنية ومياه حقينات يمنع استعمال بعضها في حالة بلوغ مرحلة تهديد الصحة البشرية. ثانيهما أن المكننة المتفوقة والتي كانت الأساس في الثورة الزراعية في أوربا غالبا مالا تتكيف مع ظروف وطبيعة بيئة بلدان الجنوب وخاصة مع أتربتها الهشة.

(1/7407)

- يعرف القطاع العصري تطورا واضحا يتمثل في تكثيف أساليبه وارتفاع مردوده، ويتمثل هذا خصوصا في ارتفاع نسبة التدخين على حساب الرعي المتنقل. وفي هذا ولا شك آفاق لانخفاض الضغط على المراعي الطبيعية وخاصة منها مراعي المناطق الجافة. كما أن انتاج وتنويع الغذاء الحيواني من شأنه أن يعوض الخصاص الملحوظ في إنتاجية المراعي الطبيعية إلا أن التطور الذي تعرفه أساليب رعي الدواجن والتي ولا شك، قد كانت السبب في الاستجابة للطلبات المتزايدة للمواد البروتينية، يخلق في نفس الوقت مظاهر تلوث خطيرة بسبب تراكم أزبال هذه

(1/7408)

المصانع الحيوانية.

لكل هذه الأسباب كان من اللازم أن نحاول القيام بمقارنة بين أفقين ممكنين للتطور الزراعي : أفق الانفتاح المفرط على السوق الخارجية دون مراعاة التدبير المستديم للموارد، وأفق ثان أكثر حكمة يراعي هدف التنمية الذاتية ويحاول ضمان تجدد الموارد واحترام التوازنات الطبيعية.

1- اختيار الانفتاح على أوربا :

هذا الاختيار حتمي ولا يمكن التكشيك فيه، ولكنه كما يمكن أن يتخذ صبغة العقلانية بغية الوصول إلى مصلحة مشتركة، فإنه يمكن أن يؤول تأويلا سالبا. وذلك في حالة اختيار الانفتاح الكامل والمفرط دون

(1/7409)

مراعاة إشكالية استمرارية ودوام الموارد المحلية، سوف نقدم آثارها هذا الاختيار المفرط المستبعد على القطاع الفلاحي في بلدان شمال إفريقيا.

لا شك أن هذا الاختيار سوف يؤدي إلى تنمية القطاع الفلاحي وذلك لأنه سيفتح إمكانيتين أساسيتين :

- سهولة استقدام العناصر المساعدة للإنتاج والمتمثلة في الآليات والموارد الكيماوية المختلفة وذلك بأثمان منخفضة بعدما تكون واجبات الجمارك قد ألغيت.

- سهولة بيع المنتوج المغاربي في أوربا بعد أن تكون الاتفاقيات التجارية قد دخلت إلى حيز التنفيذ، خاصة وأن تكلفة إنتاج هذه

(1/7410)

المواد ستكون قد عرفت انخفاضا محسوسا، الشيء الذي سيسهل تسويقها في الخارج.

من جهة أخرى سيمكن هذا الاختيار من تحويل جل الموارد البشرية والمالية في اتجاه القطاعات الفلاحية المنتجة لمواد التصدير الأكثر مردودية، وهذا سيجعل هذه القطاعات تعرف زيادة في الإنتاجية بعدما تخصص لها أجود الأراضي وأحسن الظروف الطبيعية.

كما أن تصدير المنتوجات الفلاحية المغاربية إلى أوربا والذي سيخضع لمجموعة من الشروط مثل الجودة وعدم الإراط في استعمال المبيدات والمواد الكيماوية المختلفة ذات الآثار السلبية على الصحة البشرية، سوف

(1/7411)

يلزم المنتجين بتبني طرق زراعية أقل خطورة على سلامة الوسط البيئي.

إلا أن هذا الاختيار ستكون له مجموعة من النتائج السلبية :

+ ستعرف المداخيل الضريبية، ومداخيل الجمارك انخفاضا محسوسا، وفي هذا تقليص ضمني لإمكانيات الاستثمار الفلاحي وهكذا سينجد القطاعات الهامشية في البوادي مثل أراضي البور ضعيفة الإنتاج، والأراضي الغابوية ومراعي المناطق الجافة، تفتقر إلى تلك المساعدات التي كانت تقدمها الدولة من أجل الحفاظ عليها ومن أجل تنميتها. وهكذا وفي وقت نجد فيه قطاعات التصدير تنمو وتتقدم، سنجد هذه القطاعات

(1/7412)

الهامشية تتأزم فيهجرها السكان وتعرف ظاهرة التصحر البشري.

+ تنمية القطاعات المربحة لن تمنع من ظهور تنافس حاد بين المنتجين سيأتي بالتدريج على المنتجين الصغار ويضعف إنتاجهم.

وهكذا سيحصل بالفعل هذا التنافس تهميش للمناطق الهشة وضعيفة الإنتاج، كما سيحدث تفقيرا متزايدا لصغار الفلاحين. من الناحية البيئية يمكن تصور أن يكون لكل هذا بعض النتائج الإيجابية مثل التخفيف من الوطأة البشرية على الأراضي والموارد الهشة (المراعي - الغابات - أتربة فقيرة إلخ ...) إلا ان هجرة السكان وما قد ينتج عنها من تخل عن منشآت

(1/7413)

وتجهيزات غايتها تدبير الماء والتربة، وتلعب محليا دور الوقاية، كل هذا قد يؤدي في بعض المواقع إلى تفاقم الوضع البيئي وإلى تدهورات غير منتظرة.

2- اختيار الانفتاح مع مراعاة ضرورة التنمية المستديمة :

في هذا الإختيار سوف تعطى الأسبقية لتنمية الموارد الوطنية بهدف بلوغ الإكتفاء الذاتي، مع سن سياسة توجيه من طرف الدولة، وهذا يعني البحث عن تزويد منتظم للسوق الداخلي بالمواد الأساسية للاستهلاك. ويعني كذلك أن التصدير لن يكون إلا ثانويا، كما لن يتم طلب تدخل البلدان الأجنبية إلا من أجل البحث عن الخبرة الخاصة

(1/7414)

في ميادين محدودة أو بحثا عن تمويل يهدف إلى تنشيط الإستثمار.

يقوم هذا الاختيار كذلك على تشجيع التكامل بين قطاعات فلاحية مختلفة دون التخلي عن أي منهما. وهكذا سوف يتم تعميم تقنيات الفلاحة العصرية بشكل تدريجي، وفي نفس الوقت سوف يتم تحديث عدد من التقنيات التقليدية المتكيفة مع البيئة المحلية، بحثا عن تخفيف الكلفة عن القطاع الزراعي. أما اختيار تنمية المواد الغذائية الأساسية (قمح - قطاني - مواد علفية - زيوت - سكر ...) فإنه سوف يؤدي إلى الحد من الاستيراد مع تشجيع الصناعات المحلية الغذائية والتي سوف

(1/7415)

تستعمل تقنيات عصرية محلية ومتكيفة. وبإعطاء كل الهمية لمختلف القطاعات سوف يحدث مجهود من أجل استثمار المنتوجات المحلية بهدف تهيئة إقليمية متزنة، ولا شك أن هذا سيثبت للمزارعين رغبة الدولة والمسؤولين في الرفع من مستواهم الاقتصادي،وبالتالي سوف يحثهم على المساهمة الفعالة في البرامج افنمائية وعلى الاستمرار في رعاية التجهيزات التي تقيمها الدولة، والمنشآت الخاصة، وهكذا فإن الحس البيئي، سستنمى لدى المزارعين لأنه سوف ينتج عن إرادة عميقة في استمرارية النشاط الفلاحي، واستدامة الموارد، وهذا يعني اقتصادا في

(1/7416)

استعمال المخصبات والمبيدات واقتصادا في المجال والماء.

2- الصناعة وآثارها البيئية :

قطاع الصناعة محوري في الاقتصاد العصري لبلدان البحر المتوسط. فالصناعة صارت تنتج مواد متنوعة، وتساهم بقسط وافر في المنتوج الوطني الخام وتستقبل استثمارات هائلة، ويواكبها مجهود ضخم في البحث التكنولوجي. وأحسن مثال على التطور الصناعي السريع، مثال اسبانيا التي عرفت تطورات عميقة في بعض عقود جعلتها تمر من وضعية الدولة المتخلفة إلى وضعية دولة عرفت نموا مطردا.

(1/7417)

أما فيما يخص علاقات الصناعة والبيئة، فيمكن القول بأن الصناعة هي القطاع الذي ينتج أكبر كمية من الملوثات وعلى مستويات عدة (تلويث الغلاف الجوي، والمياه القارية، ومياه البحر ...).

ولذا قامت كثير من الدول بالبحث عن مناهج صناعية تسمح بتصور استمرارية الموارد مع تقليص مقدار التلويث. وتخص هذه الأبحاث التكنولوجية ميدان الطاقة (اقتصاد في الطاقة - بحث عن موارد طاقة أقل إضرارا بالجو) وبإعادة استعمال النفايات قصد تقليص تراكمها بل الاستفاذة منها. ويتضح بأن هذه الأبحاث تمثل هدفا حيويا لما ثمتله الغازات

(1/7418)

والنفايات من أضرار على التوازن المناخي للكرة الأرضية، ولما ينتج عنها من آثار سلبية على صحة السكان وخاصة في التجمعات الحضرية، تلك النتائج التي تقدر تكلفتها الاقتصادية بأموال طائلة. إلا أنه مازال يلاحظ تفاوت واضح ما بين شمال وجنوب البحر المتوسط، ذلك أن فرنسا وإيطاليا واسبانيا تمثل لوحدها ما يساوي 85% من المنتوج الصناعي للحوض المتوسطي، بينما منتوج الجنوب مازال في مستوى متأخر.

وإذا قمنا بمقارنة ما بين نزعة التطور الصناعي وآثاره في الشمال والجنوب فإننا نلاحظ التالي :

(1/7419)

1- في الشمال : يعرف قطاع الصناعة المعهودة (قطاع الصناعة الثقيلة مثلا) تراجعا واضحا في عدد الوحدات واليد العاملة التي تشتغل بها الشيء الذي يتسبب في تضاؤل التلويث الناجم عنها.

على عكس ذلك تنمو بسرعة، قطاعات صناعية حديثة تتميز بالتكنولوجية

العالية والدقيقة وهي صناعات ضعيفة التلويث في الظروف العادية لأنها محاطة بوقاية

كبيرة. وكمثال عليها إنتاج الطاقة النووية. إلا أن الأخطار الناجمة عن حوادث غير منتظرة تهدد البيئة وصحة السكان، بكارثة حقيقية قد تكون لها عواقب على الأمد الطويل.

(1/7420)

وتنمو كذلك في الوقت الراهن، الصناعات القائمة على التكنولوجيات الحيوية، ولها دور أساسي في تقليص التلوث، بل تساهم هذه الصناعات في تصفية الأوساط المختلفة والمائية خاصة.

إلا أنه على المستوى المجالي مازالت تعرف الصناعة الأوروبية نزعة نحو التركز خاصة على خط الساحل وذلك لارتباطها بالتسويق الخارجي. وفي هذا التركز آثار سلبية على البيئة من جهة بسبب تنافس الصناعة مع أنشطة أخرى مثل التمدن والسياحة، وثانيا بسبب تركز النفايات الصناعية في هذا المجال الحيوي.

(1/7421)

2- في دول الجنوب : تعرف الصناعة في شمال افريقيا تطورا كذلك، وذلك بسبب النمو السريع الذي بعرفه السوق الداخلي لهذه البلدان وكذلك بسبب ضعف تكلفة الإنتاج وبالتالي سهولة إمكانية التصدير.

إلا أن عدة عوائق داخلية وخارجية تقف في وجه التصنع، أولها اشتداد المنافسة الأجنبية، وثانيا جمود مستوى الدخل وبالتالي جمود الاستهلاك الوطني، ولذا وبسبب تفاقم هذه العوائق يمكن اعتبار أن التكلفة الإكولوجية الرامية إلى تقليص التلوث والنفايات تمثل عائقا يصعب تجاوزه.

(1/7422)

فاستعمال التكنولوجية المتقدمة مثلا رهين بأن يحد من التهديد البيئي الذي يمثله التلوث، إلا أن نفقات هذه التكنولوجية باهضة وقابلة بأن تجعل تكلفة المنتوج عالية بالمقارنة مع مستوى عيش السكان. كما يطرح بإلحاح مشكل التمكن من هذه التكنولوجيات في بلدان تستوردها ومازالت لم تتمكن من إنتاجها.

على المستوى المجالي يلاحظ تركز الصناعات في المنطقة الساحلية مثلها يقع في

بلدان الشمال. الشيء الذي تحد من النفايات. ولذا فإن التعاون شمال - جنوب

يمكنه أن يمثل حظا بالنسبة لبلدان الجنوب، لما قد يحتمه من معايير الجودة

(1/7423)

تخص في نفس الوقت المنتوج وموقع الإنتاج. وهذا التعاون يجب أن يوجه نحو مساعدة دول الجنوب من أجل الوصول إلى تنمية صناعية مستديمة وذلك عن طريق المزيد من المساعدات المالية والتكنولوجية.

الصناعة المغربية ووضعها البيئي : منذ سنين اقترحت وزارة الصناعة بالمغرب أن تسن سياسة للتصنيع، تسعى إلى التنمية في إطار إيكولوجي مستديم. وهذا يعني تنمية الأدوات والوسائل من أجل نماء معقول المقدار، دون ان تكون له نتائج وخيمة على البيئة. وللوصول إلى هذه الغاية تقترح وزارة الصناعة استغلال الموارد الفعالة والمنتجة والأقل

(1/7424)

تلويثا.

تنبني الصناعة المغربية أولا على اللبرالية والتفتح على الخارج، إلا أن الانفتاح المفرط قد تكون له بعض النتائج السلبية :

فهو يعني أولا أن كل الموارد قابلة للتنافسية مع الموارد الأجنبية، ستصبح محكوما عليها بتوقف التشغيل والاستعمال، وذلك بهدف تركيز النماء على القطاعات المصدرة، بينما القطاعات المنتجة للسوق الداخلية لن تعرف نفس التطور.

والقطاع الخاص هو المحرك الأساسي لهذا النجاح. وهذا يعني تنافسية داخلية قد يذهب بعض الصناع ضحيتها. في حين تتضمن هذه التنافسية عدة جوانب إيجابية منها التسارع من

(1/7425)

أجل الرفع من المردود، ولزوم إعادة تشكيل الجهاز الصناعي.

من الجوانب السالبة للتصنيع في غطار الانفتاح المفرط كذلك تركز النشاط الصناعي كله في المحور الشمالي الغربي للبلاد في وقت تعرف فيه المناطق الأخرى تأزما لقطاعاتها الصناعية. ويستدعي هذا التركيز في المنطقة الشمالية الغربية، عصرنة الموانئ والمطارات الموجودة فيها، وتحسين التجهيز الأساسي والتجهيزات المساعدة مثل تحضير المناطق الصناعية وطرق المواصلات السلكية واللاسلكية من هاتف وأنترنيت.

(1/7426)

أما اختيار التصنيع الذي يراعي البيئة، وينبني على الموارد الوطنية، والهادف إلى

التنمية مستديمة فإن إيجابيته أكثر من سلبياته. فهو يدعو إلى استعمال أفضل

للموارد الوطنية، وإلى استثمار الثروات المحلية. وهو يدعو كذلك إلى التوازن بين مختلف

القطاعات حيث يسمح بتنمية قطاع عصري فائق التقدم يتعايش إلى جانبه قطاع

آخر يستجيب لحاجيات السكان، ينبني على عصرنة الحرف التقليدية، وعلى عقلنة جهاز التصنيع باستعمال تكنولوجيات متكيفة.

(1/7427)

يدعو هذا الإختيار كذلك إلى استمرار الدور الذي تلعبه السلطات العمومية على مستوى سن سياسة للتهيئة المجالية، وعلى مستوى التنمية المحلية، وأخيرا على مستوى تشجيع القطاعات الصناعية المتأزمة. وهكذا نحصل على توازن مجالي بين مختلف مناطق الوطن. وتعرف المناطق الداخلية والجنوبية تجهيزات لا تقل عن تلك التي تتلقاها أقاليم الشمال الغربي، في وقت يتم فيه الحد من التلويث الذي قد ينجم عن التركز المفرط.

3- قطاع الطاقة :

(1/7428)

تشير المقارنة بين بلدان الشمال المتوسطي والجنوب إلى اختلافات هامة على مستوى هذا القطاع الحيوي للاقتصاد. ففي الشمال تستعمل موارد طاقة متنوعة، بينما يطغى البترول كمصدر أساسي للطاقة في الجنوب. والمنتظر من هذه الدول ان توسع استعمالها للطاقات المتجددة التي تزخر بها بيئتها كالطاقة الشمسية والريحية على الخصوص. ويصبح هذا الاختيار حتميا بالنسبة للبلدان غير منتجة للبترول. إلا أن عدم التمكن التكنولوجي لم يسمح إلى الآن بالحصول على هذا التطور النوعي الذي سوف يسمح بالحفاظ على البيئة.

(1/7429)

أما قطاع الطاقة النووية فهو يلعب دورا أساسيا في بلدان الشمال وهو يحظى بوقاية وتقنين جد حرصين مخافة حصول حوادث قد تكون لها آثار وخيمة. إلا أن احتمال وقوع هذه الأحداث يبقى واردا رغم كل هذه الاحتياطات.

وهذا ما يجعل إمكانية تطوير هذه الطاقة في بلدان الجنوب شيئا مستبعدا رغم الفوائد الكبرى التي يمكن ان تجني منها خاصة في ميدان غنتاج الماء الشروب ابتداء من تحلية مياه البحر. ضعف التمكن التكنولوجي والنقص في تدبير المؤسسات كل هذا يرفع من احتمال تلك الحوادث الخطيرة.

(1/7430)

أما على مستوى الاستهلاك فإننا نلاحظ أن بلدان الشمال صارت تعرف نزعة

نحو استقرار الاستهلاك بسبب توقف نموها الديمغرافي وتوسعها الحضاري، وكذلك

بسبب انطلاق سياسة تسعى إلى تحسين مردود الطاقة وإلى الاقتصاد في استعمالها.

أما دول الجنوب فهي تعرف العكس بسبب التوسع المفرط لمدنها والحاجة الملحة للتجهيز بالكهرباء وكذا بسبب الخلل الحاصل في تدبير الاستهلاك.

وفيما يخص النتائج البيئية لقطاع الطاقة فعدم التوازن واضح بين بلدان الشمال والجنوب. فبلدان الشمال تساهم بقسط وافر في تلويث الغلاف الجوي المسؤول عن التغيير

(1/7431)

المناخي، بينما مساهمة دول الجنوب محدودة جدا. والاتفاقيات الدولية الخاصة بالتغير المناخي لها هدف أساسي هو الحصول على استقرار في مقدار الإرسالات الغازية وذلك بسن قوانين تحث على ذلك وتلزم المصنعين على استعمال تكنولوجيات تقلل منها. كما أنه يتم تشجيع البحث العلمي القادر وحده على اختراع تقنيات وأساليب للحصول على هذه النتيجة. وما دامت مسؤولية بلدان الشمال تفوق بكثير مسؤولية دول الجنوب فيما يحصل من تغيرات مناخية ذات العواقب المختلفة فإن دول الجنوب اعتبرت التوقيع على هذه المعاهدات الدولية حظا بالنسبة

(1/7432)

لها وذلك من اجل حصولها على مساعدات مادية وتكنولوجية تجعل مساهمتها في الإرسال الغازي تبقى متواضعة. وتحويل الإمكانات المادية هو من قبيل جعل دول الجنوب تسعى إلى سن طرق صناعية تتحاشى إطلاق الغازات المفرطة والاقتصاد في استعمال الطاقة.

ويبقى العالم القروي في دول الجنوب يشكو من ضعف تزويده بموارد الطاقة العصرية. وهذا ما يفسر استمرار الاستهلاك المفرط للخشب والفحم الخشبي كموارد أساسية للطاقة في البوادي. وهو ما يتسبب في ضغط مفرط على التشكيلات الغابوية ويفسر تدهورها. لذا يمكن القول أن البديل للوضع الراهن

(1/7433)

في دول الجنوب يكمن في تشجيع استعمال الطاقات المتجددة وخاصة منها الطاقة الشمسية التي تتكيف مع السكن المتفرق في الأرياف.

4- قطاع النقل :

يمثل قطاع النقل أساس انفتاح الاقتصاد حيث يربط بين المناطق القريبة والنائية

وهو قطاع يترك آثاره واضحة في المجال بشكل دائم ويوجه تهيئة التارب. تقنيات

هذا القطاع مازالت من إنتاج بلدان الشمال، وبالتالي مازالت دول الجنوب

تستوردها الشيء الذي يمثل بالنسبة لها كلفة مرتفعة. لكن الوضع الاجتماعي يحتم استعمال هذه الوسائل العصرية وذلك نظرا لشيوع حق الفرد في التحرك والنقل في

(1/7434)

ظروف من السهولة النسبية.

وللنقل آثار بيئية متعددة. أولها الضجيج الذي تنتجه الطرق والمطارات وخطوط السكة الحديدية.

ثانيها الاستهلاك المهم للطاقة وبالتالي إطلاق غازات مسؤولة عن التسخين الذي يعرفه الغلاف الجوي، وكذلك عن التلويث المفرط للتجمعات الحضرية الذي يسبب في أضرار ومشاكل صحية. كما أن وسائل النقل مسؤولة كذلك عن استهلاك متزايد للمجال كاتساع الطرق وخاصة منها السيارة. وفي هذا يدخل النقل في تنافس مع انشطة أخرى منتجة مثل النشاط الزراعي. كما يحدث انقطاعات مجالية قد تتسبب في فصل مجموعات بشرية بعضها

(1/7435)

عن بعض. إلا أن أهم أخطار ناجمة عن النقل هي تلك التي تحدث خلال نقل مواد خطيرة أو سامة وما يرافقها من كوارث غير منتظرة كمثلا التلوث البترولي للبحار من جراء غرق السفن الناقلة لهذه المادة.

ويمكننا أن نقارن بين أفقي الانفتاح على أوربا والتنيمة المستديمة وما ينتج عن كل منهما من آثار على البيئة.

اختيار الانفتاح على الخارج لم يكسب قطاع النقل تطورات هامة جدا على الأقل في مرحلة أولى تدوم حوالي 10 إلى 15 سنة وذلك لما يستطلبه من إعادة هيكلة تستهلك الكثير من الموارد فقطاع الطرق وحده سينمو وخاصة الطرق الكبرى

(1/7436)

المنفتحة على أوربا أي المحور شمال. جنوب الأطلنتي. أما السكك الحديدية فستعرف في هذا التوجه تطورا محدودا جدا وخاصة في المناطق الداخلية والجنوبية من المغرب. والسبب في هذا التطور المتناقض يكمن في أهمية الشاحنات الكبرى القادمة من اوربا من أجل استيراد وتصدير المواد وتتطلب هذه الحركة التجارية على الطرقات تحسين الربط بين مختلف ضفتي المضيق أو إنشاء ربط قار عليه.

وأخيرا ستعرف وسائل النقل الجوية الخارجية تطورا مهما، بينما تعرف الاتصالات الداخلية نوعا من الجمود.

(1/7437)

خلاصة القول إن هذا الاختيار سينجم عنه تفاوتات إقليمية من جهة، وبين قطاعات النقل المختلفة من جهة أخرى.

اختيار التنمية المستديمة :

إن البحث عن تنمية تنبني على الموارد الذاتية قد ينتج عنه ركود في وتيرة نمو قطاع النقل، خاصة الخارجي منه.

فقطاع النقل على الطرقات سيتوقف نموه على تطوير الاتصالات الداخلية المحلية من طرق ثلاثية وممرات غير معبدة. تسمح بتعميم الربط بين القوى والجهات النائية.

وسيعرف قطاع النقل الحضري العمومي تحسينا وتنويعا سوف يحد من استعمال السيارات الخاصة وبالتالي يقلل من إطلاق الغازات

(1/7438)

الملوثة.

أما السكك الحديدية فستعرف تطويرات هامة على مستوى نقل المسافرين والبضاعات وذلك لما سيستقبله من تشجيعات تهدف إلى الاقتصاد في المساحة والاقتصاد في الطاقة، خدمة للبيئة. ومن القطاعات التي ستنمو خطوط السكة الحديدية الحضرية، (خطوط المترو) وخطوط جديدة للبضائع الداخلية والمجالات الهامشية، وتحسين لوتيرة الربط ما بين المدن الكبرى مثلا ما بين مراكش وفاس وطنجة. وأخيرا تحسين للخدمات المقدمة.

أما قطاع النقل الجوي فسيتسم بالموازنة بين تشجيع النقل الداخلي الذي يتطلب مطارات صغيرة في المدن الوسطى وتطوير

(1/7439)

النقل الخارجي. خلاصة القول إن هذا الاختيار سوف يؤدي إلى توازن في التهيئة المجالية وإلى تشجيع متساوي لمختلف قطاعات النقل.

خاتمة :

تنتج بلدان الشمال المتوسطي ملوثات بمقادير عالية لها تأثير شمولي على

النظام الأرضي، بينما استطاعت على المستوى المحلي التحكم في البيئة فأنتجت محيط

عيش سليم من مظاهره المجهودات الكبيرة من اجل تصفية الجو، وجمع النفايات

وتحسين إطار العيش. هذا لا يمنع من وجود العديد من المعطيات المجهولة أو الخفية والتي هي من نتاج الأضرار البيئية مثلا الأمراض الخطيرة التي ينسبب فيها التلوث

(1/7440)

وبعض مظاهر النماء غير محكم.

أما دول الجنوب المتوسطي فإنتاجها محدود جدا على المستوى الشمولي ولا تأثير لها في الوقت الراهن على الأنظمة الكبرى، بينما محيط العيش على المستوى المحلي يتميز بالثلوث وعدم الصلاحية وبخلاف بلدان الشمال، هذا التلوث واضح للعيان محسوس بصفة مباشرة وله آثار آنية مثل أمراض المياه، وهي أضرار وقع التغلب عليها منذ القديم في أوربا.

وأفق انفتاح بلدان الجنوب لا يعني أبدا التوجه نحو نظام عيش موحد. فمجتمع بلدان الجنوب يجب أن يشجع اسمررية طرق تدبير المجال وأساليب العيش التي تحمل شحنة

(1/7441)

ثقافية وظاهرة التنوع، لأن هذه الأساليب تضم تقنيات وقاية وتهيئة متكيفة مع موارد المجال. تلك النوارد التي يحسن الإنسان بالانتماء إليها وبتملكها، والحفاظ على هذا التنوع سوف ينتج عنه اسمرار لحياة البوادي وللمناطق الهامشية حاليا، وسوف يحد من أخطار التراكم البشري في المدن المفقرة والملوثة.

تدبير البيئة لا يمكن ان يكون محكما في إطار السياسة اللبرالية المطلقة، وبدون تدخلات مهمة للدولة والجماعات المحلية عن طريق التشجيعات التي يمكن ان تقدمها للقطاعات المهمشة وعن طريق الاستثمار العمومي، مثلا للوقاية ضد

(1/7442)

الفقر والاحتياج، ومن أجل تنمية اجتماعية حقيقية، عن طريق سن قوانين متكيفة، وأخيرا عن طريق التعليم والتحسيس والتوعية وستسعى إلى تعميم أساليب إنتاج واستهلاك معقولة.

وفي دول الجنوب المتوسطي ذات الوسائل المادية المحدودة تعني التنمية المستديمة :

- أولا إعطاء الأولوية للوصفات البدائل التي تقترح حلولا ضعيفة التكلفة على حساب المشاريع ثقيلة التمويل وفي هذا الإطار تدخل عملية بحث وتطوير التقنيات والتقليدية لتدبير المجال القروي.

(1/7443)

- ثانيا إعطاء الأولوية للمورد البشري كعنصر محرك في عملية استنباط الوسائل على حساب التكنولوجية المستوردة غير المتحكم فيها.

أما التعاون شمال - جنوب فهو رهين بضمان نتائج إيجابية، ذلك لأن بلدان الجنوب المتوسطي وبدون المساعدات المادية الإضافية تبقى غير قادرة على وضع البيئة في المرتبة الأولى من بين اهتماماتها. كما انها بدون مساعدة تكنولوجية ومساعدة على نقل التحكم فيها، تبقى البيئة مهملة وبالتالي ستتقلص آفاق الشراكة المبنية على تبادل المنتوجات وخاصة منها الغذائية بين ضفتي البحر المتوسط.

(1/7444)

بيت المقدس بين الفاطميين والسلاجقة

... ... ... ... الدكتور عبد المنعم ماجد

... ... ... كلية الآداب ـ جامعة عين شمس ـ القاهرة

... لا شك في أن من أسباب ... تحرك الفاطميين من المغرب إلى مصر هو استنقاذ بيت المقدس من تطلعات بيزنطة، أو ما سماه العرب بالروم؛ لأنهم وإن كانوا يونان في الأصل، فإنهم اعتبروا ورثة الرومان في الشرق. وبيزنطة دولة نصرانية أصابها الضعف بعد أن نفاها العرب في أيام الخلفاء الراشدين والأمويين إلى أقصى بلادها في آسيا الصغرى وسيطروا على ممتلكاتها، وكادت تمحى من الوجود تماماً على

(1/7445)

أيديهم ثلاث مرات على الأقل. ولكن الروم قويت لما حكمتها الأسرة المقدونية النشيطة، وبضعف العباسيين المجاورين لهم(1)

__________

(1) ... لدينا نص مكتوب بالعربية يعرب بـ "القصيدة الأرمينية"، لأنه على شكل قصيدة، أو ربما كان كاتبه أرمنياً يعرف العربية، موجه من أمبراطور الروم نقفور فوقاس إلى الخليفة العباسي المطيع، يأمر فيه الخليفة بالرجوع إلى الحجاز وأرض صنعاء، وإخلاء البلاد التي استولى عليها من الروم (ابن كثير، البداية والنهاية"، ج 11، صص. 224 ـ 247). ومن ناحية أخرى، رد ابن حزم الأندلسي (ت. 456 هـ/ 1064 م) على هذه القصيدة بقصيدة إسلامية، عُرفت باسم "الفريدة الإسلامية"، بين فيها مثابرة المسلمين أمام الروم (المصدر نفسه، ص. 247).

(1/7446)

والذين حكموا المسلمين بعد الأمويين. فشرعت الروم تغزو بلاد الشام بدءاً من حكم نقفور فوقاس (Nicephorus Phocas) (963 ـ 969 م/ 352 ـ 359 هـ) الذي سماه العرب نقفور الفقاس والذي غزاها غزوات متتالية من 352 هـ/ 962 م(1)، واقترب في إحداها من بيت المقدس. فقد اعتبرت الروم المسيح إمبراطورها(2) (Christos Basilieus) وأنها حامية للمسيحية في الشرق، وكانت قد أقامت على

__________

(1) ... ابن الشحنة، الدر المنتخب في ترسيخ مملكة حلب، دمشق، ص. 32.

(2) ... انظر: Vie, grandeurs et misères de Baysance, Paris, 1954, p. 3 sq.

(1/7447)

"قبره" في القدس كنيسة القيامة المبجلة، مزار النصارى، والتي بناها الأسقف ماكسيموس (Maximus) (1) بأمر من قسطنطيس (Constantinus)، الأكبر، أول إمبراطور لدولة الروم.

... فعلى حسب قول المؤرخ المصري ابن تغري بردي(2)، فإن من أسباب مجيء الفاطميين إلى الشرق هو استيلاء الروم على الشام. وكان المعزّ لدين الله (341 ـ 365 هـ/ 952 ـ 975 م)، أول خليفة فاطمي لمصر، لما جاء إلى الأسكندرية كان يلمح مع جماعة من

__________

(1) ... وليام (وليم) الصوري، الحروب الصليبية، ترجمة حبشي، ج 1، ص. 70.

(2) ... النجوم، 4، ص. 72، س. 7.

(1/7448)

سكان الفسطاط أتت لاستقباله عن الحرب المقدسة، وأنه لم يسر لازدياد في مُلك ولا رجال، وإنما سار للجهاد ضد الروم؛ فقد اعتبر الفاطميون مبدأ الجهاد، الذي يراه أهل السنة ضرورة، دعامة من دعائم الإسلام، وركناً من أركانه(1).

... وما أن أسس الفاطميون خلافتهم في مصر، وكانت أعظم دولة إسلامية في وقتها تستند إلى أيديولوجية مذهبية تختلف عن مذهب العباسيين (فهم شيعة، والعباسيون سنة) وإلى قوة عسكرية ضاربة، وإلى اقتصاد متين، حتى قاتلوا الروم

__________

(1) ... النعمان، دعائم الإسلام، تحقيق فيضي، القاهرة، 1951، 1، ص. 399.

(1/7449)

بشدة في الشام، ومارسوا عليهم حرب الثغور بحماس شديد لم يحدث مثله منذ فترة طويلة. وقد لجأوا إلى وسائل متعددة في حربهم مع الروم، وكان أغلبها بالمجابهة بسبب تكرار غزو الروم للشام في عهدي تزيمسكس (Tzimiskes) الذي سماه العرب ابن الشميشقيق في 363 هـ/ 973 م، وباسيل الثاني (Basilios) الذي سماه العرب عظيم الروم، واشتهر بقاتل البُلغار (Bulgaroktnos)، والذي دخل الشام بمساعدة أسطول كبير في 375 هـ/ 985 م.

... فظهر لأول مرة في مصر التجنيد الإجباري (La levée en masse)، وهو ما سمي بالنفير أو النفير العام(1)

__________

(1) ... النجوم، 4، ص. 121، ص. 5.

(1/7450)

في المصريين "الناس"، فيأتي المصريون من أسوان إلى الإسكندرية، فيجمع منهم أعداد هائلة، ويكون ذلك بالمناداة بالسجلات أو الكتب(1) في مصر وسائر بلاد الشام إلى صد العدو والسير نحو ملك الروم؛ فاجتمع منهم بدمشق ما لم يجمع من قبل من العسكر. ولكن في بعض الأحايين لجأ الفاطميون إلى السلام مع الروم(2). فعقدت أول هدنة في عهد الحاكم بأمر الله لمدة عشر سنوات في 391 هـ/ 1001 م، تلتها هدنات أخرى في عهدي الظاهر

__________

(1) ... يحيى الأنطاكي، تاريخ، تحقيق شيخو، ص. 254 وما بعدها، ص. 268.

(2) ... المصدر نفسه، ص. 184.

(1/7451)

والمستنصر.

... ولما أراد الروم نقض الهدنة، أمر الحاكم بهدم كنيسة القيامة المقدسة في 400 هـ/ 1009 م، حتى لا تُتخذ حجة من جديد يتحرك الروم بسببها إلى بيت المقدس بقصد حمايته وحماية ذكرياته المسيحية الأخرى؛ إذ أصبحت أمنية الروم الأولى الوصول إليه. ولدينا نص الأمر بذلك. فقد أصدر الحاكم سجلاً(1) إلى واليه على القدس، كتبه أحد أقباط مصر جاء فيه: »أمر ال N مامة إليك بهدم

__________

(1) ... المصدر نفسه (P.O)، صص. 491 ـ 492 (283 ـ 284)؛ الكامل، ج 7، ص. 240؛ انظر: عنان، الحاكم، ص. 69؛ ماجد، الحاكم، صص. 99 ـ 100.

(1/7452)

قمامة ـ تسمية عربية لكنيسة القيامة ـ فاجعل سماءها أرضاً وطولها عرضاً«؛ وعُرفت باسم القمامة، لأن الخشبة التي صُلب عليها المسيح في رأيهم ألقيت عليها القمامة(1). ويقول المؤرخ الأوربي وليام (وليم) الصوري (2) (Willemero Terensi) عن هدم هذه الكنيسة: إنه سوى البناء بالأرض. كذلك أوقف الحاكم في بيت المقدس الاحتفال بالأعياد النصرانية (3)، وأجبر الروم فيه

__________

(1) ... ابن خلدون، المقدمة، ص. 282.

(2) ... وليم الصوري، الحروب الصليبية، ترجمة، 1، ص. 70.

(3) ... يحيى الأنطاكي (P.O)، المصدر نفسه، ص. 487 (279).

(1/7453)

على لبس علامات مميزة، بلبس ثياب سوداء، وتعليق الصليب وإبرازه. وفي الوقت ذاته، أرغم الحاكم جالية الروم في مصر على الخروج منها (1)، وكانت لهم حارة خاصة بهم في القاهرة(2). ولكن الروم تراجعت عن أطماعها، وجددت الهدنة، وأرسلت مهندسيها لإصلاح كنيسة القيامة، وعادت الزيارات التي توقفت إلى بيت المقدس. ويشيد وليام الصوري(3) بحسن مقابلة

__________

(1) ... المصدر نفسه (P.O)، ص. 519 (311)؛ انظر: أسد رستم، الروم، 2، ص. 64.

(2) ... الخطط، 3، ص. 12.

(3) ... وليم (وليام) الصوري، الحروب الصليبية، ترجمة، 1، ص. 75.

(1/7454)

الفاطميين لزوار بيت المقدس، مثلما كانت الحال في أيام عمر بن الخطاب؛ فمن قبل صاهر العزيز بالله الفاطمي (360 ـ 386 هـ/ 970 ـ 996 م) بطريرك المقدس(1)، ولم يكن العزيز بالله متسامحاً مع النصارى وحدهم، ولكن مع اليهود؛ وكانوا يزورون المقدس أيضاً.

... ومن اليقين أن الفاطميين قدروا تماماً ضرورة وحدة مصر والشام لوقف خطر الروم على بيت المقدس، وبدأوا تجربتهم الرائدة والفريدة في توحيد القطرين، لتكوين جبهة واحدة منهما، وذلك على الرغم من دسائس أعداء

__________

(1) ... يحيى الأنطاكي (P. O)، المصدر نفسه، ص. 415 (707).

(1/7455)

هذه الوحدة، ولا سيما من قبل العباسيين في العراق، الذين كانوا أقوى أعدائهم، حتى أنهم أخرجوهم من دين الإسلام، وأطلقوا عليهم "الرافضة"، أي أنهم رفضوه، وسموهم المجوس واليهود. وفي الواقع إن جميع خلفاء الفاطميين في مصر قاتلوا بشدة في سبيل الإبقاء على وحدة مصر والشام، والدليل على ذلك تمسك الفاطميين بتوحيد عملة القطرين، وجعل ميزانيتهما واحدة، وتوحيد القضاء، وغيره من نظم الدولة. وأكثر من ذلك، نشر الفاطميون دعوتهم في الشام على نطاق واسع، وهي الدعوة التي لا تزال باقية فيه حتى الآن على الرغم من زوالها

(1/7456)

نهائياً من مصر. فقد كانت وحدة مصر والشام الأساس لما يجب أن يكون عليه الحال كلما دق أعداء الإسلام ناقوس الخطر.

... ومن المؤكد أن الفاطميين منذ أن ظهرت دولتهم في مصر كانوا ملتزمين بإحساس قويّ بقضايا العرب، الذين نشأت عندهم في وقتهم إحساسات قومية، نتيجة للتراكمات التاريخية، ولعيشهم في دار الإسلام في إطار حدودي محدد واحد. فقد اعتبر الفاطميون قضايا العرب رسالة لهم، ولم يحاولوا الهروب من أثقالها ونكساتها ونكباتها. فأدركوا أهمية وحدة مصر والشام وتطبيقها عملياً؛ مما كان سبباً في إبعاد خطر الروم عن بيت

(1/7457)

المقدس. يُضاف إلى ذلك أن ثورة التعريب التي حدثت بين المصريين في وقتهم جعلت مصر جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، بحيث أصبحت رأساً في سياسة وحدة العرب، وعليها مسؤولية الدفاع عن قضاياهم.

... ولكن حدثت متغيرات في العالم الإسلامي بظهور المارد السلجوقي التركي الأصل(1) والذي جاء من أعماق القارة الأسيوية، وهم أبناء عم الغُزّ، نزحوا من شمالي قزوين إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا لهم دولة دائبة الحركة، واشتهروا بالاسم الفارسي "تركمان"، أي أنهم مسلمون بإيمان، مما

__________

(1) ... ناصر خسرو، سفر نامه، ترجمة عربية، ص. 20.

(1/7458)

أوجد خطراً جديداً على وحدة مصر والشام، ولا سيما على بيت المقدس في فلسطين، حيث سعوا إلى السيطرة عليه، وهو البقعة المقدسة عند المسلمين جميعاً(1). لم تكن المقدس في يوم من الأيام مركزاً صناعياً ولا مركزاً حربياً على عكس حلب ودمشق،

__________

(1) ... صدر الدين، أخبار الدولة السلجوقية، لاهور، 1933؛ عماد الدين محمد، تاريخ دولة آل سلجوق، مصر، 1318 هـ/ 1900 م، انظر: Cahen Slju-, Le Malik et l’Histoire des Origines kuides des Oriens, 2, OE, 1949, p. 31 sq.; Encyclopédie de l’Islam (art. « Seljukides », T4, 216.

(1/7459)

بل كانت بقعة مقدسة، ترتبط أشد الارتباط بالإسلام، بسبب أن إبراهيم أقام فيها المسجد الأقصى، مثلما أقام المسجد الحرام أو الكعبة المشرفة في مكة، ليكون هو أيضاً مقراً لعبادة الله الواحد، أو ما عرف بدين الحنيفة أو الحنيفية السمحة التي جاء الإسلام ليحميها، وكان قبلة المسلمين قبل أن تُحول القبلة إلى الكعبة، وبسب وجود الصخرة المقدسة، وهي حجر أزرق مسته أقدام إسماعيل بن إبراهيم، أبي العرب العدنانية، وكانت معراج نبي الإسلام. ولذلك اعتبر المسلمون بيت المقدس ثالث الحرمين بعد مكة والمدينة، وسمى بالقدس وإيلياء

(1/7460)

وأورشليم(1)؛ وكلها أسماء تعني القداسة، والطهارة، وبيت الله.

... فبسبب ظهور السلاجقة المسلمين، عادت المشاعر الإسلامية قوية، وأصبح الدين عندهم هو كل شيء، بينما لم يكن وحده عند الفاطميين، وإنما كان البشر أيضاً، متمثلاً في الإمام الفاطمي. لذلك انكمشت القوميات والعصبيات، ومنها القومية العربية؛ فلم يتعصب السلاجقة لجنسهم، على عكس الفاطميين الذين ركزوا على الهوية المصرية، بحيث

__________

(1) ... توجد بالأردن مدينة قدس، وهي ليست من جند فلسطين. انظر: اليعقوبي، كتاب البلدان، بيروت، 1408 هـ/ 1988 م، صص. 88 ـ 89.

(1/7461)

اشتهر الخليفة الفاطمي بالخليفة المصري، ودولته بدولة المصريين. بل كان السلاجقة يرون أن الدين الإسلامي يجب أن يكون سنِّيّاً ـ وهو مذهب الخلافة العباسية ـ وأن يلتف حوله بصفته وسيلة تسير بها الشعوب الإسلامية جميعها في طريق واحد، خصوصاً وأنهم أظهروا لها احتراماً كبيراً. فعلى أيديهم ظهرت المدرسة الفقهية، التي بلورت فكر السلاجقة السني، في القرن الرابع الهجري، واشتهرت باسم المدرسة النظامية، وهي أول مدرسة بنيت في الإسلام نسبة إلى المفكر والوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485 عـ/ 1092 م)، الذي كانت المساجد

(1/7462)

إلى عهده معاهد للعلم تعقد فيها حلقاته ودروسه. وكان نظام الملك أول من أنشأ معاهد مستقلة للتعليم يتفرغ فيها الطلاب للتعلم والمدرسون للتدريس. وقد أوقفت الأوقاف الكثيرة عليها وأسماها مدارس، بحيث عُممت في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وانتشرت في مدن العراق وفارس وخراسان، وبخاصة في بغداد عاصمة الخلاف. وكانت نحو الثلاثين كما ذكر الرحالة ابن جبير (540 ـ 614 هـ/ 1145 ـ 1217 م). فكان تعيين مدرسيها من صلاحية الوزير، وأهمها المدرسة الشافعية التي كانت في حرب مع المذهب الشيعي. فقد اعتبر هذا الوزير

(1/7463)

والمعلِّم أن التعليم في المدرسة من الوسائل في حربه، ولنشر المذهب الشافعي في مصر تولّى التدريس في المدرسة النظامية عدد من كبار الفقهاء الشافعية وأشهرهم الغزالي، كما تحولت المساجد هي أيضاً إلى خدمة المذهب السني، واعتبرت امتداداً للمدرسة. بل أحرقت أجزاء من كتاب إخوان الصفا ببغداد، ونُهي الناس عن قراءته، وقُتل من الإسماعيلية جماعة منهم(1)

__________

(1) ... ابن أيبك الداوداري، كنز الدرر وجامع الغزر، الدرة المضية في أخبار الدولة الفاطمية، تحقيق صلاح الدين المنجد، 1961، 6، ص. 453. أنشئت المدرسة النظامية سنة 457 هـ/ 1064 م؛ وانظر كذلك: ابن جبير، رحلة، ص. 114؛ حسين أمين، تاريخ العراق في العصر السلجوقي، بغداد، 1965، ص. 218 وما بعدها.

(1/7464)

.

... كذلك كان من أهداف السلاجقة الثابتة في عهد ألب أرسلان(1) سلطانهم الثاني، الذي خلف زعيمهم طغرلبك، الاستحواذ على ثقة المسلمين؛ إذ نجحوا في القضاء على أكبر عدو للمسلمين في وقتهم، وهو الروم، بالانتصار عليهم في موقعة منزيكَرت(2)

__________

(1) ... وفيات، ص. 442؛ انظر: Encyclopédie de l’Islam, (art. « Alp Arslân », I. p. 324; Tl, pp. 420-421.

(2) ... آل سلجوقن ص. 35 وما بعدها؛ الكامل، 8ن صص. 109 ـ 110؛ Psellos Chron 11,. 161-162; Dolger, Regesten, 972,. انظر: أسد رستم، الروم، 2، ص. 110 وما بعدها؛ Cahen, La Campagne de Mantzikert d’après les sources musulmanes. Ext de Byzantion. T. IX, Fasc. 2, 1934; Encyclopédie de l’Islam, (art. « Malazgerd », T. 3, pp. 214-215.

(1/7465)

(ملازكَرد أو منازكَرد)، على الفرات الأعلى في مدخل آسيا الصغرى في 463 هـ/ 1071 م، وهو انتصار لا يدانيه أي انتصار فاطمي سابق على الروم. فقد أبيد الجيش الرومي، وأسر إمبراطور بيزنطي لأول مرة، وهو رومانوس الرابع ديوجانس (Romanus IV Diogenes) ـ ويُسميه العرب أرمانوس ـ الذي تولى مهمة صَدِّ الأتراك السلاجقة، وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوربا وآسيا، مما قضى نهائياً على طموحات الروم وتطلعاتهم إلى استرداد بيت المقدس. فبعد ذلك، انتشر جنس الترك في آسيا الصغرى، وما يزالون فيها إلى وقتنا

(1/7466)

الحاضر. فكان ما قام به السلاجقة بانتصاراتهم المتواترة على الروم رد فعل لما حدث في العالم الإسلامي من تمزق وضعف، وتجديداً للنشاط الإسلامي؛ إذ اعتبروا أنفسهم امتداداً للعباسيين.

... وقد اضطربت دولة الفاطميين في مصر لوصول السلاجقة في عهد ألف أرسلان إلى حدود الشام(1)، ثم انتشارهم في الشام الفوقاني في عهد ابنه ملكشاه(2)، الذي أقطع أخاه تاج الدولة تُتش بن ألف أرسلان أملاك الفاطميين، وقرر له فتح الشام وديار

__________

(1) ... آل سلجوق، ص. 65؛ الكامل، ج 8، ص. 126.

(2) ... وفيات، ج 2، ص. 586 وما بعدها (بتفصيل).

(1/7467)

مصر وبلاد المغرب(1) ؛ فقرر تُتش لقائده أتسز بن أوق الخوارزمي المعروف بالأقسيس التحرك في جنوب الشام. ويعتبر المؤرخ سبط بن الجوزي المصدر التاريخي(2) الذي انفرد بأخبار مفصلة عن تحركات السلاجقة نحو بيت المقدس، الذي كان في أيدي الفاطميين منذ مجيئهم إلى مصر، ولهم نائب فيه سماه السلاجقة نائب المصري، ويقصدون به الخليفة الفاطمي، ومعه حامية فاطمية من سودان مصر والمصامدة

__________

(1) ... آل سلجوق، ص. 65؛ الكامل، ج 8، ص. 126.

(2) ... مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، الجزء الثامن، القسم الأول، نشر حيدر آباد، 1951.

(1/7468)

البربر؛ فقد قال أتسز: »حرم الله، لا أقاتله، وإنما أريد إقامة الدعوة الإمامية والسلطانية«. فدخل أتسز بيت المقدس في شوال 465 هـ/ 1073 م، ولم تُرق فيه دماء لحرمته، ونودي بالأمان لأهله؛ فأقام الدعوة للقائم العباسي والسلطان. كذلك جعل أتسز بيت المقدس قاعدة للانطلاق لاستكمال سيطرته على بلاد جنوب الشام.

... ولكن هزيمة أتسز في مصر على يد بدر الجمالي، وزير الفاطميين القوي الذي فرضه الخليفة المستنصر أمور مصر والشام وجميع ممالكه، جعلت بيت المقدس يخرج من نفوذ السلاجقة. فقد أعلن(1)

__________

(1) ... المصدر نفسه، صص. 184 ـ 185.

(1/7469)

القاضي والشهود فيه الخروج عن طاعة أتسز، واستولوا على أمواله وأولاده، مما جعل أتسز يعود إلى بيت المقدس، ويقتل في أهله. حتى الذين اجتمعوا بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة فإنهم لم يسلموا من عقابه؛ مما أغضب عليه تُتش لهزيمته في مصر ولقسوته وكثرة من قتل على يديه في بيت المقدس وقتله بذلك؛ وولى بدله سكمان أو سقمان بن أرتق وأخاه أبلغازي(1) في بيت المقدس. ولكن الوزير الفاطمي أمير الجيوش الأفضل ـ وهو لقبه الوزاري(2) ـ أبا القاسم شاهنشاه الذي

__________

(1) ... النجوم، ص. 159.

(2) ... السجلات المستنصرية، سجل رقم 15.

(1/7470)

تقلّد مثل أبيه بدر الجمالي تدبير مملكة مصر، سار على رأس حملة عسكرية لاستنقاذ بيت المقدس من أيدي السلاجقة؛ فاستولى عليه هو أيضاً بالأمان بمعاونة أهله، بعد حصار دام أربعين يوماً، في 489 هـ/ 1096 م(1)، وأناب فيه رجلاً عُرف بافتخار(2) الدولة، وأقام معه حامية مصرية.

... وقد بقى بيت المقدس بأيدي الفاطميين إلى وقت مجيء الفرنجة، حيث وقف الفاطميون السلاجقة بالمرصاد لمنعهم من العودة

__________

(1) ... النجوم، ج 5، ص. 591؛ الكامل، 8، ص. 189؛ ابن أبيك، الدرة، 6، ص. 447. يقول في 491 هـ.

(2) ... الكامل، 8، ص. 189.

(1/7471)

إليه، تارة بإثارة أهل الشام عليهم، وتارة بالدس بين قوادهم؛ كما وجدت بالشام فرقة شيعية منشقة عليهم عرفت بالإسماعيلية الشرقية أو الباطنية واشتهرت بالفداوية، كانت ذات تنظيم دقيق، وامتد نشاطها الأكبر في الشام، فعملت على قتل كبار السلاجقة؛ هكذا قتلوا منهم وزير ملكشاه والمتكلم في الدولة(1) نظام الملك وغيره؛ مما كان سبباً في إضعاف السلاجقة في الشام.

__________

(1) ... آل سلجوق، ص. 68؛ الكامل، 10، صص. 204 ـ 206؛ النجوم، 5، ص. 136/ 69؛ كذلك قتلوا آقسنقر (ابن أيبك، الدرة، 6، ص. 497).

(1/7472)

... ومهما يكن، فإن الصراع بين الفاطميين والسلاجقة على بيت المقدس أوقف الزيارات (Passagium) إليه، بحيث اتخذت ذريعة لحرب المسلمين من قبل الفرنجة أو الإفرنج أو فرنج (Frankos)، نسبة إلى أمة عُرفت بهذا الاسم في أوربا، فأطلق على كل أمم أروبا، وكانت تحولت إلى المسيحية، وأصبحت لها كنيسة قائمة بذاتها غير كنيسة الروم الأرثوذكسية. ويؤكد مؤرخو الفرنجة وحدهم أن هارون الرشيد جعل لأمبراطور الفرنجة شارلمان (Charlemagne) حق الإشراف المعنوي على بيت المقدس، وأرسل له جملة هدايا منها مفاتيح كنيسة القيامة المجيدة،

(1/7473)

مزار النصارى. ...

... فكان شعار الفرنجة في حرب المسلمين: »الله يريد ذلك« (Dieux le volt)، ويعلقون على الكتف الأيمن أو على الكتفين صليباً (Crux) من قماش أحمر زاهي اللون، فعرفت حروبهم ضد المسلمين بالحروب الصليبية (Cruzada) واعتبروا أنفسهم امتداداً للروم في حماية المسيحية. أما المؤرخون العرب، فسموا حروبهم بحركة الفرنج(1).

... وقد تحركت موجات الفرنجة المكثفة والشرسة إلى الشرق الإسلامي بمساعدة أوربا كلها، ليس بهدف تأمين سبل الحجاج فقط، بل بهدف تخليص بيت المقدس

__________

(1) ... النجوم، 5، ص. 146، ص. 3.

(1/7474)

نهائياً من سيطرة المسلمين وعودة الزيارات إليه، وبمشروع مبيت للاستيطان على الشام، ولا سيما في فلسطين، التي تعتبر واسطة العقد من المنطقة العربية، ولتحقيق رجحان أوربا في الميزان السكاني لصالحهم، مما أوجد ما عُرف في أوربا من يومئذ بالمسألة الشرقية (La Question d’Orient).

... وقد تحمل بنو سلجوق الضربات الأولى من الفرنجة وعجزوا عن صدهم، لأن دولتهم كانت تحمل في أساس نشأتها جرثومة الانحلال، إذ جرى سلاطين السلاجقة على عادة توزيع أملاكهم بين أبنائهم، على أن يكفلوا تربيتهم إلى قوادهم الذين يسمونهم

(1/7475)

بالأتابكة(1)، وهي لفظة تركية مفردها »أتابك«، مركبة من كلمة »أتا« بمعنى أب وكلمة »بك« بمعنى السيد أو الأمير، الذي يربي أولاد الملوك. فكان الأتابكة أشبه بالوزراء المستبدين. فلما توفي ملكشاه وترك من الأولاد أربعة(2)، قسّمت دولته بينهم في العراق والجزيرة وإيران وخراسان، فضلاً عن أنهم ومن بعدهم أبناؤهم كانوا يتنافسون على السيطرة على الخليفة العباسي الضعيف في بغداد. وكان من يسيطر عليه منهم يتخذ لقب سلطان، كما أن

__________

(1) ... انظر: حسن الباشا، الألقاب الإسلامية، ص. 122 وما بعدها.

(2) ... آل سلجوق، ص. 76.

(1/7476)

أقاربهم كانوا يستقلون ببلاد صغيرة أو كبيرة مبعثرة مثل جبله أو صُور، يتخذ الواحد منهم لقب أتابك، بحيث تحولت الدولة السلجوقية الواحدة إلى دويلات متحاسدة، تغمرها حروب داخلية.

... حقاً إن الفاطميين لم يتعاونوا مع الأتراك السلاجقة في صد الفرنجة، الذين استولوا على نيقية أو أنيقية(1) أو قونية ـ التي هي بلدة في آسيا الصغرى ـ وعلى

__________

(1) ... انظر: Gesta. English Transl, pp. 21-24. النجوم، 5، ص. 147. (يقول:» ما أدري ما كان السبب في عدم إخراج عساكر مصر، مع قدرته على المال والرجال« (معجم البلدان، 8، ص. 360),

(1/7477)

أنطاكية(1) في شمال الشام، وهي مدينة عظيمة، على الرغم مما بذله السلاجقة والعرب في الدفاع عنها. ومع ذلك، لا نصدق ما قيل من أن الفاطميين خانوا المسلمين، وأنهم هم الذين استدعوا الصليبيين إلى الشام ليستعينوا بهم على السلاجقة، أعدائهم، أو أنهم اتفقوا على اقتسام ممتلكات السلاجقة في الشام؛ فهم يحكمون شماله والفاطميون جنوبه. ومن الغريب أن بعض المؤرخين الحديثين يؤيدون ذلك(2)

__________

(1) ... Gesta, p. 34 sq.؛ "الكامل"، 8، صص. 185 ـ 186؛ معجم البلدان، 2، ص. 44.

(2) ... انظر: نور الدين محمود مؤنس، صص. 98 ـ 99؛ عاشور، الحركة الصليبية، ج 1، ص. 197.

(1/7478)

. ولكن ينفي هذا الرأي أنا رأينا كيف كان الفاطميون دائماً حماة الإسلام؛ فاستماتوا في الدفاع عنه، حينما هاجم الروم في الشام. ثم إن ابن الأثير صاحب هذه الرواية القديمة، وهو من بلاد الجزيرة في شمال العراق، هو نفسه يُشكِّك فيها، ويقول: »والله أعلم«(1). وعلى العكس، فإن السلاجقة كانوا هم الذين اتفقوا مع بيزنطة، في عهد أول زعيم سلجوقي وهو طغرلبك، على أخذ دولة الفاطميين(2). وأكبر الظن أنه لو أيدت المصادر الأوربية وقوع

__________

(1) ... الكامل، 8، ص. 186، س. 3 ـ 4.

(2) ... السيرة المؤيدية، صص. 94 ـ 95 وهامش.

(1/7479)

مفاوضات مع الفاطميين، لكانت مع الروم، وليس مع الفرنجة، وهي عادية في سياسة الفاطميين الذين عقدوا معهم معاهدات من قبل؛ إذ هادنوهم في زمن الحاكم بأمر الله كما ذكرنا. وعلى كل حال، كانت مفاوضات الفاطميين مع الروم ـ حتى إذا صحت في أثناء حملات الفرنجة ـ في مصلحة الإسلام، لأنها جعلت المعسكر المسيحي ينقسم على نفسه. والدليل على ذلك أنه لما احتل الفرنجة أنطاكية، ولوا عليها بطريكاً أرثوذكسيّاً، أي أنه تابع للروم ـ البيزنطيين ـ، وذلك بناء على الاتفاق السابق بين الفرنجة وألكسيوس الأول، ولكنهمْ عزلوه بسبب

(1/7480)

تفاوض الروم مع الفاطميين، واتهموا الروم بالخيانة (1)، وأجبروا الروم على الرجوع إلى القسطنطينية. فالأفضل كان قد أرسل سفارة إلى ألكسيوس الأول كومنينوس (Alexis Comnenus) (1081 ـ 1118 م)، يستوضحه عن حقيقة نوايا الفرنجة، وأنكر ألكسيوس أن تكون له بهم علاقة(2).

... ولما كان الفرنجة عازمين على الوصول إلى بيت المقدس، فإن مؤرخي الفرنجة وحدهم يذكرون أنه لما وصلوا إلى أطراف الشام في أنطاكية، أرسل إليهم

__________

(1) ... انظر: Gesta, pp. 71-74.

(2) ... انظر: رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة، ج 1، ص. 406.

(1/7481)

الوزير الأفضل الفاطمي سفارة(1)، أقامت عندهم لبضعة أسابيع، حيث يذكرون أن الأفضل عرض عليهم أن يسمح لهم بزيارة الأماكن المقدسة، وأن يتمتعوا بحرية أداء شعائرهم الدينية، على أن لا تزيد مدة إقامتهم على شهر واحد، وأن يدخلوها دون سيوفهم. ولكن الفرنجة ردوا على الأفضل ردّاً شديداً بأنهم سوف يستمرون في الوصول إلى بيت المقدس(2)، ولكن ينفي وقوع هذه المفاوضات بين الفاطميين والفرنجة

__________

(1) ... أعمال الفرنجةن ترجمة عربية، ص. 459؛ وليم الصوري، ترجمة، ص. 305.

(2) ... انظر: حبشي، الحروب الصليبية الأولى، 1، ص. 171.

(1/7482)

استعداد الفاطميين لمجابهة الفرنجة أيّاً كان الثمن؛ ذلك بأن الوالي الفاطمي في بيت المقدس افتخار الدولة(1) اتخذ استعدادات لمجابهة الفرنجة، فطمس الآبار المحيطة بالقدس ووضع السم فيها، وأخفى الماشية، وقام بتقوية التحصينات، وطرد النصارى من المدينة خوفاً من أن يتعاونوا مع الفرنجة، وطلب النجدة من مصر.

__________

(1) ... أعمال الفرنجة، ترجمة عربية، صص. 114 ـ 119؛ ذيل، ص. 222؛ انظر: غوانمه، "الأفضل بن بدر الجمالي وموقفه من الحملة الصليبية الأولى"، مجلة كلية الآداب، جامعة الملك سعود، 1983، ص. 80.

(1/7483)

... وعلى كل حال، ظهرت نيات الفرنجة في الوصول إلى بيت المقدس بحصاره وضربه بالنار والحجر من المنجنيقات. وقد دافع عنه عسكر مصر بشجاعة نادرة مدة أربعين يوماً، وكانوا يفضلون الانتحار ـ بإلقاء أنفسهم من بروج الجدران ـ على التسليم(1). فلما استولوا عليه في »يوم الجمعة« من شعبان 492 هـ/ 5 يونيه 1099 م(2)، ذبحوا كل من وجدوه فيه من المسلمين من شيوخ ونساء وأطفال، وأحرقوا من هرب منهم إلى مسجدي قبة الصخرة

__________

(1) ... انظر: Gesta, p. 55 sq.

(2) ... ابن ميسر، أخبار مصر، ص. 66؛ ابن الأثير، الكامل، 10، ص. 283.

(1/7484)

والأقصى بمن فيهم العلماء والفقهاء، وجمعوا اليهود وأحرقوهم أيضاً(1)، وإن سمحوا لافتخار الدولة بالخروج(2). وتقول المصادر النصرانية ذاتها: لم نر مثل هذا الذبح من قبل في المسلمين(3). فقد استمر القتل ثمانية أيام، إذ كانوا يعتقدون أن المسيح عانى كثيراً من العذاب(4)؛ ولذلك يجب أن يشفى غليل المسيحية من المسلمين لما حدث له. وقد فرح

__________

(1) ... النجوم، 5، ص. 150، س. 7.

(2) ... أعمال الفرنجة، ترجمة عربية، ص. 118؛ الكامل، 10، ص. 283.

(3) ... انظر: Gesta, p. 88.

(4) ... انظر: Calmette, Le Moyen Age, p. 428.

(1/7485)

الفرنجة بالوصول إلى مقبرة المسيح ربهم، وكانوا يبكون من شدة الفرح، ودقت نواقيس روما، وأعلنت انتصار الصليب على الهلال. وهكذا سقط بيت المقدس في يد الفرنجة بعد أن ظل في أيدي المسلمين منذ فتحه في عهد عمر بن الخطاب سنة 17 هـ/ 638 م.

... ومع ذلك، لم يقف الفاطميون من سقوط بيت المقدس في أيدي الفرنجة مكتوفي الأيدي. فالوزير الأفضل لما بلغه وصول الفرنجة إلى بيت المقدس، حشد العساكر المصرية وسار بهم لاستنقاده. وقبل أن يتحرك، أرسل إلى الفرنجة يهددهم ويطلب منهم الرحيل. وقد أقام الأفضل خارج عَسْقلان بالشام

(1/7486)

منتظراً وصول النجدات التي يحملها الأسطول المصري. ولكن الفرنجة أنفسهم بعد سقوط بيت المقدس بيومين، باغتوا العسكر الفاطمي خارج عَسْقَلاَن وأوقعوا بهم وهزموهم(1) وذبحوا من التجأ منهم إلى الغابات المجاورة، فدخل الأفضل عسقلان وتحصن بها، ولم يعد الفرنجة إلى القدس إلا حينما عاد الأفضل إلى مصر.

... وعلى العكس، حينما وصل نبأ سقوط بيت المقدس في يد الفرنجة، أرسل الخليفة العباسي المستظهر بالله إلى السلطان السلجوقي بركيا ورق بن ملكشاه يخبره بما تعرض له

__________

(1) ... ابن ميسر، أخبار مصر، ص. 67؛ الكامل، 8، ص. 190.

(1/7487)

المسلمون فيه، ويدعوه لنصرتهم. إلا أنه لم يقم بأي عمل، ولا بمساعدة الفاطميين لاستنقاذه. ويذكر المؤرخ ابن الجوزي (أبو الفرح) حدث »التقاعد«(1) عن إنجاد الفاطميين. ولكن حدث تغيير في موقف السلاجقة بعد ذلك، نتيجة لضياع ثالث الحرمين من أيدي المسلمين، ودق إسفين الفرنجة الاستيطاني في فلسطين؛ فقد حدث منهم تقارب مع الفاطميين، وهو التقارب الذي أخذ يتسع رويداً رويداً، ووجد قبولاً تاماً من الفاطميين، الذين كانوا أول من سعوا إليه،

__________

(1) ... ابن الجوزي (أبو افرج)، المنتظم، 9؛ ص. 108؛ آل سلجوقن ص. 86 وما بعدها.

(1/7488)

وذلك على الرغم من الاختلاف المذهبي بينهما. فقد كان الخطر داهماً عليهما معاً، وعلى أملاكهما، التي كانت لا تزال بأيديهما في الشام.

... ولوقف المد الصليبي في الشام، زاد الفاطميون من استعداداتهم الحربية بالاهتمام بطائفة الحجرية(1)، من أولاد الناس، أي المصريين. وكان إنشاؤها في وقت المعز لدين الله أول خليفة فاطميّ لمصر، وتتألف من جند كبار وصغار، وتكون مستعدة للعمل الحربي في أي لحظة؛ فطلب الأفضل أن تكون الحجرية الصغار من أولاد الأجناد، فجمع

__________

(1) ... انظر: ماجد، نظم الفاطميين، ط. 3، ج 1، صص. 187 ـ 189.

(1/7489)

له منهم ثلاثة آلاف. ولدينا سجلات(1) عديدة بتقليد أمراء مصر ـ أي القواد ـ وتوليهم أمر الجهاد ضد الصليبيين؛ فلم يكن بد من إرسال تجريدات من العسكر المصري من حين إلى حين نحو الشام، وظهر لها قواد عظام نعرفهم بأسمائهم وألقابهم، منهم اثنان من أبناء الوزير الأفضل، وذلك مثلما حدث في 495 هـ/ 1102 م و496 هـ/ 1103 م، و499 هـ/ 1105 م(2). إلا أن أغلبها لم تكن تحرز انتصارات ذات قيمة؛ وحتى لو استردت شيئاً، فإنه لا

__________

(1) ... صبح الأعشى، 10، ص. 406.

(2) ... بتفصيل، انظر: Ency, de l’Isl. (art « al Afdal »), 2 éd.

(1/7490)

يلبث أن يسترده الصليبيون منهم. كذلك اهتم الفاطميون بالأسطول، ولا سيما قطعة الكبيرة من الشواني وهي أقواها وأطولها، وهي مزودة بالأبراج والقلاع للدفاع والهجوم. فكانت سفن الأسطول المصري تحمل إلى مدن الساحل التي في أيديهم في الشام الرجال والذخائر والأسلحة والأموال، لتساعدها على الصمود، حيث كانوا يرسلون جنداً في كل عام إلى عَسْقلان، كما أصبح كل من فيها مجنداً حتى الأطفال.

... والأهم تعاون الفاطميين والسلاجقة في المجال الحربي، لوقف المد الصليبي؛ فقد كتب الأفضل إلى طُغتكين ـ طغدكين ـ السلجوقي أمير دمشق

(1/7491)

من جمادى الأولى سنة 498 هـ/ 1104 م(1)، الذي أسس له أتابكية فيها، برعايته لدقاق بن تتش أخي ملكشاه، وانفرد بالسلطة بعد ذلك؛ لإرسال حملة سلجوقية مشتركة لقتال الفرنجة في جبهة واحدة. وبالفعل التقى الجيشان السلجوقي والفاطمي في جانب، والجيش الفرنجي في الجانب الآخر وكان بقيادة بلدوين (Balswin) ـ أو بخدوين أو برديُل ـ أول ملك لبيت المقدس، الذي استظهر عليهما. ومن قبل، حدث تعاون فاطمي مع دقاق أو قماق بن تتش تاج الدولة، حينما أرسل الأفضل تجريدة إلى الشام بقيادة ابنه شرف

__________

(1) ... ابن ميسر، أخبار مصر، ص. 74.

(1/7492)

المعالي في 496 هـ/ 1102 م(1). كذلك كان الأفضل يرسل الأسطول المصري إلى مدن الشام سواء كانت فاطمية أو سلجوقية، ويقبل تعيين ولاة سلاجقة في مدن فاطمية، وأصبح تبادل السفارات(2) والهدايا شيئاً عادياً بين الفاطميين والسلاجقة.

... والحاصل أن الفاطميين استطاعوا استنقاذ بيت المقدس ثالث الحرمين من الروم، ولكن انشغالهم بالصراع مع السلاجقة كان

__________

(1) ... المصدر نفسه، ص. 75.

(2) ... ذيل، ص. 235، صص. 240 ـ 241؛ انظر: عاشور، "شخصية الدولة الفاطمية في الركة الصليبية"، كتاب بحوث ودراسات، بيروت، 1977، ص. 170.

(1/7493)

سبباً في ضياعه من أيدي المسلمين، ليقع في أيدي الفرنجة، الذين أصبحوا حماة العالم المسيحي، بدلاً من الروم؛ مما اعتبر فترة حرجة للمسلمين جميعاً. حقاً، حدث تقارب بين الفاطميين والسلاجقة بعد سقوط بيت المقدس؛ إلا أنه لم تكن له نتائج حاسمة في استنقاذه، لأن وزراء الفاطميين من ناحية شغلوا بالاستئثار بالسلطة التي أصبحت غرضهم الأسمى الذي يتنافسون عليه، فلم يتحمسوا لطرد الصليبيين. وأما من ناحية السلاجقة، فعلى الرغم من تفتت دولتهم وكثرة رؤوسها، فقد اعتبروا المخفر الأمامي لحماية المسلمين من المد الصليبي؛

(1/7494)

فبهم بدأ الصمود الإسلامي التدريجي أمام أوربا، مما مهد ليقظة المسلمين في استعادة بيت المقدس في عهد صلاح الدين الأيوبي.

(1/7495)

بين يوسف بن تاشفين وصلاح الدين الأيوبي

... ... ... ... ... الدكتور علي القاسمي

... ... ... إيسيسكو ـ الرباط

مقدمة

... أنبأنا تاريخ الأمم والحضارات أن العبقرية لا تتفتق إلا لماماً ولا تختار من الرجال والنساء إلا القادة الأفذاذ، فتهبهم القدرة على تغيير مسار التاريخ وترقية أوطانهم وحفر ذكراهم في قلوب الناس جيلاً بعد جيل. ونحن لا ندري متى تتفتق تلك العبقرية فتبلغ ذروتها، ولا نعرف بالضبط العوامل التي تساعد على تفعيلها وتأجيجها. ولكننا ندرك أن لهؤلاء القادة العباقرة سمات مشتركة لا تخفى على الباحث،

(1/7496)

وصفات متماثلة لا تخطئها عين الدارس. وفي مقدمة تلك السمات وهذه الصفات إيمان صادق بمثل إنسانية عليا، وموهبة فكرية عالية تمكنهم من تحليل المواقف وتمحيص الاختيارات واتخاذ القرارات الموفقة.

... ومن هؤلاء الأبطال العظام في تاريخ أمتنا الإسلامية يوسف بن تاشفين في الغرب الإسلامي وصلاح الدين الأيوبي في المشرق. وقد سمعت أحد أصدقائي المغاربة يقول ذات يوم إن يوسف بن تاشفين هو صلاح الدين الأيوبي في المغرب. وعلى الرغم من اطلاعي على مثل هذه التشبيهات اعتزازاً من المغاربة بالمشرق وأهله، كإطلاق أبي العباس

(1/7497)

المقري في "نفح الطيب" على مدينة مراكش التي أنشأها يوسف بن تاشفين لقب »بغداد المغرب«. فقد قلت لصديقي مداعباً إن صلاح الدين الأيوبي هو يوسف بن تاشفين المشرق، لأن ابن تاشفين سبق الأيوبي بحوالي قرن من الزمن، وقولي هذا يقتضيه فضل السابق على اللاحق.

... وطرأت لي فكرة القيام بدراسة تاريخية مقارنة للظروف التي عاشها القائدان، والمثل والأفكار التي اعتنقاها، والصفات والأخلاق التي تحليا بها، والسياسات والطرائق التي اتبعاها، والوسائل التي توسلا بها؛ لعلنا نعتبر بهما في حاضرنا، إن كان ثمة تشابه بين أوضاعنا

(1/7498)

وأوضاعهما، فالتاريخ يعيد نفسه، كما يقولون. ولقد عثرت في دراستي على تشابه كبير بين البطلين، ترصّعه مصادفات غريبة وموافقات عجيبة. وتعود بعض أوجه هذا التشابه إلى الأمور الخارجية كالاسم، والصفات الجسدية، وظروف تولي السلطة، في حين تنتمي أوجه أخرى منه إلى العمق المشتمل على القيم والمثل والأفكار والاستراتيجيات. ولهذا قسمت عرضي هذا إلى قسمين: أ ـ الموافقات الخارجية؛ ب ـ التوافقات الداخلية.

أولاً ـ الموافقات السطحية

1 ـ المولد والاسم

(1/7499)

... ولد يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن وارتقطين، وكنيته أبو يعقوب، حوالي عام 410 هـ (وفي هذا التاريخ خلاف)، في بيت بني وارتقطين زعماء قبيلة لمتونة، وهي إحدى قبائل ثلاث (لمتونة وجدالة ومسوفة( اختصت بالسيادة على قبائل صنهاجة التي يبلغ تعدادها حوالي سبعين قبيلة، وتعرف بـ »صنهاجة اللثام« وعرف رجالها بـ »الملثمين«، وفي فترة لاحقة بـ »المرابطين«. (ابن خلدون، ج 6، ص. 181). وكانت مضارب لمتونة تمتد على المحيط الأطلسي من »وادي نون« جنوب مدينة تارودانت حتى رأس بوجدور. ولا يحدثنا المؤرخون عن مكان مولد يوسف

(1/7500)

بن تاشفين أو ملاعب طفولته.

... ومن المصادفات العجيبة أن اسم صلاح الدين الأيوبي هو يوسف وكنيته أبو المظفر، وما صلاح الدين إلا لقبه. فهو يوسف بن أيوب بن شادي (أو شاذي). وقد ولد سنة 532 هـ في قلعة تكريت على نهر دجلة شمالي سامراء بالعراق. وكان جده شادي، وهو أحد زعماء الأكراد في بلدة »دُوين« التي تقع في أطراف إذربيجان القريبة من إيران، قد قدم إلى بغداد، يصحبه ولداه أيوب وشيركوه، لصداقة قديمة تربطه بـ »مجاهد الدين بهروز«، شحنة »حاكم« بغداد، فبعثه هذا إلى قلعة تكريت محافظاً عليها. وعندما توفي شادي،

(1/7501)

عهد بالقلعة إلى ابنه أيوب، وهناك ولد يوسف بن أيوب.

... وعلى الرغم من أن اسم »يوسف« من الأسماء المستعملة في العراق؛ إلا أنه قليل إن لم يكن نادراً. ونسمح لخيالنا بأن يتصور أن نجم الدين أيوب ـ وهو قائد عسكري في وقت كان الصليبيون يحتلون الأراضي المقدسة ويهددون بحملاتهم المتتالية الشرق الإسلامي ـ قد بلغته أنباء انتصارات يوسف بن تاشفين في الغرب الإسلامي، فأعجب به وخلع اسمه على ولده صلاح الدين.

...

2 ـ النسب

(1/7502)

... على الرغم من أننا ندرك ـ كما سنوضح ذلك فيما بعد ـ أن البطلين يوسف بن تاشفين ويوسف بن أيوب صلاح الدين لم يأبها مطلقاً لنسب الفرد وحسبه بقدر اهتمامهما بعظيم علمه وسمو خلقه وكريم فعله، فإننا سنعرض لهذه المسألة لتطرق كتب التاريخ إليها، وللشبه الكبير فيها بين البطلين.

... فيوسف بن تاشفين ينتمي ـ كما ذكرنا ـ إلى قبائل صنهاجة، وهي قبائل غير عربية على الرغم من أنها تعود في أصولها إلى جزيرة العرب. ولكن كتب التاريخ المقربة من المرابطين تقول عنه »إنه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقوت بن

(1/7503)

وارتقطين بن منصور بن أمية بن واتملي بن تليث الحميري الصنهاجي اللمتوني من ولد شمس بن وائل بن حمير«. ويعلق الأستاذ عبد الحق حموش، أحد كتاب سيرة ابن تاشفين، على هذا النسب قائلاً: »نتجاوز هذا التعريف، لأنه مجال نقاش، مقتصرين على أن يوسف بربري لمتوني من بني وارتقطين، لأن هذا الثبت يعرض مزيجاً من الأسماء لا يتفق والسياق التاريخي عند كل من العرب والبربر«. ويضيف معلقاً في الهامش: »إن عوامل سياسية تعاونت على إيراد مثل هذه الأنساب، فالأمراء شجعوا عليها إدراكاً منهم بأن القوة والواقع لا يكفيان وحدهما في

(1/7504)

نظر شعوبهم، أو على الأقل رأوا أن انتسابهم إلى أصل عربي يزيد في تشبث هذه الشعوب بحكمهم«. (حموش، صص. 25 ـ 26).

... ونجد شيئاً مماثلاً عند صلاح الدين الأيوبي. فقد ذكرنا أن جده من زعماء الأكراد. ولكن بعض المؤرخين ممن عاصروه وأبناءه السلاطين أوردوا له نسباً عربياً يرفعه إلى قيس غيلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ويقول قاضي القضاة ابن خلكان ـ وهو كردي كذلك من مدينة أربيل بالعراق ـ إنه وقف على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم ير فيها سوى شيركوه بن شاذي وأيوب بن شاذي، ليس غير

(1/7505)

(ابن خلكان، ج 7، ص. 140). ويرى المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" أن نسبة صلاح الدين إلى أصل عربي هو من أقوال الفقهاء الذين أرادوا التقرب منه والحظوة لديه (قلعجي، ص. 152).

...

3 ـ التعليم واللغة

... كان كل من يوسف ابن تاشفين ويوسف بن أيوب متفقهاً متضلعاً من دراسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأصول الدين متمكناً من اللغة العربية. فقد تلقيا تعليماً إسلامياً متكاملاً.

... ولكن بعض المؤرخين شككوا في معرفة يوسف بن تاشفين باللغة العربية وسردوا حكايات ـ من خيالهم على الأرجح، وكثير من

(1/7506)

التاريخ نتاج تصور المؤرخين ـ للدلالة على جهل يوسف بن تاشفين باللغة العربية. وبلغ الأمر بابن خلكان أن ذكر في ترجمته ليوسف بن تاشفين التي اعتمد في صياغتها على كتاب "المعرب في سيرة ملك المغرب" أن »يوسف بن تاشفين لا يعرف اللسان العربي لكنه يجيد فهم المقاصد«. (ابن خلكان، ج 7، ص. 114).

... ونحسب أن كثيراً من أولئك المؤرخين كانوا يصدرون عن نزعات سياسية أو عنصرية أو عقدية. (انظر على سبيل المثال موقف عبد الواحد المراكشي من ابن تاشفين في دراسة الأستاذ محمد ولد بنعزوز بعنوان "يوسف بن تاشفين من خلال كتاب

(1/7507)

المعجب"). وقد حصل لنا الاقتناع بأن يوسف بن تاشفين كان يجيد اللغة العربية إجادة تامة للأسباب التالية:

... أ ـ لقد ترعرع يوسف بن تاشفين في بيت زعامة من قبيلة لمتونة التي اختصت بالسيادة في قبائل صنهاجة. ونحن نعلم أن قبائل صنهاجة قد حسن إسلامها في القرن الثالث الهجري حتى أخذت تنشر الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء، فسيطرت على منطقة »السنغال« الذي اشتق اسمه فيما بعد بالبرتغالية منها ـ صنهاجة غال ـ أي نهر صنهاجة. ولاشك أن ابناء البيوتات الميسورة هم أسبق إلى التعلم الذي هو فريضة على كل مسلم ومسلمة.

(1/7508)

واللغة العربية هي لغة القرآن ولغة التعليم آنذاك.

... ب ـ إن قبيلة يوسف بن تاشفين (لمتونة) كانت تزاول التجارة بين شمال الصحراء وجنوبها، وكانت العربية هي اللغة المشتركة في المعاملات التجارية بين القبائل الإفريقية التي تتحدث بلغات مختلفة.

... ج ـ إن زعماء حركة المرابطين )ويوسف بن تاشفين في طليعتهم( تلقوا إعدادهم العلمي والجهادي سنوات عديدة في الرباط الذي أنشأه عبد الله بن ياسين المعلم الروحي للمرابطين. وكانوا في الرباط يعكفون على دراسة العلوم الإسلامية والتدرب على الجهاد. وترتبط مكانة المرابط بمدى

(1/7509)

تضلعه من العلوم الإسلامية، خاصة القرآن والحديث. وهذا ما مكّن أبا بكر بن عمر ـ أميرهم ـ من جمع السلطتين الدينية والدنيوية بيده بعد وفاة عبد الله بن ياسين، وقد جمعهما كذلك ابن تاشفين. ولو كان يجهل العربية، لما استطاع أن يفعل ذلك.

... د ـ إن الملكة اللغوية والقدرة على تعلم لغة ثانية من مكونات ذكاء الفرد كما يخبرنا علم النفس اللغوي الحديث. ولهذا، فإن من يتوفر على قدر معين من الذكاء يسهل عليه اكتساب لغة ثانية. ويشهد جميع المؤرخين بذكاء ابن تاشفين المتوقد.

(1/7510)

... أما صلاح الدين، فقد أجمعت المصادر التي أوردت سيرته أنه كان من المتفقهين في الدين إذ كان يحفظ عن ظهر قلب القرآن الكريم، والتنبيه في الفقه، والحماسة في الشعر. وكان قد تلقى علومه على أيدي كبار الأساتذة، كما تصدر للتدريس وتتلمذ عليه ثلة من الطلبة (الموسوعة العربية، ج 15، ص. 120).

...

4 ـ تولي السلطة

... ومن المصادفات العجيبة أن كلاًّ من يوسف بن تاشفين ويوسف بن أيوب لم يطلب السلطة ولم يسع إليها، وإنما جاءته منقادة بصورة غير متوقعة. فهما لم يرثا الإمارة عن أبويهما، ولم يتم انتخابهما من قبل مجلس

(1/7511)

من المجالس، وإنما كانا يعملان مساعدين لقريبين لهما فحصل عارض ما لهذين القريبين وآلت الإمارة لليوسفين.

... تحدثنا كتب التاريخ أن زعيم الملثمين المغاربة يحيى بن إبراهيم الجدالي كانت تحدوه نزعة إصلاحية، فتوجه إلى القيروان وطلب من شيخ الفقهاء عمران الفاسي أن يبعث معه أحد تلامذته ليفقه الملثمين في دينهم، وذلك حوالي عام 428 هـ، فرأى الشيخ أن يبعث معه خطاباً إلى تلميذه وجاج بن زللو اللمطي الذي ابتنى له رباطاً في قلب الصحراء الكبرى في نفيس، اعتكف فيه هو وتلامذته للعلم والمعرفة والتعبد. وجاء في الخطاب:

(1/7512)

»ابعث إلى بلده من تثق بدينه وورعه وكثرة علمه وسياسته ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام ويفقههم في الدين، ولك وله في ذلك الثواب والأجر العظيم. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً«. (ابن أبي زرع، ص. 123؛ والناصري، ج 7، ص. 2)؛ فانتدب وجاج الفقيه عبد الله بن ياسين الذي رافق يحيى بن إبراهيم إلى بلاده، وابتنى فيها رباطاً يعلم فيه أصحابه يفقههم في الدين ويدربهم على الجهاد وسموا بالمرابطين »للزومهم رابطته«. فكانت لعبد الله بن ياسين الزعامة الدينية وليحيى بن إبراهيم الزعامة الدنيوية. فقد »كان يتولى النظر في أمر

(1/7513)

حربهم وعبد الله بن ياسين ينظر في ديانتهم وأحكامهم« (ابن أبي زرع، ص. 127). وعندما توفي يحيى بن إبراهيم، جمع عبد الله بن ياسين رؤساء قبائل صنهاجة وتشاور معهم وولى عليهم يحيى بن عمر اللمتوني. وعندما توفي هذا عام 447، تم اختيار أخيه أبي بكر بن عمر أميراً للمرابطين. وحدث أن توفي عبد الله بن ياسين متأثراً بجراحه في إحدى المعارك، فجمع أبو بكر بن عمر الزعامتين الدينية والدنيوية في يديه. وكان المرابطون آنذاك يستعدون لغزو بلاد السوس، فعهد الأمير الجديد، أبو بكر بن عمر، إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين بقيادة

(1/7514)

الجيش. فأظهر بن تاشفين من الحنكة والشجاعة والحكمة ما مكنه من فتح مدينة تارودانت، قاعدة بلاد السوس، ثم توجه إلى مدينة أغمات ففتحها.

... وتذكر المصادر التاريخية أن أمير المرابطين أبا بكر بن عمر عزم عام 453 هـ على السفر إلى الصحراء للجهاد ونشر الدعوة الإسلامية. فعقد لابن عمه يوسف بن تاشفين وأقر ذلك أشياخ المرابطين. وعندما عاد أبو بكر بن عمر من الصحراء بعد بضع سنين ورأى النجاح الكبير الذي حققه ابن عمه، ارتأى أن يدعه يواصل العمل الجيد الذي هو فيه. وبعد أن استتب الأمر لابن تاشفين، استدعى أمراء المغرب

(1/7515)

وأشياخ القبائل عام 464 هـ لمبايعته ولقب بأمير المسلمين، وقد اجتمعت له الزعامتان الدينيّة والدنيوية.

... وإذا نظرنا إلى الظروف التي وصل فيها صلاح الدين إلى السلطة، وجدناها مماثلة لما ذكرنا. فعندما أرسل نور الدين زنكي أمير حلب والموصل جيشاً إلى مصر للمساعدة على صد هجمات الصليبيين، جعل أسد الدين شيركوه بن شاذي قائداً لذلك الجيش. واختار هذا ابن أخيه صلاح الدين مساعداً له، فأظهر صلاح الدين من المهارة والكفاءة، ما جعل عمه يصطحبه معه في المرتين التاليتين اللتين توجه فيهما إلى مصر للغرض نفسه. وفي المرة

(1/7516)

الأخيرة صار واضحاً لأسد الدين أن من الضروري التخلص من الوزير الفاطمي شادر وتسلم السلطة بنفسه. وهكذا فعل واعتلى منصب الوزارة في مصر. ولكنه توفي بعد شهرين وخمسة أيام فقط. فتولى قائد الجيش ومساعده وابن أخيه صلاح الدين منصب الوزارة ولقب بالملك الناصر سنة 564 هـ (أي بعد مائة سنة من تولي يوسف بن تاشفين السلطة رسمياً في المغرب). (ابن خلكان، ج 7، ص. 154).

...

5 ـ علي بن يوسف بن تاشفين وعلي بن يوسف بن أيوب

(1/7517)

... ومن المصادفات الطريفة أن يوسف بن تاشفين قد خلف سبعة أبناء من عدد من النساء، وقد اختار لخلافته ابنه »علياً« الذي كان قد ولد له من جارية إسبانية مسيحية تدعى »قمر« وتكنى بـ »أم الحسن« أو »فاض الحسن«، على الرغم من أن »عليّاً« هذا لم يكن أكبر أولاده، ولكنه توسم فيه الخير. وهكذا تولى إمارة المسلمين في المغرب والأندلس بعد وفاة والده يوسف بن تاشفين عام 500 هـ.

... أما صلاح الدين الأيوبي، فقد خلف سبعة عشر ولداً أكبرهم أسماه »عليّاً« ويكنى بنور الدين. وقد خلف أباه صلاح الدين عند وفاته سنة 589 هـ وحمل

(1/7518)

لقب الملك الفاضل.

... ولنا أن نتساءل هل كان صلاح الدين الأيوبي هو أيضاً معجباً بيوسف بن تاشفين وابنه علي، لمقارعتهما الصليبيين في الغرب الإسلامي، فسمى ابنه البكر »عليّاً«.

ثانياً ـ الموافقات العميقة

6 ـ الصفات الخلقية

... يشترك يوسف بن تاشفين ويوسف بن أيوب صلاح الدين في التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وفي مقدمتها الإيمان الصادق والنية الخالصة لله والعمل الدائب لصالح المسلمين. فقد نُقل عن ابن تاشفين دعاؤه عند عبوره إلى الأندلس: »اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين فسهّل

(1/7519)

علي جوز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعّبه حتى لا أجوزه«. (ابن أبي زرع، ص. 145؛ والناصري، ج 2، ص. 34).

... أما صلاح الدين الأيوبي، فقد »كان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر«. (ابن خلكان، ج 7، ص. 174)، وكان يصلي قبل المعركة داعياً الله تعالى أن ينصره على الكافرين ويصلي بعدها شاكراً الله نعمة النصر. ومن الأمثلة على إيمان صلاح الدين العميق بقضيته وتفضيله المصلحة العامة على مصلحته الشخصية ما روي إبان استعداده لفتح القدس. فقد قال له

(1/7520)

المنجمون: »تفتح القدس وتذهب عينك الواحدة«، فقال: »رضيت أن أفتحه وأعمى«. (عبد الكريم كريم، ج 1، ص. 36).

... وهذا الإيمان الصادق بالله هو من أسباب شجاعتهما وإقدامهما طلباً للشهادة، وهو مصداق مقولة الخليفة أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد: »اطلب الموت، توهب لك الحياة«.

... وقد وصفت جميع المصادر التاريخية اليوسفين بالعدل. و»العدل أساس الملك«، في ظله يطمئن الناس على حقوقهم وممتلكاتهم، فتنمو التجارة وتزدهر المعاملات وتتقدم البلاد.

(1/7521)

... والصفة الثالثة التي يشترك فيها اليوسفان هي التسامح والعفو. ويقول ابن الأثير عن يوسف بن تاشفين:»كان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام« (ابن الأثير، ص. 113). وكان من تسامح يوسف بن أيوب صلاح الدين أنه لما آلت إليه السلطة في مصر، احترم عقائد الناس شيعيين فاطميين كانوا أم سنيين، مسيحيين أقباطاً أم مسلمين، وأخلص لهم العمل، وعدل بينهم، فأحبه الشعب حتى إن الأقباط المصريين وضعوا صورته في كنائسهم، ما استدعى دهشة الشاعر عبد المنعم الأندلسي فسجل مشاعره في قصيدة ورد فيها:

فحطوا بأرجاء الهياكل صورة

(1/7522)

لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم

...

(قدري قلعجي، ص. 201).

... وقد طار صيت يوسف بن أيوب صلاح الدين في أوربا بوصفه مثالاً للشجاعة والشهامة، والحلم والرحمة، والوفاء والكرم، وذلك لعفوه عن أعدائه من ملوك الصليبيين ومقاتليهم بعد أن ظفر بهم في موقعة حطين الشهيرة، وحرصه على عدم إراقة الدماء، ومساعدته لفقراء الصليبيين ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم، حتى حسبوا أن أخلاقه تفوقت على أخلاق الفروسية في صورتها المثالية، ولم يعلموا أن أفعاله إنما كانت تصدر عن الخلق الإسلامي ليس غير.

(1/7523)

... والمؤمن يكون وسطياً في الإنفاق، فلا يبذر ولا يجعل يده مغلولة. ولهذا يقول ابن خلكان: »كان يوسف بن تاشفين مقتصداً في أموره غير متطاول ولا مبذر«. (ابن خلكان، ج 7، ص. 120).

... والتعفف من صفات اليوسفين. فعندما جمعت الغنائم بعد معركة الزلاقة وقدمت إلى يوسف بن تاشفين، عف عنها وآثر بها المسلمين من أبناء الأندلس مؤكداً أن مقصوده الجهاد والثواب عند الله (الناصري، ج 2، صص. 52 ـ 54).

... ويلخص الناصري أخلاق ابن تاشفين، حينما يقول إن أشياخ المرابطين أقروا ولاية ابن تاشفين »لما يعلمون من فضله ودينه

(1/7524)

وشجاعته ونجدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته«. (الناصري، ج 2، ص. 23).

...

7 ـ وحدة الأمة

... إن استقراء فكر اليوسفين المتمثل في القرارات التي كانا يتخذانها والأعمال التي يقومان بها يدل دلالة قاطعة على إيمان الرجلين العميق بوحدة الأمة الإسلامية ووحدة مصيرها.

... ومن أجمل ما قيل في التطور الذي أصاب حركة المرابطين قول الدكتور مصطفى الزباخ عنها إنها تحولت من كائن صحراوي إلى كائن سماوي عبر منعطفات أبرزها منعطف التحول من الكائن القبلي إلى الكائن الوحدوي، ومن الكائن المادي إلى الكائن الروحي، ومن

(1/7525)

الشعور برابطة الدولة إلى رابطة الأمة. (الزباخ، صص. 23 ـ 28). فقد كان الرباط الأول الذي أقامه عبد الله بن ياسين خاصاً بالملثمين الذين تربط بينهم رابطة العصبية القبلية، ولكنهم عندما تمثلوا مبادئ الإسلام وتشربت نفوسهم بمثله وقيمه السامية تحولت مشاعرهم من القبيلة إلى الأمة، وتخلوا عن العصبية القبلية القائمة على الدم وتمسكوا برابطة الإيمان القائم على وحدة الخالق ووحدة الإنسان ووحدة العقيدة.

... وهذا ما يفسر لنا إرسال يوسف بن تاشفين بسفارة إلى الخليفة العباسي ببغداد. فقد بعث بوفد يضم عبد الله بن محمد

(1/7526)

المعافري الإشبيلي وابنه القاضي أبي بكر، اللذين أطلعا الخليفة العباسي المستنصر بالله على أحوال المغرب وجهاد يوسف بن تاشفين من أجل رفع راية الإسلام خفاقة، وطلبا منه أن يعقد له بما تحت نظره من الأقطار والأقاليم، وعاد الوفد بتقليد الخليفة وعهده لابن تاشفين. ومعلوم أن سلطة الخليفة العباسي كانت رمزية فقط، ولم يكن يوسف بن تاشفين بحاجة لعهد من الخليفة العباسي لممارسة سلطاته. ولكنها مسألة مبدإ عند يوسف بن تاشفين الذي كان يؤمن بوحدة الأمة ووحدة الشرعية فيها. وكان يريد لإيمانه هذا أن يشيع بين الناس ويؤثر

(1/7527)

في سلوكهم. ولهذا اختار لقب أمير المسلمين لنفسه (وليس الخليفة أو أمير المؤمنين). وأمر يوسف بن تاشفين أن يذكر اسم الخليفة العباسي في خطبة الجمعة ويذكر اسم ابن تاشفين بعده، ويضرب اسمه على صفحة من النقود التي تضربها دور السكة المغربية، ويضرب اسم ابن تاشفين على الصفحة الثانية.

... ويتجلى الفكر الوحدوي لدى يوسف بن أيوب صلاح الدين كذلك. فعندما انتهى إليه منصب الوزارة (السلطة الحقيقية) في مصر في ظل الخلافة الفاطمية التي كانت تنافس الخلافة العباسية، كتب سنة 567 هـ إلى سائر البلاد المصرية بالخطبة للخليفة

(1/7528)

العباسي المستضيء بالله بدلاً من الخليفة الفاطمي العاضد بالله. وكان سقوط الخلافة الفاطمية في مصر بعد قرنين من الزمن حدثاً عظيماً له دلالته الكبيرة، إذ أصبح العالم الإسلامي موحداً من الناحية الروحيّة، يدين بالولاء لخلافة واحدة (كاشف، ص. 68). كما دأب صلاح الدين على السعي إلى الحصول على تفويض الخليفة في كل ما يقدم عليه من الأعمال ضماناً للشرعية وتأكيداً للوحدة الإسلامية.

...

8 ـ منهجية اليوسفين في مجابهة الصليبيين

(1/7529)

... لقد تولى اليوسفان السلطة في ظروف تاريخية وسياسية واجتماعية متشابهة تقريباً على الرغم من الفارقين الزماني والمكاني بينهما. وملخص تلك الظروف هو تدهور العالم الإسلامي وتفرق كلمته في وقت كان الصليبيون يحتلون كثيراً من أراضيه ويتجمعون للانقضاض عليه. فما المنهجية التي تبناها كل من اليوسفين؟ إن دراسة السياسات التي اتبعاها تدلنا على تشابهها وتقاربها. ولا غرو في ذلك، فالعقول الكبيرة تلتقي والأفكار العظيمة تتوافق.

(1/7530)

... تعتمد منهجية (أو استراتيجية) كل من اليوسفين على تحقيق أمور أساسية قبل التوجه لمحاربة العدو. وهذه الأمور هي:

... أ ـ نشر التعليم في الأمة وتقريب العلماء والإفادة من مشورتهم؛

... ب ـ الإصلاح الاجتماعي والعمران الاقتصادي؛

... ج ـ توحيد الأمة وحشد طاقاتها.

8. 1 ـ نشر التعليم وتقريب العلماء والإفادة من مشورتهم

... كان تقدم الأمة الإسلامية وازدهار حضارتها قائمين على العلم والمعرفة والبحث، فهي أمة »اقرأ«، وكان التعليم والتعلم فيها »إجبارياً أو إلزامياً«، بالمصطلح المعاصر، لأن »طلب العمل فريضة

(1/7531)

على كل مسلم ومسلمة«. ومن هنا نجد أن قيام حركة المرابطين ووصول يوسف بن تاشفين إلى سدة الحكم كان أساسه العلم والمعرفة. فعبد الله بن ياسين، مؤسس حركة المرابطين، كان يعدّ نفسه معلماً روحياً قبل كل شيء، يعلم أصحابه القرآن ويفقههم في أصول دينهم وأحكامه؛ وعندما شرعوا في الجهاد، فإنهم كانوا يجاهدون القبائل التي حرفت تعاليم الإسلام وتفشى فيها الجهل.

... ولهذا كان أول شيء بناه يوسف بن تاشفين في مدينة مراكش التي أسسها »مسجداً للصلاة، وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه« (ابن أبي زرع، ص. 138). وعندما أخذ

(1/7532)

يفتح المدن المغربية واحدة تلو الأخرى، كان أول شيء يفعله بناء المساجد. ويقول الناصري إن يوسف بن تاشفين، بعد أن دخل مدينة فاس: »أمر ببنيان المساجد في شوارعها وأزقتها، وأي زقاف لم يجد فيه مسجداً عاقب أهله«، (الناصري، ج 2، ص. 29).

... ومعروف أن المساجد في تلك الفترة تقوم بدور المدارس القرآنية التي يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والحساب وأمور دينهم. ولهذا تسمى هذه المدارس القرآنية في المغرب بـ »المسيد«، وهي كلمة محرفة من »المسجد«. فإقامة المساجد بصورة إجبارية يعني يوم ذاك تعميم التعليم

(1/7533)

الإلزامي.

... وهذا ما كان يفعله يوسف بن أيوب صلاح الدين في جميع المدن التي دخلها، وما زالت آثار بعض ما بناه من مساجد ومدارس باقياً حتى يومنا هذا.

... ويتبع نشر التعليم وتعميمه، تقريب العلماء وتوقيرهم والإكثار من مشورتهم والأخذ بها. فكان من عادة يوسف بن تاشفين أن يحصل على فتاوى الفقهاء قبل كل عمل كبير يقدم عليه. يقول ابن عذارى المراكشي عنه في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب":»كان يفضّل الفقهاء ويعظم العلماء ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم« (المراكشي، ج

(1/7534)

4، ص. 46). أما يوسف بن أيوب صلاح الدين، فقد اشتهرت مقولته: »لم أفتح البلاد بسيفي، وإنما برأي القاضي الفاضل«. وكان اليوسفان يؤمنان، بل يعملان كذلك، بالحكمة التي لخصها المتنبي بقوله:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

(القاسمي، ص. 10).

8. 2 ـ التنمية الاقتصادية

... لابد من تنمية البلاد اجتماعياً واقتصادياً لتصبح قوية قادرة على مقارعة الأعداء. ولهذا فإن اليوسفين كانا يبادران إلى إصلاح المدن التي يفتحونها، فيرممان أسوارها، ويشقان طرقها، ويرتبان أسواقها، ويصلحان أحياءها، ويعمران

(1/7535)

صناعاتها. وقد استرعت تلك الأعمال العمرانية انتباه المؤرخين فذكروها. يقول الناصري:

... فلما دخل يوسف بن تاشفين مدينة فاس، أمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين المدينتين، عدوة القرويين وعدوة الأندلس، وصيرهما مصراً واحداً، وحصنها، وأمر ببنيان المساجد في شوارعها وأزقتها، وأي زقاق لم يجد فيه مسجداً عاقب أهله، وأمر ببناء الحمامات والفنادق والأرحاء وأصلح بناءها ورتب أسواقها....

ويقول في موضع آخر من كتابه: »ودخل يوسف سبتة فنظر في أمرها وأصلح سفنها«. (الناصري، ج 2، ص. 29 و34).

(1/7536)

... وليس أدل على حُبّ يوسف بن تاشفين للعمران من بنائه مدينة مراكش عام 454 هـ مباشرة بعد أن عقد له ابن عمه أبو بكر بن عمر. أما صلاح الدين الأيوبي، فما زالت آثاره العمرانية باقية حتى يومنا هذا في أنحاء الديار الشامية والمصرية، ومنها قلعته الشهيرة في القاهرة.

... ومن مشروعات يوسف بن تاشفين الرامية إلى تنمية اقتصاد البلاد قيامه بوضع سياسة مالية وضريبية جديدة عادلة. فألغى الضرائب الفادحة التي كان يفرضها الحكام قبله في المغرب والأندلس بحيث خفف العبء على الناس. فأحل الزكاة محل المكوس، وحط الخراج عن

(1/7537)

الأراضي التي أسلم أهلها، واقتضى الأعشار من أهل الذمة وألغى ما سوى ذلك من المغارم التي فرضها الحكام قبله. وأسس يوسف بن تاشفين دور السكة في مراكش وفاس لضرب الدينار الذهبي المرابطي الذي أصبح في ذلك الزمان بمثابة العملة الصعبة العالمية (حموش، ص. 23 و47)، وطور نظام الري في البلاد لتزدهر الزراعة ويعم الرخاء.

8. 3 ـ توحيد الأمة وحشد طاقاتها

... على الرغم من أن الغاية التي سعى إلى تحقيقها كل من يوسف بن تاشفين ويوسف بن أيوب واحدة، وهي محاربة الصليبيين وإبعادهم عن ديار المسلمين، فإنهما لم يبادرا إلى

(1/7538)

ذلك، وإنما عملا على توحيد الجبهة الداخلية أولاً قبل التوجه إلى العدو ومقارعته. وقد استغرق التوحيد حوالي ستة وعشرين عاماً من جهود يوسف بن تاشفين وسبعة عشر عاماً من يوسف بن أيوب. والسبب في قصر المدة بالنسبة للثاني هو أن عملية التوحيد كانت قد بدأها في المشرق قبله عماد الدين زنكي أتابك الموصل وبعده ابنه نور الدين زنكي. »وهذا الأخير هو الذي أمر بصنع منبر المسجد الأقصى الشهير، تمهيداً لنقله إلى القدس عند تحريرها من قبضة الصليبيين، وهو ما فعله صلاح الدين الأيوبي«.

(1/7539)

... ويوسف بن تاشفين جاهد قبل كل شيء من أجل توحيد المغرب الذي كانت قبائل البرغواطيين والمغراويين والزناتيين واليفرينيين تتقاسمه، فراح يفتح مدنه واحدة واحدة: تارودانت، أغمات، فاس، تلمسان، وهران، طنجة، سبتة، محولاً البلاد من حكم القبيلة إلى حكم الدولة. وبعد أن تأتى له ذلك، انتقل إلى الخطوة التالية في منهجيته القاضية إلى التحول من وحدة البلاد إلى وحدة الأمة. فاتجه إلى الأندلس.

... ولم تكن حال الأندلس بأفضل من حال المغرب حين وصل يوسف بن تاشفين إلى سدة الحكم. فبعد انقراض الخلافة الأموية في الأندلس في

(1/7540)

صدر المائة الخامسة الهجرية، استقل الحكام بمدنهم وتقسمت البلاد إلى دول وإمارات. فكانت هناك إمارة بني جهور في قرطبة وإمارة بني حمود في الجزيرة الخضراء ومالقة ودولة بني عباد في إشبيلية ودولة بني زيري في غرناطة، وهكذا. وهذا ما أطلق عليه اسم عصر ملوك الطوائف الذي ينطبق عليه قول ابن الخطيب:

حتى إذا سلك الخلافة انتثر

قام بكل بقعة مليك

وذهب العين جميعاً والأثر

وصاح فوق كل غصن ديك

... وكان ملوك الطوائف منغمسين في ترفهم، يسعى بعضهم إلى توسيع أملاكه على حساب بعضهم الآخر، وانشغلوا عن مجاهدة العدو

(1/7541)

بخلافاتهم المستمرة وبمحاربة بعضهم بعضا، بل كان كثير منهم يتحالف مع العدو على إخوانه المسلمين، أو يذعن للعدو فيدفع له الجزية. وهكذا فإن ملوك الطوائف كانوا يحملون الألقاب الرنانة الطنانة دون أن تكون لهم القوة أو السلطة التي قد توحي بها تلك الألقاب. ولهذا قال الشاعر:

مما يزهدني في أرض أندلس

ألقاب مملكة في غير موضعها

ألقاب معتضد فيها ومعتمد

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

...

... ونتيجة لهذه الأوضاع المزرية المتدهورة، أقدم ألفونس السادس صاحب قشتالة على شق الأندلس شقاً حتى وصل جزيرة طريف واحتل في

(1/7542)

طريقه مدينة طليطلة وحاصر مدينة سرقسطة (الناصري، ج 2، ص. 31). فكتب المعتمد بن عباد ملك إشبيلية إلى يوسف بن تاشفين »يستدعيه للحوز برسم الجهاد ونصر البلاد. فأجابه يوسف بن تاشفين بقوله لا يمكنني ذلك إلا إذا ملكت طنجة وسبتة« (الناصري، ج 2، ص. 31). وهذا مصداق قولنا إن الرجل يسير على منهجية مرسومة ولا يصدر عن رغبات أو نزوات عابرة وقتية، فقد كان يريد توحيد الجبهة الداخلية أولاً.

... وعلى الرغم من كثرة رسل أهل الأندلس وكتبها ترجوه النجدة والنصرة، فإنه لم يتوجه إلى الأندلس إلا بعد أن تمكن من توحيد البلاد

(1/7543)

وتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية. وقد تحقق له ذلك بعد حوالي ربع قرن تقريباً من توليه السلطة؛ إذ ذاك عبر إلى الأندلس والتحم مع جيوش الإسبان، التي تدعمها قوات إيطالية وفرنسية بمباركة البابا، في معركة الزلاقة الشهيرة عام 479 التي كُتب له فيها النصر المؤزر.

... وكانت الأوضاع التي واجهت صلاح الدين الأيوبي في المشرق مشابهة لتلك الأوضاع التي عاشها يوسف بن تاشفين في المغرب. فعندما ضعفت الخلافة العباسية، استقل الأمراء بما تحت أيديهم من البلاد. وأمست سلطة الخليفة الفعلية لا تتعدى أسوار قصره حتى يكاد

(1/7544)

ينطبق عليه قول الشاعر:

خليفة في قفص

يقول ما قالا له

بين وصيف وبغا

كما تقول الببغا

... وقد عمل عماد الدين زنكي أتابك الموصل وولده نور الدين على توحيد البلاد قبل الشروع في محاربة الصليبيين. وواصل صلاح الدين هذه المنهجية بعد أن ولي الأمر في مصر عام 564 هـ. فهو لم يبادر إلى مهاجمة الصليبيين الذين كانوا يحتلون القدس وجميع الساحل في بلاد الشام، وإنما أخذ يعمل على توحيد الجبهة العربية الإسلامية أولاً. فقام بفتح بلاد النوبة في جنوبي مصر سنة 568 هـ. وفي العام نفسه أرسل حملة إلى برقة وطرابلس الغرب

(1/7545)

وأطراف من تونس. وفي عام 569 هـ، بعث بجيش لفتح اليمن التي كانت تتقاسمها دويلات متصارعة فأعاد الخطبة فيها للخليفة العباسي. وعندما توفي نور الدين زنكي سنة 569 هـ، هدد النزاع بين ورثته تلك الوحدة التي سادت الشام قبل وفاته، وعاد الأمراء إلى منازعتهم وخلافاتهم وتحالفاتهم مع الصليبيين، وآلت الأمور إلى »تشعب الآراء وتوزعها، وتشتت الأمور وتقطعها، وإن كل قلعة حصل فيها صاحب، وكل جانب طمع إليه طالب« كما يقول صلاح الدين في رسالته التي وجهها إلى الخليفة العباسي المستضيء بالله طالباً منه تقليداً جامعاً بمصر

(1/7546)

والمغرب (أي غرب مصر) واليمن والشام ليتمكن من مجابهة الصليبيين. وقد وصله هذا التقليد عام 570 هـ (القلقشندي، ج 13، ص. 81).

... وقد استغرق توحيد الجبهة الإسلامية سبعة عشر عاماً منذ أن أصبح صلاح الدين وزيراً في مصر عام 564 هـ حتى أصبح مستعداً لمنازلة الصليبيين. وفي خلال تلك الفترة كان صلاح الدين يناوش الصليبيين حيناً، ويهادنهم حيناً آخر، ويرد اعتداءاتهم أحياناً أخرى، ولكنه لم يبادر إلى مهاجمتهم، لكي تتاح له فرصة استكمال توحيد الجبهة الإسلامية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وإتمام الاستعدادات

(1/7547)

العسكرية. وقد توجت جهوده المضنية تلك بانتصاره على الصليبيين في معرفة حطين الشهيرة التي دارت رحاها سنة 583 هـ (4/7/1187).

8. 4 ـ لماذا التخلص من ملوك الطوائف في الأندلس وأمراء المدن في المشرق

... عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس بدعوة من أهلها، ملوكاً وفقهاء ورعايا. وهكذا قام بالجهاد وانتصر في موقعة الزلاقة الشهيرة عام 479 هـ كما ذكرنا، وقفل راجعاً إلى المغرب، ولم يدر بخلده أن يعزل ملوك الطوائف أو يضم الأندلس إلى ملكه. ولكن الأوضاع سرعان ما تدهورت، لأن ملوك الطوائف عادوا إلى سابق عهدهم من

(1/7548)

الخصومات والمناكفات والتآمر بعضهم على بعض والتحالف مع العدو. فاضطر يوسف ابن تاشفين إلى أن يعود ثانية إلى الأندلس مجاهداً سنة 481 هـ وثالثة عام 483 هـ، وأخيراً، تأكد له أن لا مناص من عزل ملوك الطوائف وتوحيد الأندلس داخلياً ومع المغرب. ويمكن تلخيص الأسباب التي دعته إلى اتخاذ قراره بما يلي:

... أ ـ كتب يوسف بن تاشفين إلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الجهاد سنة 481 هـ، فلم يستجيبوا إلا عبد العزيز صاحب مرسية. فقد كتب القائد المرابطي سير بن أبي بكر، الذي بقي في الأندلس على رأس جيش لحماية بلاد المسلمين،

(1/7549)

إلى ابن تاشفين يقول: »إن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملازمة الحرب والقتال في أضيق العيش وأنكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد عيش وأطيبه«. (المقري، ج 6، ص. 151).

... ب ـ كانت الخلافات مستعرة بين ملوك الطوائف، مما كان يفت في عضدهم ويضعف شوكتهم. وكان بعضهم يصالح ألفونس السادس، ويدفع له الجزية، ويظاهره على المسلمين، كما فعل عبد الله بن بلكين بن باديس صاحب غرناطة؛ وكما فعل المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وقرطبة بعد أن طلب منه سير بن أبي بكر قائد المرابطين في الأندلس تسليم البلاد.

(1/7550)

(الناصري، ج 2، صص. 52 ـ 54).

... ج ـ كان ملوك الطوائف يسيئون معاملة الرعية بما يفرضونه عليهم من مكوس ومغارم كثيرة، فتشكى الناس والفقهاء في الأندلس إلى يوسف بن تاشفين. فطلب هذا من ملوك الطوائف الرفق بالناس ومعاملتهم بالإنصاف. فوعدوه بذلك، ولكنهم لم يفوا بالعهد.

... ومن المصادفات العجيبة أن قرار نور الدين زنكي بتوجيه جيشه، الذي كان يقوده شيركوه ويضم صلاح الدين، من الشام إلى مصر سنة 558 هـ، جاء استجابة لطلب من الوزير الفاطمي شاور الذي كان في صراع مع منافسه في الوزارة الضرغام. وكان شاور يعتزم

(1/7551)

الاستعانة بنور الدين زنكي للتخلص من الضرغام. وعندما يتم له ذلك، يستعين بالصليبيين في الشام للتخلص من جيش نور الدين. (ابن خلكان، ج 7، صص. 146 ـ 147). وعاد شيركوه وجيشه إلى مصر مرة ثانية عام 562 هـ بعد أن علم نور الدين وقائده شيركوه أن شاور كاتب الإفرنج. فاصطدم الجيش بجيش الصليبيين في مصر، وتم الاتفاق على أن يعود كلا الجيشين من حيث أتيا. ثم عاد شيركوه وجيشه إلى مصر عام 564 هـ بعد وصول الصليبيين إليها. وبعد أن تغلب على الصليبيين، رأى ضرورة التخلص من شاور واستلام الوزاة بنفسه. وهذا يذكرنا بعبور

(1/7552)

يوسف بن تاشفين المتكرر إلى الأندلس لنصرة المسلمين ومحاربة العدو ثم اقتناعه بضرورة اجتثاث الداء من الجذور والتخلص من ملوك الطوائف.

...

8. 5 ـ موقف المسلمين من خلع ملوك الطوائف وأمراء المدن

... ذكرنا أن فقهاء الأندلس وأعيانها هم الذين كتبوا إلى يوسف بن تاشفين يرجونه التخلص من ملوك الطوائف، بل جاءته فتاوى أعلام أهل المشرق مثل الإمام الغزالي والطرطوشي بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم. وعندما كان الجيش المرابطي يتوجه لخلع أحد ملوك الطوائف، فإنه لم يكن يدافع عنه رعاياه. وقد لاحظ ذلك المعتمد بن عباد،

(1/7553)

ملك إشبيلية، وذكره في شعره:

إن تستلب مني الدنى

فالقلب بين ضلوعه

ملكي وتسلمني الجموع

لم تسلم القلب الضلوع

... وقد تكررت هذه الظاهرة عندما قرر صلاح الدين الخطبة للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة الفاطمي؛ فقد تلقى الناس الأمر بالقبول، »ولم ينتطح فيه عنزان« كما يقول ابن الأثير.

... ويمكن أن نفسر الأمر بعدم اهتمام الناس بما يجري على مستوى السلطة لانشغالهم باليومي والملموس. كما يمكننا أن نعلل موقف الناس ذاك برغبتهم في قيام جبهة إسلامية موحدة تستطيع مجابهة العدو والتغلب عليه. ولكن الأمر المؤكد الذي

(1/7554)

حفظته لنا كتب التاريخ هو أن المسلمين تلقوا توحيد السلطة بالرضى والقبول.

... بيد أن هذا لا يعني عدم وجود بعض الأفراد، خاصة بعض الشعراء، الذين أحزنهم ذهاب ملوك الطوائف وأمراء المدن الذين كانوا يرعونهم ويغدقون عليهم الهبات. ومعروف أن ابن اللبانة كان في طليعة شعراء بني عباد في إشبيلية، وقد رثاهم بقصائد عديدة منها تلك القصيدة التي مطلعها:

تبكي السماء بجمع رائح غادي

وكعبة كانت الآمال تعمرها

على البهاليل من أبناء عباد

فاليوم لا عاكف فيها ولا باد

(1/7555)

كما رثى عبد المجيد بن عبدون بني المظفر أصحاب بطليوس بقصيدته التي مطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأطلال والصور؟

... ونجد وضعاً مماثلاً في المشرق. فعندما وضع صلاح الدين الأيوبي نهاية للخلافة الفاطمية، رثاها شاعرها عمارة اليمني. وعلى الرغم من أن عمارة اليمني لم يكن فاطمياً وإنما شافعياً من زبيد في اليمن، فإنه أعجب بمنجزات الدولة الفاطمية في العلوم والآداب، فرحل إلى القاهرة واتصل بالخلفاء الفاطميين الذين قربوه وأحسنوا إليه. ولهذا فإنه رثى الدولة الفاطمية بقصيدة يقول فيها:

(1/7556)

رميت يا دهر كف المجد بالشلل

هدمت قاعدة المعروف عن عجل

لهفي ولهف بني الآمال قاطبة

وجيده بعد حسن الحلي بالعطل

شقيت، مهلاً، أما تمشي على مهل

على فجيعتها في أكرم الدول

... ولكن صلاح الدين الأيوبي لم يقتل الشاعر بسبب هذه القصيدة، ولم يقتل بسبب انتمائه الطائفي (فقد كان مثله شافعياً). وإنما قتله، لأنه اتهم بالتآمر للتخلص من صلاح الدين الأيوبي وإعادة الخلافة الفاطمية.

9 ـ الخلاصة

... إن الظروف السياسية التي واجهت المسلمين في المشرق خلال القرن السادس الهجري كانت شبيهة إلى حد ما بتلك الظروف التي أحاقت

(1/7557)

بإخوانهم في الغرب الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري. فبعد أن ضعفت الخلافة العباسية في القرن الرابع الهجري، استقل العمال والولاة بما تحت إيديهم من المدن والأراضي، وانشغلوا بانقساماتهم الداخلية وتدنت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ما شجع الأوربيين على شن حملات صليبية متلاحقة تحت ذريعة تحرير الأراضي المقدسة. فاحتلوا شواطئ الشام، وأسسوا ممالك متحالفة في بيت المقدس وبقية المدن الساحلية، وأخذت حملاتهم تهدد مصر التي كانت فيها الخلافة الفاطمية في أضعف أطوارها. وكان لابد من إصلاح الأوضاع

(1/7558)

الاجتماعية والاقتصادية في البلاد وتوحيد الجبهة الداخلية قبل التمكن من مقارعة الصليبيين والتغلب عليهم وتحرير القدس. وهذا ما خطط له عماد الدين زنكي وابنه نور الدين الذي أرسل جيشاً إلى مصر ثلاث مرات للدفاع عنها في وجه الحملات الصليبية. وشاءت القدرة الإلهية أن يكون صلاح الدين الأيوبي في ذلك الجيش، ويؤول الأمر إليه في مصر، فيعمل على توحيد الخلافة في العالم الإسلامي ويسير على النهج المرسوم في توحيد مصر والشام والسودان وليبيا واليمن والحجاز، ويصلح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية استعداداً لمنازلة

(1/7559)

الصليبيين والتغلب عليهم في معركة حطين الشهيرة سنة 583 هـ.

... وسيرة هذا البطل الإسلامي ومنهجيته في مجابهة العدو تذكرنا بسيرة بطل إسلامي آخر سطع نجمه في الغرب الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري (قبل قرن تقريباً من صلاح الدين الأيوبي) هو أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي كان يؤمن بوحدة الأمة الإسلامية. فحرص على تلقي تفويض الخليفة العباسي والخطبة له وضرب النقود باسمه، ثم توحيد مناطق المغرب المختلفة في دولة واحدة، وإصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبناء جيش قوي قبل أن يلبي دعوة مسلمي الأندلس

(1/7560)

ويهب لنجدتهم ويوقف خطر الصليبيين هناك في انتصاره عليهم في معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479 هـ. وعندما بقى خطرهم ماثلاً بعد ذلك بسبب الخلافات المستمرة بين ملوك الطوائف في الأندلس وتحالف بعضهم مع العدو وتقاعس بعضهم الآخر عن الجهاد، تأكد ليوسف بن تاشفين أن الحل الأساسي بتمثل في التخلص من ملوك الطوائف وتوحيد الأندلس والمغرب في دولة قوية واحدة قادرة على درء خطر الصليبين.

المراجع التي ورد ذكرها في الدراسة

(1/7561)

إبراهيم محمد حسن الجمل، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قاهر الصليبيين في الغرب وموحد المغرب والأندلس، مطبوعات الشعب، القاهرة، 1976.

ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة، الرباط، 1973.

ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، دار الثقافة، بيروت، 1980.

أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954.

(1/7562)

أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، دار الفكر، بيروت، 1987.

أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968.

أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار الفكر، بيروت، 1986.

سيدة إسماعيل كاشف، صلاح الدين الأيوبي بطل وحدة الصف العربي الإسلامي وبطل الجهاد في سبيل الله، عالم الكتب، بيروت، 1986.

عبد الحق حموش، ابن تاشفين، دار الكتاب، الدار البيضاء، د. ت.

(1/7563)

عبد الرحمن بن خلدون، تاريخ العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت.

عبد الكريم كريم، »رضيت أن أفتح القدس وأعمى«، في مجلة التاريخ العربي، ج 1، 1996، صص. 31 ـ 38.

علي القاسمي، »أخطاء شائعة عن صلاح الدين«، في جريدة العلم، العدد 18033، 1999، ص. 10.

علي بن محمد ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.

(1/7564)

علي بن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، الدار العربية للكتاب، بيروت، 1978.

قدري قلعجي، صلاح الدين الأيوبي، دار الكاتب العربي، دمشق، 1979.

مصطفى الزباخ، بنية الخطاب في فن الرسالة المرابطية بالأندلس: قراءة في المشروع الحضاري المغربي بالغرب الإسلامي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1988.

الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة العربية للنشر والتوزيع، الرياض، 1996.

(1/7565)

... تاريخ الحرف العربي المطبوع

... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد سديد

... ... ... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

1- نشأة الحرف العربي

ولد الحرف العربي في الجزيرة العربية، وشب في الشام، وبلغ سن الرشد في المغرب والأندلس. ولما أخذ طريق العودة إلى مسقط رأسه، كان يئن تحت وطأة تقنيات الطبع الغربية : هاجر مخطوطا، ورجع مطبوعا. وإذا كانت مراحل تطوره قد حظيت بدراسات عدة، فإن التاريخ سكت عن زمان ولادته ولم يف بأدلة مادية متعددة تمكن الباحث من معرفة الظروف التي ظهرت فيها أول النقوش

(1/7566)

وكيف صارت عربية بعد أن كانت نبطية.

يرجع الفضل في اكتشاف الأدلة المادية على أصل الخط العربي إلى بعثات علمية أجنبية نقبت في بعض أرجاء ميلاد الحضارة العربية والدين الإسلامي

(1) . وتأتينا الإنتاجات العلمية بانتظام عن اكتشافات جديدة حول أصل الكتابات. أما أصل الكتابة العربية، فإنه لم يعرف تقدما ملحوظا منذ استنتاجات ب. موريتز ( B. Moritz) (2)

__________

(1) خليل يحي نامي، أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام، مطبعة بول باربيي، القاهرة، 1935.

(2) B. Moritz, « Arabie », in Encyclopédie de l’islam, 1 ére édition.

(1/7567)

. فكأن التاريخ اكتفى بما أتى به المنقبين الذين رسموا معالم تأريخ الحرف العربي وجعلوه يرتكز على أدلة مادية وعلمية بعد أن كانت كل الآراء مجمعة على أنه اصطلاح. وهنا يجدر بنا أن نتساءل : كيف يمكن تعليل هذا العجز ؟ أيرجع ذلك إلى فقر تاريخنا من الأدلة المادية ؟ أم إلى انصارفنا عنه ؟ أم إلى إعطائنا الأهمية إلى أشياء أخرى ؟ أم إلى عدم وجود كفاءات علمية عربية في هذا المجال ؟ أم أن البحث جار ونجهل نتائجه ؟ أود ترجيح الافتراض الأخير لما لقبله من سلبيات.

(1/7568)

اختلفت الشعوب والحضارات التي استعملت الحرف العربي عبر التاريخ. ونظرا لاتساع خريطتها الجغرافية، فإنه يصعب تتبع خطوات تطور الحرف العربي عن قرب عبر الأمصار والأقاليم ؟ (1)

تزامن ميلاد الكتابة العربية مع ميلاد الدين الإسلامي. هذا ما أجمع عليه الباحثون (2) . إلا أنه أغفل أن الإسلام أعطى الكتابة العربية رسالة مكنتها من التطور والانتشار.

__________

(1) عبد الفتاح عبادة، انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والغربي، القاهرة ، 1915.

(2) سهيلة ياسين الجابوري، أصل الخط العربي وتطوره حتى نهاية العصر الأموي، بغداد ، 1977.

(1/7569)

نشأت في كنفه إلى أن صارت كتابة دين، وهاجرت في ظله لتصبح كتابة دين ودولة. وهكذا التصق تطور الحرف العربي بتطور الدولة الإسلامية لكونه لم يقتصر، منذ بداية أمره، على كتابة اللغة العربية.

ولما كان على رأس الدولة الإسلامية في غالبية الأمر خليفة عالم طالما اقترن اسمه بالحركة العلمية ونشرها ووزير كاتب يهتم بالحركة الخطية وإصلاحها، فقد حظي الحرف العربي باهتمامه جعله يتخطى أولى العقبات التي اعترضت مسيرته.

2- تطور الحرف العربي

(1/7570)

قبل التطرق للحرف العربي المطبوع والمشاكل التي عرفها عبر تاريخه، يجدر بنا أن نتعرض - ولو بإيجاز - لمراحل تطوره، وذلك منذ نشأته إلى اكتمال بنيته.

خضع الحرف العربي المخطوط عبر تاريخه لعمليتين إصلاحيتين أساسيتين :

- العملية الأولى : إصلاح في المضمون نتج عنه زيادة التنقيط والحركات لضبط اللغة العربية في لسان الأعاجم على أثر الفتوحات الإسلامية.

- العملية الثانية : إصلاح في الشكل أدى إلى تقنين رسم الحرف العربي وتنسيق تركيبته وتوازنه الشكلي وضبطه (1)

__________

(1) عثمان بن سعيد الداني ، المحكم في نقط المصاحف، دمشق ، 1960.

(1/7571)

.

وتعرب هاتان العلميتان عن مدى اهتمام علماء العرب الأوائل بكتاباتهم. كما تترجم أهمية الحرف في مسار التنمية الثقافية والفكرية. والتاريخ الحديث حافل بمثل هذه المواقف الإصلاحية (1) . إذ التقدم الصناعي مرهون بالتقدم العلمي والفكري. ولا يمكن إنجاز تقدم فكري دون كتابة مواكبة للتكنولوجيا الحديثة ( شكل 1 ) (2).

لما نادى المصلحون بتجديد الفكر العربي، أنشئت المعاهد والمجامع لإيجاد الحلول الكفيلة بالنهوض بالحركة

__________

(1) M. Sadid, L’alphabet arabe et la technologie, Issesco , 1991.

(2) راجع الأشكال في آخر النص.

(1/7572)

الثقافية العربية. ارتأت المؤسسات العلمية آنذاك أن النهضة العربية ترتكز أساسا على حرف عربي يمكنه نشر العلم والمعرفة بين كل طبقات الأمة العربية. فنظمت هذه المؤسسات حركة تسيير الكتابة العربية. إلا أن هذه الحملة لم تتمخض إلا عن تجسم محنة الحرف العربي أمام التطور التكنولوجي. وهذه المحنة لم تكن بالفعل محنة الحرف العربي نفسه، وإنما كانت محنة الفكر العربي الذي عجز عن تلبية متطلبات كتابته وخلق تقنيات تلائمها (1).

__________

(1) حول تسيير الكتابة العربية، يرجع إلى محاضر مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

(1/7573)

ويمكن تعليل نجاح المراحل الإصلاحية الأولى للخط العربي بأنها كانت ناتجة عن إرادة سياسية مركزية قوية وموحدة. أما فشل مساعي المؤسسات العلمية العربية على اختلاف أنواعها، فإنه كان فشلا جماعيا : إذ عجزت عن تشخيص العلة ورصد تقنية مجدية تنبئ بأن الحرف العربي يمكنه مواكبة العلم والتكنولوجيا كباقي الحروف الأخرى. لكن قضية الحرف ليست مسألة فردية.

3- ظهور الحرف العربي المطبوع

ظهر الحرف العربي المطبوع في أوربا والفكر العربي في شبه سبات. كانت بواكير طباعة الحرف العربي في ألمانيا بمدينة ماينس ( Mayence) سنة

(1/7574)

1489. إذ أراد أحد رجال الدين الدومينيكين، يدعى برنار ده بريدنباخ ( Bernaed de Berydenbach) ، وصف مدينة القدس على أثر رجوعه من رحلة إلى الشرق. فكانت رحلته أول كتاب أوروبي مطبوع تضمن حروفا

عربية (1) . وكانت هذه البداية انطلاقا لاستعمال الحرف العربي في مستهل الكتب اللاتينية التي تتحدث عن العرب أو العربية لتبسيط قراءة الأسماء

__________

(1) الكتاب بعنوان Voyage et pièrinage d’outre - mer au saint sépiucre de la cité نشره راهب دومينيكي يدعى مارتان روث ( Martin Roth) بمطبعة إيراز رويش ( Erhard Reuwich) سنة 1486.

(1/7575)

والمصطلحات. وصارت هذه الكتب تحتوي على نصوص عربية كاملة كما هو الشأن في الكتب التي أصدرها بيدرو ده ألكالا ( Pedro de Alcala) بمدينة غرناطة سنة 1505 من الملك فيردينان ( Ferdinand) والملكة إيزابيل ( Isabelle) لتنصير مسلمي الأندلس (1).

تعددت المبادرات والمقاربات التي لم يحتفظ التاريخ إلا بأسماء بعضها، وتعددت الإشارات إلى جلها في الكتب المختصة. ويجهل ما آلت إليه الحروف التي استعملت في طباعة هذه النماذج كما يجهل

__________

(1) صدر الكتابان في غرناطة سنة 1505 : الأول بعنوان " وسائل تعلم اللغة العربية ومعرفتها"

(1/7576)

والظروف التي صممت فيه وأسماء صانعيها. لقد أغفل التاريخ أسماء هاجرت لأسباب متعددة وعملت في الخفاء طوعا أو كرها في بناء صرح الحضارة الأوروبية.

إن جل المعالم الخطية تؤكد أن مهد الحرف العربي المطبوع كان بإيطاليا، بالفاتيكان، وأن مصممي الحروف كانوا مغاربة أو أن الكتابة التي اتخذت نموذجا لحفر الحروف المطبعية وصبها كانت بخط مغربي أندلسي (1) . ويرجح هذا الاحتمال أسباب عدة نذكر منها :

__________

(1) محمد سديد، "حفريات حول الطباعة بالمغرب" ، مجلة التايخ العربي، عدد 2، صص.253-265.

(1/7577)

أ- اهتمام الكنيسة المسيحية بالحضارة الإسلامية بالأندلس واستقطاب علمائها ومفكريها إلى إيطاليا للاستفادة من خبرتهم، وخاصة في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي؛

ب - صدور مؤلفات عربية عديدة بحروف مطبعية ذات نسق مغربي

( الفاء والقاف )(1) .

ج - وجود بعثات علمية مسيحية بمدارس الأندلس، وخاصة بطليطلة. وكان من بين هؤلاء الطلبة البابا جربير (2)

__________

(1) سليم نزهت، تاريخ الطباعة في تركيا، الرياض ، 1993، ص.40.

(2) هو البابا رقك 146، ويدعى سلفستر الثاني ( 930-1003 م) . رحل من فرنسا إلى الأندلس، فدرس الهندسة والميكانيك والفلك، وأدخل الارقام العربية والساعة إلى فرنسا. ( ارجع ع. بدوي، موسوعة المستشرقين) ، بيروت ، 1984 ص.107

(1/7578)

؛

د- مقام عدة علماء بروما، كالإدريسي ( 1100 م- 1165 م) والحسن الوزان ( Léon l’Africain) ( 1483 م - 1555 م ) وغيرهم؛

هـ- اختيار السفير الفرنسي فرانسوا ده سفري ده بريف ( F. de Savary Brèves)، على أثر رجوعه م سفارته بالباب العالي سنة 1611، إيطاليا لحفر روفه المطبعية العربية قد يبرره خبرة كافية في صناعة الحروف العربية لم يجدها في فرنسا بالرغم من مهارة الصانع الفرنسي وقتذاك.

لم تكن غاية بداية الحرف العربي في بداية أمره نشر العلم والمعرفة، كما هو شأن الحرف اللاتيني، وإنما تطورت صناعته استجابة لمطالب

(1/7579)

عدة أهمها :

أ - الدعاية الدينية :

يعتبر أول كتاب عربي مطبوع وصل إلينا كاملا هو كتاب " صلاة السواعي " ( شكل 2 ). طبع هذا الكتاب على نفقة البابا بولس الثاني سنة 1415 م بمدينة فانو ( إيطاليا) قصد دعم الطقس الملكي بالشرق الأوسط. ويحتمل أن تكون الحروف المطبعية العربية التي استعملت في طبعه قد دمرت مباشرة بعد صدوره: إذ لا يوجد أثر مطبوع عربي في أوروبا أو في باقي البلدان العربية. والمرجح أن البابا الذي ساعد على نشر الكتاب قد أمر بإتلافها خوفا من أن تستعمل في نشر الكتب الإسلامية. كما أمر البابا بول

(1/7580)

الثالث بإحراق أول مصحف طبعه باكانينو ( Paganino) بالبندقية ( إيطاليا) سنة 1500 م خوفا من أن ينتشر القرآن بين الأوربيين (1) .

إن صدور كتاب " صلاة السواعي " ، بالرغم من قلة انتشاره وإتلاف النسقة العربية التي استعملت في طبعه، رسم معالم الطريق وحث عرب المشرق على الاهتمام بفن صناعة الحرف العربي وتعلمه. فكانت مبادرة يوسف الشماس، الذي اقترنت عزيمته بأطماع الكنيسة في الغزو الديني للمشرق، بداية الطباعة العربية في البلاد

__________

(1) J. Balagna, L’imprimerie arabe en Occident , Maisonneuve & Larose, 1984, P : 23.

(1/7581)

العربية حيث صدر أول كتاب عربي في بلاد الشام سنة 1610 م (1) .

بقدر ما نعرف المسالك التي سلكتها الحروف العربية في طريقها إلى البلاد العربية، نجهل مصمميها وصانعيها في البلدان الغربية. وهكذا يبدو أن قنوات المعرفة التي صبت في المجتمع الأوروبي لم تكن ذات اتجاهين.

كان لزاما أن يظل نشر المعرفة في البلاد العربية مرهونا بالحظر الباباوي، إلى أن ظهرت مهارات عربية محلية تمكنت من تصميم حرف عربي وطني. ويعتبر عبد الله زاخر أول من تمكن من حفر وصب نسقة

__________

(1) P.J.Nasrallh, L’imprimerie au Liban, Harissa, 1949, P : 4.

(1/7582)

عربية ببلاد عربية. كان ذلك بدير شعير بالشام سنة 1731 م(1).

(شكل 3 )

طبع الشام بحروف عربية والطباعة محظورة على مسلمي تركيا بأمر من السلطان بايزيد الثاني منذ سنة 1485 م (2) . ولم يسبق الشام إلى معرفة فن الطباعة إلا المغرب (3).

ب - التعليم :

__________

(1) عبد الله زاخر : هو عبد الله بن الصايغ. أب يسوعي، ولد سنة 1680 م بالشام، وتوفي بها سنة 1748م ( P.J.nasrallah, Op-cit ., P : 26

(2) خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، مصر، 1966، ص.23.

(3) م. سديد ، "حفريات...."، مرجع مذكور.

(1/7583)

بالرغم من الحظر الباباوي لاستعمال الحروف العربية، فإن تقدم تعليم اللغة العربية بأوروبا حتم على أول المستعمرين استعمال الحروف العربية لأغراض غير دينية.

ويعتبر كتاب " النحو" لكيوم بوستيل ( Guillaume Postel) أول إنتاج علمي للحرف العربي (1) .

يشكل كتاب بوستيل ( postel) بداية الحرف العربي المطبوع. وهي محنة رسختها إنتاجات إيربينيوس (2) ( Erpeuis) ودو ساسي (3)

__________

(1) G.Postel, Grammaire arabe, Paris, 1538.

(2) توماس إرييوس ( 1584-1624) . أصدر أول كتاب منهجي للغة العربية الفصحى بليدن سنة 1613 م.

(3) مستشرق فرنسي ( 1758 - 1838 م ) نشر كتابا في نحو اللغة العربية بباريس سنة 1810 م.

(1/7584)

( De Sacy) ومن تلاخم ممن حاولوا إخضاع الحرف العربي إلى مقاييس الحرف اللاتيني، جاهلين أن لكل خط منطقا وفلسفة خاصة.

تحمل الحرف العربي المطبوع أوزار المستعمرين وأثقال أغلال التقنيات زهاء خمسة قرون ولم ينزعها إلا بخضوعه لمقاييس مصممي برامج مكروسوفت ( Microsoft) التي بسطت الحرف العربي وجعلته في مستوى الكتابات التكنولوجية، إذ أسندت اختيار الحرف حسب موضعه من الكلمة إلى برنامج محكم، وهو الشيء الذي كان يشكل عقبة أمام الطابع العربي.

(1/7585)

وهكذا، ما كاد يتحرر الحرف العربي من رقابة الكنيسة حتى أسرعت خطاه وتعددت نماذجه ونسقاته. اختلف الصانعون في تصميمه، فكان اختلافهم رحمة على اللغة العربية. وتعددت أطماع الأوربيين، فكان ذلك سبب انتشار الطباعة العربية في مراكز تعليمهم.

ونظرا لما كان يوليه القادة الأوربيون للحرف العربي، فقد حرص نابليون ( Napoléon) ، وهو في طريقه إلى غزو مصر سنة 1798م، على أخذ نسقات الحروف العربية التي كانت موجودة في مطبعة الفاتيكان (1)

__________

(1) François Charles - Roux, Bonaparte gouverneur d’Egypte, Paris, 1936, P . 12 et 13.

(1/7586)

. حملها معه وسيلة غزو فكري. وقد تكررت العلمية نفسها أثناء غزو فرنسا للجزائر، حيث حمل الجيش الفرنسي بين معداته الحربية حروفا مطبعية عربية استعملها في طبع الجرائد والمنشورات وهو محاصر للجزائر سنة 1830 م.

4- رحلة الحرف العربي المطبوع إلى البلدان العربية

ظلت جل البلدان العربية تطبع بحروف عربية مستوردة حتى منتصف القرن العشرين. وقد رأينا أن تصميم الحروف العربية المطبوعة حمل في طياته جهل الأوروبيين لفكر اللغة العربية. إذ حاولوا ترجمية جمالية الخط العربي بحروف معدنية، فتعددت التقويسات والتعريجات كما

(1/7587)

تعددت أشكال الحرف الواحد حتى فاقت العشرة، مما جعل التصفيف البدوي للحرف العربي مكلفا ومضنيا ( شكل 5 ). استورد العرب الحرف العربي المطبوع بعلاته. وفي غياب الدواء، يزداد الداء حدة مع الزمان.

فترى لماذا لم يكن للعرب إقبال على الطباعة بصفتها فنا بالرغم من شغفهم بالكتب ؟ لعل ذلك راجع إلى سببين أساسين. لم تكن العقلية العربية قد استوعبت بعد أهمية الطباعة، مما كان يجعلها تشعر بامتعاض من الحرف العربي المطبوع.

(1/7588)

أثبتت الحملة الإصلاحية التي نظمتها المجامع العلمية العربية بين سنتي 1938 م و 1944 م أن علماء العرب أنفسهم كانوا يجهلون تركيبة الحرف العربي المطبوع وتقنياته (1) . فلم تتضمن المشاريع الإصلاحية التي درست في مختلف جلسات المجامع المذكورة دراسة علمية تطرقت إلى مرفلوجية الحرف العربي. كما لم يناد أحد بضرورة دراسة تكنولوجية الطبع بدل استبدال الحرف أو تغيير معالمه. ولم تتوصل المجامع العربية إلا لحلول جزئية لم تكن في المستوى المطلوب.

__________

(1) M. Saif, La éforme de l’écriture arabe et l’imprimenrie, P .210.

(1/7589)

كاد يعصف العجز الفكري لقادة مفكرينا العرب بأحد مقومات الحضارة العربية لما استبدلت تركيا سنة 1925 م الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وتلا ذلك اقتراح قاضي القاهرة عبد العزيز فهمي سنة 1942 م في الصدد نفسه. إلا أن قلاع الحرف العربي كانت متينة أمام هشاشة آراء المجددين وضعف حججهم.

5- واقع الحرف العربي المطبوع

يبدو أن المفكرين والقادة العرب لا يجعلون الحرف العربي في مقدمة أولوياتهم بصفته وسيلة لتقدم فكري وحضاري. وتتجلى هذا في تطور الحرف العربي الآلي الذي لا يواكب الحروف التكنولوجية. إذ لا يوجد ولو مصنع

(1/7590)

واحد للحرف العربي في بلاد عربية. وهكذا يعيد التاريخ نفسه.

يحتوي مخزن المطبعة الوطنية ( Cabinet des Ponçons) على ذخيرة كبيرة من الحروف المطبعية العربية تمثل جل الإنجازات الأوروبية في صناعة المحارف والنسقات العربية ( شكل 6 ).

وهذا التعدد كما وكيفا يؤكد مدى اهتمام الأوروبيين بالحرف العربي ومدى مرونة هذا الأخير وطواعيته للإستجابة للمتطلبات التقينة. كما يؤكد عدم وجود مثل هذا التراث في بلاد عربية قلة اكتراثنا بأحد أهم مقومات حضارتنا في عصر تتطور فيه تكنولوجية المعرفة بخطى سريعة. إذ لم تفلح أمة يوما

(1/7591)

أهملت كتابتها. ويخشى أن يؤدي هذا إلى انصراف أبنائنا عن الحرف العربي.

العصر

الحركة الإصلاحية

ملاحظات

الجاهلية ( 328 م)

عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -والخلفاء الراشدين 10 ( 632 م) - 40 هـ ( 661 م )

العصر الأموي الأول 40 هـ ( 661 م) - 129 هـ ( 747 م)

العصر الأموي الثاني نهاية القرن الأول الهجري ( القرن 8 م)

العصر العباسي 132 هـ ( 754 م) 254 هـ ( 876 م )

تكون الأبجدية العربية

تطور بنية الحرف العربي

الحركة الإصلاحية الأولى

( الحركات)

الحركة الإصلاحية الثالثة

( الإعجام)

(1/7592)

الحركة الإصلاحية الثالثة

( تبديل الحركات)

حروف بلا نقط ولا حركات

رسم أبو الأسود الدؤلي الحركات على شكل نقط ملونة مخصصا لكل حركة لونا

وضع الإعجام نصر بن عاصم ويحيى ابن يعمر وأدما النقطة في أصل الحرف باللون نفسه.

وضع الخليل بن أحمد الحركات الحالية لرفع الخلط الذي وقع بين نقط الإعجام ونقط الحركات

شكل 1 - مراحل إصلاح الخط العربي

(1/7593)

تاريخ العلم عند المسلمين

... ... ... ... ... الدكتور محمد السيد علي بلاسي

... ... ... ... ... عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

... ... ... ... والخبير الدولي لمنظمة الإيسيسكو ـ القاهرة

... لقد فجر الإسلام تاريخاً نسب إليه في العصر الوسيط، واهتم المؤرخون بتتبع حركات الفتوح الإسلامية التي وصلت إلى حدود الهند شرقاً وإلى جنوب فرنسا غرباَ… على أن التاريخ الإسلامي ليس فتحاً عسكرياً فحسب بل هو إلى جانب ذلك حضارة متسعة باتساع الفتوح فيما بين الشرق والغرب(1)

__________

(1) أحمد صبحي منصور، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية (كتاب مقرر على طلاب السنة النهائية لكلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر)، (المقدمة، ص أ)، دون ذكر الطباعة والتاريخ.

(1/7594)

.

... فالإسلام الذي نادى بالتوحيد استطاع أن يشعر ذلك العالم المشتت الأطراف بوحدته، وأن يجعل هذه البيئة المترامية الأطراف تشعر بأنها تكون حضارة واحدة يربطها سمط واحد؛ وعن الإسلام نشأت الحضارة العربية؛ ومن الحضارة العربية تولد العلم العربي الذي ساهم في تكوينه مفكرون من مختلف القوميات والجنسيات: سريانيون وفرس وصابئة ومسيحيون ونساطرة ويونانيون وأقباط وعبرانيون وأتراك وذميون، ولكن بلسان عربي وفي ظل الدين الحنيف(1)

__________

(1) أحمد سعيد الدمرداش، »مسيرة الفكر العلمي عبر التاريخ«، مجلة المنهل السعودية، الحلقة الأولى، العدد 450، جمادى الأولى، سنة 1407 هـ، ص. 123.

(1/7595)

.

... ومن هذا المزيج الإنساني كان الفكر الإسلامي إنسانياً أكثر منه إسلامياً !

... والحقيقة أن نسبة هذا الفكر للإسلام نسبة تفتقر للدقة العلمية. فالإسلام منهج إلهي محدد بكتاب سماوي معجز. ومطلوب من المسلمين جميعاً أن يسيروا في حياتهم الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية وفق ذلك التوجيه القرآني. إلا أن المفروض شيء، والواقع شيء آخر. وكما حدث بعض الانحراف عن المنهج الإسلامي السياسي بحيث وقعت حروب بين المسلمين، فقد كان الفكر الإسلامي مرتبطاً بتراثهم القومي قبل الفتح، أكثر منه ارتباطاً بالقرآن

(1/7596)

والسنة.

... وساعد على هذه السقطة أن المسلمين نظروا للقرآن بصفته معجزة موجهة للعرب فقط، فهو معجز للعرب فقط، ونسوا أن القرآن معجز للإنس والجن في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وأن نهايات العلوم قد ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم، كما أن منهجه العلمي التجريبي لم ترق إلى نظيره أي اجتهادات إنسانية؛ ولا أدل على ذلك من أن عصرنا العلمي الراهن لا يستطيع أن يخالف ما جاء في القرآن الكريم من حقائق علمية ! ولو اتخذ المفكرون الأوائل من القرآن الكريم رائداً، لوفروا على أنفسهم وعلى الإنسانية قروناً من البحث

(1/7597)

والرقص على أنغام السابقين من اليونان والهنود.

...

إسلامنا دين العلم والمعرفة

... لقد كان أول أثر من آثار القرآن في الفكر الإنساني اهتمامه الواسع بالعلم. قال الله تعالى {إقرأ باسم ربك الذي خلق}. (العلق: 1). فهذا هو أول خطاب إلهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم(1)، لأنه شعار دين الإسلام؛ ذلك بأن العلم أساس التقدم والتعاون، وتبادل الخبرات والمنفعة. وقد كانت عناية القرآن بالعلم تفوق حد الوصف !

__________

(1) المرجع نفسه (المقدمة: ص أ، ب بتصرف).

(1/7598)

... تأمل القرآن الكريم وتدبر آياته، تجده يدعو إلى تحكيم العقل والمنطق في مظاهر الكون وأحداث الماضي.

... ولقد اشتمل القرآن على ست وثلاثين ومئتين وستة آلاف آية، منها خمسون وسبعمائة آية كونية وعلمية احتوت أصولاً وحقائق تتصل بعلوم الفلك

والطبيعة وما وراء الطبيعة والأحياء والنبات والحيوان وطبقات الأرض، والأجنة والوراثة والصحة الوقائية والتعدين والصناعة والتجارة والمال والاقتصاد، إلى غير ذلك من أمور الحياة، واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب وفي

(1/7599)

سياسة الحكم وإقامة العدل والعدالة الاجتماعية وكل ما يتصل ببناء المجتمع. ذلك بأن القرآن من العمق والاتساع والعموم والشمول بما يقبل تفهم البشر له، أياً كان مبلغهم من العلم، وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب مع أهل البداوة في يسر، ويبهر في عمقه أهل الحضارة الذين صعدوا في سلم الرقيّ وبرعوا في فنون العلم والمعرفة !(1)

__________

(1) الشيخ الصابوني، صفوة التفاسير، من أعلام المفسرين، دار الرشيد، سوريا، ج 20، ص. 581.

(1/7600)

... ولقد حث الإسلام المسلمين على طلب العلم، والتفقه في الدين، والبحث الدقيق في كل مجالاته وفنونه وفروعه، وأن يتحملوا المشاق في سبيل تحصيله وتعلمه، وأن يبذلوا كل طاقاتهم وقدراتهم في طلب المزيد منه.

الحض على العلم

... لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشجع طلاب العلم ويرحب بهم، فرحاً بهم وبما يراه - صلى الله عليه وسلم - من حفاوة الملائكة بهم وحبهم لهم، ويعلن ذلك في صراحة حينما أتاه صفوان بن عال المرادي ـ رضي الله عنه. قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر،

(1/7601)

فقلت له: يا رسول الله! جئت أطلب العلم. فقال: »مرحباً بطالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من حبهم لما يطلب«. (رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد).

... ويؤكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين طلب العلم بأسلوب آخر من أساليب الترغيب المحبب الذي اختص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يقول إلا حقاً، فيقول لأبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه: »يا أبا ذر! لأن تغدو، فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي ألف ركعة«(1)

__________

(1) أحمد عبد الرحيم السايح، »دعوة الإسلام إلى العلم«، مجلة المنهل، العدد 453، شعبان 1407 هـ، ص ص. 18 ـ 19 بتصرف.

(1/7602)

. (رواه ابن ماجة بإسناد حسن)(1).

... لذا، فإن من أعظم الواجبات على المسلمين أن يكلفوا جماعة منهم للتفقه في الدين. قال تعالى: {… فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. (براءة، من الآية 122).

... يقول المراغي:

__________

(1) لمزيد من التفصيل، راجع: لطفي نصر، »كيف يحض الإسلام على طلب العلم؟ «، مجلة الهداية البحريتيّة، العدد 113، رجب 1407 هـ، ص ص. 38 ـ 41.

(1/7603)

... وفي الآية إشارة إلى وجوب التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم، فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها. والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامي المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجباً عينياً على كل شخص(1).

__________

(1) تفسير المراغي، ج 11، ص. 48.

(1/7604)

... وإذا كان نشر العلم من أهم الفروض الإسلامية، فإن من كتم علماً أوجب الله سبحانه وتعالى بيانه للناس فإنه يستحق الطرد من رحمة الله ويلجم يوم القيامة بلجام من نار. ففي الأثر: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »من علم علماً فكتمه: ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار«. (رواه أبو داود والترمذي وغيرهما).

... أرأيت إلى هذه الدعوة الصريحة الملحة لإزالة »الأمية« من المسلمين بواسطة المتعلمين حيال إخوانهم في الدين، فما تجد ديناً دعا إلى العلم والتعلم بكل الأساليب كما

(1/7605)

دعا الإسلام أبناءه ومريديه؛ ذلك لأن العلم هو سبيل الخير والرشاد والسعادة في الدنيا والآخرة…(1).

ممّا أفاد الإسلام به العلم

... لم يكن الإسلام ديناً بالمعنى التقليدي للدين، وإنما هو نظام جديد لا يكتفي بمعالجة القضايا التي عالجتها الأديان من قبله من تنظيم العلاقة بين الفرد وربه فحسب أو تنظيم العلاقة بين الإنسان وأخيه في داخل مجموعة صغيرة، وإنما نراه يلجأ إلى العقل ليحرك به الوعي الذاتي للفرد

__________

(1) لطفي نصر، »كيف يحض الإسلام على طلب العلم؟ «، مجلة الهداية، العدد 113، رجب 1407 هـ، ص. 41 وما بعدها.

(1/7606)

ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي(1)؛ لذا نجد أن الإسلام قد سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته مسلكاً يثير العقل، وهو الدعوة إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر.

... قال تعالى: {فلينظر الإنسان ممّ خلق}. (الطارق: 5).

... وقال: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}. (الأعراف من الآية 185).

__________

(1) أحمد الدمرداش، »مسيرة الفكر العلمي العربي عبر التاريخ«، مجلة المنهل، العدد، 450، جمادى الأولى 1407 هـ (الحلقة الأولى)، ص ص. 123 ـ 124. بتصرف.

(1/7607)

... وقال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}. (يس: 40).

... وقال: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}. (آل عمران: 190).

... هذا الضرب من الآيات الكريمة فيه بعث العقل على النظر في الكون؛ وقد كان لذلك أثره في نمو الحياة العقلية(1)؛ حيث إن مجال استعمال العقل في الإسلام فسيح وعميق عمق الآيات

__________

(1) عبد الرحمن البهلول، »الإسلام دين العلم والمعرفة«، مجلة منبر الإسلام القاهرية، العدد 27، السنة 45، رجب 1407 هـ، ص ص. 72 ـ 73. بتصرف.

(1/7608)

التي خلقها الله في الأرض وفي السماء ودعا الإنسان إلى التفكير فيها ! (1).

مواكبة التعليم للدعوة الإسلامية

... ولقد بدأت الحركة التعليمية مع بداية الدعوة الإسلامية بصورة متواضعة تتفق وبداية الدعوة في مكة المكرمة، حيث كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجتمع بأصحابه والمؤمنين بدعوته في دار الأرقم بن أبي الأرقم أو في بيته ليعلمهم ويرشدهم ويدعم إيمانهم بالله وبمستقبل الدعوة. وحينما انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مهاجره

__________

(1) أحمد صبحي، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، ص. 8. بتصرف يسير.

(1/7609)

الشريف في المدينة المنورة، وأخذت دعوته - صلى الله عليه وسلم - في الذيوع والانتشار، شهد مسجد قباء، ثم المسجد النبوي الشريف ـ بعد أن بناه - صلى الله عليه وسلم -؛ كما شهدت مرابع هذا البلد الطيب دوحة العلم والمعرفة وهي تنمو بسرعة، فتمتد أغصانها الخضراء الظليلة في كل اتجاه وهي محملة بأشهى الثمار.

... ولحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى بعد أن ضرب أروع الأمثال وأنبل الأهداف بكلماته الحية، وأعماله الخالدة لكل الأجيال القادمة.

(1/7610)

... وتوالت الأيام، وتتابعت السنون ومراكز الثقافة والمعرفة في المجتمعات الإسلامية تتعدد منابعها وتتنوع روافدها. فانتشرت حلقات التدريس في المساجد والجوامع وفي منازل الأئمة والعلماء ودورهم، وكان المسجد النبوي أول جامعة إسلامية يلتقي المئات والألوف من الطلاب فيها حول حلقات التدريس التي يتصدر كل حلقة منها أحد كبار العلماء الذين عرفوا باطلاعهم الواسع وثقافتهم العميقة وقدرتهم على اجتذاب المتعلمين والتأثير فيهم. وهي الطريقة التي كانت متبعة في كافة أنحاء العالم الإسلامي إلى عهد قريب. وقد ساعدت هذه

(1/7611)

الحلقات مع امتداد الأيام سواء ما كان منها في المساجد أو في دور العلماء، ساعدت الكثيرين من الأميين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة وأرباب المهن والصناعات على أن يصبحوا مع مرور الزمن على درجة كبيرة من العلم والمعرفة. ولقد أصبح هؤلاء العصاميون من طلبة العلم الذين كانوا بالرغم من أميتهم وكفاحهم يملأون المجالس التي يحضرونها علماً وأدباً وثقافة واسعة ومتعددة الجوانب بطريقة تدعو إلى الإعجاب والإكبار ! (1)

__________

(1) عبد الرحمن البهلول، »الإسلام دين العلم والمعرفة«، مجلة منبر الإسلام، عدد رجب 1407 هـ، ص. 75.

(1/7612)

مسيرة العلم عند المسلمين عبر التاريخ

... لقد ظلت العناية بالعلم والعلماء هكذا منذ فجر الدعوة الإسلامية، حتى كان عصر الدولة الأموية. فقد كان خلفاء هذه الدولة يعدون أنفسهم حماة للعلم ويرون أن قصورهم يجب أن تكون مركزاً تشع منه الثقافة والعرفان... بدأت بعصر معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول ثم خالد بن يزيد بن معاوية المؤسس الأول لعلم الكيمياء عند العرب، وازدهرت في عصر عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.

(1/7613)

... ونشطت حركة الترجمة نشاطاً واسعاً في عصر الرشيد والمأمون، وراسل المأمون ملك الروم وأرسل إليه جماعة من العلماء للحصول على الكتب النادرة من علوم الأوائل. واجتمعت في عاصمة الخلافة العباسية أهم كتب الفلاسفة والعلماء من الأغارقة في مختلف الفروع من طب ورياضيات وفلكيات… وطائفة من الكتب العلمية والحكمية الفارسية والهندية والسريانية… فتسنى لطلاب المعرفة والعلم في العالم العربي أن يهضموا في سنوات قليلة ما أنفق اليونان وسواهم القرون في إنشائه...

(1/7614)

... وقد كانت الكتب تهدى إلى الخلفاء على سبيل الاسترضاء. ولكن هارون الرشيد لما فتح عمورية وأنقرة، حمل معه إلى بغداد كل ما وجد فيها من المخطوطات واقتدى به ابنه المأمون.

... وكان العلماء ـ آنئذ ـ يلحُّون في طلب المخطوطات بلا هوادة. وقد حدثنا حنين بن إسحاق عن مخطوط عرف باسم "في البرهان" بقوله: »إنني بحثت عنه بحثاً دقيقاً وجبت في طلبه أرجاء العراق وفلسطين ومصر… إلى أن وصلت إلى الإسكندرية، لكني لم أظفر إلا بما يقرب من نصفه في دمشق«.

(1/7615)

... وفي غضون حكم المأمون (813 ـ 833 م)، وصلت الجهود الثقافية الجديدة قمتها. فلقد كان المأمون من مفاخر الدولة العباسية علماً وأدباً وفضلاً ونبلاً. ولقد وجه عنايته للعلم وأكرم العلماء وأعلى مجالسهم، وانصرفت همته أيما انصراف إلى نقل العلوم والصناعات من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، حيث عد ذلك من آكد أعماله وأنبل أغراضه، رغبة في رفع شأن أمته وإعزاز جانبها. كما أنشأ الخليفة المأمون في بغداد سنة 830 هـ معهداً رسمياً للترجمة مجهزاً بمكتبة أطلق عليه اسم »بيت الحكمة«. فكان هذا المعهد ـ من وجوه كثيرة

(1/7616)

ـ أعظم المعاهد الثقافية التي نشأت بعد الفتح الإسكندري والتي أسست في القرن الثالث قبل الميلاد(1).

... وفي عهد المأمون نبغ علماء كثيرون وحكماء وبلغاء وكتاب، ممن كانوا فخر الزمان وحلية الدهر، وعلى كتبهم ومؤلفاتهم ـ في مختلف العلوم والفنون ـ شيد الأوربيون حضارتهم الماثلة أمامنا الآن…(2).

__________

(1) الدمرداش، »مسيرة الفكر العلمي«، مجلة المنهل، عدد رجب 1407 هـ (الحلقة الثالثة)، ص ص. 138 ـ 139. بتصرف.

(2) عبد الرحمن البهلول، »الإسلام دين العلم والمعرفة«، مجلة منبر الإسلام، عدد رجب 1407 هـ، ص. 75. بتصرف.

(1/7617)

... وفي حدود سنة 856 م جدد المتوكل مدرسة الترجمة ومكتبتها في بغداد.

... وقد استفادت مجالس العلم من التطور العلمي والترجمة اللذين كانا طابع ذلك العصر. ولما ضعفت الخلافة العباسية في بغداد، انتقل مركز الثقل إلى الممالك والدويلات الشبيهة بالمستقلة. فالديلم كانت لهم مجالس علم، ثم السلاجقة، ثم الغزنويون والساسانيون.

... ومن هذه المجالس مجلس الوزير ابن الفرات أبي الفضل جعفر في عشرينيّات القرن الرابع الهجري، ومجلس أبي عبد الله الحسين بن سعدان في سبعينيات القرن نفسه. وكان مجلسه حافلاً بجلّة العلماء

(1/7618)

والأدباء، وكان يباهي بمجسله بأمثال أبي حيان وابن مسكويه وأبي الوفاء، ثم مجلس السلاجقة وكان يتصدره الوزير الطغراني العالم الشاعر، ومجلس رابع كان يزدان بأمثال البيروني والفردوسي.

... وقد بدأت هذه »الصالونات« أو الجمعيات العلمية في القصور المصرية منذ ظهرت الدولة الطولونية. وكانت دار الحكمة قد أنشئت بالقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله عام 395 هـ على غرار بيت الحكمة في بغداد. وقد حملت إليه الكتب من خزائن القصور وحمل إليها من خزائن الحاكم من الكتب ما لم ير مثله مجتمعاً لأحد الملوك قط، وأجريت الأرزاق على

(1/7619)

من فيها من العلماء والفقهاء والأطباء ! ...

... ومن أشهر العلماء في العصر الفاطمي الطبيب ابن بطلان وعالم البصريات ابن الهيثم: استدعى الحاكم بأمر الله الأول من سوريا، والآخر من العراق.

... وفي تاريخ العلم عند المسلمين ستة يوضعون على القمة في قيادة الحركة العلمية وريادتها هم: المأمون، ونظام الملك، ونور الدين زنكي، والحاكم بأمر الله، وصلاح الدين الأيوبي، والسلطان أولغ بيك في سمرقند.

... ارتبطت هذه الأسماء ارتباطاً وثيقاً. فالأول أنشأ بيت الحكمة، والثاني أسس المدارس النظامية، والثالث كان راعياً

(1/7620)

للعلوم في سوريا، والرابع أنشأ دار الحكمة في القاهرة وجلب العلماء والمخطوطات لها من الأرجاء كافة وأنشأ مرصد المقطم بإشراف ابن يونس الفلكي، والخامس حمى التراث العلمي من غوغاء التتار، والسادس هو مؤسس النهضة العلمية في الدولة التيمورية ونبغ في عصره جمشيد غياث الدين الكاشي وقاضي زادة رمى وشرع في تأسيس مرصد المراغة.

...

مسارات العلم في الأندلس

... وفي الأندلس أصبحت قرطبة في ظل عبد الرحمن الثاني (821 ـ 852 م) مركزاً هاماً للرخاء الاقتصادي والنشاط الفكري جميعاً وتبوأت مقاماً عالمياً في عهد الخليفة

(1/7621)

الأول عبد الرحمن الثالث (912 ـ 961 م) حامي العلوم والآداب، وبفضل تشجيع مطرد النمو أيضاً تزايدت هذه النهضة في حكم ابنه إلى جميع أصقاع العالم الإسلامي لابتياع الكتب واستنساخها، ووفق في جمع مكتبة غاية في الثراء تقدر محتوياتها بأربعمائة ألف كتاب، كما كانت فهارس كتبها تملأ أربعة وأربعين جزءاً. وكان يساعد الخليفة في هذا النشاط العلمي وزيره محمد بن أبي عامر المتوفى عام 1002 م، وأخيراً كان حكم هشام (976 م ـ 1009 م) الذي ازدهرت العلوم على يديه…(1)

__________

(1) الدمرداش، »مسيرة الفكر العلمي«، مجلة المنهل، العدد 452، رجب 1407 هـ ( الحلقة الثالثة)، ص ص. 139 ـ 141. بتصرف.

(1/7622)

.

...

وحمل الأزهر الشعلة

... وليت شعري أن يظل الحال ظل على ما هو عليه. فلقد انقسم المسلمون على أنفسهم في الأندلس، ومن قبل دهم التتار بغداد ـ حاضرة العلوم ـ، بل وأحرقوا ما فيها من كتب وألقوها في دجلة حتى غدت جسراً يعبرون عليه؛ كما قتلوا العلماء، وعطلوا المدارس، وأصبح المسلمون محكومين بقوم من غير جنسهم، كل هذا كوّن غيوماً في سماء المعرفة عند المسلمين. ولكن الله الذي تكفل بحفظ دينه والإبقاء على قرآنه هيأ الأزهر ليكون المكان الذي يشع منه نور العلم والمعرفة. فلقد لجأ العلماء الفارون إليه من وجه

(1/7623)

التتار؛ كما لجأ إليه العلماء المهاجرون من الأندلس، كلهم وجد فيه محطاً لرحاله، ومكاناً صالحاً لأداء رسالته.

... وقد حبب الله إلى سلاطين المماليك أن يميلوا إلى العلم، وأن يقربوا العلماء ويغدقوا عليهم، فتخرج في الأزهر علماء أجلاء لا نزال ننعم بما خلفوه من دراسات واسعة شاملة في شتى ميادين المعرفة، كالسيوطي وابن منظور وابن هشام والسبكي وابن حجر

... وقد بقي الأزهر ـ كذلك ـ منارة هادية حين أطبقت الظلمات في العصر العثماني. ولعل شوقي قصد إلى هذه الفترة من تاريخ الأزهر حين قال فيه:

(1/7624)

ظلمات لا ترى في جنحها

قسماً لولاه لم يبق بها

حفظ الدين مليّاً ومضى

غير هذا الأزهر السمح شهابا

رجل يقرأ أو يدري الكتابا

ينقذ الدنيا فلم يملك ذهابا.. ! (1)

... وثمة أسباب أخرى لضعف المسلمين بعد حياة الازدهار العلمي الذي لم تعرف الدنيا له مثيلاً في وقتها؛ ونحن نرى أن من أعظم هذه الأسباب: أن المسلمين لم يعد يستفيدون من مواقفهم، ولم يعتبروا من ماضيهم،

__________

(1) علي محمد حسن العماري، التاريخ الأدبي للعصرين العثماني والحديث، الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، 1399 هـ، ص ص. 28 ـ 31. فراجعه تجد تفصيلاً.

(1/7625)

فالأمور عندهم أصبحت وقتية تنتهي بانتهاء وقوعها دون عبرة واستفادة !

... ولو قبلنا صفحات ماضينا التليد، لوجدنا أن المسلمين الأوائل كانوا يطبقون مبدأ الاستفادة خير تطبيق.

... ففي غزوة حنين ـ مثلاً ـ على الرغم من كثرة الغنائم التي تركها العدو في انسحابه، فإن المسلمين لم ينشغلوا بالاسيتلاء على غنائم العدو، بل أوغلوا في تعقبه، مستفيدين في ذلك من درس غزوة أحد.

... لذلك وجدناهم في سنين قلائل يفتحون العالم وينشرون الإسلام على ربوعه، ويقيمون حضارة فريدة في وقتها دانت لها جميع الحضارات.

(1/7626)

... أما حين ترك المسلمون مبدأ الاستفادة، فقد ماتت فيهم روح الطموح، وأسلموا راية حضارتهم إلى أعدائهم.

... فالمسلمون في أثناء الحروب الصليبية كانوا يتمتعون بحضارة منقطعة النظير ومتكاملة الجوانب، مزجت تراث اليونان والإغريق والمصريين بأعظم تقدم وابتكار أضافه الإسلام إلى هذه الحضارة ـ وقت أن كانت أوربا تحيا في ظلام الجهل، وتعيش في محيط التخلف. إلا أن المسلمين حين لاقوا الصليبيين في حروبهم وانتصروا عليهم، راضوا الخمول والكسل، وفترت همتهم وعزائمهم، ولم يستفيدوا من موقفهم مع أعدائهم.

(1/7627)

... أما في الغرب، فقد كان الأثر عكسياً. فقد عرف الأوربيون كيف يعبرون من الهزيمة إلى النصر، ومن الجهل إلى العلم، ومن التأخر إلى التقدم، ومن حياة الدَّعة والخمول والكسل إلى حياة الجد والعمل، ومن حالة اليأس إلى حالة الطموح، فالتهموا الحضارة الإسلامية كالجائع المحروم من الطعام عندما يقدم إليه الطعام الشهي لا يبقي منه شيئاً !

... بهذا أقاموا حضارة من لا شيء ! ! ذلك لأنهم عرفوا الاستفادة ولو في أحلك الظروف ! !(1)

__________

(1) محمد السيد علي بلاسي، »لابد أن نستفيد «!، مجلة البريد الإسلامي (وهي مجلة فصلية تصدر عن دار تبليغ الإسلام بمصر)، العدد 7 ـ 9، سنة 1404 هـ، ص ص. 13 ـ 14.

(1/7628)

الأصل والنقل

... الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات: فكل حضارة أبدعت ونقلت وكانت لها سمة تميزها بين الحضارات العالمية. ولم توجد قط حضارة تفردت بالإبداع أو تفردت بالنقل أو خلت من السمة التي تميزها بين سمات الحضارة.

... إلا أن البدعة الحديثة التي نشأت حول الآرية والسامية قد جنحت بالأوربيين منذ ظهرت فيهم إلى اختصاص الحضارة الإسلامية بالنقل دون الإبداع، وحببت إليهم أن يميزوا عليها حضارات الأمم الآرية ـ ولو كانت شرقية ـ بملكة الإبداع والتفكير الحر، ولا سيما في المباحث النظرية التي يراد بها العلم

(1/7629)

للعلم ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة؛ لأن تمييز الشرقيين الآريين ينتهي إلى تمييز العنصر الأوربي في أصوله الأولى، وهي الدعوى التي يسوغ بها سيادته على أمم العالمين !

... وقال منهم قائلون: إن حضارة العرب التي ظهرت بعد الإسلام كانت حضارة منقولة على أيدي الأعاجم الذين دخلوا الإسلام ! (1)

__________

(1) عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوربية، ط 2، دار المعارف، 1963، ص ص. 28 ـ 29. بتصرف

(1/7630)

... وأول ما يوجب التشكيك في هذه الدعوى أن نسأل: أين هي الحضارة التي أبدعت ولم تنقل؟ وأين هي الحضارة التي يقال عن جميع علمائها إنهم من عنصر محض خالص ينتمون إليه ولا يمتزج بالعناصر الأخرى؟

... والحقيقة التي لا يشوبها شك أن كل حضارة مبدعة ناقلة، والحضارة الإسلامية ليست بدعاً في هذا المجال، وإنما أطلعت على فكر السابقين من يونان وإغريق وهنود وفرس وغيرهم من الأمم؛ إلا أن هذه الحضارة تميزت بهضم هذا التراث وأضافت إليه الكثير. فما من أمة تستطيع استيعاب التراث العلمي لغيرها من الأمم التي تفوقها حضارة،

(1/7631)

إلا إذا كانت قد وصلت إلى هذا المستوى من التراث. وقد كانت الأمة الإسلامية جديرة بذلك في وقت قصير. ذلك لأن مظلة العلوم الفقهية وعلوم القرآن والسنة قد أمدتها بإشعاعات أسرعت في تكوين الفيتامينات للفكر العلمي الجديد (1).

... أما عن الفرية القائلة بأن الحضارة الإسلامية ظهرت على أيدي غير العرب، فنقول مجيبين عليهم: إن الإسلام لا يفرق بين جنس وآخر، ما دام الجميع قد دخل تحت مظلته، والحضارة الإسلامية قد اشترك في

__________

(1) الدمرداش، »مسيرة الفكر العلمي«، مجلة المنهل، عدد رجب 1407 هـ (الحلقة الثالثة)، ص. 138.

(1/7632)

تكوينها المسلمون من جميع الأجناس، وكان للأمم الأعجمية ـ حقاً ـ قسط كبير في بناء صرحها في مختلف العلوم والدراسات(1). إلا أنه ينبغي أن يعلم أن هذه الأمم الأعجمية لم تنهض هذه النهضة إلا بعد ظهور الإسلام فيها، ولم تكن لها في إبان مجدها القديم فضيلة على العنصر العربي في الدراسات النظرية التي يراد بها العلم للعلم ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة

__________

(1) محمد السيد علي بلاسي، »دولة العلماء إلى أين؟ «، جريدة أخبار العالم الإسلامي، العدد 956، ص. 12. فراجعه، تجد تفصيلاً.

(1/7633)

... ومن الثابت أنه ليس كل ما انتقل على أيدي الحضارة الإسلامية عربياً محضاً في الأصول والفروع، ولكن حسبها أنه لم ينقطع على أيديها. فاتصلت بفضلها وشائجه بالتاريخ القديم والحديث، فحفظت تراث الإنسانية كلها وزادت عليه ونقلته إلى من تلاها. وكل حضارة صنعت ذلك فقد صنعت خير ما يطلب من الحضارات(1). كما أن ابتكارات الحضارة الإسلامية في شتى مجالات المعرفة ـ مما لا يتطرق الشك إليه ـ دليل على أن حضارة الإسلام مبدعة وليست

__________

(1) العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوربية، ط 2، دار المعارف، 1963، ص ص. 30 ـ 33. بتصرف.

(1/7634)

ناقلة فحسب، كما يزعم المغرضون الحاقدون !

...

ومضات من ابتكارات المسلمين(1)

أولاً: في الرياضيات

... أ ـ الجبر: اخترعه العرب اختراعاً، ونقلته أوربا باسمه. والخوارزمي هو أول من ألف فيه بطريقة منظمة، واعتمدت أوربا على كتابه "الجبر والمقابلة".

... ب ـ الحساب: ابتكر العرب النظام العشري والصفر، ونقلته أوربا باسمه العربي، ووضع العرب مؤلفات كثيرة في الحساب والنسب العددية والهندسية

__________

(1) لمزيد من التفصيل، راجع: المرجع نفسه، ص ص. 34 ـ 129؛ وصبحي منصور، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، ص ص. 88 ـ 105.

(1/7635)

والتناسب واستخراج المجهول والجذور.

... ج ـ المثلثات والفلك: وهم واضعو علم حساب المثلثات، وسهلوا حل كثير من المسائل، وربطوا بين الفلك والرياضة، ونبغ في ذلك الطوسي والبيروني والخازن

... د ـ الطبيعة والميكانيكا: عالج ابن سينا سرعة الضوء والصوت. ويعتبر ابن الهيثم في مقدمة علماء الطبيعة في جميع العصور، وهو من أئمة علم الضوء

ثانياً: الكيمياء

... بطلها جابر بن حيان. فقد عرف عمليات التبخير والتقطير والترشيح والتكليس والتبلور، وحضَّر كثيراً من المواد الكيمائية مثل نترات الفضة وكبريتور الزئبق، وقد

(1/7636)

ترجمت كتبه إلى اللاتينية. واشتهر الرازي بالطب والكيمياء. وقد ابتكر أجهزة ووصف أخرى، وكان لمعرفته بالكيمياء أثر في طبه، وقد حضر الأحماض كحامض الكبريتيك والكحول

ثالثاً: الطب

... لقد عرف العرب المستشفيات، وعنوا بالطب عناية فائقة، ويحدثنا التاريخ: أنه قد دعي إلى الامتحان في بغداد نحو تسعمائة طبيب على عهد المقتدر بالله، وهم غير الأساتذة الثقاة الذين تجاوزوا مرتبة الامتحان، وهي عناية بالطب والصحة لم تشهدها قط حاضرة من حواضر التاريخ القديم. هذا في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية في أوربا تحرم

(1/7637)

صناعة الطب، لأن المرض ـ في زعمهم ـ عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه، وظل الطب محجوراً عليه بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعد الإيمان، عند استهلال القرن الثاني عشر للميلاد، وهو إبان الحضارة الأندلسية

... وكانت مؤلفات العرب في الطب هي عمدة المؤلفات التي اعتمدت عليها أوربا وما زالت في مجال الطب كمؤلفات ابن سينا والرازي وابن الهيثم وغيرهم

... فهذا قبس من ابتكارات المسلمين في بعض العلوم، وهناك ابتكارات وابتكارات للمسلمين ـ في شتى مجالات العلوم ـ لا يكفي لحصرها مجلدات

(1/7638)

ومجلدات، تلك التي بنت عليها أوربا حاضرها بعد ثباتها العميق !

... ولعل هذا كله يلغي تلك الفرية القائلة بأن حضارة الإسلام كانت حضارة ناقلة وليست مبدعة.

... ولا يسعنا أخيراً إلا أن نسوق قول المستشرقة الألمانية المنصفة زيغريد هونكه:

... وإننا لندين ـ والتاريخ شاهد على ذلك ـ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب. وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زينت حياتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوماً من الأيام قاتماً كالحاً باهتاً، وزركشته بالتوابل الطيبة النكهة،

(1/7639)

وطيبة بالعبير العابق، وأحياناً باللون الساحر، وزادته صحة وجمالاً وأناقة وروعة… (1).

المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم

ثانياً: المراجع

أحمد صبحي منصور، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، كتاب مقرر على طلاب السنة النهائية لكلية اللغة العربية ـ جامعة الأزهر، دون ذكر الطباعة والتاريخ.

__________

(1) زيغريد هونكه، شمس الدنيا تسطع على أوربا، ترجمة فاروق بيضون وكمال الدسوقي، ط 6، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401 هـ، ص. 20.

(1/7640)

هونكه، زيغريد، شمس الدنيا تسطع على أوربا، ترجمة فاروق بيضون وكمال الدسوقي، ط 6، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401 هـ.

المراغي، تفسير المراغي، الجزء الحادي عشر.

العماري، علي محمد حسن، التاريخ الأدبي للعصرين العثماني والحديث، الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية، 1399 هـ.

العقاد، عباس محمود، أثر العرب في الحضارة الأوربية، ط 2، دار المعارف، 1963.

الصابوني، محمد علي، صفوة التفاسير، دار الرشيد، سوريا.

ثالثاً: الدوريات

(1/7641)

أخبار العالم الإسلامي، جريدة أسبوعية تصدر عن إدارة الصحافة والنشر برابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة.

البريد الإسلامي، مجلة فصلية تصدر عن دار تبليغ الإسلام بمصر.

منبر الإسلام، مجلة شهرية تصدرها وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.

المنهل، المجلة السعودية الأم، تصدر شهرياً عن دار المنهل للصحافة والنشر بجدة (أعداد متفرقة).

الهداية، مجلة شهرية تصدر عن وزارة العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين.

...

(1/7642)

تحالف ملوك أرمينيا الصغرى وأنطاكيا الصليبية مع المغول لاحتلال بلاد الشام وتصدي المماليك لهم (644 ـ 723 هـ/ 1246 ـ 1323 م)

... ... ... ... الدكتور علاء محمود خليل قداوي

... ... ... كلية الآداب/ جامعة الموصل ـ العراق

... واجهت الأمة العربية الإسلامية في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي (491 هـ/ 1096 م) أشرس غزو استعماري استهدف احتلال أراضيها وتدمير كيانها وحضارتها. ذلك هو الغزو الذي أطلق عليه مؤرخو الغرب اسم الحروب الصليبية أو الحملات الصليبية التي امتدت إلى ما يقرب من قرنين من

(1/7643)

الزمن.

... وتمكنت أولى الحملات من أن تقيم لها في المشرق العربي عدة إمارات صليبية كالرها وأنطاكيا وبيت المقدس وطرابلس. وقد تنبه المسلمون لمخاطر هذه الحركة فوحدوا جهودهم على عهد صلاح الدين الأيوبي الذي أنزل بهم هزيمة قاسية في معركة حطين سنة 583 هـ/ 1187 م، واسترد منهم معظم المناطق التي كانوا قد استولوا عليها بما فيها بيت المقدس(1)،

__________

(1) ... بهاء الدين ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين)، تحقيق جمال الدين الشيال، ط 1، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1964، صص. 75 ـ 96.

(1/7644)

ولم يبق لهم إلا أنطاكيا وطرابلس وبعض الحصون على الساحل الشامي.

... وفي أوائل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي ترافق مع استمرار الخطر الصليبي خطر المغول. والمغول أقوام بدوية اندفعوا من موطنهم الأصلي منغوليا ـ الواقعة في أواسط آسيا ـ بزعامة جنكيز خان وخلفائه ليغزو بلاد المسلمين ويقضوا على الدولة الخوارزمية والإسماعيلية وليوطنوا بعدها سلطانهم في إيران تمهيداً للقضاء على الدولة العربية الإسلامية ممثلة في الخلافة العباسية(1)

__________

(1) ... عن ظهور المغول واحتلالهم إيران، انظر التفاصيل ضمن: القزاز، محمد صالح داود، الحياة السياسية في العراق في عهد السيطرة المغولية، مطبعة النجب، 1970، صص. 3 ـ 17؛ علاء محمود خليل، المغول في الموصل والجزيرة، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى عمادة كلية الآداب ـ جامعة الموصل، 1985، صص. 40 ـ 47.

(1/7645)

. وفي الوقت نفسه، حاول الصليبيون الذين كانت قد فشلت حملتهم السادسة على بلاد الشام في استرداد المسلمين بيت المقدس ثانية منهم سنة 642 هـ/ 1244 م(1)، حاولوا أن يتصلوا بالمغول أعداء المسلمين عن طريق توجيه الدعوات لخاناتهم لإقناعهم باعتناق المسيحية، ومن ثم التحالف معهم لشن حملة صليبية مغولية لتطويق المشرق

__________

(1) ... سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، ط 3، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971، ج 2، ص. 1045؛ ميخائيل زابوروف، الصليبيون في الشرق، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، 1986، صص. 300 ـ 303.

(1/7646)

العربي الإسلامي وتحطيمه ومن ثم اقتسامه، مثلما حاولت من قبل الإمبراطورية البيزنطية أن تعقد حلفاً بينها وبين الصين لغرض تقويض الدولة العربية الإسلامية التي كانت في بداية نشأتها(1).

... وقد استندت آمال الصليبيين في إمكان تحقيق هذا التحالف على ما وصل إليهم من أخبار عن اعتناق قبيلة الكرايت المغولية الديانة المسيحية(2)

__________

(1) ... نظير إحسان سعداوي، الحرب والسلام زمن العدوان الصليبي، منشورات مكتبة النهضة المصرية، 1961، ص. 116.

(2) ... غريغوريوس الملطي ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص. 226، 230؛ توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، 1970، ص. 253.

(1/7647)

، وعلى ما كان قد أظهره بعض خانات المغول وأمرائهم من تعاطف مع المسيحية. فكيوك خان (644 ـ 646 هـ/ 1246 ـ 1248 م) كانت والدته تدين بالمسيحية، وتولى تربيته الأمير قداق المسيحي. ولما تولى عشر المغول، قرب إليه جينقاق المسيحي وأسند إليه منصب الوزارة. وقد ترك كيوك أمر الحل والعقد في الدولة لهذين الأميرين اللذين اضطهدا المسلمين وأحسنا للمسيحيين(1)

__________

(1) ... فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد، تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، ط 1، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1918، ص. 678 ، 694.

(1/7648)

.

... وارتفع كذلك شأن النصارى في عهد منكو خان(1) (646 ـ 655 هـ/ 1248 ـ 1257 م) الذي كانت والدته سيورقوقيتي، ومربي ولده باتو وكبير وزرائه بلغاي مسيحيين(2). ويعد سرناق الذي منحه منكوخان حق إصدار القرارات الملكية

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، نشر في مجلة الشرق اللبنانية بإدارة آباء جامعة القدس، بيروت، العدد 50، السنة 1956، ص. 10.

(2) ... رشيد الدين فضل الله الهمذاني، جامع التواريخ (خلفاء جنكيز خان)، ترجمة فؤاد عبد المعطي الصياد، ط 1، دار النهضة العربية، بيروت، 1983، صص. 197 ـ 198.

(1/7649)

من ألدِّ أعداء المسلمين(1). وجعل منه المؤرخ السرياني ابن العبري شماساً، وأدخل هذا جماعة كبيرة من المغول في المسيحية(2).

... وإزاء موقف خانات المغول هذه من المسيحية، أرسل البابا إينوسنت الرابع بعثة إلى منغوليا برئاسة الراهب يوحنا بيان دل كاربيني الذي حمل رسالة من البابا بعنوان »إلى إمبراطور التتار وشعبه«، كتبت بأسلوب مليء بالصداقة وبدعوة إلى اعتناق المسيحية. وقد وصل

__________

(1) ... بارتولد، تركستان، صص. 691 ـ 692.

(2) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 49، السنة 1955، ص. 738.

(1/7650)

كاربيني قراقورم عاصمة المغول سنة 644 هـ/ 1246 م، حيث حظي بحسن استقبال كيوك خان له. غير أن كاربيني فشل في الحصول على موافقة كيوك لتحقيق أهدافه بسبب اشتراط الخان اعتراف البابا وملوك أوربا بسيادته العليا والتبعية له. وحذر كيوك كاربيني من أن البابا يتحمل جميع النتائج المترتبة في حال رفضه الاستجابة لمطالبه(1)

__________

(1) ... ستيفن رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، ج 3، ص. 446؛ أرنست باركر، الحروب الصليبية، ترجمة الباز العريني، ط 2، دار النهضة العربية، بيروت، ص. 26؛ M; Cbem, Three Travellers, Moscow, 1968, pp. 12-14.

(1/7651)

.

... عاد كاربيني إلى المقر البابوي في روما فاشلاً سنة 645 هـ/ 1247 م؛ إذ قدم للبابا تقريراً مفصلاً أشار فيه إلى أن المغول لم يخرجوا إلا للغزو. ومع ذلك، لم تخب آمال البابا إينوسنت الرابع الذي أرسل بعثة ثانية برئاسة الراهب اسكلين الذي التقى في تبريز القائد المغولي بايجو في أواخر سنة 645 هـ/ 1247 م، إذ أبدى بايجو الاستعداد لعقد تحالف لمناهضة الخلافة العباسية في بغداد والأيوبيين في بلاد الشام؛ وخطته تهدف إلى مهاجمة بغداد، على أن يتكفل الغرب المسيحي بالقيام بحملة صليبية تصرف مسلمي الشام عنه(1)

__________

(1) ... رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، صص. 446 ـ 447؛ زابوروف، الصليبيون في الشرق، ص. 313.

(1/7652)

.

... ولتحقيق هذا الهدف، أوفد بايجو رسولين هما إيبك وسركيس النسطوري ليرفقا اسكلين في عودته إلى روما. ومع أنه لم يكن لهذين الرسولين سلطان السفراء المفوضين، فإن آمال الغرب انتعشت من جديد، إن أقاما في روما نحو سنة، ثم أرسل بايجو إبان سنة 646 هـ/ 1248 م مَنِ استدعاهما، فحملهما البابا رسالة أعرب فيها عن أسفه لما جرى من تعطيل التحالف المغولي المسيحي(1)

__________

(1) ... السيد الباز العريني، المغول، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1981، ص. 190؛ جوزيف نسيم يوسف، العدوان الصليبي على بلاد الشام (هزيمة لويس التاسع في الأراضي المقدسة)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989، ص. 261.

(1/7653)

.

... لقد أثارت هاتان البعثتان اللتان بعثهما البابا إينوسنت الرابع قلق العرب المسلمين في بلاد الشام ومصر. لذلك حاول بعض أمراء الأيوبيين ثَنْيَ البابا عن محاولته التحالف مع المغول ضدهم، فأرسلوا إليه عدة رسائل، منها رسالة أمير حمص المؤرخة في سنة 644 هـ/ 1246 م يطلب فيها باسمه ونيابة عن سلطان الأيوبيين الملك الصالح أيوب عدم وضع ثقته في المغول ويذكره بأن هؤلاء أشد المعادين للمسيح وأكثر الناس همجية وتخريباً(1). ولعل أمير حمص استند في رسالته هذه إلى ما كانت جيوش المغول

__________

(1) ... Cbem, op. cit., p. 13.

(1/7654)

قد اقترفته على عهد أوكتاي خان من مذابح وخراب وتدمير لمناطق شاسعة من أوربا سنة 639 هـ/ 1241 م حيث وصلت غزواتهم إلى بولندا(1).

... لم يفقد الغرب المسيحيُّ الأمل في إمكان كسب المغول إلى جانبهم، وهكذا أبقوا باب التفاوض مفتوحاً معهم ولم يأخذوا بتحذيرات أمراء الأيوبيين لهم. إذ أرسل

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة الشرق، العدد 49، السنة 1955، ص. 738؛ إدوارد براون كَرانفيل، تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى السعدي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي، مطبعة السعادة بمصر، 1954، د 3، ص. 573.

(1/7655)

إيلجداي نائب الخان في القوقاز وفارس في أواخر سنة 646 هـ/ 1248 م رسالة إلى لويس التاسع ملك فرنسا الذي كان موجوداً في قبرص على رأس الحملة الصليبية السابعة لغزو مصر، أعرب له فيها عما يكنه المغول من عطف وميل للمسيحية؛ فأفرحت هذه الرسالة لويس التاسع الذي بادر بإرسال سفارة من الرهبان الدومنيكان برئاسة أندريا وأخيه ومعهما هدية هي عبارة عن نموذج لكنيسة صغيرة. وعندما وصلت البعثة إلى قراقورم عاصمة المغول، تبين لها أن كيوك قد توفي، فاضطرت البعثة إلى العودة بسبب تأخر انتخاب خان جديد(1)

__________

(1) ... العريني، المغول، صص. 190 ـ 191؛ يوسف، العدوان الصليبي، صص. 262 ـ 270؛ زابوروف، الصليبيون في الشرق، صص. 313 ـ 314.

(1/7656)

. ومع فشل هذه البعثة في تحقيق أهدافها، أرسل لويس بعثة ثانية في أوائل السنة 651 هـ/ 1253 م برئاسة الراهب وليم روبروق إلى الخان الجديد منكو يطلب فيها مساعدته لضرب المسلمين في بلاد الشام ومصر(1). وقد قدم رانسيمان تفصيلات عن هذه البعثة، فذكر أن سفارة روبروق لم تظفر بنجاح كبير، إذ اجتاز في سفره نهر الفولكَا والتقى بالأمير سرتاق باتو الذي اشتهر بميله

__________

(1) ... عاشور، الحركة الصليبية، ج 2، صص. 1100 ـ 1101؛ جوزيف نسيم يوسف، لويس التاسع في الشرق الأوسط، ط 2، مؤسسة المطبوعات الحديثة، 1959، صص. 227 ـ 234.

(1/7657)

للمسيحيين، فبعثه هذا الأخير إلى منغوليا وتولى الإنفاق عليه في سفره على امتداد الطريق التجاري الكبير وتهيأت له أسباب الراحة والأمن على الرغم من أن أياماً بكاملها كانت تنقضي دون أن يشهد في طريقه داراً واحدة، ثم وصل إلى قراقروم، فمثل بين يدي منكوخان في أوائل السنة 652 هـ/ 1254 م وأعلمه فيها منكو بعزمه على مهاجمة المسلمين في غرب آسيا، وبأنه على استعداد لمناقشة ما يصح اتخاذه من إجراء مشترك، على أنه اعترض ذلك عقبة لم يتيسر التغلب عليها؛ وملخصها أن يعلن لويس تبعيته لمنكو لقاء مساعدته. وهذا ما لم يقبله

(1/7658)

ملك فرنسا. ولهذا غادر وليم روبروق قراقورم في سنة 652 هـ/ 1254 م دون أن يحقق ما كان يحلم به لويس من أن المغول سوف يصبحون أبناء أوفياء لكنيسة روما ويحققون للصليبيين ما كانوا يحلمون به في المشرق العربي الإسلامي، ولا سيما في بلاد الشام وبيت المقدس(1).

تحالف ملوك أرمينيا الصغرى وأنطاكيا الصليبية مع المغول

__________

(1) ... تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، صص. 510 ـ 511. وعن هذه الرحلة، انظر كذلك: يوسف، العدوان الصليبي، صص. 271 ـ 283.

(1/7659)

... إذا كان الغرب المسيحي قد فشل في تحقيق أهدافه مع المغول، فإن ملوك غرب آسيا المسيحية قد نجحوا في ذلك، بعد أن رضخوا لمطالب خان المغول. فقد ارتأى هيثيوم ملك أرمينيا الصغرى الواقعة بلاده في إقليم قليقية جنوب شرق الأناضول، أن يرسل أخاه كوني تابل سطبل إلى قراقورم سنة 644 هـ/ 1246 م للمشاركة في احتفال تنصيب كيوك للخانية(1)

__________

(1) ... ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، مرجع مذكور، ص. 625.

Glubb, J. The Lost Centuries, 1967, p. 248.

... ويلاحظ أن المصادر العربية تطلق اسم "تكفور" على ملوك أرمينيا الصغرى. (انظر: أحمد بن علي المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، مطبعة دار الكتب، 1970، ج 3، ق 1، هامش 3، ص. 237).

(1/7660)

. وقد حصل كوني سطبل على براءة من كيوك تضمن لأخيه وحدة مملكته وحق الاستيلاء على الكثير من القلاع والحصون التابعة للقوى الإسلامية المجاورة له(1).

... وعلى أثر ذلك، وجد هيثيوم أن الوقت أصبح ملائماً للاستفادة من قوة المغول لضرب الخلافة العباسية واسترجاع بيت المقدس. فقام في السنة 651 هـ/ 1253 م بزيارة منكوخان

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 10؛ فؤاد عبد المعطي الصياد، المغول في التاريخ، دار النهضة العربية، 1980، ح 1، ص. 291؛ العريني، المغول، ص. 199.

(1/7661)

في قراقورم. ويعد هيثيوم أول ملك يقدم من تلقاء نفسه إلى قراقورم، إذ أن الزائرين الآخرين كانوا إما أتباعاً للإيلخان وإما ممثلين لملوك، فاستقبله الخان بكل حفاوة وتكريم. وذكر المؤرخ الأرمني فارتوكرات أن هيثيوم عرض في أثناء لقائه سبعة مطالب، منها دعوة منكو لاعتناق المسيحية، ومساعدة المسيحيين في استعادة الأراضي المقدسة، وطرد الخليفة من بغداد، وتمكين الأرمن من بسط هيمنتهم على كل الأراضي التي اقتطعت من مملكته. وقد وعد منكوخان بتحقيق هذه المطالب عندما قال لهيثيوم:

(1/7662)

... لولا انشغالنا في أراضي منغوليا، لتوجهت بنفسي إلى الأراضي المقدسة منطلقاً من احترامنا الشديد للسيد المسيح. لذلك سنوكل هذا الأمر لأخينا هولاكو ليقوم بتحقيق هذه المهمة، وسوف يحرر المقدس ويعيدها للمسيحيين. ونتمنى أن يقضي هولاكو على الخليفة باعتباره العدو الأول لنا(1).

... وبعد عدة لقاءات، خرج هيثيوم من هذه الزيارة باتفاق يتضمن:

__________

(1) ... Cbem, op. cit., p. 20.؛ وانظر كذلك: هارولد لامب، شعلة الإسلام (قصة الحروب الصليبية)، ترجمة محمود عبد الله يعقوب، منشورات مكتبة المثنى، بغداد، 1967، ص. 564.

(1/7663)

... 1 ـ تبعية هيثيوم للخان الكبير، مقابل ضمان مملكته؛

... 2 ـ تعهد هيثيوم بالمشاركة بكافة قواته مع جيش هولاكو في حملته على ديار بكر وبلاد الشام لقاء تعهد الخان بمنحه بعض المقاطعات ومساعدته في استعادة بيت المقدس؛

... 3 ـ إعفاء كل الكنائس والأديرة المسيحية الخاضعة لحكم المغول من الضرائب؛

... 4 ـ منحه صفة كبير مستشاري الخان في شؤون المسيحيين في غرب آسيا(1).

__________

(1) ... رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 512؛ Cbem, op. cit., p. 2.

(1/7664)

... وهكذا بدا هذا الاتفاق وكأنه تحالف مغولي صليبي، لأن هيثيوم كان قد أقام تحالفات مع بعض أمراء الصليبيين الذين كانوا قد أعطوه حق التحدث نيابة عنهم في علاقاته بالمغول، ومنهم بوهمند السادس أمير أنطاكية الذي دخل هو أيضاً في التحالف(1).

... وقد باركت كل من فرنسا وروما هذا الاتفاق واعتبرته إنجازاً كبيراً لتعويض فشل حملتها الصليبية على المنطقة العربية(2)

__________

(1) ... لامب، شعلة الإسلام، ص. 564؛ الصياد، المغول في التاريخ، ص. 291؛ R. Grousset, Histoire des Croisades, Paris, 1936, Vol. 3, p. 576.

(2) ... Cbem, op. cit., p. 18.

(1/7665)

، والتي كان يقودها لويس التاسع الذي أنزل به الأيوبيون هزيمة ساحقة في معركة المنصورة في مصر سنة 648هـ/ 1250 م(1).

اشتراك القوات الأرمينية والأنطاكية في حملة هولاكو على ديار بكر وبلاد الشام

... بعد أن تكللت جهود هيثيوم بالنجاح مع منكوخان في عقد تحالف معه، لم يغب عن باله أن يقوم بزيارة لهولاكا والتفاهم

__________

(1) ... عن معركة المنصورة وهزيمة لويس التاسع، انظر: جوزيف نسيم يوسف، العدوان الصليبي على مصر (هزيمة لويس التاسع في المنصورة وفاسكور)، منشورات مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984، صص. 149 ـ 195.

(1/7666)

معه على ما يجب أن يتخذه من إجراءات عسكرية لتنفيذ خطة الحملة المغولية على ديار بكر وبلاد الشام، والتي بدأ بتنفيذها بعد أن فرغ هولاكو من احتلاله بغداد سنة 656 هـ/ 1258 م، حيث طلب منه هولاكو أن يسير بجيشه الأرمني ليشارك في حملته على ديار بكر. وأدَّى هيثيوم دوراً بارزاً في إسقاط إمارة ميافارقين الأيوبية فيها وأنزل مع القوات المغولية مذبحة بالمسلمين فيها، بينما جرى الإبقاء على حياة المسيحيين(1)

__________

(1) ... ابن العبري رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 524؛ العريني، المغول، ص. 242؛ Grousset, op. cit., Vol. 3, p. 580.

(1/7667)

. كما شارك مع الجيش المغولي في الاستيلاء على نصيبين وحران والرها والبيرة وسروج(1)، ومنها توجه مع هولاكو للاستيلاء على حلب التي أطبق عليها الغزاة في أوائل صفر سنة 658 هـ/ 1260 م. وبالرغم من استبسال صاحبها تورانشاه، فإنه ما لبث أن انهارت قواته ليقتحمها المغول وحلفاؤهم حيث دارت المذابح بالسكان المسلمين دون المسيحيين(2)

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، 136؛ عاشور، الحركة الصليبية، ج 2، صص. 1123 ـ 1124.

(2) ... عماد الدين إسماعيل أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر، ط 1، المطبعة الحسينية المصرية، ج 3، صص. 200 ـ 201؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، ص. 422؛ جمال الدين أبي المحاسن يوسف ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، ج 7، صص. 75 ـ 76.

(1/7668)

، وأشعل هيثيوم الجامع الكبير ومساجد المدينة فيها(1). وقد كافأ هولاكو هيثيوم على مشاركته هذه بأن منحه قدراً من الغنائم التي حازها في حلب، فضلاً عن إضافة بعض أملاك الأيوبيين لإمارته؛ كما جرى بيع أسرى المسلمين في أسواق سيس عاصمة مملكة هيثيوم. وحصل بوهمند أمير أنطاكية الذي قاتل إلى جانب هولاكو على مكافأة مجزية تتمثل في اللاذقية وبعض حصون الأيوبيين التي تقع على الساحل إلى إمارته(2).

__________

(1) ... عاشور، الحركة الصليبية، ج 2، ص. 1125.

(2) ... رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 526.

(1/7669)

... وصاحب هيثيوم وبوهمند القائد المغولي المسيحي كتبغا على رأس الجيش المغولي إلى دمشق التي أذعنت لهم. ولأول مرة منذ ستة قرون يدخلها ثلاثة أمراء مسيحيين يشقون بموكبهم شوارع المدينة. وقد اغتنم المسيحيون هذه الفرصة للتشفي والانتقام من المسلمين، فنظموا مواكب عامة أنشدوا فيها الأناشيد وحملوا الصلبان وأجبروا المسلمين على أن يقفوا احتراماً لهم؛ ومن امتنع تعرض للسلب والإهانة. وبلغ بهم التحدي أقصاه فدقوا النواقيس وجاهروا بالخمر في رمضان ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات كما صبوه على أبواب المساجد، ولم

(1/7670)

يستثنوا حتى الجامع الأموي. فضجر المسلمون من تلك الأفعال، ورفعوا شكواهم إلى كتبغا، ولكنه لم يفلح بهم، بل أهانهم وضرب بعضهم، وأخذته موجة من التقوى فجعل يزور الكنائس ويعظم رجالها(1).

... وأتم المغول، في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت احتلالهم دمشق، فتح مدن الشام الأخرى، فقتلوا حامية الكرم التي كانت قد

__________

(1) ... محمد بن شاكر الكتبي، عيون التواريخ، تحقيق فيصل السامر ونبيه عبد المنعم، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980، ج 20، ص. 228؛ الصياد، المغول في التاريخ، ص. 296؛ Grousset, op. cit., vol. 3, P; 589.

(1/7671)

قاومتهم؛ واستسلمت لهم حامية نابلس وعجلون، وتقدموا نحو غزة التي دخلت في حوزتهم(1). غير أن قوات المغول وحلفاءهم لم تصل إلى بيت المقدس على الرغم من أن هدف هيثيوم من مشاركته في هذه العمليات كان احتلالها، ولكن انشغال كتبغا بتصفية جيوب المقاومة واستعدادات المماليك في مصر لمواجهته شغلته عن احتلال بيت المقدس.

تصدي الدولة المملوكية في مصر وبلاد الشام للتحالف وإفشاله

__________

(1) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م. 2، ج 1، ص. 313؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 7، ص. 77.

(1/7672)

... كان هولاكو بعد احتلاله دمشق، قد تلقى خبر استدعائه من قبل أخيه قوبلاي خان لمواجهة تمرد أخيهما الأخر اريق بوكا. ولهذا السبب اضطر العودة إلى قراقورم سنة 658 هـ/ 1260 م(1). وكان في نيته أن يكتفي بما تم له من احتلال، ولا يترك خلفاً له يكمل برنامجه في الاستيلاء على فلسطين ومصر. غير أن إلحاح هيثيوم جعل هولاكو يوافق على أن يترك كتبغا وتحت إمرته

__________

(1) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (خلفاء جنكيز خان)، صص. 249 ـ 251؛ جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 1، ص. 308؛ Grousset, op. cit., vol. 3, pp. 592-593.

(1/7673)

عشرة آلاف مقاتل لإتمام هذا المشروع(1). وكما ذكرنا آنفاً، فإن كتبغا واصل عملياته العسكرية باحتلال المدن الفلسطينية(2)، ووصل إلى الحدود المصرية باحتلاله غزة(3) وبقي عليه أن يتغلب على قوة إسلامية عظيمة هي قوة المماليك في مصر.

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 137؛ لامب، شعلة الإسلام، ص. 568؛ Grousset, op. cit., vol. 3, p. 593 .

(2) ... الكتبي، عيون التواريخ، ج 20، ص. 224.

(3) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (خلفاء جنكيز خان)، ص. 313.

(1/7674)

... والمماليك هم في الأصل أتراك غالباً؛ وهم غرباء عن البلاد وأهلها، اضطر الأيوبيون إلى الاستعانة بهم، فكانوا يشترونهم بالأموال ويجعلونهم نواة لجيشهم. وما هي إلا مدة وجيزة حتى نشأ بين زعماء هؤلاء جيل جديد استطاع أن يستأثر بملك البلاد في السنة 548 هـ/ 1250 م. وفي الفترة التي نتحدث عنها كان السلطان قطز ثالث هؤلاء المماليك الذي يحكم في القاهرة(1)

__________

(1) ... عن أصل المماليك وتكوين دولتهم، انظر: ستانلي لين بول، طبقات سلاطين الإسلام، ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي، دار منشورات البصري، 1968، صص. 78 ـ 80؛ زابوروف، الصليبيون في الشرق، صص. 316 ـ 317.

(1/7675)

.

... وقبل أن يبرح هولاكو الشام، كان قد أرسل في السنة 658 هـ/ 1259 م رسله إلى السلطان قطز تتضمن كل معاني التهديد والوعيد، ويدعوه فيها إلى الاستسلام وتقديم فروض الطاعة. أما قطز، فإنه رفض الاستسلام(1). وكان قد أعد خطة بعد أن سارعت البقية الباقية من أمراء الشام ممن أبت عليهم وطنيتهم أن يستسلموا للمغول، إلى التوجه لمصر. وأبدوا استعدادهم للوقوف معاً صفّاً

__________

(1) ... عن هذا التهديد ورد قطز، انظر: رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 1، ص. 311، 313؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق. 2، صص. 427 ـ 429.

(1/7676)

واحداً في وجه العدو المشترك لإنقاذ الشرق العربي من خطرهم(1). وكانت خطته تقوم على أساس ترك سياسة الدفاع والتحصن في المدن إلى سياسة الهجوم المنظم؛ فقاد جيشه على الطريق الساحلي واسترد غزة بعد أن أوقع بالحامية المغولية فيها(2)

__________

(1) ... من أمراء الشام الذين التحقوا بالسلطان قطز صاحب حماه الملك المنصور ابن المظفر الذي كان له دور مشرف في معركة عين جالوت. (انظر: المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، ص. 423؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 7، صص. 78 ـ 79).

(2) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 1، ص. 313.

(1/7677)

. ثم اجتاز عكا بعد أن حصل على وعد من حاميتها الصليبية التي كانت قد ضاقت ذرعاً بتعرضات المغول لأملاكها، مفاده إلا تتعرض لجيشه في أثناء مروره بها(1). فاتجه نحو الأردن. وعندما علم كتبغا بما وقع لحاميته في غزة، استشاط غضباً؛ فأسرع بقواته ومعه النجدات الأرمينية حيث التقى بالقوات المصرية في 15 رمضان سنة 656 هـ/ 1260 م في موقعة عين

__________

(1) ... رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، صص. 534 ـ 535.

Henry. H, Howorth, History of the mongols from the 9th to 19 th Century,

Modon, 1888, vol. 3, pp. 201-202.

(1/7678)

جالوت فدارت الدائرة على القوات المغولية التي سحقت ووقع كتبغا في الأسر ثم قتل بأمر من قطز(1)، وتحطمت الأسطورة التي ذاعت بأن المغول قوة لا تقهر. وجرى بعد ذلك تطهير دمشق وحمص وحماة وحلب وباقي مدن الشام من بقايا المغول والأرمن(2) وعوقب المسيحيون الذين دفعوا الثمن غالياً بسبب عطفهم السابق على المغول، وما اقترفوه من آثام ضد

__________

(1) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 1، صص. 313 ـ 316؛ الكتبي، عيون التواريخ، ج 20، صص. 226 ـ 227؛ تبن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 7، صص. 78 ـ 80.

(2) ...

(1/7679)

الأهالي المسلمين زمن الاحتلال(1).

... سارت سياسة المماليك بعد عين جالوت وتحرير الشام من المغول على التخلص من بقايا الصليبيين في الشام وإنزال العقاب بمملكة أرمينيا الصغرى ثم المضي في قتال المغول. وبخصوص الأرمن وملكهم هيثيوم، لم ينس سلاطين المماليك زيارته لخان المغول منكو وتحالفه معه وتحريضه على غزو الشام وما ارتكبه من جرائم مع جند هولاكو سنة 658 هـ/ 1260 م، وهي أمور لا يمكن أن يغفرها له المسلمون. فاستغل السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (658 ـ 676 هـ/ 1260 ـ 1277 م) انشغال ايقاخان ـ ابن

__________

(1) ...

(1/7680)

هولاكو وخليفته في حكم مغول فارس والعراق (667 ـ 680 هـ/ 1265 ـ 1281 م) بالحرب ضد مغول القفجاق المسلمين في جنوب روسيا(1)، لينفرد بهيثيوم وينزل به الجيش المملوكي الذي كان يقوده الأمير سيف الدين قلاوون والملك المنصور صاحب حماة هزيمة ساحقة عند الدربند قرب أنطاكيا، وذلك في ذي القعدة سنة 466 هـ/ 1266 م. وقتل في المعركة أحد أبناء الملك هيثيوم وأسر الابن الثاني، في حين كان هيثيوم نفسه متغيباً عن بلاده في تبريز يستجدي مساعدة المغول. واستثمر المماليك هذا الانتصار، فأغار الأمير قلاوون على عدة مدن

__________

(1) ...

(1/7681)

أرمينية هي المصيصة وأذنة وطرطوس وميناء أياس. أما الملك المنصور، فقد اتجه إلى سيس عاصمة أرمينية الصغرى واستولى عليها(1)؛ »فجعل عاليها سافلها«، وأشعل النار فيها فدمرتها وأتت على كنائسها ومقابر ملوكها. وبعد عشرين يوماً من الغارات، عاد الجيش المملوكي ومعه أربعون ألف أسير، ومن الغنائم ما لا يعد ولا يحصى »حتى بيع رأس البقر بدرهمين ولم يوجد من يشتريه«(2). وأخيراً، عاد هيثيوم إلى مملكته ومعه جماعة صغيرة من المغول بعد

__________

(1) ...

(2) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 3؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، ص. 551.

(1/7682)

أن وقعت الواقعة. وحاول أن يسترد ابنه الأسير من بيبرس، ولكنه لم يستطع ذلك إلا بعد أن تخلى المماليك عن عدة مراكز هامة مثل دربساك التي تتحكم في طرق المواصلات بين أرمينيا وأنطاكيا ومرزبان ورعبان وشيخ الحديد وكلها تتحكم في الطريق بين الجزيرة الفراتية حيث المغول حلفاء هيثيوم وأرمينيا الصغرى(1). والواقع أن مملكة أرمينيا الصغرى لم تفق

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 146 و148؛ أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 50؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، صص. 568 ـ 569.

(1/7683)

مطلقاً من تلك الكارثة وصار دورها سلبيّاً بعد ذلك في الأحداث الجارية على مسرح الشرق الأدنى. أما الملك هيثيوم، فإن الصدمة جعلته يترك العرش سنة 667 هـ/ 1269 م لابنه ليون الثالث(1).

... أما إمارة أنطاكية، فدفعت هي أيضاً ثمن تحالفها مع المغول وهيثيوم. إذ قاد بيبرس بنفسه الجيش المملوكي الذي شن هجوماً عاماً على مدينة أنطاكيا في مستهل شهر رمضان سنة 666 هـ/ 1268 م، ولم تلبث أن سقطت فدخلها المماليك وقدموا منها بغنائم

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 148.

(1/7684)

طائلة تثير الدهشة: إذ قسمت النقود بالطاسات. أما عدد الأسرى، فكان بالغ الضخامة: فما من جندي في جيش السلطان إلا وحاز مملوكاً وبلغ الفائض من الوفرة ما جعل ثمن الغلام الصبي ينخفض إلى اثني عشر درهماً، في حين لم يتجاوز ثمن الجارية خمسة دراهم(1). ولم تنهض أنطاكيا بعدما حل بها من عقاب مطلقاً(2).

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 4 ـ 5؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، صص. 567 ـ 568.

(2) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 147.

(1/7685)

... وإذا ضعفت أرمينيا ودمرت أنطاكيا، أصبح بوسع بيبرس أن ينتقم من المغول وغزوهم لبلاد الشام. فأغار على بلاد سلاجقة الأناضول التي كانت مشمولة بالحماية المغولية، واستطاع أن يمزق الجيش المغولي في الأناضول عند مدينة أبلسنين في ذي القعدة 657 هـ/ 1277 م(1)،

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 9؛ الحافظ شمس الدين الذهبي، دول الإسلام، تحقيق فهيم محمد شلتوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974، ج 2، صص. 175 ـ 176؛ الكتبي، عيون التواريخ، ج 21، صص. 100 ـ 101؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 7، ص. 168.

(1/7686)

حيث بلغ عدد قتلاهم ستين وسبعمائة وستة آلاف(1). وعندما سمع أيقاخان بما فعله بيبرس في الأناضول، أسرع إلى أبلستين حيث شاهد قتلاه. وعلى حد قول رشيد الدين الهمداني، فإن إيقا بكى عندما شاهد قتلى المغول مكدسين وحزن على رجاله حزناً شديداً وصب جام غضبه على مسلمي الأناضول ثم عاد إلى بلاده(2) ليتجهز للقيام بحملة كبيرة على بلاد الشام. وبهدف تقوية جبهته، رغب في مشاركة ليون الثالث ملك أرمينية الصغرى في حملته

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ق 2، صص. 631 ـ 632.

(2) ... جامع التواريخ، م 2، ج 2، صص. 62 ـ 63.

(1/7687)

لطرد المماليك من بلاد الشام واستخلاص بيت المقدس؛ واتفقا على إرسال الرسل إلى البابا إدوارد الأول ملك إنكَلترا لمساعدتهما في إنجاح الحملة. غير أنهما لم يحصلا إلا على وعود فضفاضة(1).

... وبعد أن أكمل إيقاخان استعداداته، خرج بنفسه على رأس حملته ومعه ليون الثالث(2)

__________

(1) ... مصطفى طه بدر، مغول إيران بين المسيحية والإسلام، دار الفكر العربي، ص. 25؛ القزاز، الحياة السياسية، صص. 429 ـ 430؛ Howorth, op. cit., vo. 3, pp. 278-281.

(2) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 266.

(1/7688)

. وقد قدر عدد قواتهما بمائة ألف مقاتل(1)، منها ثلاثون ألف نصراني(2)، زحفا بها على وادي نهر العاص، فوصلا أمام حمص، حيث كان جيش المماليك مرابطاً تحت قيادة السلطان الجديد المنصور سيد الدين قلاوون (678 ـ 689 هـ/ 1279 ـ 1290 م). وفي موقعة حمص التي دارت بين

__________

(1) ... الذهبي، دول الإسلام، ج 2، ص. 182؛ الكتبي، عيون التواريخ، ج 21، ص. 279؛ ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم ابن الفرات، تاريخ ابن الفرات، تحقيق قسطنطين زريق، المطبعة الأميركانية، بيروت، 1942، م 7، ص. 216.

(2) ... لامب، شعلة الإسلام، ص. 604.

(1/7689)

الجيشين في 14 رجب سنة 680 هـ/ 1281 م حلت الهزيمة بالمغول الذين قتل منهم خلق كثير. أما ليون الثالث، فقد حلت بجيشه كارثة عندما أوقعه المماليك في كمين في أثناء انسحابه إلى بلادهم. فقد قتل وأسر معظم عسكره(1)،»... بحيث لم يفلت

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، صص. 266ـ 267؛ رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 2، صص. 83 ـ 84؛ أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 15؛ ابن الفرات، تاريخ ابن الفرات، م 7، صص. 212 ـ 219؛ لامب، شعلة الإسلام، صص. 604 ـ 605.

(1/7690)

منهم إلا دون العشرين«(1).

... وبعد هذه الهزيمة ما لبث أن مات ايقاخان كمداً، وذلك في 20 ذي الحجة سنة 680 هـ/ 1282 م(2)، فخلفه في الحكم أخوه تكودار الذي قلب سياسة معاداة المغول للمماليك رأساً على عقب: إذ أعلن إسلامه، وتسمى باسم أحمد، واتخذ لنفسه لقب سلطان، وأرسل سفارة إلى

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ق 3، ص. 698.

(2) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، ص. 268؛ رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 2، ص. 85؛ الذهبي، دول الإسلام، ج 2، ص. 183.

(1/7691)

سلطان قلاوون في شعبان سنة 681 هـ/ 1282 م يعلمه فيها بأنه »مسلم وأنه أمر ببناء المساجد والمدارس والأوقاف وأمر بتجهيز الحجاج، وسأل اجتماع الكلمة وإخماد الفتنة والحرب...«(1). وعندئذ، رد السلطان قلاوون على رسل المغول بتهنئته بالإسلام وطلب أن يكون التحالف بين المماليك والمغول على العدو المشترك (2)

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ق 3، ص. 707.

(2) ... عن النصوص الكاملة للرسائل المتبادلة بين أحمد تكودار وقلاوون، انظر: محيي الدين أبو الفضل عبد الله بن عبد الظاهر، تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، تحقق مراد كامل، ط 1، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1961، صص. 6 ـ16؛ ص. 69 ـ 71.

(1/7692)

، وهو الصليبيون. ولكن تكودار لم يبق في الحكم طويلاً لينفذ سياسته هذه: إذ ثار عليه بعض قواده وقتلوه في جمادى الأولى 683 هـ/ 1284 م، وأحلوا محله ابن أخيه أرغون في حكم دولة المغول الإيلخانيِّين (1).

... اتبع أرغون سياسة تفيض حماسة لخدمة المسيحيين، فاتفق مع ملك أرمينية ليون الثالث على استرداد الأراضي المقدسة من المسلمين؛ وأرسل أربع سفارات إلى البابوية وإلى ملكي إنكَلترا وفرنسا في السنوات

__________

(1) ... رشيد الدين، جامع التواريخ (الإيلخانيين)، م 2، ج 2، صص. 120 ـ 121؛ المقريزي، السلوك، ج 1، ق 3، ص. 722.

(1/7693)

684 هـ/ 1285 م، 686 هـ/ 1287م، 688 هـ/ 1289 م، 690 هـ/ 1291 م، يقترح فيها استعداده للقيام بحملة عسكرية مشتركة لغزو بلاد الشام ومصر. ولكن أرغون لم يلق استجابة صادقة من قادة أوربا الذين كانوا منشغلين بمشاغلهم الخاصة عن الاستجابة والتحرك؛ كما أن حماسهم الديني لاسترجاع الأراضي المقدسة قد ضعف بعد أن بلغتهم أنباء توالي سقوط قلاع الصليبية بيد المسلمين، وآخرها عكا التي حررها السلطان أشرف خليل سنة 690 هـ/ 1291 م (1)

__________

(1) ... رانسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، صص. 672 ـ 697؛ عاشور، الحركة الصليبية، ج 2، ص. 1169؛ Howorth, op. cit., vol. 3, pp. 348-354.

(1/7694)

.

... استثمر المماليك حالة الفوضى التي عمت دولة المغول الإيلخانية بسبب الصراع على السلطة في أعقاب وفاة أرغون سنة 690 هـ/ 1291 م، استثمرتها بالاستعداد لشن حملة عسكرية تعاقبها الأرمن الذين كان ملكهم قد جدد تحالفه مع المغول. ففي ربيع سنة 691 هـ/ 1292 م، خرج السلطان الأشرف خليل من حلب قاصداً قلعة الروم الواقعة على نهر الفرات، والتي كانت مقر جاثليق الأرمن. وبعد حصار ثلاثين يوماً، تمكن من فتحها وسماها قلعة المسلمين (1)

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 26 ـ 27؛ الكتبي، عيون التاريخ، ج 23، صص. 106 ـ 107؛ ابن الفرات، تاريخ ابن الفرات، م 8، صص. 136 ـ 137.

(1/7695)

. وفي شهر رجب سنة 692 هـ/ 1293 م، تلقى الجيش المملوكي المرابط في دمشق الأوامر من السلطان الأشرف خليل بالزحف على عاصمة الأرمن سيس، فأنفذ هيثيوم الثاني الذي خلف أباه ليون الثالث في حكم أرمينيا الصغرى سنة 688 هـ/ 1289 م الرسل إلى السلطان يعرضون التنازل عن كل ما تبقى من الحصون الشرقية، وهي بهنسا وعرش وتل حمدون فضلاً عن دفع مبلغ كبير من المال لقاء عدم التعرض لبلادهم؛ فقبلها السلطان وأرجأ تحركاته (1).

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 1، ق 3، ص. 784.

(1/7696)

... ولما وردت الأنباء بمصرع السلطان الأشرف خليل في محرم سنة 693 هـ/ 1293 م وما أعقب ذلك من وقوع اضطرابات داخلية (1)، حمل هيثيوم الثاني على زيارة الإيلخان بايدو (حكم سنة واحدة فقط 694 هـ/ 1295 م) بهدف تجديد التحالف مع المغول. وحدث في أثناء مقامه في مراغه عاصمة المغول أن انتزاع غازان السلطة من بايدو في ذي الحجة سنة 694 هـ/ 1295 م، فتوجه إلى هيثيوم، فبذل له

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 29 ـ 31؛ الكتبي، عيون التاريخ، ج 23، صص. 149 ـ 155؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 8، صص. 18 ـ 20.

(1/7697)

يمين التبعية (1) وحصل منه على وعد بمساعدته على استرجاع الأراضي المقدسة حيث أنفذ ثلاث حملات مغولية اشترك فيها الأرمن على بلاد الشام في السنوات 699 هـ/ 1300 م و700 هـ/ 1301 م. وقد كانت الحملة الثالثة سنة 702 هـ/ 1303 م آخر الحملات الكبرى التي قام بها إيلخانات المغول بقصد احتلال بلاد الشام. وبفشلها (2)

__________

(1) ... ابن العبري، "تاريخ الدول السرياني"، مجلة المشرق، العدد 50، السنة 1956، صص. 411 ـ 412.

(2) ... عن الحملات الثلاث، انظر التفاصيل: المقريزي، السلوك، ج 1، ق 3، صص. 886 ـ 888، 908 ـ 909، 930 ـ 937.

(1/7698)

، فشلت جهود إيلخانات المغول والأرمن في انتزاع الأراضي المقدسة من المسلمين. ومع أن أولجاينو "خربندا" الذي خلف غازان على الإيلخانية سنة 703 هـ/ 1304 م كان قد عاضد هيثيوم الثاني ومكنه من الإيقاع بالقوات المملوكية التي كان يقودها نائب حلب سيف الدين قشتمر في أثناء إغارته على سيس في المحرم سنة 705 هـ/ 1306 م حيث قتلوا وأسروا معظم القوة ولم يرجع إلى حلب منهم إلا القليل (1)، فإنه لم يقم بحملات كبرى على بلاد الشام على الرغم من تحريض ليون الرابع ملك

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 51 ـ 52.

(1/7699)

أرمينيا والبابوية وملوك أوربالة(1). وعلى ما يبدو، فإن انصرافه لتسوية مشكلاته الداخلية وحروبه مع مغول القفجاق كانت سبباً لعدم استجابته لهم (2).

... وقد تخلى أبو سعيد الذي خلف أباه أولجاينو سنة 716 هـ/ 1316 م على الإيلخانية، بدافع من إسلامه، عن السياسة القديمة للإيلخانات

__________

(1) ... Howorth, op. cit., vol. 3, pp. 575-577.

(2) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 52؛ حياة ناصر الحجي، العلاقات بين دولة المماليك ودولة مغول القفجاق، حوليات كلية الآداب ـ جامعة الكويت، الحولية الثانية، 1981، صص. 22 ـ 23.

(1/7700)

المغول والتي كانت تقوم على التعاون مع الأرمن والصليبيين الأوربيين ضد المماليك المسلمين إلى سياسة المصالحة والتسامح وإزالة روح العداء والجفاء معهم. وبدأت أول مساعي الصلح من قبل أبي سعيد سنة 717 هـ/ 1317 م(1)، وقابلها المماليك بالود، وأخذت الرسل بين المملكتين يتنقلون أكثر من مرة في السنة بهدف توثيق أواصر المحبة بين الطرفين وإضعاف عوامل النفرة والجفاء بينهما(2)

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 2، ق 1، ص. 175.

(2) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، صص. 92 ـ 96.

Howorth, op. cit., vol. 3, p. 601.

(1/7701)

. وأسفرت هذه المراسلات في النهاية عن توقيع معاهدة صلح وسلام سنة 723 هـ/ 1323 م فتحت بموجبها الحدود بين الدولتين للتجارة(1) وساد السلام بينهما إلى أن انهارت دولة الإيلخانيين سنة 736 هـ/ 1335 م.

... وهكذا يكون المماليك بهذا الصلح قد حطموا التحالف المغولي الصليبي الأرمني عليهم ومنحهم الفرصة للانتقام من الأرمن بعد تخلي الإيلخانيين عن مساندتهم. ومع أن ملك أرمينيا حاول تجنب

__________

(1) ... أورد المقريزي بعض نصوص اتفاق الصلح بين أبي سعيد والناصر محمد قلاوون سنة 723 هـ (انظر: السلوك، ج 2، ق 1، صص. 209 ـ 210).

(1/7702)

هذا الانتقام من خلال التعهد بدفع إتاوة سنوية منتظمة للمماليك وهدايا في حال عدم تعرضهم لبلاده، فإن السلطان الناصر أصر على تنازلهم عن عدد كبير من الحصون والقلاع له. وهذا ما دفع ملك أرمينيا ليون الخامس إلى الاستنجاد بالبابا حنا الثاني والعشرين الذي لم يكن بوسعه سوى أن يرسل بعض الأموال لمساعدة الأرمن للتصدي لغارات المماليك التي توالت عاماً بعد عام(1)، الأمر الذي دفع ملك الأرمن ليون الخامس إلى إعلان تبعيته للمماليك والاعتذار عما قام به من أعمال ضدهم

__________

(1) ... Howorth, op. cit., vol. 3, p. 602-604.

(1/7703)

والوعد بأن »يحمل في كل سنة مائة ألف درهم«(1)، فقبل السلطان الناصر محمد هذه التبعية. وأرسل في سنة 729 هـ/ 1329 م خلعة إلى ليون الخامس الذي لبسها وقبل الأرض بين يدي مبعوث السلطان(2).

... غير أن هذه التبعية سرعان ما نقضها ليون الخامس عندما وصلت إليه أخبار استعداد فيليب السادس ملك فرنسا للقيام بحملة صليبية على الشرق الإسلامي، فأغار ليون على بلاد الشام(3)

__________

(1) ... المقريزي، السلوك، ج 2، ق 1، ص. 246.

(2) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 99.

(3) ... محمد جمال سرور، دولة بني قلاوون في مصر، دار الفكر العربي، ص. 231.

(1/7704)

. الأمر الذي دفع السلطان الناصر محمد سنة 735 هـ/ 1335 م على إرسال حملة تعدادها عشرة آلاف فارس بقيادة نائب حلب علاء الدين الطنبغا الذي أنزل الدمار والقتل والأسر في سيس وأذنة وطرطوس وأحرق الزروع وساق المواشي. وفي سنة 737 هـ/ 1337 م، كرر نائب حلب الهجوم ثانية وظل يعمل في الأراضي الأرمينية حتى وافق ملك الأرمن على التنازل عن جزء كبير من بلادهم(1)

__________

(1) ... أبو الفداء، المختصر، ج 4، ص. 115، 119؛ أبو بكر بن عبد الله بن إيبك الدواداري، كنز الدرر وجامع الغرر، تحقيق هاهنس روبرت رويمر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1960، صص. 397 ـ 399.

(1/7705)

.

... ومع ذلك، لم يتوقف المماليك عن غاراتهم وضغطهم على الأرمن بقية القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي(1) حتى استطاع الأشرف شعبان أن يقضي قضاء مبرماً على دولة أرمينيا الصغرى عندما أمر نائبه في حلب الأمير شقتمر المارديني بغزو أرمينيا سنة 776 هـ/ 1374 م؛ فحاصر عاصمتها سيس، واستطاع فتحها بعد حصار دام ثلاثة أشهر. أما ليون السادس ـ آخر ملوك أرمينيا ـ، فقد سيق أسيراً إلى القاهرة(2)، وبقي

__________

(1) ... رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 752.

(2) ... المقريزي، السلوك، ج 3، ق 1، صص. 237 ـ 238.

(1/7706)

فيها حتى أطلق سراحه لقاء فدية قدمها البابا كلمنت السادس وبعض ملوك أوربا، فقضى بقية حياته في باريس(1). وبذلك انتهت دولة أرمينيا الصغرى، وأصبحت جزءاً من نيابة حلب التابعة لسلطنة المماليك في مصر والشام(2).

__________

(1) ... رنسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج 3، ص. 752؛ عاشور، الحركة الصليبية، ج 2، ص. 1221.

(2) ... المقريزي، السلوك، ج 3، ق 1، ص. 238.

(1/7707)

تحول التجارة العالمية عن عالم البحر المتوسط إلى رأس الرجاء الصالح وأثره في العلاقات التجارية بين الإسكندرية والبندقية في مطلع العصر العثماني (923 هـ/ 1517 م)

... ... ... ... ... ... الدكتور فاروق عثمان أباظه

... ... ... ... كلية الآداب ـ جامعة الإسكندرية

... تعتبر مدينتا الإسكندرية والبندقية (فينسيا) في مقدمة المدن الواقعة على طريق التجارة العالمية بين جنوبي شمالي حوض البحر المتوسط التي تأثرت ـ إيجاباً أو سلباً ـ، باستمرار تدفق تيار هذه التجارة طوال العصور الوسطى، أو تعرضه للتوقف على نحو ما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...