Translate

الأربعاء، 22 مارس 2023

ج18.مجلة التاريخ العربي

ج18.مجلة التاريخ العربي 

الجديد(1). وذكر الطبري أن معاوية ولى ابن عامر في آخر سنة إحدى وأربعين هجرية(2).

__________

(1) قال البلاذري: »لما ولي معاوية بن أبي سفيان، استعمل ابن عامر على البصرة، فولى عبد الرحمن بن سمرة سجستان، فأتاها وعلى شرطته عباد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبد الله بن معمر التميمي وعبد الله بن حازم السلمي وقطري بن الفجاءة والمهلب بن أبي صفرة. فكان يغزو البلد قد كفر أهلها، فيفتحه عنوة أو يصالح أهله حتى بلغ كابل«. (البلاذري، فتوح البلدان، مصدر سابق، صص. 387 ـ 388).

(2) الطبري، مصدر سابق، ج 5، ص. 170

... فإذا تعرفنا من أقبل برفقة قطري بن الفجاءة إلى سجستان، وجدنا عدو الأزارقة الأول، ومن لقوا في حربه الشدائد، ووجد في حربهم الويل: »المهلب بن أبي صفرة« (1). والغريب أن المصنفات التي تعرض لحرب الأزارقة مع المهلب وجيوش الأمويين لم تشر إلى أيّ علاقة بين الرجلين، أو معرفة أحدهما للآخر معرفة سطحية أو معمقة، مع أنهما في حاشية والٍ واحد، ومن أخلص خلصائه. والخبر بعد هذا يجمع بين أربعة من فرسان المسلمين المشهورين وهم: عمر بن عبيد الله بن معمر

__________

(1) الموسوعة الإسلامية (بالفرنسية)، مرجع سابق، ج 2، ص. 866.

التميمي، وعبد الله بن خازم السلمي، وقطري بن الفجاءة المازني، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقد شارك عبد الله بن خازم مع عبد الله بن عامر في فتح خراسان (1). وانتصر انتصارات عظيمة، فولاه ابن عامر على خراسان، جزاء له(2).

... وحارب عبد الله بن خازم بجنب المهلب بن أبي صفرة، في حروب بخراسان، وكان عليها: سلم بن زياد، من قبل يزيد بن معاوية،

__________

(1) خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق وآخر حدودها مما يلي الهند. (ياقوت، معجم البلدان...، مصدر سابق، ج 2، ص. 350).

(2) الطبري، مصدر سابق، ج 4، ص. 302.

 

(1/14579)

 

 

وذلك سنة إحدى وستين للهجرة(1).

... أما عمر بن عبيد الله بن معمر، ففارس معروف، تولى البصرة لابن الزبير سنة 62 هـ، وتولاها عنه أيضاً سنة أربع وستين للهجرة(2). وكان على ميمنة مصعب بن الزبير في حربه للمختار بن أبي عبيد سنة سبع وستين للهجرة(3). وكان على فارس زمن ولاية »مصعب« العراق، وقاتل الأزارقة قتالاً شديداً(4). فهو قائد معروف مشهور، قد عرفه قطري معرفة جيدة،

__________

(1) المصدر نفسه، ج 5، ص. 572.

(2) المصدر نفسه، ص. 527.

(3) المصدر نفسه، ج 6، ص. 95.

(4) البغدادي، الفرق بين الفرق، مصدر سابق، ص. 85.

 

(1/14580)

 

 

وكأنه عاشره، وكان قريباً منه؛ فقد قال عنه: »إن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر، أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد؛ فقد شهدته في وقائع، فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه«(1).

... إنه حديث عارف متأكد متيقن، لا يكفي فيه مجرد سماع أخبار وبطولة رجل مغوار، أو ملاقاته في حرب واحدة، إن الرأي الذي عرضه قطري لا يقوم على علم كامل، بشخص عمر بن عبيد الله، في مواقع زمنية مختلفة.

__________

(1) المبرد، الكامل، ج 3، ص. 335.

 

(1/14581)

 

 

... واعتماداً على ما سبق، أتساءل لماذا يذكر قطري بن الفجاءة مع الأشراف الذين جاءوا مع ابن سمرة إلى سجستان؟ وكيف يكون معهم ويذكر في واجهة التفضيل، بين أربعة رجال، يختارهم الوالي صحبه المقربين، ولا فضل له في الحاضر، ولا مجد يأتيه من الماضي؟! وإذا كان عمر بن عبيد الله وعبد الله بن خازم وأبو سعيد المهلب بن أبي صفرة تزكيهم أعمالهم ومشاركاتهم في الفتوح والحروب، وتنزلهم مكانة رفيعة لدى الولاة والخلفاء، فما صنيع قطري؟ وكيف السبيل إلى تحديد وذكر أمجاد شخص لا نعرف هويته الكاملة، وتغيب من بطاقة تعريفه

 

(1/14582)

 

 

التاريخية الرسمية عدة معلومات أساسية، ولكنه واضح معالم الحاضر بصفته شخصية لها مكانتها ووزنها وقيمتها؟!

... لذلك أرجح أن يكون قطري ممن ساهم في حروب الخليج العربي. وقد كانت تميم تسكن شواطئ هذا الخليج من الدولة الإسلامية. وفي هذه الحروب عرف قطري تجاربه الحربية الأولى، وصقل قدرته القتالية، وأدرك فنون النزال وبرع فيها. ولأسباب اختفى اسمه من بين الأبطال الذين شاركوا في هذه الحروب الإسلامية في المرحلة التي أتقن فيها لغة الميدان، وساهم مع من كان لهم فضل فتح بلدان على الخليج، وضم أقاليم إلى الخارطة

 

(1/14583)

 

 

الإسلامية الجغرافية، ومد الرسم الدال على الخارطة البشرية والفكرية التي عرفت الدين الجديد.

... وتختفي كل الأخبار اختفاء غربياً، كأن وراء الفعل تدبيراً مقصوداً وحرصاً على محو وجود بطل واقعيّ من تاريخ البطولة وسيرة الأبطال المثقلة بالبطولة الوهمية. يشير إلى ذلك خبر عابر، يسوقه البلاذري في "فتوحاتـ"ـه، لا يريد به إعادة التكريم لرجل أغفله قومه قصداً، وحجبوه لمجرد اختلاف في الرأي، وتباين في فهم الدين، وتباعد في اختيار المواقع الفكرية والاجتماعية والسياسية.

 

(1/14584)

 

 

... ولكن قطري بن الفجاءة يعود مع الأزارقة إلى مكانته الأولى، بل يستمر فيها، لأنه لم ينقطع عنها، ولكن الذين موهوا جوانب من تاريخ الإسلام هم الذين عبثوا بصفحاته، وتركوا صفحة قطري تنزلق عنوة من سجل الأحداث الكبرى في تاريخنا، ولا عذر لهم إلا التعصب، وضيق أفق الفكر، ورفض الفكر الآخر المناقض، أيّاً كان هذا الآخر، وكيفما كانت نوعية خطابه. وهذه العودة القوية مع الأزارقة فرضت اسم قطري الذي أضيع نصفه الأول، وأثبت أنه ينتمي إلى هذا الجزء الضائع انتماء شرعياً، فلم يكن هذا البطل ضائع الهوية في سنوات من

 

(1/14585)

 

 

عمره؛ فقد أثبت بجانبه الثاني الأصيل أصالة ما ضيع منه. وها هو قطري الحاضر يثبت قطري الغائب، ويدل عليه، ويبرهن على وجوده بالشكل الذي يجعل الشطرين يلتحمان، وتستمر الشخصية بالمميزات نفسها التي طبعتها ودلت عليها منذ البداية؛ فلسنا أبداً أمام رجل منشطر الشخصية.

... أما الإشارات التي خص بها قطري في المصادر، فلم تتجاوز ذكر اسمه الكامل ونسبه وكناه ومكانته الحربية وتوليته إمارة الأزارقة إلى أن قتل. إن الباحث عن أخبار هذا الأمير البطل لا يعرف عنه شيئاً مهماً، إلى أن يبايعه الأزارقة، وتأتي إشارة أو اثنتان

 

(1/14586)

 

 

يظهر فيهما قطري محارباً جيداً، من ذوي الرأي، وذلك حينما يبدي رأيه في بعض رؤساء الجيش الأموي، الذين قد يُنَازِلُهُم الأزارقة، ويضع تقييماً جيداً لأولئك الأبطال، ومن بينهم المهلب بن أبي صفرة(1).

... أما عن اسم الرجل ونسبه وكناه، فيقول ابن قتيبة: »قطري ابن الفجاءة الخارجي هو من كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم، وكان يكنى أبا نعامة« (2). وذكره في أصحاب الكنى فقال: »قطري بن الفجاءة: يكنى: أبا

__________

(1) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 335.

(2) ابن قتيبة، المعارف، مصدر سابق، ص. 411.

 

(1/14587)

 

 

محمد، وأبا نعامة، وأبا حنظلة«(1). والمعروف أن قطرياً كانت له كنية للحرب وهي: أبو نعامة، ونعامة فرسه، وكنية للسلم هي: أبو محمد (2)، ولا أدري متى كان يكنى أبا حنظلة.

... وأضاف ابن حزم شيئاً إلى ما قاله ابن قتيبة حيث قال: »قطري بن الفجاءة؛ والفجاءة لقب لأبيه، لأنه غاب إلى اليمن ثم أتى قومه فجاءة واسمه جعونة بن يزيد بن زياد بن خنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك«(3)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 600.

(2) الموسوعة الإسلامية (بالفرنسية)، مرجع سابق، ج 2، ص. 866.

(3) ابن حزم، جمهرة أنساب العرب تحقيق عبد السلام هارون، ص. 212.

 

(1/14588)

 

 

. فاسم أبي بطل الأزارقة: جعونة، فقطري (بفتح القاف والطاء)(1) نسبة إلى مكان قرب البحرين، وهي بلاد قطر(2)، القطر العربي المعروف حالياً(3).

__________

(1) الذهبي، المشتبه في أسماء الرجال، ج 2، ص. 531.

(2) قطر: في أعراض البحرين بين عمان؛ والعقير قرية يقال لها قطر، وكان بها سوق من قديم الزمان. (ياقوت، مصدر سابق، ج 3، ص. 37).

(3) الزركلي، الأعلام، مصدر سابق، ج 6، ص. 46؛ وانظر: إحسان صدقي العمد، الحجاج بن يوسف الثقفي، مرجع سابق، ص. 232.

 

(1/14589)

 

 

... وتتفق بقية المصادر حول الاسم والنسب. فقطري مازني تميمي، وتميم مضرية، كانت لها مكانة ممتازة بين القبائل المضرية قبل الإسلام وبعده، وقد أمدت تميم الخوارج بجماعات كثيرة، وكان منها كتائب كاملة مع الأزارقة(1). ولذلك رأى بعض الباحثين أن تميماً رفضت تفرد قريش بالحكم دون سائر القبائل العربية الأخرى، فانضمت إلى الحركات التمردية التي كان هدفها تحطيم قريش، وتحركها العصبية القبلية. فكانت حركة المعارضة

__________

(1) الطبري، مصدر سابق، ج 6، ص. 302؛ انظر ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، ج 4، ص. 93.

 

(1/14590)

 

 

عربية خالصة، تقودها قبائل كان لها شأن كبير بين العرب قبل الإسلام، وعلى رأسها: تميم وحنيفة وربيعة التي اعتنقت الإسلام، إعجاباً بمبادئه الديموقراطية، وأبلت بلاءً عظيماً في الفتوحات الإسلامية(1). وظل لقبيلة قطري هذا المركز المرموق في ظل الإسلام، وعلى عهد الحكم الأموي؛ فقد كانت تتقاسم مع الأزد السيادة في مدينة البصرة.

__________

(1) علي حسني الخربوطلي، تاريخ العراق، ص. 59؛ انظر: كريمر، الحضارة الإسلامية، ص. 34.

 

(1/14591)

 

 

... وقد أضاف قطري إلى هذا الانتماء العربي العريق، قدرة حربية كبيرة، وشجاعة نادرة، من حسن الحظ أنها بقيت محافظة على مقاييسها المعقولة، بمنظور الحقيقة التاريخية، فلم تعدها لتختلط بالأسطورة والوهم، وتضيع بطولة وجدت فعلاً، ومورست صدقاً، كما حدث لأبطال آخرين في تاريخ العرب. لقد قيل عن قطري: »ما استحيا شجاع أن يفر من عبد الله بن خازم وقطري ابن الفجاءة صاحب الأزارقة«(1). واعتبر قطري أحد أشهر فرسان الإسلام

__________

(1) ابن قتيبة، عيون الأخبار، مصدر سابق، ج 1، ص. 175؛ وابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 1، ص. 91.

 

(1/14592)

 

 

الستة(1). وعندما بايعته الأزارقة بالإمارة، سمته »أمير الموت« (2).

... وكان لجرأة قطري وقدرته القتالية وإقدامه، وثقته من سطوته في الحرب أثر فاعل في عدوه، تتخطفه الموت الوهم، قبل أن تصله الموت

__________

(1) ذكر ابن عبد ربه أعظم فرسان الإسلام، فقال: »وفي الإسلام عبد الله بن خازن السلمي، وعباد بن الحصين، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن هلال، وشبيب الحروري«. (ابن عبد ربه، العقد الفريد، مصدر سابق، تحقيق محمد سعيد العريان، ج 1، ص. 91).

(2) الاسفرائيني، التبصير، تحقيق محمد زاهر الكوثري، ص. 30.

 

(1/14593)

 

 

الحقيقة فعلاً:

... وحكي عنه أنه خرج في بعض حروبه وهو على فرس أعجف وبيده عمود خشب، فدعا إلى المبارزة، فبرز إليه رجل، فحسر له قطري عن وجهه. فلما رآه الرجل، ولى عنه. فقال له قطري: إلى أين؟ فقال: لا يستحيي الرجل أن يفر منك(1).

وقيل عنه أيضاً: »وقطري هو الذي عناه الحريري في المقامة السادسة بقوله: "فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامة"« (2).

__________

(1) ابن خلكان، وفيات الأعيان، مصدر سابق، ج 4، ص. 93.

(2) المصدر نفسه.

 

(1/14594)

 

 

... وقال الدميري: »ويروى أن شخصاً قال للحجاج: أيها الأمير! فقال الحجاج: إنما الأمير قطري بن الفجاءة الذي إذا ركب ركب لركوبه عشرون ألفاً لا يسألونه أين تريد«(1).

... وأورد الزركلي وصفاً لصاحب "سنا المهتدي" (2)

__________

(1) الدميري، حياة الحيوان الكبرى، ج 2، ص. 503.

(2) أشار الزركلي إلى أنه مخطوط، ولم يذكر صاحبه، ومصنفه هو أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بمصباح الزرويلي المتوفى بعد الخمسين ومائة وألف. وعنوان الكتاب: "سنا المهتدي إلى مفاخر الوزير أبي العباس اليحمدي". (انظر: الزركلي، الأعلام، مصدر سابق، ج 6، ص. 46).

 

(1/14595)

 

 

، عرض فيه صورة لشجاعة قطري وبأسه حين قال: »كان طامة كبرى وصاعقة من صواعق الدنيا في الشجاعة والقوة وله مع المهالبة وقائع مدهشة« (1). وامتاز قطري بجانب هذه الشجاعة النادرة، بنبل نفس، وثبات على المبدإ. وقد حاول الحجاج أن يغريه بالمال والجاه والمنصب، بعد أن عجز عن قهره في الحروب، فرفض ذلك واحتقر الحجاج وعَيَّرَه(2)

__________

(1) الزركلي، الأعلام، مصدر سابق، ج 6، ص. 46.

(2) ذكر المبرد: »قال الحجاج يوماً لعمائر العرب وهم في مجلسه: ما أحسب هذا المزوني يناصحنا في حربنا، يعني المهلب، والرأي مشترك. فقالوا: الرأي للأمير ـ أصلحه الله ـ أن يكتب إلى ابن الفجاءة بإطعامه بعض الأرضين. فإذا هو نخع بطاعته وأظهر الدعوة له، سهلت الحيلة فيه. فقال: وفقكم الله، وكتب إلى ابن الفجاءة«. (المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 2، ص. 222؛ وانظر: إحسان صدقي العمد، الحجاج ابن يوسف الثقفي، مرجع سابق، ص. 237).

 

(1/14596)

 

 

. ولو قبل قطري المساومة في إيمانه بقضيته وتحول عن رأيه، لكان صاحب مقام مادي دنيوي رفيع لدى الأمويين؛ ولكنه النموذج الذي آمن بعقيدته، فتمكنت منه، فعاش لها ومات من أجلها.

... وعرفت لقطري نظرة في الحرب والرجال لا تخيب، وأدرك الجوانب النفسية وأثرها الإيجابي والسلبي في المحارب، مما هيأ له مكانة رفيعة بين الأزارقة. فعندما سار مصعب إلى البصرة، بعد أن قضى على المختار بن أبي عبيد، سأل الناس: من يقوم للخوارج؟ وكان على الأزارقة الزبير بن الماحوز السليطي. فاقترح الناس ثلاثة رجال: عبيد الله بن أبي بكرة(1)

__________

(1) أدار الخوارج الأمر بينهم في هذه المشورة، فقال قطري بن الفجاءة: »إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ابن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه، ولا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليبث المبر، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم«. (المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 335).

 

(1/14597)

 

 

، وعمر بن عبيد الله بن معمر، والمهلب بن أبي صفرة. وبلغت المشورة الأزارقة بسرعة، فتشاوروا فيما بينهم، فحدد قطري في تعبير مركز بليغ ملامح كل شخصية من هذه الشخصيات، من الناحية الحربية والخلقية والنفسية، وقدرة كل منهم على القتال والصبر للجلاد(1)

__________

(1) عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي: تابعي ثقة، من أهل البصرة، كان أمير سجستان، وولي قضاء البصرة، وكان أسود اللون، اجتمعت له ثروة واسعة، فاشتهر بأخبار من الكرم والسخاء تشبه الخيال، وهو الذي يقول فيه يزيد بن مفرغ الحميري ـ من شعراء الدولة الأموية المجيدين ـ من أبيات، وقد أمر له، وهو على سجستان، بخمسين ألف درهم:

... يسائلني أهل العراق عن الندى * فقلت: عبيد الله حلف المكارم

... توفي سنة تسع وسبعين للهجرة. (ابن قتيبة، المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، ص. 232؛ الطبري، مصدر سابق، ج 5، ص. 332؛ ج 6، ص. 153 وما بعدها؛ الأصفهاني، الأغاني، تحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي، إشراف محمد أبي الفضل إبراهيم، ج 18، ص. 254؛ الزركلي، الأعلام، مصدر سابق، ج 4، ص. 191).

 

(1/14598)

 

 

.

... وولى مصعب عمر بن عبد الله فقتل الأزارقة ابناً له. فقال قطري: »لا تقاتلوا عمر اليوم، فإنه موتور«. ولكنهم خرجوا إليه، فحمل على الناس حملة شديدة، فانهزمت الخوارج(1). ...

... وقد عرفت المدة التي تولى فيها قطري إمارة الأزارقة بعض الاستقرار، فاتضحت أفكارهم ورسخت، واعترف خصومهم بقدرتهم الحربية، وطبقوا ممارسة فكرهم السياسي، وذلك طيلة عهد قطري الذي فاق المدد التي تولى فيها أمراء الأزارقة

__________

(1) ... المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 336؛ ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، دار صادر، 1965، ج 3، ص. 389.

 

(1/14599)

 

 

قبله. فقد بويع سنة 68 هـ، كما يذكر الطبري، وكانت وفاته بين سنة 77 هـ و79 هـ(1) كما رأينا. فزمن إمارته قد تعدى عشر سنوات، وظهرت فرقة الأزارقة قبله. بأربع سنوات، تولى خلالها أربعة أمراء. وهذا يخالف ما قيل عن استمرار خلافة قطري عشرين سنة(2)

__________

(1) تولى قطري خلافة الأزارقة في نهاية سنة 69 هـ وكانت وفاته سنة 78 أو 79 هـ. (الموسوعة الإسلامية (بالفرنسية)، مرجع سابق، ج 2، ص. 867). وجزم النعمان القاضي بأن وفاة قطري كانت سنة 78 هـ، (ص. 633).

(2) ابن قتيبة، المعارف، مصدر سابق، تحقيق ثروت عكاشة، ص. 411؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، مصدر سابق، ج 4، ص. 93، وقد شك في ذلك؛ كمال الدين الدميري، حياة الحيوان الكبرى، مصدر سابق، ج 2، ص. 503. وقد تابع القدماء في هذا الوهم عدد من الباحثين المحدثين، منهم: أحمد الشايب، تاريخ الشعر السياسي، ص. 178؛ نايف محمود معروف، الخوارج في العصر الأموي، ص. 261، 249.

 

(1/14600)

 

 

أو تسع عشرة سنة(1).

... أما »عبد ربه«، فلم يطل عهده. فقد قتل في السنة التي بويع فيها، وهي التي قتل فيها قطري. وهذا الاستقرار النسبي في بعض أراضي فارس مكن الأزارقة من تنظيم حياتهم الاجتماعية. وبرغم ندرة الأخبار التي يمكن اعتمادها للدلالة على ذلك، فإن بعض الباحثين ذكر أن قطري تمكن من الاستقرار طويلاً في المناطق الشرقية من البلاد الإسلامية، وضرب باسمه بصفته أميراً للمؤمنين عملة خاصة بالأزارقة سنة 75 هـ(2)

__________

(1) البغدادي، الفرق بين الفرق، مصدر سابق، ص. 86.

(2) الموسوعة الإسلامية (بالفرنسية)، مرجع سابق، ج 2، ص. 867.

 

(1/14601)

 

 

، وكان في معسكره والمدن التي استوطنها الأزارقة

كجيرفت من يتولى القضاء بين الناس(1). ولا يتأتى هذا الاستقرار المالي والمدني إلا باستقرار اجتماعي وهيمنة مكانية وسياسية. وقد تمكن الأزارقة من ذلك، إذ كان لقطري ولاة على المناطق التي تحت حكمهم، مثل »المقعطر العبدي«، الذي كان والياً على ناحية »كرمان«(2) التي كانت في قبضتهم منذ زمن طويل(3)

__________

(1) الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ص. 38، 347؛ المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 412.

(2) الطبري، مصدر سابق، ج 6، ص. 303.

(3) النعمان، مصدر سابق، ص. 188.

 

(1/14602)

 

 

، ولفترات يختلف امتدادها وتقلصها، لظروف الحرب الدائمة التي ميزت حياة الأزارقة. ولقد كانت لهم دائماً نقطة عودة يتركون فيها نساءهم وأطفالهم ومتاعهم، وكانت أحياناً هي كرمان، وأحياناً جيرفت(1) أو الأهواز وغيرها من مناطق فارس.

... أما نهاية قطري، فإنها غامضة كبدايته. ذلك بأن الأخبار تختلف في موته، ونسق الأحداث قد يفرض أن يظل هذا البطل محارباً إلى النهاية، فيقتل في حربه الأخيرة، التي واجه فيها بشجاعة سفيان بن الأبرد (2)

__________

(1) جيرفت: مدينة بكرمان. (ياقوت، مصدر سابق، ج 2، ص. 198).

(2) سفيان بن الأبرد الأصم الكلبي، من القادة الأمويين، تولى حرب الأزارقة في أيامهم الأخيرة بطبرستان، وقتل أميرهم قطري بن الفجاءة سنة 78 أو 79 هـ، ولحق سفيان بعبيدة بن هلال، وقد تحصن بقومس فحاصره أياماً، ثم خرج الأزارقة، فقاتلوا في عدد ضئيل جيشاً ضخماً، إلى أن قُتلوا. (المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص. 147؛ وابن خلكان، وفيات الأعيان، مصدر سابق، ج 2، ص. 455؛ ج 4، ص. 93).

 

(1/14603)

 

 

بطبرستان، وإن ذكر أنه كان يجالد في حربه الأخيرة بعد أن تفرق عنه أصحابه، فكبا به فرسه، فسقط واندقت فخذه فمات(1)؛ وفي رواية أخرى، أقل من هاتين قيمة، أن قطريّاً أصابه عطش شديد، وبعد عنه أصحابه، فطلب من أحد العلوج أن يسقيه، فساومه على شربة بما يلبس؛ وبدل أن يسقيه ماء، دفع بحجر، فانحدر إليه فكانت وفاته(2)

__________

(1) ابن خلكان، وفيات الأعيان، المصدر السابق، ج 4، ص. 93؛ انظر: الموسوعة الإسلامية (بالفرنسية)، مرجع سابق، ج 6، ص. 867.

(2) الجاحظ، الحيوان، مصدر سابق، ج 4، ص. 358؛ الطبري، مصدر سابق، ج 6، ص. 309؛ ابن الأثير، مصدر سابق، ج 4، ص. 68.

 

(1/14604)

 

 

، أو أحضر له الماء، فلحقه جيش سفيان بن الأبرد، فقتل قبل أن يروي عطشه(1).

... بموت أبطال الأزارقة الكبار، تفرقت الجماعات التي بقيت بعدهم، ولم يسمع بفِرْقتهم بعد ذلك. ولا يعني هذا أنهم قتلوا جميعاً في جيرفت وطبرستان(2) وقومس (3)

__________

(1) الدينوري، الأخبار الطوال، ص. 280.

(2) طبرستان: وهي بلدان واسعة كبيرة، بين الري وقومس والبحر وبلاد الديلم، كثيرة المياه، كثيرة الفواكه، إلا أنها مخيفة. (ياقوت، مصدر سابق، ج 4، ص. 13).

(3) قومس (بضم ثم سكون وكسر الميم): كورة تشتمل على مدن وقرى ومزارع، بين الري ونيسابور. (ياقوت، مصدر سابق، ج 4، ص. 414).

 

(1/14605)

 

 

، ولكن الفئة التي بقيت منهم تفرقت في البلاد، ولعل عدداً منهم انتمى إلى فرق الخوارج الأخرى كالإباضية والصفرية. ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في خبر أن السيد الحميري الشاعر العباسي ـ وكان أبواه إباضيين ـ(1) لقي بنت الفجاءة بن عمرو بن قطري بن الفجاءة، وأعجب بها وأنشدها من شعره(2). وقد كان الأصم الضبي الشاعر الأزرقي، في جماعة الأزارقة التي حوصرت بقومس. ولما قتل عبيدة بن هلال، كان في جملة المستأمنة(3)

__________

(1) الأصبهاني، الأغاني، دار الكتب المصرية، ج 7، ص. 230.

(2) المصدر نفسه، ج 7، ص. 271.

(3) ابن أعثم، كتاب الفتوح، ج 2، ص. 91؛ إحسان عباس، شعر الخوارج، ص. 125.

 

(1/14606)

 

 

.

... إن الأزارقة كان لهم حضور واضح قويٌّ في المرحلة الزمنية التي تبدأ بسنة أربع وستين هجرية، وتنتهي بمقتل زعمائهم العظام، وذلك سنة تسع وسبعين للهجرة(1)، وهو أقصى حد زمني ذكره المؤرخون.

 

خاتمة واستنتاج

... وأظن أن عمر الأزارقة كان سيطول أكثر من ذلك، لو أنهم غيروا خطة المواجهة مع الحكم الأموي، وانتقلوا إلى واجهة أخرى بعد أن جربوا المواجهة الحربية العنيفة، ومقاومة الظالمين البغاة إلى النهاية. فلم يتستروا بتقية

__________

(1) الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 1، ص. 90؛ أحمد الشايب، تاريخ الشعر السياسي، ص. 178.

 

(1/14607)

 

 

كما صنع الشيعة وغيرهم من الخوارج، ولم يرجئوا الأمويين إلى يوم الحساب كما فعل المرجئة. إنهم يمثلون النموذج الفكري الخارجي الذي آمن بلغة السيف وحدها لغة خطاب وحيدة، وقناة للحوار مع الحكام؛ وكان من الحتمي أن يقضى عليهم، لأن جهود الدولة الأموية كلها وجهت إليهم. بل إن الفتوحات الخارجية توقفت، لانصراف اهتمام الخلفاء الأمويين إلى تهدئة الفتن والثورات المشتعلة بالداخل، ومنها ثورة ابن الزبير والمختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحر، والأزارقة، والصفرية، والشيعة. وهذا الالتفات إلى الداخل، لتهدئة غليانه،

 

(1/14608)

 

 

قلل من الاهتمام بالجبهة الخارجية، وكان على عبد الملك بن مروان في هذه الحقبة أن يهادن مرغماً البيزنطيين، ويتجنب كل لقاء حربي معهم، ولذلك لم يستطع الرد على بعض الإهانات، بنقض المعاهدات، وانتزاع بعض الأراضي التي كانت بيد المسلمين(1).

... ولعل من أسباب هزيمة الأزارقة أيضاً، أن اجتمع عليهم أمران:

... 1 ـ الأمر الأول، وهو المهم: اهتزازهم الداخلي، وانصرافهم إلى المجادلات السطحية، والاتهامات الباطلة، والمراقبة الصارمة لقادتهم، وتكفيرهم بكل صغيرة(2)

__________

(1) صلاح الدين خودا بخش، حضارة الإسلام، ص. 87.

(2) نايف محمود معروف، الخوارج في عصر بني أمية، مرجع سابق، ص. 226؛ انظر أيضاً: بندلي الجوزي، دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب، ص. 105 وما بعدها.

 

(1/14609)

 

 

. فإذا سئل قطري هل يخرج بهم إلى عدوهم؟ فأجاب: لا، ثم رأى بعد ذلك أن يخرج، لضرورة في التخطيط الحربي، أو لسبب يعلمه القائد العام، فهو بذلك قد كذب وارتد(1). وينادي جماعة منهم قطريّاً: يا دابة، فإذا أنكر قائلاً: رجعتم بعدي كفاراً؟ ذكروا قول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}(2)، وأكفروه بقوله لهم، وألزموه بالتوبة(3)، وغير هذا من التفاهات التي هزت الأزارقة من الداخل إن كان

__________

(1) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 392.

(2) هود، الآية 6.

(3) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 392.

 

(1/14610)

 

 

ما يروى في هذا الشأن صحيحاً.

... 2 ـ الأمر الثاني: أن الأزارقة وقعوا بين رجلين من أشد رجال بني أمية وأقواهم، وهما: الحجاج بن يوسف الثقفي والمهلب بن أبي صفرة. أما الحجاج، فقد كان عنيفاً جباراً قاسياً، ولكنه أقام النظام في المجتمع، وبث الطاعة لأولي الأمر، وساعد بشخصيته العسكرية الحازمة على تقوية الجبهات الحربية الداخلية والجيوش النظامية، مما جعله يحتل منزلة رفيعة في الدولة؛ فكان الرجل الثاني بعد الخليفة، طوال حكم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد(1)

__________

(1) إحسان صدقي العمد، الحجاج بن يوسف الثقفي، مرجع سابق، ص. 305.

 

(1/14611)

 

 

.

... وقد سخر الحجاج كل طاقات العراق، للقضاء على الأزارقة(1) والصفرية، وطلب من الخليفة عبد الملك جيوشاً من الشام تساعد على محو أثر الخوارج، المصرّين على لغة الميدان، وجند الناس كلهم من أجل هذه الحرب. فلم يبق على أحد، وسلط السيف الباتر على أعناق العراقيين(2)،

__________

(1) المرجع نفسه، ص. 233.

(2) انظر رسالة الحجاج إلى المهلب في هذا الشأن. (البلاذري، أنساب الأشراف، م 7، ورقة 67، نقلاً عن إحسان صدقي العمد، الحجاج...، مرجع سابق، ص. 223؛ وانظر: نايف محمود معروف، الخوارج في العصر الأموي، مرجع سابق، ص. 156).

 

(1/14612)

 

 

ولم يشفع لأحد في قعوده أوشيخوخته أو مرضه(1)، أو جهله بفنون الحرب(2)، فضرب أعناق المئات من المتخلفين، فتسارع الناس آلافاً إلى ملاقاة الأزارقة، خوفاً من بطش الحجاج(3).

__________

(1) الطبري، مصدر سابق، ج 6، ص. 207.

(2) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 368.

(3) عندما رأى المهلب من يفد عليه في جبهة القتال من المجندين، بعدما ولي الحجاج مباشرة، قال: »لقد قدم العراق أمير ذكر«. (ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، ج 1، ص. 176؛ وانظر المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 369؛ الطبري، مصدر سابق، ج 6، ص. 207).

 

(1/14613)

 

 

... أما ثاني الرجلين فهو المهلب الذي اعتمد في القضاء على الأزارقة تجربته الحربية السابقة في جبهات الفتوح، وسياسته الأمور برزانة وهدوء وحلم كبير مع أفراد جيوشه، وترقبه الطويل لأن الحرب لا يدركها إلا المكيث الذي يصمد ويواصل القتال(1). وعرفت للمهلب حيطة كبيرة وتخطيطات محكمة، ونظم معسكراته تنظيماً جيداً يعتمد المعسكرات الواسعة التي يخندق عليها دائماً(2)

__________

(1) الدينوري، الأخبار الطوال، مصدر سابق، ص. 278؛ نايف محمود معروف، الخوارج في العصر الأموي، مرجع سابق، ص. 158.

(2) إحسان صدقي العمد، الحجاج...، مرجع سابق، ص. 234.

 

(1/14614)

 

 

، ويبث العيون والحراس ليلاً ونهاراً، ويتولى ذلك بنفسه أو يوليه لولده، أو لمن له الثقة بهم(1)، وكان يضع الأزارقة مواضعهم اللائقة بصفتهم فرساناً شجعاناً وأبطالاً لا يقهرون، فلم يستخف بهم يوماً، وقد خبر قوتهم واستعدادهم، فتجهز لهم دائماً بأقصى ما أمكنه من استعداد(2)، ونازلهم في الوقت المناسب الذي يختاره، فلم يستجب لرغبات الأزارقة في اختيار ساعة اللقاء(3)

__________

(1) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 274.

(2) إحسان صدقي العمد، الحجاج...، مرجع سابق، ص. 235؛ عمر أبو النصر، سيوف أمية، ص. 243.

(3) الدينوري، الأخبار الطوال، مصدر سابق، ص. 278.

 

(1/14615)

 

 

. وكان يعلم أن المواجهة الميدانية لن تقضي عليهم في أجل قريب؛ ولذلك قال: »إني منتظر في الخوارج إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مضر، أو اختلاف بين أهوائهم«(1). وعندما ظهر الخلاف بين الأزارقة، استغله وعمقه بإذاعة الحكايات المكذوبة بينهم(2)، واتهام بعضهم بالتعامل مع العدو، كما وقع لأَبْزَى (3)

__________

(1) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 3، ص. 374.

(2) عمر أبو النصر، سيوف أمية، مرجع سابق، ص. 256؛ نايف معروف، مرجع سابق، ص. 158.

(3) أَبْزَى: رجل حداد كان في معسكر قطري، يصنع نصالاً مسمومة يُرمى بها أعداء الأزارقة، فاحتال المهلب في أمره، وأوهم قطرياً بأنه يبعث له من هذه النصال مقابل مبالغ مالية؛ فحكم قطري بقتله. (انظر المبرد، مصدر سابق، ص. 382).

 

(1/14616)

 

 

صاحب السهام المسمومة الذي اغتاظ عبد ربه لأجله، وكان قتله من أسباب فراقه لقطري.

... وهكذا »لجأ المهلب إلى أساليب الحرب النفسية لتثبيط عزيمة عدوه وزرع التفرقة في صفوفه، فعمل على بث القالة والإشاعة بينهم وافتعال الوقائع والأحداث ونسبتها إلى العاملين مع الأزارقة، مما أدى في النهاية إلى زيادة أسباب التفرقة والانقسام في صفوفهم«(1).

... وأخيراً، فإن انقسام الأزارقة إلى فئتين: إحداهما مع قطري، والأخرى مع عبد ربه، والقتال العنيف الذي دار بينهما، ثم

__________

(1) إحسان صدقي، الحجاج...، مرجع سابق، ص. 235.

 

(1/14617)

 

 

افتراقهما النهائي، سهل مهمة المهلب والحجاج، فأجهز المهلب على عبد ربه، وكاد يفني من معه، وبعث الحجاج بسفيان بن الأبرد، فأتم عملية التصفية لفكر الأزارقة وتكتلهم البشري في طبرستان وقومس.

 

( ) إحسان صدقي، الحجاج...، مرجع سابق، ص. 235.

 

(1/14618)

 

 

من قضايا تحقيق التراث

 

الأستاذ مصطفى اليعقوبي

كلية الآداب - وجدة

 

... اقترنت بمصطلح التحقيق(1) ومشتقاته في مقدمات محققي التراث المغربي الأندلسي مجموعة من القضايا، أبرزها: منهج التحقيق(2)، ودوافعه ودوافع إعادته، وأصالة

__________

(1) درست هذا المصطلح بتفصيل في مداخلة بعنوان "مصطلح التحقيق في استعمال محققي التراث المغربي الأندلسي"، ضمن أعمال ندوة "تحقيق التراث المغربي الأندلسي: حصيلة وآفاق" التي عقدت بكلية الآداب بوجدة أيام 9 و10 و11 نونبر 1995، تكريما للأستاذ محمد ابن شريفة، صص.65-139.

(2) المرجع نفسه.

 

(1/14619)

 

 

النسخة أو النسخ، وتفرد النسخة وصعوبات التحقيق، وغاياته.

... وتتمثل مادة هذا البحث في أزيد من خمسين ومائة مقدمة تحقيقية. وقد تم الحرص على أن كون لها صبغة تمثيلية كافية، وذلك بتنوع النصوص المحققة حسب العلوم والمعارف التي اشتهرت بها البيئة المغربية الأندلسية وبتنوع مناهج المحققين ومشاربهم وبيئاتهم وأجيالهم.

أولا- دوافع التحقيق وأسباب إعادته:

... إن دوافع التحقيق وإعادة التحقيق كثيرة كثرة المحققين والكتب المحققة والتحقيقات. وإعادة التحقيق إما أن تكون من المحقق نفسه وهو قليل، وإما أن تكون من غيره

 

(1/14620)

 

 

وهو كثير.

... أ- دوافع التحقيق:

... يمكن استخلاص مجموعة من الدوافع اعتمادا على نصوص المتن المدروس. ويلاحظ أن بعضها يرجع إلى التراث، وبعضها يرجع إلى الكتاب المحقق، ومنها ما يتعلق بالمحقق، إلخ. وفيما يلي تفصيل ذلك:

... 1- الدوافع الراجعة إلى التراث:

... وتتجلى في إحيائه، والاعتزاز به، والإسهام في نشر الثقافة التي يجسدها. وقد عدد د.محمد الكتاني مجموعة من العوامل التي دفعته إلى اختيار تحقيق الكتاب "روضة التعريف بالحب الشريف" لابن الخطيب السلماني، وجعل في مقدمتها "إحياء التراث المشرق من أدبنا"(1)

__________

(1) روضة التعريف، ص.8، 9؛ وتلخيص منطق أرسطو، ج1، ص.129؛ وجامع العبارات، ص.13، 14، 70.

 

(1/14621)

 

 

. وورد في تصدير د.محمد أبو الفضل إبراهيم لكتاب "المقتبس" لابن حيان الذي حققه د.محمود علي مكي عن صنيع العرب في العصر الحديث بتراث الأندلس: "… كلما عثروا على كتاب، أقبلوا على دراسته أو تنافسوا في نشره وتحقيقه، اعتزازا بذلك التراث المجيد، وإحياء لذكرى هذا الفردوس الإسلامي المفقود…"(1).

... 2- الدوافع الراجعة إلى الكتاب المحقق:

... وتتمثل في الإعجاب بكتاب من الكتب، أو بموضوعه وطريقة تأليفه، وفيما له من قيمة نسبة إلى موضوعه أو الفن الذي ألف فيه. فمن شواهد الإعجاب بالكتاب

__________

(1) ابن حيان، المقتبس، ص.3.

 

(1/14622)

 

 

قول الأستاذ مصطفى السقا:

وقد حفزني الإعجاب بـ"ـمعجم" البكري أن أبحث إبان الحرب عما يوجد في مخطوطات بمصر…، فعثرت على ثلاث نسخ منه…، فأقبلت عليها بحثا ودراسة، ومقابلة وموازنة، إلى أن أوضح لي أنها… يمكن أن ينتفع بها كلها في تصحيح الكتاب، وإخراج صورة صحيحة منه(1).

... وطرافة موضوع الكتاب دافعة إلى تحقيقه. وقد صرح بذلك د.شوقي ضيف في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "الرد على النحاة" لابن مضاء: "… طلبته للاطلاع عليه، وإذا هو مخطوطة مليئة بالتصحيف والتحريف. غير أن طرافة موضوعها أغرقتني

__________

(1) معجم البكري، ط1.

 

(1/14623)

 

 

بتحقيقها ونشرها، إذ رأيت ابن مضاء فيها ثائرا على نظرية العامل في النحو ثورة عنيفة"(1). ويتصل بهذا الدافع أن يضيف الكتاب جديدا إلى موضوعه(2).

... وأما طريقة تأليف الكتاب، فطرافتها من أسباب تحقيقه والإقبال على نشره. يستفاد ذلك من قول د.محمد بن عبد الكريم وهو يذكر الدافع إلى تحقيق كتاب "بدائع السلك في طبائع الملك" لابن

__________

(1) الرد على النحاة، ص.3؛ وسيبويه، شرح عيون الكتاب، ص.3؛ ومؤلف مجهول، بلغة الأمنية، ص.18.

(2) ابن الخطيب، مفردات ابن الخطيب، ص.8؛ والبيان والتحصيل، ص.46؛ وجامع العبارات، ص.70.

 

(1/14624)

 

 

الأزرق: "وقد دفع بنا إلى تحقيق هذا الكتاب النفيس ثلاثة دوافع رئيسية… ثانيها: طرافة طريقة التأليف التي سلكها ابن الأزرق في كتابه، وابتكاره إياها ابتكارا…"(1).

... 3- الدوافع الراجعة إلى المحقق:

... ومنها رغبته في التمرس بالنصوص القديمة، والاستجابة لهاتف وجداني. يقول د.الكتاني في معرض إجمال الدوافع التي جعلته يحقق كتاب "روضة التعريف": فهذه العوامل كلها، من باعث على إحياء التراث المشرق من أدبنا، ومن استجابة للهاتف الوجداني، ورغبة في التمرس بالنصوص القديمة(2)

__________

(1) بدائع السلك، ج1، ص.6.

(2) يقول قبل هذا عن عوامل التحقيق: "… بعضها يتصل باهتمامي الوجداني بمشكلة الحب البشري، ولا سيما الجانب الصوفي منه، وبعضها يرجع إلى الجانب الموضوعي في عملية إحياء التراث القديم نفسه، وما يكسب المحقق خلاله من مران وخبرة على النظر في تراث القدماء وفهمه وتقويمه…" (روضة التعريف، ص.8).

 

(1/14625)

 

 

وهو ما أملى علي النهوض بعبء تحقيق هذه الموسوعة الصوفية الفريدة…"(1).

... 4- ما يرجع إلى المؤلف: يمكن رصد الدوافع التالية:

... - الرغبة في الكشف عن بعض جوانب الحقيقة في شخصية المؤلف. يقول د.محمد الكتاني عن العامل الرابع: "… وبعضها يرجع إلى محاولة الكشف عن الوجه الجديد الذي يطلع به ابن الخطيب… على الناس من خلال هذا الكتاب بالنسبة لمن لا يعلم عنه شيئا، ومحاولة الكشف عن مدى صدق أو بطلان التهمة التي أدانه بها خصومه السياسيون، بسبب هذا الكتاب،

__________

(1) روضة التعريف، ص.9؛ جامع العبارات، ص.13، 14.

 

(1/14626)

 

 

واتخذوها ذريعة للفتك به"(1).

... - أن يكون المرلف مغمورا، فيسعى المحقق إلى إبرازه والتعريف به. يقول د.عبد ربه عبد اللطيف في تقديم كتاب "شرح عيون كتاب سيبويه" للمجريطي: "… حين قرأته، وجدت نفسي مدفوعا إلى تحقيقه وإخراجه لأمور: 1… 2

... 3- أن شخصية صاحب الكتاب لم تأخذ حظها من الشهرة بين علماء العربية…"(2).

... ويقول د.محمد رمضان الجربي عن السبب الرابع من أسباب تحقيق كتاب "جامع العبارات في تحقيق الاستعارات" للطرودي: "رغبتي في إبراز

__________

(1) روضة التعريف، ص.8-9.

(2) سيبويه، شرح عيون الكتاب، صص.3-4.

 

(1/14627)

 

 

علم من أعلام الزيتونة، وخطيب من خطباء العاصمة التونسية المفوهين (أحمد مصطفى الطرودي). والجدير بالذكر أن هذا العالم الجليل مغمور الشخصية على الرغم من شهرته آنذاك"(1).

... 5- اقتراح أحد العلماء أو تشجيعه:

... من الدوافع إلى تحقيق كتاب من الكتب اقتراح أحد العلماء. ومن أمثلة ذلك ما نجده في تقديم كتاب "روضة التعريف" لابن الخطيب. يقول المحقق: "كانت بداية الانطلاق في هذا العمل أن الأستاذ محمد ابراهيم الكتاني مدير قسم المخطوطات والوثائق بالمكتبة العامة بالرباط اقترح علي أثناء

__________

(1) جامع العبارات، ص.13.

 

(1/14628)

 

 

بحثي عن موضوع أقدمه رسالة لنيل الدراسات العليا تحقيق هذا الكتاب…"(1).

... وأما تشجيع أحد العلماء، فيتجلى في مثل د.محمد أبو الأجفان في تقديم كتاب "انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك" لمحمد بن محمد الراعي الأندلسي:

... وما أن شرفنا سماحة العلامة الشيخ أحمد عبد العزيز آل مبارك رئيس القضاء الشرعي بدولة الإمارات العربية بحضور ذكرى الزيتونة المنعقد في أواخر محرم وأوائل صفر 1400 حتى قدمت إليه ما عندي من نسخ خطية لهذا الكتاب لآخذ رأيه فيه واستشارته في إعداده للنشر،

__________

(1) روضة التعريف، ص.61.

 

(1/14629)

 

 

فإذا هو يشجع على إنجاز العمل، ويعد بالمساعدة على طبعه، فحفزني ذلك إلى المبادرة بتحقيق هذا الكتاب آملا أن أقترب من مستوى حسن الظن الذي بوأني إياه(1).

... ب- دوافع إعادة التحقيق:

... إذا كان للتحقيق دوافع، فلابد من أن تكون لإعادته أسباب مقبولة من الوجهة العلمية؛ إذ لا يعقل أن يعاد نشر كتاب من الكتب سبق نشره محققا مستوفيا لشروط التحقيق.

... وبما أن كثيرا من مصادر المتن المدروس قد أعيد تحقيقه، فقد اهتم المحققون ببيان الأسباب التي دفعتهم إلى القيام بذلك. وفي ما يلي

__________

(1) انتصار الفقير السالك، ص.10.

 

(1/14630)

 

 

إجمال تلك الأسباب:

... 1- ما في الطبعة أو الطبعات السابقة من عيوب:

... وهذا دافع عام يضبط معظم الدوافع التي ذكرها المحققون. والعيوب كثيرة فصلوها في نقدهم للطبعات السابقة(1). ومن الشواهد على

__________

(1) انظر: ابن زيدون، الديوان، صص.113-114؛ وتاريخ افتتاح الأندلس (الطباع)، ص.25؛ وكتاب الاستبصار، ص.أ، وأحكام القرآن، ج1، ص.3، 8، 9؛ وابن خفاجة، الديوان، ص.12، 16، 21؛ والاكتفاء، ع؛ وتخريج الدلالات السمعية، ص.15؛ والاستيعاب، ج1، ص.أ؛ والإملاء المختصر، ج1، ص.41؛ وابن حمديس، الديوان، ص.25؛ والحلل الموشية، ص.9.

 

(1/14631)

 

 

ذلك قول الأستاذ محمد علي البجاوي في تقديم كتاب "أحكام القرآن": "وقد رأت دار إحياء الكتب العربية نشر هذا الكتاب في طبعة علمية محققة، حين رأته مطبوعا، لم تضبط آياته ولم تخرج أحاديثه، ولم يحقق على مخطوطة..." (1).

... 2- نفاد الكتاب لكونه طبع منذ زمن بعيد:

منذ سنين عديدة نفدت نسخ الطبعة الثانية من كتاب "الحلل". وكانت نسخ الطبعة الأولى نافدة قبل ذلك بأعوام، وباتت الحاجة ملحة

__________

(1) أحكام القرآن، ج1، ص.3؛ المصدر نفسه، ج1، ص.8؛ وابن خلدون، المقدمة، ج1، ص.11، 18؛ والإحاطة، ج1، ص.9؛ وبقي بن مخلد، ص.8.

 

(1/14632)

 

 

لهذا الكتاب، وكان أشد ما يخشاه الإنسان أن يبادر أحد الوراقين، فيخرج الكتاب مصورا عن إحدى الطبعتين... والباحث يحتاج الآن إلى نسخة من هذا الكتاب محققة بشكل علمي. لهذا بادرنا نحو أداء هذا الواجب(1).

... وهذا السبب إذا لم يعضده آخر، صار الاعتداد به مما لا ينبغي لباحث. فلو فرضنا أن كتابا حقق تحقيقا قد نفدت نسخه من السوق، فهل يجوز، من الناحية العلمية، أن يعاد

__________

(1) الحلل الموشية، صص.9-10؛ ابن حمديس، الديوان، ص.25؛ وتلخيص كتاب أرسطو، ص.47؛ والبيدق، أخبار المهدي، ص.8؛ الغزال، نتيجة الاجتهاد، ص.21.

 

(1/14633)

 

 

تحقيقه لمجرد هذا السبب الذي لا علاقة له بصنعة التحقيق، بل هو بصنعة الطبع والنشر أعلق؟

... 3- العثور على نسخة لم يطلع عليها الناشر السابق:

... يستفاد ذلك من قول الأستاذ عبد الوهاب ابن منصور عن طبعة الجزائر لكتاب "روضة النسرين" لابن الأحمر:

... لكن هذه الطبعة، رغم العناية التي بذلها الأستاذان المذكوران، لا تخلو من تحريف وأحيانا من حذف؛ والنسخة نفسها التي اعتمد عليها مبتورة الأول والآخر... ولذلك كنت أتمنى منذ سنوات سنوح فرصة لطبع الكتاب طبعة كاملة صحيحة. وقد سنحت الآن هذه الفرصة والحمد لله، إذ

 

(1/14634)

 

 

عثرت على نسخة خطية منه بالخزانة السلطانية... (1).

... 4- اعتماد الناشر السابق على مخطوطة مبتورة:

... ومن شواهده زيادة على ما تقدم في (3)، قول د.عبد العلي الودغيري في نقد نشرة سابقة لـ"ـمفردات" ابن الخطيب أنجزتها المستعربة الإسبانية الأستاذة مريا كنثيبثيون بنيتو:

وقد كنا بدأنا الاشتغال بها وبتحقيقها قبل أن نطلع على هذه النشرة. فحين اطلعنا عليها، أصبح عزمنا على إتمام ما كنا بدأناه أكثر قوة ومضاء، وأصبحت إعادة

__________

(1) روضة النسرين، صص.11-12؛ ابن قنفذ، وسيلة الإسلام، ص.22؛ البيدق، أخبار المهدي، ص.9.

 

(1/14635)

 

 

تحقيق هذه "المفردات" ونشرها على النحو المطلوب علميا أكثر وجوبا وإلحاحا. والسبب في ذلك جملة أمور تضاف إلى ما سبق. أولها أن الباحثة المذكورة اعتمدت في نشرها لكتاب "الوصول"(1) على ثلاث نسخ خطية كلها مبتور وناقص... فالنسخة الأولى(2)... مبتورة الأخير بقدر كبير، بحيث تنقصها ثلاثة أبواب من أبواب "القاموس الصغير" الذي حققناه... (3).

__________

(1) أشار المحقق إلى أن المستعربة نشرت "المفردات" مع بقية كتاب "الوصول لحفظ الصحة".

(2) هي نسخة برلين رقم 1195.

(3) المفردات، ص.15؛ روضة النسرين، صص.11-21.

 

(1/14636)

 

 

... 5- اعتماد الطبعة السابقة على مخطوط واحد:

... فمن الأسباب التي دفعت د.محمد سليم سالم إلى إعادة تحقيق كتاب "تلخيص الشعر" لابن رشد الذي سبق أن نشره فاوستو لازينيو سنة 1873 بمدينة بيزا: "... إنها(1) تعتمد على مخطوط واحد... وهو مخطوط ذائع ومعروف...، ولكن الكشف عن مخطوط آخر محفوظ بمكتبة الجامعة بمدينة ليدن... يبرز -في اعتقادي- ظهور تحقيق جديد"(2).

__________

(1) الضمير يعود على الطبعة الأولى.

(2) تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، ص.47؛ نتيجة الاجتهاد، ص.19.

 

(1/14637)

 

 

... 6- أن يزيد الناشر السابق في الكتاب ما ليس منه:

... يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان عن السبب الذي دعاه إلى إعادة نشر كتاب "الإحاطة":

لابد لنا أن نشير... إلى السبب الذي يدعونا أن نقوم بنشر كتاب "الإحاطة" كله من جديد... والسبب واضح. فإن هذا القسم الذي نشر مليء بالأخطاء والتحريف... هذا، فضلا عما يتخلله... من صنوف الاختراع والمسخ التي هو براء منها، والزيادات الغريبة المنقولة من كتب أخرى(1).

__________

(1) الإحاطة، ج1، ص.9.

 

(1/14638)

 

 

... 7- أن يقتصر الناشر السابق على مجرد نقل المخطوط دون القيام بأي جهد يدل على التحقيق:

... وهذا واضح من السبب الثالث من الأسباب التي دعت الأستاذ محمد عبد الله عنان إلى إعادة نشر كتاب "الإحاطة":

... إن النص المطبوع نشر على علاته من مخطوط دار الكتب وجزء منقول عن نسخة جامع الزيتونة، مشحون بالأخطاء. ولم يقم الناشر بأية مقارنة أو تحقيق للنصوص، ولم يعن بالأخص بتحقيق الأعلام الأندلسية والإسبانية، ولم يقرن النص بأية هوامش أو تعليقات تفسيرية.

... 8- أن ينشر الكتاب ناقصا:

 

(1/14639)

 

 

... يستفاد ذلك من قول د.عبد العلي الودغيري عن السبب الثاني من أسباب إعادة تحقيق "مفردات" ابن الخطيب: "إن نص "المفردات" المطبوع جاء -نتيجة ما سبق(1)- ناقصا بمقدار سبعين مادة"(2).

... 9- طلب صادر عن دار للنشر أو أحد الناشرين:

... وهذا الطلب يوجه إلى الباحثين المهتمين بالتحقيق. والبواعث المحركة للجهة الطالبة بعضها يرجع إلى ما سبق من الأسباب،

__________

(1) أي نتيجة كون المخطوطة مبتورة الآخر (انظر: ص.15).

(2) ابن الخطيب، المفردات، ص.16؛ ابن خلدون، المقدمة، ج1، ص.11، 13، 14. والمقصود بالمادة "المدخل بشرحه".

 

(1/14640)

 

 

وبعضها يرجع إلى أسباب ذاتية كالإعجاب بالكتاب.

... فمن الكتب التي أعيد تحقيقها بناء على طلب من إحدى دور النشر كتاب "أخبار المهدي" للبيدق. يقول محققه الأستاذ عبد الوهاب ابن منصور:

... والآن وقد مر على نشر الكتاب لأول مرة نحو نصف قرن وقل تداوله وأصبح حكمه حكم الكتب الخطية، طلبت مني دار المنصور للطباعة والوراقة أن أقوم بتحقيقه استعدادا منها لطبعه وجعله قريب التناول من أيدي المثقفين. فلبيت طلبها، علما بقيمة نشر هذا الأثر من آثارنا العلمية(1).

__________

(1) أخبار المهدي بن تومرت، ص.8.

 

(1/14641)

 

 

... ومن الكتب التي أعيد تحقيقها بناء على طلب أحد الناشرين وتشجيعه كتاب "تخريج الدلالات السمعية" للخزاعي. يقول د.إحسان عباس عن الطبعة التونسية للكتاب:

... حصلت على تلك الطبعة... بعون من الصديق الأكرم الأستاذ الحاج الحبيب اللمسي، الذي كان يحس أن الكتاب بحاجة إلى تحقيق علمي؛ لأن الطبعة التونسية... لم تكن محققة على نحو يوثق الكتاب ويذيله بالفوائد والتعليقات الموضحة. وقد نقل إلي الحاج الحبيب ما يجول في خاطره من إعجاب بالكتاب وضرورة تحقيقه؛ ولم ألبث بعد قراءة الكتاب من مشاركته في الأمرين(1)

__________

(1) تخريج الدلالات السمعية، ص.15، 16.

 

(1/14642)

 

 

.

... والغالب على الكتب التي يعاد تحقيقها أن يجتمع فيها أكثر من سبب من الأسباب المذكورة. وفي ذلك ما يدل على أن حركة تحقيق كتب التراث تخطو بثبات نحو تجاوز سلبيات المراحل الأولى، وتتجه إلى الارتقاء بالتحقيق إلى مستوى أعلى من العملية والمنهجية.

ثانيا- أصالة النسخة وأسبابها:

... لقد اهتم المحققون بأصالة النسخة المعتمدة في التحقيق. ويعد وصفهم للمخطوطات مدرا أساسيا لمادة الأصالة وأسبابها. ويستفاد من ذلك الوصف أن النسخة الأصل أو الأم هي التي توافرت فيها جملة من الأسباب كلا أو بعضا. ويمكن إجمالها فيما

 

(1/14643)

 

 

يلي:

... أ- القدم والعتاقة:

... هاتان الصفتان من أكثر الصفات ورودا في وصف المخطوطات الأصول. ومن النصوص التي نصت على ذلك قول د.إحسان عباس عن أحد ناشري ديوان ابن حمديس: "اتخذ نسخة الفاتيكان أصلا لقدمها واستيفائها أكثر القصائد"(1)

__________

(1) ابن حمديس، الديوان، ص.24؛ الكلاعي، الاكتفاء، ج1، ع؛ ونتيجة الاجتهاد، ص.22؛ وريحانة الكتاب، ج1، ص.3؛ ابن خفاجة، الديوان، ص.22؛ وابن الزقاق، الديوان، ص.59؛ وبهجة المجالس، ج1، ص.33؛ وروضة التعريف، ص.62-64؛ ومعيار اختيار، ص.7، 57؛ واليوسي، الرسائل، ج1، ص.17؛ والمثلث، ج1، ص.278؛ وتحفة الألباب، ص.22؛ وكتاب الجامع، ص.94؛ والفلاح، ملك التأويل، ج1، ص.6، 17؛ ومطمح الأنفس، ص.120، 127؛ وملاك التأويل (كامل)، ج1، ص.31؛ وصلة الخلف (العتاقة)، ص.15؛ والاستيعاب، ج1، ب؛ والروض، ص.56؛ وتسهيل الفوائد، ص.69.

 

(1/14644)

 

 

.

... والقدم وحده ليس كافيا إذا كان بالنسخة أخطاء وتحريفات. يقول د.صلاح مهدي الفرطوسي عن نسخة إيران من "المثلث" لابن السيد: "على الرغم من قدم المخطوط وجودة الخط، لم أعتمد هذه النسخة أصلا لكثرة أخطائها وتحريفاتها"(1).

... ولهذا نجد المحقق المذكور يجمع بين القدم والصحة في الحكم على نسخة القرويين بالأصالة: "إحدى أصلين اعتمدتها في تحقيق الكتاب لقدمها وصحتها وجودة خطها وصحة شكلها"(2).

__________

(1) المثلث، ج1، ص.272.

(2) المصدر نفسه، ص.278.

 

(1/14645)

 

 

... ويدخل في باب القدم المعتبر في أصالة نسخة من النسخ الأمور التالية:

... 1- أن تكون النسخة بخط المؤلف:

... ومن النصوص الدالة على ذلك قول د.شوقي ضيف: "اطلعت على مخطوطة "كتاب المغرب في حلى المغرب" المحفوظة في دار الكتب المصرية، فوجدتها نسخة نفيسة، لأنها بخط علي بن موسى بن سعيد، آخر المؤلفين الستة الذين توارثوا الكتاب مدة مائة وخمس عشرة سنة"(1).

__________

(1) المغرب، ج1، د.ن؛ ابن خاتمة، الديوان، ص.19؛ والتقاط الدرر، ج1، ص.9، 260، 262، 269؛ والعماري، تاريخ الضعيف، ز.

 

(1/14646)

 

 

... 2- أن تكون منقولة من الأصل الذي بخط المؤلف:

... يقول محققا كتاب "العنوان في القراءات السبع" لأبي طاهر إسماعيل بن خلف المقرئ الأنصاري الأندلسي (ت 455هـ)، تحت عنوان "وصف النسخ": "1- نسخة حديثة جيدة، منقولة من نسخة بخط المؤلف كما يقول الناسخ في آخرها، واتخذناها أصلا"(1).

... 3- أن تكون بهامشها طرر نقلت من خط المؤلف:

... يقول محققا الجزء الرابع من "أزهار الرياض" عن النسخة الأصل: "وهي تامة... وبهامشها طرر نقلت من خط

__________

(1) العنوان في القراءات السبع، ص.23؛ محمد عبد الكريم، بدائع السلك، ج1، ص.44.

 

(1/14647)

 

 

المؤلف... وهي نسخة جيدة، قليلة التصحيف والتحريف، ولذا جعلناها الأصل"(1).

... 4- أن تكون قريبة من نسخة المؤلف:

... وهذا أحد أسباب أصالة نسخة الأسكوريال من "بغية الرواد" لأبي زكريا ابن خلدون. يقول المحقق تحت عنوان "اختيار النسخة الأساسية": "إن نسخة الإسكوريال هي الوحيدة التي ليست مصابة بنقص ملحوظ... وإنها أكمل النسخ، وأقربها إلى نسخة المؤلف المفقودة"(2).

... 5- أن تكون مقابلة على أصل مقابل على نسخة المؤلف:

__________

(1) أزهار الرياض، ج4، ب.

(2) بغية الرواد، ج1، ص.68.

 

(1/14648)

 

 

... وهذه صفة نسختي جامعة بيل والقرويين الأصليتين من كتاب "المثلث". يقول د.صلاح مهدي الفرطوسي عن الأولى: "قوبلت على أصل صحيح مقابل على نسخة المؤلف"(1). ويقول عن الثانية: "نسخة موثقة مقابلة على أصل صحيح منقول عن نسخة المؤلف"(2).

... 6- أن تكون مكتوبة في حياة المؤلف:

... يقول الأستاذ مصطفى السقا ود.حاملد عبد المجيد محققا كتاب "الاقتضاب" عن نسخة الإسكوريال: "هذه النسخة هي الأصل الأول الذي اعتمدنا عليه في إخراج

__________

(1) المثلث، ج1، ص.280.

(2) المصدر نفسه، ص.277؛ انظر ملاك التأويل (كامل)، ج1، ص.31.

 

(1/14649)

 

 

الكتاب، لما تمتاز به من الجودة والصحة والوضوح، لأنها كتبت في حياة المؤلف نفسه"(1).

... 7- أن تكون قريبة من حياة المؤلف:

... وهذا حال نسخة أسعد أفندي بإسطانبول من كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف". يقول د.محمد الكتاني عنها: "وقد اعتبرنا هذه النسخة أصلا، لكونها أقل أخطاء بالنسبة لغيرها، ولأنها كتبت في أقرب سنة لحياة المؤلف، وهي سنة 854هـ. فبينها وبين موت المؤلف 78 سنة فقط"(2)

__________

(1) الاقتضاب، ج1، ص.22؛ النكت الحسان، ص.11.

(2) روضة التعريف، ص.64؛ الروداني، صلة الخلف بموصول السلف، ص.15؛ والروض المريع، ص.56.

 

(1/14650)

 

 

.

... 8- أن تكون بإملاء المؤلف أو مقروءة عليه:

... يقول الأستاذ إسماعيل العربي عن مخطوطة المتحف البريطاني لكتاب "تحفة الألباب ونخبة الإعجاب" لأبي حامد الأندلسي الغرناطي: "اعتمد كأصل لتحقيق هذا الكتاب، مخطوطة المتحف البريطاني... وهذه أقدم نسخ الكتاب المعروفة لدينا، حيث أنها كتبت بإملاء المؤلف"(1). ويستفاد من قول د.عبد الحسين الفتلي عن نسخة المدرسة القادرية ببغداد

__________

(1) تحفة الألباب، ص.22؛ ولكن محقق النكت الحسان لم يتخذ نسخة دار الكتب أصلا، مع أن مؤلف الكتاب أبا حيان قد أملاها بنفسه (انظر ص.12).

 

(1/14651)

 

 

من كتاب "النكت الحسان في شرح غاية الإحسان" لأبي حيان النحوي: "جعلتها الأصل، لأنها كتبت زمن المصنف، وربما كانت مقروءة عليه، فهي مصححة الحواشي، يرجع تاريخ نسخها إلى سنة 722هـ؛ أي قبل وفاة المصنف بثلاثة عشر عاما"(1)، أن من أسباب أصالة النسخة أن تكون مقروءة على المؤلف، وذلك يحلها من منازل الصحة بالدرجة العالية.

... ب- الأتمية والأكملية:

... وذلك أن تكون النسخة أتم النسخ، وأكملها، وأوفاها. ولقد حظيت هذه الصفات بعناية المحققين أثناء وصفهم للنسخ الأصلية. يقول د.محمد كمال شبانة

__________

(1) النكت الحسان، ص.11.

 

(1/14652)

 

 

عن نسخة الأسكوريال التي يعتبرها "أوفى وأحق بالاعتماد في التحقيق"(1): "لما كنت قد قارنت... بين نسخ مخطوطة هذا الكتاب...، فقد بان لي أن أكملها وأوفاها... مخطوطة الأسكوريال بإسبانيا"(2). ويقول د.عبد الحميد حاجيات عن نسخة الأسكوريال من "بغية الرواد" التي اعتبرها أصلا: "إنها أكمل النسخ"(3).

__________

(1) معيار الاختيار، ص.7.

(2) المصدر نفسه، ص.57.

(3) بغية الرواد، ج1، ص.68؛ بسط الأرض، ص.7؛ وترتيب المدارك (أحمد محمود)، ج1، ص.34؛ والأمير أبو الربيع، الديوان، ص.14.

 

(1/14653)

 

 

... والأكملية تطلق ويراد بها أحد المعنيين الآتيين:

... 1- استيعاب مادة الكتاب بحيث لا ينقص منها شيء:

... ومن شواهد هذا المعنى قول د.إحسان عباس عن نسخة (د) التي اتخذها أساسا لتحقيق ديوان الأعمى التطيلي: "وهي أكمل النسختين من حيث عدد القصائد، ولكنها حديثة النسخ"(1)؛ وقوله عن ديوان ابن حمديس: "اتخذ (ميشل أماري) نسخة الفاتيكان أصلا لقدمها واستيفائها أكثر القصائد"(2). وقد لمح محقق كتاب "النكت الحسان"، فقال عن النسخة الأصل: "إنها أضبط في

__________

(1) الأعمى التطيلي، الديوان، ظ.

(2) ابن حمديس، الديوان، ص.24.

 

(1/14654)

 

 

مادتها، وأكمل في موضوعها"(1).

... 2- صحة متن النص وسلامة سنده:

... ومن شواهد هذا المعنى قول د.سيد غازي عن مخطوط الأسكوريال من "ديوان ابن خفاجة": "والمخطوط على ما به من نقص أكمل مخطوطات الديوان التي اعتمدنا عليها من حيث صحة الرواية، وسلامة النص، والدقة في ضبط الكلمات. وهذا ما جعلنا نتخذ منه أساسا لتحقيق الديوان" (2)

__________

(1) النكت الحسان، ص.12.

(2) ابن خفاجة، الديوان، ص.23؛ انظر عن الصحة مطلقا: الاقتضاب، ج1، ص.22؛ وبغية الرواد، ج1، ص.69؛ والمثلث، ج1، ص.278-280؛ وصلة الخلف، ص.15؛ الأمير أبو الربيع، الديوان، ص.14؛ وإحكام الفصول، ص.151؛ والنكت الحسان، ص.11.

 

(1/14655)

 

 

.

... وقد يعتمد المحقق على نسخة غير كاملة ويتخذها أساسا للتحقيق، إذا كان غيرها من النسخ يسد ما بها من نقص. يقول محققا "التمهيد" عن إحدى النسخ: "وقد اتخذنا من هاته النسخة أساسا لإخراج الكتاب وإعداده للطبع، رغم أنها غير كاملة، اعتمادا على ظن قوي في أن ما بها من نقص يوجد في الأجزاء المتفرقة الموجودة بالمكتبة العامة بالرباط والمكتبة الملكية"(1).

... ج - الشكل والضبط الدقيقان:

... ورد النص على هاتين الصفتين في قول محقق "صلة الخلف" للروداني عن النسخة الأصل: "إن مخطوطة الخزانة

__________

(1) التمهيد، ج1، ص.5.

 

(1/14656)

 

 

العامة بالرباط جيدة خطا وضبطا" (1)، وقول د.محمد رضوان الداية في وصف النسخة الأم لديوان ابن خاتمة الأنصاري: "الخط أندلسي جميل مضبوط بالشكل الدقيق"(2). وقد تطلق لفظة "الدقة" إطلاقا عاما، ويراد منها ما سبق. يقول محقق "الاكتفاء" للكلاعي: "وقد جعلت نسخة طلعت النسخة الأم لقدمها ودقتها"(3).

__________

(1) صلة الخلف، ص.15.

(2) ابن خاتمة، الديوان، ص.19، 20؛ المثلث، ج1، ص.278؛ وإحكام الفصول، ص.150؛ ابن الزقاق، الديوان، ص.59؛ الأمير أبو الربيع، الديوان، ص.14؛ والنكت الحسان، ص.12.

(3) الاكتفاء، ج1، ع.

 

(1/14657)

 

 

... د- الوضوح:

... والمقصود به وضوح كلمات النسخة وخطها. ويستفاد ذلك من قول محقق "مطمح الأنفس" عن نسخة رئيس الكتاب المحفوظة بالمكتبة السليمانية بإستانبول: 'ونظرا لوضوح الخط ولقدم النسخة، فقد اعتمدتها أصلا في التحقيق"(1)؛ وقوله عنها: "اتخذت نسخة رئيس الكتاب… أصلا، لقدمها… ولوضوحها واكتمالها"(2).

... هـ- أن تكون النسخة موثقة:

... إن توثيق النسخة من أعظم أسباب أصالتها. ولهذا نجد كثيرا من المحققين ينص عليها في وصف النسخ العالية

__________

(1) مطمح الأنفس، ص.120.

(2) المصدر نفسه، ص.127؛ الاقتضاب، ج1، ص.22.

 

(1/14658)

 

 

النفيسة. ومن الشواهد على ذلك قول د.عبد الحميد حاجيات: "إن أصح هذه الأمهات وأوثقها هو الأصل الذي تنتمي إليه نسخة الأسكوريال. ولذا اعتبرناها النسخة الأساسية لتحقيقنا"(1).

... وأعلى درجات التوثيق: السماع، والإجازة، والعرض. يستفاد ذلك من قول د.عبد الكريم خليفة عن مخطوطة القرويين لكتاب "الإملاء المختصر" للخشاني: "وقد اعتبرنا مخطوطة المنشإ هذه، هي المخطوطة الأم… ولا سيما أن توثيقها يعود إلى سنة 603هـ، أي قبل

__________

(1) بغية الرواد، ج1، ص.69؛ روضة التعريف، ص.62، حيث يتحدث المحقق عما سماه "التوثيق التاريخي".

 

(1/14659)

 

 

وفاة المؤلف –رحمه الله- بسنة، فضلا عما أجرى من سماع وإجازة وعرض، مما يعتبر ذروة في التوثيق ويسمح لنا باتخاذها النسخة الأم"(1).

... و- جودة الخط ونفاسته:

... لقد نص كثير من المحققين على جودة الخط في وصف النسخ الأصول. ومن النصوص الدالة على ذلك قول د.صلاح مهدي الفرطوسي في وصف نسخة القرويين من كتاب "المثلث" لابن السيد: "إحدى أصلين اعتمدتهما في تحقيق الكتاب لقدمها وصحتها وجودة خطها وصحة شكلها"(2)

__________

(1) الإملاء المختصر، ج1، ص.45.

(2) المثلث، ج1، ص.278؛ الأمير أبو الربيع، الديوان، ص.14؛ وصلة الخلف، ص.15.

 

(1/14660)

 

 

، وقول د.محمود كامل أحمد في وصف النسخة الأصل لكتاب "ملاك التأويل": "مكتوبة بخط نسخ نفيس"(1). ومن مظاهر جودة الخط ونفاسته أن يكون جميلا واضحا(2).

... ز- قلة التصحيف والتحريف:

... من دلائل جودة النسخة وأصالتها أن تكون قليلة الأخطاء والتصحيفات والتحريفات. لذلك قرن محققا الجزء الرابع من "أزهار الرياض" بين الجودة وقلة التصحيف والتحريف في صف النسخة الأصل. يقولان عن نسخة الخزانة العامة رقم 784: "هي نسخة

__________

(1) ملاك التأويل، ج1، ص.31.

(2) تحفة الألباب، ص.22؛ ابن خاتمة، الديوان، ص.19؛ والمثلث، ج1، ص.280.

 

(1/14661)

 

 

جيدة، قليلة التصحيف والتحريف. ولذا جعلناها الأصل"(1). ونظرا لخطورة التصحيفات والتحريفات والأخطاء، فقد اعتبر وجودها بكثرة في نسخة من النسخ خارما للأصالة، وإن توافرت لها سائر أسبابها، كالقدم والجودة. ومن شواهد هذا قول د.عبد الحميد حاجيات في معرض نقده لنشرة ألفرد بل من كتاب "بغية الرواد": "وقد اتخذ مخطوط القاضي شعيب… أساسا لتحقيقه، مع أن هذه النسخة أكثر

__________

(1) أزهار الرياض، ج4، ب؛ والروض المريع، ص.56؛ والجامع، ص.94؛ وملاك التأويل (الفلاح)، ج1، ص.17؛ وروضة التعريف، ص.62، 64؛ وتلخيص كتاب الشعر، ص.47.

 

(1/14662)

 

 

أغلاطا من مخطوط باريس…"(1)، وقول د.صلاح مهدي الفرطوسي عن نسخة إيران من "المثلث": "على الرغم من قدم المخطوط وجودة الخط، لم أعتمد هذه النسخة أصلا لكثرة أخطائها وتحريفاتها"(2).

ثالثا – تفرد النسخة:

... يذهب د.محمد ابن شريفة إلى أن "التحقيق المثالي للنصوص هو الذي يقوم على أكثر من نسخة"، وخاصة إذا كانت النسخ أصلية أو جيدة؛ لأن "المحقق المحظوظ" في نظره هو "الذي يقع على النسخ الأصلية أو الجيدة"(3)

__________

(1) بغية الرواد، ج1، ص.68.

(2) المثلث، ج1، ص.272.

(3) حوار أجراه معه عبد العزيز الساوري، نشر بجريدة العلم، الملحق الثقافي، بتاريخ 6 ماي 1995، ص.6.

 

(1/14663)

 

 

.

... هذه هي الصورة المثالية. ولكن واقع التراث المخطوط يشتمل على كثير من الكتب التي لم يصل إلينا منها سوى نسخة فريدة تكون في كثير من الحالات رديئة. فما العمل إذن؟

... إن الجواب عن هذا السؤال يستفاد من الإشارات والتصريحات الواردة في المتن المدروس؛ وذلك كما يلي:

... أ- عدم ممانعة المحققين في نشر المخطوطة الفريدة النادرة:

... ومن تصريحاتهم بذلك قول سليمان الصيد محقق كتاب "وسيلة الإسلام بالنبي عليه الصلاة والسلام" لابن قنفذ القسنطيني: "وقد جرت عادة المحققين في المخطوطات أنهم لا يمانعون في نشر

 

(1/14664)

 

 

المخطوطة الفريدة النادرة"(1).

... ويشهد بذلك واقع تحقيق التراث المغربي الأندلسي؛ فخمس المتن المدروس، أي تسعة وعشرون (29) مصدرا(2)

__________

(1) وسيلة الإسلام، ص.21.

(2) هذه الكتب هي: ابن سعيد، الغصون اليانعة، ص.5؛ والرد على النحاة، ص.3، 21؛ والمعجب في تلخيص أخبار المغرب، ع-ف؛ والمغرب في حلى المغرب، ج1، د، ص.21، 22؛ وابن جلجل، طبقات الأطباء والحكماء، مه-مو؛ وابن دراج القسطلي، الديوان، ص.88، 91، 92، 93؛ وابن الأبار، الحلة السيراء، ج1، صص.54-55؛ والمن والإمامة، صص.27-29؛ والمقتبس (الحجي)، ص.15، 17؛ وكناسة الدكان بعد انتقال السكان، ص.11؛ والمطرب من أشعار أهل المغرب، ن؛ وشرح المختار من شعر بشار، د-هـ، و؛ وإحكام صنعة الكلام، ص.5، 17، 18؛ ونثير فرائد الجمان، ص.9، 104، 207، 209؛ والسراج، أنس الساري، أ، هـ؛ والمقتبس (مكي)، صص.123-126؛ وطوق الحمامة (الطاهر أحمد مكي)، ص.8، القاسمي، ص.37؛ والإلبيري، الديوان، ص.10، 11؛ الباجي، الحدود، ص.17، 18؛ والوادي آشي، البرنامج، ص.25، 26؛ ضرائر الشعر، صص.8-9؛ والقيسي، العمدة في غريب القرآن، صص.58-59؛ والبلوي الوادي آشي، الثبت، ص.7، 69، 94؛ وبقي بن مخلد القرطبي، مقدمة المسند، ص.63؛ ابن الحاج النميري، فيض العباب، صص.88-89؛ وشرح عيون كتاب سيبويه، صص.3-4؛ ووسيلة الإسلام، صص.21-22؛ الزجاجي، البسيط في شرح الجمل، ج1، ص.145؛ وابن القطان المراكشي، نظام الجمان، ص.9، 52، 56.

 

(1/14665)

 

 

حقق اعتمادا على نسخة فريدة. ومن النسخ ما اشتمل على عيوب كثيرة كالبتر مثلا.

... ب – إقرار المحققين بصعوبة التحقيق اعتمادا على نسخة فريدة:

... إن المحققين وإن لم يمانعوا في نشر الكتب اعتمادا على نسخة فريدة، فإنهم أقروا بصعوبة ذلك، وخاصة إذا كانت فيها عيوب خطيرة.

... وقد اختلفت عباراتهم في ذلك. فمنهم من استعمل لفظ "الصعوبة" أو مشتقا من مشتقاتها كـ"أصعب" أمثال د.محمود علي مكي في قوله: "ومن المعروف مدى صعوبة نشر أي نص على أساس مخطوط وحيد"(1)

__________

(1) ابن دراج، الديوان، ص.92؛ ونثير فرائد الجمان، ص.209؛ وفيض العباب، ص.88؛ طوق الحمامة (القاسمي)، ص.37؛ والمطرب، ن.

 

(1/14666)

 

 

. ود.الطاهر أحمد مكي الذي يقول: "ليس أصعب من تحقيق كتاب مخطوطته وحيدة، ونصه مليء بالأخطاء"(1).

... ومنهم من استعمل لفظ "العسر" كالدكتور إحسان عباس في قوله عن ديوان الأعمى التطيلي: "وقد بذلت جهدا كثيرا متواصلا لكي أقدم للقارئ… نصا صحيحا، ولكن حين كانت تنفرد النسخة (د)، فقد كان بلوغ الصحة والضبط يبدو أمرا بالغ العسر"(2).

... ومنهم من استعمل صيغة التفضيل من المشقة "أشق" أمثال د.محمود علي مكي في قوله عن مخطوطة "المقتبس": "إن العمل في نشر

__________

(1) طوق الحمامة (مكي)، ص.8.

(2) الأعمى التطيلي، الديوان، غ.

 

(1/14667)

 

 

مثل هذه المخطوطة على أصل وحيد كان من أشق ما يمكن أن يقاسيه محقق. فقد لحق هذا الأصل من التشويه والقطوع ما جعل الإقدام على نشره أشبه بمخاطرة غير مأمونة العواقب"(1).

... ومنهم من عبر بـ"المغامرة" و"المخاطرة" كما في النص السابق. وفي قول الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله:

إن نشر كتاب ما على أصل واحد مملوء بالأخطاء، مغامرة كبيرة لا يرتضيها العلم ولا قواعد النشر والتحقيق. ولكن إذا لم يكن هناك أمل في وجود نسخة ثانية للكتاب، وكان الاعتقاد جازما بأن هذا الأصل هو الوحيد الذي أفلت من

__________

(1) المقتبس، ص.125.

 

(1/14668)

 

 

عوادي الزمن، فما العمل إذن؟ وقد سبق أن امتحنت بمثل هذه المغامرة مرتين… فسلم الله ومر الامتحان برفق. فلم ينكر النقد النزيه منهما شيئا(1).

... والسؤال الذي ينبغي طرحه هو: كيف تغلب هؤلاء المحققون على الصعوبة الناشئة عن وجود مخطوطة فريدة؟

... ج- وسائل التغلب على هذه الصعوبة:

... يستفاد من تجارب التحقيق التي قامت على نسخة وحيدة أن التغلب على هذه الصعوبة يتم بإحدى الوسائئل الآتية أو بها

__________

(1) مناهل الصفا، صص.8-9، ن، 13؛ والضمير في "منهما" يعود على مجموعة "رسائل سعدية" و"ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث".

 

(1/14669)

 

 

جميعها:

... 1- الاستعانة بالمصادر التي أثرت في الكتاب المحقق أو تأثرت به خاصة، أو بمصادر المادة نفسها عامة: وهذه أقوى الوسائل؛ فقد اعتمد عليها في تحقيق اثني عشر كتابا. ومن الكتب التي استعين في تحقيقها بالمصادر التي أثرت فيه "المعجب" للمراكشي. يقول محققاه: "ليس منه اليوم –فيما نعلم- إلا مخطوطة واحدة غير كاملة في مكتبة ليدن"(1)

__________

(1) هي: الرد على النحاة، والمعجب، وطبقات الأطباء والحكماء، وديوان ابن دراج، وكناسة الدكان، والمطرب، وإحكام صنعة الكلام، ونثير فرائد الجمان، والمقتبس، وضرائر الشعر، وثبت البلوي، وفيض العباب.

 

(1/14670)

 

 

. "وإذن فقد كان علينا لنستكمل هذا النقص أن نبحث عن المصادر التي اقتبس عنها الماكشي ما رواه من تاريخ تلك الحقبة"(1). ومن الكتب التي عول في تحقيقها على المصادر التي أثرت فيها الكتاب المحقق ونقلت منه "طبقات الأطباء والحكماء" لابن جلجل. يقول محققه فؤاد سيد:

... اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب ونشره على نسخة وحيدة، ولم أعثر على نظير لها في مكتبات العالم –على ما بلغ إليه بحثي- وقد انتفع بهذا الكتاب قديما، ونقل منه كثيرا من النصوص ابن أبي أصيبعة في

__________

(1) المعجب، ع-ف؛ المطرب، ن؛ وإحكام صنعة الكلام، ص.18.

 

(1/14671)

 

 

"عيون الأنباء"… والقاضي صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم"… وابن خلكان في "وفيات الأعيان"… فرأيت أن أعتبر النصوص المنقولة من ابن جلجل في هذه الكتب نسخا غير مباشرة، صححت بها النص، وحققت منها الخلاف الوارد في العبارة أو اللفظ. وقد ساعدتني هذه المقابلة على تصحيح كثير من التصحيفات والتحريفات والأخطاء(1).

... وأما الكتب التي رجع فيها المحقق إلى مصادر مادتها المعاصرة وغير المعاصرة، فمنها "الرد على النحاة". يقول د.شوقي ضيف عن النسخة الوحيدة

__________

(1) طبقات الأطباء والحكماء، مه-مو؛ ابن دراج، الديوان، ص.88.

 

(1/14672)

 

 

للكتاب: "عكفت عليها أصلح تحريفاتها وأصحح تصحيفاتها، وأرم أسقاط الكلام بها، مستعينا في ذلك بأصول علم النحو وأمهاته المطبوعة والمخطوطة… حتى استقامت نصوصها… وأصبحت… نقية مصفاة من الشوائب"(1).

... وقد يستعين المحقق بكتاب آخر للمؤلف نفسه، كما فعل محقق "كناسة الدكان" التي لم يجدها لها سوى "مخطوطة يتيمة" بمكتبة الأسكوريال. يقول د.محمد كمال شبانة:

__________

(1) الرد على النحاة، ص.3؛ نثير فرائد الجمان، ص.104، 209؛ والمقتبس، صص.125-126؛ والبلوي، الثبت، ص.94؛ وضرائر الشعر، صص.8-9؛ وفيض العباب، ص.88.

 

(1/14673)

 

 

... إن جزءا ليس باليسير من رسائل المخطوطة قد ثبت ذكره في مؤلف ابن الخطيب أيضا "ريحانة الكتاب". وقد أشار الناسخ للكناشة إلى ذلك… وقد دعانا هذا بطبيعة الحال للرجوع إلى "الريحانة" ووقع الاختيار على ثلاث نسخ منها. فقوبل ما جاء بها من تلك الرسائل على ما ورد منها بـ"ـالكناسة"… وكانت النتيجة في النهاية لهذه المقابلات أن وصلنا إلى صورة متكاملة في الجملة لمخطوطة "الكناسة"، ونبهنا عند كل نقص أو زيادة إلى ذلك(1).

... 2 – التمرس بعادة الناسخ في الكتابة، وبأسلوب المؤلف:

__________

(1) كناسة الدكان، ص.11.

 

(1/14674)

 

 

... يقول د.محمد رضوان الداية عن طريقته في التغلب على صعوبة تحقيق كتاب "أحكام صنعة الكلام" اعتمادا على "نسخة فريدة سقيمة"(1) : "وقد قرأت الكتاب ونسخته بعناية ودقة، واستعنت على فك غوامضه، وإيضاح مبهماته بالصبر والتأني، والتمرس بعادة الناسخ وطرائقه في الكتابة، وبأسلوب المؤلف وصيغه وعباراته"(2).

... 3 – قوة نفس المحقق:

... ومن دلائلها الصبر، والاعتماد على النفس(3). ومما يدخل في

__________

(1) إحكام صنعة الكلام، ص.5.

(2) المصدر نفسه، ص.18؛ فيض العباب، ص.89.

(3) أحكام صنعة الكلام، ص.18؛ والبلوي، الثبت، ص.94.

 

(1/14675)

 

 

باب "الوسائل النفسية": الإقناع بأهمية الكتاب وقيمته؛ فهو من أقوى الحوافز على مواجهة الصعوبات الناشئة عن وجود مخطوطة وحيدة. يقول د.محمود علي مكي عن "ديوان ابن دراج": "على أن قيمة الديوان وأهميته كانتا مما شجعنا على المضي في هذا العمل وبذل الجهد في إتمامه"(1). ويقول عن "المقتبس": "غير أن قيمة النص وفائدته الكبيرة كانت تدفع بي إلى المواصلة والمثابرة"(2).

__________

(1) ابن دراج، الديوان، ص.92.

(2) المقتبس، ص.126. انظر طرافة موضوع الكتاب في "الردة على النحاة"، ص.3.

 

(1/14676)

 

 

... وربما كانت المشقة التي يعانيها محقق المخطوطة الوحيدة وما يعقبها من اللذة من أنجع الوسائل النفسية. وذلك ما يستفاد من قول د.محمود علي مكي: "إنني أعترف بأن هذه المشتقات نفسها كانت من المغريات بالمضي في العمل حتى أتممته على خير ما استطعت وبقدر ما سمحت معرفتي"(81).

... د – فوائت معجزة لا تدرك:

... من ذلك تجربة د.إحسان عباس في تحقيق "التشبيهات" لابن الكتاني الطبيب. فقد قال في خاتمة مقدمة التحقيق: "إن غبطتي بالكتاب لتفوق شعوري بالعجز عن حل معميات النسخة الوحيدة التي اعتمدتها في تحقيقه. غير أني لم

 

(1/14677)

 

 

أوفر جهدا في سبيل ضبطه وتحريره، وإن كان ذلك جهد المقل العاجز"(1).

... ولعل أشد التجارب وطئا على صاحبها تجربة تحقيق "المقتبس" لابن حيان. وأبلغ عبارة عن عجز المحقق قوله: "بقيت بعد ذلك مواضع أعجزتنا تماما، إذ لم نر في بقايا السطور والكلمات ولا في المراجع الأخرى ما يمكن أن يستدل به على شيء في إيضاح النص، فتركنا تلك المواضع بياضا"(2).

... هـ – الحاجة إلى نسخة جديدة:

__________

(1) التشبيهات، ص.16.

(2) المقتبس، ص.126. ومثل هذه التجربة: تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة لكتاب "منهاج البلغاء" لحازم القرطاجني.

 

(1/14678)

 

 

... إن الصعوبات، ووسائل التغلب عليها، وما شاب بعض التجارب من نقص وصل إلى درجة العجز التام، كل ذلك يقف بعض المحققين على باب الرجاء؛ فهم يرجون أن يعثروا على نسخة جديدة تمكنهم من إخراج الكتاب إخراجا كاملا. وممن عبر عن ذلك شوقي ضيف في خاتمة مقدمة الطبعة الأولى من "المغرب في حلى المغرب"، حيث قال: "وإني لأرجو مخلصا في خاتمة هذا المدخل أن يعثر الباحثون في المستقبل بين خزائن الكتب على نسخة جديدة من "المغرب" أو من هذا النص، حتى يمكن إخراجه إخراجا كاملا"(1). وهذا محقق "نثير فرائد

__________

(1) المغرب، ج1، ص.30.

 

(1/14679)

 

 

الجمان" لابن الأحمر يصرح في خاتمة مقدمة التحقيق بقوله: "وقد بقيت مواضع متأبية على الوضوح والاستقامة… ونأمل أن تتاح الفرصة لتقويمها على ضوء مخطوطات جديدة ونقول مبثوثة"(1). وأعاد الكلام نفسه بعد إحدى وعشرين سنة في مقدمة تحقيق الكتاب الذي نشره مرة ثانية بعنوان "مشاهير الشعراء والكتاب في المشرق والأندلس والمغرب"(2). وعمم ذلك د.الطاهر أحمد مكي، ولم يخصص حيث قال

__________

(1) نثير فرائد الجمان، ص.212؛ البلوي، الثبت، ص.88.

(2) مشاهير الشعراء والكتاب، ص.23. وقد نشر سنة 1406هـ/1986م، في دار عالم الكتب، بيروت.

 

(1/14680)

 

 

في آخر "كلمة المحقق": "ولعل في قادم الأيام ما يعيننا على أن نبلغ به حد الكمال"(1).

ويلاحظ أن التعبير عن الحاجة إلى نسخة أو نسخ جديدة يغيب في المقدمات التي يكتبها المحققون عندما تكون النسخة الفريدة المعتمدة في نشر الكتاب رفيعة القدر. ومن أمثلة ذلك ديوان أبي إسحاق الإلبيري؛ فقد حققه د.محمد رضوان الداية اعتمادا على نسخة "رفيعة جدا، نفيسة القدر"(2)، ولهذا وجدناه ينهي "مقدمة المحقق" بكلام غفل لم يوسم بذكر الحاجة. يقول: "وبعد؛ فأرجو أن يخرج هذا

__________

(1) طوق الحمامة، ص.10.

(2) الألبيري، الديوان، ص.11.

 

(1/14681)

 

 

الديوان على المهتمين بالتراث العربي الأندلسي على نحو جيد، وأن يجد وافيه متابعة جادة لنشر الآثار الأندلسية"(1).

رابعا – صعوبة التحقيق:

... يمكن ضبط أربعة محاور أساسية في تناول المحققين لهذه القضية في المتن المدروس، وهي: الإقرار بمبدإ صعوبة التحقيق، ودلائل الصعوبة، وأسبابها، وكيفية التغلب عليها.

... أ – مبدأ صعوبة التحقيق:

... يرى محقق "إيضاح شواهد الإيضاح" أن "تحقيق النصوص ليس بالأمر الهين". وآية ذلك، عنده، أن في الكتاب نصوصا لم تسعفه مصادره في تخريجها(2)

__________

(1) المصدر نفسه، ص.16.

(2) القيسي، إيضاح شواهد الإيضاح، ج1، ص.8.

 

(1/14682)

 

 

. ويؤكد هذا المعنى محقق "جامع العبارات" بقوله: "تحقيق المخطوطات من الأمور الشاقة التي تحتاج إلى عناء كبير، وعمل دءوب"(1). وتتأكد الصعوبة، ويصرح بلفظها في أقوال محققي المخطوطات الفريدة، على ما مضى في "تفرد النسخة"(2).

... واعتاد بعض المحققين تزيين كلامه بما يرغب في الكتاب، ويفتح أبواب الاعتذار، ويغلق أبواب النقد. ومن شواهد ذلك ما نجده في المقدمة التي وضعها محقق "معجم" البكري الأستاذ

__________

(1) الطرودي، جمع العبارات، ص.13.

(2) ابن دراج، الديوان، ص.92؛ وطوق الحمامة (الطاهر مكي)، ص.8؛ وأنس الساري، هـ.

 

(1/14683)

 

 

مصطفى السقا. يقول:

... وها نحن أولاء جميعا نقدم هذا الجزء الأول من "المعجم" إلى رواد البحث عن المصادر العربية العتيقة، يختال في أبراده ووشيه، وحلله ورقمه، من الورق الأبيض الناصع الذي طال عهد الناس بفقده، ومن الحروف العربية الجميلة، فوق الذي بذلناه فيه من تحقيق وتصحيح، لا تراهما إلا العين المجردة من الهوى، مما اقتضى منا كثيرا من الجهد المضني، والعناء الذي لا يقوم به إلا الصبر الجميل(1).

__________

(1) معجم ما استعجم، ج1، ط؛ الإحاطة، ج4، ص.6؛ ابن حمديس، الديوان، ص.25؛ وعمدة الطبيب، ج1، ص.38.

 

(1/14684)

 

 

... ب – دلائل صعوبة التحقيق:

... ويدل على صعوبة التحقيق، زيادة على ما مضى من التصريح بالمبدأ، دلائل تتعلق بمآل عمل التحقيق. ولذلك ثلاث صور: صورة راجعة إلى المحقق، وصورتان راجعتان إلى المحقق:

... 1 – ما يرجع إلى المحقق: وهو اعتراف المحقق بأن الإخراج للكتاب لم يكن كاملا، وأن النص المحقق لم يستقم بشكل كامل. ومن النصوص الدالة على ذلك قول محقق "الاستبصار في عجائب الأمصار" د.سعد زغلول عبد الحميد: "إننا لا ندعي أن النص الذي حققناه قد استقام بشكل كامل لا غبار عليه. فما زالث بعض الكلمات بل وبعض الجمل

 

(1/14685)

 

 

غير دقيقة أو قليلة الوضوح"(1) ويقول الأستاذ محمد الفاسي عن "رحلة العبدري": "وأنا لا أزعم أن هذه الطبعة بلغت الكمال وأنها لا تخلو من أي مأخذ"(2).

... 2 – ما يرجع إلى المحقق، وله صورتان:

... - صورة الإقرار بأن الصواب لم يحالفه دائما: يقول د.إحسان عباس محقق "ديوان ابن حمديس": "ولست أنكر أن التوفيق لم يحالفني دائما في التصويب"(3).

__________

(1) كتاب الاستبصار، ز.

(2) العبدري، الرحلة، أر؛ المغرب، ج1، ص.30؛ والتشبيهات، ص.16؛ وألف سنة من الوفيات، ص.8؛ وقصائد ومقطعات، ص.17.

(3) ابن حمديس، الديوان، ص.25.

 

(1/14686)

 

 

... - وصورة الاعتراف بالعجز: ومن النصوص المعبرة عن ذلك قول د.إحسان عباس أيضا في تقديمه لكتاب "الروض المعطار" لمحمد بن عبد المنعم الحميري: "إنني وقفت إزاء بعض الأسماء عاجزا عن استبانة الوجه الصحيح فيها. فإما أشرت إلى ذلك في الحاشية، معلنا أني لم أجد شيئا عنها في المصادر، وإما تركتها عابرا دون إشارة وفي النفس منها شيء"(1).

... ج – أسباب صعوبة التحقيق:

__________

(1) الروض المعطار، ر؛ عمدة الطبيب، ج1، ص.37؛ والمقتبس، (مكي)، ص.126؛ والتشبيهات، ص.16.

 

(1/14687)

 

 

... أسباب صعوبة التحقيق كثيرة. ومعظمها يرجع إلى حال النسخ. وإجمالا، يمكن إيراد الأسباب الآتية، ذهابا إلى التمثيل لا إلى الحصر:

... 1 – أن تكون النسخة الفريدة ذات عيوب، وقد تقدم بيان ذلك.

... 2 – صعوبة الخط: هذا سبب يكاد يكون عاما. وممن عبر عن ذلك إبراهيم الإبياري في تقديم "الغصون اليانعة" لابن سعيد: "والآن، فهذا نص "الغصون" بين يديك عناني خطه كثيرا في بعض مواطنه"(1). ومنهم د.إحسان عباس في تقديم "ديوان الأعمى التطيلي": "ولا تقل نسخة "جيش التوشيح"… عسرا لدقة خطها"(2)

__________

(1) الغصون اليانعة، ن.

(2) الأعمى التطيلي، الديوان، غ.

 

(1/14688)

 

 

.

... وصعوبة الخط ناتجة عن دقته وتشابه أشكال بعض الحروف، وعدم نقط بعض الحروف، أو تلاشي نقطها بمرور الزمن. يستفاد ذلك كله من قول د.عبد الله العمراني في تقديم "ثبت" البلوي:

... أول الصعوبات تتجلى في الخط. إن خط المؤلف أبي جعفر البلوري خط أندلسي… فقد لا يصعب على مغربي مثلي أن يحل رموزه، ويفك معمياته، ويتغلب على مصاعبه، ولكن الواقع أني عانيت من أجله مشاق ومتاعب ناتجة عن شيئين: (أ) دقة خطوط الكلمات، وتشابه أشكال بعض الحروف؛ (ب) عدم نقط بعض الحروف أصلا، أو تلاشي نقطها بمرور الزمن، فأصبحت الحروف غير

 

(1/14689)

 

 

المنقوطة تثير الشبه والشكوك، وصار في الإمكان أن تقرأ الكلمة بأكثر من وجه(1).

... وتتجلى صعوبة الخط أيضا في اختلافه وقدمه. يقول المحقق السابق الذكر في معرض تعديد الصعوبات المتصلة بالخط:

... إن الكتاب يحتوي على عدة خطوط. وهذه الخطوط تختلف فيما بينها وضوحا وخفاء، جودة ورداءة، صوابا وخطأ. فلو كان الخط واحدا من أول الكتاب إلى آخره، لهان الأمر بعض الشيء، لأن الدارس الباحث يستأنس بالخط، ويتعرف على أسلوب الكاتب في الكتاب من أول وهلة… وليس هذا فحسب، بل إن الخطوط كلها قديمة

__________

(1) البلوي، الثبت، ص.91.

 

(1/14690)

 

 

والخط العربي –كسائر الخطوط- في تطور وتباين(1).

... 3 – اضطراب الأوراق: وهذه مسألة تمس جانب الترتيب. وممن اعترضتهم هذه الصعوبة د.شوقي ضيف في تحقيق "المغرب". يقول في مقدمة الطبعة الثانية:

استحال نسيج القسم الأندلسي في الكتاب أوراقا مضطربة غير متصلة، مع سقوط كثير من صحفه، حتى غدا كأنه أنقاض مطموسة المعالم، مما جعل الباحثين… يستيئسون من نشره. وقد مضيت أحاول إحياءه ورده إلى صورته الأصلية بكل ما أملك من جهد، حتى استقامت أوراقه المتناثرة المتبقية على نهجه الذي وضع له ورسمه الذي

__________

(1) المصدر نفسه، ص.92.

 

(1/14691)

 

 

صنف عليه، إلا ما كان من ورقتين… رددتهما في هذه الطبعة إلى موضعهما من اتصال الكلام(1).

... 4 – الرطوبة وما إليها: من شواهدها قول الأب اغناطيوس اليسوعي عن مخطوط "شفاء السائل لتهذيب المسائل" لابن خلدون: "ولم تكن الرطوبة أو غوائل الزمان قد أطاحت إلا ببعض كلماته، فصعبت قراءتها وعسر تبيانها. فالخط مغربي جلي واضح، والمخطوط بكامله"(2).

__________

(1) المغرب، ج1، ب؛ ج1، صص.22-23؛ ج2، هـ؛ مطرب، ن.

(2) شفاء السائل، ص.17.

 

(1/14692)

 

 

... 5 – كثرة التصحيف: يقول الأستاذ محمد الفاسي عن المخطوط الفريد لـ"أنس الساري والسارب": "ولكنه كثير التصحيف مما جعل تحقيقه صعبا"(1).

... 6 – الخروم والأسقاط والبتر: وقد تقدم شاهد الأسقاط في "اضطراب الأوراق". ومن شواهد الخروم قول د.عبد الهادي التازي عن المخطوط "المن بالإمامة":

... … المخطوط يتمتع بسلامة جيدة… باستثناء الخروم المقلقة التي لحقت بعض الورقات، فكانت –في الأشرطة المصورة بصفة

__________

(1) أبو عبيد الله القيسي، أنس الساري والسارب، هـ؛ انظر: "غلبة التصحيف على الأعلام"، في "الروض المعطار"، ر.

 

(1/14693)

 

 

خاصة- تدلس على القارئ: لأخذها بالتصوير ورقة مخرومة على ورقة أخرى –دون حاجز- فتملأ حروف السفلى فراغ التي قبلها ويقع اللبس والالتباس(1).

... ويقول د. عبد الله العمراني في سياق استعراض الصعوبات، ومنها البتر: "وإذا أضفت إلى ما تقدم، ذلك الخلل الناتج عن البتر الذي يباغت القارئ، من حين لآخر… أدركنا مقدار ما يعانيه الباحث من عنت ومشقة عندما يفكر في دراسة مثل هذا المخطوط، وإخراجه إلى عالم النور في ثوب قشيب، وحلة جديدة"(2)

__________

(1) المن بالإمامة، صص.28-29.

(2) البلوي، الثبت، ص.91؛ انظر: "النقص" في "المطرب"، ن.

 

(1/14694)

 

 

.

... 9.8.7 – كثرة الخلافات في القراءة، والتفاوت الشديد بين النسخ، وتدخل غير المؤلف في سياق النسخة. والشاهد الجامع لهذه الصعوبات الثلاث قول د.إحسان عباس بعد أن أشار إلى صعوبة تحقيق "الذخيرة":

ووقفت على مدى ما فيها من صعوبة ناشئة عن حال النسخ نفسها، وعما فيها من كثرة الخلافات في القراءة، ومن التفاوت الشديد بين ما تثبته نسخة وما تثبته أخرى، ومن تعرض بعض تلك النسخ لتدخل أيد وأقلام أخرى في سياقها غير يد المؤلف وقلمه(1).

__________

(1) الذخيرة، 1، 1، ص.6.

 

(1/14695)

 

 

... 10 – كثرة أسماء الأعلام، وخاصة إذا كان المؤلف لا يذكرهم بأسمائهم. وممن ذكر هذه الصعوبة محمد محفوظ محقق "برنامج الوادي آشي". يقول: "إن الكتب التي تكثر فيها أسماء الأعلام هي من أكثر الكتب مشقة في التحقيق"(1)؛ ومحقق "المقتطف من أزاهر الطرف" لابن سعيد:

... هذا، وقد وجدت صعوبة شديدة في التعريف بأسماء الأعلام… لأن ابن سعيد لم يكن يذكرهم بأسمائهم، وإنما يذكرهم بكناهم أو بألقابهم فحسب، نظرا لشهرتهم بها في عصره. أما اليوم، فهذه الكنى والألقاب تتشابه عند مجموعات كثيرة

__________

(1) الوادي آشي، البرنامج، ص.30.

 

(1/14696)

 

 

من الكتاب والشعراء والمؤرخين والفقهاء والعلماء مما يصعب على المحقق معرفة الاسم الحقيقي إلا من قرينة(1).

... 11 – ألا يرد للألفاظ المراد تحقيقها ذكر في المصادر المعتمدة:

... ومن شواهد هذه الصعوبة ما قاله الأستاذ محمد العربي الخطابي عن "كثير من الأسماء" الواردة عرضا في "عمدة الطبيب": "جلها مما لم يرد ذكره في المصادر المعتمدة، فلم يبق سبيل إلى تحقيقها"(2).

__________

(1) المقتطف، صص.27-28.

(2) عمدة الطبيب، ج1، ص.37؛ ومثل ذلك في تقديم إحسان عباس لكتاب "الروض المعطار"، ر.

 

(1/14697)

 

 

... 12 – الظروف غير الواتية: ويدخل فيها مشاكل الطبع، وضيق الوقت، مما يكون له أثر سيء في عمل التحقيق. ومن أوائل من أشاروا إلى هذا النوع من الصعوبات محققا "درر السمط في خبر السبط" لابن الأبار اللذان يقولان في خاتمة التقديم: "لا نخفي على القارئ الكريم أننا قمنا بهذا العمل في ظروف صعبة، وعانينا من مشاكل الطبع الشيء الكثير…" (1). ويقول د.محمد حجي في تقديم كتاب "ألف سنة من الوفيات":

... لم نزعم أننا نقدم للقراء كتبا تامة التحقيق رغم ما بذلناه من جهد. فهناك ثغراث لم نستطع سدها،

__________

(1) درر السمط، خ.

 

(1/14698)

 

 

ومراجعات لم نتمكن من القيام بها لضيق الوقت. وكان بودنا أن نضبط الأعلام بالشكل لولا صعوبات مادية خارجة عن نطاق قدرتنا(1).

... د – كيفية التغلب على الصعوبات:

... من الكيفيات التي يلجأ إليها المحققون للتغلب على بعض ما يعترض سبيلهم من صعوبات: الاستعانة بمحقق خبير(2)

__________

(1) ألف سنة من الوفيات، ص.9.

(2) يقول إحسان عباس في تقديم "ديوان الأعمى"، غ: "لا تقل نسخة جيش التوشيح عن ذلك عسرا لدقة خطها، وقد استنعت في فك بعض معمياتها بالأخ الصديق الأستاذ محمد بن شريفة، الأستاذ بجامعة الرباط، فله مني جزيل الشكر على ما تحمله من عناء".

 

(1/14699)

 

 

، أو بمصادر المؤلف، أو بالكتب التي تأثرت به، أو بهذه الكيفيات كلها مقترنة بالصبر والتأني. والكيفيات تختلف باختلاف الصعوبات.

خامسا – الغاية من التحقيق:

... يمكن اعتبار كثير من دوافع التحقيق غايات له. وأما الأهداف المصرح بها، فهي كما يلي:

... أ – ما يتعلق بالكتاب المحقق:

... إن هدف المحقق من عمله هو تقديم نص صحيح يمثل صورة أمنية للأصل الذي كتبه المؤلف. وغالبا ما يقيدون المطابقة بالإمكان والمقاربة. وذلك التقييد مشعر بالفرق بين الأصل والصورة التي يخرجها المحقق بجهده المحكوم بمجموعة من العوامل

 

(1/14700)

 

 

الذاتية والموضوعية. ومن النصوص الدالة على هذا، بعضه أو كله، قول الأب أغناطيوس عبده خليفة اليسوعي ناشر كتاب "شفاء السائل لتهذيب المسائل" لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: "لم نتوخ في نشر المخطوط سوى إخراج النص بصورة أمينة، قدر المستطاع"(1).

... وممن نص على المقاربة الأستاذ عبد الله كنون في قوله عن عمله في "مناهل الصفا": "وقد كان عملنا في تحقيق هذا الكتاب

__________

(1) شفاء السائل، ص.18؛ ابن خفاجة، الديوان، ص.27؛ وفتح الشكور، ص.16؛ وروضة التعريف، ص.74؛ ونثير الفرائد الجمان، ص.211؛ والأعمى، الديوان، غ.

 

(1/14701)

 

 

أننا حرصنا على أن نقدم منه نصا صحيحا أقرب ما يكون إلى الأصل الذي كتبه المؤلف"(1).

... وقد غلا بعض المحققين، فادعوا الكمال والاستيفاء للكتاب الذي حققوه. ومن هؤلاء محققا كتاب "شرح المشكل من شعر المتنبي" لابن سيده. فقد قالا عن منهج التحقيق:

... وهذا المنهج يهدف دائما إلى تحقيق غرضين أساسيين: الأول: تقويم النص وإخراجه صحيحا سليما كما صدر عن مؤلفه؛ الثاني: أن يكون

__________

(1) مناهل الصفا، ص.13؛ إحكام صنعة الكلام، ص.18، 20؛ ومطمح الأنفس، ص.9؛ والذخيرة، 1/1/ص.9؛ وملتقط الرحلة، ص.15؛ والشهب اللامعة، ص.40.

 

(1/14702)

 

 

الكتاب في تحقيقه كاملا مستوفى، بحيث يستغني به القارئ عن غيره، فلا يضطر إلى الرجوع إلى مصادر أخرى(1).

... ب – إحياء التراث والتعريف بأصحابه:

... إن هذا الهدف عام يستوي فيه المحقق السائر على نهج التحقيق العلمي وغيره ممن يسعى بكل وسيلة إلى إخراج كتب التراث. وإحياء التراث من الدوافع إلى التحقيق ومن غاياته أيضا. يقول د.محمد عبد الكريم في تقديم الجزء الأول من كتاب "بدائع السلك" لابن الأزرق: "هدفنا من هذا العمل المتواضع إحياء التراث

__________

(1) شرح المشكل من شعر المتنبي، ص.24؛ انظر: "ملحق" شرح المشكل، د.

 

(1/14703)

 

 

والتعريف بأصحابه"(1).

... ج – التعريف بإنتاج مؤلف الكتاب المحقق:

... يقول محققا "زهر الأكم في الأمثال والحكم" لليوسي في خاتمة التقديم: "إننا إذ ننشر اليوم هذا الكتاب، نرمي إلى غايتين اثنتين، تحقق إحداهما رغبة اليوسي الذي كتب "زهر الأكم": "لينتفع به المتصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما"، وتهدف الثانية إلى التعريف بإنتاج عالم مغربي أسهم بإضافة لبنات في صرح اللغة العربية المشيد"(2).

__________

(1) بدائع السلك، ج1، ص.6.

(2) زهر الأكم، ج1، ص.10.

 

(1/14704)

 

 

... هذه بعض غايات التحقيق، سطرها محققو التراث المغربي الأندلسي في تقديمهم لما حققوا من نفائسه. وهي غايات مترابطة؛ إذ بتقدم نص صحيح قدر الإمكان لكتاب من الكتب، يتحقق التعريف الصحيح بإنتاج صاحبه، وتوضع لبنة من لبنات الإحياء "الشامل" للتراث بإذن الله تعالى.

سادسا - خاتمة:

... تناول البحث مجموعة من قضايا تحقيق التراث، وهي: دوافع التحقيق ودوافع إعادته، وأصالة النسخة أو النسخ، وتفرد النسخة، وصعوبات التحقيق، وغاياته. وتبين أن دوافع التحقيق تتمثل في واحد أو أكثر من العناصر الآتية أو فيها جميعها:

 

(1/14705)

 

 

التراث، والكتاب المحقق، والمؤلف، والعلماء المهتمين. وأما دوافع إعادة التحقيق، فتتمثل فيما يلي:

ما في الطبعة أو الطبعات السابقة من عيوب.

نفاد الكتاب، لكونه طبع منذ زمن بعيد.

العثور على نسخة لم يطلع عليها الناشر السابق.

اعتماد الناشر السابق على مخطوطة مبتورة.

اعتماد الطبعة السابقة على مخطوط واحد.

أن يزيد الناشر السابق في الكتاب ما ليس منه.

أن يقتصر الناشر السابق على مجرد نقل المخطوط دون القيام بأي جهد يدل على التحقيق.

أن ينشر الكتاب ناقصا.

أن تطلب دار للنشر أو يطلب صاحبها إعادة التحقيق.

 

(1/14706)

 

 

وأصالة النسخة ترجع إلى ما يلي:

... 1- الأقدمية والعتاقة وما يعتبر فيهما من كون النسخة بخط المؤلف، أو منقولة من الأصل الذي بخطه، أو مهمشة بطرر منقولة من خطه، أو قريبة من نسخته، أو مقابلة على أصل مقابل على نسخته، أو مكتوبة في حياته، أو قريبة من حياته، أو مملاة منه، أو مقروءة عليه.

... 2- الأتمية والأكملية. وتدلان على استيعاب مادة الكتاب بحيث لا ينقص منها شيء، وعلى صحة متن النص وسلامة سنده.

... 3-6: الوضوح، وكون النسخة موثقة، وجودة الخط ونفاسته، وقلة التصحيف والتحريف.

 

(1/14707)

 

 

... ومن القضايا التي درست قضية تفرد النسخة، حيث لوحظ أن المحققين لا يمانعون في نشر المخطوطة الفريدة، وإن أقر كثير منهم بصعوبة ذلك. وقد دفعهم ذلك إلى التماس مجموعة من الوسائل للتغلب على الصعوبات الناشئة عن وجود نسخة فريدو، وهي:

... 1- الاستعانة بالمصادر التي أثرت في الكتاب المحقق أو تأثرت به خاصة، أو بمصادر المادة نفسها عامة.

... 2- التمرس بعادة الناسخ في الكتابة، وبأسلوب الكاتب في التأليف.

... 3- قوة نفس المحقق المتمثلة في الصبر والتأني والاعتماد على النفس.

 

(1/14708)

 

 

... وبالرغم من هذه الوسائل، فقد وقف المحققون عاجزين عن مواجهة بعض الصعوبات. ولهذا وجدنا بعضهم يعبر عن الحاجة إلى نسخة جديدة تمكنهم من إخراج الكتاب في صورة أفضل.

... وتنضاف إلى الصعوبات الناشئة عن تفرد النسخة صعوبات أخرى تتمثل في صعوبة الخط، واضطراب الأوراق، والرطوبة، وكثرة التصحيف، والخروم والأسقاط والبتر، وكثرة الخلافات في القراءة، والتفاوت الشديد بين النسخ، وتدخل غير المؤلف في سياق النسخة، وكثرة أسماء الأعلام، وعدم ورود ذكر للألفاظ المراد تحقيقها في المصادر المعتمدة، والظروف غير المواتية.

 

(1/14709)

 

 

... وأما الغاية من التحقيق، فتتمثل في تقديم نص صحيح يمثل صورة أمينة للأصل الذي كتبه المؤلف بقدر المستطاع، وهذه غاية خاصة؛ وفي إحياء التراث والتعريف بأصحابه، وهذه غاية عامة؛ وفي التعريف بإنتاج مؤلف الكتاب المحقق.

... وإذا كان من اللازم في كل دراسة من ذكر نتائجها، فلا بأس من الوقوف عند نتيجة واحدة، وهي جمع جهود محققي التراث وتصنيفها وترتيبها على هذا النهج الذي أظهر أبرز قضايا التحقيق عندهم بعد أن كانت مسائلها مبعثرة في كتب كثيرة.

 

المصادر والمراجع

 

(1/14710)

 

 

أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة، تأليف د.محمد ابن شريفة، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م.

الإحاطة في اخبار غرناطة (مج 1)، لابن الخطيب، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه محمد بن عبد الله عنان، ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1393هـ-1973م.

الإحاطة في اخبار غرناطة (مج 2،3،4)، لابن الخطيب، تحقق محمد بن عبد الله عنان، ط1، الشركة المصرية للطباعة والنشر، 1394، 1396، 1397هـ/1974، 1975، 1977م.

إحكام صنعة الكلام، لأبي القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي الإشبيلي الأندلسي، تحقيق محمد رضوان الداية، دار

 

(1/14711)

 

 

الثقافة، بيروت، 1966م.

إحكام الفصول في أحكام الأصول، لأبي الوليد الباجي، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد المجيد تركي، ط1، دار الغرب الإسلامس، بيروت، 1407هـ/1986م.

أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، ط3، دار المعرفة، بيروت، 1392هـ/1972م.

أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين، تأليف أبي بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيدق، حققه عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1971م.

 

(1/14712)

 

 

اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار، تأليف محمد بن القاسم الأنصاري السبتي، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، ط2، الرباط، 1403هـ/1983م.

ارتشاف الضرب من لسان العرب، لأبي حيان، تحقيق وتعليق د.مصطفى أحمد النماس، ط1، 1404هـ/1984م.

أزهار الرياض في أخبار عياض، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني حقق الأجزاء الثلاثة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، وحقق الجزء الرابع سعيد أعراب ومحمد بن تاويت، والجزء الخامس د.اعبد السلام الهراس وسعيد أعراب، مطبعة فضالة، 1399هـ/1978م.

 

(1/14713)

 

 

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت.

الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف العباس ابن إيراهيم السملالي، راجعه عبد الوهاب بن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1413هـ/1993م.

إفادة النصيح بالتعريف بسند الجامع الصحيح، لابن رشد السبتي الفهري الأندلسي، تحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، د.ت.

الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا ود.حامد عبد

 

(1/14714)

 

 

المجيد، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1981.

الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، ومكتبة الهلال، بيروت، 1387هـ/1968م.

الإكسير في فكاك الأسير، لمحمد بن عثمان المكناسي، حققه وعلق عليه الأستاذ محمد الفاسي، مطبعة أكدال، الرباط، 1965.

الإلماع إلى معرفة أحوال الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض، تحقيق السيد أحمد صقر، ط2، دار التراث بالقاهرة والمكتبة العتيقة بتونس، د.ت.

 

(1/14715)

 

 

الإملاء المختصر في شرح غريب السير، لأبي ذر مصعب بن أبي بكر محمد بن مسعود الخشني، تحقيق ودراسة د.عبد الكريم خليفة، ط1، دار البشير، عمان، 1412هـ/1991م.

انتصار الفقير السالك لترجيح مذهب الإمام مالك، لشمس الدين محمد بن محمد الراعي الأندلسي، تحقيق محمد أبو الأجفان، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981م.

أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب، لأبي محمد بن أحمد القيسي السراج، حققه وقدم له وعلق عليه محمد الفاسي، فاس، 1388هـ/1968م.

 

(1/14716)

 

 

أنس الفقير وعز الحقير، لابن قنفذ القسنطيني، اعتنى بنشره وتصحيحه محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965.

أوصاف الناس في التواريخ والصلات، لابن الخطيب، تحقيق ودراسة د.كمال شبانة، صندوق إحياء التراث الإسلامي، مطبعة فضالة، 1977م.

إيضاح شواهد الإيضاح، لأبي علي الحسن بن عبد الله القيسي، دراسة وتحقيق د.محمد بن محمود الدعجاني، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408هـ/1987م.

البحث الأدبي، للدكتور شوقي ضيف، ط4، دار المعارف، 1979م.

 

(1/14717)

 

 

بدائع السلك في طبائع الملك، لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي:

أ-تحقيق وتعليق د.علي سامي النشار، 1975م-1976م.

ب- دراسة وتحقيق د.محمد بن عبد الكريم، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، 1976م.

برنامج الوادي آشي، محمد بن جابر، تحقيق محمد محفوظ، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1400هـ/1980م.

البسيط في شرح جمل الزجاجي، لابن أبي الربيع عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله القرشي الإشبيلي السبتي. تحقيق ودراسة د.عياد بن عيد الثبيتي، ط1، دا الغرب الإسلامي، 1407هـ/1986م.

 

(1/14718)

 

 

بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، للقاضي عياض، تحقيق صلاح الدين بن أحمد الإدلبي وصاحبيه، ط2، مطبعة فضالة، المحمدية، 1982م.

بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، تأليف أبي زكريا يحيى ابن خلدون، المكتبة الوطنية، الجزائر، 1400هـ/1980م.

بقي بن مخلد القرطبي ومقدمة مسنده (عدد ما لكل واحد من الصحابة من الحديث)، دراسة وتحقيق د.أكرم ضياء العمري، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب، لمؤلف مجهول، تحقيق

 

(1/14719)

 

 

عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1404هـ/1984م.

بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، وتأليف أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق محمد مرسي الخولي، ومراجعة د.عبد القادر القط، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دار الجيل للطباعة، القاهرة، 1967م.

البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة، لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، تحقيق د.محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1404هـ/1984م.

 

(1/14720)

 

 

تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، تأليف خالد بن عيسى البلوي الأندلسي، نشر وتحقيق الحسن السائح، 1964م.

تاريخ افتتاح الأندلي، لابن القوطية القرطبي:

أ - حققه وشرحه وعلق عليه وقابله عى مخطوطتي باريس ومدريد وقدم له عبد الله أنيس الطباع، دار النشر للجامعيين، بيروت، 1958م.

ب - حققه وقدم له ووضع فهارسه إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1400هـ/1980م.

تاريخ الضعيف الرباطي، لمحمد بن عبد السلام بن أحمد بن محمد الرباطي:

 

(1/14721)

 

 

أ - تحقيق وتعليق وتقديم الأستاذ أحمد العماري، ط1، دار المأثورات، 1406هـ/1986م.

ب - دراسة وتحقيق، الأستاذ محمد البوزيدي الشيخي، ط1، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1408هـ/1988م.

تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد الحطاب، تحقيق عبد السلام محمد الشريف، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1404هـ/1984م.

تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، لأبي حامد الأندلسي الغرناطي، تحقيق إسماعيل العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989م.

 

(1/14722)

 

 

تحقيق النصوص ونشرها، تأليف عبد السلام هارون، ط5، مكتبة السنة، 1410هـ.

تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والمعاملات الشرعية، لعلي بن محمد ابن مسعود الخزاعي، تحقيق د.إحسان عباس، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/1985م.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض:

أ - عارضه بأصوله وعلق حواشيه وقدم له محمد بن تاويت الطنجي، الرباط، 1965م.

 

(1/14723)

 

 

ب - تحقيق د.أحمد بكير محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، ودار مكتبة الفكر، طرابلس، ليبيا، 1387هـ/1967م.

تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، لابن رشد:

أ - تحقيق وتعليق د.محمد سليم سالم، القاهرة، 1361هـ/1971م.

ب - تحقيق د.تشارلس بترورث ود.أحمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.

تلخيص منطق أرسطو، لابن رشد، تحقيق جيرار جهامي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1982م.

التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر النمري الأندلسي، حققه وعلق حواشيه وصححه مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد

 

(1/14724)

 

 

الكبير البكري، ط2، 1402هـ/1982م.

التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، لأبي المطرف أحمد ابن عميرة، تقديم وتحقيق محمد ابن شريفة، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1412هـ/1991م.

ثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي الوادي آشي، دراسة وتحقيق د.عبد الله العمراني، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403هـ/1983م.

جنى زهرة الآس في بناء مدينة فاس، لعلي الجزنائي، تحقيق عبد الوهاب ابن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1411هـ/1991م.

 

(1/14725)

 

 

حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، للوزير أبي القاسم بن محمد بن إبراهيم الغساني، حققه وعلق حواشيه ووضع فهارسه محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405هـ/1985م.

الحلل السندسية في الأخبار التونسية، لمحمد بن محمد الأندلسي الوزير السراج، بتحقيق محمد الحبيب الهيلة، دار الكتب الشرقية، 1973، ودار الغرب الإسلامي، 1984م.

درة الحجال في أسماء الرجال، لأبي العباس أحمد بن محمد المكناسي (ابن القاضي)، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، والمكتبة العتيقة، تونس، 1390هـ/1970م.

 

(1/14726)

 

 

درة الغواص في محاضرة الخواص، لبرهان الدين ابراهيم بن فرحون المالكي، تقديم وتحقيق وتعليق محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، دار التراث بالقاهرة والمكتبة العتيقة بتونس، 1979م.

درر السمط في خبر السبط، لابن الأبار الأندلسي:

أ - تحقيق وتقديم د.عبد السلام الهراس وسعيد أعراب، تطوان، 1972م.

ب - تحقيق عز الدين عمر موسى، دار الغرب الإسلامي، 1407هـ/1987م.

ديوان أبي إسحاق الألبيري الأندلسي، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1396هـ/1976م.

 

(1/14727)

 

 

ديوان الأمى التطيلي، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1963م.

ديوان الأمير أبي الربيع سليمان بن عبد الله الموحد، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي ومحمد بن العباس القباج، وسعيد أعراب، ومحمد بن تاويت التطواني، المركز الجامعي للبحث العلمي، د.ت.

ديوان حازم القرطاجني، تحقيق عثمان الكعاك، دار الثقافة، بيروت، د.ت.

ديوان ابن حمديس، صححه وقدم له د.إحسان عباس، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1379هـ/1960م.

ديوان ابن خاتمة الأنصاري، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، 1399هـ/1978م.

 

(1/14728)

 

 

ديوان ابن خفاجة، تحقيق د.سيد غازي، ط2، منشأة المعارف، الإسكندرية، د.ت.

ديوان ابن دراج القسطلي، حققه وعلق له د.محمود علي مكي، ط2، المكتب الإسلامي، 1389هـ.

ديوان الرصافي البلنسي، لأبي عبد الله محمد بن غالب، جمعه وقدم له د.إحسان عباس، ط2، دار الشروق، بيروت والقاهرة، 1403هـ/1983م.

ديوان ابن الزقاق البلنسي، تحقيق عفيفة محمود ديراني، دار الثقافة، بيروت، 1964م.

ديوان ابن زيدون ورسائله، شرح وتحقيق علي عبد العظيم، دار نهضة مصر، القاهرة، 1374هـ/1955م.

 

(1/14729)

 

 

ديوان ابن شهيد الأندلسي، جمعه وحققه يعقوب زكي وراجعه د.محمود علي مكي، دار الكاتب العربي، القاهرة، د.ت.

ديوان ابن عبد ربه، جمعه وحققه وشرحه د.محمد رضوان الداية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979م.

ديوان ابن فركون، تقديم وتعليق محمد بن شريفة، ط1، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1407هـ/1987م.

ديوان لسان الدين بن الخطيب السلماني، صنعه وحققه وقدم له د.محمد مفتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1988م.

الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لان بسام الشنترني، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1979م.

 

(1/14730)

 

 

الرحلة الحجازية، لمحمد السنوسي، تحقيق علي الشنوفي، الشركة التونسية للتوزيع، 1396هـ/1976م.

الرحلة الحجازية، للفقيه الحافظ محمد بن محمد المختار الولاتي، تخريج وتعليق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

رحلة العبدري (الرحلة المغربية)، لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الحيحي، حققه وقدم له وعلق عليه محمد الفاسي، الرباط، 1968م.

رحلة القلصادي، لأبي حسن علي القلصادي الأندلسي، دراسة وتحقيق محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م.

 

(1/14731)

 

 

رسائل أبي علي اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة فاطمة خليل القبلي، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1401هـ/1981م.

الرسالة الفقهية، للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، إعداد د.الهادي حمو ود.محمد أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986م.

روضة التعريف بالحب الشريف، لابن الخطيب، عارضه بأصوله وعلق حواشيه وقدم له محمد الكتاني، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1970م.

روضة النسرين في دولة بني مرين، لاسماعيل ابن الأحمر، بتحقيق عبد الوهاب ابن منصور، ط2، المطبعة الملكية، الرباط، 1411هـ/1991م.

 

(1/14732)

 

 

الروض المريع في صناعة البديع، لابن البناء المراكشي، تحقيق رضوان بنشقرون، ط1، دار النشر المغربية، البيضاء، 1985م.

ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، لابن الخطيب، حققه ووضع مقدمته وشواهده محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1980م.

زهرة الأكم في الأمثال والجكم، للحسن اليوسي، حققه د.محمد حجي ود. محمد الأخضر، ط1، دار الثقافة، البيضاء، 1401هـ/1981م.

شرح عيون كتاب سيبويه، لأبي نصر هارون بن موسى القيسي المجريطي القرطبي، دراسة وتحقيق د.عبد ربه اللطيف عبد ربه، ط1، مطبعة حسان، القاهرة، 1404هـ/1984م.

 

(1/14733)

 

 

شرح المشكل من شعر المتنبي، لعلي بن إسماعيل بن سيده، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا ود. حامد عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976م.

شرف الطالب في أسنى المطالب، لأحمد ابن قنفذ، تحقيق محمد حجي (ضمن كتاب "ألف سنة من الوفيات")، الرباط، 1396هـ/1976م.

شفاء السائل لتهذيب المسائل، أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، نشره وعلق عليه الأب أغناطيوس عبده خليفة اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م.

 

(1/14734)

 

 

الشهب اللامعة في السياسة النافعة، لأبي القاسم ابن رضوان المالقي، تحقيق د.علي سامي النشار، ط1، دار الثقافة، بيروت، 1404هـ/1984م.

صلة الخلف بموصول السلف، لمحمد بن سليمان الروداني، تحقيق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، 1408هـ/1988م.

ضرائر الشعر، لابن عصفور الإشبيلي، 1980م.

طبقات الأطباء والحكماء، لأبي داود سليمان بن حسان الأندلسي (ابن جلجل)، تحقيق فؤاد سيد، ط.2، مؤسسة الرسالة، 1405هـ/1985م.

طبقات الأمم، لصاعد الأندلسي، تحقيق حياة بوعلوان، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1985م.

 

(1/14735)

 

 

طوق الحمامة في الألفة والألاف، لابن حزم الأندلسي:

أ - ضبط نصه وحرر هوامشه د.الطاهر أحمد مكي، دار المعارف، 1975م.

ب - حققه وقدم له صلاح الدين القاسمي، ط3، الدار التونسية للنشر، 1988م.

عمدة الطبيب في معرفة النبات، لأبي الخير الإشبيلي، قدم له وحققه وأعاد ترتيبه محمد العربي الخطابي، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1990م.

العمدة في غريب القرآن، لأبي مكي بن أبي طالب القيسي، حققه وعلق عليه وخرج نصه د.يوسف عبد الرحمان المرعشلي، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

 

(1/14736)

 

 

العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيراواني، تحقيق محمد قرقزان، ط1، دار المعرفة، بيروت، 1408هـ/1977م.

الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة، لابن سعيد الأندلسي، تحقيق إبراهيم الإبياري، ط3، دار المعارف، 1977م.

الغنية: فهرست شيوخ القاضي عياض، تحقيق ماهر زهير جرار، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1402هـ/1982م.

فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد ابن رشد القرطبي، تقديم وتحقيق وجمع وتعليق د.المختار بن الطاهر التليلي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1407هـ/1987م.

 

(1/14737)

 

 

فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، لأبي عبد الله البرتلي الولاتي، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1401هـ/1981م.

فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان، لابن رزين التجيبي، حققه وقدم له محمد بن شقرون، وأشرف على إعداده د.إحسان عباس، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984م.

فيض العباب وإفاضة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسنطينة والزاب، لابن الحاج النميري، دراسة وإعداد د.محمد ابن شقرون، 1984م.

 

(1/14738)

 

 

قصائد ومقطعات، صنعة أبي الحسن حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، الدار التونسية للنشر، د.ت.

كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، لكاتب مراكشي من كتاب القرن السادس الهجري، نشر وتعليق د. سعد زغلول عبد الحميد، دار النشر المغربية، البيضاء، 1985م.

كتاب التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر من أخبار وأعيان المائة الحادية والثانية عشر، لمحمد بن الطيب القادري، دراسة وتحقيق هاشم العلوي القاسمي، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401هـ/1981م.

 

(1/14739)

 

 

كتاب بسط الأرض في الطول والعرض، لابن سعيد المغربي، تحقيق د.خوان قرنيط خينيس، تطوان، معهد مولاي الحسن، 1958م.

كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، لأبي عبد الله محمد بن الكتاني الطيب، تحقيق د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1966م.

كتاب الجامع، لأبي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، صححه وقدم له وعلق عليه محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، والمكتبة العتيقة، تونس، 1982م.

كتاب جامع العبارات في تحقيق الاستعارات، لأحمد مصطفى الطرودي التونسي، دراسة وتحقيق د.محمد رمضان الجربي، ط1، الدار

 

(1/14740)

 

 

الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراتة، 1986م.

كتاب الحدود في الأصول، لأبي الوليد الباجي الأندلسي، تحقيق نزيه حماد، ط1، مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر، بيروت وحمص، 1392هـ/1973م.

كتاب الحلة السيراء، لابن الأبار، حققه وعلق جوانبه د.حسين مؤنس، الشركة للطباعة، القاهرة، د.ت.

كتاب الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، لمؤلف أندلسي من أهل القرن الثامن الهجري، حققه د.سهيل زكار والأستاذ عبد القادر زمامة، ط1، دار الرشاد الحديثة، البيضاء، 1399هـ/1979م.

 

(1/14741)

 

 

كتاب الخيل مطلع اليمن والإقبال في انتقاء كتاب الاحتفال، لعبد الله بن محمد بن جزي الكلبي الغرناطي، حققه وقدم له محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1406هـ/1986م.

كتاب الرد على النحاة، لابن مضاء القرطبي، تحقيق د.شوقي ضيف، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1982م.

كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار، لمحمد بن عبد المنعم الحميري، حققه د.إحسان عباس، ط2، مؤسسة ناصر للثقافة، 1980.

كتاب العنوان في القراءات السبع، لأبي طاهر إسماعيل بن خلف المقرئ الأنصاري الأندلسي، حققه وقدم له د.زهير زاهد ود.خليل

 

(1/14742)

 

 

العطية، ط2، عالم الكتب، بيروت، 1406هـ/1986م.

كتاب الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق محيي الدين رمضان، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404هـ/1984م.

كتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي، تقديم وتحقيق وتعليق د.فوقية حسين محمود، ط1، دار الأنصار، القاهرة، 1977م.

كتاب معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، لابن الخطيب، تحقيق د.محمد كمال شبانة، الرباط.

 

(1/14743)

 

 

كناسة الدكان بعد انتقال السكان، لابن الخطيب، تحقيق د.محمد كمال شبانة، ومراجعة د.حسن محمود، دار الكاتب العربي، 1966م.

لحن العامة، لأبي بكر محمد بن الحسين الزبيدي، تحقيق د.عبد العزيز مطر، دار المعارف ومطابع سجل العرب، 1981م.

لقط الفرائد من لفاظة حقق الفوائد، لأحمد ابن القاضي، تحقيق محمد حجي (ضمن كتاب "ألف سنة من الوفيات")، الرباط، 1396هـ/1976م.

المثلث، لابن السيد البكليوسي. تحقيق ودراسة د.صلاح مهدي الفرطوسي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1401هـ/1981م.

 

(1/14744)

 

 

المحاضرات، لأبي علي اليوسي، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1982م.

المختار من شعر بشار وشرحه، لأبي طاهر التجيبي البرقي، اعتنى بنسخه وتصحيحه وتعليق الفوائد عليه وتخريج أبياته ووضع فهارسه السيد محمد بدر الدين العلوي، دار المدينة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.

مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، للقاضي عياض وولده محمد، تقديم وتحقيق وتعليق د.محمد ابن شريفة، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

 

(1/14745)

 

 

مستفاد الرحلة والاغتراب، للقاسم بن يوسف التجيبي السبتي، تحقيق وإعداد عبد الحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب، تونس-ليبيا، 1975م.

مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب، لعبد الرحمن بن محمد ابن الدباغ الأنصاري، تحقيق هـ. ريتر، دار صادر ودار بيروت، 1379هـ/1959م.

مشاهير الشعراء والكتاب (وهو كتاب "نثير فرائد الجمان")، لابن الأحمر، حققه وقدم له د.محمد رضوان الداية، عالم الكتب، بيروت، 1406هـ/1986م.

"مصطلح التحقيق في استعمال محققي التراث المغربي الأندلسي"، لمصطفى اليعقوبي، ضمن أعمال ندوة "تحقيق التراث

 

(1/14746)

 

 

المغربي الأندلسي: حصيلة وآفاق"، صص.65-139، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، 1997م.

المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية، تحقيق إبراهيم الأبياري وصاحبيه، راجعه د.طه حسين، دار العلم للجميع، بيروت، 1954م.

مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، للفتح بن خاقان الإشبيلي، دراسة وتحقيق محمد علي شوابكة، ط1، دار عمار ومؤسسة الرسالة، 1403هـ/1983م.

المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي، ضبطه وصححه وعلق حواشيه وأنشأ مقدمته محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، ط1، مطبعة

 

(1/14747)

 

 

الاستقامة، القاهرة، 1368هـ/1949م.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، للبكري، عارضه بمخطوطات القاهرة وحققه وضبطه مصطفى السقا، ط3، عالم الكتب، 1403هـ/1983م.

المعيار المعرب والجامع عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، لأحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف د.محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1401هـ/1981م.

المغرب في حلى المغرب، لابن سعيد الأندلسي، حققه وعلق عليه د.شوقي ضيف، ط3، دار المعارف، 1978-1980م.

 

(1/14748)

 

 

مفردات ابن الخطيب، لابن الخطيب، تحقيق وتقديم د.عبد العلي الودغيري، منشورات عكاظ، الرباط، 1988م.

المقتبس من أنباء أهل الأندلس، لابن حيان القرطبي:

أ - تحقيق عبد الرحمن حجي، دار الثقافة، بيروت، 1965. ("بلد الأندلس" عوض "أهل الأندلس").

ب - حققه وقدم له وعلق عليه د.محمود علي مكي، القاهرة، 1390هـ/1971م.

المقتطف من أزاهر الطرف، لابن سعيد الأندلسي، تقديم وتحقيق ودراسة د.سيد حنفي حسنين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م.

 

(1/14749)

 

 

المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد ابن رشد، تحقيق د.محمد حجي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1408هـ/1988م.

مقدمة ابن خلدون، للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مهد لها ونشر الفصول والفقرات الناقصة من طبعاتها وحققها وضبط كلماتها وشرحها وعلق عليها وعمل فهارسها د.علي عبد الواحد وافي، ط2، لجنة البيان العربي، 1384هـ/1965م.

 

(1/14750)

 

 

المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تأليف عبد الحق بن إسماعيل البادسي، تحقيق سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط، 1402هـ/1982م.

ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة، تقييد ابن رشيد الفهري السبتي، تقديم وتحقيق د.محمد الحبيب ابن الخوجة، الدار التونسية للنشر، ج2: 1402هـ/1982م؛ ودار الغرب الإسلامي، ج5: 1408هـ/1988م.

ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، تأليف أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي

 

(1/14751)

 

 

الغرناطي:

أ - تحقيق سعيد الفلاح، ط1، دار الغرب الإسلامي، 1403هـ/1983م.

ب - تحقيق د.محمود أحمد كامل، دار النهضة العربية، بيروت، 1405هـ/1985م.

ملتقط الرحلة من المغرب إلى حضرموت، للفقيه يوسف بن عابد الإدريسي الحسني الفاسي، حقق المخطوط وقدم له وعلق عليه د.أمين توفيق الطيبي، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1988م.

الممتع في التصريف، لابن عصفور الإشبيلي، تحقيق د.فخر الدين قباوة، ط3، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1970م.

 

(1/14752)

 

 

مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، تأليف د.رمضان عبد التواب، ط1، مكتبة الخانجي ومطبعة المدني، القاهرة، 1406هـ/1985م.

مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا، لأبي فارس عبد العزيز بن محمد الفشتالي، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد الله كنون، 1964م.

المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، لأبي محمد القاسم السجلماسي، تقديم وتحقيق د.علال الغازي، ط1، مكتبة المعارف، الرباط، 1401هـ/1980م.

المن بالإمامة، لعبد الملك بن صاحب الصلاة، تحقيق د.عبد الهادي التازي، ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987م.

 

(1/14753)

 

 

منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لحازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981م.

الموافقات في أصول الأحكام، لأبي إسحاق ابراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، د.ت.

نتيجة الاجتهاد في المهانة والجهاد، لأحمد بن المهدي الغزال، حققه وقدم له إسماعيل العربي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1980م.

 

(1/14754)

 

 

نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان، لابن الأحمر، دراسة وتحقيق محمد رضوان الداية، دار الثقافة، بيروت، 1967م.

نشر المتاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، لمحمد بن الطيب القادري، تحقيق محمد حجي وأحمد التوفيق، الرباط، 1397هـ/1977م.

نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، لابن القطان المراكشي، درسه وقدم له وحققه د.محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.

النكت الحسان في شرح غاية الإحسان، لأبي حيان النحوي الأندلسي الغرناطي، تحقيق ودراسة د.عبد الحسين الفتلي، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت،

 

(1/14755)

 

 

1405هـ/1985م.

وسيلة الإسلام بالنبي عليه الصلاة والسلام، لابن قنفذ القسنطيني، تقديم وتعليق سليمان الصيد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1984م.

وفيات الونشريسي، لأحمد الونشريسي (ضمن "ألف سنة من الوفيات")، تحقيق محمد حجي، الرباط، 1396هـ/1976م.

 

(1/14756)

 

 

من ملفات تاريخ الصحافة في المغرب

 

الأستاذ جامع بيضا

كلية الآداب-الرباط

 

لا ريب أن تاريخ الصحافة يعتبر من الدراسات المستجدة والمرتبطة بالحقبتين الحديثة والمعاصرة التي لم تنل بعد كل ما تستحقه في البيبليوغرافيا العربية . فهذا الحقل ما زال في أمس الحاجة إلى المزيد من البحث والتنقيب وإسهاما متواضعا في ملء هذه الثغرة يسعدني أن أوافي مجلة التاريخ العربي ببحوث ودراسات عن تاريخ الصحافة بالمغرب اعتمادا على تصفح مجلات وجرائد نادرة واستنادا إلى وثائق غميسة استقيناها من دور الأرشيف المغربية والأجنبية .

 

(1/14757)

 

 

المبحث الأول - المحزن الحسيني وظاهرة الصحافة

 

"أ. .. م إن الجوازيط (1) من باب حاطب ليل، ومن محدثات الأمور التي لم يعهد مثلها. وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (... أ"(2

إن هذا الحكم الصارم في حق الصحافة قد صدر عن السلطان المولى الحسن سنة 1889، حسب ما أورده وزيره المفضل غريط في رسالة وجهها إلى النائب

 

أصلها من (Gazita) من اللغة السائدة بالبندقية في القرن السادس عشر الميلادي ، وكانت تطلق على نفوذ صغيرة تشكل ثمن لعض الأوراق الإخبارية المطبوعة هناك . ثم اتسع معنى الكلمة ليشمل الجرائد نفسها،

 

(1/14758)

 

 

وسرعان ماانتثر تداولها في مجموع البلاد الإيطالية بصيغة : (Gazzitta) ومن اللغة الإيطالية، انتقلت الكلمة إلى لغات أوروبية أخرى مثل الفرنسية (Gaceta) والإسبانية (Gaceta) .ولا يستبعد أن تكون الكلمة قد تسربت إلى المغرب من شبه الجزيرة الإيبرية.

من رسالة بعث بها الوزير محمد المفضل غريط إلى النائب الطريس بتاريخ22 ذي الحجة 1306هـ/ 19 غشت 1889م (المكتبة العامة والمحفوظات ، تطوان ، مح 28/78.

 

المخزني بطنجة الحاج محمد بن العربي الطريس . ولو أخذناه مجردا عن سياقه التاريخي لاستنتجنا منه عن علاقات الخزن

 

(1/14759)

 

 

الحسنى بالصحافة خلا صات تتنافى تماما عما هو مشهود له به من سعى حثيث إلى امتلاك أسباب الحداثة قصد مواجهة ما يتربص حينئذ ببلاد المغرب من تحديات ومخاطر. لذا، وحتى نلم بصورة أصح عن علاقة الخزن الحسنى بظاهرة الصحافة، نقترح وضع الحكم السالف الذكر في سياق معين سنحدده فيما يلي . لكن ، قبل ذلك ، وحتى تكون نظرتنا شاملة، نذكر في عجالة ببعض المعالم التي تؤرخ لتعرف النخبة المغربية المثقفة على الصحافة كإحدى مظاهر العالم الحديث والمعاصر. فأول مصدر مغربي أشار إليها هو كتاب الغساني المعنون ب "رحلة الوزير في

 

(1/14760)

 

 

افتكاك الأسير)،، والذي ألفه صاحبه في أواخر القرن السابع عشر عقب مهمة كلفه بها السلطان المولى إسماعيل لدى الملك الإسباني كارلوس الثاني (1690-1691). فقد تحدث الغساني في مؤلفه عن الجريدة بقوله : "ويسمونها الكاسيطة، فيطلع الإنسان منها على أخبار كثيرة، إلا أن فيها من الزيادة والكذب ما تحمل عليه الشهوة الإنسانية،،(3).

وبعد هذه الشهادة بما ينيف عن نصف قرن ، كتب محمد الصفار التطواني رحلته المشهورة إثر زيارته لفرنسا 1845-1846(4). وفي هذه الرحلة نجد وصفا مهما لصحافة باريس ؟ ذلك أن الكاتب يمدنا بمعلومات

 

(1/14761)

 

 

عن انتشارها، وعن كيفية الاشتراك فيها، وعن الإشهار فيها، وعن القوانين المنظمة لها، وعن دورها كأداة للمعارضة السياسية .. . ليلاحظ في الأخير أن القارئ الفرنسي متشبث بجريدته إلى

 

الغساني، رحلة الوزير افتكاك الأسير، منشورات معهد الجنرال فرانكو، طنجة 1940، ص67 .

صدرت هذه الرحلة أول الأمر مترجمة إنجليزية في كتاب :

susan gilson miller disorienting encountes. Travels of Moroccan scholar in France in 1845-1846. The voyage of muhammed as-saffar university of california press berkley los angles oxford 1992

 

(1/14762)

 

 

241 P

 

ثم قام ذ. خالد بن الصغير بتعريب هذا الكتاب ونشر النص العربي لم حلة في مؤلف صدر له عام 1995م ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت عنوان : صدفة اللقاء مع الجديد. رحلة الصفار إلى فرنسا، 1845-1846

 

درجة قد يستغني فيها عن الأكل والشرب ، ولا يستغني عنها. ومما جاء تحت قلم الصفار في هذا الصدد : "وبالجملة، فالكوازيط عندهم من أهم المهمات ، حتى أن أحدهم قد يصبر على الأكل والشرب ولا يصبر على النظر في الكازيطة"(5). أما إدريس العمراوي ، الذي اطلع على رحلة الطهطاوي المصري واستفاد منها،

 

(1/14763)

 

 

فقد أسهب أكثر من الغساني والصفار في وصف الطباعة والصحافة والمكتبات التي استرعت انتباهه إبان سفارته إلى فرنسا في 1860. ولم يتوقف العمراوي عند الوصف ، بل إن إعجابه بالمطبعة قد جعله يلتمس من سلطانه سيدي محمد بن عبد الرحمن أن يزود المغرب ب "نعمة" الطباعة سيرا على سنة بعض البلاد الإسلامية بالشرق (6).

ولما تولى المولى الحسن زمام الأمور عام 1873، كانت البلاد قد شهدت بعض التطورات التي لها علاقة إما بالنشر عامة أو بالصحافة خاصة : - فالمدينتان المحتلتان سبتة ومليلية قد شهدتا منذ العشرينيات من القرن

 

(1/14764)

 

 

التاسع عشر ميلاد جرائد باللغة الإسبانية مثل el-liberal africano 1820، eco constructional (1822). ثم جاء دور تطو"ن في بداية الستينيات ، إذ صدرت بها el-eco de tetuan (1860 ) el-noticiero ( 1861 ). وإذا كان من غير المؤكد أن لهذه الجرائد الإسبانية أي تأثير مباشر على المغاربة فإن هؤلاء اقتبسوا كلمة geceta جيرانهم الإسبان واستعملوها بصيغ عربية مختلفة (جزيطة، جوازيط ، كازيطة، كوازيط . . .) للدلالة عن تلك الأوراق المخطوطة أو المطبوعة والتي يراد منها نشر الأخبار على نطاق واسع . وقد استمر تداول هذا

 

(1/14765)

 

 

المصطلح في المراسلات المخزنية مدة طويلة حتى حلت محله كلمتا (،الجريدة" و"الصحيفة" بفعل تأثير بعض المشارقة المستقرين في المغرب والعاملين في حقل الصحافة(7).

 

(5) صدفة اللقاء مع الجديد...، مرجع سابق ، ص 163.

(6) إدريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، فاس 1909، صص 50-55.

(7) سنعود بالتفصيل إلى تأثير المشارقة في الصحافة المغربية في مقال لاحق إن شاء الله .

 

-أما طنجة، فقد شهدت هى الأخرى محاولة لإنشاء صحافة سنة1870 بعد أن تم استقدام مطبعة من الرابطة الإسرائيلية بباريس . غير أن الصحيفة (وربما

 

(1/14766)

 

 

كان اسمها La gazitte de tanger ماتت في مهدها نظرا للإجماع الحاصل في معارضتها من لدن الدوق إيمي داكان (Ayme Aquin ) (ممثل فرنسا) وجون دراموند هاي (john drammond ) (مفوض بريطانيا) والنائب المخزني محمد بركاش .

لم يكن الخزن الحسنى إذن يجهل كل شيء عن الصحافة عندما تأسست خلال الثمانينات عدة جرائد أوروبية بطنجة(8). بل إنه كان في بداية الأمر يأمل منها خيرا إذ أنها وسيلة قد تساهم في تفتح العقول وتقرب بين المغاربة والأوروبيين القاطنين بطنجة. وتظهر هذه النية جلية في رسالة بعث بها بركا!ثر إلى جون دراموند

 

(1/14767)

 

 

هاي بتاريخ 9 نونبر1884 حيث جاء فيها: "لم يتم ما كان يؤمل لأن الجرائد المذكورين هكذا قد غيروا وبدلوا لسانهم عن الخير المأمول منهم إلى ما ينتج الضرر. فعوض غرس المحبة بين الأهالي و"لأجناس ، صاروا يغيرون أفكارهم ويشوشونها ويمسخونها إلى القبائح والتخويض ضد الحكومة،،(9).

أجل ، إن صحافة طنجة ، سيما )،Le reveil du Maroc (يقظة المغرب )، قد تجاوزت مهمتها الإخبارية لتتحول إلى أداة للتجاسر على الخزن ورجالاته . وكانت ذرائعها في ذلك متعددة، فتارة تنتقد سلوكات الجهاز الحاكم في تصرفه الطيوقراطى، وتارة أخرى

 

(1/14768)

 

 

تمتطي مبادئ إنسانية وإحسانية مزعومة لتندد بوضعية الرقيق أو المساجين أو اليهود إلخ. وكلما حاولنا إماطة اللثام عن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء تلك التهجمات إلا وتبين أن البون شاسع بينها وبين المواضيع التي تتخذها مطية . فمثلا، فيما يتعلق بجريدة )+،79 لماه (أع 3 خ *ه ها التي كان يديرها اليهودي المغربي ليفي

 

(8) من بين الجرائد التي ظهرت في طنجة خلال ثمانينات القرن التاسع عشر: وLe commerce au Maroc – The Ti;es of Marocco – Al-Moghreb Al-Aksa والمغرب . . .

 

(1/14769)

 

 

(9) من رسالة بعث بها عمد بركاش إلى جون دإموند هاي بتاريخ 20 محرم 1302هـ الموافق 9 نونبر 1884م . انظر: خالد بن الصغير، المغرب في الأرشيف البريطاني. مراسلات جون دراموند هاي مع المخزن (1846-1886)، نشر ولادة، الدار البيضاء 1992، الوثيقة رقم 391، صص 504-505.

كوهن (10)، يجب أن نعلم أنها كانت ممولة بصفة غير مباشرة من طرف البنك الفرنسي ترانساطلانتيك Transatlantique الممثل في طنجة من طرف حاييم بنشيمول ، أحد المقربين إلى Ladislas Ordega وزير فرنسا بمدينة البوغاز بين دجنبر 1881 ودجنبر 1884. ومن جهة أخرى،

 

(1/14770)

 

 

كانت نفس الجريدة تجد الدعم الكامل من لدن جل أعمال فرنسي هو الكونت دوشوقانيك

(Le conte de Chevagnac) الذي كان يحاول جادا، وبمختلف الضغوط ، أن ينتزع من الخزن حق استغلال بعض المناجم في الشمال المغربي.

وطبعا، كلما قاوم الخزن هذه التحولات أو تلك إلا وصبت الصحافة جام غضبها عليه منددة بسياسته ومؤازرة المتمردين على سلطته . وقد بلغ السيل الزبى في ربيع 1884 عندما أسدلت فرنسا حمايتها على الحاج عبد السلام ، شريف وزان (11). فقد انتهز Le Reveil du Marocهذه الفرصة ليناصب السلطان المولى الحسن العداء الكبير.

 

(1/14771)

 

 

وكانت خطورة هذه المواقف ، بالنسبة للمخزن ، تكس في كون الجريدة الطنجاوية تعتبر مصدرا للمعلومات من لدن صحف أوروبية عديدة، بل ومن طرف وكالة هافاس نفسها الذي كان ليفى كوهن مراسلا لها. وقد كان بعض رجالات النخبة المغربية على وعى بدور الصحافة الأوربية في المس بسمعة المغرب بالخارج . فهذا الحسين السملالي (المتوفى عام او،ا) يكتب .

 

(5ا) كان ليفي كوهن من مواليد طنجة سنة 1844، وهو من عائلة يهودية منحدرة من الصويرة. تابع دراسته في بريطانيا، كما قام مدة ثمانية أعوام في فرنسا. كان عضوا نشيطا في اللجنة

 

(1/14772)

 

 

المغربية للرابطة الإسرائيلية العالمية، كما كان ممثلا لعدد من الجمعيات اليهودية النشيطة في لندن ونيويورك .

كاد ليفي كوهن في الوقت داته تاحرا ومحاميا وصحفيا. وبهذه الصفة الأخيرة أشرف على (Le Reveil du Maroc) وراسل عددا من الصحف الأوروبية.

وتد وافت المنية ليفي كوهن في لندن ، وهو في ربيع العمر، في نونبر1988

(11) كات المادة 16 من عقد مدريد لسنة 1880 تسمح للدول المشاركة ببسط حمايتها القنصلية والدبلوماسية على بعض الرعايا المغاربة التي تربطهم بها علاقات معينة. وفي هدا الإطار يدخل إسدال الحماية الفرنسية

 

(1/14773)

 

 

على الشريف عبد السلام الوزاني. في موضوع الحمايات الأجنبية، انظر كتاب محمد كنبيب :

Mohammed Kenbib, Les proteges. Contribution a l histoire contemporaine du Maroc. Pub. Faculte des lettres et des sciences humaines, rabat 1996 396 P.

 

( فلما وصل كتاب الباشادور – أوريكا- لهؤلاء الفرنسيين إ، فرحوا به وأمروا بتعليق الكوازيط ، وهى النفايل المكتوب فيها ما أرادوا إعلام الكافة به ، كالبراح ينادي في الأسواق والازقة . ومن جملة ما كتبوا في الكوازيط أنهم أدركوا ثلث المغرب لاعتقادهم أن هذا الوزاني يتبعه

 

(1/14774)

 

 

الناس ولو في الكفر، ولم يعلموا أنه لا يسعده إلا خماميسه وعبيده )،(12).

ومن ثمة وجب التحرك على أعلى المستويات بعد أن اقتصر الخزن إلى ذلك الحين على التدخل لدى دراموند هاي بصفته عميد السلك الدبلوماسى ولأن كل مديري صحف طنجة في ذلك الوقت يحملون الجنسية البريطانية . فكانت زيارة بركاش لباريس حيث تم لقاء، يوم 12 ماي 1884 مع جول فيري (Jules Ferry )، وزير الخارجية ورئيس الوزراء في الحكومة الفرنسية. خمسة أسابيع بعد هذا اللقاء، أرسل حول فيري برقية سرية إلى ممثله بطنجة يدعوه فيها إلى ضرورة التخفيف من لهجة

 

(1/14775)

 

 

)، Le Réveil du Maroc التي لم يعلم الجميع أنه هو مسيرها الحقيقي (13). كان لاحتجاجات المغاربة ولضغوط القوى الأوروبية المنافسة لفرنسا، سيما بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، أثر في جعل الحكومة الفرنسية تبتعد عن سياسة التصعيد التي كان يسلكها ممثلها بالمغرب . وهكذا، انتهت مأمورية أورديكا بطنجة في دجنبر 1884 ليحل محله المستعرب ،Chqrles Feraud الذي مثل بلاده بطرابلس الغرب قبل تعيينه بطنجة(14).

كان المخزن قد بدأ مشاورات مع دراموند هاي رمى من خلالها إما إلى جعل الصحافة الطنجاوية تتخلى نهائيا عن انتقاداتها

 

(1/14776)

 

 

الجارحة أو تيم توقيفها كلية لأنها على كل حال لم تحصل أبدا على رخصة للصدور، كما أن البلاد تفتقر إلى قانون ينظم نشاطها في حدود مقبولة. ولما لم تفض هذه المشاورات إلى ما كان يصبو إليه المخزن،

 

(12) الحسين السملالي ، الفتوحات الوهبية في سيرة مولانا الحسن السنية، ومفاخر اختراعاته البهية، نسخة مخطوطة، مؤسسة علال الفاسي ، الرباط ، ص . 200 وما يتبعها.

(13) برقية من جول فيري إلى أورديكا، 19 يونيو 1884، وثائق وزارة الخارجية الفرنسية بباريس (كي دورمي)،

Crresp.Pol.Maroc.vol.48.fol.127-128.

 

(1/14777)

 

 

(14) مارس "فيرو" مهمته في المغرب إلى أن وافته المنية سنة 1888م.

 

بعث الحاج محمد الطريس ، بتاريخ 20 يوليوز 1886 مذكرة إلى مختلف المفوضيات الأجنبية بطنجة ليبلغها قراره بإلغاء الصحف الصادرة بالمدينة. وهذا نس الرسالة(15) التي توصل بها الفرنسي شارل فيرو في الموضوع (16) : الحمد لله وحده

المحب العاقل المحترم اللبيب المنسطر المفوض بأكمل التفويض لدولة الفرنصيص الفخيمة، مسي فيرو. لا زال السؤال عنك كثيرا محبة أن تكون بخير وعافية. وبعد فغير خاف عنكم أن ليس لنا بإيالة مراكش شرع خاص بحكم المطبعة كما بغيرها

 

(1/14778)

 

 

من الدول . وعلى فرض أنه لو كان عندنا كالغير فلا قدرة لنا إجرائه حيث أن من يباشر أمر الجوازيط هم من رعيات الأجناس ولا تجري عليهم أحكام هذه الإيالة فيما يتعلق بخصوص أنفسهم كمثل هذه القضية. ولما رأينا فيما قبل هذه المدة لعدي الجوازيط على بعض رعيات الأجناس وهتك أعراض بعض الناس خفنا أن يزيد ذلك ويتفا حش إلى أن يصل الضرر إلى بعض النواب أنفسهم أو غيرهم من المتوظفين في المخزانية الذي يجب علينا بمقتضى الشرطات توقيرهم وحفظهم من تعدي الغير. وعليه فمن حيث لا قدرة لنا لمنع ذلك ، نطلب منكم إبطال الجوازيط

 

(1/14779)

 

 

التي تطبع بهذه الإيالة على وجه البث وإلا-فها نحن نجدد الاسترعاء لئلا يطلب منا إجراء الشروط إن صدرت إذاية من الجوازيط لبعض النواب أو غيرهم من المتوظفين في المخزانية. وعلى المحبة والسلام .

في 18 شوال عام 1303

محمد بن العربي الطريس لطف الله به.

أثار قرار المخزن الحسني بمنع النشاط الصحافي سخط مسئولي صحف تلك المدينة، فتكتلوا في نقابة نصبت نفسها للدفاع عن حرية الصحافة. وطبعا، كان من متزعميها ليفي كوهن السابق الذكر والذي لم يهدأ يتجاسره على سلطات البلاد بالرغم من النهج المعتدل الذي سلكه ممثل فرنسا

 

(1/14780)

 

 

الجديد : شارل فيرو. وأما المفوضيات الأجنبية فقد اختلفت كلمتها في الموقف الواجب اتخاذه . فبعض النواب ، وهم

(15) أصل هذه الوثيقة موجود في مركز الأرشيف الدبلوماسي في نانط (فرنسا)، طنجة، محفظة 521.

(16) أدرجنا الرسالة كما هي في الأصل حرفيا دون محاولة تقويم ما اكتنفها من خلل لغوي أو غبره .

 

الأغلبية، يرون أن صحافة طنجة استغلت استغلالا سيئا جو الحرية السائد في مدينة البوغاز. بينما يرى البعض الآخر أن حرية الصحافة مبدأ مقدس يجب عدم التفريط فيه بأي حال من الأحوال . ويرى الكاتب والصحفي اسحاق لاريدو (Issa

 

(1/14781)

 

 

Laredo) أن مفوضين أجنبيين اثنين ، أغفل ذكر اسميهما واكتفى بنعتهما ب "عدوي النور"(17)، حاربا بشكل عنيد حرية الصحافة. ولعل لاريدو يقصد كلا من شارل فيرو وجون دراموند هاي ! فالنائبان عانيا كثير" من انتقادات صحافة طنجة إ. ولا يخفي شارل فيرو في مراسلاته مع وزارة الخارجية الفرنسية امتعاضه من هذه الصحافة التي يصفها ب"المنشقة والمرتشية)،(18). فعند حلوله بطنجة بفهي السير على نهج سلفه أورديكا والاستمرار في تقديم منحة مالية قدرها ألف فرنك إلى جريدة (Le Réveil du Maroc). وفضلا عن ذلك ، فإنه عند زيارته

 

(1/14782)

 

 

للبلاط السلطاني في ماي / يونيو1885، لم يخف تعاطفه مع وجهة نظر السلطان متذمرا جدا من Le Réveil du Maroc لكونه ينسخ الأكاذيب ويتدخل في الشؤون المغربية الداخلية ويتجاسر على المخزن في كل المناسبات (19 ).

بالرغم من الخلاف السائد بين النواب الأجانب حول الموقف الواجب اتخاذه إزاء المبادرة المخزنية الرامية إلى منع الصحافة، فقد تم التوصل إلى حل وسط في شكل نداء موجه إلى مسئولي الجرائد حتى يكفوا عن نشر المقالات الجارحة. وإذا كان هؤلاء قد استجابوا لتوه لهذا النداء فعدلوا من لهجة "جوازيطهم " فإن هذا الاعتدال

 

(1/14783)

 

 

لم يعمر طويلا إذ سرعان ما عادوا إلى سلوكاتهم السابقة عابثين بكرامة البلاد والعباد. وهذا ما جعل الخزن يجدد طلبه في يناير 1887، لكن حظه لم يكن أوفر من المرة الأولى. وشيئا فشيئا بدا للمخزن ألا مناص من التعامل مع هذه "البدعة"، بل وتسخيرها عند الضرورة لما فيه مصلحة البلاد. فلهذا كتب النائب الطريس ، سنة 1892، مقرا ألا جدوى من محاربة الصحافة في طنجة :

 

( 16 ) Issa D.Leredo. Memorias de un viejo tangerino, C.Bermejo impre

Madrid 1935 p 247-249.

 

(1/14784)

 

 

(17) رسالة فيرو إلى وزارة الخارجية الفرنسية، 13 فبراير 1886، وثائق كي دورسبة ، باريس Corresp. Pol.

(18) انظر رسالة فير إلى وزارة الخارجية الفرنسية، 13 يونيو 1985 ، وثائق كي دورسي، باريس Pol. Vol. 48 Fol 409.

 

"إن الجوازيط لها الحرية للكلام في أمور السياسة والمخزنية التي تعرض سائر الدول من غير معارضة لها في ذلك . والكلام من نواب الدول في هذا الشأن لا يجدي شيئا"(20).

وفضلا عن هذا التصريح الواضح ، فإن الخزن الحسنى، الذي لم يحاول منع الصحافة إلا عندما تجاوزت الحدود المقبولة حتى من لدن النواب

 

(1/14785)

 

 

الأجانب أنفسهم ، لم يغفل المكاسب التي يمكنه جنيها من الجرائد. ويظهر ذلك جليا فيما يلي :

-أسس الخزن مصلحة مكلفة بتعريب وتتبع ما تكتبه الصحافة في شأن المغرب . ونظرا للأهمية التي تكتسيها هذه المصلحة، فإنها تتنقل مع السلطان في كل حركاته (21). –

كان المسؤولون يطلعون باستمرار على ما يكتب عن المغرب في الصحف الصادرة في طنجة أو حتى في أقطار نائية. فمن لندن كان التاجر اليهودي موسى أفلالو (Moussa Aflalo) يبعث إلى المخزن من حين إلى آخر بقصاصات مختلف الأخبار التي تنشرها الصحافة البريطانية عن العالم الإسلامي

 

(1/14786)

 

 

. ومن الأستانة، وجه سليم فارس الشدياق ، مدير جريدة "الجو ائب" العثمانية، مراسلة إلى مندوب المغرب في مؤتمر مدريد 1880 ضمنها نسخة من جريدته وكذا طلبا بأن يمده بأخبار عن المؤتمر ينشرها لفائدة قرائه (22).

ربط المخزن علاقات طيبة مع دو كيرديك شينى (De Keredec Chény) عندما تولى هذا الصحفي الفرنسي إدارة (Le Réveil du Maroc). ومن الخدمات التي أسداها للسلطات المغربية رده على مزاعم الجمعية البريطانية (Howard Association) فيما يخص حالة المساجين في المغرب (23).

 

(1/14787)

 

 

(20) رسالة من الطربس إلى المفضل غريط بتاريخ 3 أبربل 1829، مديرية الوثائق الملكية، الرباط ، الترتيب ا لعام .

(21) رسالة من شارل فيرو إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ 1 فبراير 1887 وثائق كي دورمى، باريس Maroc. Corresp. Pol. 52 Fol. 95-96

(22) مراسلة مؤرخة في 9 يونيو 1880، مديرية الوثائق الملكية، الرباط ، الترتب العام.

(23) Exagération de la Howard Association Le Réveil du Maroc

mars 1893.8-15

ربط المخزن علاقات طيبة مع الفقيه ميكن ،،(24) صاحب جريدتي (The Times of Maroc) والمغرب (25)، واتفق معه

 

(1/14788)

 

 

على التشهير بالتاجر المراكشي أبي بكر الغنجاوي الذي احتمى بالإنجليز وأخذ يتطاول دون هوادة على سلطات بلاده .

- استعمال المخزن للصحافة اللندنية The Times إبان الثمانينات من القرن التاسع عشر كأداة دعاية لإحباط مشروع "شركة سوس وشمال إفريقيا)، الرامي إلى الاستقرار على السواحل السوسية بدون إذن السلطات المغربية(26).

 

هكذا يتبين إذن بجلاء أن المخزن الحسنى قد تأقلم مع ظاهرة الصحافة واستوعبها كإحدى مظاهر الحداثة التي لا مناص منها. أما كون السلطان قد نعتها مرة بالبدعة - كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا

 

(1/14789)

 

 

المقال - فهو حكم عابر وليد ظرفية خاصة تميزت بهجمة دعائية عنيفة. فالأقوال ، شأنها في ذلك شأن الأحداث ، لا تفهم إلا على ضوء سياقها التاريخي.

(24) المقصود هو Budgett Meakin الذي خلف أباه Edwardعلى رأس جريدة The Times of Maroc (أزمنة المغرب ) الصادرة باللغة الإنجليزية.

(25) صدرت جريدة "المغرب " باللغة العربية قي طنجة سنة 1889 وكان يحررها شاميان هما عيسى فرح وسليم كسباني .

(26) حول هذا الموضوع ، انظر:

 

(1/14790)

 

 

- Jean-Louis Miege, Le Maroc et l’Europe 1830-1894 tom III “Les difficultés ” Ed. La Porte, Rabat p.319.

خالد بن الصغير : "كورتيس وشركة سوس وسال إفريقيا" في مدينة تيزنيت- وباديتها، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير 1996 صص 80-81.

 

(1/14791)

 

 

منهج المعرفة العلمية في النظريات اللسانية

... ... ... ... ... ... الدكتور محمد الأوراغي

... ... ... ... ... كلية الآداب ـ الرباط

 

تقديم

... مناهج اكتساب المعرفة لا ينحصر اختلافها خلال الأزمنة المتعاقبة ولا عبر الحقول المعرفية المتباينة، بل تختلف أيضاً بين النظريات المتزامنة التي تتنافس داخل الحقل المعرفي الواحد من أجل وصْف موضوعاته. ولذلك سيكون من الصعب الحديثُ عن كلية المنهج وعن كلية النظريات، مع إمكان القول بكلية المعرفة العلمية خاصة(1)

__________

(1) مصطلح الكلية مستعمل أعلاه بمعنيين. إذ توصف المعرفة بالكلية إذا كانت ثابتة لا تتغير وشاملة لا تتبعض. بينما النظرية والمنهج يوصفان بالكلية حين يتوسل بهما كل الباحثين في ميدان بعينه. فالكلي إذا اقترن بالمعرفة، أفاد الثبات والشمول، وهو مع المنهج والنظرية يفيد التوافق والإجماع.

 

(1/14792)

 

 

.

... دعونا نعتبر النظرية والمنهج والمعرفة مكونات لنسق علوميّ(1)، بحيث لا يستقيم تحليل أحد هذه المكونات بمعزل عن الآخر. وإذا ثبت أن هناك تنسيقاً بين المعرفة والمنهج والنظرية، وجب أن يكون تناولنا لأيٍّ منها تناولاً علاقياً. أما إثبات نسقية المكونات الثلاثة، فيكون عن طريق ”مبدإ التضامن“ الذي يفيد أن أي تغيير يطرأ على

__________

(1) العلوميا تركيب مزجيّ من العلم والعلو؛ وهو يفيد مصطلحيّاً المفهوم من ”العلم الأعلى“ في برهان ابن سينا، وهو أيضاً المقابل العربي لما يفيده اللفظ الأجنبي Epistémologie spéciale.

 

(1/14793)

 

 

أحد مكونات النسق يجب أن يلحق غيره من المكونات بدءاً من الذي يباشره.

... يلزم عن صحة التعالق الذي وصفناه أن يكون تقييد ”المعرفة“ بصفة ”العلمية“ مسبوقاً بتقييد ”المنهجية“ بصفة مناسبة للصفة التي تقيدت بها ”النظرية“ من قبلُ. فالتناسب بين الصفات المقيِّدة لمكونات النسق من مستلزَمات ”مبدإ التضامن“؛ كما أن تعاقب تلك المكونات من ضرورات بناء النسق.

... ظهر إذن أن إشكال هذا العرض يمكن صوغه من جديد بعبارة موجزة؛ فنقول: تُقيَّد ”المعرفة“ بوصف ”العلمية“ إذا تم اكتسابها في إطار ”نظرية نسبية“ بواسطة قواعد

 

(1/14794)

 

 

يشكل بناؤها المخصوص منهجاً متميزاً نفرده بمصطلح ”الفِرْنَاب“(1).

... ولإحكام الإشكال المطروح بمعالجة تكون في غاية الوضوح، يجمل بنا أن نُسيِّجَها بالضوابط اللازمة، وهي متدرجة بحسب أهميتها على المنوال التالي:

__________

(1) الفِرْناب عبارة عن سلسلة من العمليات الذهنية المضبوطة بضربين من القواعد المعرفية: ”قواعد استقرائية“ تكوّن الفرع الأول من هذه المنهجية وتؤدي إلى ”نتائج عامة“ تنقلب في فرعها الثاني إلى ”فرضيات مراسية“، منها يكون الانطلاق عند إجراء ”قواعد برهانية“ فتُشتق

مبرهنات ومعارف علمية.

 

(1/14795)

 

 

... أ ـ الحصْر الإجرائي: بأن نتناول ”النسق العُلوميّ“ بمكوناته الثلاثة الموصوفة أعلاه في أحد مجالات العلم. وبحكم اهتمامنا باللغات، وجب أن تكون معالجتنا لهذا الموضوع داخل اللسانيات. حتى إذا اتضح الحلُّ المقترح وبانت أهميته، صار بالإمكان بعدئذ فحصه من جديد في باقي حقول العلم.

... ب ـ الربط المجالي: يحصل في ذهن الباحث الواحد الذي يؤهله تكوينه العلميّ والعلوميّ لأن يتردد على مجالين مترابطين، فيجمع بين اللسانيات، بوصفها علماً موضوعه اللغات البشرية، وبين العلوميا التي تجعل من اللسانيات موضوعاً

 

(1/14796)

 

 

للدراسة. فهو لساني إذا درس اللغة، وينقلب علوميّاً إذا حول نظره وشرع يتساءل عن كيف يجب أن تُدرس اللغة.

... ج ـ التحليل التقابلي: باتخاذ البنيوية اللسانية قاعدة، نكون قد ضمنا للعرض كل الوضوح، لأن أي مكون في ”النسق العلومي“ لا تتعين خصائصه الداخلة في تشكيل ماهيته إلا بتحديد الخصائص المكونة لماهية مقابله. وعليه، فإن ”المعرفة العلمية“ لا تعني شيئاً إذا لم يُنظر إليها في مقابل كل من ”المعرفة النظرية“ و”المعرفة العادية“. كما أن ”النظرية النسبية“ لا ينكشف بناؤها المنطقي بمعزل عن ”النظرية الكلية“ في

 

(1/14797)

 

 

اللسانيات أولاً، ثم في غيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية. وكذلك يستمر التحليل التقابلي ليشمل مكوِّن المنهج في ”النسق العلوميّ“، كما سيتبين في المباحث المخصصة لكل واحد منها.

 

1 ـ لسانيات كلية ومعرفة نظرية

... لا بأس من إشارة تاريخية، ولو باقتضاب، إلى أن بناء المواد النظرية التي يُستعان بها في البحث اللغوي بدأ في الثلاثينيّات من القرن الماضي في مدرسة ابراغ على يد اتْروبِتسكويْ وياكُبْسُون. وكان استخدام النظرية حينئذ مقصوراً على ”الفَصّ النَّصْتي“ من اللغة أو على مستواها الفنولوجي. ومنذ

 

(1/14798)

 

 

الخمسينيّات من القرن نفسه، طفرت النظرية في اللسانيات الأمريكيّة، فعمّت اللغةَ بجميع فصوصها واكتمل بناؤها على يد شومسكي باعتباره ممثلاً للفلسفة الاصطلاحية في ميدان اللغة وعلمها.

... من جملة ما يميز الفلسفة الاصطلاحية نفيُها لحقائق الأشياء في الأعيان. وأصحاب هذه النزعة مجمعون، تبعاً لما نقل عنهم بوبر(1)، على أن عقل الإنسان هو الذي يفرض قوانينه على الطبيعة، ومن ثمّةَ فإن ”قوانين الطبيعة“ ما هي إلا

__________

(1) انظر كارل بوبر، منطق المعرفة العلمية. (K. Popper, La logique de la découverte (scientifique.

 

(1/14799)

 

 

نتاجٌ لإبداعات الإنسان، كما أن علم الطبيعة النظريّ إنما هو بناء منطقيّ لا صورة عن الطبيعة. وهذا البناء لا يتحدد، في التوجه الاصطلاحي، بخصائص العالَم، وإنما الأمر بخلاف ذلك؛ إذ البناء المنطقي هو الذي يحدد خصائص عالم اصطناعي، أي عالم من المفاهيم المحددة ضمنياً بواسطة القوانين الطبيعية التي اخترناها، ولا يصف العلم سوى عالمٍ من هذا القبيل.

... استلهم شومسكي(1) نزعة الاصطلاحيين، وبلورها داخل اللسانيات في

__________

(1) للمزيد من التفصيل، انظر: شومسكي، تأملات في اللغة (Chomsky, Réflexions sur le langage) .

 

(1/14800)

 

 

مواضع كثيرة من كتبه، فعكس عقيدتهم بمثل قوله: جواهر الأشياء المدركة تشكل الموضوعات الأولى للعلم، وهذه الجواهر ليس لها وجود إلا في الذهن، من حيث هي أفكار نابعة من ذات الذهن نفسه. وبواسطة هذه الأفكار الطَبْعِيَّة، يستطيع العقل أن يعرف الأشياء الخارجية ويتصوّرها من حيث هي موضوعات ثانوية للمعرفة. ويكرر الفكرة نفسها إذ يقول في عمل آخر:

... توجد مبادئ وتصورات منسوجة في الذهن، إذ ننتزعها من أنفسنا ونسقطها على الموضوعات… وبالرغم من كون هذه التصورات المشتركة قد تمت إثارتها بواسطة الموضوعات لكن لا أحد،

 

(1/14801)

 

 

مهما كانت طريقة تفكيره غير معقولة، يتخيلها محمولة في ذات تلك الموضوعات… وباستعمال الحقائق الذهنية المطبوعة في النفس، نستطيع المقارنة بين الأحاسيس الجزئية وتركيبَها وتأويلَ التجربة (1).

 

... بإدراج المعطيات اللغوية ضمن الأشياء المكونة للعالم المجردة من ماهياتها إلا مما يُضيفه العقل عليها، سيكون شومسكي قد انضم إلى الفلاسفة الاصطلاحيين، الأمر الذي سيضطره عقدياً إلى الرفض المطلق لكل النزعات التي تكون ”التيار المراسي“(2)

__________

(1) شومسكي، اللسانيات الديكارتية Chomsky, La linguistiaue cartesienne)).

(2) راجع الفصل الرابع من حوار شومسكي مع متسو رونا (Chomsky, Dialogue avec Mitsou (Ronat.

 

(1/14802)

 

 

، ويجبره علمياً على إقامة نظرية لسانية تستجيب ببنائها المنطقي لشروط النسق الرياضي. وبذَيْنكُم النسقين تُؤَوَّلُ التجربة ويتأتى إسقاط بناء عقليّ على وقائع العالم ومعطيات اللغة. فالنظريات في النزعة الاصطلاحية ”عبارة عن شبكات لاصطياد العالم فجَعْلِه عالماً معقولاً بتفسيره والتحكم فيه“(1).

 

1. 1 ـ بناء النظرية اللسانية بشروط اصطلاحية

__________

(1) للمزيد من التفصيل، انظر: كارل بوبر، منطق المعرفة العلمية، مصدر سابق.

 

(1/14803)

 

 

... تُقام النظرية اللسانية بشروط النزعة الاصطلاحية إذا توافرت فيها أو في مواد بنائها الخصائص التالية:

... 1) المقدمة الأولى المؤسسة للنظرية يجب أن تكون ”فرضية اعتباطية“، وهي قضية تتميز بسمات ثلاث هي: (أ) أن يكون محتواها وضعيّاً لا يحيل على واقع؛ (ب) لا تقبل الإثبات، لذلك تسند إليها القيمة ”صادقة“ مع التسليم الاعتباطي بهذه القيمة؛ (ج) لا تقبل الفحص ولا النقض، وكذلك حال ما يبنى عليها. تلكُمُ الخصائص متوافرة جميعها في فرضية العمل الاعتباطية المؤسسة للنظرية اللسانية الكلية، والقائلة: ”إن اللغة

 

(1/14804)

 

 

مَلَكَةٌ طَبْعِيَّةٌ مرقونةٌ خِلْقَةً في خلايا عضو من الدماغ البشري تنتقل من جيل إلى آخر بمورِّثات عُضوية“(1).

... 2) النظرية مُنَزَّهَة عن النقض؛ إذ تقوم بينها وبين موضوعها علاقة أحادية التأثير؛ من النظرية اللسانية في اتجاه المعطيات اللغوية ولا ينعكس أبداً. إن الحكم على البناء المنطقي للنسق النظري بالدقة والضبط يتعلق بمدى الانسجام الداخلي الحاصل بين فرضية العمل وبين ما استُنبط منها بواسطة قواعد برهانية

__________

(1) للتوسع في الموضوع، انظر: د. محمد الأوراغي، الوسائط اللغوية، 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14805)

 

 

محددة سلفاً، ولا يتأثر بناء النظرية الْبَتَّة بملاحظة الوقائع التجريبية(1). وبتعبير آخر يسير في الاتجاه نفسه، إن الشواهد الملحوظة في معطيات اللغة الخاصة كالعربية مثلاً يجوز استعمالها لاختبار قواعد النموذج النحويّ الذي أقامته النظرية اللسانية، لكن ليس لتلك المعطيات أن تنقض مبدأ كلياً توقعته النظرية.

__________

(1) راجع مفهومي الدحض والانسجام (Falsifiabilité et Cohérence) في الفصل الرابع من كتاب بوبر، منطق المعرفة العلمية.

 

(1/14806)

 

 

... 3) حماية النظرية من الانهيار إذا اشتدت أزمتُها بسبب تصاعد القوادح بازدياد التعارض بين توقعاتها وبين نتائج الملاحظة المثبتة بالتجربة، أو بمنهجية مؤسسة مراسياً(1)

__________

(1) حماية النظرية من القوادح المراسية في اللسانيات الاصطلاحية نقله د. عبد القادر الفاسي إلى بعض أعماله، كما في مقاله ”عن أساسات الخطاب العلمي والخطاب اللساني“، ضمن المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، صص. 43 ـ 63. ومن أمثلة التعارض المذكور، نجد نظرية شومسكي الاصطلاحية تتوقع أن يكون لكل لغة بضرية رتبة أصلية، في حين ثبت ثبوتاً قطعياً أن لغات ليس لمكونات الجملة فيها رتبة أصلية. راجع مفهومي اللغات التوليفية واللغات التركيبية في: الأوراغي، الوسائط اللغوية، أو اللغات المعربة واللغات المرتبة في: الأوراغي، اكتساب اللغة.

 

(1/14807)

 

 

. وللاصطلاحيين، عُلوميين كانوا أو لسانيين، عُدَّةٌ خاصة للدفاع عن النظرية والإبقاء عليها. وتتلخص في أربعة أنواع من الوسائل:

... أ ـ التشكيك في القدرة العلمية للمنافس، كأن يدعي الاصطلاحيّ أن منافسه لا يتحكم بالقدر الكافي في موضوع الدراسة(1)

__________

(1) تتوقع نظرية شومسكي أن ”مبدأ التعلق البنيوي داخل في محتوى الملكة اللغوية“، وعندما جعله بوتنام في ملكة ذهنية أعم سماها ”الذكاء العام“، دافع شومسكي عن تصوره بالتقليل من القدرة العلمية لمخالفه، كما يظهر من قوله: ”إذا كان بوتنام قادراً بالفعل على أن يشخص بكيفية أو =

= بأخرى الذكاء العام، وأن يبين ولو بطريقة فضفاضة كيف تناط خاصية تعلق القواعد التركيبية بالبنية الطّبْعِية كما يتصورها بوتنام، سأكون سعيداً بتبني فرضيته“. اقتراح بوتنام المضاد يشير إلى أن في ذهنه شيئاً، لكن اعتراضه فاسد الصياغة. (راجع صص. 445 ـ 447 من كتاب "نظريات اللغة ونظريات الاكتساب" (Théories du langage, théories de l’apprentissage)؛ انظر أيضاً رد شومسكي على أصحاب الدلالة التوليدية حين غيروا أساس النظرية المعيار فجعلوا الدلالة مكان التركيب، وكذلك رده على الوظيفين عندما قالوا: إن لاستعمال اللغة وظيفة تؤثر في بنيتها الصورية. هذا الرد نقله د. عبد القادر الفاسي الفهري إلى كتابه اللسانيات واللغة العربية (انظر ص. 41، 61، 94).

 

(1/14808)

 

 

.

... ب) نزع العلمية عن ملاحظات الدارس بمنهجية النظرية المنافسة، وذلك بالتشكيك في المعطيات الملحوظة وفي نتائج التجربة، بخلع العلمية عنها والموضوعية. بل يجب توظيف متخيَّر من العبارات ليخرج من العلم كل شاهد على صحة الاتجاه المنافس، من شأن التسليم به أن يقوض البناء المنطقي لنظرية جيدة تستحق في عقيدة الاصطلاحيّ كل رعاية وتعهد.

... ج) تغيير الحدود(1)

__________

(1) يُستفاد من تحليل بوبر لمفهوم الحد في التوجيه الاصطلاحي والمراسي أن تغيير الحد في التوجه الأول يعني إعادة صوغ النتائج الداحضة بتحويل حدها الصريح إلى حد ضمني. وللمزيد من التوضيح، انظر المبحث العشرين، وكذلك الفصل الخامس من كتاب بوبر منطق المعرفة العلمية. وللوقوف على مثال علمي لتغيير الحد بالمعنى الاصطلاحي، انظر ما جمعه متسو روني من مقالات في كتاب "النظرية المعيار الموسّعة" (Langue, théorie générative étendue)، والفصل الأول من كتاب شومسكي، قضايا الدلالة (Chomsky, Questions de sémantique).

 

(1/14809)

 

 

يضطر إليه الاصطلاحي لعلّة وغاية. فالعلة تعود إلى تزايد نتائج التجربة التي تقدح في توقعات النظرية؛ أما الغاية، فتكمن في إعادة توافق متوهَّم بين النظرية والواقع. إلا أن ذاك التغيير يجب أن يجمع في عرف الاصطلاحي بين تحقيق ذيْنكَ المطلبين وبين عدم المساس بالبناء المنطقيّ للنظرية، بحيث لا يصل تغيير الحدود إلى ثوابت النسق التي تجعل منه نظرية متميزة.

... د) إدخال فرضيات مساعدة(1)

__________

(1) الفرضية المساعدة (Hypothèse auxiliaire) كالفرضية القاصرة ((Hypothèse ad hoc ينعت بهما بوبر كل ما يلحق النظرية إبان تأزمها من أجل إنقاذها من الانهيار (راجع كتابه منطق المعرفة العلمية).

 

(1/14810)

 

 

. وهي عبارة عن أقاويل خاصة تتميز بعدم انتمائها أصلاً إلى النسق، وإنما تَلْحَقُ به لنجدة النظرية إبان تأزمها. ولعل ”البرمترات“ (paramètres) الملحقة بنظرية شومسكي في مطلع الثمانينيَّات من القرن الماضي أفضل ما يُمَثِّلُ للفرضية القاصرة في النظرية اللسانية الاصطلاحية(1).

__________

(1) راجع: شومسكي، مبادئ وبرمترات النظرية التركيبية (Chomsky, Principles and Parameters in (syntactic Theory؛ وكذلك الفصل الثالث من: الأوراغي، الوسائط اللغوية، 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14811)

 

 

... نخلص مما سبق إلى أن النزعة الاصطلاحية المتميزة بنفيها لحقائق الأشياء إذا بُنيت نظرية لسانية بشروطها الثلاثة (أوّلاً، التسليم الاعتباطيّ بصدق فرضية العمل المتبناة؛ ثانياً، تنزيه النظرية عن النقض؛ ثالثاً، حماية النظرية المتميزة ببنائها المنطقيّ من الانهيار)، أوجبت لتلك النظرية خصائص ثلاثاً: أوّلا،ً أن يكون موضوعها كلّيّاً؛ ثانياً، أن يكون منهجها جامعاً بين الفرض والاستنباط(1)

__________

(1) الفرض والاستنباط نركب لفظيهما تركيباً مزجياً فنحصل على الفِرْناب، وهو المقابل العربي للمصطلح الأجنبي Hypothético-Déductive.

 

(1/14812)

 

 

؛ ثالثاً، أن تكون معرفتها نظرية.

...

1. 2 ـ منطلق اللسانيات الاصطلاحية لغةٌ خاصة ومنتهاها نحوٌ كلّيّ

... إن التسليم بأن اللغة مَلَكَة طبْعِيَّة مرقونة خِلْقَة في خلايا عضو من الدماغ البشريّ تنتقل عبر الأجيال بمورِّثات عُضْوِيَّة، هو من أجل اتخاذ فرضية العمل هذه أساساً لإقامة نظرية لسانية. وغايةُ هذا البناء المنطقي تكمن في اقتناص ”الملَكة اللغوية“، وصوغ مثال لها في نسق من المبادئ والقواعد، أو التمثيل لتلك الملكة بواسطة نموذج نحوي. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن أي نموذج يجب أن يتم بناؤه بالقياس إلى

 

(1/14813)

 

 

حقل معين من الموضوعات، بحيث يصير ذاك النموذج المقام مشابهاً لأصله بنية ووظيفة.

... لكنه يحسن استحضار أن تأسيس النظرية اللسانية على فرضية العمل الطبعية(1)

__________

(1) فرضية العمل الطبعية مفادها وجود معارف أولية منسوجة في بنية الخلية الدماغية؛ تلك الأوليات لا تُتَعَلَّمُ ولا يفترض خلو الذهن منها، لأنها القاعدة اللازمة والأساس الضروري لكل المعارف المكتسبة. وهذه الفرضية تكاد ترادف فكرة الإلهام والتسخير التي تقابل الوضع والاصطلاح في الفكر اللغوي العربي القديم. للمزيد من التفصيل، انظر: د. محمد الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم.

 

(1/14814)

 

 

المذكورة آنفاً سيهيئها قطعاً لأن يكون مقتنصها كلياً، أو تكون حصيلتها نسقاً من المبادئ والقواعد الكلية (= النحو الكلي).

... ولعل أول سؤال ينقدح في الأذهان هو كيف الوصول إلى معرفة النحو الكلّيّ؟ مع العلم أنه ينفلت للملاحظة بكل أشكالها. وبعبارة أخرى، بِمَ تنصح النظريةُ اللسانية لكي ينتهي الباحث في إطارها إلى إقامة نموذج نحويّ مشاكلٍ للغة البشرية بنية ووظيفة؟

... إن أول شرط منهجي يجب الالتزام به هو ضرورة التقيد بمبدإ الانسجام الداخلي للنسق المنطقي، بحيث لا نقبل من العبارات القضوية الممكنة إلا ما

 

(1/14815)

 

 

كان متضمناً في مقدمة الانطلاق، أو مستنبطاً من مصفوفة النسق المنطقي بواسطة قاعدة برهانية(1). بالامتثال لمبدإ الانسجام، تستطيع النظرية أن تميز داخل الممكن بين وارد يجب الأخذ به وناب يتعين إهماله.

... إذن، انطلاق النظرية اللسانية من فرضية العمل الطبْعية يُحتم عليها أن تُقر بأن مبادئ النحو واحدة، وأسن قواعده مشتركة بين جميع اللغات البشرية. وإذا تساءلنا عن كيف حصلت لنا المعرفة

__________

(1) راجع منهجية الاستنباط في الفصل السادس من كتاب تارسكي "مدخل إلى المنطق". (Alfred (Tarski , Introduction à la logique.

 

(1/14816)

 

 

بالمعلومة المعبر عنها بقولنا: ”إن جميع اللغات تشترك في المبادئ نفسها المؤسسة لقواعد الأنحاء الخاصة بها“، كان الجواب في أن هذه المعلومة متوقعة ضمنيّاً من فرضية الانطلاق(1). وهي معلومة واردة في إطار نظرية تفترض أن كل متكلم، في أي مكان أو زمان، يُولد مزوَّداً بملكة لغوية مستقرة في عضو ذهنيّ، وقد طُبعت، في خلايا هذا العضو، معارف لسانية واحدة. نذكر منها على سبيل التمثيل ما صيغ في الذهن

__________

(1) انظر المفهوم من الحد الضمني المقابل العربي للفظ الأجنبي (Définition implicite) في: بوبر، منطق المعرفة العلمية.

 

(1/14817)

 

 

على صورة الأمر، كمبدإ التعلق البنيوي(1) في (1. أ)، أو على صورة الشرط، كمبدإ تجنب الضمير(2) في (1. ب)، أو على صورة النهي، كقيد السوج المعين(3)

__________

(1) يعتقد شومسكي أن المعارف اللسانية الطبعية المرقونة خلقةً في خلايا العضو الذهني تكون مصوغة صياغة الأوامر. للمزيد من التوضيح، انظر كتابه: تأملات في اللغة. Chomsky, Réflexions) sur le langage).

(2) انظر شومسكي، نظرية العمل والربط، ص. 119، 430؛ والأوراغي، المبحث 4.6.3 في: الوسائط، ج 1، أفول اللسانيات الكلية.

(3) ... ”قيد السَّوْجِ المعيَّن“ المقابل العربي لما سماه شومسكي (Condition du sujet spécifié). انظره في الفصل الثالث من كتابه: "نظرية العمل والربط" (Chomsky, Théorie du gouvernement du liage )؛ وانظر أيضاً ”قيد الجزر الاسمية“ (NIC) في مقاله “On Binding”، صص. 1 ـ 46 ضمن: Linguistic Insquiry 11.

 

(1/14818)

 

 

في نحو (1. ج) مما يلي:

 

(1) . ( أ ) . ”كوِّنْ قاعدة متعلقة بالبنية، وأهمل كل قاعدة مستقلة عن البنية“.

... (ب) . ”متى قدروا على المتصل، لم يأتوا مكانه بالمنفصل“.

(ج ) . يمتنع ربط المركب س الموجود داخل المركب ج بغير الواقع خارج ج إذا كان ج يحتوي على سَوْجٍ مغاير للمركب س.

 

... وبمثل هذه المعارف الطَّبْعِيّة يقوى المتكلم، بشرط أن يتصل بلغة محيطه، على تكوين نسق من القواعد النحوية وإتقان استعماله.

... وإذا علمنا مصدر ما في النحو من كليات تصدق في جميع اللغات، فكيف الوصول إلى استكناه تلك المعارف

 

(1/14819)

 

 

اللسانية الكلية؟ إجابةً عن هذا السؤال، يقترح اللساني ذو التوجه الاصطلاحي الضوابط المنهجية التالية:

 

(2) . ( أ ) . افرض وجود معارف لسانية منسوجة في الملكة اللغوية لدى كل متكلم مهيّأ بتلك المعارف الخلْقِيّة لأن يتعلم أي لغة.

(ب) . إذا ثبت بدراسة دقيقة للغة معينة وجود خاصية بها تعكس معلومة طبْعِيّة، وجب أن تكون تلك الخاصية، تبعاً للضابط المنهجي (2. أ)، مبدأ كلّيّاً تحضع له جميع اللغات البشرية(1)

__________

(1) عبر شومسكي عن مبدإ التعميم الموصوف أعلاه في مواضع كثيرة من كتبه، منها قوله: إن القيام بتحليل عميق للغة الواحدة ليوفر الوسائل الكفيلة بالكشف عن خصائص النحو الكلي. وقد قاده هذا الاعتقاد إلى فرضيته الشهيرة التي تقول: إن ما يصح في الأنجليزية يحتمل أن يكون كلياً يستغرق جميع اللغات البشرية. للمزيد من التفصيل، انظر كتبه: دراسات في الصورة والمعنى (Essais sur la forme et le sens)؛ ومسائل الدلالة (Questions de sémantique)؛ ونظرية العمل والربط (Théorie du gouvernement et du liage).

 

(1/14820)

 

 

.

(ج) . نتيجة الضابط (2. ب) تُمحَّصُ مراسيّاً بالبحث في اللغات الخاصة عن وقائع لغوية واردة بالنسبة إلى المبدإ الكلّيّ المستخلص من دراسة لغة خاصة.

(د) . استناداً إلى طبيعة العلاقة(1) التي تقيمها النظرية الاصطلاحية بموضوعها المتشكل كما تحددت في (المبحث 1. 1)، يجب، أثناء الفحص المراسي، ألاَّ تؤْخَذَ بعين الاعتبار معطيات اللغات

__________

(1) للوقوف على طبيعة العلاقة القائمة بين النظرية وموضوعها، انظر: يلمسليف، مقدمات إلى نظرية لسانية. (Prolégomènes à une théorie du langage)؛ وبوبر، منطق المعرفة العلمية.

 

(1/14821)

 

 

الخاصة إذا خالفت مبدأ أو قاعدة في النحو الكلّيّ.

 

... بالنظر إلى اجتذاب الأنجليزية لأكثر اللسانيين المعاصرين ولأقدرهم تنظيراً، وجب أن تكون هذه اللغة، عملاً بالضابط المنهجي (2. ب)، هي الأكثر خضوعاً للدراسة اللسانية المعمقة. ومن تحليل أولئك اللسانيين لـ ”مركب القواسم“(1)

__________

(1) يشمل مركب القواسم each other كما تستعمله اللغة الأنجليزية في مثل: they want each other to win، ومرادفه في الفرنسية les uns les autres كما في نحو: ils ont promis à leurs épouses d’aller les uns chez les autres. ومثل ذلك ”بعضهم بعض“ المستعمل في العربية كما في العبارة: ”هم وعدوا أبناءهم بزيارة بعضهم بعضاً“. (للمزيد من التوضيح، انظر المبحثين: 4. 2. 2. 3 و4. 2. 3. 3 في: الأوراغي، الوسائط اللغوية).

 

(1/14822)

 

 

، كما تستعمله الأنجليزية، سوف ينبجس من الذهن ”قيدُ السوج المعين“ المصوغ في العبارة (1. ج)، ويُعمَّم بعد ذلك على سائر اللغات.

... تفعيلاً للضابط المنهجي (2. ج)، تكون العربية، بتجويزها للتراكيب (3) الآتية، قد استجابت لقيد السوج المعين، فامتنع فيها ربط المركب (بعض ـ ضمير بعض) بالسابق (هم) في مثل الجمل (3) التالية.

 

(3) . ( أ ) . هم رأوا غرباناً يتناول بعضهم بعضاً.

(ب) . هم لم يسمحوا للراقنات بمساعدة بعضهن بعضاً.

(ج ) . هم طلبوا منكم عدم تقديم بعضكم بعضاً.

 

(1/14823)

 

 

... وبخلاف ما سبق، يظهر مركب القواسم (بعض ـ ضمير بعض) في الجمل (4) التالية مرتبطاً بالسابق (هُمْ / هُنَّ).

 

(4) . ( أ ) . هم وعدوا زوجاتهم بزيارة بعضهم بعضاً.

(ب) . هم أخبروكم بدعوة بعضهم بعضاً.

(ج ) . هنَّ طلبن من رؤسائهن مساعدة بعضهن بعضاً، فأبوا.

( د) . هنَّ سبق استأذنَّ الأزواج برد زيارة بعضهن بعضاً، لكنهم أنكروا.

 

... وبموجب قيد السوج المعين المصوغ في (1. ج)، يلزم اللغة العربية ألاّ تُجَوِّز جملةً في المجموعة (4)، وإلا اعتُبِرت لغة غير طبيعية وشاذة. وبمقتضى الضابط المنهجي الموصوف في

 

(1/14824)

 

 

العبارة (2. ج)، يجب على اللساني، وهو يفحص مراسيّاً القيد المذكور في لغته الخاصة، ألا يأخذ بعين الاعتبار أحكام المتكلمين الأشهاد إن هم جاوزوا مثلاً جمل المجموعة (4)، لأن حكمهم هذا لا يستند في نظر الاصطلاحيّ إلى نسق منطقيّ يُمَكِّنُهم من تأويل وقائع لغتهم تأويلاً سليماً.

... إذن، لا يحق للغة الخاصة، كالعربية ونحوها من اللغات المختبرية، ولا للناطقين بها أن يجوزوا تركيباً إذا نقض مبدأ كلياً. عن هذا المعنى تعبر النظرية اللسانية الاصطلاحية بقول أصحابها: إن الشواهد الملحوظة في معطيات اللغات الخاصة

 

(1/14825)

 

 

يجوز استعمالها لاختبار قواعد التركيب المقترحة، لكن ليس لها أن تدعم أو تنقض مباشرة شرطاً كليّاً، لأن ذلك من اختصاص قواعد التركيب. هذا الأصل الاصطلاحي الذي صاغه شومسكي(1) في مواضع من أعماله المتعددة بعبارات متغايرة يمكن إجماله بواسطة المبيان (5) الآتي:

(5)

... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

... وإذا ثبت، من دراسة معمقة ودقيقة للعربية في إطار نظرية لسانية نسبية، أن النسق النمطي لهذه اللغة يُجَوِّز تراكيب الجمل (4) التي تمنعها نظرية

__________

(1) راجع المدخل من كتاب شومسكي، دراسات في الصورة والمعنى.

 

(1/14826)

 

 

النحو الكلي بقيد السوج المعين، فكيف ينحل التدافع بين توقعات النظرية وواقع اللغات الخاصة؟

... إن إعادة التوافق بين توقعات نظرية النحو الكلي ووقائع اللغات الخاصة لا يحصل أبداً، تبعاً للتوجه الاصطلاحي في اللسانيات، عن طريق إدخال تعديلات على البناء المنطقي للنظرية، بل يجب التمسك بالنظرية والمحافظة عليها مع إعادةِ النظر في نتائج الدراسة والطعنِ في القدرة العلمية للباحث(1)

__________

(1) للاصطلاحيّين طرق عدة لتحصين نظريتهم المهددة بالانهيار. راجعها في فصول القسم الأول من كتاب بوبر، منطق المعرفة العلمية؛ وفي المبحث 2. 4 من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14827)

 

 

. للتأثير اتجاه واحد، ينطلق من النظرية ليحط بموضوعها اللغة. وهذا المبدأ الاصطلاحيّ يردده المنظرون حتى أتباعهم، كما يظهر بصريح العبارة من قول بعضهم(1):

... النظريات التي بلغت درجة من العمق التفسيريّ في مجال محدود يجب ألا تنحّى بمجرد تقديم الحجة على كونها

__________

(1) انظر د. عبد القادر الفاسي الفهريّ وهو يردد نزعة اصطلاحية تخص طبيعة العلاقة القائمة بين النظرية اللسانية الكلية والوقائع التجريبية، في مقاله ”عن أساسيات الخطاب العلمي والخطاب الأدبي“، ضمن: المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، صص. 43 ـ 63.

 

(1/14828)

 

 

تتعارض مع التجربة كما تظهر في الحس العادي، ويجب أن يتوفر الاستعداد عند الباحثين لاحتمال أن تظل بعض الظواهر بدون تفسير، والتسامح في وجود بعض الحجج المضادة، خصوصاً وأن اللسانيين يترددون، في كثير من الأحيان، في تحديد نوع الحجج الواردة بالنسبة لنظرية معينة.

وبمثل هذا الحديث المتكرر بكثرة في أعمال الاصطلاحيين يظهر بوضوح أن هؤلاء، أيّاً كان مجال تفكيرهم، لا يسمح اللساني منهم للوقائع اللغوية المضادة بأن تؤثر تعديلاً في ”الرواسم الأولية“(1)

__________

(1) نستعمل الرواسم الأولية بمعنى termes primitifs في الفصل السادس من كتاب تارسكي، مدخل إلى المنطق.

 

(1/14829)

 

 

ولا في البناء المنطقي للنظرية اللسانية. وكأن بهؤلاء لا يترددون في التسليم بصدق العبارة (6) الآتية:

(6) . البناء المنطقي لنظرية النحو الكلي يتوقع، بقواعد البرهانية، معارف لسانية يقينية، إذا لم تصدق في كل اللغات البشرية فلخلل واقع خارج النظرية.

... إنها معارف لسانية، لانتمائها إلى ميدان اللغة، وكلية باعتبار فرضية العمل الاعتباطية التي تؤسس نظرية اصطلاحية، ويقينية من حيث منهجيَّةُ الاستنباط المستعملة لاقتناصها لا من حيث صحتُها في جميع اللغات البشرية. وكل معرفة توافرت فيها هذه الخصائص الثلاث فضلاً

 

(1/14830)

 

 

عن نسقيتها، أمكن إدراجها في ضرب ”المعرفة النظرية“. ولا يعنينا من ”المعرفة النظرية“، كما وضحنا في مقدمة هذا العرض والتزمنا به في سائر مباحثه، إلا ”المعرفة النظرية الحقلية“(1)

__________

(1) من المعرفة النظرية ما يكون ”بحتاً“، فلا يتناول أي حقل من الموضوعات، بل لا تطلعنا هذه المعرفة النظرية البحتة على شيء في العالم الذي يحيط بنا، لأن مثل هذه المعرفة تكون مستنبطة بتطبيق قواعد صورية يشكل بناؤها الصارم نسقاً رياضيّاً بحتاً. للوقوف على هذا الضرب من المعرفة، انظر الفصل الأول من كتاب رودلف كارناب، الأسس الفلسفية للفيزياء. (Rudolf Carnap, Les fondements philosophiques de la physique).

 

(1/14831)

 

 

، وهي المنتمية إلى حقل علمي بعينه كاللسانيات، دون غيره من الحقول الأخرى كالفيزياء والإحيائيا والفلك، ونحو ذلك من حقول العلم الخاصة.

...

1. 3 ـ خصائص المعرفة النظرية

... تبيَّن أن المعرفة تكون نظرية وإن كانت حَقْلِيَّة، وأن ”المعرفة النظرية الحقلية“ تتميز بخصائص يمكن إجمالها في ما يلي:

... أولاً: كونها ”نسقية“، بمعنى أن حصولها للعارف يكون بواسطة نظرية يمكن بناؤها المنطقيُّ المحكم من إقامة نموذج مطابق، بنيةً ووظيفةً، لحقل معين من الموضوعات. خاصية النسقيَّة هذه، وإن تقاسمتها كل من ”المعرفة

 

(1/14832)

 

 

النظرية“ و”المعرفة العلمية“، فهي مميزة بالقياس إلى ”المعرفة العادية التي تختص بقيامها على ”الإدراك المباشر“، كما سيتبين بعد قليل.

... ثانياً: كونها ”يقينية“. وهذه الخاصية مقصورة على ”المعرفة النظرية“ المستنبطة بقواعد برهانية صورية من مصفوفات النسق (وهي مقدمات لا تحيل على واقع). وكل معلومة يقينية، فهي صادقة وإن لم تصادف واقعاً في لغة. إذن ”القيمة الصدقية“ المسندة إلى المعلومة اليقينية تُناط بمنهجية استنباطها لا بمعيار مطابقتها للواقع.

 

(1/14833)

 

 

... ما أوردناه في شأن هذه الخاصية يمكن توضيحه بمثال بسيط، يعرفنا بكيفية بناء نسق صوريّ منتج في نظرية النحو الكلّيّ للمقولات المعجمية التي تتقاسمها جميع اللغات البشرية.

 

... إقامة نسق صوري يحتاج إلى: التحديد المسبق لعدد محصور من الرموز(1)، كعلامتي الإيجاب

__________

(1) ينظر في موضوع منهجية بناء الأنساق الصورية: تارسكي، مدخل إلى المنطق Alfred Tarski) Introduction à la logique)؛ وكارناب، الأسس الفلسفية للفيزياء. (Rudof Carnap, Les fondements philosophiques de la physique)؛ وكارل بوبر، منطق المعرفة العلمية.

 

(1/14834)

 

 

(+) والسلب ( ـ )، إضافة إلى ”س“ علامة ”الموضوع“ الذي يشمل الاسم والصفة، و”ف“ علامة ”المحمول“ الذي يتناول الفعل والصفة(1). ثم اتخاذ السمات: [+ س]، [+ ف] أساساً لتكوين النسق الصوري ([+ِ س]، [+ِ ف]). وأخيراً، حصر ما يوفره هذا النسق من الاحتمالات الضرورية منطقيّاً، لنحصل في النهاية، من النسق الصوري (7 أ)، على الأقسام الأربعة الممكنة (7 ب)، كما يتضح مما يلي:

 

(7) . ( أ ) . ([+ِ س] ، [+ِ ف]).

__________

(1) راجع المبحث 2. 3. في: شومسكي، نظرية العمل والربط؛ والفصل الأول من كتابه: The Minimalist Program.

 

(1/14835)

 

 

... (ب) .[+ س + ف] تمثيل لمقولة الصفة.

... [ـ س ـ ف] تمثيل لمقولة الأداة.

[+ س ـ ف] تمثيل لمقولة الاسم.

... [ـ س + ف] تمثيل لمقولة الفعل.

 

... ندرك يقيناً أن النسق (7 أ) يولِّد بالضرورة المنطقية الأقسام الأربعة (7 ب) ليس غير. ومع ذلك، لا نستطيع الجزم باليقين نفسه أن هذا التقسيم الرباعي كلِّيٌّ (أي كل اللغات البشرية تتقاسم هذه المقولات الأربع لا أقل ولا أكثر) (1)

__________

(1) عدد أقسام الكلم قد يختلف حتى داخل اللغة الواحدة، وذلك بحسب منطلقات الدارسين. ففي العربية مثلاً وجد سيبويه ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف، وبلغ العدد في مقترح تمام حسان سبعة: الاسم والصفة والفعل والضمير والخالفة والظرف والأداة، كما في كتابه، اللغة العربية معناها ومبناها، ص. 90. ووجدنا بمعيار مغاير غير ذينك العددين بمقولات أخرى، هي: اسم جوهر، اسم زمان، فعل تام، فعل ناقص، صفة، أداة. (انظر: الأوراغي، الوسائط اللغوية، مرجع سابق).

 

(1/14836)

 

 

حتى وإن سلمنا بفرضية العمل الطبْعيّة التي من مستلزماتها قولهم: ما صحّ في لغة معينة وجب أن يصح في سائر اللغات.

... لا أحد ينكر كون الأقسام (7 ب) مستنبطةً بالضرورة المنطقية من النسق (7 أ)، لكن لا أحد أيضاً يستطيع أن يتوصل من النتيجة [ ـ س ـ ف] إلى معرفة ماهية هذه المقولة، وكذلك الحال في باقي المقولات. وكأننا مدعوون إلى معرفة الماهيات من جهة أخرى، وبمنهجية غير المنهجية، حتى إذا تصورناها تمام التصور ألصقنا بها الصيغ الرمزية في (7 ب)، ومع تلك الدعوة نستلزم تحذيراً بضرورة رفض كل ما نجده من تلك الجهة

 

(1/14837)

 

 

مخالفاً للنتائج المستنبطة، كان الاختلاف في الكم أو في الكيف، وبذلك تثبت خصيصة اليقينية للمعرفة النظرية، نُعبر عنها من جديد في ما يلي:

(8). النتيجة المستنبطة بقواعد صورية معلومة يقينية وإن لم تصادف واقعاً، أو كان في الواقع ما لم تصادفه.

 

... ثالثاً: الخصيصة الثالثة المميزة للمعرفة النظرية متمثلة في كلية النتائج المستنبطة، وعلى هذه الخصيصة انبنت نظرية النحو الكلي المستخلص من دراسة مدققة للغة الأنجليزية. ومن كليات النحو نذكر مبدأ تأصيل اللغات لأبنيتها القاعدية(1)

__________

(1) راجع في مسألة الرتبة الفصل الثالث من كتاب: الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1.

 

(1/14838)

 

 

المصوغ بالعبارة (9) التالية:

 

(9) . ( أ ) . لكل لغة بنية قاعدية ذات رتبة قارة تؤصلها بانتقاء أحد التراتيب الستة (9 ب) المحتملة من القسمة العقلية للثلاثي.

(ب) . فا(عِلٌ) ـ فِعْـ(ـلٌ) ـ مَفْـ(ـعُولٌ).

فِعْـ(ـلٌ) ـ فَا(عِلٌ) ـ مَفْـ(ـعُولٌ).

فَا(عِلٌ) ـ مَفْـ(ـعُولٌ) ـ فِعْـ(ـلٌ).

 

... وبتأصيل لغات كالأنجليزية للترتيب: فا(عِلٌ) ـ فِعْـ(ـلٌ) ـ مَفْـ(ـعُولٌ)، قد تسمح بتفريع ترتيب آخر، فاحتاجت كل اللغات إلى قاعدة تحريك كلية تسمى عادة بقاعدة ”انقل الألف“، وهي تسمح بنقل أيّ مقولة إلى أي موقع، مع ضبط

 

(1/14839)

 

 

هذا النقل بقيود لاختيار المنقول ومكان إقامته.

... إن مبدأ تأصيل الرتبة لمكونات البنية القاعدية، وقاعدةَ التحريك اللازمةَ عنه، إذا نقضت كليَّتَهما معطياتٌ لغويةٌ وجب إعادة التوافق بينهما، لكن ليس بإدخال تعديل على الكلّيّ ليقينيته، ولا بالتشكيك في المعطيات الداحضة لثبوتها القطعي، وإنما باصطناع ”فرضيات عينية“ تُلحق بالنظرية عند الحاجة لتقوم بدورين في آن واحد: (أ) أن تساعد النظرية على الصمود وتحميها من الانهيار، بسبب تصاعد توقعاتها المناقضة لواقع اللغات، (ب) أن تُناط بها المميزات الملحوظة في اللغات

 

(1/14840)

 

 

الخاصة. وما جمع، فصلاً عن الإلحاق المتأخر، بين هاتين المهمتين من تلك الفرضيات فهو البرمتر في حقل اللسانيات.

... نخلص من هذا المبحث الأول إلى أن اللسانيات الكلية نظرية نحوية، أساسها فرضية عمل اعتباطية، ومنهجيتها قواعد استنباط صورية، ونتائجها معرفة نظرية تتسم بالنسقية واليقين والكلية. وهي نظرية مُبَرمَتَةٌ، إذ تستعين بفرضيات عينية لحل تناقضاتها مع بعض اللغات.

... وما سقناه في موضوع اللسانيات الكلية يدعونا بكل إلحاح إلى إقامة مقترح يتجاوز، بالمعنى العلومي للتجاوز، نظرية النحو الكلي، بإدماجها في

 

(1/14841)

 

 

نظرية أعم للسانيات النسبية.

 

2. لسانيات نسبية ومعرفة علمية

... اللسانيات النسبية نظرية تؤسسها ”فرضية مراسية“ تفيد أن اللغات البشرية ”ملكات صناعية كسْبية“. ويلزم عن محتوى هذه الفرضية أن تتميز بخصائص ثلاث: ...

... أولاً: كونها قضية واقعية تحيل على موجودات في المحيط الخارجي يتم اقتناصها مراسياً(1)

__________

(1) ثبت أن الفرضيات المؤسسةَ للنظريات إما اعتباطية لا تحيل على شيء في المحيط الخارجي، وإما مراسية مرتبطة بواقع. وهذه الأخيرة ”حدود، ومقدمات واجب قبولها في أول العقل أو بالحس والتجربة أو بقياس بديهي في العقل“ (ابن سينا، البرهان، ص. 59؛ راجع أيضاً رودلف كارناب وهو يفرق بين القوانين المراسية (Lois impliquées) والقوانين الكلية (Lois universelles) في كتابه: الأسس الفلسفية للفيزياء؛ وراجع كذلك كارل بوبر، حيث يدافع في كتابه: منطق المعرفة العلية، عن تصوره للأقاويل الجزئية (ةnoncés singuliers) في مقابل الأقاويل الكلية (ةnoncés universels) لدى الاصطلاحيين.

 

(1/14842)

 

 

. ولارتباط محتواها بالواقع، صارت تقبل الإثبات وتحتمل النقض(1). وإذا لم تثبت عند الفحص، وجب إدخال التعديلات اللازمة

__________

(1) الفرضيات المؤسسة للنظريات قابلة للإثبات دون السقوط في إقامة براهين بلا نهاية، ولا في الدور: كالبرهنة ببعض الفرضية على بعضها الآخر. وهو ما يؤكده ابن سينا بقوله: ”لكل واحد من الصناعات، وخصوصاً النظرية، مبادئ وموضوعات ومسائل. والمبادئ هي المقدمات التي منها تُبرهِن تلك الصناعة، ولا تُبرهَن هي في تلك الصناعة... وإنما تُبَرْهَنُ في علم فوقها أو في علم دونها “. (البرهان، ص. 98).

 

(1/14843)

 

 

عليها وعلى النظرية المستندة إليها.

... ثانياً: كون اللغة داخلةً في الملكات الصناعية يترتب عليه أن تكون موضوعة بالاختيار. وما هو كذلك يجب أن يكون مختلفاً في حدود ما تسمح به الإمكانات الاختيارية.

... ثالثاً: اللغة إذا حلت بالعضو الذهني(1) المهيّإ خلْقَة للانصياغ، شكّلته

__________

(1) سبق أن أثبتنا أن البنية الخلوية للأعضاء الدماغية تمتاز عن غيرها بتهييء العضو الذهني للتشكُّل ببنية ما يحل فيه فيكتسب عندئذ قدرةً عمليةً. (للتوسع في الموضوع، انظر: الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، مصدر سابق).

 

(1/14844)

 

 

ببنيتها وكوَّنت له القدرة على فعل الكلام.

... اتضح، مما سقناه في الفقرة أعلاه، أن التأثير متبادل بين النظرية وموضوعها، وأن اتجاهه في البدء يجب، بمقضى الفرضية المراسية، أن ينطلق من اللغات نحو النظرية، مما يجعل من اللسانيات النسبية نظرية لأنحاء نمطية. نظرية تكون جميع توقعاتها اللسانية نمطية، أو تتوقع لكل الأنماط اللغوية القواعد النحوية المناسبة.

 

2. 1 ـ بناء النظرية اللسانية النسبية

... من انشغالات اللسانيات النسبية ضبط بناء النظرية بما يجعلها تتوقع الأنماط اللغوية الممكنة والقواعد النحوية التي

 

(1/14845)

 

 

تصادف واقعاً في نمط بعينه. ولكي تستجيب نظرية اللسانيات النسبية للضابط المذكور، يلزمها أن تجعل من ”الفرضية الكسبية المراسية“ (1)

__________

(1) من خلال المقارنة بين لغة الحيوان ولغة الإنسان، تبين لابن سينا أن الضرورة الخِلْقِيّة تحتم أن تكون الأولى طبْعية لأن الحاجات البيولوجية للحيوان متناهية، فأُقْدِر كل صنف من هذا النوع على التواصل بلغة محدودة على قدر الافتقار. ولما كانت أغراض الإنسان غير محدودة، لزمته لغة على قدر الحاجة، بإمكانات غير متناهية. وغير المتناهي متجدد، والمتجدد وضعي. بل إن الضرورة الخِلْقيَّة للإنسان هي الباعثة له على اختراع لغاته، كما نص على ذلك ابن سينا بقوله: ”ولما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاور، انبعثت إلى اختراع شيء =

= ... يُتوصَّلُ به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلاً، ولم يكن أخفَّ من أن يكون بالتصويت... فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت، ووُفِّقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معاً ليُدَلَّ بها على ما في النفس من أثر“. (كتاب العبارة، ص. 2. وللمزيد من التفصيل، انظر أيضاً القسم الأول من كتاب الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم؛ والمقالة الخامسة من كتاب ابن سينا، النفس، ص. 181).

 

(1/14846)

 

 

أساساً لبنائها؛ كما يجب أن يكون بناؤها(1) قالَبيّاً وجوبَ أن تكون هذه القوالب نمطية.

... إن النمطية تعني هنا الجمع بين إثبات الاختلاف للغات البشرية، وبين منْع اختلافها من الانتشار الواسع، مع توقُّعِ إمكان إرجاعه إلى أقل عدد بعد

__________

(1) للقالبية في اللسانيات النسبية تصور مغاير لما هي عليه في كل من النحو التوليدي التحويلي والنحو الوظيفي. للتوسع في الموضوع، انظر الفصل السابع ”فصوص اللغات وقوالب اللسانيات“ في كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 2، اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية، انظر الطرة 49.

 

(1/14847)

 

 

الواحد الكلي. ولا سبيل إلى حصر من هذا الضرب بغير استثمار على نطاق واسع لمبدإ التقابل الثنائيّ بين شبكتين محتملتين من ”الوسائط“(1). وليكون هذا الاستثمار نسقيّاً، تعين أن تكون الوسائط من مقومات النظرية اللسانية التي تتوقع قواعد نمطية، وأن تكون داخلة في تشكيل بنيتها المنطقية التي تنتج معرفة علمية.

__________

(1) نستعمل هنا الوسيط بمعنى مغاير لمدلول البرمتر في نظرية النحو الكلي. راجع الفصل الثالث ”برمترات النظرية ووسائط اللغة“ في كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14848)

 

 

... إثارةُ الاختلاف النمطي لا يترتب عليه عدم ائتلاف اللغات من كل وجه، لأنه يكفي أن نعتبر الطبيعة الرمزية للغة لنتبين أن كل اللغات، مهما اختلفت بنيتها النمطية، فهي عالم رمزيّ يعكس بصدق انتظام الأشياء في عالم تصوّريّ مطابق لعالم واقعيّ (1)

__________

(1) للوقوف على الطابع المرآتي المخلوع في التقليد الغربي على اللغة، انظر كتابي شومسكي، اللسانيات الديكارتية (Linguistique cartésienne) و تأملات في اللغة (Reflexions sur le langage) ؛ انظر أيضاً مقدمة الطبعة الأنجليزية لكتاب بوبر، منطق المعرفة العلمية، مصدر سابق.

 

(1/14849)

 

 

. واللغات، من جهة ما تعكس، يجب أن تتوحد ولا تختلف. فهي واحدة من جهة المعبر عنه، ونمطية من جهة العبارة.

... هذا الطابع الازدواجيّ المميّزُ للغات البشرية بلغ من البيان في الفكر العربي القديم حتى لاكَتْهُ الأقلام على اختلاف تخصصات أصحابها. وأوضح عباراته قول الغزالي:

... إن الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقته في نفسه؛ الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعبر عنه بالعلم؛ الثالثة تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس؛ الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة

 

(1/14850)

 

 

البصر دالة على اللفظ، وهو الكتابة. فالكتابة تَبَعٌ للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تَبَعٌ للعلم إذ يدل عليه، والعلم تَبَعٌ للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأوليْن وجوديان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخَرَيْن، وهما اللفظ والكتابة، يختلفان في الأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار (1).

 

... ولا يعنينا من تلك المراتب الأربعة سوى وجود الشيء في المرتبتين الثانية والثالثة، لأنه في المرتبة الثانية يكون وجودياً، أي ثابتاً

__________

(1) ... الغزالي، المستصفى، ج 1، ص. 21.

 

(1/14851)

 

 

في أذهان كل الأقوام بغض النظر عن لغاتهم الخاصة. ولوقوعه في هذه المرتبة، نسميه تبعاً للغزالي ”نُطْقاً“(1)

__________

(1) يعبر الغزالي عن تصور النظار للنطق والكلام والقول وعن علاقة التشارط القائمة بين هذا الثلاثي فيقول: ”النطق ليس هو صورة العبارة، ولا نفس الإشارة، ولا شكل الحروف، ولا تقطيع الأصوات، بل النطق هو تمكن النفس الإنسانية من العبارة عن الصورة المجردة المتقررة في علمه، المفردة في عقله، المتبرئة عن الأشكال المعراة عن الأجسام... وهو أصل الكلام والقول... لأن كلامنا أثر نطقنا... قبل إلقاء القول عليه... والكلام يحتاج إلى عبارة ونظم ولفظ ليصير قولاً... ولا يظهر القول إلا بواسطة الصوت... فالقول إذا صدر عن لسان المتكلم وانتظمت عبارته، يحمله الهواء... ويبلّغ المعاني الملبوسة المركبة المرتبة إلى آذان المستمعين“. (الغزالي، المعارف العقلية، مصدر سابق، صص. 30 ـ 69).

 

(1/14852)

 

 

؛ ولثباته في أذهان الجميع وسريانه في كل اللغات، استحق محتوى ”النطق“ أن يتصف بالكلية بالمعنى الوارد للنسبية في النظرية اللسانية. وإذا أصبح الشيء موجوداً في المرتبة الثالثة، انقلب عندئذ وضعياً بالاختيار، وصار متغير الهيئة عبر الزمان، ومتبدل الصورة بين لغات الأمم. وما كان كذلك نسميه مع الغزالي ”القول“. وبما أن تغيُّر هذا الأخير يكون في حدود ما تسمح به الوسائط، استحق ”القول“ أن يتصف بالنمطية.

... تبين مما تقدم أن ”النطق الكلّيّ“ يعد شرطاً ضروريّاً لتكوُّن ما بعده، وإذا صح أن ”القول النمطيّ“ يُشكل،

 

(1/14853)

 

 

بموجب طبيعته المادية، صورة مطابقة لما قبله لاح فراغ في النسق المفهوميّ للنظرية وفي لغتها الاصطلاحية، لأن السابق الكلي لا يكون شرطاً مباشراً للاحق النمطي الذي تجبره طبيعته المادية على أن يكون مطابقاً لأصله. ولسد هذا الفراغ، تعين إدخال مصطلح ”الكلام“ بوصفه أصلاً للقول وشرطاً مباشراً لتكونه.

... ظهر أن ”الكلام“ بمثابة حلقة وصل، لأنه يجمع في آن واحد بين كونه ”لاحقاً وأصلاً“؛ فهو ”أصل“ لصورته، لأنه يُعَدُّ شرطاً كافياً لتكَوُّن القول بعده، و ”لاحقٌ“، لأن سابقَه ”النطق“ شرط لا يكفي لتكوُّن ”الكلام،

 

(1/14854)

 

 

لأن ”النطق“ ليس سوى جزء من الشرط التام، جزؤه الثاني ”الوسائط“، ومن مجموع ذلك؛ ”النطق الكلي والوسيط الاختياري“ يتشكل ”أصل“ ضروريّ لتكوُّن ”كلام نمطيّ“، يُعَدُّ بدوره أصلاً لصورته ”القول النمطي“، لأن المطابق للنمطيّ يجب ان يكون نمطيّاً مثله.

... اتضح أن ”النطق الكلّيّ“ مثل ”الكلام النمطي“ في استرفاد العون من ”الوسيط الاختياري“؛ إلاّ أن ”النطق“ يفتقر إلى ”الوسيط“ ليخرج به من مجرد ”سابق“ ويشكل معه ”أصلاً“ وشرطاً كافياً لما بعده، بينما ”الكلام“ يحتاج إلى ”الوسيط“ ليضمن لنفسه، بالرغم من نمطيته، أن

 

(1/14855)

 

 

يكون صورة مطابقة للكلّيّ قبله.

... كل المفاهيم الواردة في الفقرات السابقة يمكن من جديد تقديمها دفعة واحدة وتنسيقها بعلاقة التعدية القائمة بين ”الصورة“ و”أصلها“، كما يكشف عن ذلك البناء المبياني التالي:

 

(10) .

[العالم الخارجي]

 

[النطق الكلي] + [وسائط اختيارية] [كلام نمطي] (قول نمطي).

 

... كَوَّنّا حتى الآن المفاهيم الرئيسة التي تدخل في تشكيل البناء النظريّ للسانيات النسبية، وبيَّنَّا كيف تترابط فيما بينها وتتسق. ومع ذلك كلّه، لابد من تحليل دقيق ومفصل لكل عنصر في المبيان (10) أعلاه.

 

(1/14856)

 

 

2. 2 ـ كليات اللسانيات النسبية ووسائطها الاختيارية

... دفعاً للتطويل، نكتفي بالإشارة العابرة إلى أن التعدية بين ”العالم الخارجي“ وبين ”عُدَّةِ الاكتساب“ (1) تبادلية؛ بمعنى أن هذه العلاقة تقوم أوّلاً بين أصل سابق يتمثل في الحقائق الثابتة في العالم الخارجي، وبين ”صورته اللاحقة“؛ وهو المعنى أو مثال الحقيقة المرتسم في الذهن. وتقوم ثانياً

__________

(1) مدة الاكتساب تشمل قوى النفس المعرفية وقواها التعلمية. للمزيد من الإيضاح، انظر القسم الأول من كتاب الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، مصدر سابق.

 

(1/14857)

 

 

بين ”سابق“ (وهو ”معنى“ يتولد أصلاً في الذهن من المثال المرتسم ومعه إحدى علاقات ... التوليد؛ كالمخالفة والمماثلة واللزوم ونحو ذلك من العلاقات المولدة للمعاني الذهنية)، و ”لاحقه“ الذي يشكل حقائق ممكنة يُسقطها الذهن على العالم الخارجي، سواء أكانت تلك الحقائق لزومية أو احتمالية أو تخييلية (1).

... من علاقة التعدية التبادلية التي تقوم بين العالم الخارجي المنتظم على وجه كلي وبين عدة الاكتساب

__________

(1) للتوسع في الموضوع، راجع الفصل الرابع من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14858)

 

 

المهيَّأة للتصور والتوليد تنشأ في ذهن كل إنسان الأمثلة نفسها للحقائق الممكنة والثابتة نفسها، من قبيل [شَمْسٌ، ضَوْءٌ، كُسوفٌ، خَشَبٌ، نارٌ، حَرْقٌ، أسَدٌ، ذِئْبٌ، حَمَلٌ، افْتراسٌ، طِفْلٌ، إنْسَانٌ، خَضْمٌ، تُفَّاحَةٌ، بَلْعٌ، مَضْغٌ، رَجُلٌ، ابْنٌ، امْرَأَةٌ...]، فيتكون له ”نُطْقٌ“ محتواه ”كليات مجردةٌ“. وهذه الأخيرة من حيث محتواها قسمان: ”كليات دلالية“ و”كليات تداولية“، وكلا القسمين يتفرع إلى صنفين، كما سيتبين.

 

2. 2. 1 ـ الكليات الدلالية والتداولية

 

(1/14859)

 

 

... يتميز الكلّيّ بتوافر ثلاث خصائص يلزم لاحقُها عن السابق على النحو التالي: (أ) أن يكون الكلي مُقَوِّماً لكل لغة بشرية، فلا توجد لغة مع عدمه، (ب) أن يكون مشتركاً بين جميع اللغات، فلا تخلو إحداها منه، (ج) أن يكون له انعكاسٌ، على نحو معَيَّن، في ”البنية القولية“ الخاصة باللغات، وإلا فلا دليل ماديٌّ أو حسيٌّ على وجوده. والكلّيّ كما وصفناه يختصُّ يجب أن تنتظمه علاقة؛ وهذه العلاقة تتفرع تبعاً لطرفيها إلى قسمين.

 

(1/14860)

 

 

... (أ) علاقة تداولية إذا كان طرفاها متخاطبين، كأن يوجد المتكلم [ك] داخلاً في العلاقة [ع] مع المخاطب [خ] بحيث يلزم [ك] تكوين القول (ق) المتميز بخاصية بنيوية تعكس [ع]. والكلي التداولي كما وصفناه نصوغه من جديد بالعبارة (11) الآتية.

 

(11) . [ ك2 ع خ1 ] // (ق).

 

... من الأمثلة المشخصة لهذا الكلي وجود متكلم مخصوص داخلاً في علاقة مع مخاطب معين تلزمه تلك العلاقة أن يُكوِّن بنية قولية بخصائص الجملة الطلبية، من نحو ”ناولني بطاقة التعريف“، و”أين بتَّ ليلةَ وقوعِ الجريمة“، و”لا تغادر المدينة إلى إشعار

 

(1/14861)

 

 

آخر“. والكلّيّ التداولي يتفرَّع إلى (أ) عدد محصور من العلاقات التخاطبية الممكنة من جنس المصوغ في العبارة (11) أعلاه. (أأ) اقتضاءات بحتة؛ وهذه عبارة عن ضوابط كلية تُقَيِّدُ المتخاطبين بوصفهما طرفَيْ العلاقة التخاطبية(1).

... (ب) علاقات دلالية محصورة العدد تتميز بأن أطرافها مفردات بحتة؛ كعلاقة الإضافة (ع U ع) القائمة بين المتضايفين (س، ص) المعبر عنها بالدالة؛ [ص (ع U ع) س]،

__________

(1) للمزيد من التدقيق، انظر الفصل الخامس من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 2 ـ اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/14862)

 

 

والمتحقق لغويّاً في بنية قولية على نحو (ضوء شمس، ابن امرأة). وعلاقة الانتماء بين الكل (سا) وبعضه (س) المصوغة في (س - سا) والمحققة لغوياً في (الطفلُ إنسانٌ)، وعلاقة السببية (( ) الجامعة بين طرفين، بحيث يكون أحدهما سبباً في وجود الآخر (س ( ح) كما يتحقق لغوياً في نحو (حَرْق النار)، وعلاقة العِلِّيَّة ( > ) التي تجمع بين طرفين أحدهما يكون حافظاً لوجود الآخر (ح > س) مثله في اللغة (كُسوف الشمس)، وعلاقة السَّبْلِيَّة ( ( ) القائمة بين طرفين ( ح ( س) بحيث يجمع أحدهما بين كونه سبباً وحافظاً

 

(1/14863)

 

 

للآخر كما في (هروب الناس)، وعلاقة اللزوم ( ( ) التي تربط طرفين بشرط أن يكون أحدهما متضمناً للآخر(1)، وهذا الأخير لازماً عن سابقه.

... ظهر أن الكليات الدلالية تتفرع هي الأخرى إلى صنفين: (أ) مفردات بحتة؛ وهذه تمثل الوجه الكَلِمِيِّ الضروري لتكوُّنِ مداخل لمعاجم اللغات البشرية. (أأ) علاقات تأليفية:

__________

(1) للوقوف على ما سرد من العلاقات وغيرها، راجع الأصول الجبارية في القسم الثاني من كتاب الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم؛ والفصل الثالث من الوسائط اللغوية، ج 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14864)

 

 

بواسطتها تنتظم المفردات البحتة، وينشأ في ”تركيب“ جميع اللغات ”بنية وظيفية“ واحدة.

... اتضح أن الكليات الدلالية والتداولية، في النظرية اللسانية النسبية، مقوِّمة لكل الأنساق التي تًصنَع لغرض التواصل، وبالتالي فهي واجبةُ التحقُّق في كل اللغات البشرية لكن بكيفية غير مباشرة، ومن ثمّة نشأت الحاجة إلى الوسائط اللغوية.

 

2. 2. 2 ـ الوسائط اللغوية الاختيارية

... تشكل الوسائط اللغوية، داخل النظرية اللسانية النسبية، مجموعة محصورة من الاحتمالات المتقابلة والموزعة توزيعاً توافقياً على فصوص اللغات وقوالب

 

(1/14865)

 

 

أنحائها(1)

__________

(1) سبق أن أثبتنا في أكثر من موضع أن كل لغة بشرية تقبل أن تتجزأ إلى أربعة فصوص متعالقة: (1) فصٌّ نَصْغِيّ له محتوى صوتي، يتفرع إلى: (أ) نَطْق (phonétique) و(ب) نَصْت (phonologie)؛ (2) فص معجميّ محتواه عدد غير محصور من المداخل المتميّز كل منها بتمثيلين؛ كَلِمِيٌّ وقَوِلِيٌّ، يتفرع إلى (أ) معجم واقع؛ مداخلُه أصول (ب) معجم متوقَّع؛ مداخلُه فروع؛ (3) فص تشقيفيّ محتواه قواعد توليد مداخل فروعٍ من أصولها. يتشعَّب إلى (أ) اشتقاق: محتواه قواعد تشقيق الكَلمِ، (ب) تصريف: يحتوي على قواعد تغيير القَوِلِ؛ (4) فص تركيبي: يتضمن قواعد التركيب، يتشعب بحسب النمط اللغوي، إلى مكونين أو ثلاثة مكونات. ويتكفل بكل فص لغويّ قالب نحويّ في إطار نهوض مجموع قوالب النموذج النحويّ بمجموع فصوص اللغة.

 

(1/14866)

 

 

. وبعبارة أخرى، كل وسيط لغوي يمثل أحد الاحتمالين المتقابلين، إذن لكل وسيط مقابل، بحيث إذا اختارت لغة ما أحدهما لأحد فصوصها، ترجح أن تختار لفصّها الآخرِ الوسيط الموافق، ولم يُستبْعَد أن تختار لغة ثانية، للفَصَّيْن نفسِهما فيها، مقابل ذَيْنكَ الوسيطين. وإذا أردنا أن ندقق أكثر، نستطيع أن نقول بوجود شبكتين من الوسائط اللغوية في آن واحد، بحيث يكون لكل وسيط ما يوافقه في زمرته، وما يخالفه في زمرة مقابله.

 

(1/14867)

 

 

... استناداً إلى ما سبق (من أن الكليات الدلالية والتداولية واجبة التحقق في اللغات من خلال الوسائط المنتظمة في زمرتين واقعتين على طرفي النقيض)، يلزم النظرية اللسانية النسبية أن تتوقع نمطين لغويَّين وأن تقيم نموذجين نحويَّين. وبما أن هذه النظرية قالبية، وجب أن يكون التنميط المتوقع محصوراً في مستوى الفصوص اللغوية.

 

2. 2. 3 ـ تقابل الوسائط وتنميط الفصوص

... كما لا يخلو معجم لغة بشرية من مقولة الفعل المتعدي (فع) المتميز بخاصية تطلُّعِهِ إلى الموضوعين ( س1 ، س 2 )، وجب أن يوجد في الفص التركيبي لأيِّ

 

(1/14868)

 

 

لغة ائتلافٌ لتلك المكونات الثلاثة (فع، س1 ، س 2 )، بحيث يأتلف (فع) وأحدُ موضوعيْه (س1 ) في ”البنية القاعدية“ بعلاقة السببية (( )، فيكون للموضوع (س1 ) وظيفة الفاعل النحوية (س1 فا)، ويأتلف (فع) من جهة أخرى بموضوعه الثاني (س 2 ) بعلاقة العلية ( > ) فتلحقه وظيفة المفعولية النحوية (س2 مف).

... عن الائتلاف الحاصل بالعلاقتين الدلاليتين الكليتين (( ، > ) بين المكونات الثلاثة (فع، س1 ، س 2 )، وما لحق بعضها من وظائف نحوية ( فا، مف) نعبر من جديد بالتوليفة (12) التالية:

 

(12) فع

 

س1 فا س2 مف

 

(1/14869)

 

 

... تندرج التوليفة المعبّر عنها بالصيغة (12) فيما سبق أن سميناه ”كليات نُطقية“. وهذه الكلية واجبة التحقق في اللغات البشرية، وقد تميز كلا المكونَيْن (س1 فا ) و(س2 مف ) في جميعها بخاصية بنيوية تعرب عن وظيفته النحوية، ويحصل هذا الإعراب من خلال وسيطين متقابلين يمثلان إمكانين.

... إما أن يكون تحقق الكلية النُّطقية (12) من خلال ”وسيط الرتبة المحفوظة“ الذي يوجِّه اللغات التي اختارته، كالأنجليزية ونحوها الفرنسية، إلى استغلال إمكان العلاقة الرتبية، ويجعلها تخصص للمكوِّن (س1 فا) مرتبةً محددةً سلفاً

 

(1/14870)

 

 

بالقياس إلى المرتبة المخصصة للمكون (س2 مف). وسيتكون للغات التي اختارت هذا الوسيط بالذات فصٌّ تركيبيٌّ، يتميز ببنية قاعدية ذاتِ رتبة قارة، يعبر عنها شومسكي(1) في نظريته للنحو الكلي بإحدة الصيغتين في التمثيل (13) التالي:

 

(13) . ( أ ) م س ـ صرف ـ م ف.

... (ب) فا فع مف.

...

__________

(1) انظر المبحثين 2. (ص. 43) و 2. 9. (ص. 235) من كتاب شومسكي، نظرية العمل والربط؛ والمبحث 4. 8 المخصص للرتبة في كتابه The Minimalist Program.

 

(1/14871)

 

 

... وإما أن يكون تحقق الكلية (12) من خلال ”وسيط العلامة المحمولة“ الذي يمكّن اللغات التي اختارته، كالعربية واليابانية ونحوهما، من إحداث الفارق بعلامة صوتية في مستوى التوليفة الكلية، بحيث يحصل الإعراب عن الوظائف النحوية من غير أن يكون لبعض المكونات موقع عند بعضها الآخر. وسينشأ للغات التي اختارت وسيطَ العلامة المحمولة فصّ تركيبيّ يتميز ببنية قاعدية ذات رتبة حرة، نعبر عنها من جديد بالتوليفة (12) المعادة بعلامتي الإعراب في التمثيل (14) التالي:

 

(14) فع

 

سُ1 فا سَ2 مف

 

(1/14872)

 

 

... وبما أنه ليس في الإمكان أكثر من الوسيطين المذكورين لإعراب جميع اللغات البشرية عن الوظائف النحوية الممثل لها بالتوليفة الكلية (12)، يلزم بالضرورة المنطقية ما يلي من المعارف العلمية:

... ( أ ) . فص التركيب ليس كلّيّاً، ولا يكون كذلك إلا عن طريق افتعال كلِّيته، كما فعل شومسكي(1)

__________

(1) من مفارقات شومسكي جمعُه بين الإقرار بكون اللغات البشرية منقسمة إلى ”لغات شجرية“ و”لغات غير شجرية“ وبين التصريح المتكرر باستحالة تطبيق قواعد لغة غير شجرية على لغة شجرية، وبإمكان توسيع الإطار النظري للغات الشجرية ليتناول اللغات غير الشجرية. للمزيد من التفصيل، راجع المبحث 2. 8 من كتابه: نظرية العمل والربط، مصدر سابق.

 

(1/14873)

 

 

، إذ وسع إطار نظريته حتى تشمل قواعدُ نحوه الكلّيّ لغات مغايرةً للأنجليزية.

... (ب) . فص التركيب يتنوع بحسب الوسائط التي تخصّه، ولا يتعدد تبعاً لعدد اللغات. ولذلك يجب أن تتجمع اللغات المتواجدة حالياً وما انقرض أو يوجد استقبالاً في نمطين اثنين ليس غير: 1). لغات توليفية كالعربية: يتميز تركيبها ببنية قاعدية ذات رتبة حرة، و 2). لغات تركيبية كالأنجليزية يختص فصُّها التركيبي ببنية قاعدية ذات رتبة قارة.

... (ج) . قواعد الفص التركيبي نمطية، فلا تصادف واقعاً لغوياً خارج نمطها، ولا واقعَ لغويٌّ في نمطها

 

(1/14874)

 

 

لا تصادفه.

... وعليه، فإن مبدأ تأصيل الرتبة القاعدية، وقاعدة ”انقل الألف“، وقيد السوج المعين، ومفهوم المركب الفعلي، ومبدأ أحادية الوظيفة، ونحو هذا الكثير مما استخلصه شومسكي من دراسته للغة الأنجليزية وصحَّ في نحوه الكلي، سيتحول إلى بعض ما تتوقعه نظرية اللسانيات النسبية، بوصفه قواعد نمطية تصدق في اللغات التركيبية ليس غير. أما البعض الآخر الذي تتوقعه أيضاً هذه النظرية، فيصدق في اللغات التوليفية ليس غير. نذكر منه على سبيل المثال مبدأ الترتيب التداولي، وقاعدة التنضيد، وأصل نقل الإعراب، والازدواج

 

(1/14875)

 

 

الوظيفيّ، ومفهوم المركب التبعيّ، ونحو هذا مما يشكل القالب التركيبي للنمط التوليفي من اللغات البشرية.

... ولعل ما أوردنا في هذه الفقرة قد وضَّح بشكل جليّ كيف صارت نظريةُ النحو الكليّ التي وضعها شومسكي متجاوزةً علوميّاً بنظريتنا للنحو النمطيّ، لأن كل توقعات النظرية الأولى صارت في النظرية الثانية بعض توقعاتها، كما أن بعض ما تتنبأ به هذه الأخيرةُ لا تُدرِكُه الأولى.

... وللإمعان في البيان بالمثال الموضِّح، نجد نظرية اللسانيات النسبية تنسب إلى لغات كالعربية اختارت وسيط الجذر، معجماً شقيقاً يتميز

 

(1/14876)

 

 

بصنفين من المداخل الفعلية: أفعال شقائق يرد مع بعضها مبدأ الازدواج الوظيفيّ، وأفعال إساس يوافقها مبدأ أحادية الوظيفة. كما تنسب إلى لغات كالأنجليزية اختارت وسيطَ الجذع، معجماً مسيكاً متميزاً بمداخل فعلية إساس ليس غير(1)، ولا يوافق هذه اللغات سوى مبدأ الأحادية. وبما أن نظرية اللسانيات الكلية قد استخلصها شومسكي من نحو الأنجليزية، ولم يؤسسها على

__________

(1) للمزيد من التوضيح، انظر الفصل الرابع المخصص لتعلق المعاجم النمطية بالوسائط اللغوية في كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14877)

 

 

وسيط، ولا نمَّط بها فصّاً لغوياً، لم يكن نحوُه ليتنبأ بغير مبدإِ أحادية الوظيفة المعتبر فيه مبدأ كلياً على الرغم من قصوره عن وصف البنية الوظيفية لمثل التركيب ”لاَمَسَ الرجلُ المرأةَ“، وإن ثبتت كفايتُه الوصفيةُ لتراكيب من قبيل ”لَمَسَ الرجلُ المرأةَ“. يلزم عما تقدم أن المعرفة العلمية نسبية في حقل اللسانيات.

 

2. 2. 4 ـ خصائص المعرفة العلمية

... اتضح أن البناء المنطقيّ للنظرية النسبية، في حقل اللسانيات على الأقل، يُنتِج معرفة علمية، تتميز عن غيرها المعرفةِ النظرية والمعرفةِ العادية بخصيصات نجملها

 

(1/14878)

 

 

كالتالي:

... (أ) . المعرفة العلمية نسقيةٌ: تبيَّنَ أن بين المعرفتين النظرية والعلمية تشاركاً في خصيصة النسقية. غير أن نسقية الأولى ”صورية“، بينما نسقية الثانية ”مادية“. وتشكل هذه الأخيرةُ شقّ الاستنباط القائم، في منهجية اللسانيات النسبية، على الحصر التقابلي للوسائط المتاحة للغات من أجل تحقيق إحدى الكليات الدلالية أو التداولية. هذا الحصر التقابلي يمكن لمسه من جديد في تحقيق اللغات للإضافة المحضة الكلية الممثل لها بمجموع العلاقتين [ ع U ع] بين المتضايفين (س ، ص )، كما تعبر عنها الدالة (15)

 

(1/14879)

 

 

التالية:

 

... (15) س [ ع U ع] ص.

 

... لتحقيق الإضافة الكلية (15) ليس في الإمكان أكثر من وسيطيَيْ العلامة المحمولة والرتبة المحفوظة، واللغات البشرية جميعها مترددة بين هذين الإمكانين؛ فإذا اختار بعضها الوسيط الأول كالأنجليزية، احتمل المضاف في هذا النمط أن يتقدم على المضاف إليه أو يتأخر عنه؛ بمعنى ليس لأحد المتضايفين في الأنجليزية موقع قار بالنسبة إلى الآخر. وفي حالة اختيار اللغات الأخرى لأن تحقق الإضافة المحضة الكلية (15) من خلال وسيط الرتبة المحفوظة، تعين حينئذ أن يكون للمضاف، في هذا النمط من

 

(1/14880)

 

 

اللغات، موقعٌ قار بالنسبة إلى المضاف إليه. ولغات هذا النمط مخيَّرةٌ من جديد بين تقديم المضاف على المضاف إليه كما في العربية، وتأخيره عنه كما في غيرها.

... ولاشك في نسقية هذه المعارف، بمعنى أن نسقاً بعينه يتوقعها مناطةً بمفسِّرات كالوسائط الحاصرة لمختلف الإمكانات، وليس هناك معارف أخرى تخص موقع المتضايفين في اللغات جميعها لا يتوقعها النسق نفسه. كما لا يتوقع معارف لا تصادف واقعاً في لغة. وكل ما يستجيب للقيود الثلاثة فهو من قبيل المعرفة العلمية النسقية غير الصورية.

 

(1/14881)

 

 

... (ب) . المعرفة العلمية نمطيةٌ. إن النظرية اللسانية سواء أكانت كلية أم كانت نسبية، لا مناص لها من الجمع بين الأمرين: أولاً، تقديم وصف كاف للخصائص البنيوية للعبارة اللغوية. وثانياً، إيجاد مفسِّر معقول يُناطُ به الوصف المقدم. وبما ان الوسائط تقوم بدور المفسر في النظرية اللسانية النسبية، وجب أن تقدِّم هذه النظرية خصائصَ بنيوية نمطية. لوصف ”وظيفة الفاعل النحوية“ مثلاً، نجد نظرية النحو النمطي تُدخل ”الموقعَ“، بوصفه خاصيةً بنيويةً أساسية لتحديد تلك الوظيفة في اللغات التركيبية، لكنها تهمل الموقع في

 

(1/14882)

 

 

اللغات التوليفية لفائدة العلامة، بوصفها الخاصية البنيوية الأساس في المركب الحامل لتلك الوظيفة.

 

... يترتب على فحوى هذه الفقرة أن خصيصةَ النمطيّة المميزةَ للمعرفة العلمية تُلزِم نظريةَ اللسانيات النسبية أن توفر للكلّيّ الدلالي أو التداولي نفسه أكثرَ من وصف واحد لخصائصه البنيوية، بشرط الانحصار التقابلي لضمان النمطية لتلك الكثرة.

... (ج) المعرفة العلمية حقيقية. يفترض في المعرفة العلمية أن تجمع بين اليقين المدرَك بالأنساق الصورية، والموافقة للواقع المستحصل بالمناهج التجريبية. وكل معروفة جمعت، فضلاً

 

(1/14883)

 

 

عن النسقية والنمطية، بين اليقين والموافقة فهي حقيقية. إذن، لا يكفي في المعرفة العلمية اليقين الرياضي، إذ سبق أن كل ”معروفة“ مستنبطة بواسطة الأنساق الصورية، منطقية كانت أو رياضية، فهي يقينية، إذا لم تصادف واقعاً في العالم الذي نعيش فيه فهي متحققةٌ في أحد العوالم الممكنة. وعليه، ليس كل ”معروفة“ يقينية بواقعية.

... فضلاً عن انتفاء الترادف بين اليقين والحقيقة، فإنا نجد ”المعروفة“ المستنبطة بالنسق البحت الرياضي أو المنطقي تكون من حيث الصياغة الصورية في غاية الوضوح، لكنها من حيث الإحالة على فحواها

 

(1/14884)

 

 

فهي في غاية الإبهام، إلى درجة أنه لا يتأتى إقران العبارة الصورية بمحتوى معيَّن. ولبيان هذا القصور في الإحالة، يكفينا استحضار التقسيم الرباعي للكلم (7 ب) الذي استنبطه شومسكي من النسق الصوريّ (7 أ) الذي وضعه لنجد كل قسم لا يفيد شيئاً باعتبار صيغته التي تميزه.

... لقد سبقت منا الإشارة إلى ائتلاف العُلوميِّينَ حول اعتبار النظريات شباكاً تُبنى لاصطياد المعرفة بموضوعات أحد الحقول العلمية. لذا يتوجب على النظرية اللسانية أن تطلعنا بلا ريب على واقع لغويّ، وهي عندئذ تنتج معرفة علمية تتسم بخصيصة ”حقيقية،

 

(1/14885)

 

 

كل نظرية تنتج معرفة مقترنة بأدنى شك فيها أو في موافقتها للغات البشرية فهي في مرتبة دون الغاية التي من أجلها بُنِيَت.

... ولنمثل لخِصِّيصَة ”الحقيقية“ المميزة للمعرفة العلمية من المكون الصرفي(1) لنجد كل اللغات البشرية قبل أن تُقرَّ نسقها

__________

(1) المكون الصرفي أحد فرعي الفص التشقيفيّ فرعه الثاني مكون اشتقاقي، محتوى هذا الأخير قواعد دلالية لتشقيق الكلمات الأصول وتوليد كلمات فروع تجري في جميعها دلالة الكلمة الأصل. أما محتوى المكون الصرفي، فقواعد صوتية لتغيير بنية القوِلات الأصول لإنتاج قوِلات فروعٍ.

 

(1/14886)

 

 

الصرفيّ على نمط ممكن تكون مترددةً بين وسيطَيْ الجَذْر والجِذْع(1) . باختيار بعض اللغات لوسيط الجذر، تضطر إلى تأسيس ”مبدإ الصياغة“ دون فَقْدِ القدرة على استغلال إتاحات يوفِّرها مبدأ آخر، لكن اختيار بعضها الباقي لوسيط الجذع سيضطرُّها إلى تأسيس ”مبدإ الإلصاق“ (2)

__________

(1) للوقوف على الوسيطين المذكورين وعلى قيمهما، انظر الفصل السابع من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 2 ـ اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

(2) مبدأ الصياغة يصدق على عملية إعداد صيغ صوتية مثل (فَعَلَ) و(تَفَاعَلَ)، لأن تفرغ فيها ”جذور رخوة“، سواء أكانت مجردة مثل (سأل) أم كانت مزيدة مثل (تَساءَلَ). وفي المقابل، يصدق مبدأ الإلصاق على عملية لِحامِ سوابق مثل EN أو لواحق مثل MENT بـ ”جذوع يابسة“ مثل Terre للحصول على Enterrement. وبذلك ينحل الصرف الجذعي خطياً إلى ”جذوع يابسة“ ولواصق تلتحم به من أوله أو من آخره، بينما الصرف الجذري ينحل هرمياً إلى صيغ و”جذور رخوة“ مزيدة أو مجردة. وتكون الصيغة دالة في الصرف الجذري دلالة اللاصقة في الصرف الجذعي، خلافاً لما يراه في صرف العربية المستضيئون بنظرية النحو الكلي. للمزيد من التفصيل، راجع الفصل السابع من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 2 ـ اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/14887)

 

 

، وسيفوِّت عليها استغلالَ الإمكانات التي يُتيحها المبدأ السابق.

... وكل اللغات الجذرية (أي الآخذة بوسيط الجذر) يحتمل بعضُها الاقتصار على الإمكانات التي يُتيحها مبدأ الصياغة مع عدم المانع من توظيف إتاحات مبدإ الإلصاق، ويحتمل بعضُها الآخر كالعربية الجمعَ بين إتاحات المبدأين، كأن تَصُبَّ الجذر مجرداً (سأل) في الصيغة (فَعَلَ) للحصول على (سَأَلَ)، ثم تصبه مزيداً في صيغة (تَفاعَلَ) ويكون الناتج (تَساءَلَ)، وتلصق بالصيغة ”علامة مفكوكة“(1)

__________

(1) للتوسع في الفرق بين الظاهر والضمير والعلامة، انظر المبحثين 3. 6. 2 و3. 6. 5 في كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، المصدر السابق.

 

(1/14888)

 

 

تتألف من سابقة (يَـ...) ولاحقة (... ـونَ) ويكون الناتج (يتساءلون). هذه الهرمية يعبر عنها من جديد كما يلي:

 

(16) ( أ ) . سأل.

... (ب) . تَساءَلَ.

... (ج ) . يتساءَلونَ.

 

... نقرأ الهرم الصرْفيّ (16) على اعتبار أحرف ”سألتمونيها“ زائدة على الجذر (116)، لكنها أصلية في الصيغة الصرفية (16 ب)، بينما علامات المطابقة المفكوكة (16 ج) (يـ/ .../ ونَ)، بما فيها من أحرف المضارعة (نأيت)، تكون زائدةً على الصيغة الصرفية (16 ب)، لكنها أصلية في الصيغة الصرفية التركيبية (16 ج)، أو الصيغة ”الصَرْكِبِيَّة“.

 

(1/14889)

 

 

... ويشخِّص المثال (16) معنى قولنا إن اللغات الجذرية من نمط العربية تستغل أولاً إتاحات مبدإ الصياغة؛ بإنشاء عدد محصور من الصيغ الصوتية لِحَشْوِهَا بمادة جذرية رخوة وتستغل ثانياً، في نطاق محدود، إتاحات مبدإ الإلصاق فتزيد على الصيغة الصرفية علامات المطابقة في الأفعال والصفات، وعلامات الجنس والعدد في الأسماء. ويمكن أن نلاحظ انعكاس الاستعمال المتدرج لإتاحات المبدأين في جَمْعِ الأسماء وجَمْعِ جَمْعِها، كما في المثال التالي:

 

(17) ( أ ) . رَجَلٌ رجالٌ رجالاتٌ.

... (ب) . هَرَمٌ أهْرَامٌ أَهْرَامَاتٌ.

 

(1/14890)

 

 

... وكل لغة أسست، باختيار وسيط الجذع، مبدأ الإلصاق تكون قد فوّتت إمكان استغلالها لإتاحات مبدإ الصياغة، وبالتالي سيَفْقِدُ مكوِّنُها الصرفي القدرة على توليد جمع الجمع إذا نحن وقفنا عند هذا المثال.

 

3 . لسانيات خاصة ومعرفة عادية

... تتميز اللسانيات الخاصة، بالمقارنة مع اللسانيات الكلية واللسانيات النسبية، بخصائص تنفرد بها عن الضربين السابقين. وهذه الخصائص تَمَسُّ موضوع الدراسة، والمنهجية المتبعة في هذا الضرب من التفكير اللساني، وأخيراً المعرفة المستحصلة من دراسة ذاك الموضوع بتلك المنهجية.

 

(1/14891)

 

 

3 . 1 ـ لسانيات موضوعاتها لغات خاصة

... من الأعمال اللسانية، مثل "كتاب" سيبويه، ما يُعنى بلغة بعينها كالعربية دون غيرها من اللغات، وبغض النظر عن كون مبادئ نحو العربية وقواعده كلية أو نمطية أو خاصة. إن ما يجري في اللغات الأخرى ليس من إشكالات صنف اللسانيات الخاصة، إذ لا يهمها سوى الخصائص البنيوية التي تصدق في اللغة موضوع الدراسة.

... حين قال في العربية نحاتُها: ”متى قدروا على المتصل، لم يأتوا مكانَه بالمنفصل“(1)

__________

(1) ابن جني، الخصائص، ج 2، صص. 191 ـ 192؛ والأشموني، شرح الألفية، ج 1، ص. 127؛ وابن يعيش، شرح المفصل، ج 3، ص. 84؛ وسيبويه، الكتاب، ج 1، ص. 377 وما بعدها.

 

(1/14892)

 

 

، لم يعنِهم حينئذ أن يكون هذا القيد كلِّيّاً كما تصوره شومسكي وقد صاغه بعبارتهم تقريباً تحت ”مبدإ تجنب الضمير“(1)، ولا همَّهم أن يربطوه بوسيط لتحديد النمط اللغوي الذي يصدق فيه هذا المبدأ، كما عنَّ لنا أن نفعل بعدهم (2)، وإنما اكتفوا باستشكال مواقع التطارد النسبي لضمائر الرفع المتصلة والمنفصلة في اللغة العربية.

__________

(1) انظر شومسكي، نظرية العمل والربط، مصدر سابق، ص. 119 و430.

(2) راجع المبحث 4.6.3 من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية، ج 1 ـ أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/14893)

 

 

... وكذلك كان حالُهم وهم يجتهدون في صياغة ”قواعد القلب“ بمثل قولهم: ”متى اجتمعت الواو والياء وقد سبقت الأولى بالسكون، أيتُهما كانت، قلبت الواو ياء وأدْغمت الياءُ في الياء“ (1) . لم يستشكل الصرفيون امتدادات هذه القاعدة خارج العربية وسريانها في كل اللغات البشرية أو في بعضها، لأنهم لم يسعوا إلى ربطها بمبدإ ثبتت كليتُه، ولا بوسيط وضعيّ، من شأنه أن يوفر للُّغات التي اختارته الإتاحات نفسها.

__________

(1) ابن يعيش، شرح الملوكي، ص. 461.

 

(1/14894)

 

 

... واستمر لسانيو العربية على هذا المنوال في الأغلب الأعم من الظواهر اللغوية التي عالجوها، مع العلم أن انحصار الدراسات اللسانية في اللغة المعينة، بغض النظر عمَّا يجري في سواها الكلي أو البعضي، ظاهرة عامة في اللغات، ومنتشرة بكثرة بين لغويين قدماء ومحدثين.

...

3. 2 ـ ارتباط اللسانيات الخاصة بمنهجية الاستقراء

... يغلب على التأمل اللسانيّ المحصور في اللغة الخاصة التقيدُ بمنهج الاستقراء. ويقوم هذا المنهج في حقل اللغة على تجميع المعطيات بوصفها ملحوظات تجريبية وإنجازات لغوية لمن يوثق بفصاحة كلامه.

 

(1/14895)

 

 

ويتبع ذلك تنظيم هذه المعطيات وَفْق سلمية من المفاهيم اللسانية؛ مبدؤها تصويتات اللغة المدروسة، فانتظامات هذه التصويتات في وحدات صرفية ومعجمية، ومنتهاها اطرادات هذه الأخيرة في الجملة(1). وغاية كل ذلك تقديم وصف للقواعد الواجب مراعاتها أثناء الكلام لصون اللسان من اللحن.

__________

(1) للمزيد من التفصيل، انظر التناول العُلوميّ لهذه المنهجية في كتاب لُوي يلمسليف، مقدمات لنظرية لسانية (Louis Hjelmslev, Prolégomènes à une théorie du langage)، والتطبيق العمليّ لها في كتاب تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها.

 

(1/14896)

 

 

ولم يسْعَ هذا الضرب من التفكير اللساني إلى إقامة نظرية تساعد مستعملَها على فهم كل مظاهر اللغة التي يدرسها.

... ومن أهم ما يخلِّفه غياب النظرية اللسانية انتشارُ الخلاف حول التفسيرات الممكنة للظواهر الموصوفة. ولا أدلَّ على ذلك من جواب الخليل بن أحمد حين سئل عن مصدر ”العلل التي يعتَلُّ بها في النحو، فقيل له: أعن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال... اعتللت أنا بما عندي أنه علةٌ لما علَّلْتُه منهُ، فإن أكن أصبت فهو الذي التمست... فإن سنح لغيري علَّة لِما علَّلْته من النحو هو أليقُ مما ذكرته

 

(1/14897)

 

 

بالمعلول فليأت بها“ (1).

... ومن المستبعد أن ينكر أحد أن الداعي الأهم إلى إقامة النظريات هو إلزامُ الباحثين بقول ما تسمح به النظرية، ومَنْعُهم من اختراع مفسرات من أنفسهم.

 

3. 3 ـ مميزات المعرفة العادية

... الجمع بين اتخاذ الاستقراء منهجاً وإحدى اللغات موضوعاً للدراسة يولد معرفة عادية، تنفرد بخصيصات مغايرة لمميزات المعرفتين النظرية والعلمية. وهي تبعاً لتسلسلها في ما سبق على النحو التالي:

__________

(1) النص بكامله نقله الزجاجي (الإيضاح في علل النحو)، ص. 65.

 

(1/14898)

 

 

... (أ) . المعرفة العادية نَفْسِيَّةٌ: وهي كذلك إنْ لم يتجهّز اللساني المقبل على دراسة لغة خاصة بنسق منطقيّ، ولم يتقيد بقواعده المعرفية الصارمة، ولا استمسك بما قد يعصم قواه الذهنية من أن تضل في تأملاتها اللغوية. يعني هذا أن التشغيل المباشر للقوى الذهنية، أيّاً كان موضوع النظر، سيُنْتِج معرفةً عادية تتسم بخصِّيصة النفسية بدل النسقية.

... ويمكن توضيح ما ذكرنا بمثال شخص أراد أن يقيس استقامة الخط وانحناءه، فاكتفى بإعمال قواه البصرية، وصارت هذه القوى النفسية مصدر معرفته بهذا الموضوع، لكنه لا يستكين

 

(1/14899)

 

 

إلى هذه المعرفة، وهو كغيره ليس بمستيقن منها، لأنه لا يدري أصادف الصواب في ما رأى أم أخطأ. ولو وسَّل مسطرةً، العيارُ التجريبيّ المناسبُ، أو استعان بالمعادلة الخطية (ص = أس + ب) في معلم ديكارتي لكان مصدرُ المعرفة غير القوى الذهنية ولصارت المعرفة أيضاً غير المعرفة النفسية.

... (ب) . المعرفة العادية تصوريةٌ: التصورية خصيصةٌ ملازمة للمعرفة العادية ومترتبة على خصيصة ”النفسية“، وهي بذلك تقابل ”اليقينية“ في المعرفة النظرية و”الحقيقية“ في المعرفة العلمية. وتختص التصورية بإمكان وجود معرفتين متنافستين حول

 

(1/14900)

 

 

موضوع واحد، ولا سبيل للتحقق من صدق إحداهما وكذب الأخرى، ولا من كذبهما معاً إذا كان الصواب في غيرهما.

... ويكفينا توضيحاً لخصيصة التصورية بما وصفناها أعلاه أن نستفسر نحاة العربية عن عامل النصب في المفعول لنتلقّى عدداً لا بأس به من الأجوبة. فقد

... ذهب الكوفيون إلى أن العامل في المفعول النصب والفعلُ والفاعلُ جميعاً... وذهب بعضهم إلى أن العامل هو الفاعلُ، ونص هشام بن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا قلت: ”ظننت زيداً قائماً“ تنصب زيداً بالتاء وقائماً بالظن، وذهب خلفٌ الأحمر من الكوفيين إلى أن العامل

 

(1/14901)

 

 

في المفعول معنى المفعولية، والعامل في الفاعل معنى الفاعلية. وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعاً (1).

موضوعٌ واحد بخمسة أوصاف، ولو نقبنا في كل ما وصلنا لوجدنا العدد أكبر، من غير أن يعدم صاحب رأيٍ المبررات الكافية لاستمالة المتوقف.

 

... وإذا تجاوزنا الظاهر الملحوظ في معطيات اللغة المدروسة، وجدنا الخلاف يطرد كلما وجّه الدارس تأمله نحو النسق الثاوي خلف مدركاته الحسية. إذ

__________

(1) أبو البركات الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، ج 1، ص. 78.

 

(1/14902)

 

 

9+سيلاحظ جميع الصرفيين سقوط الواو من مضارع بعض المثال ومكوثَها في البعض الآخر، لكن تصورهم لمفسِّر هذه الظاهرة الصرفية سيتعدد ويختلف مع فَقْدِ الوسيلة المنهجية للتحقق من صحة ما عرفوا. وعندئذ تنشأ معرفة عادية تستخلص بالاستقراء من معطيات لغة خاصة، وتتميز بالنفسية بدل النسقية، وبالتصورية عوض يقينية المعرفة النظرية أو حقيقية المعرفة العلمية، وبالخصوصية بدل كلية المعرفة اليقينية ونمطية المعرفة الحقيقية.

 

(1/14903)

 

 

موقف ابن سلام الجمحي من الشعر الموضوع

الدكتور جعفر الكتاني

كلية الآداب - الرباط

1-منهجه في طبقات فحول الشعراء

... ... يصور كتاب ابن سلام " طبقات فحول الشعر" جماع المراحل السابقة لما قبل في فجر الإسلام عن الشعراء الجاهلين، والإسلاميين. من حيث تصنيفهم إلى طبقات، في عيار الجودة، ومن حيث تذوق أشعارهم من لدن الأقدمين. وكان ابن سلام في هذا التدوين غير هياب من أن يبدي قولا، أو يعلل حكما، أو يحدد قيمة، ولكن في حدود جد ضيقة، يكلأها أولا وأخيرا غلبة الرأي العام على الإبداع الشخصي، فيما يعرضه أو يبديه من

 

(1/14904)

 

 

آراء حول الشعر والشعراء.

... ... وفي ذلك ما فيه من الأهمية لدينا نحن المتأخرين بالقياس إلى ما كان يروج يومئذ عن الشعر والشعراء الجاهليين، والإسلاميين، على حد سواء. حسب ابن سلام أنه كان من المصادر الأساسية لمن كتبوا في الموضوع بعده، مثل أبي الفرج الأصفهاني في " الأغاني " وأبي عبد المرزباني في "الموشح" و أبي علي الحاتمي في " حلية المحاضرة".

... ... وقد زرع ابن سلام شعراء مصنفه إلى طبقات بحسب ما كان يراهم فيها ذواقوا الشعر في الجاهلية وفي الإسلام، فهو لم يوزعهم بحسب اجتهاده المحض، قسم أربعين شاعرا

 

(1/14905)

 

 

جاهليا مختارين، فحولا، إلى عشر طبقات، أربعة في كل طبقة.

وفعل مثل ذلك بشعراء إسلاميين ووضع من مختاري شعراء القرى خمسة منهم، يمثلون المدينة، وتسعة يمثلون مكة، وخمسة، يمثلون الطائف وثلاثة يمثلون البحرين.

... ... ومما يلاحظ باهتمام في هذا التوزيع، أنه راعى :

... ... أولا : تصنيف الشعراء بحسب بيئاتهم. فمنهم شعراء المدن، ومنهم شعراء القرى. مما يدل على أن المقارنة حين التوزيع لم تتم من يفترقون عن بعضهم في المكان أو الزمان.

 

(1/14906)

 

 

... ... ثانيا : أن العرف في بيئته كان يهتم بالجودة أولا قبل الكثرة، و أن الكثرة إنما تحظى بالأسبقية على القلة، إذا كانت كلها جيدة، فالمجيد المكثر أسبق إلى طبقات الفحول.

... ... ثالثا : أن الأسبق بين الفحول إلى أرقى الطبقات من جودة شعره وكثرته تشمل أغراضا متعددة. وقد قال ابن سلام عن خطته (1) "ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين، فأنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ..فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرا، فألفنا من

__________

(1) الفقرة 26.

 

(1/14907)

 

 

تشابه شعره منهم إلى نظرائه، فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة متكافئين معتدلين". وكرر ابن سلام الإعلان عن خطته في الفقرة ( 47) آخر مقدمته" ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم إلى رهط أربعة، على أنهم أشهر العرب طبقة ثم اختلفوا فيهم بعد. وسنسوق في اختلافهم واتفاقهم ونسمي الأربعة. ونذكر الحجة لكل واحد منهم، وليس تبدئتنا واحدا في الكتاب نحكم له، ولا بد من مبتدأ، ونذكر من شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى".

 

(1/14908)

 

 

... ... لقد كانت بيئة ابن سلام ( أواخر القرن الثاني والقرن الثالث) تواجه شعرا كثيرا ينسب لأصحابه أو لغير أصحابه، مما شغل ابن سلام :

... ... 1- فعني بتحقيق النص تاريخيا من حيث نسبته إلى قائله، أو هو حاول ذلك على أقل تقدير، بيد أنه بالقطع قد شغله أمر الوضع في الشعر، وتهيب الشهادة بالعزو دون استخدام احتمالات الشك.

... ... 2- وعني بتأثير الزمان الذي قيل فيه الشعر لما لظروفه من ضوء يساعد على تبين الواقع من صحة الغزو.

 

(1/14909)

 

 

... ... 3- كما عني بالمكان الذي تواجد الشعر فيه، لما للمكان من طابع يترك بصماته على الأثر فيكون ذلك مساعدا على تقييم النص وتقويمه.

... ... 4- كذلك اهتم ابن سلام بالمناسبة التي دعت إلى قول الشعر وذلك لما لها من أهمية في الشهادة على الثبوت والبطلان.

... ... وأغلب الظن أن فائدة هذه المعايير التي تنبه إليها ابن سلام كانت جلية فيما أفضت به إليه من طرح الشك في نسبة ما بين يديه من شعر إلى المعزو إليهم، الأمر الذي ساعده على لفت الاهتمام إلى ما هو موضوع من الشعر.

 

(1/14910)

 

 

... ... ومن الحق لابن سلام وهو من استخدم احتمالات الشك تاريخيا في النصوص، أن نتساءل عن مدى صحة نسبة هذا الكتاب إليه ؟ كتاب " طبقات فحول الشعراء".

... ... من المعلوم أن الكتاب أول ما طبع في فجر هذا القرن طبع بليدن سنة 1916، نشره يوسف هل بمقدمة ألمانية اللغة تحت اسم " طبقات الشعراء" ثم أعيد طبعه بعد ذلك بنحو أربع سنوات بنفس المحتوى في مصر سنة 1920، وتشكل كل من الطبعتين ثلث ما نرى الكتاب عليه اليوم بتحقيق محمود شاكر الذي سمى إنجازه ب " طبقات فحول الشعراء" أخرجه بهذا الاسم سنة 1952 معتمدا على نسخة

 

(1/14911)

 

 

خطية مجهولة الأصول، وعلى ما سبق أن نقله في الموضوع الأصفهاني والمرزباني بسنديهما عن ابن سلام وفي التصدير الذي كتبه المحقق للطبعة الجديدة أفاض في شرح سبب التسمية الجديدة وفي صحة نسبة الكتاب بصورته الحالية إلى ابن سلام ولم يخف حاجة البحث العلمي إلى الأمل في العثور على نسخة خطية أخرى لمصنف ابن سلام.

... ... إن الكتاب بصورته الجديدة الحالية يضم تصنيف أربعة عشر ومائة شاعر، أربعون منهم في طبقات الجاهليين وأربعون في طبقات الإسلاميين، وأربعة في طبقة أصحاب المراثي وعشرون في طبقة القرى وثمانية في طبقة

 

(1/14912)

 

 

شعراء يهود.

 

... ... لقد كانت الغاية من تأليف هذا الكتاب لدى ابن سلام ذوقية أدبية تقويمية مما جعل عمله بداية لمنهج ستحقق قواعده على عهد الآمدي في الموازنة والجرجاني في الوساطة. فقد أثار ابن سلام بعمله قضايا أدبية من صميم النقد لما يحققها عمل الجاحظ في البيان، ذلك أن الجاحظ بما طرحه من اهتمام بالنثر العربي وموضوعاته كان قد شغله بيئته يومئذ من الصراع بين الموالي والعرب. ولذلك كان كتابه " البيان والتبيين" موسوعة أدبية أن تثير الانتباه لمسائل نقدية ولكنها لم تكن قضية الجاحظ الأولى في كتابه، خلاف ما

 

(1/14913)

 

 

طرحه ابن سلام في كتابه عن الشعر والشعراء الجاهليين والإسلاميين، فقد كان ابن سلام يستقطب وجهات نظر النقدية في طبقات الشعراء وفي النصوص المعزوة إليهم من خلال ما انتهى إليه الرأي لدى إجماع المثقفين العرب. وفي هذا النطاق من تمحيض الذوق الأدبي للصفوة المثقفة التي كان عقبا لها، فإنه راح في مصنفة يثير الشكوك، وهو يقف أمام النصوص حول أصالة النسبة بين الشعر والشاعر الذي يعزى إليه. وهي إثارة للشك مفتتح من جاء بعد ابن سلام من النقاد. مهدت لهم، لأن يوغلوا في تفاصيلها وأسبابها ومذاهبها، ويبنوا عليها، كثيرا

 

(1/14914)

 

 

من اليقين. أو يكتنفوا بترداد منهجها من غير أن يتوصلوا إلى وسيلة لتفاديها. حاشا رجال تدوين الحديث الشريف (1) .

... ... 2- شكوك ابن سلام في صحة بعض الشعراء الذين قبله

... ... لقد دخل ابن سلام إلى موضوعه بتفصيل قال فيهما كلمته بجهير القول كانت الأولى في عرض خطته بسبيل تصنيف الشعراء وفق ما قره علماء بيئته. وكان ذلك موضوع الجزء الأول. أما القضية الأخرى فهي الإبانة عن رأيه فيما هو قبله من شعر، هو مدعو إلى نسبته لذويه، الأمر الذي يحمل على اعتبار ابن سلام

__________

(1) راجع مصظفى صادق الرافعي ، ج 1، صص.234-277.

 

(1/14915)

 

 

صاحب موقف واضح بخصوص عزو الشعر. أعلن عنه غير وجل خمس مرات وهو يدخل إلى طرح طبقاته. استخدم في إحداها لغة التقرير بوجود شعر موضوع ثم أعلن، بلسان من يقرر ويتهم، عن هذا الموقف في مرتين اثنتين وقبل ذلك حاجج بما يدفع به عن موقفه بعد أن قرر واتهم وحاجج دفعة واحدة في فقرة سابقة. فمما قرره قوله : ... ... "وفي الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته. ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع ، ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى

 

(1/14916)

 

 

كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي.

... ... وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا لعيه، فليس لأحد أن يخرج منه" (1) .

... ... ثم قرر واتهم بقوله : "فلما راجعت العرب رواية الشعر، وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم، وأشعارهم وأرادوا أن تلحقوا

__________

(1) راجع مصطفى صادق الرافعي ، ج 1، صص.234-277.

 

(1/14917)

 

 

بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال (1) . وقال ابن سلام كذلك : "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الرواية. وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره. ويزيد في الأشعار" (2)

__________

(1) الفقرة 49 من الطبقات وانظر الفقرة عند الحاتمي 816.

(2) الفقرة 51.

 

(1/14918)

 

 

. ويحاجج ابن سلام في الفقرة التاسعة بما يشبه ما تنتهي به هذه الفقرة، فيقول : "أخبرني أبو عبيد عن يونس قال : قدم حماد البصرة على بال بن أبي بردة ( وهو وال عليها) فقال : ما أطرفني شيئا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطئية مديح أبي موسى فقال : ويحك ! عدم الحطيئة أبا

موسى (1) ، ولا أعلم به وأنا أروي شعر الحطئية ولكن دعها تذهب في الناس" (2) .

__________

(1) في الحلية : يمدح أبي الحطيئة إلخ ، أنظر الفقرة من الحلية وتمت العنى أسلم وأصح.

(2) بعض الفقرة 52.

 

(1/14919)

 

 

... ... وفي فقرة أخرى يقرر ابن سلام ما يراه من وضع الشعر ويتهم ويحاجج في دفعة واحدة فيقول : "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه، محمد بن إسحاق بن يسار ...وكان من علماء الناس بالسير... فقبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول : لاعلم لي بالشعر أوتى به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف" (1) . ومضى ابن سلام في

__________

(1) رقم 7.

 

(1/14920)

 

 

اتهام ابن اسحاق بالغفلة فيقول عنه : "أفلا يرجع إلى نفسه فيقول : من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين ؟ والله تبارك وتعالى يقول : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا} (1) . أي لا بقية لهم. وقال أيضا : { وأنه أهلك عاد الأولى ، ثمودا فما أبقى} (2) وقال في عاد { فهل ترى لهم من باقية} (3) وقال : { قرونا بين ذلك كثيرا} (4) وقال { ألم ياتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله}

__________

(1) الأنعام، الآية 45.

(2) النجم ، الآية 50-51.

(3) الحاقة، الآية 8.

(4) الفرقان، الآية 38.

 

(1/14921)

 

 

(1)

... ... إن هذه الشكوك التي أعلن عنها ابن سلام في صحة بعض الشعر الذي قبله، تعد من الهمام الأساسية التي واجهت النقاد الأوائل للأدب. والإعلان عنها من ناقد أول يشير إلى مدى استخدام عقله وفطنته إلى ما هو بصدد نقده فإلى أي مدى تمكن ابن سلام من تطبيق نظرياته على ممارسته للنقد في أوائل الأعمال النقدية بالأدب العربي.

... ... قبل مناقشة هذا الموضوع فإن من الضروري الحديث عن أسباب الوضع في الشعر خلال فترات التدوين لما في ذلك من محاولة الإحاطة بالبواعث العملية والحوافز المجتمعية التي

__________

(1) إبراهيم، الآي 9.

 

(1/14922)

 

 

أهابت با بن سلام أن يستخدم احتمالات الشك فيما هو بصدد غزوه لذويه.

3- أسباب الوضع في الشعر

... ... إن الإجابة عما أمكن ابن سلام من تطبيق نظرياته ( أو عدم تطبقها) على ممارسته النقدية في كتابه إنما يشفى فيها عمله النقدي في صلب الكتاب ولكن من الضروري قبل ذلك التعرف على أسباب الوضع في الشعر خلال فترات التدوين ، لأن

فيها محاولة الإحاطة بالبواعث العلمية والحوافز التي أهابت بابن سلام أن يستخدم احتمالات الشك - إن صح أنه استخدمها - فيما هو بصدد عزوه لذويه.

 

(1/14923)

 

 

... ... 1- إن الغاية من العناية بالشعر لدى الرواة لم تكن مجرد الجانب الفني منه فذلك جانب قيم من جوانب أخرى متعددة كانت سببا في الوضع العمد، والنحل والانتحال، لقد كان الشعر ديوان العرب - كما لا نحتاج إلى القول - سجل مفاخرها بذكر أيامها وأنسابها وأحسابها، ولذلك كان هدف الوضاعين ولا سيما بعد العصر الجاهلي.

... ... وربما كان تأويل ذلك يتمثل في أن القبائل العربية في ظلال الإسلام قد شغلها عن الاحتفال بحفظ الشعر الجاهلي ثورة الإسلام الجديدة بما فيها من نتائج الحرب ومشاغل العراك، وبما قد فرضته تعاليمها

 

(1/14924)

 

 

من قيم جديدة. ولئن لم يطل البعد بين ما كان يحتفل به العربي في الجاهلية القبيلية وبين ما يحتفل به في عصر الأحزاب السياسية في صدر الإسلام فإن ذلك جملة ما دفع بالرواة إلى الوضع والنحل والانتحال. وفي قريش بالذات بدأ الوضع في الشعر فإنها كانت أولى القبائل العربية عرضة للتفاخر والتناصر بين بعضها لبعض، واجهة التفاخر والتخاذل فيما بينها وبين قريناتها القبائل العربية الأخر. وذلك كله بسبب ثورة الإسلام وعلاقة قريش بصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام.

 

(1/14925)

 

 

... ... 2- كما كانت كلمات الشعر وبناؤه اللغوي فيما بعد صدر الإسلام الغاية من الوضع حيث كان عصر التدوين لعلوم اللغة العربية وآدابها في القرن الثاني من أسبابه، فعرف رواة محترفون لهذه الغاية من بينهم محمد بن عبد الملك الفقسعي رواية بني آسد. مثلا للرواة الوضاعين داود بن متمم بن نويرة مثلا للشعراء المتزيدين في أشعار الآباء.

... ... وحفز على ذلك الجدل بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة للاستشهاد على الرأي ولم يلت من تقبل الوضع والاستناد إليه الكسائي ولا سبويه.

 

(1/14926)

 

 

... ... 3- كما كانت الخلافات المذهبية بين علماء الكلام وبين مفسري القرآن سببا آخر على الوضع، أو تقبل المنحول. وقد كان المدونون يبحثون عن الشاهد من الشعر للقناعة المشتركة لدى الجميع بأن العلم أو الخبر الذي لا شاهد له من شعر الأول لا عبرة به ولا أساس له من الصحة. لذلك كانت الغاية أحيانا تبرر الوسيلة. وقد تورط في إخباريون ، على رأسهم محمد بن إسحاق بن يسار الذي حاسبه ابن سلام حسابا عسيرا في مقدمة " طبقاته" وكان الشاعر سهل بن أبي غالب الخزرجي يزعم بأنه يروي أشعار الجن وينشدها في مجالس هارون الرشيد،

 

(1/14927)

 

 

وقد علق الرشيد على ما يسمعه مرة : إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجبا، وإن كنت لم تره فقد وضعت أدبا.

... ... - كما كان الإدعاء وجب الاستئثار بالعلم سببا حمل عددا من الرواة على التزيد في الأشعار ونحل الشعر لغير صاحبه. وقد عرف من الكوفة حماد الرواية ( 155 هـ) بذلك كثيرا فقال فيه المفضل الضبي "سلط على الشعر من حماد الرواية ما أفسده فلا يصلح أبدا. فقيل له : وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن ؟ قال : ليته كان ذلك ؟ فإن أهل العلم يردون من أخطأ عن الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارهم ومذاهب الشعراء

 

(1/14928)

 

 

ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل، ويدخله في شعره، ويجمل ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك ؟"

... ... 5- كذلك كان الملق للحاكم من أسباب الوضع كالذي يرويه ابن سلام عما فعله حماد هذا من تخرص عل بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري والي البصرة حينما نحل الحطيئة شعرا في مديح جد بلال.

... ... 6- كما كان الزهو والخيلاء سببا للوضع أو لإقراره في مثل جواب بلال لحماد " ولكن دعها تذهب في الناس" . مع أنه قال قبل ذلك على رواية الحاتمي (1)

__________

(1) فقرة 813 م حلية المحاضرة ولديه المعنى أسلم وأوضح.

 

(1/14929)

 

 

: "ويحك يمدح أبي الحطيئة ولا أعلم به وأنا أروي شعر الحطيئة كله".

... ... 7- كما عرف خلف الأحمر ( 180م) في البصرة يضع الشعر وينحله الفحول من المشهورين . فقد وضع القصيدة المعروفة بلامية العرب.

أقيموا بني أمية صدور مطيكم ... ... ... فإني إلى قوم سواكم لأميل

... ... وعزاهم إلى الشنفرى . ووضع شعرا ونحله لتأبط شرا زعم أنه رثى به خاله الشنفرى وقد قال الأصمعي : سمعت خلفا يقول : أنا وضعت على النابغة القصيدة التي فيها

خيل صيام وخيل غير صائمة ... ... ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

 

(1/14930)

 

 

... ... وينسب أبو عبيدة إلى أبي عمرو بن العلاء الزيادة في شعر الحارث بن حلزة، كما ينسب الأصمعي إلى ابن دأب عيسى بن يزيد وضع الشعر في المدينة.

... ... 8- وقد دأب المحدثون على الوضع ونسبة ما يضعونه من شعر إلى المشتهرين مثل خلف.

... ... 9- ومن ذلك ما يقرضه الشاعر، ثم يتهيب عرضه قبل أن يعرف رأي النقاد فيه، فإذا ما عرفه، لم يعد ذلك يملك وحده التصرف في صحة عزو ما قاله.

... ... 10- ومن أسباب الوضع أيضا : الحسد والعبث والتلبيس وذلك للكيد أو للإساءة أو للتشويه. ومن ذلك عزو شعر للبحتري في صفة الذئب لبعض

 

(1/14931)

 

 

العرب، أو نسبة كلام فج لثعلب.

... ... 11- ومما يدخل المنحول وليس بذلك اختلاف الروايات الذي ينشأ عن عادة النطق وفطرة التلفظ، ففي بيت للهذلي أن ذؤيب رواية أبي عمرو بن العلال :

دعاني إليها القلب إني لأمره ... ... ... مطيع فما أدري أرشد طلابها

... ... بينما يرويه الأصمعي : عصاني إليها القلب .... الخ

... ... وربما أدى إلى الإختلاف في الرواية الاعتماد على الحفظ وحده، وقد يحفظ الشاعر كلمات يحرص على وزنها فيبعث ألفاظا أخرى مقومة للوزن، وإن لم تكن محافظة على أصل المعنى من مراد الشاعر.

 

(1/14932)

 

 

... ... 12- وقد يكون السبب في انتحال الاسم تعدد الرواة أو نسيانهم ، أو اختلافهم. وإن القصيدة الواحدة قد تستجمع هذا كما في بائية كعب بن سعد الغنوسي (1) التي يرثي بها أخاه أبا المغوار فقد روى أبو علي القالي في أمانيه (2) بأن بعض الناس يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي وهو من قومه وليس بأخيهن وبعضهم يروي شيئا منها لسهم والمرثى بهذه القصيدة أبا المغوار، واسمه هرم وبعضهم يقول اسمه شبيب

__________

(1) شاعر شسلامي أخباره في الآليء،ص.771 و معجم الشعراء، ص.288 ( 2) / 141.

(2) 2/148.

 

(1/14933)

 

 

...وهؤلاء كانوا يختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرهم وزيادة الأبيات ونقصانها. وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره.

 

(1/14934)

 

 

موقف مجلة "المقتطف" من المدنيَّة الغربية (أواخر الفترة العثمانية)

الدكتورة خيرية قاسمية

... كلية الآداب - جامعة دمشق

 

مقدمة

 

صدر العدد الأول من مجلة "المقتطف" في أيار/ مايو 1876 في بيروت رحاب الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأمريكية فيما بعد). هذا قبل أن تنتقل إلى القاهرة عام 1887 وتظل فيها حتى عام 1952. ومؤسسا "المقتطف» معلمان في الكلية: يعقوب صرّوف معلم الفلسفة الطبيعية والرياضيات، وفارس نمر معلم علم الهيئة واللاتيني.

 

(1/14935)

 

 

وتعد مجلة "المقتطف" - يقول قسطنطين زريق في كتابه "الوعي القومي"(1) - "خير سجلّ لتطور الفكر والعلم والاِجتماع لدى العرب طوال ثلثي قرن ونيف". وكان القائمان على "المقتطف"، منذ تأسيسها، على دراية بحمل أعباء العرب الفكرية والعلمية. فكتبا (في مجلد 18، عام 1893): "وواصلنا الليل بالنهار درسا وبحثا لكي نقتبس كنوز المعارف الغربية ونبثّها في جميع الديار الشرقية. وقد

__________

(1) قسطنطين زريق، الأعمال الفكريةالعامة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994، مجلد 1، ص. 87.

وقد نشر كتاب "الوعي القومي" لأول مرة في بيروت، 1939.

 

(1/14936)

 

 

رأينا من ثمار هذا العمل ما يقوي أملنا بالنجاح، لا سيما وأن نُصراء المعارف قد صاروا كثارا والحمد لله وستبلغ البلاد بجدّهم وهمّتهم الغرض الذي نسعى إليه". واعتبرها أحد قرائها "مجلة العلم الوحيدة"، فكتب (في مجلد، 27

عام 1910): "لم تُحجم أمام المسائل العلمية خوفا من غموضها وعجزا عن وضعها في أسلوب جديد يقرب الأقصى ويزيل الإشكال ويدفع الملل... ولولاها لكان قرّاء العربية في معزل تام عما تلد أدمغة الرجال وتخلق حركة العلم الدائمة في بلاد الصنائع والفنون".

 

(1/14937)

 

 

وأشار د. نبيه أمين فارس في مقدمة "فهرس المقتطف" (الذي أصدرته هيئة الدراسات العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1967 بمناسبة العيد المئوي للجامعة) إلى اثر»المقتطف» في يقظة الفكر العربي الحديث:

... ... فقد توالت في صفحاتها شهرا بعد شهر مواكب المعرفة، من أكثر العلوم النظرية دقة ... ... وغموضا إلى أشدها انطباقا على الأعمال، وأبعدها آثرا في معايش الناس، من أدق ... ... ... المعادلات الرياضية إلى أعوص الآراء الجديدة في طبيعة الكون المادي والمدى الفلكي، في ... ... الزمان والمكان وبناء المادة

 

(1/14938)

 

 

وطبائع الأحياء وتطورها على الدهر إلى أجدى المكتشفات ... ... ... والمستنبطات في الزراعة والصناعة والصحة والمواصلات والمخاطبات إلى أشهر المذاهب في ... ... الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس...

ولاقت المجلة رواجا في المشرق والمهجر، ولكن طريقها كان محفوفا بالأشواك؛ ح لإحداث ثورة فكرية، وأدرك أصحاب "المقتطف» أن الذين يتصدون لإحداث ثورة فكرية "تكون الثمرة الأولى التي يجنونها تكفيرهم أو حرمانهم، لكن يلتف حولهم كثيرون من العقلاء الذين يغارون على أمتهم ويناضلون إلى أن يستتب لهم الفوز" (مجلد 26، عام 1901).

 

(1/14939)

 

 

وفي نظر "المقتطف" أن الذين شنوا حملة معادية، من التقليديين ورجال دين مسلمين ومسيحيين، هم الذين "يقيّدون طلاب المعارف عن إعمال النظر في المسائل خوفا من أن ينبّه الناس إلى وجوب الحرية في البحث فيضعف امتلاك عقولهم" (مجلد 10، عام 1886).

وفتحت المجلة صفحاتها لسماع آراء القراء ومناظراتهم مهما اختلفت وتعددت اتجاهاتهم، كما فتحت "باب المراسلة والمناظرة"، "ترغيبا في المعارف وإنهاضا للهم وتشحيذا للأذهان"؛ واتَّبعت خطة مع كل المناظرين: "لا تقصد إلا النفع وتقرير الحقائق".

 

(1/14940)

 

 

وتنوعت موضوعات "المقتطف" في الفترة موضع الدراسة (أواخر العهد العثماني): " في كل ما له فائدة علمية وأدبية واجتماعية... وفي كل ما يهم العالم والمثقف والأديب". واحتلت البحوث الاجتماعية (أو ما أسمته "الهيئة العمرانية") مكانة مرموقة في اهتمامات "المقتطف" وتركّزت معظم تلك البحوث على موضوع المدنية الغربية. ويمكن تصنيفها في ثلاث قضايا رئيسية:

أ- تعرُّف كنه المدنية الغربية؛

ب - المقارنة بين أحوال الشرق والغرب؛

ج - سبل النهوض في طريق التقدم والارتقاء.

أ - تعرُّف كنه المدنية الغربية:

 

(1/14941)

 

 

في مقال "الفضل للمتقدم" رأت المقتطف" (في مجلد 8، عام 1884) "أن الناس قد بلغوا في زماننا هذا أعلى درجة في سلم التمدن وأنه قد قام فيه العلماء والمخترعون والمكتشفون والأطباء وغيرهم... وأن تقدم الناس فيه متزايد... فلا يمضي يوم حتى يجد أشياء في العلم أو تزيد الاكتشافات والاختراعات أو تصلح حال الهيئة الاجتماعية بوجه من الوجوه". وفي رأي "المقتطف" (في مقال "آمال المشرق"، مجلد 18، عام 1893 ) أن "هذا الارتقاء العظيم الذي ارتقته الممالك الأوربية هو من نتائج العلوم الطبيعية". ولكنها تؤكد (في مقال "الفضل

 

(1/14942)

 

 

المتقدم"، مجلد 8، عام 1884). أن "... هذا التقدم لا ينفي السبق عن المتقدمين(1) الذين ارتقوا قبل المحدثين في معارج التمدن واستنبطوا الآلات واكتشفوا المكونات. ولو ساعدتهم الأحوال، لفاقوا أهل عصرنا...". واستدلت "المقتطف" من استقرائها لتاريخ العمران الأوربي (في "آمال المشرق" ، مجلد 18، عام 1893) على أن العمران الأوربي ليس متصلا: "فعمران اليونان والرومان الذي بلغ أرقى الدرجات من وجوه كثيرة اندثر، وباتت ممالك أوربا في ظلام دامس أكثر من ألف سنة". ولذا فإن ارتقاء الأوربيين الحالي

__________

(1) المقصود "السابقين".

 

(1/14943)

 

 

حديث العهد يبتدئ منذ أربع مائة أو خمس مائة سنة، ومن حيث العلوم من نحو مأتي سنة: "... وإن الأوربيين لم يرحبوا بها حينئذ، بل أعرضوا عنها ونكّلوا بدعاتها تنكيلا..." (ورد ذلك في فصول مختلفة من المقتطف» عنوانها "جهاد العلماء").

وطرحت "المقتطف" (في مقال "مصير التمدن"، مجلد 9، عام 1885)، نقلا عن القس هارفي بورتر أستاذ العقليات والتاريخ في المدرسة الكلية ببيروت مسألة هامة في أساس التمدن وهي: "هل يبقى تمدّننا الحال إلى ما شاء الله أو يرجع المتمدنون القهقرى؟"، وهي مسألة تهم كل من ابتغى خير الجنس البشري

 

(1/14944)

 

 

وتقدمه. وتتضمن المسألة أمرين: ما أساس التقدم الثابت؟ وكيف يمكن تجنب المتأخر؟ ونقلت "المقتطف" عن كتاب الاجتماع تعيينهم عوامل التقدم الاجتماعي وبيان الأحوال والعناصر والمؤثرات التي تعمل في ترقية المدنية. ومن هذه الآراء: إن تقدم البشر مبنيّ على أسباب خارجية، كحسن موقع البلاد وجودة الهواء وخصب التربة، كما لخصت رأي القائلين بأن التقدم لا يمكن أن يهمل قوى الإنسان العقلية أو يجعلها دون القوى الطبيعية: "... وحيث تنتبه العقول، ينشأ التقدم". فالتقدم لا يتوقف على أحوال الناس الخارجية.

 

(1/14945)

 

 

وفي تفسير أسباب التمدن وأحكامه، أفسحت "المقتطف" المجال لدعاة نظرية النشوء والارتقاء (أو المذهب الدارويني)، بالرغم من عدم اتفاق العلماء على أحكامها (مثال في مجلد 10، عام 1886؛ و مجلد 19، عام 1895). وعمد دعاة النظرية إلى تطبيق ارتقاء البيئة الحيوانية والنباتية وأصل الأنواع الحية على ارتقاء العقل والهيئة الاجتماعية، وذكروا أن "قوى الناس قد ارتقت بفعل الانتخاب الطبيعي وناموس الوراثة كما ارتقت أنواع الحياة في مذهب النشوء والارتقاء. وبعبارة أخرى، إنه كلما اشتد التنازع للبقاء، اضطر الإنسان إلى

 

(1/14946)

 

 

الاختراع والاستنباط لإصلاح حاله وبقاء نوعه. وهذا الإصلاح وقوة الحصول عليه يرثهما الفرد أو الشعب الذي هو أصلح من غيره للبقاء. ووفقا لهذا المذهب، يكون البقاء "قد خُضّ بأقوام دون غيرهم، وإن نتيجة ما حصلوه في القرون التي سلفت قائمة في جوهر دماغه؛ فأصبحت ملكة الارتقاء غريزية في المتمدنين وستمكنهم من عمل العجائب".

قبلت "المقتطف" هذا الرأي، ولكن بتحفّظ، وأفسحت المجال لمعارضي هذا المذهب. فكتب أحدهم (في مقال "مصير التمدن"، مجلد 19، عام 1895): "... إن ناموس الارتقاء... ناقص من وجوه عديدة... إذ لا يمكن أن

 

(1/14947)

 

 

نعلل به الاختلاف العظيم بين الشعوب المختلفة التي نشأت أصلا في وقت واحد وكانت قواها العقلية واحدة، ولا وقوف تمدن بعض الشعوب على حال واحدة مدة قرون عديدة وتقهقر البعض الآخر، ولا نوع الاختلاف بين التمدن القديم والحديث". وأكد المقال قائلا: "... إن تقدم الشعب هو بنسبة القوة العقلية التي يبذلها أفراده في تحسين أحوالهم الاجتماعية، مع وجود العدل والحرية؛ إذ بدونهما، يضطر الإنسان إلى حرب دائمة ليأمن على نفسه وماله فينشغل بها عن إصلاح حاله...". ونقلت المقتطف" (في مجلد 15، عام 1891) عن ألفرِد ولص، رصيف

 

(1/14948)

 

 

داروين في مذهب النشوء، أنه بإصلاح أحوال الأفراد، تصلح حال الجماعات وترقى الناس رويدا رويدا. وذلك يكون بإتقان التعليم والتهذيب وتعميمهما وإصلاح شأن الفقراء وتسليم قيادة الناس وتربيتهم إلى أفضلهم وأحكمهم: " ...فإن الانتخاب يجري فيهم من نفسه، فيزول من بينهم الضعفاء والفاسدون ويبقى الأقوياء والمستعدون للارتقاء.

واعتبر شبلي شميل (في مجلد 23، عام 1899) أن "العلم من أقوى الوسائط المؤثرة في الإنسان والمغيرة له". وكان همّ "المقتطف" أن تبين أنه "... لا أساس للتقدم غير العلم وحفظه ونموه" (مجلد 9، عام

 

(1/14949)

 

 

1885). ونقلت "المقتطف" عن القس هارفي بورتر (في المجلد السابق) تساؤله: "...هل يتوقف التقدم على مجرد اتساع العقل أو على العقل والأخلاق؟...". وطرح القس السؤال بطريقة أخرى: "...هل يمكن اتساع العقل إلى ما لا نهاية حتى يدرك كل أسرار الطبيعة وأسرار الإنسان العقلية والروحية". واتّفقت "المقتطف" مع القس بأن في الكون أسرارا لا نستطيع إدراكها بمجرد القوى العقلية، وبأن لهذه القوى حدا لا يمكنها مجاوزته من تلقاء نفسها: "... وأن الأدبيات تفقد قوتها ما لم تعضدها أحكام الدين". والمعنى بالدين - في رأي "المقتطف" -

 

(1/14950)

 

 

"اعتقاد الناس بوجود الله وأحكام الحياة الأبدية ومطالبة الإنسان بما جنت يداه". وأشادت "المقتطف" بكتاب رشيد

رضا "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" (في مجلد 28، عام 1902)، مؤكدة أن للدين يدا في عمران الأمم. وفي رأي "المقتطف" أنه "لا يكفي القول بأن العالم متقدم اليوم أكثر من الأزمنة القديمة وأن سُنن الاجتماع البشري هي متغيرة لا ثابتة وهي نافعة للإنسان لا سببا مانعا لارتقائه" (مقال شبلي شميل، "الاجتماع البشري أو العمران"، مجلد 9، عام 1885). ولاحظت "المقتطف" أنه منذ أول انتشار مذهب داورن، عمّ

 

(1/14951)

 

 

الاعتقاد بأن الخليقة صائرة من حَسَنٍ إلى أحسن وأن كل شيء فيها متقدم ومرتق ولا سبيل إلى المكث والتقهقر (نقلا عن مقال "الحرب والتقدم الاجتماعي"، مجلد 47، عام 1915)، حتى رسخ في الأذهان أن الهيئة الاجتماعية كلها تترقى يوما فيوما: "... فسنة الدهر تقتضي أنه كلما تقادم عهد الإنسانية، زاد اختبارا وارتقت درجة عما كانت عليه" (مقال "ارتقاء العقل والهيئة الاجتماعية"، مجلد 12، عام 1887). ونقلت "المقتطف" (مجلد 47، عام 1915) رأي أستاذ أمريكي (هو هاروث من جامعة كاليفورنيا) أن الأمر ليس كذلك، وليس هناك دليل

 

(1/14952)

 

 

يؤيد الاعتقاد بأن الناس عامة، ومنهم أمم أوربا وأمريكا، آخذون في سَنَنِ الارتقاء، "بالرغم من شرورهم وتماديهم في الغواية والضلال".

وليس الغرب كله رقيا وتقدما. فقد ضربت "المقتطف" الأمثلة على أن للمدينة الحاضرة محاذيرها، وتناولت غير مرة الآفات التي لها علاقة بالمدنية الحاضرة والتي زادت بزيادة المدنية، مؤكدة "أن العمران لم يتلف بذور الشر مع كل ما استعمل من الوسائل لإتلافها، بل زاد العقول استعدادا لنموها" (مجلد 30، عام 1905). ومع أن "المقتطف» لا تنكر أن الإفرنج سابقون علما وصناعة وزراعة وانتظاما في

 

(1/14953)

 

 

الهيئة الاجتماعية، إنما تنكر عليهم دعواهم بأنهم مستأثرون به دون غيرهم: "... على حين نرى رذائل تمدنهم تخرب البيوت وتنقض دعائم الفضائل، حتى لقد كادت سيئاته تحجب حسناته عن البصائر؛ وصار يخشى أن تكون عاقبته الضعف والانقراض لا القوة والارتقاء" (مقال "التمدن والتوحش"، مجلد 9، عام 1885).

ورصدت "المقتطف" ظاهرة الانتحار في البلاد المتمدنة إلى حد أقلقت الأفكار (مقال "التمدن والانتحار"، مجلد 15، عام 1891). واستدلت من أقوال الدكتور وليم ماتيوس على

 

(1/14954)

 

 

أن الانتحار شر لا مفر منه في خلال التمدن، ذلك بأن جميع أوجه التمدن تنشأ من جهاد الإنسان ضد الطبيعة؛ وكلما تحسنت الهيئة الاجتماعية ، نشأت فيها احتياجات جديدة: " ... ولا بد من أن يلاقي الإنسان مشاق كثيرة وهو يسعى للحصول على ذلك. فإذا كان ضعيف البنية والعقل والأخلاق، أسقط في يده وربما هلك في جهاده". واعتبرت "المقتطف" (في مقال "مستقبل الهيئة الاجتماعية"، مجلد 35، عام 1909 ) الحرب أعظم مضرة للتمدن الحاضر. وأكد مقال "مصير التمدن" (مجلد 19، عام 1895 ) "أن عقول المخترعين الذين أهدوا إلى العالم الآلة

 

(1/14955)

 

 

البخارية أهدوا إليه أيضا البارود والديناميت وغيرها من فواعل الخراب والدمار".

ما كان يهم "المقتطف" معرفته هو كيفية انقلاب التمدن الحاضر، أو بعبارة أخرى: هل التمدن الحاضر إلى الزوال؟ لأن بقاءه على حال واحد رابع المستحيلات: "... وإذا ظل سائرا كما هو الآن، فلابد من أن يلحق بما سلفه" (مقال "مصير التمدن"، مجلد 19، عام 1895). ونقلت "المقتطف" رأي القس هارفي بورتر (في مجلد 9، عام 1885): "...لا نوافق بأن أركان تمدن السالفين كانت غير متينة وأن أركان التمدن الحالي متينة فلا يخشى سقوطه". كما نقلت عن كتاب

 

(1/14956)

 

 

هنري جورج الأمريكي (في مجلد 19، عام 1895) القول بأن "سبب انقلاب التمدن الروماني هو عدم المساوات في الغنى والقوة. وهذه العلة نفسها قد ظهرت في تمدننا، وهي أشد فعلا حيث التمدن قد بلغ غايته... الأغنياء يزيدون ثروة، والفقراء فقرا، ومتوسطو الحال على وشك الاضمحلال".

ونقلت "المقتطف" عن المجلة العلمية الفرنسوية (في مجلد 50، عام 1917) أن الحروب والظلم وفساد الأخلاق ونقص المواليد والمهاجرة هي عوامل زائلة لا أسباب دائمة في انحطاط الأمم. هذا، بالإضافة إلى أهمية العوامل الطبيعية بالرغم من أنه أصبح بالإمكان

 

(1/14957)

 

 

مقاومتها. ولخص سلامة موسى (مقال "ارتقاء الأمم وانحطاطها"، مجلد 37، عام 1910) النظريات التي يعلل بها علماء أوربا ارتقاء الأمم وانحطاطها، واعتبر السبب الاقتصادي أصدق نظرية : "... إذا احتكرت ثروة الأمة فئة صغيرة وصارت الأكثرية أجراء، أدى ذلك إلى الانحطاط... فالفقير الذي لا يملك شيئا من الدنيا لا يهمه سواء كانت الحكومة دستورية أو استبدادا... وعدم تربيته يعريه من كل فضائل الآداب فينحط. وبكثرة أمثاله تنحط الأمة".

ب - المقارنة بين أحوال الشرق والغرب

 

(1/14958)

 

 

أشادت معظم كتابات "المقتطف» بتقدم الغرب وانتقدت تأخر الشرق، فورد في مجلد 9، عام 1885 : "... كلما تأملنا في أحوال المشرق وشعوبه ولغاته، يقضي علينا الأسى لولا تأسينا، ولا سيما إذا قابلنا أنفسنا بأوربا وأمريكا وقد كادتا تطيران من عالم الوجود ونحن كالحجر الأصم لا نبدي حراكا". وقابلت المقتطف" (في مقال "آمال المشرق"، مجلد 18، عام 1893) بين أحوال المشرق والمغرب من حيث الارتقاء في العلوم والفنون والصنائع على أنواعها. وفي مقال عنوانه "تأخرنا العلمي وأسبابه" (مجلد 15، عام 1891) ساق أسعد داغر جملة خواطر

 

(1/14959)

 

 

تشير إلى "أن العلم باق بيننا إلى الآن مقصورا على أفراد... ومن يلقي على بلادنا الشرقية نظرا علميا إنما يرى فيه أثرا من... الجهل على رغم طنطنة الجرائد بكثرة العلماء وازدياد الخطباء...".

وكتب شبلي شميل سلسلة مقالات بعنوان "انحطاط الشرق الأدبي والعقلي" (في مجلد 23، عام 1899)، كان دافعه إليها، كما يقول، هو ما يراه في بلدان المشرق من الخمول والتأخر أدبيا وماديا. وشميّل يُدخل تحت اسم "الشرقي"، الصينيَّ والهنديَّ والإفريقيَّ والعربيَّ والتركيَّ والعجميَّ : "... تجمعهم جامعة الوقوف والتأخر في تاريخ

 

(1/14960)

 

 

العمران". ولكنه يريد أن يحصر كلامه في "الأقوام الذين يجمعنا وإياهم جامعة الوطن والسياسة". وفي رأي شميل أن الشرقيين هم - "بحكم تنازع البقاء معرضون للذل والشقاء، يعملون لأسيادهم أهل الغرب وأسيادهم بهم يعبثون... لأن ناموس التنازع في الطبيعة صارم لا يرحم. فالضعيف مقضي عليه أمام القوي بالمحاق أو الضياع بالاستغراق". ورأى شميل أن الغربيين أهل عمل والشرقيين أهل نظر قد يجر إلى الكسل. وربما كان هذا في رأيه من الأسباب الطبيعية التي لأجلها لا يستطيع الشرق أن يناظر الغرب. وضرب أمثلة لاعتناء دول الغرب

 

(1/14961)

 

 

برجالها وعلمائها، وقابله بمعاملة حكومات الشرق قوت في أمم "كل الصفات الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم... فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا الغرب باسطا فوق الشرق يديه، طامحا ببصره إليه، مزمعا أن يقبض عليه".

ووالت "المقتطف" نقل فقرات عما يجري في المغرب من تشجيع العلم والعلماء والبحث العلمي (مثال : مجلد 29، عام 1904) وعلقت على ذلك بقولها: "...فلماذا رمت أن يحيا غرس العلم في الوطن فأكرم من يحييه... ولا تزعم أن وطنك ينال من خيرات العلم نصيبا يذكر ما دام علماؤه أشقى الناس

 

(1/14962)

 

 

حالا؟". ونقلت (في مجلد 29، عام 1904) خطبة أحد العلماء الأمريكيين في مجمع ترقية العلوم الأمريكي موضوعها "البحث العلمي والتقدم"، وفيها بين أن البحث العلمي لا يتوقف في المغرب؛ وغايته الأولى الرغبة في معرفة أسرار الكون وإدراك غوامضه، وغايته الثانية السعي وراء ما يؤول إلى راحة الإنسان وسعادته. وأكد العالم الأمريكي أن هناك ميدانا واسعا للم يزل في ظلمات الخفاء، وأن كل ما تم من التقدم العظيم في بعض الفروع ليس شيئا يذكر بالنسبة إلى ما لم يكتشف بعد.

 

(1/14963)

 

 

ولخصت "المقتطف» كتابا عربيا عنوانه "نحن والرقي" (مجلد 31، عام 1906) بين مؤلفه مواضع ضعف الشرقيين ونقائصهم الأدبية وعيوبهم العائلية وسائر أحوالهم الاجتماعية من معاشٍ وصناعةٍ وتجارةٍ وثروةٍ وعلمٍ ودينٍ وأدبٍ ومبلغهم من التمدن الحديث، وأرجع المؤلف سبب تفوّق الغرب إلى الأتربة : "... التربية وحدها هي عرّفت القوم الحقوق والواجبات وغرست في نفوسهم الفضائل في كنف النظام الجيد العادل... فكانت لهم نِعم العون... وإهمالها أو تفاهتها عندنا... هو الذي عكس حالنا". ونقلت "المقتطف" (في مجلد 37، عام 1910) فقرات

 

(1/14964)

 

 

من كتاب د. أيوب ثابت من بيروت إلى د. رضا توفيق نائب أدرنه - وهو من دعاة الثورة الفكرية والإصلاح - عالج فيه أسباب رقي الغرب وتخلف الشرق. وعزا الكاتب ذلك إلى "الاعتقاد المتأصل في عقول البشر بأن الدين هابط عليهم من قوة فوق قوتهم وأنه لذلك ليس لهم أن يغيروا حرفا من حروفه ولا أن يتساءلوا ولو للاستنارة عما جاء في سطوره". وكان هذا الاعتقاد - في رأي كاتب المقال - هو الذي وقف قرونا طويلة في طريق بلوغ الإنسان المدنية الحديثة، "إلى أن جاءت الثورة الفرنسية

 

(1/14965)

 

 

فلاشت هذا الهم فصعدت من ثم إلى ما هو عليه اليوم من الرقي والمدنية الزاهرة". وفي مقال عنوانه "هرم تمدن الشرق وشباب تمدن الغرب" (مجلد 41، عام 1914)، بحث المؤلف عن الأسباب التي مكنت أمم الغرب من الأخذ بناصية مقامها الاقتصادي (وهذا في رأيه أصدق سبب لعظمة الأمم وسعادتها)، فوجد أن الغربي قد سبق الشرقي في الاقتصاد والتوفير مع أنه دونه قبل ألفي سنة. يضاف إلى ذلك أن الغرب علم "أن الإنسان هو المحرك الحقيقي للعمل، فأحكم تهذيبه وتدريبه وتنميته وتحسين ذلك القدر من الذكاء الذي يولد معه".

 

(1/14966)

 

 

وفي باب المقارنة بين الشرق والغرب، فتحت المقتطف» صفحاتها لنقل أخبار المرأة الغربية وعاداتها وأخلاقها وكل ما يتعلق بنهضتها الجديدة ومباراتها الرجال في كافة الميادين (مثلا في مجلد 26، عام 1901؛ مجلد 27، عام 1902). وبين أسعد داغر (في مجلد 27، عام 1902) أن هدف الكتابة عن المرأة الغربية هو تشويق المرأة الشرقية إلى التمثل بها. إلا أنه شكك في حصول الفائدة المطلوبة؛ ذلك "لأن المحتاجات من نسائنا إلى الإصلاح لا يعرفن القراءة، وجانب من القليلات اللواتي تعلّمن في المدارس لا يطالعن ما يُكتب... ، لأنهن غير

 

(1/14967)

 

 

محتاجات إلى الوقوف على ما يكتب؛ لأنهن حاصلات على مقدار عظيم من الاستنارة". وألقى داغر تَبعة تأخر المرأة الشرقية وقصورها عن مجاراة المرأة الغربية في طريق التقدم والارتقاء على "الرجال الذين أخذوا من النشأة الحديثة، وإخوان النهضة الجديدة في المدارس الكبرى، وأرضعوا لبان المعارف، وجاروا الأوروبيين في درس لغاتهم واقتباس مصطلحاتهم، وجالوا عواصم البلدان الغربية، وطالعوا الكتب عن تمدن الفرنج وسرّ ارتقائهم وتقدمهم. وهو في بحثه عن "سبب وقوفنا في سلم الارتقاء فلم يزد عددنا كما يجب ولا ارتقت درجتنا كما

 

(1/14968)

 

 

ينبغي"، يجد أن علة ذلك "كوْننا قد خالفنا في ارتقائنا السنّة التي درج عليها غيرنا من الأمم المرتقية... إننا أعددْنا أرجلنا للعروج في سلم الارتقاء وحدنا - رجالا بلا نساء - ولم نهتم بأن تصعد معنا مثل عددنا أو مثل نِصفه على الأقل من فتياتنا"؟

ورد على أسعد داغر أحد قراء "المقتطف" في سان باولو (في مجلد 27، عام 1902)، فتساءل عن السبب الذي جعل الغربيات يََفُقْن الشرقيات، فوجده في كون الأحوال الخارجية

- الاجتماعية والسياسية - المحيطة بأمم المشرق، بنسائها ورجالها، هي غير الأحوال التي في العالم الغربي،

 

(1/14969)

 

 

وأضاف القارئ أنه كان يجدر بداغر أن يتساءل لماذا الرجل الغربي أكثر ارتقاء من الشرقي، فإن الجهر بهذه الحقيقة - في رأيه - من أوجب الواجبات على الباحث في الإصلاح؛ وأنه إذا علمنا أسباب تأخر رجالنا، علمنا أيضا أسباب تأخر نسائنا : "وما التقصير من رجالنا، بل جل ما ينقصهم هو أن تمهّد لهم القوات المتسلطة في الشرق سبل الترقية والنجاح...".

وخصت "المقتطف" كتاب "المرأة" لقاسم أمين (الذي أسمته بلوثيروس الشرق) باهتمام خاص (في مجلد 26، عام 1901)، واعتبرت أن المؤلف قد جاهر بغرضه في مقدمة الكتاب : "المرأة الجديدة

 

(1/14970)

 

 

هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث". وفي رأي قاسم أمين "أن ظهور المرأة الجديدة في الغرب بدأ إثر ظهور الاكتشافات العلمية التي خلّصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والخرافات وسلّمته قيادة نفسه ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها... حيث أخذ العلم يبحث في كل شيء، وينتقد كل رأي... وانتهى به السعي إلى أن أبطل سلطة رجال الكنيسة وألغى امتيازات الأشراف ووضع دستورا للملوك والحكام... ثم أكمل عمله بأن نسخ معظم ما كان الرجال يرونه من مزاياهم التي يفضلون بها النساء ولا يسمحون لهم بأن يساووهم". واستعرض كتاب قاسم

 

(1/14971)

 

 

أمين حال المرأة في العالم منذ العصور الأولى ثم انتقل إلى حالها في أوربا وأمريكا : "لما بلغت الإنسانية مبلغها من المدنية، نالت المرأة حريتها التامة وتساوت بالرجل في جميع الحقوق".

وغزت نبوية موسى، في خطبة لها في الجامعة المصرية (في مجلد 38، عام 1911)، تأخر المرأة العربية إلى انقطاعها للجهل والفراغ : " ... في حين كانت المرأة الغربية تتقجم مع الزمن؛ وكان نتيجة ذلك رقي الأمة رقيا بهر العالم". ونبويّة موسى معجبة بما وصلت إليه نساء أوربا اللائى "كنّ منذ قرنين تقريبا أسوأ منا حالا وما زلن يعملن حتى

 

(1/14972)

 

 

أصبحن على ما نعلمه من حالهن الآن". وأضافت قائلة : "... إن العار أن يعمل غيرنا من النساء ونكسل نحن فيتقدمن...". وأبدت ميّ زيادة في خطبتها في حقل النادي الشرقي في القاهرة (في مجلد 44، عام 1914) إعجابها بالنهضة النسائية الغربية، وراقبت ميّ تأثير المرأة في البلاد الغربية وظهور تحسن محسوس في مستوى الأخلاق والصحة، واعتبرت أن "مدنية الغد ليست مدنية الرجل وحده بل هي مدنية الإنسانية، لأن المرأة آخذة بالصعود إلى مركزها الحقيقي بقرب الرجل". وأضافت قائلة : "هذه هي المرأة الجديدة ومستودع آمال المستقبل".

 

(1/14973)

 

 

واستكمالا لموضوع المقارنة بين أحوال الشرق والغرب، ظهرت في "المقتطف" عدة مقالات حول التعليم والمدارس، نظرا "لأن البحث في ما يتعلق بالمدارس وطرق التدريس له المحل الأول عند طلبة الهيئة الاجتماعية وعند من يقصد النفع العمومي ويرغب في إصلاح بعض الخلل الذي يراه مستوليا على أمته وجنسه" (مجلد 8، عام 1883). وبحث بعض الكتابات في إخفاق المدارس في تحقيق الغرض المقصود منها بما هي أداة للتقدم؛ ومنهم من ذهب إلى أن علة القصور العلمي صعوبة لغتنا العربية وعدم صلاحيتها لمجاراة اللغات الأوربية، وأنه ليس فيها ما

 

(1/14974)

 

 

يخرجها عن وضعها الأصلي، لغة شعر وخطابة ، ويؤهلها لأن تكون لغة علوم وفنون ولسان اختراعات واكتشافات (مقال أسعد داغر، "تأخرنا العلمي وأسبابه"، مجلد 15، عام 1890). ووجه أسعد داغر في مقاله النقد إلى كتب التعليم في المدارس : فهي تعاني من الغلاء إذا ما قوبلت بكتب الغرب، إلى جانب غزارة فوائد الأخيرة ونفع محتوياتها؛ وهي غير متقنة الطبع، رديئة الورق والتجليد. كما صوّب سهام الانتقاد إلى المدرسين المتعاطين صناعة التعليم والتدريس: "... نظرا لمكانة وظيفة التعليم في الاعتبار والأهمية بين ذرائع ترقى شأن

 

(1/14975)

 

 

الإنسان ووسائل اتساع نطاق الحضارة والعمران"، وهي أمور قائمة - في رأيه - عند غيرنا.

وخصّصت "المقتطف" عدة مقالات للتعريف بالأصول الحديثة في التعلم والمتّبعة في الغرب (مثال ذلك ما كتبه وليم فان دايك عن الدرس والمدارس في مجلد 8، عام 1883؛ وما كتبه بولس شحادة عن أصول التعليم الحديث في مجلد 42، عام 1913). وأكد بولس شحادة أن التعليم خضع لناموس الاتقاء كما خضع الإنسان والعلم والتمدن : "فما نراه اليوم في المدارس والكليات والجامعات من أصول التعليم الراقية ليس ابن يومه". وأشار الكاتب إلى أنه قد نشأت في

 

(1/14976)

 

 

التعليم الحالي في المغرب أدبيّات جديدة وعلوم جديدة، ووجه العلماء أنظارهم إلى العلوم الطبيعية، لأنهم وجدوا "أنها هي العلوم التي كشفت وستكشف عما كان مجهولا، وأماطت اللثام عن كثير من قوات الطبيعة المستورة، ومهّدت السبيل إلى الاكتشافات والاختراعات التي يحار بها العقل". ونقل بولس شحادة عن علماء الغرب (سبنسر على وجه الخصوص) رأيهم بأن "التمدن لا يتم غلا متى عمّ العلم جميع طبقات الأمة على السواء، وأزال الفواصل القائمة سدّا منيعا بين الخاصة والعامة".

 

(1/14977)

 

 

وفي المقارنة بين أحوال الغرب المتقدم وتأخر الشرق، لاتصل المقتطف" إلى حدّ اليأس، ودعت (في مجلد 9، عام 1885) إلى قلب صفحة واحدة من تاريخ أوربا وأمريكا : وبذلك "تقشعت غيوم القنوط من أمام أعيننا وظهرت لنا تباشير شمس الرجاء ورأينا أن شرقنا في حالته الحاضرة جنّة بالنسبة إلى ما كان عليه منذ قرنين أو ثلاثة... ومَنْ لنا بحَكَم مُنصف يُقابل أحوال أوربا في ذلك العصر بأحوال بلادنا في هذه الأيام". وفي مقال "آمال المشرق" (مجلد 18، عام 1893)، ذكرت المقتطف" "بأن العلوم الطبيعية والرياضية التي نتج عنها الارتقاء

 

(1/14978)

 

 

العظيم الذي ارتقته الممالك الأوربية في الفلاحة والملاحة والصناعة وكل الاختراعات والاكتشافات... إن هذه العلوم كانت مجهولة في أوربا كلها في العصور الوسطى، وقد بقيت ممتهنة مضطهدة إلى أوائل القرن التاسع عشر".

وما كان يبعث الأمل لدى كتاب "المقتطف" هو المكانة التي بلغتها الحضارة العربية الإسلامية في التاريخ، وإمكان "إعادة ما كنا عليه من السبق وإحراز مكانتنا الأولى في المجتمع البشري". وأضافت "المقتطف" في مقال "آمال المشرق" (مجلد 18، عام 1893) قائلة"

 

(1/14979)

 

 

... ... إن ما ساعد على الحضارة الأوربية هو قيام العرب في إسبانيا وجزائر بحر الروم ... ... ... واتصالهم بهم في شرقي أوربا... وإن العلوم الرياضية والطبيعية التي لاح فجرها في ... ... ... عصر اليونان... عاشت في ممالك العرب وأينعت، في حين حجبها الظلام الدامس ... ... ... كما حجب غيرها من معارف البشر مدة العصور الوسطى.

وأبدت المقتطف" في تعليقها على كتاب رشيد رضا أن "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" (في مجلد 28، عام 1902). واتفقت "المقتطف" مع الشيخ رشيد رضا على أن "الإسلام لا يناقص المدنية

 

(1/14980)

 

 

الأوربية الصحيحة بوجه من الوجوه، بل يرغب فيها ويحث على اتباعها ويوجب الأخذ بكثير من مقوّماتها، ولا سيما العلم".

ونقلت "المقتطف» فقرات من خطبة نبوية موسى في الجامعة المصرية (في مجلد 38، عام 1911). وهي تتحدث عن المرأة العربية في الزمن السابق وأنها كانت أرقى شأنا من النساء آخر : " ... فقد زاد الإسلام المرأة العربية رقيا على رقيها وسوى بينها وبين الرجال في الحقوق والواجبات". وتابعت نبوية موسى القول : " ... وما زالت المرأة العربية تشعر بالحياة الحقيقية إلى أن قضى الله على (الأمم) العربية بالانحطاط،

 

(1/14981)

 

 

فخملت العقول واستبد بهم الأعداء، فاستبذّوا بنسائهم".

ج - سبل النهوض في طريق التقدم والارتقاء:

كتب أسعد داغر في مقال "تأخرنا العلمي وأسبابه" (مجلد 15، عام 1890) : "... إن الأخذ بأسباب الإصلاح لا يتم إلا بعد الوقوف على سائر وجوه الخلل.. فشعورنا بتأخرنا العلمي يُعدّ لنا نهضة لتوقي سهام خمول... وخطوة مهمة في سبيل التقدم، إذ يسهل بعده إقناع الأفكار بوجوب المبادرة التي تطلب وجه السداد في طرح الإصلاح...". وهنّأ أحد قراء "المقتطف" (في مجلد 15، عام 1891) أسعد داغر على الحرية التي أبداها في مقاله لتشخيص

 

(1/14982)

 

 

شيء من أدواء الشرق والتصريح بها علنا : " ... فإن الوقت قد حان ... أن نسند الخلل قبل اتساع الخرق على الراقع. والمصلحة العمومية تطالبنا جميعا بإظهار غلطاتنا وعدم التعامي عنها. فإذا ظهرت وعلمناها حق العلم، سعينا إلى معالجتها وإيقاف سيرها".

وحثّت "المقتطف" (في مقال "مجاراة الأوربيين"، مجلد 17، عام 1893) على ضرورة "اقتباس ما عند الأوربيين من وسائل العلم والعمل... لأنها ضرورية للراحة والرفاهية... فمن منا يُنكر فائدة المطابع والسفن التجارية والسكك الحديدية والتلغراف والتلفون ونظام البريد وآلات الجراحة

 

(1/14983)

 

 

والضغط ورفع الماء وعمل الجليد وإطفاء النار". وتساءلت "المقتطف» باسم الشرقي (في مقال "آمال المشرق"، مجلد 18، عام 1893، قائلة: "... إن كانت البلاد الأوربية قد بلغت هذا المبلغ من الارتقاء في سنين قليلة مع كل ما يحبط المساعي فيها، فعلى مَ لا نقفو خطواتها ونبلغ مداها في سنين قليلة وليس أمامنا ما يعيقنا عن السعي أو يصدنا عن النجاح... ولسنا نيأس من الحياة ما دام فينا رمق، ولا من النجاح ما دام فينا عزيمة... وعلى هذا الأمل أنشأنا "المقتطف"

 

(1/14984)

 

 

وفي تعليق "المقتطف» على الطريقة الحديثة في التعليم، كتبت (في مجلد 43، عام 1913) : "... لا يكفينا أن نطّلع على ما يعمل في الخارج وأن نقتصر على استحسانه، بل يجب أن نستفيد منه وننسُخ على منواله إذا كنّا في حاجة إليه".

كان الرأي في إثبات الأمور المتعلقة بضرورة مجاراة الغير توطئة لبحث آخر هو : هل يمكننا مجاراة الأوربيين؟ (في مجلد 17، عام 1893)، واستعرضت "المقتطف" في مقالها "مجاراة الأوربيين" آراء العلماء بأن البلدان تختلف في إقليمها ومصادر ثروتها وضعف سكانها؛ وكل ذلك يؤثر في أشغالهم وأعمالهم، وبأن

 

(1/14985)

 

 

للأمم أعمارا طبيعية كالأشخاص، وبأن الأمة إذا غلبت على أمرها أو تولاّها الهرم أسرع إليها الاضمحلال. وأكد المقال "أنه لا يتعذّر على سكان أي قطر أن يجاروا الشعوب الأوربية إذا استخدموا الوسائل التي استخدمها الأوربيون وليس عليهم أن يسيروا في الطريق ما عند الأوربيين الآن من وسائل العمران".

ويرى د. أيوب ثابت في كتابه من بيروت إلى د. رضا توفيق نائب أدرنه المذكور سابقا (مجلد 37، عام 1910) أنه لا أمل في الإصلاح "ما لم تنتشر ثورة في الأفكار مبينة على العلوم الطبيعية والفلسفة المادية، فلا تراعي تقليدا ولا

 

(1/14986)

 

 

تحترم وهما"، وأن هذه الثورة الفكرية "لا تعني معارضة الدين من حيث هو، بل معارضته من حيث تقاليده المانعة للتقدم والارتقاء، فيفتح لنا ذلك... مجالا لمجازاة الأمم الراقية في علومها ومدنيّتها، فنتمكن بالتالي من فصل الدين عن السياسة فصلا تاما ويصبح الدين مُعتقد الفرد ودين الأمة الوحيد كأمة الحرية (الحقيقية) والعدل (الحقيقي)".

و "المقتطف"، في دعوتها الاقتباس من أفكار الأوربيين، نصحت أبناء العربية (في مقال "ارتقاء الأمم وانحطاطها"، مجلد 37، عام 1910) ب» ـأن يكونوا كالنّحل: يجنون العسل ويتركون سواه...

 

(1/14987)

 

 

أما في أوربا، فالجمهور متعلّم يميّز بين الغثّ والسمين... وأما عندنا، فقلّما يستطيع الجمهور التمييز بين الغثّ والسمين والضلال والصواب".

لقد وجهت "المقتطف» الدعوة إلى الأخذ بأسباب الإصلاح كلّه (في مجلد 28، عام 1903): "إصلاح الزراعة وتعزيزها بكل ما عُرف من طبائع الأرض والمزروعات، إصلاح الصناعة والتجارة وسائر معوّقات العمران المادي، تهذيب الأخلاق وتربيتها على الفضائل، ونزع الصور القديمة من العقائد الدينية وإبقاء ما يطابق العقل السليم منها".

 

(1/14988)

 

 

واحتل موضوعان رئيسان مكانة بارزة في دعوة "المقتطف" للنهوض : التعليم والمرأة. فقد حثت "المقتطف" في مقال "مجاراة الأوربيين" (مجلد 17، عام 1893) على التعليم، لأنه السبيل الأمين لمجاراة الأوربيين، ودعت إلى إصلاحه ووضعه على أسس علمية مبنية على ما عرف من نمو القوى العقلية (بولس شحادة، "وجهة التعليم العصري"، مجلد 43، عام 1913). وطرحت إمكان ترجمة الكتب العلمية وتدريس العلوم باللغة العربية (في مجلد 48، عام 1916)، ووجدت أن اللغة العربية تصلح لكتابة موضوعات علمية، هذا مع إبقاء كثير من الكلمات العلمية

 

(1/14989)

 

 

(و"المقتطف" خاضت التجربة). ودعت "المقتطف" إلى تعليم مواد العلوم باللغة العربية وعلى يد أساتذة وطنيين؛ فهم ليسوا أقل كفاءة - في نظرنا - من الأساتذة الأجانب في تعليم العلوم.

وفي العمل على مجاراة العرب ولاقتباس عنه في طريق التقدم والارتقاء، ورد في "المقتطف"(في مجلد 26، عام 1910) تقريظ مصطفى فهمي لكتاب قاسم أمين : "... إن الهيئة الاجتماعية في بلادنا لا تتقدم تقدما حقيقيا من دون تربية المرأة على الفضيلة والعلم وإن هذه التربية لا تتم مع وجود الحجاب". وكتب أسعد داغر (في مجلد 27، عام 1902): "إن المرأة

 

(1/14990)

 

 

الشرقية هي أحطّ من رجلها في سلم الارتقاء"، ورأى أنها في حاجة إلى الترقية والإصلاح وتبعة قصور كل منهما على الرجال: "... وقبلما نحاول رفع الحجاب عن وجه المرأة الشرقية، علينا أن نرفعه عن هذه الحقيقة المهمة ونعترف بأننا نحن مقصّرون في ترقية فتاة الشرق، ونكفّ عن لومها وتحقيرها من جهة، وعن تملّقها ومدهنتها من جهة أخرى... ونصرّح لها أننا نفضّل علمها وتهذيبها وأدبها وكمالها على زينتها وحلاها ومالها وجمالها... فإن فعلنا هذا، فتحنا باب الارتقاء؛ وإلا فأمم المشرق صائرة إلى الفناء".

 

(1/14991)

 

 

وعلق أحد قراء "المقتطف" في سان باولو على مقال أسعد داغر (في مجلد 27، عام 1902) بقوله: "... إنه إذا علمنا أسباب تأخر رجالنا، علمنا أيضا أسباب تأخر نسائنا"، وإن إصلاح الرجال، من وجهة نظر الكاتب، لا يقوم "بدون تعميم التعليم والتهذيب. وهذا أيضا لا يتيسر لأية أمة كانت ما لم تأخذ القوة الحاكمة معظم ذلك على عاتقها وتجعل التعليم إلزاميا كما نراه الآن في أرقى ممالك الأرض. وعندئذ يستحيل على الرجل المهذب أن يحرم بناته من التنوير وحسن التربية".

 

(1/14992)

 

 

وفتحت "المقتطف» صفحاتها للخوض في مسألة حقوق المرأة في التعليم، لأنه السبيل الوحيد لترقيتها (في مجلد 10، عام 1886). ودعت في باب تدبير المنزل "إلى بذل الأموال في تعليم البنات وتثقيف عقولهن، وإلى دحض آراء السواد الأعظم من أهل الشرق الذين "ما زالوا يحسبون أن تعليم البنات لا يفيد الفائدة المطلوبة، وميزوا بين قُدرات البنين والبنات على تحمل عبء التعليم". (هذا ما كتبه مهجة سوقي في مجلد 17، عام 1893). وأضافت الكاتبة قائلة: "إن الأمة التي لا تعتني بتعليم إناثها وتثقيف عقولهن كما تُعنى بتعليم ذكورها، لا

 

(1/14993)

 

 

يتأتى لها أن ترقى مراقي التقدم والفلاح...". ودعت بنات الشرق إلى أن يسعين في تحصيل العلم، "مقتديات ببنات جنسكن الغربيات في طلب ما يكسبكن الفخر ويخرجكن من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة". ودعت إحدى قارئات "المقتطف" (في مجلد 26، عام 1901) أولئك "الذين يفكرون الآن في تحرير المرأة أن يبحثوا في طرق تعليمها... فالعلم هو الذي يمشي وراء الإنسان في هذه الحياة". ووجدت "المقتطف" (في مجلد 26، عام 1901) في مقدمة كتاب قاسم أمين "المرأة الجديدةّ الدليل المقنع "... على وجوب تعليم المرأة ومنع كل ما يضعف قواها

 

(1/14994)

 

 

الأدبية والعقلية والبدنية". وتجاوزت "المقتطف» حدود الواقع بدعوتها تعليم فريق من البنات العلوم العالية (في مجلد 28، عام 1903)، تعليقا على خطبة أستاذ أمريكي في مؤتمر النساء في الولايات المتحدة . ذلك بـ"... أن إنشاء المدارس العالية للبنات وتعليمهن العلوم العالية، إذا استطاع أهلهن أن ينفقوا عليهن، من لوازم الحضارة التي لا بد منها إذا أردنا مباراة غيرنا من الأمم الراقية".

 

خاتمة

لم تكن دعوة "المقتطف» إلى اقتباس أساليب الغرب ومدنيته دعوة مطلقة بلا حدود. فقد تعرض يعقوب صروف أحد مؤسسي "المقتطف" في

 

(1/14995)

 

 

خطبته في المجمع العلمي الشرقي (في مجلد 9، عام 1884) لمضار التمدن الأوربي، فقال : "... وكنت كلما نظرت إليه، ترتعد فرائضي لئلا يُصيبنا - نحن الشرقيين - ما أصاب أهالي هواي وأستراليا، فيعود هذا التمدن علينا وبالاً ويذهب بأموالنا وأرباحنا...".

ولم يكن قَصْد صروف أن يطْعن في التمدن الأوربي على الإطلاق : "... لأن الذين شادوا دعائمه قد انتفعوا منه وسادوا على أكثر المعمورة". ولكنه كان يحث دعاته على التبصّر في عُقبى أعمالهم لئلا يُبيدوا الشعوب "المتوحشة" وهم يريدون نفعا. وصرّوف يحذر المُقتفين خطوات

 

(1/14996)

 

 

المتمدنين من اقتباس المنافع مع المضار. وما كان يبعث الثقة في نفسه قوله: "أما نحن الشرقيين، فلا خوف علينا من التمدن الأوربي؛ لأننا أقدم في المدنية من كل الشعوب، وإن كنا غير سالمين من بعض مضاره...".

 

(1/14997)

 

 

ميناء ديبل عند الفتح الإسلامي

... الدكتور إبراهيم عطا الله البلوشي

... كلية الآداب جامعة الإمارات العربية المتحدة - العين

ملخص

يتناول هذا البحث تاريخ ديبل الواقعة على الضفة الغربية لنهر السند، وتعرف الآن باسم بهمبور.

ويتطرق البحث كذلك للحديث عن سكان مدينة ديبل، وسكان إقليم السند على وجه العموم، كما يتطرق للحديث عن الفتح الإسلامي لتلك المنطقة ، ولغة أهلها وألبستهم ومساكنهم وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية.

مقدمة

 

(1/14998)

 

 

كانت تسمى ديبل أو ذيبل (1) وتعرف الآن باسم بهمبور (2) وهي على بعد ستة أميال من مصب نهر مهران ( نهر السند) على الضفة الغربية منه، عند مدخل البحر، على شاطئ خور يسمى خو ديبل (3) وهي مدينة حصينة على الساحل ، يقول المقدسي : "وديبل بحرية قد أحاط بها نحو من مائة قرية، أكثرهم كفار، والبحر يسطع جدارات المدينة" (4)

__________

(1) الدمشقي، نهبة الدهر، ص.173؛ البكري، معجم ما اتسعجم ،ج 1، ص.569.

(2) تظهر من الصور أبعاد مدينة ديبل عن مدينة كراتشي..

(3) ابن حوقل ، صورة الأرض، ص.282؛ الدمشقي، نخبة الدهر، ص.99.

(4) المقدسي ، أحسن التقاسيم، ص.379.

 

(1/14999)

 

 

ويقول الإدريسي إن أراضيها جدبة ليس بها شجر ولا نخل وجبالها جرد وسهولها قشفة عديمة النبات (1) .

وقديما كانت المدينة مقرا للحاكم أونائبه،أي العاصمة الثانية، وبها سجن ضخم ومعبد فخم للإله سيوا يخدم فيه أكثر من 700 فتاة ، وقلعة المدينة عبارة عن سور وأبراج يبلغ طولها 2000 قدم وعرضها 1000 قدم (2).

__________

(1) الإدريسي ، نزهة المشتاق ، ط1، ص.167.

(2) اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص.288؛ الطرازي، الموسوعة، ج1، ص.180؛ بلوش، فتح السند، ص.98.

 

(1/15000)

 

 

وتنقسم منطقة السند جغرافيا إلى خمسة أقاليم، ولكل إقليم مدنه وقراه والأقاليم هي : سيوستان، الملتان، إسكلنده، أرور وهي العاصمة وبرهمن آباد وهي المنصورة ( حيدر آباد حاليا)، ومدينة ديبل تقع في إقليم "برهمن آباد" ومن مدنه، النيرون، لوهانة، لالهه، سمه،

وغيرها (1) .

وقد زار المقدسي الميناء والمنطقة ووصفها بقوله " هذا إقليم الذهب والتجارات، والعقاقير والآلات والفانيد والخيرات والارزاز والأعجوبات، به عدل وإنصاف وسياسات، وبه خصائص وفوائد وبضاعات، ومنافع ومتاجر وصناعات، ومدن سرية وسلامة وعافية، ثم

__________

(1) 38.

 

(1/15001)

 

 

أمانات، نهر شريف، وأمره طريف، ولا تصل إليه إلا بعد أخطار البر وأهوال البحر، ولهم مروءة، وللإسلام عندهم طراوة، والعلم كثير والتجارات مفيدة، ولهم ذكاء وفطنة ومعروف وصدقة" (1) .

السكان

أقدم سكان السند وديبل كانوا شبيهين بالزنوج ثم أتت موجات تورانية، من أواسط آسيا فتوالدت مع الأهلين، فظهر الدراوديون، وهم السكان الأصليون لمنطقة السند، وجدوا فيها منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد ، ثم توالت عليها أقوام آرية قدموا من الشمال الغربي للسند منذ 3500 سنة قبل الميلاد، ومعهم

__________

(1) المقدسي، أحسن التقاسيم، ص .474.

 

(1/15002)

 

 

لغتهم السنسكريتية.

 

وقدمت إلى البلاد موجة آرية منذ عام 600 ق.م. وبعد استقرارهم في البلاد خاف كهنة البراهمة مغبة اختلاط أتباعهم مع غيرهم، فوضعوا نظام الطبقات (1) .

وأشهر القبائل الموجودة عند قدوم المسلمين السند هم : الزط، والميد.

أما الزط، الجت ( Jote) ، فهم أكثر عددا وأقوى عدة، وأخطر على أمن الدولة السندية من الميد، وهم ينتسبون إلى قبيلة لوهانه ( Luhans) الهندية، وينتمون إلى طبقة واحدة، ومعيشتهم قاسية، والجهل

__________

(1) الساداتي ، تاريخ الدولة الإسلامية، صص.9-11 ؛ النجرامي، العلاقات السياسية، صص.15-16.

 

(1/15003)

 

 

منتشر بينهم (1) .

وكانوا يقطنون غالبا في المناطق الداخلية وأطراف الأنهار، ومنهم من كان يحترف العمل في البحر والسواحل، ومنهم كذلك القراصنة، وقطاع الطرق، ويعرفون بالبدهه، وأغلبهم يشتغلون بالرعي (2) . وانتقل الكثير منهم إلى الجزيرة العربية، والخليج والحجاز، واليمن والعراق، والشام قبل الإسلام وبعده، فكان منهم من دافع عن سيدنا عثمان رضي الله عنه يوم استشهاده، وكانوا

__________

(1) الطرازي ، الموسوعة، ج 1، صص.76-77.

(2) ابن حوقل ، صورة الأرض، ص.55؛ ابن سعيد، كتاب الجغرافيا، ص.132 ؛ أبو الفداء، تقويم البلدان، ص.138.

 

(1/15004)

 

 

حراسه، فقتلوا وبعضهم قاتل بجانب سيدنا علي رضي الله عنه يوم الجمل، وشاركوا الأمويين في حراسة الثغور والدفاع عن حوزة المسلمين (1) .

الميد ( Meds)

و أفراد هذه الطائفة كانوا منتشرين على سواحل السند وصحرائها، الممتدة من الملتان إلى البحر، وضفتي نهر مهران حتى مكران، وهم كذلك كانوا لصوصا وقراصنة، ولكنهم كانوا مهرة

__________

(1) البلاذري، فتوح البلدان ص.166؛ تاريخ الأممم، ج 1، ص.306 ؛ محمد ، التاريخ والحضارة، ص.19؛ الطرازي، الموسوعة، ج1، الالوائي، الدعوة الإسلامية ، صص.63-66.

 

(1/15005)

 

 

وأصحاب خبرة في الحروب البحرية (1) . ويطلق عليهم أيضا البدهة أي البوذية أحد أديان

الهندوس. هاتان الطائفتان كانتا تعانيان من سوء معاملة الحكومة البرهمية، إلا أنهم بعد دخولهم الإسلام تغيرت أحوالهم، واستفاد المسلمون من معرفتهم لمسالك الطرق، وأحوال السند وأهلها، فجند ابن القاسم منهم في الجيش ما لا يقل عن أربعة آلاف، لما كان لهم من الشجاعة والفروسية.

__________

(1) الإدريسي، نزهة المشتاق، ج1، صص.178 - 179 ؛ الطرازي ، الموسوعة، ج1، صص.76 - 77.

 

(1/15006)

 

 

ولعله أراد بذلك التخفيف من شعور العداء الكامن بين الأهالي والمسلمين (1)

فتح السند

سبق السند علاقات تجارية وصلات حضارية قبل الإسلام بين أهل الجزيرة العربية والخليج "بحر فارس"، وبين السند والهند. إلا أن حكام السند لم يرغبوا في بقاء العرب عندهم، وذلك لمصالحهم السياسية وغيرها فلم تكن لهم إلا معابر ومحطات تجارية على السواحل الهندية. ولهذا لم يكن كثير من العرب يفضلون البقاء هناك (2)

__________

(1) الساداتي، تاريخ الدولة الإسلامية، ج 1، صص.11-22؛ ساعاتي، انتشار الإسلام،ص.101.

(2) محمد ، التاريخ والحضارة، صص.12-13؛ الطرازي ، الموسوعة، ج 1، صص.242-243.

 

(1/15007)

 

 

.

وحين فتح الله للمسلمين مشارق الأرض ومغاربها ووصلت جيوشهم إلى مشارق سواحل الجزيرة الشرقية، أرادوا اجتياز البحر للوصول إلى سواحل السند والهند ( القوة البحرية).

ومن جانب آخر فتح الله للمجاهدين أراضي العراق وفارس ومكران، ووصلت قواتهم البرية إلى حدود السند ( القوة البرية).

وكان أول الفتوحات الإسلامية لتلك المنطقة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أن واليه على البحرين وعمان ( عثمان بن أبي العاص) أبقى آخاه الحكم بن أبي العاص في البحرين، وتوجه هو إلى عمان ومن ثم أرسل جيشا في غارة جريئة

 

(1/15008)

 

 

على مدينة ( بمبني حاليا) وانتصر وغنم ثم عاد، وفي السنة نفسها وجه أخاه المغيرة بن أبي العاص إلى ديبل، فلقي العدو وظفر به سنة 15 هـ/ 636 (1)

وتتابعت الهجمات الإسلامية على السند في عهد سيدنا عثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بلوشي

وفي عهد عبد الملك بن مروان وحين تولى الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إمارة العراق والمشرق الإسلامي، كانت مكران تحت إمرة المسلمين، فكانت المنازعات مستمرة بين

__________

(1) البلاذري، فتوح البلدان، ص.420؛ بلوش، فتح السند، ص.83.

 

(1/15009)

 

 

المسلمين هناك وبين ملك السند على حدود مكران، ففتح المسلمون بعض المناطق، واستشهد بعض القادة إلى أن ولى الحجاج الأمير محمد بن هارون بن ذراع النمري، واليا على مكران.

ذكرت المصادر التاريخية الموثقة أن من فضائل الحجاج أنه تفرغ وهيأ كل الإمكانيات للقضاء على فرقة الخوارج، فتتبعها إلى أن كسر شوكتها فقتل من قتل وهرب من هرب، ومن الفارين من لجأ إلى عمان، فأرسل الحجاج في أثرهم، فهربوا، واجتازوا البحر ووصلوا إلى مكران والسند.

 

(1/15010)

 

 

وكان الهاربون حوالي خمسمائة رجل منهم من تآمر مع ملك السند وانضم إليه، ومنهم من بقي في مناطق الحدود السندية المكرانية، وأخذوا ينازعون المسلمين (1) .

فأخذ الحجاج يتتبع آثارهم، وأرسل الجيش من العراق للقضاء عليهم ولتأديب ملك السند الذي كان يحرض هؤلاء الخارجين على الخلافة لمحاربة أمير مكران، ومن جراء ذلك أخذ العلافيون وهم من الخوارج ينظمون صفوفهم واتخذوا لأنفسهم قادة ورؤساء مثل : معاوية ومحمد ابني الحارث العلافيين. وكان قد ولى الحجاج سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي

__________

(1) بلوش، فتح السند، صص.79-80، 94-95.

 

(1/15011)

 

 

أميرا على مكران( 75 - 80 هـ/ 694-699 م) فنظم الأمور، وأمر الحجاج بمحاربة العلافيين، إلا أنهم أسرعوا بالخروج إليه. وتآمر كليب بن خلف، وعبد الله بن عبد الرحيم، ومحمد ومعاوية العلافيان، وقتلوا سعيدا، واستولى العلافيون على مكران سنة 80-85 هـ/ 699-704 م بتأييد من ملك السند.

وبعدها أرسل الحجاج جيشا قويا على هؤلاء الخارجين بقيادة مجاعة بن سعر التميمي

( 85-86 هـ/ 704 - 705 ن ) ، وقبل أن يصل الأمير ترك العلافيون المنطقة، والتجأوا إلى ملك السند (1)

__________

(1) المغربي، الإيناس، ص.177؛ ابن الأثير، الكامل، ج4، ص.36؛ الطرازي، الموسوعة ، ج1، صص.156-157.

 

(1/15012)

 

 

. وبعد وفاة مجاعة أرسل الحجاج الأمير محمد بن هارون بن زراع النمري أميرا على المنطقة من 86 - 92 هـ/ 705 - 710 م حتى قدوم محمد بن القاسم (1) .

تذكر بعض الروايات أن السبب الرئيسي لفتح الحجاج إقليم السند هو : إنقاذ المسلمات من سجون الملك داهر، وذلك أن كثيرا من تجار العرب أقاموا في جزيرة سرنديب " سيلان" مع من أسرهم ومنهم من تزوج هناك وأنجب، ثم توفي البعض منهم وخلفوا أرامب وأيتاما.

__________

(1) ساعاتي، انتشار الإسلام، ص.81 ؛ الطرازي ، الموسوعة ، ج1، صص.160-161.

 

(1/15013)

 

 

فأراد ملك الجزيرة أن يرسل أهالي المتوفي عنهن أزواجهن إلى دار الخلافة، حيث ذووهم وورثهم، ومعهم كثير من الرجال والنساء الراغبين في الحج، ومن بين النساء من أردن مشاهدة العاصمة دمشق لأنهن ولدن في الجزيرة وترعرعن هناك، وقد أرفق ملك الجزيرة مع هؤلاء العرب كثيرا من الهدايا الثمينة والتحف النادرة من الدرر والياقوت، وعددا من الغلمان والحواري والعبيد الأحباش، وكان شأن هذا الملك أن يرسل سنويا الهدايا إلى دار الخلافة.

 

(1/15014)

 

 

وفي هذه السنة، أي 90 هـ/ 708 م، أرسل الملك هذه الهدايا إلى العراق رغبة في التقرب من الحجاج وحمل ذلك في ثماني سفن كبيرة (1) .

وكان بعض هذه السفن للعرب، وحدث أن هبت على هذه السفن عواصف عاتية، فألقت بها إلى سواحل السند قريبة من ديبل، وهذه السواحل مأهولة بقوم يقال لهم الميد، عرفوا بالنهب والسرقة والقرصنة (2) . فخرج هؤلاء على بوارج بحرية وهاجموا السفن الإسلامية فنهبوها،

__________

(1) ساعاتي ، انتشار الإسلام ، ص.81؛ الطرازي ، الموسوعة ، ج1، صص.160-161.

(2) البلاذري، فتوح البلدان ،ص.423؛ بلوش ، فتح السند، ص.18.

 

(1/15015)

 

 

وأسروا الرجال والنساء المسلمات والأطفال، فذهبوا بالبعض إلى سجن ديبل والبعض إلى سجن العاصمة ( أرور).

وأثناء السلب والنهب صاحت امرأة مسلمة من بني يربوع بأعلى صوتها واحجاجاه أغثني، وحدث أن انفلت من أيدي اللصوص بعض المسلمين وأوصلوا الخبر إلى الحجاج بن يوسف، فقال : لبيك لبيك، وكتب رسالة من توه إلى ملك السند يطلب منه إطلاق سراح

المسلمات إلا أن الملك رد ردا قبيحا بقوله : "إنما أخذهن لصوص لا أقدر عليهم".

 

(1/15016)

 

 

والحقيقة غير ما ذكر، فالروايات الثابتة تذكر أن رجال الملك هم أنفسهم هاجموا السفن الإسلامية، وخير دليل على هذا أن السفن المهاجمة كانتبوارج حربية وهي سفن لا يملكها إلا الحاكم وحتى لو لم تكن تأتمر السفن المهاجمة بأمر الحاكم، إلا أن كان الحاكم كان على علم بهذا الهجوم، وإلا لما استطاع هؤلاء تقسيم الأسرى وتوزيعهم بين سجن ديبل وسجن العاصمة، على مرأى ومسمع من الملك وسلطاته (1) .

__________

(1) النجرامي ، العلاقات السياسية، ص.37.

 

(1/15017)

 

 

عندئذ قرر الحجاج فك الأسرى ورد الاعتبار للخلافة الإسلامية وذلك بالقضاء على القراصنة، ونشر الإسلام في تلك البقاع.

فأرسل جيشا بقيادة عبيد الله بن نبهان السلمي سنة 90 هـ/ 708 م، فوصل إلى ديبل وقاتل العدو حتى استشهد وهزم جيشه، ثم أنفد الحجاج جيشا آخر سنة 91هـ/ 709 م بقيادة أحد الشجعان البارزين الأخيار، وهو : بديل بن طهنة البجلى فأخذ طريق البر إلى عمان، ثم عبر البحر وتوجه إلى مكران، فالتقى بواليها محمد بن هارون وأمده هذا الأخير بثلاثة آلاف من الجند، إلى أن وصل إلى ديبل والتقى بالعدو وكان النصر حليفه

 

(1/15018)

 

 

في بداية الأمر، إلا أن داهر أرسل ابنه جيسيه مع أربعة آلاف مقاتل وعشرات الفيلة المحاربة، فتقاتل الفرقان منذ الصباح الباكر حتى المساء. وقد ربط القائد ( بديل) خلالها عيني فرسه لأنها كانت تهاب الفيلة وقاتل بشجاعة نادرة، وقد قتل بمفرده من العدو قرابة ثمانين مقاتلا في الميدان، حتى استشهد في نهاية المعركة، وانهزم جيشه ووقع الكثير منهم في الأسر، وسجنوا مع النسوة والتجار في السجن الكبير

بديبل (1) .

__________

(1) محمد، التاريخ والحضارة ، صص.29-30؛ بلوش، فتح السند، صص.98-99؛ الطرازي، الموسوعة، ص1، ص162.

 

(1/15019)

 

 

ووصل الخبر إلى الحجاج فحزن حزنا شديدا على استشهاد بديل، فقد كان له مكانة عظيمة في نفسه (1) .

 

ثم أقسم الحجاج على أن يغزو بلاد السند ويفتحها، فكتب بالتفصيل إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك واستأذنه بإرسال جيش كبير إلى السند فلم يوافق الخليفة، لبعد المنطقة من ناحية، فهي تبعد 2500 كم عن العاصمة دمشق، ومن ناحية ثانية لقوة الملك داهر، وغنى بلاده المعروفة بثرائها وقوتها وحضارتها القديمة (2) .

__________

(1) بلوش، فتح السند،ص.99.

(2) محمد، التاريخ والحضارة، صص.31-32.

 

(1/15020)

 

 

وهناك الموانع والحواجز الطبيعية ، البحر، والصحارى مما جعل الخليفة يتردد.

لكن الحجاج ألح عليه وأقنعه، بعد ما أظهر له الخطط والتدابير لحفظ أرواح المسلمين فوافق الخليفة. رأى الحجاج أن يولي قيادة الجيش محمد بن القاسم لما كان يتمتع به من شجاعة مروءة، لكنه خشي أقوال الناس من اصطناع الحجاج لأهله، إلا أن ابن القاسم قال للحجاج : "إنني لا أطلب منصبا ولا أطالبك بالرزق، وإنما أطلب منك أن تعينني على ميتة في سبيل الله فأعني على الموت يهب لك الله الحياة (1).محمد بن القاسم بن محمد

__________

(1) شاكر، باكستان ، ص.15.

 

(1/15021)

 

 

الثقفي، ابن عم الحجاج بن يوسف (1) .

والحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي يجتمع بمحمد بن القاسم الثقفي في الحكم بن أبي عقيل (2) . وكان محمد بن القاسم واليا على إقليم فارس ومقره شيراز، كما كان أبوه واليا على البصرة من قبل الحجاج (3) .

فجهز الحجاج ابن القاسم بجيش قوي مكين قوامه ستة آلاف من الفرسان (4)

__________

(1) الزركلي، الأعلام، ج 6، ص.333.

(2) ابن الكلبي ، جمهرة النسب، ج2، ص.77.

(3) البلاذري، فتوح البلدان، ص.424 ؛ ابن حزم ، جمهرة العرب صص.267-268.

(4) اليعقوبي ، تاريخه، ج2، ص.288 ؛ العبر، ج5، ص.132.

 

(1/15022)

 

 

، كما ضم إليه ستة آلاف آخرين من أهل فارس من العرب وغيرهم من المشاة (1) . وفي سنة 92 هـ/ 710 م توجه بالجيش إلى شيراز وأقام بها ستة أشهر ليجمع قواه ومن هناك قسم قواته إلى بحرية وتوجه ابن القاسم بالبر إلى مكران وأقام بها شهرا ومعه من القوة ستة آلاف من الجند ومن

 

مكران رافقه أميرها محمد بن هارون ومن معه حتى أرمائيل ووافته المنية هناك (2) . أما الفرقة والقوى البحرية فقد أرسلت عن طريق البحر ومعها المؤن

__________

(1) الطرازي، الموسوعة ،ج1، ص.167.

(2) البلاذري، فتوح البلدان،ص.424 ؛ بلوش، فتح السند ، ص.105.

 

(1/15023)

 

 

والأسلحة الثقيلة مثل المنجنيقات وغيرها، ومن المنجنيقات منجنيق عظيم يسمى العروس يديره ويعمل به ما يقارب من خمسمائة رجل وشاءت الأقدار الإلهية أن يلتقي الجيش البري بالجيش البحري في اليوم نفسه وكأنهما على موعد، ولكنها إرادة الله وكان ذلك في يوم الجمعة (1) .

وكان على قيادة الجيش البحري خريم بن عمرو المري وابن المغيرة، وبجانب هؤلاء القادة كان هناك قواد بارزون مثل عبد الرحمن بن سليم الكلبي،

__________

(1) ابن الأثير، الكامل، ج 4، ص.111؛ ساعاتي، انتشار الإسلام، صص.93-97 ؛ ابن خلدون، العبر، ج5، صص.132-133، 160-161.

 

(1/15024)

 

 

وسفيان بن الأبرد المشهور بالجلد، وقطن بن مدرك الكلابي (1) .

وبدأ حصار المدينة من كل الاتجاهات، ونصب المنجنيق الضخم " العروس" وأمر ابن القاسم جعوبة المسلمي قائد المنجنيق بتركيز الرمي على قبة الب " والبد صنم للمجوس هناك" وكان ارتفاع القبة 40 ذراعا وسعتها 40 ذراعا.

__________

(1) الطرازي ، الموسوعة، ج1، صص.166، 169-171؛ البلاذري فتوح البلدان، صص.424-425 ؛ محمد، التاريخ والحضارة، صص.38-39؛ اليعقوبي، تاريخه، ج 2، ص.277.

 

(1/15025)

 

 

وأثناء الحصار خرج رجل برهمي من النساك، وطلب الأمان من ابن القاسم فأمنه. ثم أخبر المسلمين أنه طالما العلم يرفرف على المعبد، يصعب عليهم فتح المدينة، لما كان الهنود يعتقدون في ذلك، فأشار عليهم بإسقاط العلم، وعندئذ أمر ابن القاسم جعوبة بضرب العلم، فبدأ ورمى بالمنجنيق وأسقط العلم، كما أسقط جزءا من قاعدته وساريته.

فكبر المسلمون ثم أصاب قبة المعبد، فانهدمت تماما دون أن تصيب مبنى المعبد بضرر (1) وتطير أهل ديبل وتشاءموا فخرجوا إلى المسلمين مندفعين

__________

(1) المصدر نفسه، صص.38-39؛ اليعقوبي، تاريخه، ج2، ص.277.

 

(1/15026)

 

 

للقتال المستميث، فقابلهم المسلمون بالسهام كالمطر، وقاتل الطرفان قتالا شديدا حتى هزم الله الكفار، ورجعوا إلى داخل الحصن.

وفيما بعد هيأ ابن القاسم جنده للهجوم العام، فنصب السلالم، فكان أول المتسلقين صعدى بن خزيمة المرادي الكوفي، وتلاه عجل بن عبد الملك ابن قيس البصري،وفتحت الأبواب، فكبر المسلمون ودخلوا. لكن المشركين قاتلوا قتال الموت أو حياة أشد من ذي قبل.

واستمر القتال داخل الحصن ثلاثة أيام، حتى كانت الغلبة لجند الله، وتوجه بعض جند المسلمين إلى المعبد، وقتلوا حراسه، واخرجوا منه 700 جارية موقوفة

 

(1/15027)

 

 

لخدمة المعبد. بعدها أخرج المسلمون المساجين، رجالا ونساء. وأمر ابن القاسم بقتل كل محارب من أهل ديبل جزاء ما لقي المسلمون منهم من قبل، كما أمره الحجاج بإعطاء الأمان لبقية مدن السند إلا إذا تمرد أهلها. وبعد سيطرة المسلمين على المدينة، هرب عامل الملك داهر المسمى جاهين بن برسايد روات. وبدأ ابن القاسم ينظم أمور المدينة وخططها، فبنى مسجدا كبيرا، ووسع القلعة، وبنى بالجانب الشرقي للقلعة منطقة سكنية للمسلمين تضم أربعة آلاف من العوائل العربية والجند وعين حاكما على ديبل وهو محمد بن وداع النجدي وكان ذلك في

 

(1/15028)

 

 

رجب سنة 93هـ/ 711 م (1) .

وقسم ابن القاسم الغنائم على الجنود، وأرسل بالخمس إلى دار الخلافة، ثم توجه إلى السند الداخلي، وكلما مر على مدينة صالحه أهلها، حتى قتل ملكها داهر ودخل عاصمته

" أرور" فجر يوم الجمعة 11/9/93 هـ - 1/7/ 712 م (2) .

__________

(1) ساعاتي، انتشار الإسلام ، صص.99-101؛ الطرازي، الموسوعة، ج1،صص.166-173 ؛ ابن الأثير، الكامل، ج4،ص.111؛ البلاذري، فتوح البلدان، صص.424-425 ؛ بلوش ، فتح السند، ص.197.

(2) اليعقوبي، تاريخه،ص.289 ؛ بهارد، لب تاريخ السند، ص.24؛ البلاذري، فتوح البلدان، ص.427.

 

(1/15029)

 

 

لمحة عن الناحية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية

ونعني به : المجتمع والثقافة واللغة والتجارة .

أولا : سبق ذكر الأجناس والقبائل. أما الطبقات، فقد رأى القادمون الجدد بعد

الاستمرار في إقليم السند، وخاصة رجال الدين البراهمة أن لا تختلط قبائلهم وعنصرهم مع العناصر الموجودة من قبل فأنشأوا نظام الطبقات.

... الطبقة الأولى :

البراهمة ( برهمن) وهم رجال الدين، ولهم الإشراف على المعابد وجمع النذور والخيرات، ولهم السلطة المطلقة في البلاد بما يفوق سلطة السلطان نفسه.

الطبقة الثانية :

 

(1/15030)

 

 

الكشترية ( جهتري ) وهم الحكام والقواد والسياسيون، يتولون شؤون الدفاع والسياسة والسلطة.

الطبقة الثالثة :

الفيشية ( ويش) وهم التجار والصناع والزراع، ويقومون بالأمور الاقتصادية وتوفير وسائل العيش للطبقتين العاليتين.

الطبقة الرابعة :

الشورى ( جودري) وهم من الدراوردية وهم السكان الأصليون وواجبهم القيام بخدمة الطبقات الثلاث الكبيرةـ في أحط الخدمات وأقذرها وهم محرومون من جميع الحقوق الإنسانية، ولا بد أن يسكن أفراد هذه الفئة خارج المدينة، بحيث يقومون بخدمة الأسياد نهارا ويخرجون ليلا ولا يسمح لهم

 

(1/15031)

 

 

بالتجارة وجمع المال والتعليم. ذكر البيروني ،"بل محروم عليهم سماع الكتب المقدسة، ومن سمعها يصب في أذنيه الزيت الحار، وإذا رفع صوته على أحد من أفراد الطبقات الأخرى قطع لسانه" وإذا رفع يده، وإذا رفس قطعت رجله".

ولا يسمح لهم بالزواج من غيرهم، أو الانتقال والانتماء إلى طبقة أعلى منهم.

وبعد الفتح الإسلامي احتار المسلمون وابن القاسم أمام هذه الطبقات وكيفية التعامل معها، فقرر تطبيق الآية الكريمة عليهم { لا إكراه في الدين} واتخذوا النصح والمعاملة الحسنة شأن الوالي المسلم فتأثر الكثير، فمن دخل منهم

 

(1/15032)

 

 

الإسلام، أصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

 

وعند قدوم المسلمين كان أهل السند منقسمين إلى فئتين سياسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا.

فئة أصحاب الطبقات الثلاث الأولى وهم أصحاب الديانة البرهمية وأصحاب النظام الطبقي ورجال السلطة.

الفئة الثانية: أصحاب الديانة البودية، وهم الدارودرية ومنهم الميد والزط، المناؤين للفئة الأولى.

وبسبب الظغوط والمعاملة اللإنسانية تجاههم من الفئة الأولى أخذ هؤلاء يجمعون أفرادهم ويوحدون كلمتهم حتى نظموا شأنهم بأن أصبح لهم رئيس يأتمرون بأمره.

 

(1/15033)

 

 

فبدأوا بمواجهة السلطة البرهمية حتى عم فسادهم البر والبحر على العامة والخاصة من قرصنة بحرية على كل من مر بسواحلهم من السفن وقطع الطريق والسلب والقتل لكل من عبر ديارهم، إلى أن ضاق الملك داهر منهم ذرعا، فاتخذ ضدهم بعض الإجراءات القاسية فألزمهم بارتداء لباس خاص بهم لكي يعرفوا، وإذا ثبت على أحدهم سرقة أو قتل فإنه مع أفراد أسرته يحرق بالنار وغيرها من الإجراءات القاسية.

وهذه الفئة المظلومة التي تتفق بعض مبادئ دينها مع قواعد وأسس الدين الإسلامي في مبدأ المساواة والعدالة، وإلغاء نظام الطبقات، وخاصة بعد

 

(1/15034)

 

 

فتح المسلمين لمناطقهم والمعاملة الحسنة التي وجدوها من القائد محمد بن القاسم وجنده، أخذوا في الدخول في الإسلام واعتناق هذا الدين الجديد جماعات وأفرادا، وبعد اعتناقهم الإسلام ضم ابن القاسم العديد منهم إلى قيادات عليا في الجيش الإسلامي.

ومن جهة ثانية استفاد المسلمون من خبرتهم الحربية وإخلاصهم في الجهاد بجانب إدلاء معلومات للجيش الإسلامي عن الطرق الوعرة والسبل والجبال ومنافذ الأنهار.

 

وانتهت بذلك المشكلة المذهبية والمعضلة الاجتماعية، فالطبقة البرهمية منهم من اعتنق الدين الإسلامي أصبحت معاملته مثل

 

(1/15035)

 

 

المسلمين. ومن بقي على دينه فيدفع الجزية، دون التسلط على الغير (1) ..

وبعد أن استقر ابن القاسم في السند بدأ تنظيم الأمور الإدارية فجعل لكل مدينة من المدن الكبرى مجالس للنظر في المظالم، وكان لديبل مجلس تظلم ترفع الأمور إليه مباشرة فينصف

المظلوم (2) .

واتخذ المنصور برهمان أباد مركزا للحكم وقصرا للإدراة وبعد محمد بن القاسم اتخذها ولاة بني أمية ومن بعدهم مقرا

__________

(1) الطرازي، الموسوعة، ج 2، صص.117-120 ، 136-147 ؛ البيروني، تحقيق من الهند،صص.76-80؛ المسالك والممالك؛ص.71.

(2) ساعاتي، انتشار الإسلام،ص.71.

 

(1/15036)

 

 

للحكم سنة 121 هـ/ 738 م (1)

اللغة

يقول البيروني : "إن اللغة أهل السند تختلف كليا عن اللغة العربية وحروفها كذلك، ويصعب على العربي نطق أكثر كلماتها وأسمائها" (2)

واللغة القديمة هي اللغة السنكسريتية من اللغات الآرية، التي لها أهمية خاصة، فهي لغة الكتب المقدسة الهندية القديمة، وكانت اللغة الرسمية قبل الإسلام (3) . أما بعد الفتح الإسلامي فقد

__________

(1) محمد، التاريخ والحضارة، صص.177-178.

(2) البيروني، تحقيق ما للهند ، صص.13-14.

(3) ساعاتي، تاريخ الدولة الإسلامية، ص.13؛ النجرامي، العلاقات السياسية، صص.15-16.

 

(1/15037)

 

 

أصبحت اللغة المستعملة هي اللغة العربية والسندية (1) . ويقول الطرازي : - فاللغة العربية هي لغة الدولة، والطبقة الحاكمة والموظفين والأعيان والمثقفين ، والعلماء والقضاة والمدارس (2) .

اللباس

كان أهل ديبل يلبسون زي أهل العراق كان حسنا جميلا، كانوا يفضلون اللون والعمائم الكبار ومن رسومهم التجمل والتطليس ولبس الشروب - شراب - والخطباء يلبسون الأقبية والمناطق - مثل الحزام - (3)

__________

(1) الأصطخري، مسالك الممالك، ص.177.

(2) الطرازي، الموسوعة، ج1، صص.404.406-407.

(3) الإدريسي ، نزهة المشتاق، ج 1، ص 382 ؛ المقدسي، أحسن التقاسيم، صص.129،382.

 

(1/15038)

 

 

وتجارهم والأعيان كانوا يلبسون القميص والأردية، أما العامة فكانوا يلبسون الأزر والميازر لشدة الحر ببلدانهم، وكانوا يخرمون آذانهم ويلبسون القرط ويطولون الشعر ويرسلونه (1) .

ومن العامة الميد والزط فهؤلاء قد أجبروا من قبل البراهمة أن يرتدوا زيا موحدا لكي يتميزوا عن غيرهم، وهو عبارة عن جلباب وإزار من قماش أسود خشن ثقيل، وعلى أكتافهم منديل من نفس القماش، ويحرمون من ارتداء الألبسة الملونة وتغطية الرأس وأن يمشوا حفاة مكشوفي الرؤوس، ثم تحسن وضعهم بعد دخولهم الإسلام

__________

(1) الأصخري، مسالك الممالك، ص.177.

 

(1/15039)

 

 

(1) .

وقد ذكر القلقشندي عن زي أهل هذه المملكة في الفترات المتأخرة العديد من الأنواع والألوان بالتفصيل.

المساكن

... وأكثر بنيان ديبل من الطين والخشب (2) . وهناك مبان من الحجر والجص والأجر كانت موجودة في المنطقة مثل المنصورة والمباني الحجرية ظاهرة في ديبل من آثار المعبد- وجدار السور ومسجد محمد بن القاسم بعد الفتح، إذ يذكر البلاذري أن جيش محمد بن القاسم بعد الفتح، إذ يذكر والي المعتصم بالله على

__________

(1) الطرازي، الموسوعة، ج2،صص.128-129 ؛ الدمشقي، نخبة الدهر، ص.176.

(2) الإدريسي، نزهة المشتاق، ج1، ص.167.

 

(1/15040)

 

 

السند قد بنى سجنا ضخما من الحجارة الموجودة من أنقاض البيوت والأسوار القديمة لديبل (1) . وكان القواد والولاة كثيرا ما يسكنون في ثكنات

ومعسكرات الجيش خارج المدن أو في الحصون والقلاع، ومن ثم ففي عهد الأمويين كان الحاكم لا يسكن إلا بيتا عاديا ويعيش عيشة خالية من الزخارف في أكثر شؤون حياتهم.

أما مساكن الطبقة المتوسطة والعامة فكانت جيدة بسبب الدخل من الزراعة والتجارة والصناعة، فبعض المساكن من الحجر ومزخرفة . ومن طبقة العوام : الفلاحون

__________

(1) المقدسي، أحسن التقاسيم، ص.479 ؛ البلاذري، فتوح...، ص.425.

 

(1/15041)

 

 

والعمال والخدم فكانت مساكنهم غالبا من الخشب أو المبنية من الأخواص على شكل أكواخ صغيرة وقد تكون غير صحية (1) .

وقبل الإسلام كانت هناك الطبقة المنبوذة لأحط الأعمال وأدناها فهؤلاء لا يسمح لهم بالسكنى مع الأسياد. يخدمونهم بالنهار ويخرجون بالليل إلى خارج البلد والمدينة (2) .

الناحية الثقافية :

تمتع العلماء والقضاة بمنزلة اجتماعية جيدة في بلاد السند بفضل علمهم وتقواهم.

__________

(1) الطرازي، الموسوعة، ج2، صص.124-129

(2) البيروني، تحقيق ما للهند، ص.77.

 

(1/15042)

 

 

وكان لهم أثر كبير في إسلام الكثير من أهل السند نظرا لأخلاقهم الكريمة وقيمهم المثالية، وما يتحلون به من التواضع والعلم الواسع من جميع طبقات السند، وكانوا موضع تقدير الولاة والحكام، يصحبونهم في المجالس الرسمية والمناسبات، وبعد الفتح الإسلامي، أنشئت مدارس علمية مشهورة لتدريس علوم الحديث وغيره (1) .

وأشهر العلماء بدييل : أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي وابنه بن محمد الديبلي (2) ، أبو موسى الديبلي، وأبو عبد الله الديبلي (3)

__________

(1) الطرازي، الموسوعة، ج2، ص.125.

(2) الحموي، معجم البلدان، ج2، ص.495.

(3) الطرازي، الموسوعة، ج1، ص.480؛ ابن الجوزي، صفة الصفوة، ج4، صص.71،107.

 

(1/15043)

 

 

، أحمد بن محمد بن هارون الديبلي البغدادي

 

المصري، علي بن أحمد بن محمد الديبلي الشامي، محمد بن أحمد بن عبد الله الديبلي، محمد بن الحسين بن محمد الديبلي الشامي (1) ، أحمد ب عبد الله الديبلي، خلف بن محمد الديبلي البغدادي، شعيب بن محمد الديبلي المصري (2) ، وغير هؤلاء كثيرون.

الناحية الاقتصادية

ومن الناحية الاقتصادية، كانت ديبل تعتمد على التجارة، لأن الزراعة فيها ضئيلة، نظرا لأرضها المجدبة القليلة الخصب في صدر

__________

(1) الطرازي، الموسوعة، ج 1، صص.369،493.

(2) الحسني، الثقافة الإسلامية في الهند ، ص.135.

 

(1/15044)

 

 

الإسلام مقارنة بإقليم السند الذي يعتبر بلد الخيرات والزروع والثمار لوجود نهر مهران.

أما أهل ديبل فكان الاعتماد الرئيسي لهم من دخل التجارة وديبل يعتبر الميناء الرئيسي للسند منذ التقدم حتى العهد الإسلامي (1) .

الطرق البرية والبحرية إلى الديبل

يصف المقدسي السفر إليها فيقول : " و لاتصل إليه إلا بعد أخطار البر وأهوال البحر بعد الشق وضيق الصدر" حين يصف إقليم السند (2) وطريق البحر حيث السفن كانت تنطلق من الأبلة مارة بالموانئ الرئيسية مثل سيراف،

__________

(1) المقدسي، أحسن التقاسيم، ص.479.

(2) المصدر السابق، ص.474.

 

(1/15045)

 

 

تيزمكران وديبل، تانه، كولم ملى حتى الشرق الأقصى، والبرية، شيراز، سيرجان، جيرفت، دارجين، بم، الفهرج، جوى سليمان، ريقان، خواش، جاك، فنزبور، الديبل، أو من تيزمكران، أرمابيل، قمبلى، ديبل، ومن قصر قند، فنزبور ديبل (1) .

 

الصادرات من ديبل

من ميناء ديبل تصدر، القسط والقنا والخيزران، والمسك إلى ميناء عدن وغيرها (2) ، والفانيد - سكر النبات- يصدر إلى أقطار الدنيا (3)

__________

(1) ابن حوقل، صورة الأرض، ص.48؛ لسترنج، بلدان الخلافة، صص.288،360.

(2) ابن خرداذبة، المسالك والممالك، صص.60-61.

(3) ابن حوقل، صورة الأرض، ص.281.

 

(1/15046)

 

 

ويصدر كذلك الأرز بكثرة، وثياب حسنة كانت تصنع في مدينة سندان (1) والنارجيل "جوز الهند" والنعال الجيدة والعاج والعقاقير، وغيرها من البضائع الثمينة الغالية، والسجاجيد والبسط بأنواعها وتصنع محليا وفي سائر

الإقليم (2) .

الواردات إلى ديبل والسند

ومن البضائع الواردة إليها التمر العراقي، فكانت تأتي إليها من البصرة (3) ومن كابل "بلاد الأفغان" كانت تأتي إلى السند وديبل ثياب كانت تصنع من القطن وهي أجود

__________

(1) ياقوت، معجم البلدان ، ج 3، ص.281.

(2) المقدسي، أحسن التقاسيم، ج3، ص .481.

(3) أبو الفدا ، تقويم، ص.349.

 

(1/15047)

 

 

أنواعها (1) . وكانت تأتي إليها من العراق والإسكندرية وغيرها الأقمشة حيث أن وجهة سفن مصر والعراق عن طريق ميناء ديبل ثم المشرق، وكذلك كانت الخيول العربية الأصيلة المعروفة بالعراب تأتي إلى ديبل من أرض الجزيرة العربية، مع العلم أن بالهند والسند الخيل والبراذين لكن أكثرها غير جيدة مقارنة بالخيول العربية (2) .

أما البضائع الغربية من فرنجة وغيرها فعن طريق يهود الرذانية الذين كانوا يتجولون ما بين أقصى الشرق والعرب والشمال والجنوب،

__________

(1) الإدريسي، نزهة المشتاق، ج1، ص.196.

(2) القلقشندي، صبح الأعشى، صص.81-82.

 

(1/15048)

 

 

وكانوا يبيعون ويشترون ويتبادلون البضائع طول رحلتهم هذه أينما حلوا وارتحلوا، فكانوا ينطلقون من طنجة - المغرب، أحد مساراتهم - فالإسكندرية فعدن فكولم ملى حتى أقصى الشرق، وكانوا يحملون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف فيبيعون هذه البضائع حسب حاجة المنطقة ورغبة أهلها. ومن ثم كانوا يشترون ما يناسب تجارتهم من تلك الموانئ إلى غيرها (1) ، والمسك الهندي، الذي يأتي من التبت إلى ديبل ومنها ويصدر إلى الأقطار بحرا والمسك الهندي

__________

(1) ابن خرداذبة، كتاب البلدان، ص.153.

 

(1/15049)

 

 

أجود من الصيني والصفدي (1) .

وكانت ترد إلى ديبل من الصين بضائع مختلفة مثل : المسك والعود والكافور والدار صيني وغير ذلك من البضائع العديدة (2) .

ويقول الإدريسي عن مهارة أهل ديبل في التجارة " إن السفن والبضائع كانت تأتي من عمان والصين والهند فيشترون أكثر وأكبر قدر ممكن، حيث إنهم يملكون أكثر من غيرهم من الأموال وهم أغنياء، ثم يخزنون هذه البضائع حتى تقلع السفن التجارية من ميناء ديبل إلى وجهتها

__________

(1) اليعقوبي، كتاب البلدان، ص.365 ؛ السامر، الأصول التاريخية، ص.20.

(2) ابن خرداذبة، المسالك، صص.153-154.

 

(1/15050)

 

 

فيخرجونها ويبيعونها بأغلى الأثمان وكيف شاءوا".

ويظهر من سياق العبارة أن هناك فئتين من التجار في ميناء ديبل، فئة مقيمة من أهل ديبل وفئة زائرة يحضرون لموسم معين أو لفترات حسب الحركة التجارية ووصول السفن حتى أنهم بمجرد قضاء وصرف بضائعهم يعودون من حيث أتوا (1) . ومن المنتوجات الزارعية التي كانت ترد إليها السفرجل والكمثري والتفاح مع وجودها في المنطقة إلا أنها جد قليلة (2) . وورد الخل من العراق إلى ديبل والسند في عهد محمد بن

__________

(1) الإدريسي، نزهة المشتاق، ج1، ص.167.

(2) القلقشندي ، ضبح الأعشى ، ج 5.ص.83.

 

(1/15051)

 

 

القاسم ومع عدم وجود هذه المادة في الهند فحقيقي أن ترد إليها فيما بعد للتجارة (1) . وكذلك الزيت واللوز والزيتون وزيته، وعرق الورد والعود للمعابد (2) .

 

علاقات ديبل بجزيرة العرب

كانت علاقة المنطقة بالبلدان الواقعة على الساحل الشرقي والموانئ الواقعة بالساحل الغربي لبحر فارس، والعراق وجزيرة العرب علاقات اجتماعية أو هجرات سياسية ومذهبية

أو اقتصادية منذ القدم وفي العهد الإسلامي.

__________

(1) البلاذري، فتوح البلدان، ص.424.

(2) الطرازي ، الموسوعة ، ج1،ص.109.

 

(1/15052)

 

 

فقد استوطن واستقر كثير من تجار العرب مع ذويهم أو تزوجوا من هناك في موانئ السند مثل ديبل كما حصل في سرنديب - سيلان - وبالمقابل حصل تبادل أسري وعائلي من السند والهند وجاليات لجأت إلى مناطق الجزيرة العربية ممن كانوا يعرفون، بالزط والميد والتكاكرة (1) والهجرات السياسية من أيام الأمويين، كما حصل للعلافين والخوارج من اللجوء إلى تلك المنطقة من أمثال : حسان بن مجالد بن يحيى الهمداني وأتباعه حتى قدوم محمد بن القاسم الثقفي، وكذلك التبادل الثقافي بين أهل العلم من حلقات

__________

(1) محمد، التاريخ والحضارة ، صص.12-13.

 

(1/15053)

 

 

التدريس والتعليم في الحرمين الشريفين (1) .

 

... ... ... ميناء دبيل ( إقليم السند)

__________

(1) الحموي، مادة ديبل؛ ابن الأثير، الكامل، ج5،ص.25؛ فتوح البلدان.

 

(1/15054)

 

 

نحو العربية التوليفي

 

الدكتور محمد الأوراغي

كلية الآداب - الرباط

 

أقمنا، في أعمال سابقة(1)، نظرية للسانيات النسبية إطار الأنحاء النمطية. وبينا عندئذ أن اللغات البشرية، بسبب طابعها الوضعي واضطرارها إلى انتقاء إحدى الشبكتين المتقابلتين

__________

(1) مصطلح الفص نطلقه على المستوى من مستويات اللغة. نقول الفص الصوتي، والفص المعجمي، والفص الصرفي الاشتقاقي، والفص التركيبي. ونستعمل القالب للعلم الفرعي (كعلم الأصوات واللغة والصرف والنحو)، الذي يتكفل بدراسة الفص. فالقوالب نماذج لسانية فرعية تمثل لفصوص لغة بشرية.

 

(1/15055)

 

 

من الوسائط اللغوية يتحتم عليها أن تنقسم إلى نمطين اثنين. وبالنظر إلى "البنية القاعدية" يشكل أحد النمطين "لغات توليفية"، كالعربية ونحوها اليابانية، والآخر "لغات تركيبية"، كالأنجليزية ونحوها الفرنسية. وفي هذا المقال سنركز على إبراز أهم الخصائص المميزة للنمط التوليفي لغة ونحوا دون إغفال الإشارة إلى ما يقابلها من الخصائص المميزة للنمط التركيبي.

لإقامة الحدود الفارقة بين النحو التوليفي الخاص باللغات التوليفية والنحو التركيبي الذي يخص اللغات التركيبية ينبغي منهجيا أن تلتمس الخصائص المميزة في كل نص

 

(1/15056)

 

 

"فص" من الفصوص اللغوية، و"قالب" من القوالب اللسانية(1). ولا نثبت لفص خاصية دون إناطتها بالوسيط اللغوي الذي عملها.

1- التركيب: يتميز هذا الفص، داخل التوليفيات، بقيامه على "وسيط العلامة المحمولة"(2) الذي وفر لهذا النمط من اللغات "بنية قاعدية ذات رتبة حرة". فجوزت للجملة في التوليفيات مجموع التراتيب المحتملة، وإن تعذر ظهور العلامة

__________

(1) للوقوف على قيم ما يذكر هنا من الوسائط، انظر محمد الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، ج1 و2.

(2) انظر: الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، ج2، اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/15057)

 

 

المعربة عن "العوارض"(1) التي تؤثرها "العوامل العلاقية" وتستلمها "القوالب الماثلة" كما في مجموعة الجمل الموالية:

(أ) أكلت ليلى كمثرى.

(ب) أكلت كمثرى ليلى.

(ج) ليلى أكلت كمثرى.

(د) كمثرى أكلت ليلى.

(هـ) ليلى كمثرى أكلت.

(و) كمثرى ليلى أكلت.

__________

(1) العوارض: يشمل كل ما يعرض لأحد مكونات الجملة من أحوال تركيبية كالرفع والنصب، ووظائف نحوية كالفاعلية والمفعولية، بينما العامل يصدق على كل علاقة تركيبية أو دلالية أو تداولية أثرت خاصية بنيوية. أما القابل، فيتناول كل مقولة استلمت عارضا عمله عامل.

 

(1/15058)

 

 

فضلا عما سبق، يتميز التركيب، في النمط التوليفي لغة ونحوا، بتشعبه المتتالي إلى مكونات ثلاثة: 1) مكون تأليفي، يليه 2) مكون إعرابي، يعقبه 3) مكون ترتيبي. وكل واحد من هذه المكونات يجري بالتناوب عمليات مخصوصة لإنتاج العبارة اللغوية(1).

في مقابل النمط التوليفي توجد لغات تركيبية يتميز تركيبها بقيامه على "وسيط الرتبة المحفوظة" الذي يوفر لهذا النمط "بنية قاعدية

__________

(1) للمزيد من التفصيل فيما يخص مميزات التركيب في النحو التوليفي، انظر محمد الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، ج2، اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/15059)

 

 

ذات رتبة قارة" يمثل لها بالبنية المكونية (2) الموالية:

م س – صرف – م ف.

لذلك لا يجوز في نحو هذه اللغات من التراتيب الستة للجملة (1) أعلاه سوى ترتيب واحد يعتبر أصلا(1)

__________

(1) منذ أن أصدر اجرنبرغ كتابه "بعض كليات النحو" (Greemberg, Some Universals of Grammar) سنة 1986، واللسانيون على اختلاف مشاربهم يعتقدون أن لكل لغة بشرية رتبة أصلية. وإذا سمحت لغة برتبة أخرى وجب أن تكون قد فرعتها من الأصلية. لكن هذا الاعتقاد كما أثبتنا في أكثر من موضع صادق بالنسبة إلى اللغات التركيبية لا غير. لأن اللغات التوليفية كالعربية ونحوها تسمح على حد سواء بجميع التراتيب التي تحتملها القسمة العقلية. وكل ترتيب فهو مولد مباشرة من البنية القاعدة ذات الرتبة الحرة. وللمزيد من التفصيل انظر الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، ج1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15060)

 

 

، وبشروط إضافية قد يسمح بترتيب آخر لكنه يكون متفرعا عن الترتيب الأصلي(1). مثلا اللغة الأنجليزية يؤصل تركيبها الترتيب المشخص بالاحتمال (1.ج)، ولا يفرع عنه إلا "فاسف(2)

__________

(1) للتوسع في الموضوع انظر هلمبرغ "لم لا تسمح لغات فا فع مف بالترتيب فا مف فع" ضمن النحو التوليدي والتركيب المقارن A.Holmberg, « Pourquoi les langues SVO ne peuvent elles manifester d'ordres SVO », in Grammaire générative et syntaxe comparée.

(2) "الفاسف" معرب اللفظ الأجنبي Le passif المشخص بمثل التركيب التالي (The pear was eated by Laila). وهو غير البناء للمفعول خلافا لمن سوى بينهما من المستعربين المستضيئين في وصفهم للغة العربية بالنحو الذي استنبطه شومسكي من الأنجليزية. للتوسع في الموضوع، انظر: د.عبد القادر الفاسي، البناء الموازي، الفصل الخامس منه، وكذلك الرد عليه في: محمد الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، ج1، ص.96 وما بعدها.

 

(1/15061)

 

 

تركيبي" يشبه الترتيب (1.د) كما في "العبارة التقديرية" (3) التالية.

الكمثرى كانت مأكولة من قبل ليلى؟ !

ومن الخصائص المميزة التي يمكن إضافتها إلى ما سلف كون فص التركيب في مثل الأنجليزية من اللغات يتشعب إلى مكونين لا غير. الأول تأليفي والثاني ترتيبي(1). ومع ائتلاف التركيبين في المكون الترتيبي لكن عوامل التربة في التوليفيات "علاقات تداولية"، وهي في اللغات الركيبية "علاقات تركيبية".

__________

(1) للتوسع في عدد مكونات كلا التركيبين، انظر الفصل الثامن من كتابنا: "الوسائط اللغوية".

 

(1/15062)

 

 

وما سقناه في هذا التمهيد كاف لبيان أن أي لغة لا يخرج تركيبها أصلا عن هذين النمطين: توليفي أو تركيبي. لأن مبدأ الثالث المرفوع المنطقي يمنع وجود "وسيط لغوي" ثالث يقع بين "وسيط العلامة المحمولة" الذي وفر لتركيب اللغات التوليفية "بنية قاعدية ذات رتبة حرة"، وبين "وسيط الرتبة المحفوظة" الذي منح للغات التركيبية "بنية قاعدية ذات رتبة قارة". وترتب عن هذا التغاير أن صار تركيب أحد النمطين اللغويين يجوز ما يمنعه تركيب النمط الآخر.

 

(1/15063)

 

 

... نخلص إلى أن كل لغة بشرية يتميز فصها التركيبي بقيامه على وسيط العلامة المحمولة(1)، وبتشعبه إلى التأليف فالإعراب فالترتيب، وبإنتاجه لبنية قاعدية ذات رتبة حرة، فإن نحو تلك اللغات من النمط التوليفي الذي يجب أن تتميز فصوصه الأخرى بخصائص إضافية.

... 2- المعجم: في العربية من اللغات التوليفية، غيره في اللغات التركيبية. فهو في النمط الأول مؤسس على:

__________

(1) للوقوف على قيم ما يذكر هنا من الوسائط، انظر: الأوراغي، "الوسائط اللغوية"، 1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15064)

 

 

... أ- "وسيط الجذر"، فامتاز معجم هذه اللغات بكونه "معجما شقيقا"؛ بمعنى يطرد فيه تفريغ "أفعال شقائق" مثل [تقاطعَ] من [قاطعَ] المشتق بدوره من "الفعل الأس" [قَطَعَ] اطراد اشتقاق صفات مخصوصة، مثل [قاطِعٌ] من الفعل الأس، و[متقاطِعٌ] و[مقاطَعٌ] و[مقطوعٌ] من أفعال شقائق.

... ب- "وسيط العلاقة الاصطناعية": يظهر مفعوله في انعكاس خصائص دلالية للمدخل المعجمي في بنيته الصوتية. وبذلك صارت لمثل المداخل المعجمية (عِبَادَةٌ، وكِتابَةٌ، ودِراسَةٌ، وصِحافَةٌ، وقِيادَةٌ، وإِمَارَةٌ...) نفس البنية الوزنية لاشتراكها

 

(1/15065)

 

 

جميعا في معنى [العُكوف] العام؛ بمعنى ثبات الشخص على مزاولة فعل والدوام على القيام به حتى انقلب ذلك الفعل حرفةً له أو كالحرفة.

... من جملة ما يترتب عن تبني وسيطَيْ الجذر والعلاقة الاصطناعية امتياز معجم اللغات التوليفية بخاصيتين. تظهر أولاهما في انقسام المعجم الشقيق إلى: أ- معجم واقع مقَوْمَس: تكتسب مداخله استقراء؛ مثل (جمع) و(نشر). ب- معجم متوقع: قَوْمَسَةُ مداخله حشو، لأنه يُتَنَّبأ بها ويمكن اكتسابها استنباطا؛ مثل [جامعٌ]، [ناشرٌ]، [جُمِعَ، مجموع] أو [نُشِرَ، منشور]. وتبرز ثاني الخاصيتين في

 

(1/15066)

 

 

نهوض البنية الصوتية للمدخل وكذا "بنيته الصرفية" في التمثيل لجزء من دلالته المعجمية؛ كدلالة البنية الأولى على معناه الصرفي، (إذ يفيد الجذر [ج م ع] بالصيغة [فَعْل] في مثل [جمْعٌ] ضم ما تفرق. ويفيد بالصيغة [فِعال] في نحو [جِماعٌ] انضمام بعض ما تفرق إلى بعض). ودلالة بنيته الصرفية(1)

__________

(1) المقصود من البنية الصرفية ما يجوزه المدخل المعجمي المعين من المشتقات وبأي "القواعد النصتية" يتم بناء صيغها الصرفية. للمزيد من التدقيق انظر: محمد الأوراغي، "اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم"، صص.152-162. والفصل الرابع من "الوسائط اللغوية"، ج1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15067)

 

 

على خصائصه المقولية. (فاء المضاعف تضم في المضارع إذا كان الفعل متعديا وتكسر إذا كان لازما، وتحتمل الحركتين إذا كان الفعل من قبيل المشترك اللفظي)(1)

__________

(1) القياس في المضاعف أن تضم فاء مضارعه إذا كان الفعل متعديا وتكسر إذا كان لازما. وبه استعمال معظم الأفعال التي أحصاها لغويو العربية (حوالي 227 فعلا). وما استعمل بالكسر والضم فمشترك؛ فيكون بأحد معنييه متعديا وبالآخر لازما. من هذه الفئة [حل( يحل: ضد حرم، ويحله: فتحه. وعز( يعز: قل، ويعزه: غلبه، ومنه قوله تعالى { عزني في الخطاب } . دق( يدق: ضد غلظ، ويدقه: كسره. وصر( ييصر: صرخ، ومنه قوله عز وجل { فأقبلت امرأته في صرة } ، ويصره أي شده…]. انظر عناصر أخرى من هذه الفئة في مادة (ب ت ت) من صحاح الجوهري. أما اللازم المضمون، فإن أصله التعدي وإن ورد في تراكيب مع غير المفعول. من هذا القبيل (جن الليل يجن، أي ستره)، انظر: أمثلة أخرى في "شرح بحرق اليمني للامية الأفعال".

 

(1/15068)

 

 

.

... وفي مقابل ما سلف، فإن معجم اللغات التركيبية "مسيك"، إذ بقيام هذا الأخير على "وسيط الجذع" توفرت له أفعال إساس لا تتولد عنها بإطراد أفعال شقائق ولا صفات؛ فاتسع المعجم الواقع منه، وضاق قسم المتوقع حتى كان يقترب من الصفر، وفوت احتمال حصول المدخل على "بنية صرفية"، كما فقد إمكانية التمثيل بهذه البنية للخصائص المقولية. وبتبنيه، من جهة أخرى، "لوسيط العلاقة الاعتباطية" لم يكن بوسع البنية الصوتية للمدخل أن تقدم له أي معلومة دلالية، فتكفّل الحد المفصَّل بكل ذلك، حتى أصبح التمثيل الدلالي، في المعجم

 

(1/15069)

 

 

الشقيق، "نسقياً ومعجمياً"، وفي المسيك "معجميا" لا غير.

... من أهم ما يترتب عن تلكم الخصائص المميزة لكلا المعجمين اضطلاع المعجم الشقيق في النحو التوليفي بدور يوكل في النمط المقابل إلى التركيب. وبعبارة تقنية، إن الانتقال إلى (تركيب المشاركة) مثلا يتم، في النحو التوليفي كما في العربية، بإجراء عملية موضعية على الفعل يتولاها "فص التشقيف" كما تكشف المقارنة بين الجملتين (أ) و(ب) في المجموعة (4). في حين يحصل ذاك الانتقال في النحو التركيبي، كما في الأنجليزية، بإجراء عمليات تركيبية(1)

__________

(1) انظر بعضها حيث يتحدث شومسكي في نظرية العمل والربط عن "قيد السوج المعين" (Condition du sujet spécifié).

 

(1/15070)

 

 

.

... (4) ... أ- لمس الرجل زوجته.

... ... ب- لامس الرجل زوجته.

... وهكذا تكون [المشاركة[ في نحو الأنجليزية تركيبية، وتكون في نحو العربية معجمية. وإذا فهمنا من [المشاركة] أن يكون لكلا موضوعي الفعل المتعدي ما يكون للآخر من الوظائف النحوية، فإن فرضية "أحادية الوظيفة" تلائم النمط التركيبي من اللغات. أما اللغات التوليفية، فتصدق فيها أيضا فرضية "الوظيفة المزدوجة"(1). وهذه

__________

(1) للتوسع في فرضية أحادية الوظيفة والوظيفة المزدوجة، انظر: الفصل الرابع من كتابنا "الوسائط اللغوية"، ج1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15071)

 

 

خاصية أخرى فارقة بين النحوين التوليفي والتركيبي.

... من خلال تناولنا الموجز لفَصَّي التركيب والمعجم في اللغات التوليفية والتركيبية، انكشفت بعض مميزات النحوين. ويمكن أن نوسع الفوارق بين النمطين بذكر خصائص ما بقي من الفصوص.

... 3- فص التشقيف: يتألف من الاشتقاق والتصريف، ويصدق على إوالية توليد بعض المداخل المعجمية من بعض. وَصْفُ هذه الإوالية يتولاه قالب يتفرع بدوره إلى:

... (أ) اشتقاق يعنى بالقيود التي تضبط عملية التوليد الدلالي. من أمثلة التوضيح كون [المشاركة] و[الطلب] يتولدان من الفعل التام

 

(1/15072)

 

 

المتعدي الافتراقي ليس إلا. و[المطاوعة] تؤخذ من الفعل التام المتعدي العلاجي، وأما تنوعها إلى [مطاوعة وشبهها]، فمتعلق بما إذا كان أصل الاشتقاق فعلا افتراقيا أو اقترانيا. و[الطي] يتفرع من الفعل المتعدي مطلقا أو من اللازم بشرط. ولا يشتق بتاتا من "الفعل القاصر" ولا من "الفعل الناقص أو المساعد"(1).

__________

(1) للتوسع فيما ذكر من تفريعات الفعل المقولية والدلالية، انظر: الأوراغي، "اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم"، صص.141-165، والفصل الرابع من "الوسائط اللغوية"، ج1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15073)

 

 

... (ب) تصريف يهتم بالقواعد التي يجب تشغيلها عند استلال صيغة من أخرى. وهذا الضرب من القواعد يتميز بالصورية. حيث أن القاعدة الصرفية ترتبط بالمادة الصوتية للمدخل مجردا من معناه المعجمي. لكن اندماج الاشتقاق والتصريف في فص التشقيف كوَّن بينهما نسبا يتمثل في خضوع نتائج المكون الصرفي لقيود المكون الاشتقاقي.

... وكل قاعدة صرفية عبارة عن عمليات متوالية تجرى بالتناوب على البنية الصوتية للمدخل (=القَوِلَةُ)(1)

__________

(1) نستعمل القولة للتعبير عن البنية الصوتية للمدخل مجردا من معناه المعجمي الذي نطلق عليه الكلمة. وعليه، فإن المدخل في فص المعجم عبارة عن اقتران قولة بكلمة اقتران القول بالكلام في فص التركيب.

 

(1/15074)

 

 

، وذلك لنقله من صيغة معينة إلى صيغة أخرى مغايرة. لتوضيح ما ذكر، نسوق المثال (5) المشخص لمراحل ينتهي فرعٌ منها بإلصاق أمارة المطابقة (تُ) الدالة على إسناد فعل أجوف إلى ضمير الرفع (أنا) العائد على المتكلم(1).

... 5- (ط و ل( =( (طَوُلَ) =( (طَالَ) =( ...

... ... ... ... =( (طَوُلَ) =( (طُولْتُ) =( طُلْتُ.

... (ك و ن( =( (كَوَنَ) =( (كَانَ) =( ...

__________

(1) سبق لنا في عمل آخر أن قدمنا تصورا خاصا للفرق بين الضمير والعلاقة. انظر في الفصل الثالث من كتابنا "الوسائط اللغوية"، ج1.

 

(1/15075)

 

 

... ... ... ... =( (كَوُنَ) =( (كُونَ) =( (كُونْتُ) =( كُنْتُ.

... ويشهد على الاستقلال النسبي لمكوني التشقيف أمران: أحدهما يتمثل في "اللحن الموضعي"؛ وهو الذي يرصد مصدره أحد المكونين وينفلت للآخر، كما يتضح من جملتي المجموعة (6) الموالية.

... (6) ... (أ) الباب مقفول*

... ... (ب) هلك المريض*

... لحن الجملة (6. أ) ناتج عن خرق قاعدة صرفية (صفة المفعول تبنى من غير الثلاثي بقلب حرف المضارعة ميما مضمومة وفتح ما قبل الآخر). وهي باعتبار الاشتقاق، وكذلك التركيب، سليمة. أما لحن الجملة (6. ب)، فمصدره

 

(1/15076)

 

 

الاشتقاق (الفعل القاصر لا يسمح بتوليد الفعل المبني للمفعول). لكن هذه الجملة سليمة من حيث التصريف وكذلك التركيب.

... ويتجلى ثاني الأمرين في "كلية الاشتقاق" و"نسبية التصريف". كلية المكون الأول مضمونة بإتاحة إمكانية توليد بعض الكلمات من بعض، واستغلال كل اللغات البشرية للإمكانية المتاحة. في حين تأتي نسبية المكون الثاني من مكون اللغات، استنادا إلى طابعها الوضعي، تُهَيِّءُ وسائل صرفية تتفاوت قدرتها من حيث عدد التغييرات التي يمكن إجراؤها على بنية القَوِلَة.

 

(1/15077)

 

 

... وقد أثبتنا في موضع آخر أن مكون التصريف في اللغات التوليفية جذري، وفي اللغات جذعي(1). كما أنطنا ما لوحظ من الاختلاف الكبير بتغاير قيم الوسائط المتبناة في كلا النمطين. ووجدنا العربية من التوليفيات تستفيد من "مبدإ التصييغ" المرتبط بـ"خاصية التسييل" في وسيط الجذر، فتوفرت على مكون صرفي يتميز بقدرة كبيرة على إنتاج قولات جديدة للكلمات المولدة. وليس لنفس الفص في الفرنسية

__________

(1) راجع "قيم وسيط الجذر" في الفصل الرابع، والطابع النمطي للقالب التشقيفي في الفصل السابع من كتابنا "الوسائط اللغوية"، ج1-2.

 

(1/15078)

 

 

ونحوها من اللغات التركيبية تلك القدرة الإنتاجية بسبب "مبدإ الإلصاق" المترتب عن "خاصية الترصيص" في وسيط الجذع.

... من مظاهر التفاوت في القدرة الإنتاجية للمكون الصرفي في كلا النمطين أن يطرد في التوليفيات توليد أفعال شقائق وصفات، واتساع محتوى المعجم المتوقع، واضطلاع هذا الفص بدور يتولاه فص التركيب في النمط المقابل من اللغات المتميزة بنقيض ما سرد من الخصائص، إضافة إلى فوارق أخرى تؤخذ من المواضع المحال عليها في الطرة.

 

(1/15079)

 

 

... فص التشقيف، بوصفه إوالية لتوليد بعض المداخل من بعض، يجب أن يحتل موضعا بين "المعجم الواقع" قبله و"المعجم المتوقع" بعده، ويكون له هذا الموضع داخل النمطين اللغويين. غير أن المكون الصرفي بحكم نمطيته الناتجة عن تغاير الوسائط، يتفرع في التوليفيات دون غيرها، إلى "صرف اشتقاقي" يختص بإعداد صيغ صرفية تفرغ فيها المادة الصوتية المسيلة فيكون الخرج قولات مقترنة بالكلمات المولدة اشتقاقيا؛ وإلى "صرف تركيبي" يتأسس في "اللغات الجذرية"، كالعربية ونحوها الإيطالية، على "وسيط التصريف" قسيم "وسيط الترصيص" الذي

 

(1/15080)

 

 

يؤسس "اللغات الجذعية"، كالأنجليزية ونحوها الصينية والفرنسية، فلم يتفرع المكون الصرفي في مثل هذه اللغات إلى "اشتقاقي وتركيبي".

... من مهام فرع "الصرف التركيبي" الربط بين فص المعجم وفص التركيب. ويحصل الربط بينهما باستغلال هذا الفرع من المكون التصريفي "لمبدإ الإلصاق" من أجل إعداد "صيغ تركيبية"(1)

__________

(1) للفعل في اللغات الآخذة بوسيط الجذر صيغة صرفية (فعل، فعل، فاعل، تفاعلـ أفعل، استفعل، انفعل، افتعل، فعل، تفعل) وصيغة صركيبية تتكون من صيغته الصرفية وأمارات المطابقة التي تلتصق بالصيغة الصرفية كما في نحو (تفعل، تستفعلين، تتفاعلون…) من أجل أن تهيء الفعل للدخول في علاقات تركيبية. للتوسع في الموضوع، انظر الفصل الثالث من كتابنا "الوسائط اللغوية"، ج1، أفول اللسانيات الكلية.

 

(1/15081)

 

 

. وهذه الأخيرة تتكون من صيغة صرفية (فعل) وقد التصقت بها سابقة مثل (ت) في نحو (تفعل)، أو لاحقة مثل (ت) في (فعلت)، أو همان في مثل (تفعلن). بواسطة هذه اللواصق يتمكن العنصر المعجمي المفرغ في الصيغة الصركيبية من انتقاء المطابق ورفض المخالف. وبخرق جمل المجموعة (7) لقيد المطابقة انفرد الصرف التركيبي، دون سواه من سائر قوالب النحو، بتلحينها والحكم بفسادها. وحين استجابت له من جديد، كما في جمل المجموعة (8)، انفرد أيضا بتصحيحها والحكم بسلامتها.

... (7) ... (أ) أنت، هي يندم ولا تنفع الندم*

 

(1/15082)

 

 

... ... (ب) هي وصل وهو خرجت*

... ... (ج) هن تتعاون*

... (8) ... (أ) أنت، هي تندم ولا ينفع الندم.

... ... (ب) هي وصلت وهو خرج.

... ... (ج) أنتن تتعاون.

... اتضح أن فص التشقيف يتشعب، في كل اللغات إلى اشتقاق كلي وتصريف نمطي يختص بقدرة توليدية متفاوتة تبعا لقيم الوسائط المتبناة في الأنماط اللغوية، وأن المكون الصرفي، في اللغات الجذرية خاصة، يتفرع إلى:

... 1- صرف اشتقاقي موضعه بين المعجمين الواقع والمتوقع وقدرته الإنتاجية تزيد في اللغات التي يسمح لها وسيط الجذر بالجمع بين "مبدأي التصييغ والإلصاق"

 

(1/15083)

 

 

كالعربية ونحوها. وتنقص في لغات أجبرها وسيط الجذع على التصرف في بنية القولات بما يتيحه "مبدأ الإلصاق" لا غير، كما في الفرنسية ونحوها من اللغات الجذعية.

... 2- صرف تركيبي: يتوفر على هذا الفرع لغات اختارت "وسيط التصريف"، كالعربية ونحوها الإيطالية من اللغات الجذرية، وأهملت مقابله "وسيط الترصيص" المستعمل في اللغات الجذعية، والذي لا يوفر لهذا النمط صرفا تركيبيا. أما المترتب عن تغاير الفصوص الموصوف، فإنه يتجلى في نمطية الكثير من الظواهر اللغوية. وقد تناولنا العديد منها بالدراسة في أعمال سابقة(1)

__________

(1) انظر مباحث الشغور البنيوي، والحذف، والرتبة، وإعراب اللغات عن الوظائف النحوية، والعلامة والضمير، ونحو ذلك في كتابنا "الوسائط اللغوية"، ج1، وج2.

 

(1/15084)

 

 

.

... إن ما سردنا حتى الآن من الخصائص المميزة أولا لفص التركيب في اللغات التوليفية، وثانيا لفص المعجم الشقيق، وثالثا لمكون التصريف الجذري من فص التشقيف، إذا نسقنا تلك الخصائص في جهاز واحد بعد ضم إليها مميزات الفص الآتي كانت نموذجا من الأنحاء النمطية، أفردناه باسم النحو التوليفي.

... 4- النصغ: فص صوتي يتشكل فضلا عن التصويتات المستعملة في اللغة من قواعد تراكبها في قولة أو قول. وهو بذلك يتشعب إلى:

... 1. النطق(1): من اهتماماته النظر في

__________

(1) النطق مستعمل هنا بمعنى Phonétique في اللسانيات الغربية.

 

(1/15085)

 

 

مجموع المسائل المرتبطة بالتصويتات(1) النمطية التي توظفها لغة معينة فارقة بين دلالات القولات. وفي مقدمة أسئلة هذا المكون: أي التصويتات ينتج عن حلول إحداها محل الأخرى في قولة إلي تغير المعنى. كما في نحو الأثناء التالية: (أثرا/عثر)، (سأل/سعل)، (صيف/سيف)، (طرف/ترف)، (ذليل/ظليل)، (صوت/سوط)، (ضرس/درس)، (هامل/عامل)، (شوك/شوق)، (عدل/عضل). ولكل تصويتة نمطية بدائل لهجية مستحسنة وأخرى مستقبحة(2)

__________

(1) مصطلح التصويتات استعمله الفارابي في كتاب الحروف، ص.136، بما يفيد المفهوم من اللفظ الأجنبي Phonème.

(2) للمزيد من التوضيح، انظر: سيبويه، "الكتاب"، ج2، ص.404؛ وابن جني، "سر صناعة الإعراب"، ج1، صص.48-52؛ والأوراغي، "التصويتات النمطية وبدائلها اللهجية"، ضمن مجلة "التاريخ العربي"، العدد الثامن، والفصل الثامن من كتابنا "الوسائط اللغوية"، 2، اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/15086)

 

 

.

... من شأن التمهيد ألا يسمح ولو بسرد مختلف المسائل التي يتولى مكون النطق معالجتها. لكن إقامته لمجموعة العناصر الهجائية مطلب أول للمكون الذي يتلوه.

... 2- النصت يمثل المكون الثاني من فص النصغ. ويتشكل محتواه من نسق من قواعد النصتية التي بواسطتها تنظم التصويتات مكونة، داخل المعجم، والتصريف، والتركيب تباعا، قولة، وصيغة، وقولا.

... نسق القواعد النصتية (سواء أكانت هذه القواعد خاصة ببناء قولات المعجم أم صيغ التصريف أم أقاويل التركيب)، يستند أولا إلى علاقتي المخالفة والمجانسة القائمتين بين التصويتات

 

(1/15087)

 

 

المفردة، وثانيا إلى مبدأ الخفة ومبدإ البيان والمبدإ الوضعي للوسائط الخاصة.

... داخل فص المعجم يمنع المبدأ الوضعي بناء قولات لمداخله الأصول يخرج فيها من الكسر إلى الضم بحاجز ساكن؛ كما في (دبلوم)، أو بغير حاجز في نحو (برقراطية)(1). بخرق هاتين القولتين لقيد منع الخروج من الكسر إلى الضم تصيران من

__________

(1) قيد منع الخروج من الكسر إلى الضم ربطه ابن جني ("الخصائص"، ج1، ص.68؛ والمنصف، ج1، ص.20) بمبدإ الخفة. وبما أن هذا القيد لا يؤثر داخل فص التركيب، لصحة كرسيه،، تعين إناطته بالمبدإ الوضعي الخاص بمعجم معين.

 

(1/15088)

 

 

قبيل "الدخيل" على معجم خضع تكون الأبنية الصوتية لجميع مداخله للقيد المذكور ولعدد محصور من القيود الأخرى(1). وبمبدإ الخفة امتنع بناء قولات للمداخل المعجمية الأصول من تصويتات متجانسة، ينسبها المكون النطقي إلى نفس المخرج مثل (هـ، ع، ح) أو إلى مخرجين متجاورين

__________

(1) للوقوف على نماذج أخرى من القيود الضابطة لعملية إنشاء الأبنية القولية للمداخل المعجمية الأصول، عد إلى: الأوراغي، "اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم"، صص.141-165. والفصل السابع من "الوسائط اللغوية"، ج2، اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

 

(1/15089)

 

 

مثل (س، ص، ت)(1). ويمنع مبدأ البيان إجراء القاعدة النصتية التالية (الواو والياء متى تحركنا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين). لأن تطبيقها على القولتين (الحول، والغيابة) ينقلهما إلى (الحال، والغابة)، ويؤدي إلى التباس المداخل من حيث البنية الصوتية والدلالة المعجمية. وبنفس المبدإ تتعطل قاعدة الإدغام (إذا

__________

(1) توسع ابن جني في استعمال مبدإ الخفة من أجل تفسير الكثير من الظواهر النصتية، وبه برز إهمال ما أهمل من الألفاظ التي تحتملها القسمة العقلية. انظر "الخصائص"، ج1، ص.54؛ و"سر صناعة الإعراب"، ج1، ص.74.

 

(1/15090)

 

 

اجتمعت تصويتتان متقاربتان مخرجا في عجز قولة قلبت الأولى إلى مثل الثانية وأدغم أحد المثلين في الآخر). فلا تطبق على مثل القولات (وتد، عضد، وطد) ونحوها، وإلا التبس الثلاثي الصحيح بالمضاعف (ود، عد، ود)، وتغير المعنى المعجمي. وهو ما لا يجوزه مبدأ البيان. وما سقنا من الأمثلة الموضحة لقواعد نصغية تستند، من جهة، إلى مبادئ محصورة وتتحكم، من جهة ثانية، في بناء قولات المداخل المعجمية يغني عن الاستمرار في تقديم نماذج خاصة بما بقي من فصوص النحو.

 

(1/15091)

 

 

... ثبت أن المكون النصتي يشتغل بنتائج المكون النطقي المسخر لإعداد تصويتات اللغة المعينة أو حروف معجمها، ويرتكز على عدد محصور من البادئ لإقامة نسق من القواعد النصتية. وتبين أن قواعد النسق النصتي تتوزعها فصوص النحو على المنوال التالي:

... 1- قواعد نصتية تنظم عملية بناء القولات الأصول(1) التي تشكل مداخل

__________

(1) مصطلح "المدخل المعجمي الأصل" يتناول من جهة الاشتقاق كل كلمة لا تكون من غيرها بل مصدرا لتوليد مشتقات تنتسب إليها. كما يستغرق، من جهة التصريف، كل قولة لا تكون فرعا لغيرها بل أصلا ساريا في فروعه.

 

(1/15092)

 

 

المعجم الواقع.

... 2- قواعد نصتية تشتغل داخل المكون الصرفي لتقنن، من جهة أولى، عملية استلال بعض الصيغ الصرفية من بعض فينشأ المعجم المتوقع. ولتحدد، من جهة ثانية، كيف تبنى، من الصيغ الصرفية وعلامات المطابقة، صيغ صركيبية؛ وحينئذ يكون الربط تاما بين فصي المعجم والتركيب.

... 3- قواعد نصتية تعنى بضبط ظواهر صوتية تنتمي إلى فص التركيب خاصة. كالتخلص، والترنم، والتحريك، والتسهيل، والترخيم، والحذف، والوقف، والروم، والسكت، والاتباع، والإسكان، والاختلاس، والإشباع، والإخفاء، والإشمام، والإجناح أو الإمالة،

 

(1/15093)

 

 

والإدغام، والإشراب ونحو هذا من الظواهر الصوتية الناجمة عن تراكب القولات في مركبات أو جمل.

... إذا استحضرنا ما سقنا من نماذج القواعد الممثلة لمحتويات مختلف الفصوص اللغوية، واتضح لنا كيف تشعبت تلك الفصوص وتعالقت، انكشف لنا عندئذ المقصود من النحو التوليفي الذي يطابق نمط التوليفيات كالعربية ونحوها من اللغات.

 

(1)

 

(1/15094)

 

 

نظرات في شروح الشعر في الأدب العربي

 

... ... ... ... ... الدكتور محمد عبدالاوي

... كلية الآداب ـ الرباط

 

... كانت الشرارة الأولى التي انبثَقَتْ منها العلوم العربية: محاولة تفسير القرآن الكريم وفق الأحكام التي يتضمَّنها، ثم انصبَّ الاهتمام على الظواهر الفنية التي يَزْخَرُ بها، ومنها ظهر ما يسمى بإعجاز القرآن.

... والذي يدلنا على العلاقة الموجودة بين تفسير القرآن الكريم والاستشهاد عليه بالشعر القديم قولُ ابن عباس رضي الله عنه: »إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان

 

(1/15095)

 

 

العرب«(1).

... وقد شرح ابن عباس لِنافع بن الأزرق(2) مسائل كثيرة تتعلق بغريب القرآن الكريم، وكان يُوردُ عليها شواهد من الشعر القديم. من ذلك أنه سأله عن قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا}(3)

__________

(1) الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص. 126، طبعة حجرية رقمها بخزانة كلية الآداب بالرباط »م. خ: 212 سيو«، وهي عارية من تاريخ الطبع ومكانه.

(2) هو نافع بن الأزرق رأس الخوارج »الأزارقة« (انظر عنه: المبرّد، الكامل في اللغة والأدب، ط. 1، تحقيق أحمد شاكر، مطبعة البابي الحلبي، مصر، ج 3، 1937، صص. 1021 ـ 1028).

(3) سورة مريم، الآيتان 19، 12.

 

(1/15096)

 

 

، فأجابه: »رحمة من عندنا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعتَ طرفةَ بنَ العبد يقول:

 

أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا

 

حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ(1)

__________

(1) الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق، ج 1، ص. 126؛ وديوان طرفة بن العبد، تحقيق علي الجندي، دار الفكر العربي، من غير ذكر مكان الطبع وتاريخه، ص. 208. أبو منذر: عمر بن هند. أفنيت: أصله »أَفْنَيْتَنَا« فحذف المفعول به. حنانيك: رحمة بعد رحمة. والعرب إذا أرادت تكرار الشيء وإدامته، ثَنَّتْه وليست تريد التثنية ولكن تريد وقوعه مرة بعد أخرى. (الديوان، صص. 208 ـ 209، واللسان »حنن«).

 

(1/15097)

 

 

... وقد سلك ابن قتيبة (ت 276 هـ) في كتابه "تأويل مشكل القرآن" مسلك ابن عباس، فكان يشرح غريب ألفاظ القرآن ومعانيه خصوصاً تلك التي يشكل فَهْمُها على عامة الناس، ثم يأتي بالشواهد الشعرية التي تؤكّد ذلك:

... وقال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ}(1)، لأن في اليمين القوة وشدة البطش، فأخبرنا عن شدة ضربه بها. وقال الشماخ(2)

__________

(1) سورة الصافات، الآيات 37، 93.

(2) هو مَعْقِل بنُ ضرار الذبياني، لُقّب بالشَّمَّاخ. شاعر مُخضرم ممن أدرك الجاهلية والإسلام. (محمد بن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1974، ج 1، ص. 132؛ ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف، مصر، 1966، ج 1، ص. 318؛ أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، ج 9، ص. 158).

 

(1/15098)

 

 

:

 

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجدٍ

 

تَلَقَّاهَا غَرَابَةُ بِالْيَمِينِ(1)

 

... أي أخذها بقوة ونشاط (2).

__________

(1) هو عرابة بن أوس، كان من سادات قومه وأجوادهم في الإسلام. (ابن حبيب، المحبّر، تحقيق إيلزه ليختن شتيتر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د, ت.، ص. 155؛ وانظر: ديوان الشماخ، تحقيق صلاح الدين الهادي، دار المعارف، مصر، 1968، ص. 336).

(2) تأويل مشكل القرآن، تحقيق أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1954، ص. 188.

 

(1/15099)

 

 

... وفي أواسط القرن الثاني من الهجرة، أخذ العلماء يجمعون الشعر ويدونونه في الصحف ثم يصححون روايته ويشرحون غريبه ومعانيه، ثم يتكلمون على بعض أساليبه وصوره. ومع نهاية القرن الثاني للهجرة وبداية القرن الثالث، شاع بين العلماء التأليف في الشعر واللغة. ومن الكتب التي ألفها العلماء في هذه الفترة في شرح الشعر "ديوان العَجَّاج"(1) لعبد المَلِك

__________

(1) هو عبد الله بن رؤبة التميمي. توفي أيام الوليد بن عبد الملك، والوليد توفي سنة 96 هـ. عبد الحفيظ السطلي، العجَّاج حياته ورجزه، ط 1، مكتبة أطلس، دمشق، 1971 م,

 

(1/15100)

 

 

بن قُرَيْب الأصمعي المتوفى سنة 215 هـ. قال يشرح البيت الثالث من" أُرْجُوزَةِ العَجَّاج":

 

فالحَمْدُ لله الذِي أَعْطَى الحَبَرْ

 

مَوَالِيَ الْحَقِّ إِنِ الْمَوْلَى شَكَرْ

 

الحَبَرُ: السرور، ويقال: هو في حَبْرَةٍ من العيشِ، أي في مَسَرَّةٍ من عيش، والحَبَرُ: السُّرُور، ويُقال: هو حُبِرَ به، أي سُرَّ بِهِ. وفي الحديث: »ذهب حَبْرُهُ وسَبْرُهُ«، والحُبُور: الآثار... وقال ذُو الرُّمَّة:

 

لاَ زِلْتُمَا فِي حَبْرَةٍ مَا بَقِيتُهَا

 

وَلاَقَيْتُمَا يَوْمَ الحِسَابِ مُحَمَّدَا

 

(1/15101)

 

 

... يقول: الحمد لله الذي أعطى هذا العَهْد، يقول: اتَّبَعُوا أَثَرَ نَبِيِّهِم، وذهب تشبيه الخوارج. وقوله: »مَوَالِيَ الحق«، أي أولياء الحق. والمولَى: الوَلِيُّ، والموْلَى: ابن العَم، والموْلَى: المُنْعِمُ، والمولَى: المنعَمُ عليه، والمولى: الحَليفُ.

... وأنشدَ للحطيئة في المولى ابن العم:

 

بَنِي عَمِّنَا إِنَّ الركاب بأهلهَا

 

إِذَا شَاءَهَا المَوْلَى تَرُوحُ وتَبْتَكِرْ

 

يريد: إذا سَاءَهَا ابن العمِّ بأمر مكروه رحلت إلى غيره. وقوله: »إن المَوْلَى شَكَرْ«، قال: »هذا بمنزلة قولك: قد أعطاك الله

 

(1/15102)

 

 

خيراً إن شَكَرْتَ، أي فاشْكُرْ، يقول: رَدَّ الحقَّ إلى أهْلِهِ فَلْيَشْكُرُوا« (1).

... نلاحظ في هذا النص أن الأصمعي ركَّزَ على الشرح اللغوي للألفاظ، حيث ذكر معنى كلمة »الحبر«، واستطرد في الشرح اللغوي لها وتقليب معانيها المختلفة، ثم أوجز كلامه في شرح مضمون بيت العَجَّاج واستشهد عليه بالشعر القديم والحديث النبوي الشريف.

... ونلاحظ في مواطن أخرى من كتاب الأصمعي على شرح ديوان العجاج أنه لا يكتفي بالاستشهاد بالشعر القديم والحديث النبوي الشريف، بل يستشهد

__________

(1) ديوان العجاج، مصدر سابق، ج 1، صص. 4 ـ 6.

 

(1/15103)

 

 

بالآيات القرآنية الكريمة (1) وأمثال العرب (2).

... لقد أسهم الرواد الكبار من العلماء أمثال أبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت 215 هـ) وأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 هـ) وعبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216 هـ) في تثبيت دعائم اللغة والشعر وعلوم العرب، فرواها عنهم الرواة والعلماء بعد أن سرحوها لهم حتى أصبحت جزءاً أصيلاً من كيانهم. قال أبو الطيب اللغوي:

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 8، 14، 99، 155 وغيرها.

(2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 11، 17، 21، 71 وغيرها.

 

(1/15104)

 

 

... وكان في هذا العصر ثلاثة هم أئمّة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم يُرَ مثلهم قبلهم ولا بعدهم، عنهم أُخِذ جُلُّ ما في أيدي الناس من هذا العلم عنهم، بل كله، وهم أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعيّ، وكلهم أخذوا عن أبي عمرو اللغة والنحو والشعر، ورووا عنه القراءة، ثم أخذوا بعد أبي عمرو عن عيسى بن عُمَر وأبى الخطاب الأخفش ويونس بن حبيب عن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم (1)

__________

(1) أبو الطيب اللغوي (ت 351 هـ)، مراتب النحويين، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر للطبع والنشر، ط 2، القاهرة، 1974 م، ص. 70.

 

(1/15105)

 

 

.

 

... يُوضح هذا النص حقيقة هامة هي أن الرواد الذين أشرنا إليهم قد أخذوا علمهم بالرواية والسماع عن أربعة علماء هم: »أبو عمرو بن العلاء الذي كان سيِّدَ الناس وأعلمَهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب«(1) و»عيسى بن عمر الثقفي الذي كان أفصح الناس وكان صاحب تقعير في كلامه واستعمال الغريب فيه وفي قراءته«(2) و»أبو الخطاب المعروف بالأخفش الكبير الذي كان من أفصح الناس

__________

(1) ... توفي أبو عمرو هذا سنة 154 هـ. (مراتب النحويين، مصدر سابق، صص. 34، 42).

(2) توفي عيسى بن عمر سنة 149. (المصدر نفسه، ص. 43).

 

(1/15106)

 

 

وأعلمهم«(1) ويونس بن حبيب الضّبِّي الذي »كان النحو أغلب عليه«(2).

... وإذا نظرنا في شروح الشعر التي ألفها العلماء في القرن الثالث من الهجرة، فإننا نراها تعنى باللغة والرواية وإبراز المشكلات النحوية التي لها علاقة بتوضيح ما غمض في نصوص الشعر.

... وبالرغم من أن هذه الشروح تلتقي في جوانب عامة كشرح الغريب وتعدد الرواية وتحقيق النص ووضعه في سياقه

__________

(1) أبو الخطاب هو عبد الحميد بن عبد المجيد، لم يعرف تاريخ وفاته. (المصدر نفسه، ص. 46؛ الحاشية رقم 2).

(2) توفي يونس هذا سنة 182 هـ. (المصدر نفسه، ص. 44).

 

(1/15107)

 

 

التاريخي، فإننا نجد بعضها قد غلب عليه اتجاه خاص، كما هو الشأن عند أبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 هـ) في كتابه "نقائض جرير والفرزدق"(1). فهذا العالم كان يعتني بإيراد الأخبار التي لها علاقة بشعر الأيام(2)، وهو مصدر مُهِمّ لتوضيح الغموض الذي قد يلفّ بعض القصائد أو الأبيات بالرغم مما فيه من قصص خارقة لا يكاد العقل يصدقها، وهي مع ذلك تفيد الباحث

__________

(1) كتاب النقائض، نقائض جرير والفرزدق، تحقيق المستشرق بيفان، طبعة بريل، ليدن، 1905.

(2) المصدر نفسه، ج 1، صص. 18 ـ 24 و45 ـ 59 و66 ـ 77 و83 ـ 108 وغيرها.

 

(1/15108)

 

 

إذ تُمدّه بحقائق تمتزج أحياناً بالأساطير أو ما يشبهها.

... ويمكن أن نصنف في هذا الاتجاه عبد الملك بن هشام صاحب "السيرة النبوية" (ت 218 هـ). فقد كان يتحدث عن الوقائع التاريخية، ثم يورد الأشعار التي تلائمها(1).

... ونعود إلى صلة الكلام بما قبله، فنقول: إن الصفة الغالبة على شروح الشعر في القرن الثالث والتي تتجلى في "شرح ديوان

__________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السّقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، دار القلم، بيروت، د. ت.، ج 1، صص. 22 ـ 23، 26، 52، 60 ـ 61، 120 ـ 121، 143 وغيرها.

 

(1/15109)

 

 

النابغة الذبياني" ليعقوب بن إسحاق المعروف بابن السِّكِّيت (ت 244 هـ)(1) و"شرح أشعار الهذليين" لأبي سعيد الحسن بن الحسين السُّكَّرِي (ت 275 هـ) (2) و"الكامل في اللغة والأدب والنحو والتصريف" لأبي العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد (ت 285 هـ) (3) و"شرح ديوان زهير بن أبي سلمى" لأحمد بن يحيى

__________

(1) تحقيق شكري فيصل، دار الفكر، دمشق، 1968.

(2) تحقيق عبد الستار أحمد فراج ومراجعة محمود محمد شاكر، مكتبة دار العروبة، مصر، د. ت.

(3) تحقيق زكي مبارك وأحمد شاكر، مطبعة البابي الحلبي، مصر، 1936 ـ 1937 م.

 

(1/15110)

 

 

المعروف بثعلب (ت 291 هـ) (1) هي شرح غريب النص ولغته وبعض فقراته، ثم التعرض للأصل الاشتقاقي لبعض كلماته، ثم إيراد أقوال العلماء الذين شرحوا الشعر القديم أمثال الأصمعي (2) وأبي عبيدة (3) وابن الأعرابي (4)

__________

(1) نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية سنة 1944 م.

(2) ديوان النابغة، مصدر سابق، صص. 6 ـ 9، 11 ـ 12، 14، 16، 24، 27؛ شرح أشعار...، ج 1، صص. 4 ـ 10.

(3) ديوان النابغة، مصدر سابق، ص. 10 ـ 15، 20، 22؛ شرح أشعار...، المصدر نفسه، ج 1، صص. 4 ـ 10.

(4) ديوان النابغة، المصدر السابق، ص. 16، 32.

 

(1/15111)

 

 

والأخفش(1) وغيرهم. وهؤلاء الشراح يُكْثِرُون من إيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والشواهد الشعرية وأمثال العرب أثناء شرحهم لنصوص الشعر القديم.

... ثم إن شروحهم تتأرجح بين الإيجاز والإطناب، ذلك بأننا نراهم جميعاً يطنبون في شرح غريب النص، والأصل الاشتقاقي للكلمة، ثم يوجزون في ما سوى ذلك؛ في حين نرى المبرد ينفرد عنهم جميعاً بالإطالة في شرح الغريب (2)

__________

(1) هو سعيد بن مسعدة (ت 215 هـ). ( انظر عن هؤلاء العلماء: مقدمة شرح أشعار الهذليين، ج 1، صص. 10 ـ 12).

(2) الكامل، مصدر سابق، ج 1، صص. 36 ـ 37، 49 ـ 51، 52، 54، 62 ـ 63 وغيرها.

 

(1/15112)

 

 

والاستشهاد عليه بالآيات القرآنية (1) والأحاديث النبوية (2) والشواهد الشعرية(3)، وكذلك التعرض للمشكلات النحوية التي لها علاقة بتوضيح ما غمض في النص (4).

... وقد استمر العلماء في القرن الرابع من الهجرة على هذا المنوال، فألف الأخفش الأصغر (ت 315 هـ) "كتاب

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 55، 242 ـ 243، 246 ـ 247، 248، 249 وغيرها.

(2) المصدر نفسه، ص. 96، 318؛ ج 3، صص. 1183، 1263.

(3) المصدر نفسه، صص. 4 ـ 7، 9 ـ 10، 12، 15 ـ 19، 22 ـ 34 وغيرها.

(4) المصدر نفسه، ج 1، ص. 35، 38، 76، 105 ـ 106، 144 وغيرها.

 

(1/15113)

 

 

الاختيارين" (1)، وألف أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت 328 هـ) "شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" (2)، وألف أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس (ت 338 هـ) "شرح القصائد التسع المشهورات"(3).

... لقد كان الأخفش يوجز في شرح غريب النص ومضمونه، في حين كان ابن الأنباري يطنب في شرح لغة النص وغريبه والأعلام

__________

(1) تحقيق فخر الدين قباوة، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1974.

(2) تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، دار المعارف، مصر، 1969.

(3) تحقيق أحمد خطاب، وزراة الإعلام بالجمهورية العراقية، القسم الأول، 1973.

 

(1/15114)

 

 

الواردة فيه.

... أما أبو جعفر النحاس، فكان يلتقي معهما في شرح غريب النص ولغتِه ومضمونِه. إلا أن المسألة التي كانت تطغى عليه هي التعرض للقضايا النحوية التي يحتوي عليها البيت الذي يشرحه.

... وقد استفاد شراح "الحماسة" في القرن الخامس من الهجرة من هذه المعطيات، وحاولوا أن يضفوا عليها من شخصيتهم كل حسب ثقافته.

... وبالرغم من التقائهم في جوانب عامة في هذا الشرح كالعناية بشرح الغريب(1)

__________

(1) المرزوقي، شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1967، ج 1، صص. 26 ـ 27، 29، 31؛ وانظر في شرح الغريب "تجلّي غرر المعاني عن مثل صدر الغواني، والتّحلِّي بالقلائد من جوهر الفوائد"، وهو حماسة الأعلم الشنتمري، تحقيق محمد عبد الاوي، رسالة مرقونة في كلية الآداب بالرباط، 1985.

 

(1/15115)

 

 

والتعرض للمشكلات النحوية (1) والصرفية والعروضية وتعدد الرواية في أشعار الحماسة وشرح مضمون أبيات هذه الأشعار، إلخ، فإنهم كانوا يتفاوتون في الشرح. فقد كان المرزوقي يعتني بمعاني الشعر وإبراز صوره ومبانيه(2)؛ كما كان يعتني بالنقد والموازنة في المفاضلة بين الشعراء في هذه المعاني وتلك المباني (3)

__________

(1) شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 26، 29، 31؛ وتجلي غرر...، مصدر سابق، ج 1، ص. 14، 27، 36، 38، 41.

(2) شرح ديوان الحماسة، المصدر السابق، ج 1، صص. 23 ـ 24، 26 ـ 27، 30 ـ 31.

(3) المصدر نفسه، ج 1، صص. 27 ـ 28، 30، 35 ـ 37.

 

(1/15116)

 

 

.

... أما الأعلم الشنتمري، فقد كان يعتني بالشرح اللغوي والاشتقاقي لأصل الكلمة (1)، وقد يشير إلى المشكلات النحوية التي يتضمنها البيت (2)، كما يعتني بتعدد روايته (3)، ونراه يُصدر أحياناً أحكاماً نقدية تتعلق بالقيمة أو الموازنة (4).

__________

(1) تجلي غرر المعاني...، مصدر سابق، ج 1، صص. 7 ـ 12، 16 ـ 17 وغيرها.

(2) المصدر نفسه، ص. 8، 14، 27، 36، 49 وغيرها.

(3) المصدر نفسه، ص. 9، 26، 45 ـ 46 وغيرها.

(4) المصدر نفسه، ص. 11، 29، 45، 61 وغيرها.

 

(1/15117)

 

 

... وقد أشار الأعلم الشنتمري، إلى بعض الألوان البلاغية الواردة في أبيات "الحماسة" (1)، ولكن إشارته يغلب عليها الناحية التعليمية. وذلك يرجع إلى أن الأعلم الشنتمري قد ارتبط بصنف معيّن من التراث هو النحو واللغة، في حين كانت للمرزوقي رؤية فنية متفتحة على التراث العربي الذي هضمه واستفاد منه في تكوين رؤية ذاتية متميزة.

... أما الخطيب التبريزي (ت 502 هـ)، فقد تأثر كثيراً في شرحه لديوان "الحماسة" لأبي تمام بشرح المرزوقي. ونظرة مقارنة بسيطة بين الشرحين تدلنا على

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 10، 12، 14، 16 ـ 17.

 

(1/15118)

 

 

ذلك (1)؛ إلا أننا نراه قد اعتنى بالسياق التاريخي للنص (2)، كما اعتنى باشتقاق أسامي الشعراء (3) وتفسير الغريب (4).

__________

(1) انظر على سبيل المثال البيت 3 من الحماسة رقم 1 عند المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، صص. 27 ـ 29 ، وقارنها بشرح التبريزي لـ"ديوان الحماسة"، طبعة بولاق، د. ت.، ج 1، صص. 8 ـ 10,

(2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 10، 18 ـ 20، 28 ـ 30.

(3) المصدر نفسه، ص, 5، 15، 20 ـ 22.

(4) المصدر نفسه، ص. 5، 7 ـ 10 وغيرها.

 

(1/15119)

 

 

... وبالرغم من أن شروح الشعر التي ذكرناها آنفاً يغلب عليها العناية بشرح غريب النص وألفاظه وتعدد روايته، والتعرض لما فيه من مشكلات نحوية وصرفية وعروضية، فإننا نجد فيها بوادر بلاغية في تفسير الشعر بدأت طفيفة موجزة ثم اتسعت في القرنين الرابع والخامس الهجريين على يد ابن المعتز في كتابه "البديع"(1) الذي أشار فيه إلى الألوان البلاغية التي تضمنها الشعر (2)، والآمدي الذي وضع أسساً

__________

(1) عبد الله بن المعتز، كتاب البديع، نشر أغناطيوس كراتشكوفسكي، لندن، 1935.

(2) المصدر نفسه، ص. 3، 25، 36، 47، 53، 58.

 

(1/15120)

 

 

نقدية هامة انتقد على أساسها شعر أبي تمام وعرض لما فيه من بعيد الاستعارات (1) ورديء التجنيس (2) ورديء الطباق (3)، وأبي هلال العسكري (ت 395 هـ) في كتابه "الصناعتين" الذي تطرق فيه إلى الفنون البلاغية التي يجتوي عليها النثر والشعر من وجوه التشبيه (4)

__________

(1) الحسن بن بِشْر الآمدي (ت 370 هـ)، الموازنة بين الطائيين، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط 3، 1959، صص. 228 ـ 247.

(2) الآمدي، مصدر سابق، صص. 247 ـ 253.

(3) المصدر نفسه، صص. 254 ـ 258.

(4) أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي، مصر، د. ت.، صص. 251 ـ 262.

 

(1/15121)

 

 

والسجع والازدواج (1) والاستعارة والمجاز (2) والمطابقة (3) والتجنيس (4)، إلخ.

 

... وقد قَيَّضَ الله للتحليل البلاغي في تفسير الشعر مَنْ وَصل به إلى القمة وهو عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في كتابيه "أسرار البلاغة"(5) و"دلائل الإعجاز"(6)

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 266 ـ 271.

(2) المصدر نفسه، صص. 274 ـ 315.

(3) المصدر نفسه، صص. 316 ـ 329.

(4) المصدر نفسه، صص. 330 ـ 345.

(5) أسرار البلاغة في علم البيان، تصحيح محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1982.

(6) دلائل الإعجاز قرأه وعلق عليه محمود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1984.

 

(1/15122)

 

 

على أساس نظرية النَّظْم التي تقوم في جوهرها »على أن الكلام يشتمل على مستويات مقالية هي المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي... وأن التّسايق بين الألفاظ المكونة للمقال يقوم على نوعين من العلاقات التي تنظم ذلك المقال، وهي علاقات المستوى التركيبي بالمستوى الدلالي«(1).

... نرى من خلال ما تقدم أن شروح الشعر قد غلب عليها الاتجاهات التالية:

__________

(1) ... أحمد المتوكل، »نحو قراءة جديدة لنظرية النظم عند الجرجاني«، مجلة كلية الآداب بالرباط، العدد الأول، سنة 1977، ص. 95.

 

(1/15123)

 

 

... 1) شروح الشعر ذات الطابع التاريخي، ويمثلها ابن هشام في "السيرة النبوية"، وأبو رياش في "شرح الحماسة"، وابن خالويه في "شرح ديوان أبي فِرَاس".

... 2) شروح الشعر ذات الطابع اللغوي، ويمثلها ابن السكيت في شرح ديوان النابغة الذبياني وابن الأنباري في شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات ومَن كان على شاكلتهما.

... 3) شروح الشعر ذات الطابع النحوي ويمثلها: ثعلب (ت 291 هـ) في "شرح ديوان زهير"، وأبو جعفر النحاس في "شرح القصائد التّسْع"، وابن جني في "شرح ديوان المتنبي".

 

(1/15124)

 

 

... 4) شروح الشعر ذات الطابع النقدي والبلاغي، ويمثلها ابن المعتز في كتابه "البديع"، والآمدي في كتابه "الموازنة بين الطائيين"، وعبد القاهر الجرجاني في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، والواحدي في "صنعة ديوان المتنبي"، وغيرهم.

 

الطوابع العامة لشروح الشعر

... كان شرّاح الشعر القديم يلتقون في الجوانب التالية:

... 1) وضع النص في إطاره العام: ويُقصد به سَرْدُ أخبار تساعد القارئ على فهم مناسبة النص.

 

(1/15125)

 

 

... نرى الشرّاح يتفاوتون في عرض هذا الجانب. فبعضهم كأبي عبيدة في كتابه "نقائض جرير والفرزدق"(1) وابن هشام في "السيرة النبوية"(2) وابن الأنباري في "القصائد السبع الطوال"(3) والتبريزي في شرح "ديوان الحماسة"(4) يطيل في هذا

__________

(1) كتاب النقائض، مصدر سابق، ج 1، ص. 19، 47، 58، 66 ـ 69، 70 ـ 74 وغيرها.

(2) السيرة النبوية، مصدر سابق، ج 1، صص. 44 ـ 63، 64 ـ 70، 116 ـ 149 وغيرها.

(3) شرح القصائد السبع، صص. 3 ـ 6، 8 ـ 13، 13 ـ 15، 115 ـ 132,

(4) شرح ديوان الحماسة، ج 1، صص. 18 ـ 20، 28 ـ 29، 45 ـ 46، 106.

 

(1/15126)

 

 

الجانب؛ إلا أن منهج التبريزي في عرض مناسبة النص كان متوازناً مع منهجه العام الذي وضعه لشرح "ديوان الحماسة". وسبب ذلك انه استفاد من منهج الشراح الذين سبقوه(1)، في حين كان أبو عبيدة وابن هشام يُغرقان في عرض الأخبار التي لها علاقة بشعر الأيام.

__________

(1) انظر »مقدمة« شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 4. وقارن بين التبريزي والمرزوقي في شرح كل منهما لأبيات الحماسة، تجد التبريزي عالة في شرحه هذا على المرزوقي.

 

(1/15127)

 

 

... وبالرغم من التقائهما من هذا الجانب، فإنهما يختلفان: فأبو عبيدة يُورِدُ نَقَائِضَ جرير والفرزدق، ثم يشرح في إسْهاب ما ورد عند الشاعرين من إشارات تاريخية تتعلق بالفخر بأيام قبيلتيهما. وهو يورد أثناء هذ الشرح التاريخي أو بعد الانتهاء منه أشعاراً أخرى تتعلق بالأيام(1).

... أما ابن هشام في "السيرة النبوية"، فقد تحدث عن وقائع تاريخية وقعت قبل الإسلام وفي فتر ة البعثة النبوية، ثم أورد لها أشعاراً تلائمها(2)

__________

(1) كتاب النقائض، مصدر سابق، ج 1، صص. 46 ـ 51، 66 ـ 68، 70 ـ 71، 73، 75 ـ 77، 83 ـ 108.

(2) السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج 1، صص. 19 ـ 23، 44 ـ 55؛ ج 2، صص. 257 ـ 294.

 

(1/15128)

 

 

.

... وأما ابن الأنباري والتبريزي، فهما وإن أطالا في هذا الجانب، قد اتخذاه مدْخَلاً للنص وجزءاً من منهج عام قد أخذا به أنفسهما، وهو: ذكر مناسبة النص وشرح غريبه ولغته وبعض فقراته، ثم الانتقال إلى شرح مضمونه.

... أما ابن السِّكِّيت في شرح "ديوان النابغة الذبياني"، فيشير في أسطر قليلة جداً إلى مناسبة النص(1). ولعله فعل ذلك، لأن الرواة قبله قد أشاروا بتفصيل إلى

__________

(1) ابن السكيت، ديوان النابغة الذبياني، مصدر سابق، ج 1، ص. 27، 54، 65.

 

(1/15129)

 

 

هذا الموضوع؛ ولذلك نراه يُركِّزُ بالدرجة الأولى على شرح غريب النص ولغته وبعض فقراته.

... وقد حَذَا حَذْوَهُ في هذا الجانب السكري في "شرح أشعار الهُذَلِيِّين"(1). وإذا كان المؤلفان المذكوران قد اقْتَضَبَا في ذكر مناسبة النص، فإن أبا جعفر النحاس في "شرح القصائد التسع" قد انصرف عن ذكره، وليس هذا فحسب؛ بل إنه لم يُكثر كما فعل »أهل اللغة في تفسير غريب الشعر، وإغفال لطيف ما فيه من النحو، فاختصرتُ غريبَ "القصائد التسع المشهورات" وأَتْبَعْتُ ما

__________

(1) شرح أشعار الهذليين، مصدر سابق، ج 1، ص. 70، 76، 113.

 

(1/15130)

 

 

فيها من النحو باستقصاءِ أكثره، ولم أُكْثِر الشواهدَ ولا الأنسابَ لِيَخِفَّ حِفْظُ ذلك إن شاء الله«(1).

... نرى من خلال هذا النص أن شراح الشعر كانوا يطالعون شروح الشعر التي كانت قبلهم، وكانوا يرون أن مؤلفيها قد أطنبوا في جانب وأخَلُّوا بجانب آخر. لذلك نراهم يُعلنون في مُقَدِّمَات تآليفهم أنهم سيُشبِعون القَوْلَ في هذا الجانب الذي غَمَطَه

__________

(1) شرح القصائد التسع المشهورات، مصدر سابق، ص. 97؛ صَنْعَةُ أبي جعفر النحاس، القسم الأول، تحقيق أحمد خطاب، وزارة الإعلام بالجمهورية العراقية، بغداد، 1973.

 

(1/15131)

 

 

المؤلفون السابقون حقه، وهذا نفسه ما نراه عند المؤلفين المحدثين الذين يذكرون في مقدمات تآليفهم جهود السابقين قبلهم في الموضوع، ثم يذكرون المآخذ العلمية والمنهجية التي أخذوها عليهم ليصلوا من ذلك إلى النتائج الجديدة المُتَوَخَّاة من البحث.

... 2) شرح غريب النص ولغته: وذكر الأصل الاشتقاقي لبعض كلماته، وشرح بعض فقراته، والاستشهاد على ذلك بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والشواهد الشعرية وأمثال العرب وأقوال السلف(1)

__________

(1) ديوان العجاج، مصدر سابق، ج 1، صص. 2 ـ 3، 4 ـ 5، 8، 17؛ ثعلب، شرح ديوان زهير، صص, 2 ـ 3، 4 ـ 6، 13 ـ 15، 31، 34؛ والاخْتِيَارَين، ص, 2، 4 ـ 5، 15، 24، 32، 36؛ وراجع المصادر التي أشرنا إليها آنفاً.

 

(1/15132)

 

 

.

... 3) الاهتمام بتوثيق النص وتعدد روايته: ونَضْرِب لذلك مثلاً من قول ابن الأنباري وهو يتحدث عن »يَوْمِ دَارَةِ جُلْجُل« الذي ورد ذِكْرُه في معلقة امرئ القيس:

 

... وقال الأصمعي: حدّثني مَنْ سمع عبد الله بن رألان التميمي ـ وكان راوية الفرزدق ـ يقول: لم أر رجلاً ولم أسمع به كان أَرْوَى لأحاديث امرئ القيس بن حُجر وأشعاره من الفرزدق... قال عبد الله ابن رألان: فقلت: يا أبا فراس وكيف كان حديث "يوم دارة جُلجُل"؟ قال: حدثني جدّي وأنا يومئذ غلام حافظٌ لِما أسمع أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عم له يقال

 

(1/15133)

 

 

لها عُنَيْزَة(1).

 

... نستخلص من هذا النص أن ابن الأنباري قد اعتمد في روايته لمعلقة امرئ القيس والأخبار التي تتعلق بها على الأصمعي، والأصمعي رواها عن عبد الله بن رألان الذي رواها بدوره عن الفرزدق، والفرزدق رواها عن جدِّه.

... ومعلوم أن رواية الأصمعي تعتبر من أصحِّ الروايات. قال الأعلم الشنتمري في شأنها: »واعتمدتُ في ما جلبتُه من هذه الأشعار على أَصَحِّ رواياتها وأوضح طُرُقَاتِهَا، وهي رواية عبد الملك بن قُريب الأصمعيّ لتواطؤ الناس عليها واعتيادهم لها واتفاق

__________

(1) شرح القصائد السبع الطوال، ص. 14.

 

(1/15134)

 

 

الجمهور على تفضيلها« (1).

... وما قيل عن توثيق النص والأخبار المتعلقة به يُقال عن تعدُّدِ روايته. قال ابن الأنباري في بيت امرئ القيس:

 

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ

 

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

 

»ويُرْوَى:

وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا« (2).

 

... وقال لي في شأن بيت امرئ القيس:

 

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا

__________

(1) ديوان امرئ القيس، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط 3، 1969، ص. 4.

(2) شرح القصائد السبع الطوال، المصدر السابق، ص. 25.

 

(1/15135)

 

 

وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ

 

وروى أبو عبيدة: »"كدينك من أُمِّ الحوَيْرِث قبلها". يريد: كدأبك وحالك«(1).

... 4) الاهتمام بإبراز مشكلات النص النحوية والصرفية والعروضية التي تُسهم في إضاءته: نرى شُرَّاح الشعر يتفاوتون في عرض هذه الجوانب: فبعضهم قد يوضح مسألة نحوية لها علاقة بالنص الذي يشرحه، ثم يستطرد في ذلك إلى ذكر بعض آراء النحاة كما نرى ذلك عند المبرد (2) وأبي جعفر النّحاس (3)

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 28.

(2) المبرد، الكامل، مصدر سابق، ج 1، ص. 35، 219، 238 ـ 240.

(3) شرح القصائد التسع المشهورات، مصدر سابق، صص. 142 ـ 143، 154 ـ 155، 183 ـ 184، 186 ـ 187.

 

(1/15136)

 

 

.

... وبعضهم قد »بَنَى كتابه على أساس من القواعد النحوية التي يراها في هذا البيت أو ذاك، فنجده عندما يشرح بيتاً يخلص إلى عبارته المألوفة: "وأما ما فيه من النحو"، ثم يذكر القاعدة العامة ويتوسع بعدها ليستوعب ما قاله علماء النحو فيها، أو يذكر رأيه مؤيداً أو مخالفاً«(1).

... وبعضهم يكتفي بإعراب البيت إعراباً موجزاً، لأنه بَنَى كتابه ـ فيما يبدو ـ على خطة تكاد تكون متوازنة؛ فهو يشرح غريب النص مفصّلاً فيه، ثم يشرح مضمونه بإيجاز، ثم يُعربه (2)

__________

(1) المصدر نفسه، »المقدمة«، صص. 76 ـ 77.

(2) شرح القصائد السبع الطوال، ص. 134، 136، 137، 139.

 

(1/15137)

 

 

.

... هذا، ونرى بعض شُرَّاح الشعر يُطنبون في عرض الدراسات الصرفية فيتحدثون عن الإبدال (1) والإدغام (2) ومعاملة حروف اللين معاملة الحروف الصحيحة (3) وأوزان بعض الجموع (4) والتصغير (5) والنسب (6)، في حين نرى بعضهم يستخدم الصرف لبيان بِنْيَة الكلمة التي يتحدث عنها في النص (7)

__________

(1) ... »مقدمة« شرح القصائد التسع، ص. 73.

(2) المصدر نفسه، ص. 74.

(3) المصدر نفسه.

(4) ... المصدر نفسه.

(5) ... المصدر نفسه، ص. 75.

(6) ... المصدر نفسه، ص. 76.

(7) ... المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، صص. 40 ـ 41، 44.

 

(1/15138)

 

 

.

... ويُمكن أن يُقال ـ بصفة عامة ـ في هذا المجال: إن الشُّرَّاح يتعرضون للقضايا النحوية والصرفية من أجل توضيح إِشْكَال قائم في البيت، ثم يمرُّون إلى معالجة قضايا أخرى يحتوي عليها البيت، ما خلا بعضهم كأبي جعفر النحاس وأبي جمعة الماغوسي (1) اللذين وجدَا لذة كبرى في عرض القضايا النحوية والخلافات

__________

(1) أبو جمعة الماغوسي، إِتْحَاف ذَوِي الأَرَب بمقاصد لامية العرب، تحقيق محمد المؤدّب، رسالة مرقونة بكلية الآداب بالرباط، صص. 22 ـ 25، 27 ـ 28، 30 ـ 32، 33 ـ 34. والماغوسي شارح مغربي عاش في العصر السعدي.

 

(1/15139)

 

 

القائمة بين أصحابها وكأنهما بصدد تأليف كتاب في النحو أو الصرف لا في شرح الشعر.

... أما القضايا العروضية التي تناولها شراح الشعر، فهي لا تخرج عن الإشارة إلى بحور الأبيات التي يشرحونها، كما نرى ذلك مثلاً عند الخطيب التبريزي (1)، أو لجوء الشاعر إلى الضرورية الشعرية من تخفيف الهمز (2)

__________

(1) كما أنه يشير إلى قوافي هذه الأبيات: التبريزي، شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 6، 12، 15، 22، 30 ـ 31، 33 وغيرها.

(2) مثل قول الشاعر الحماسي »أَوْمَى« وأصلها »أَوْمَأَ«. (تجلي غرر المعاني، مصدر سابق، ج 1، ص. 152).

 

(1/15140)

 

 

، أو الحذف لإقامة الوزن (1)، أو توضيح كلمة القافية لإزالة التباس قد يَرد على الذهن كما نرى مثلاً في قول الأعلم الشنتمري متحدثاً عن حماسية عمرو بن معد يكرب الزبيدي التائية »وبهذا البيت خرجت القصيدة من أن تكون قافيتها الراء، لإتيانه بالنون في قافيته؛ فَعُلِمَ

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 136، حيث يشير الأعلم إلى أن الشاعر قد »حذف نون الاثنين« قي قوله:

... ... ... هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٌٍ ومِنَّةٌٍ

... »للإضافة إلى القول، وحذف القول لعلم السامع ولِمَا احتاج إليه من إقامة الوزن«. (المصدر نفسه).

 

(1/15141)

 

 

أنه اعتمد على التَّاء في القافية«(1).

... 5) شرح مضمون النص: يأتي شرح مضمون النص عند شراح الشعر بعد ذكر مناسبته وشرح غريبه ولغته وبعض فقراته. ونرى الشرّاح يتفاوتون في تناول هذا الجانب:

... ـ فبعضهم يشرح مضمون البيت اعتماداً على أقوال العلماء كما نرى ذلك عند ابن السّكّيت (2)، والسكري (3)، وابن الأنباري (4)

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 73. وهو يقصد قول الشاعر »أَرَنَّتِ«.

(2) ديوان النابغة، مصدر سابق، صص. 11 ـ 15، 20، 31 ـ 32.

(3) شرح أشعار الهُذليين، مصدر سابق، ج 1، ص. 4، 12، 16، 21، 23.

(4) شرح القصائد السبع الطوال، مصدر سابق، صص. 26 ـ 27، 35 ـ 37، 40.

 

(1/15142)

 

 

، مما يوضح لنا أنهم لا يكتفون برواية الأشعار والأخبار التي تتعلق بها؛ بل يروون أيضاً ما قاله العلماء حول هذه الأشعار من تفسير غريبها وألفاظها وبعض فقراتها، وكذلك مضمونها.

... وهم ينصّون على أقوال كل عالم في شرحه، ونفهم ـ عندما لا ينصون على هذا الذكر ـ أنهم أضافوا شروحاً لهذه الأشعار من عندهم. وهذه نصوص توضح ذلك:

... قال محمد بن القاسم الأنباري في شرحه لبيت امرئ القيس:

 

فَتُوضِحَ فالمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا

 

لما نَسَجَتْهَا من جَنُوبٍ وشَمْأَلِ

 

(1/15143)

 

 

... ... لَمْ يَعْفُ رسمها. قال الأصمعي: معناه لم »يدرس« لما نسجته من الجنوب والشمال، فهو باق، فنحن نحزن؛ ولو عفا، لاسترحنا... وقال قوم: المعنى لم يعفُ رسمها للريح وحدها، إنما عفا للمطر والريح وغير ذلك من مرِّ الدهور به؛ وهو دارس في المعنى... وقال آخرون: لم يَعْفُ رَسْمُهَا لاختلاف هاتين الريحين؛ ولو دامت عليه واحدة، لعفا... وقال أبو بكر محمد بن آدم العبدي: معنى قوله: لم يعف رسمها، لم يدرس من قلبي، وهو في نفسه دارس (1).

 

... وقال السكري في شرح بيت أبي ذؤيب الهذلي:

__________

(1) المصدر نفسه، صص. 20 ـ 21.

 

(1/15144)

 

 

قَالَتْ أُمَيْمَةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِباً

 

مُنْذُ ابْتَذَلْتَ وَمِثْلُ مَالِكَ يَنْفَعُ

 

... ... الأصْمعي يقول: إن كان مات من يكفيك من بَنِيك، فَمِثْلُ مالك يُشْتَرَى به مَن يكفيك ضَيْعَتَكَ، أي مثل مالك كفى صاحبَه البِذْلَةَ ونفَع، فاتَّخِذْ من يكفيك وأَقِمْ وَوَدِّعْ نَفْسَكَ. أبو عمرو(1) يقول: مالك كثير، فما لِي أَرَاكَ شاحباً. مَعْمَر (2)

__________

(1) يقصد »أبا عمرو بن العلاء« المتوفى سنة 154 هـ. (مراتب النحويين، مصدر سابق، ص. 42).

(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ). (المصدر نفسه، ص. 79).

 

(1/15145)

 

 

: »ابْتَذَلْتَ«، أي ابتَذَلْت نَفْسَكَ وتركْت الزِّينَةَ (1).

 

... عندما يفحص الباحث شروح الشعر التي تتعلق بمضمون الأبيات ـ وخاصة عند الشراح اللغويين ـ، فإنه يجدها شروحاً مُقَتَضَبَة وباردة. والسبب في ذلك أن اللغويين كان همُّهم البحث في الأصل الاشتقاقي للكلمة ودلالاتها المختلفة. وإذا سألتهم عن علاقة مضمون البيت بعالم الشاعر وتجربته الشعرية، وكيف فجّر اللغة وأخضع دلالتها في شعره لدلالة جديدة تتناسب مع الموضوع الذي عالجه، فإنهم لا يجيبونك لأن هذا ليس

__________

(1) شرح أشعار الهذليين، مصدر سابق، ج 1، ص. 5.

 

(1/15146)

 

 

من صنعتهم. على أننا نستثني شُرَّاحاً آخرين قد هضموا التراث العربي فاستفادوا منه في تكوين رؤية جديدة لنصوص الشعر العربي القديم تستند إلى النقد والبلاغة والمنطق. من هؤلاء: الحسن بن بِشْر الآمدي (ت 370 هـ) في كتابه "الموازنة بين أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وأبي عبادة الوليد بن عُبَيدٍ البحتري" (1)، وأحمد بن محمد المرزوقي (ت 421 هـ) في كتابه "شرح ديوان الحماسة" (2)

__________

(1) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط 3، 1959.

(2) تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط 2، 1967.

 

(1/15147)

 

 

لأبي تمام، وعليّ بن إسماعيل بن سِيدَة (1) الأندلسي (ت 458 هـ) في كتابه "شرح مشكل أبيات المتنبي"، وعبد القاهر الجرجاني (ت 471 أو 474 هـ) في كتابيه "أسرار البلاغة" (2) و"دلائل الإعجاز"(3)، وابن مَرْزوق التلمساني الحفيد (ت 842 هـ) في كتابه "إظْهَارُ صِدق المودَّة في شرح البردة" (4)

__________

(1) تحقيق محمد حسن آل ياسين، وزارة الإعلام بالعراق، بغداد، ط 1، 1977.

(2) تصحيح الشيخ محمد عبده وتعليق رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1982.

(3) تصحيح وتعليق محمود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1984.

(4) تحقيق محمد الكَوار، رسالة لدبلوم الدراسات العليا، مرقونة بكلية الآداب بالرباط، سنة 1993.

 

(1/15148)

 

 

.

... مما لاشك فيه أن كل شارح من الشراح الذين ذكرناهم آنفاً كان يقوم بتوضيح ما غمض في البيت من معنى على أساس منهج كان يسلكه:

... فالآمدي كان ينظر إلى أخطاء أبي تمام في اللفظ والمعنى على أساس الصراع الذي كان بين القدماء والمحدثين حول »الطبع« و»الصنعة«. ففريق الطبع كان يناصر البحتري، وفريق الصنعة كان يناصر أبا تمام.

... ونظراً لتكوين الآمدي الثقافي وتشبعه بالتراث العربي الذي يمجد طريقة القدماء، فإن هواه كان مع البحتري الذي حافظ على عمود الشعر (1)

__________

(1) لخص المرزوقي، في كتابه "شرح ديوان الحماسة" (مصدر سابق، ج 1، ص. 9)، عمود الشعر؛ فقال متحدثاً عن النقاد العرب: »إنهم كانوا يحاولون شَرَف المعنى وصِحَّته، وجزالةَ اللفظ واستقامتَهُ، والإصابَةَ في الوصف... والمقاربة في التشبيه، والتحامَ أجزاء النظم والتئامَها على تخَيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستَعَارِ له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا مُنَافَرَةَ بينهما«.

 

(1/15149)

 

 

.

... أما شعر أبي تمام الذي يمثل »صورة لحضارة القرن الثالث الهجري بما تحمل هذه الحضارة من ترف فكري وحضاري وتأنق في جميع مظاهر الحياة«(1)، فإن الآمدي لم يستسغه لأنه ظل مُحبّاً لطريقة العرب القدماء في عمود الشعر، ولأن شعر أبي تمام لا يفهمه الناقد المتخصص إلا بعد إعمال الذِّهن. يقول عن أبي تمام:

__________

(1) محمد علي أبو حمدة، أبو القاسم الآمدي وكتاب الموازنة، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1969، ص. 99.

 

(1/15150)

 

 

... حتى صار كثيرٌ مما أتى به من المعاني لا يُعْرَف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكَدِّ والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف إلا بالظن والحَدْسِ ولو كان أَخَذَ عَفْوَ هذه الأشياء ولم يُوغِل فيها ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذَبَة ويقْتَسرها مُكَارَهة وتناول ما يسمح به خاطره... وأورد من الاستعارات ما قرُب وحسن... واقْتَصَر من القول على ما كان مَحْذُوّاً حَذْوَ الشعراء المحسنين ليسلم من هذه الأشياء التي تُهَجِّن الشعر وتُذْهِب مَاءَهُ وَرَوْنَقَهُ... لظننتُه كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر

 

(1/15151)

 

 

الشعراء المتأخرين (1).

 

... وقد طبق الآمدي منهجه هذا على شعر أبي تمام فقال عن بيته:

 

رَقِيقُ حَوَاشِي الحِلْمِ لَوْ أَنَّ حِلْمَهُ

 

بِكَفَّيْكَ مَا مَارَيْتَ فِي أَنَّهُ بُرْدُ(2)

__________

(1) الآمدي، مصدر سابق، ص. 128.

(2) من قصيدة يمدح فيها أبا الحسين محمد بن الهيثم، وهي في ديوانه؛ بشرح الأعلم الشنتمري (ت 476)، تحقيق إبراهيم نادن، وهو رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، مرقونة بكلية الآداب بالرباط، سنة 1995، ج 3، ص. 391. و »مَارَيْتُ الرَّجُلَ إذَا جَادَلْتَهُ« (اللسان، »مرا«)، »البُرْدُ: ثوب فيه خطوط« (اللسان، »برد«).

 

(1/15152)

 

 

... والخطأ في هذا البيت ظاهر؛ لأنِّي ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحِلْم بالرقة، وإنما يُوصف الحِلم بالعِظم والرُّجْحَان والثقل والرَّزانة ونحو ذلك كما قال النابغة:

 

وَأَعْظَمَ أَحْلاَماً وأَكْبَرَ سَيِّداً

 

وأَفْضَلَ مَشْفُوعاً إِلَيْهِ وَشَافِعَا(1)

__________

(1) البيت من مقطعة له يمدح فيها قوماً بهذه الخصال. وقد استنتجنا ذلك من المقطعة كلها. أما المحقق، فقد جاء بأبيات المقطعة وتركها على حالها ولم يشر في نهاية الكتاب إلى التخريج. (ديوان النابغة الذبياني، صنعة ابن السكيت، تحقيق شكري فيصل، دار الفكر، 1968، ص. 95. وقد فعل مثل ذلك أبو الفضل إبراهيم في "ديوان النابغة الذبياني"، دار المعارف، مصر، 1977، ص. 164).

 

(1/15153)

 

 

... وكما قال الأخْطَل:

 

شُمْسُ العَدَاوَة حتّى يُسْتَقَادَ لَهُمْ

 

وأَعْظَمُ النَّاسِ أَحْلاَماً إِذَا قَدَرُوا(1)

 

... وكما قال أبو ذُؤَيب:

 

وصَبْرٌ على حدث النائباتِ

 

وحِلْمٌ رَزِينٌ وقَلْبٌ ذَكِيٌّ(2)

 

... يتبين لنا من خلال هذا النص أن الآمدي لا يريد من أبي تمام أن يخرج عن سَنَنِ الأوائل في استعمال الألفاظ.

__________

(1) البيت من قصيدة له في ديوانه يمدح فيها عبد الملك بن مروان، تحقيق فخر الدين قباوة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1979، ص. 201.

(2) من قصيدة له في شرح أشعار الهذليين، ج 1، ص. 103.

 

(1/15154)

 

 

فالأوائل قد وصَفُوا الحِلْمَ بالعِظم والثِّقل والرُّجحان، وأبو تَمام قد وصفه بالرقة.

... وهذا في حد ذاته يُعد جِناية على الشاعر الذي يُحاول التعبير عن عصره بلغة تناسب ذلك العصر. فهو يريد إخضاع اللغة المتداولة لتحمل أفكاراً جديدة لم تعهدها من قبل، وهذا ما فعله أبو تمام. لقد انصبَّ اهتمامه على وصف الحِلِم بالرقة وحاول تجسيده هذه الرقة في أطراف الثوب.

... يحاول أبو تمام هنا تجسيم المعنويات وكأنها حاضرة بين يديك، وعمله هذا يشبه ما يفعله الشاعر العربي المعاصر الذي يناضل اللغة والمواضعات الاجتماعية

 

(1/15155)

 

 

ليخلق لغة تنبض بالحياة وتعبر عن تطور العصر.

... ومع هذا، فإن نقد الآمدي لشعر أبي تمام كان مُوفَّقاً لأنه كان »مزيجاً موفقاً من الذوق والمعرفة، المعرفة بِكَافُّةِ أنواعها: إنسانية مباشرة وتقليدية مقررة، معرفة لغوية ومعرفة أدبية، إحساس ومنطق، بداهة ومحاجة«(1).

... ونأخذ مثالاً من شرحه لشعر أبي تمام يدل على دقته وإدراكه لنزعات النفوس:

 

... قال أبو تمام:

__________

(1) محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر للطبع والنشر، د. ت.، ص. 123. وقد تصرفت في أول النص.

 

(1/15156)

 

 

لَمَّا اسْتَخَرَّ الوَدَاعُ المَحْضُ وانْصَرَمَتْ

رَأَيْتُ أَحْسَنَ مَرْئِيّ وأَقْبَحَهُ

 

أَوَاخِرُ الصَّبْرِ إِلاَّ كَاظماً وَجِمَا(1)

مُسْتجمعَيْنِ لِيَ التودِيعَ والعَنَمَا(2)

__________

(1) روى الأعلم في شرح ديوان أبي تمام، ج 3، ص. 399، هذا البيت على الشكل الآتي:

...

لما استخر الوداع المحْضُ وانْصَرَفَتْ

 

أواخِرُ السَّيْرِ إلاَّ كَاظِماً وَجِمَا

 

(2) تختلف رواية الأعلم في هذا البيت عن رواية الآمدي إذ رواه في شرح ديوان أبي تمام على الشكل الآتي:

 

رأيت أحسن مرئىّ وأقبحه

 

مُستودعيْنِ لِيَ التَّوْديعَ والعَنَمَا

 

(1/15157)

 

 

... العَنم: شجر له أغصان لطيفة غَضَّةٌ كأنها بَنَانُ جارية... كأنه استحسن أصبعها واستقبح إشارتها إليه بالوداع، وهذا خطأ في المعنى، أتراه ما سمع قول جرير:

 

أتَنْسَى إِذْ تُوَدِّعُنَا سُلَيْمَى

 

بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ(1)

__________

(1) وهذا البيت والذي قبله من قصيدة له يمدح فيها إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة في بغداد أيام المامون والمعتصم والواثق والمتوكل مات سنة 235 هـ. (عن: الأعلم، شرح ديوان أبي تمام، ج 3، ص. 399).

 

( ) من قصيدة له يصف فيها غلبته لشعراء عصره ويهجو الأخطل وقومه، (شرح ديوان جرير، تحقيق إسماعيل الصاوي، دار الأندلس، بيروت، د. ت.، ص. 512).

 

(1/15158)

 

 

... فدعا للبشام بالسقيا لأنها ودَّعته به؛ فسرّ بتوديعها.

 

... فأبو تمام استحسن أصبعها واستقبح إشارتها. ولعمري إنّ منظَر الفراق منظر قبيح، ولكن إشارة المحبوبة بالوداع لا يستقبحها إلا أجهل الناس بالحب، وأقلهم معرفةً بالغزل، وأغلظهم طبعاً، وأبعدهم فَهْماً (1).

 

... يعيب الآمدي على أبي تمام أنه استقبح إشارة الحبيب إليه بالوداع، واستحسن إشارته إليه بالأصبع. وهذا في حد ذاته تناقض واضح، لأن منظر الفراق يبعث على الحزن والأسى والمنظر القبيح. لكن عندما

__________

(1) الآمدي، الموازنة، مصدر سابق، صص. 204 ـ 205.

 

(1/15159)

 

 

يتخلله إشارة المحبوب بالوداع، يلطف من حزنه، لا بل قد يُحول لحظة الحزن إلى لحظة فرح.

... أما منهج المرزوقي في شرح مضمون أبيات "ديوان الحماسة"، فقد اعتمد على الجوانب التالية:

... 1) شَرَحَ البيت شرحاً وافياً: وذلك بتوضيح ما غمض منه، حتى تكاد يَدُ القارئ تتَقَرَّاهُ بِلَمس، ثم قارن معناه بأشعار الشعراء الآخرين الذين طرقوا المعنى نفسه. يقول في شرح البيت الثالث من الحماسية الأولى:

 

قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ

 

طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا

 

(1/15160)

 

 

... أراد أن يصف بني مازن بما يهتاج له قومه فينصرونه، فقال: هم قوم إذا ظهر لهم الشرُّ واشتدّ، سارعوا إليه غير متوقّعين لتَجَمُّع، ولاَ مُعَرِّجِينَ على تَأَهُّب؛ لكنهم يتبادرون أفراداً وثُبَاتٍ، وأشتاتاً وجماعاتٍ. وإِبدَاءُ النَّاجِذِ ـ وهو ضرس الحِلْمِ ـ مَثَلٌ لاشتداد الشر، ومثله قول الآخر:

 

فَمَنْ يكُ مِعْزال اليدينِ مكانُهُ

 

إِذَا كَشَرَتْ عن نابها الحَرْبُ خَامِلُ

 

... فأمَّا قول عنترة:

 

إِذْ تَقْلِصُ الشفتانِ عن وَضَحِ الفَمِ(1)

__________

(1) صَدْرُهُ: ولَقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بالضُّحَى.

 

... وهو من معلقته: ديوان عنترة، تحقيق سعيد مولوي، منشورات المكتب الإسلامي، دمشق، 1970.

 

(1/15161)

 

 

... وقول الأعشى:

 

سَعَةُ الشِّدْقِ عن النَّابِ كَلَحْ(1)

 

... وقول الآخر:

وَقَدْ أَسْلَمَ الشَّفَتَانِ الفَمَا

 

... فإنما هو صِفَةٌ للمصطلى بنار الحرب عند اشتداد الأمر عليه«(2).

__________

(1) ... صَدْرُه: ... ولَهُ المُقْدَمُ فِي الْحَرْبِ إِذَا.

... وهو من قصيدة له طويلة يمدح فيها إياس بن قَبِيصَة الطائي. (ديوانه، تحقيق محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1983، ص. 291).

(2) ... المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، صص. 27 ـ 28.

 

(1/15162)

 

 

... هذا، ونرى المرزوقي، بعد أن يستنفد القول في شرح صِيَغِ البيت المذكور وفقراته، يُعَقِّبُ على ذلك بشرح آخر يكاد يتفق مع الشرح الأول، ولكنه يُركز فيه على معنى آخر بَدَا له أنه لم يذكره في الشرح الأول وهو: »والمعنى أنهم لحرصهم على القتال وجرأتهم، لا ينتظر بعضهم بعضاً، ولكن كُلاًّ منهم يعتقد أن الإجابة تَعَيَّنَتْ عليه إذا تشدّد الشّرّ لهم، وفي طريقته قول بعض الشعراء:

 

قَوْمٌ إِذَا هَتَفَ الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ

 

(1/15163)

 

 

مِنْ بَيْنِ مُلجِم مُهْرِهِ أَو سَافِعِ (1) (2)

__________

(1) ورد هذا البيت في شعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي، جمع وتحقيق مطاع الطرابيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1974، ص. 194.

... الصريخ: صوت المستصرخ، والصارخ أيضاً، والمناسب الأول. والسافعُ: الممسك برأس فرسه ليركبه بسرعة من غير لجام؛ ومعموله محذوف، أي بناصية فرسه. عن شعر عمرو، المصدر نفسه، ص. 194. وقد أورد المحقق أقوالاً هامة حول نسبة هذا البيت في الصفحة المذكورة.

(2) شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 29.

 

(1/15164)

 

 

... 2) شَرَح المعنى والصورة الفنية: يقول المرزوقي عن حماسية شَهْلِ بْنِ شَيْبَانَ:

 

مَشَيْنَا مِشْيَةَ اللَّيْثِ

بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِيـ

 

غَدَا واللَّيثُ غَضْبَانُ

ــــنٌ وَتَخْضِيعٌ وإِقْرَانُ

 

... »فيقول: سَعَيْنَا إليهم مِشْيَةَ الأَسَدِ ابتكر وهو جائع، وكَنَى عن الجوع بالغضب لأنه يصحبه. وهذا التشبيه قد أخرج ما لا قوّة له في التصوّر إلى ما له قوة فيه«(1).

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، ص. 36؛ وانظر مثلاً لذلك أيضاً في شرحه، ج 1، صص. 63 ـ 64.

 

(1/15165)

 

 

... نلاحظ هنا أن المرزوقي أبرز صورة الأسد الغاضب عن طريق الجوع الذي هو دافع لسفك الدماء، ثم قارن فعل الأسد في ذلك بفعل الفرسان المحاربين الذين يتجهون صَوْبَ أعدائهم لسفك دمائهم.

... لقد وضح المرزوقي هنا دور التشبيه في إبراز الصفة المشتركة بين الصورتين »صورة الأسد وهو يتجه إلى الفريسة، وصورة الفرسان وهم يتجهون إلى الأعداء«، بالرغم من اختلاف جنسيهما. ثم قال عن شرح البيت الثاني:

 

... تعلق البَاءُ منه بمَشَيْنَا، أي مَشَيْنَا بِضرب في ذلك الضرب تضعيف للمضروب به، وتذليلٌ ولينٌ. ويجوز أن يكون المعنى:

 

(1/15166)

 

 

فيه تَوهين وصَوْتٌ في القَطع وكسرُ العِظام وإِطَاقَةٌ وقُوَّةٌ. ويكون حينئذ »تَخْضِيعٌ«، من الخَضْعَةِ والخَضِيعَةِ، وهما اختلاط الصوت في الحرب (1).

 

... لقد شرح المرزوقي البيت الثاني شرحين، اعتماداً على دلالة الألفاظ. وقد أبرز في الشرح الثاني علاقة أصوات الكلمة بدلالتها. فالضرب الذي يحدثه المحارب بسيفه في عظام الأعداء، فيكسرها يتجاوب مع ضربات المحاربين الآخرين وأصواتهم، وهو يدل على طاقة فرسان قبيلة الشاعر وقوتهم؛ كما يدل على إذلال الأعداء ولِينهم.

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 36.

 

(1/15167)

 

 

... 3) شَرحَ المعنى عن طريق ضرْبِ المثل: يقول عن البيت التاسع من الحماسية الثانية، وهي لشَهلِ بن شَيْبَانَ:

 

وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حيـ

 

ـــنَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ

 

... كأنه يريد: »وفي الإساءة مَخْلَصٌ إِذَا لَمْ يُخَلِّصْكَ الإحسان«. وهذا مثل قولهم: »الطَّعْنُ يَظْأَرُ«، أي يَعْطِفُ؛ وكما قال زهير:

 

وَمَنْ يَعْصِ أَطْرَافَ الزِّجَاجِ فَإِنَّهُ

 

مُطيعُ الْعَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ(1)

__________

(1) الزُّجُّ: الحديدة التي تركب في أسفل الرمح؛ والسِّنَانُ يُرَكَّبُ في أعاليه. والزُّجُّ تُرْكَزُ به الرمح في الأرض، والسِّنَان يُطعن بِه. (اللسان، »زجج« طبعة بولاق). اللَّهْذَم: الماضي.

 

(1/15168)

 

 

... وهذا الكلام يجري منه مجرى الاعتذار مما أجْرَى إليه مع القَوْمِ فاعْلَمْهُ، ويقولون أيضاً »مَن لم تُقَوِّمْهُ الكَرَامَة، قَوَّمَتْهُ الإِهانة«(1).

... نرى المرزوقي هنا يشرح مضمون البيت عن طريق ضرب الأمثال التي تتضمن حكماً مستخلصة من واقع العرب الحربي الذي يعتمد على سيادة القوة: »قال أبو عبيد: من أمثالهم في الإعطاء من الخوف قولهم: "الطَّعْنُ يَظْأَرُ"، أي يعطف على الصلح. تقول: إذا خافك أن تطعنه فتقتلَهُ، عَطَفَه ذلك عليك فجَادَ بماله للخوف«(2)

__________

(1) شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 38.

(2) اللسان، »ظأر«، طبعة بولاق.

 

(1/15169)

 

 

.

... ونراه يقرن المثل النثري بمثل شِعْريّ استخلصه من بيت زهير بن أبي سلمى الذي يقول فيه ما معناه:

... إن الزُّجَّ ليس يُطْعَنُ به، إنَّما يُطْعَنُ بالسِّنَانِ. فمن أبَى الصُّلْحَ وهو الزُّجُّ الذي لا يُطْعَنُ به، أطَاعَ العوالي وهي التي يُطْعَن بها... قال خالد بن كلثوم: كانوا يستقبلون العَدُوَّ إذا استقبلوهم وأرادوا الصلح بأزِجَّةِ الرماح؛ فإن أجابوهم إلى الصُّلح، وإلا قلبوا عليهم الأسِنَّةَ وقاتلوهم (1).

__________

(1) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، 1944، ص. 31.

 

(1/15170)

 

 

... يلاحظ هنا أن المرزوقي قد اتَّبع الناحية التَّعليمية في شرحه: فقد شرح مضمون البيت شرحاً واضحاً، ثم عقَّب على ذلك بضرب الأمثال. وهذا في حد ذاته شرح آخر لمضمون البيت.

... والأمثال التي جاء بها لتأكيد مضمون البيت منها ما يعتمد على كلمتين »الطعن يظأر« ويلخص تجربة شائعة ومنها ما يعتمد على بيت شعري يلخص الحكمة نفسها التي عبر عنها المثل النثري، ثم يضيف إلى ذلك مثلاً آخر. ولعله مستمد من الأخلاق الشائعة مثل ما نجد عندنا في المثل المغربي »الحُرْ بَالْغَمْزَة والعَبْد بَالدَّبْزَة«.

 

(1/15171)

 

 

... ثم يضيف إلى ذلك تحليله للدافع الذي دفع الشاعر إلى سلوك مثل هذا الفعل مع القوم الذين حاربهم، وهو أنه حاول الصفح عنهم حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه من ودّ وإخاء، ولكنهم أبوا ذلك واستمروا في إظهار الشر. وحينئذ لجأ إلى المقابلة بالمثل.

... 4) وضَّح القضايا البلاغية المتعلقة بالمعنى واللفظ: فقد أشار في شرحه لأبيات "الحماسة" إلى ما تحتوي عليه من مقابلة(1) وتقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم(2)، واستعارة(3)

__________

(1) شرح ديوان الحماسة، مصدر سابق، ج 1، ص. 41.

(2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 42.

(3) المصدر نفسه، ج 1، ص. 59.

 

(1/15172)

 

 

، وطباق(1)، وكناية(2)، والتفات(3).

... أما الخصائص العامة التي نجدها عند ابن سِيدَة في "شرح مشكل أبيات المتنبي"، فيمكن حصرها في الجوانب التالية:

... 1) التعمق في شرح مضمون أبيات المتنبي، وذلك بوضعها في إطار الشعر العربي الذي تلتقي معه من جهة، ثم عرضها على واقع التجربة الإنسانية لبيان مدى صدقها أو افتعالها من جهة أخرى. وهذا مثال يوضح ذلك. قال المتنبي:

 

أَحْيَيْتُهَا والدُّمُوعُ تُنْجِدُنِي

__________

(1) المصدر نفسه، ج 1، صص. 27 ـ 30.

(2) المصدر نفسه، ج 1، ص. 36.

(3) المصدر نفسه، ج 1، ص. 63.

 

(1/15173)

 

 

شُؤُونُها والظَّلاَمُ يُنْجِدُهَا

 

... أحييتُها: يعني الليالي. تُنجدني: تُعينني. والشُّؤون: مجاري الدَّمْع... أي: أحييت الليالي بالسَّهَر والبكاء. ومعنى البيت: إنّ شأن الدمع أن يخفِّف الحزن، كقول البحتري:

 

إنَّ الدموعَ هي الصَّبابَةُ فاطَّرِحْ

 

بعضَ الصَّبَابَة واستَرحْ بِهُمولها (1)

 

... وهذا كثير في أشعار العرب، وهو عندنا موجود بالمشاهدة. فكأن الدمع يُعينه على طول الليل، وإعانة الدمع للمحزون على الحزن ليلاً أجْدى من إعانته عليه

__________

(1) الهُمُول والهَمْل والهَمَلاَن: السَّيَلان. (اللسان، »همل«).

 

(1/15174)

 

 

إيَّاه نهاراً، لأن المحزون يتسلَّى نهاراً بما يتأمَّلُه وينظر إليه، والظلام يقصُر الطَّرْفَ عمَّا يتشاغل به المحزونُ نهاراً؛ فيفزع الحزين عند ذلك إلى الدمع لا يجدُ مُعيناً غيره (1).

 

... 2) الاستعانة في هذا الشرح بالمنطق والبلاغة:

... قال المتنبي:

 

يَا لَيْتَ بِي ضَرْبَةً أُتِيحَ لَها

أَثَّرَ فِيهَا وَفِي الحَدِيدِ وَمَا

 

كما أُتِيحَتْ له محمَّدُهَا

أثَّرَ في وَجْهِهِ مُهَنَّدُهَا

__________

(1) شرح مشكل أبيات المتنبي، مصدر سابق، ص. 31.

 

(1/15175)

 

 

... معنى إتاحة الضربة له حلولُها به. ومعنى إتاحة محَمَّدٍ لها نُبُوُّها عنه واحتمالُه لها وتأثيره فيها بزعمه. أثَّر في الشيء: غادَرَ فيه أثراً، ولا يكون التأثير إلاّ في الجواهر؛ كقولك: أثَّرَ المطَرُ في الحَائِطِ... وأثَّرَ المَرَضُ في جسمه، ولا يكون ذلك في العَرَض. وقد اقتسم قوله: »أثَّرَ فيها وفي الحديد« جوهراً وعرضاً. أما الجوهر، فالحديد؛ والتأثير فيه سائغ. وأما الهاء في قوله »فيها«، فَعَرَضٌ لأنها كناية عن الضربة التي في قوله:

 

يَا لَيْتَ بي ضَرْبَةً أُتِيحَ لها

 

(1/15176)

 

 

... وإنَّمَا لم يصح التأثير في العرض لأن التأثير إبقاء الأثر، والأثَرُ عَيْنٌ، والعينُ لا يكون إلا في عين مثله، أعني بعين الجوهر، إذ لا يحمل الجوهرَ إلا جوهرٌ. وأما العرض، فليس بعين فيكون حاملاً لعَيْنٍ آخر. فإذن قوله »أثَّرَ فيها« استعارة ومجاز غريب كأنه توهَّم الضربة عيناً، بل هو عندي أبلغ لأنه إذا أمكنه التأثيرُ في العَرض كان له في الجوهر أَمْكَنَ، لكنه ـ مع ذلك ـ قولٌ شِعْرِيٌّ، أعني أنه ليس بحقيقة(1)

__________

(1) شرح مشكل أبيات المتنبي، صص. 32 ـ 33؛ وانظر في ما يقرب من هذا المعنى، ص. 86؛ وانظر في استعانته بالمنطق، ص. 58، 61، 67، 77، 79، 80.

 

(1/15177)

 

 

.

 

... يحاول ابن سِيدَة هنا أن يطبق بعض أدوات المنطق في تحليله لبيتي المتنبي، فيستعمل »الجوهر« للدلالة على الحديد، لأن التأثير فيه سائغ بخلاف العَرض الذي هو كناية عن الضربة التي أثر فيها محمد، أي أنه إذا قلنا إن ضربة »محمد« قد أثرت في الحديد فهذا سائغ، ولكننا إذا قلنا إن محمداً قد أثر فيها، أي في الضربة، فهذا عرض.

... يفرق ابن سِيدَة هنا بين القول الحقيقي الذي يتطابق مع المألوف وبين القول الشعري الذي يعتمد على الاستعارة والمجاز فيخرق المألوف.

 

(1/15178)

 

 

... 3) اعتماده على التأويل: وهذا ناتج عن تأثره بالمنطق وبالكُتَّاب الذين سلكوا قبله هذا المنهج مثل المرزوقي. ونراه في هذا الجانب يستقصي الاحتمالات الممكنة لمضمون البيت. يقول المتنبي واصفاً غيبة الأمير المجهول الذي كان يُخْطَبُ له على المنابر بحمص أيام ولايته إياها، فأُزيل عنها (1):

 

قد اشْتَكَتْ وَحْشَةَ الأحيَاءِ أَرْبُعُهُ

 

وخَبَّرْت عن أَسَى الموتَى مَقَابِرُهُ

__________

(1) شرح مشكل أبيات المتنبي، مصدر سابق، ص. 56.

 

(1/15179)

 

 

... الهاء في »مقابره« للبلد ذاك... أي تَوَحَّشَ إليه الأحياءُ ـ وهذا ممكن ـ والأمواتُ ـ وهذا غير ممكن ـ لكنه بالغ بالموتى وأفرط بقوله: إنَّ المقابرَ مُخْبرةٌ عن أسى الموتى. فالنصف الثاني أغْلَى من الأول لأنّ الأحياء قد يتوحَّشُون، وإن كان فيه غُلُوٌّ أيضاً، لإِسْنَادِهِ الشَّكْوَ إلى الأرْبُع وكأنَّ الأربُع إنَّمَا اشتكتْ رِقَّةً لما تراه من تَوَحُّش أهلها، وبُعْداً بذلك! وإن شئتَ قلتَ: خَلَت الأرْبُعُ بعد الأمير من سُكَّانِهَا فتَشَكَّتْ توحُّشَهَا إلى الأحياء، والأول أولى لِيُطَابِق إسْنَاد

 

(1/15180)

 

 

الأسَى إلى الموتى (1).

 

... نستخلص مما سبق أن شروح الشعر تتميز بميزتين أساسيتين:

... 1) شروح تقليدية تلقفت الشروح التي كانت سائدة قبلها فتبعتها وردَّدت ما فيها، أي أنها شروح تهتم بالرواية والنقل لأنها كانت تعتقد أن الرواد الأوائل مثل الأصمعي والمفضل الضبي والمبرد وابن الأنباري ومن لفَّ لفهم كانوا قد أرسوا مدلولات الألفاظ التي تتعلق بشرح الشعر القديم وروايته. ولذلك نرى أصحاب هذا الاتجاه يسلكون سَنَنَ الذين

__________

(1) المصدر نفسه، ص. 57؛ وانظر في التأويل أيضاً، ص. 59، 61 ـ 64، 68، 70، 77، 80، 90.

 

(1/15181)

 

 

قبلهم، وذلك بالرجوع إلى كتبهم كما نرى مثلاً في "شرح ديوان الحماسة" للأعلم الشنتمري (ت 476 هـ) الذي رجع إلى شروح الحماسات التي كانت قبله(1).

... 2) شروح تتميز بأنها تلتقي مع الشروح التي أشرنا إليها آنفاً في جانب، وهي التعرض للجوانب اللغوية والنحوية والصرفية بإيجاز وبالقدر الذي يُسهم في فكّ مستغلقات النص، ثم تنتقل إلى إيراد مضمون البيت نافذة إلى كل المعاني المحتملة التي قد يتضمنها البيت حيث تتعرض للجوانب النقدية وأدوات التخييل

__________

(1) تجلي غرر المعاني...، المصدر نفسه، وهو حماسة الأعلم، ج 1، ص. 3.

 

(1/15182)

 

 

التي يحتوي عليها النص من تشبيه واستعارة وكناية ونزعات نفسية حتى يستطيع المتلقي تمثلها؛ ويمثل هذا الجانب المرزوقي في شرحه لـ"ديوان الحماسة" الذي له منهج فذ في شرح الشعر القديم، حيث يضع النص في إطاره العام، ثم يتعرض للقضايا اللغوية والنحوية والعروضية التي يحتوي عليها النص بإيجاز وبالقدر الذي يسهم في فكّ طلاسم النص، ثم يحاول إيراد مضمون البيت في شكل تأويلات وكأنه لم يقنعه التأويل الأول فيتبعه بالثاني والثالث وهكذا حتى يُدرك أنه قد استفرغ كل ما في تصوره من ذكر الاحتمالات المختلفة للبيت، والتي

 

(1/15183)

 

 

تُستنتج من الكلمة في علاقتها مع الكلمات الأخرى داخل النص.

 

(1/15184)

 

 

نفض غبار النسيان عن بعض أمجاد شعب تتارستان

... ... ... ... ... الدكتور عبد الرحيم العطاوي

... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

... لم يبق في ذاكرة الناس حول تاريخ المغول والتتار سوى الحروب وما تسببت فيه فئة منهم من خراب قضى على العديد من الحضارات في أجزاء كثيرة من أوروبا الشرقية وآسيا عامة وفي العالم العربي الإسلامي خاصة . غير أن الناس ينسون ( ومنهم من يتناسى) أن هؤلاء المغول والتتار الذين كانوا في بدايتهم أعداء للإسلام صاروا بعد اعتناقهم هذا الدين دعاة له وأشد المتحمسين لنصرته ، وينسى

 

(1/15185)

 

 

الناس كذلك أن هذين الشعبين استطاعا فيما بعد تشييد دول كان لها شأن حضاري عظيم في الهند وآسيا الوسطى وفي عدد من المناطق الموجودة ضمن جمهورية روسيا الفيدرالية ...

... يصبو هذا المقال المتواضع إلى :

... 1 - إزالة بعض من غبار النسيان عن الشعب التتاري المسلم والتذكير بعدد من ... بطولاته في كفاحه الطويل من أجل الحفاظ على هويته الدينية والثقافية .

... 2 - التذكير بالمفكر التتاري الشيخ أبي نصر الكرساوي الذي كان سباقا إلى التفكير ... في وضع برنامج إصلاحي للتعليم و إلى نهج سياسة تجديدية إسلامية ، وذلك في

 

(1/15186)

 

 

... مطلع القرن التاسع عشر .

... 3 - التذكير بأن الطباعة بالحروف العربية لعبت دورا كبيرا عند مسلمي روسيا ... عموما والتتار خصوصا منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر وأن المطابع العربية في ... قازان وسان بيترسوبرك وغيرهما من المدن الروسية طبعت طيلة القرن التاسع عشر ... مئات الآلاف من الكتب الدينية وغيرها باللغتين التتارية والعربية ...

... يرجع تاريخ دخول الإسلام إلى عدد من المناطق المجودة حاليا ضمن جمهورية روسيا الفيدرالية إلى فترات زمنية متفرقة كانت أولاها حين تم فتح بلاد الداغستان في جبال

 

(1/15187)

 

 

القوقاز من قبل الجيش الإسلامي عام 22 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب ، وتلتها فترات أخرى امتدت حتى القرن التاسع عشر الميلادي وكان الدين الإسلامي ينتشر خلالها في مختلف الجهات عن طريق الدعاة من علماء وتجار وغيرهم ...

... وإذا كانت الأقليات المسلمة تعيش في معظم جهات البلاد فإنها تتوفر حاليا على الجمهوريات وولايات ذات استقلال ذاتي خاصة بها . وقد أقيمت مناطق الحكم الذاتي هذه في تراب جزء من الموطن الأصلي لتلك الأقليات (1)

__________

(1) للمزيد من المعلومات حول تاريخ الشعوب المسلمة في روسيا ، انظر على الخصوص :

 

A .Benningsen , et Lermercier - Quelquejay , les Musulmans Oubliés - L’Islam en Union Soviétique , Petite collection Maspéro , Paris 1981 ; A .Benningsen , et Lermercier - Quelquejay , Les Mouvements bationaux chez les Musulmans de russie , Mouton , 1960 ; Amir , Tahari , Islam / U.R.S.S La révolte de l'islam en U.R.S.S , éd Tsuru , Paris 1989 .

محمد السيد غلاب وحسن عبد القادر صالح ومحمود شاكر ، " البلدان الإسلامية والأقليات المسلمة في العالم المعاصر " ، الرياض ، 1979؛ عبد الرحيم الرحيم العطاوي ، " الدراسات العربية في روسيا ، كراتشكوفسكي نموذجا " أطروحة لنيل دكتوراه الدولة ، كلية الآداب عين الشق ، جامعة الحسن الثاني ، الدار البيضاء ، 1993 ( مرقونة ) ، انظر الجزء الأول على الخصوص .

 

(1/15188)

 

 

.

... شرع في إحداث هده الجمهوريات والولايات مباشرة بعد تأسيس الاتحاد السوفياتي . وكان جوزيف ستالين بوصفه آنداك المندوب السامي ( أي الوزير ) المكلف بتدبير شؤون الشعوب والأقليات هو الساهر على تنفيذ هذه السياسة التي كانت تبدو ظاهريا أنها تسير في اتجاه ترقية الشعوب والدفاع عن مصالح الأقليات ، غير أنها كانت في باطنها تهدف إلى تشتيت شمل أهم تلك الأقليات وهم المسلمون . وهكذا تم تقسيم القومية التتارية إلى عدة جمهوريات وولايات ، نذكر منها على الخصوص : جمهورية تتارستان وجمهورية باشكيريا وجمهورية ماري

 

(1/15189)

 

 

وجمهورية أودمورتيا وجمهورية موردوفيا وجمهورية تشوفاشيا ... وقد تفنن " العلماء " في البحث عن كل ما من شأنه أن يعمق الفوارق بين هذه " الجمهوريات " الجديدة في مجالات التاريخ واللغة والأدب الشعبي والاجتماع والانثوغرافيا ... وتم تدوين نتائج هذه " الأبحاث " وترويجها على ... نطاق واسع في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية . ولم يقتصر ستالين على تفكيك القومية التتارية وحدها بل سلك نفس النهج في جبال القوقاز وسيبريا وجهات أخرى من البلاد ... وشكلت نهاية الحرب العالمية الثانية أوج عداء ستالين للمسلمين

 

(1/15190)

 

 

واضطهادهم حين أقدم على ترحيل عدد من الشعوب المسلمة برمتهم من أوطانهم وتشتيتهم في مناطق نائية وخاصة في سيبيريا وآسيا الوسطى بتهمة التعاون مع الجيش الألماني . وهذا ما حصل للشيشانيين والأنكوشيين والباكادريين وتتار القرم الذين فقدوا الآلاف من إخوانهم خلال عملية الترحيل ، ومنهم من لم يستطع حتى الآن الرجوع إلى وطنهم رغم القرارات الرسمية التي برأتهم ، بعد موت ستالين ، من جميع الاتهامات الموجهة إليهم ، ولا يزال شعب تتار القرم يعيش هذه المأساة (1)

__________

(1) انظر : A . Benningsen , ... , Les Musulmans oubliés ... , P : 171

 

(1/15191)

 

 

...

( ( (

... تضم جمهورية روسيا الفيدرالية حاليا عددا من الجمهوريات والولايات ذات الاستقلال الذاتي التي أخذت تمارس حقوقها الدستورية بشكل طبيعي بعد سقوط النظام السوفياتي . وإذا كانت الولاية لا تتوفر إلا على حق استعمال لغة أهل البلد في مجالي التعليم والإدارة ( بإزالة اللغة الروسية ) فإن الجمهورية تتمتع بصلاحيات واسعة نسبيا في تسيير شؤونها الداخلية وخاصة منها تعلق بالسياسة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ... غير أنها لا تسطيع الانفصال عن الجمهورية " الأم " أي روسيا الفيدرالية التي تحتفظ بحق

 

(1/15192)

 

 

تسييير شؤون السياسة الخارجية والدفاع . وأهم مناطق الحكم الذاتي الإسلامية حاليا هي : جمهوريات تتارستان وباشكيريا وداغستان والشيشان وإنكوشيا وكابارديا - بلكاريا ، وولايات الأدغيين وقرتشاي والشراكسة ...

... إن الغزو الروسي لهذه المناطق كان تدريجيا واستمر أزيد من أربعة قرون . فبعد تحررها من الحكم المغولي - التتاري الذي دام زهاء قرنين ونصف القرن (من 1240 إل1480 م ) استطاعت الدولة الروسية الفتية بقيادة " إيفان " الرابع ، المشهور باسم " إيفان كروزني"، أي الرهيب ، أن تحتل مدينة قازان وهي عاصمة تتار

 

(1/15193)

 

 

الفولكا . ولقد تمكن الورسيون من تحقيق انتصارهم هذا وانتصارات أخرى فيما بعد بفضل توفرهم على الأسلحة النارية التي استعملوها لأول مرة في المنطقة(1) . وقد شكل سقوط قازان نقطة تحول سياسية ودينية وثقافية في غاية الأهمية بالنسبة لشعوب المناطق الموجودة شرق وجنوب روسيا ذلك أن هذه المدينة كانت بمثابة مفتاح لتلك المناطق برمتها، كما أنها كانت أهم مركز اقتصادي وثقافي وروحي لشعب التتار . يقول

__________

(1) ف ، بارتولد " تاريخ الحضارة الإسلامية " تؤجمة حمزة طاهر ، دار المعارف ، مصر ،1996 ( الطبعة الرابعة ) ، ص : 147 .

 

(1/15194)

 

 

عنها المؤرخ الروسي " فيرسوف " : " كانت مدينة قازان مركزا ثقافيا مهما يعيش في رخاء...وبعد احتلالها تم القضاء على ثرات قديم جمعه منذ قرون كل من التتار والبلُغار..." (1)

__________

(1) ن ، فيرسوف ، " ماضي تتاريا " قازان ، 1926 ، ( بالروسية ) ، ص . 25 تجدر الإشارة إلى أن الُبلغار هم من أصل تركي اعتنقوا الإسلام في القرن التاسع الميلادي وكانوا يقطنون بلاد التتار الحالية بجوار نهر الفولكا ، ولقد وصفهم أحمد ابن فضلان ، مبعوث الخليفة العباسي المقتدر إليهم في " رحلته " التي نشرت في بيروت ، انظر : رسالة ابن فضلان في " وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة عام 309 هـ - 921 م " ، حققها وعلق عليها وقدم لها الدكتور سامي الدهان ، بيروت 1987 ، ( الطبعة الثانية ) .

وكانت بعض قيائل البلغار قد نزحت في القرن السابع الميلادي إلى المنطقة المعروفة حاليا ببلغاريا وامتزجت كليا مع القبائل السلافية المحلية وفقدت جميع الصلات اللغوية والحضارية مع أبناء عمومتهما - بلغار الفولكا .

 

(1/15195)

 

 

والغريب في الأمر أن هذا الحدث التاريخي لم ينل من لدن الباحثين المسلمين ما يستحقه من عناية ، ذلك أن سقوط قازان في أقصى الشمال الشرقي من أوروبا لا يقل أهمية ، على الصعيدين السياسي والديني ، عن سقوط غرناطة في أقصى الجنوب الغربي من أوروبا نفسها قبل ستين سنة (1) .

... ولقد تبع الغزو العسكري احتلال منظم للأراضي التتارية، وأبعد المسلمون من قازان ومن جميع الأراضي الخصبة التي تم توزيعها في بداية الأمر على المعمرين الروسيين ثم على الأديرة وأسقفة قازان ...واستمر زحف

__________

(1) Amir Taheri , Islam/U.RSS, ...., P77

 

(1/15196)

 

 

المعمرين إلى هذه المناطق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر . وهكذا أصبح عددهم في مطلع القرن التاسع عشر يمثل نسبة 52 % من مجموع السكان (1) . وكان التتار المبعدون من وطنهم يتوجهون صوب جبال " أورال " وجبال القوقاز وسيبريا وتركستان ...ورغم الحياة القاسية التي كانوا يعيشونها في تشردهم فإنهم كانوا يعملون دوما على نشر الدين الإسلامي في المناطق التي كانوا يلجؤون إليها ...

__________

(1) ن . فيرسوف ، " ماضي تتاريا ..." ص . 25 .

 

(1/15197)

 

 

... بإزاء احتلال الأرض كان النظام القيصري ينهج تجاه السكان الأصلين سياسة " التذويب " أو القضاء التام على ما تبقى من ملاكي الأراضي من التتار بإصدار العديد من المراسيم للتضييق بهم وإرغامهم على ترك ممتلكاتهم ، أما الخطة الثانية فكانت تسعى إلى تنصير المسلمين بشتى الوسائل . ولقد أخذت هذه الحملات بعدا جديدا في عهد " بطرس " الأول (1672 - 1725 ) ، ففي سنة 1720 تقرر إعفاء كل من تنصل من التجنيد ومن أداء الضرائب لمدة ثلاث سنوات ...

 

(1/15198)

 

 

... تزايد الإظطهاد بشكل مثير للإنتباه في عهد الإمبراطورة " أنّا" ( 1693 - 1740 ) . ففي سنة 1731 أحدثت " مؤسسة المنضرين الجدد" التي ظلت تعمل طيلة 33 سنة على إرغام الناس بشتى الوسائل على الدخول في النصرانية . ولقد قام أسقف قازان في الفترة ما بين

1738 و 1755 بهدم ما لايقل عن 418 مسجدا من بين ال 536 التي كانت توجد

بالمنطقة(1).لكن نتائج هذه الحملات كانت هزيلة باعتراف المؤرخين الروسيين

__________

(1) A.Benningsen...., Les Mouvements nationaux ...,P.23.

 

(1/15199)

 

 

أنفسهم (1).بعد أزيد من قرنين من القمع والإضطهاد اتضح جليا أن المسلمين لن يستسلموا وأنهم لا يزالون متشبثين غاية التشبث . وكان ذلك إبان حكم الإمبراطورية " كاتيرينا " الثانية ، ومن بين الإصلاحات التي طبقت نذكر على سبيل المثال :

... 1 - إغلاق " مؤسسة المنصَّرين الجدد " .

... 2 - السماح للمسلمين بالسكنى في كافة المدن والقرى التتارية وتشييد مسجدين اثنين في قازان .

... ثلاث سنوات بعد هذه الإجراءات صدر مرسوم إمبراطوري يمنح بمقتضاه المسلمون الحرية الدينية المطلقة في جميع أرجاء البلاد

__________

(1) نفسه ،ص .27 .

 

(1/15200)

 

 

بما في ذلك حرية بناء المساجد والمدارس الددينية ، وعُين عام 1782 مفتي مسلمي روسيا وأسِّست " الجمعية الروحية للمسلمين " سنة 1788 (1)

... ولابد من الإشارة كذلك إلى أن عهد الإمبراطورية " كاتيرينا " الثانية شكل بالنسبة للمسلمين فترة انفراج واسع وتفتح كبير . وتزايد في ذلك العصر اهتمام مختلف الأوساط الثقافية الروسية بالشرق عامة والشرق العربي الإسلامي خاصة ، ففي عام 1782 صدر مرسوم يقضي بتعليم اللغة العربية بجانب اللغتين التتارية والفارسية في الأقاليم الإسلامية من البلاد ، وثم إدخال

__________

(1) نفسه ، ص .27 .

 

(1/15201)

 

 

الحرف العربي بشكل سان بيترسبورك " بحروف عربية رائعة حسب الاختصاصيين الأوروبيين أنفسهم " (1) . ولقد بقيت هذه الطبعة تعرف " بنسخة سان بيترسبورك " ، وانتقلت هذه الحروف فيما بعد إلى مدينة قازان ثم إلى القرم وتركيا فمصر والهند (2) . ويكون المسلمون في روسيا قد ساهموا بذلك في نشر الطباعة العربية على نطاق واسع ...غير أن الباحثين لا

__________

(1) إ . كراتشكوفسكي ، " دراسات في تاريخ الاستعراب الروسي " ، منشورات أكاديمية العلوم للإتحاد السوفياتي ، موسكو - ليننكراد، 1950 ، ( بالروسية) ، ص . 53 .

(2) نفسه ، ص . 58 .

 

(1/15202)

 

 

يعيرون ، وللأسف ، أدنى اهتمام بهذه " المرحلة الروسية الحاسمة" من تاريخ الطباعة العربية .

... وكانت الإمبراطورية " كاتيرينا " الثانية تسعى من وراء هذه الإجراءات إلى استقطاب مسلمي الجنوب والحيلولة دون تحالفهم مع الأتراك العثمانيين ، وهم إخوانهم في الدين وفي اللغة في كثير من الأحيان ، كما أنها كانت تسعى إلى إدخال روسيا أسواق آسيا المسلمة التي كانت محرمة على غير المسلمين والتي لم يكن يستطيع التعامل فيها سوي التتار المسلمين من مجموع سكان الإمبراطورية الروسية .

 

(1/15203)

 

 

... وهكذا أصبح رؤساء القبائل التتارية وسطاء يصدرون الصناعة الروسية الفتية إإلى هذه المتاطق ويستوردون منها المواد الأولية ومنتوجات إمارات التركستان (1) ...ومُنح هؤلاء الوسطاء جميع التسهيلات لتمكنهم من النجاح في أعمالهم الجديدة . فتشكلت بالتالي طبقة مهمة من التجار التتاريين الذين صار لهم نفوذ في مجموع الدولة الروسية الواسعة الأطراف.وسرعان ما ظهرت نتائج الانفتاح والإصلاحات التي قامت بها " كاتيرينا " الثانية.فلقد رجع " المنصَّرون" إلى الدين

__________

(1) A.Benningsen,...Les Mouvements nationaux ...,P.28 .

 

(1/15204)

 

 

الإسلامي وقامت نهضة ثقافية إسلامية عارمة استمرت أزيد من قرن ونشطت خلالها المطبعة العربية التي أنتجت كميات هائلة من الكتب الدينية وغيرها بلغات المسلمين المحليين وباللغة العربية .

وحسب بعض الإحصائيات فإن مطبعة قازان وحدها طبعت في الفترة الممتدة ما بين 1853 و1859 أزيد من 362.700 نسخة من القرآن الكريم ومن مختلف الكتب الدينية ، كما أنها أصدرت خلال عشر سنوات ( من 1854 إلى 1864 ) أزيد من مليون كتاب (1) ...

__________

(1) نفسه ، ص . 25 .

 

(1/15205)

 

 

... وكان من نتائجج هذه النهضة كذلك أن البورجوازية التتارية أصبحت مع مطلع القرن العشرين تتزعم مجموع الحركات الوطنية الإسلامية داخل الإمبراطورية الروسية إلى أن جاءت الثورة السوفياتية ، فاقسم المسلمون تجاهها . فكان هناك من حارب النظام الجديد بشدة وهناك من آزره لأنه كان يعتقد مخلصا ( ومخطئا ) أن الثورة سوف تمنحه الحرية المنشودة منذ القدم . وكان من أبرز ممثلي التتار الثاني التتاريان نورحيدوف وسلطان علييف اللذان ترأسا " اللجنة التتارية الاشتراكية المسلمة " وبعدها ما كان يعرف ب " حركة الشيوعيين

 

(1/15206)

 

 

المسلمين " . ولقد تقلد سلطان علييف مناصب عالية في جهاز الدولة السوفياتية منذ إنشائها إلى غاية 1923 وهي السنة التي " اختفى " فيها بعدما ألقى ستالين القبض

عليه (1) ...

... نعود إلى مسيرة النهضة الثقافية الإسلامية لنشير أنه حصلت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر منافسة قوية بين البورجوازية التي توفرت لديها إمكانيات جديدة في الإنتاج والمواصلات والبورجوازية التتارية التي لم تتح لها فرصة الإستفادة من تلك الإمكانيات . فتدخلت السلطات

__________

(1) ع . العطاوي ، " الدراسات العربية في روسيا ..." ، ص . 208 - 209 .

 

(1/15207)

 

 

المركزية للدفاع عن المصالح الروسية ، ولم تتردد في الرجوع إلى أساليب القمع القديمة وسياسة التنصير التي ترأسها أحد المستشرقين وهو "إيلْمِينْسْكي" الذي أسس " المدرسة المركزية للمعلمين التتار المنصّرين" وعددا آخر من المدارس المما ثلة لها . وكانت خطته التي تبنتها الشلطات الإدارية رسميا عام 1870 تسعى إلى تحقيق هدفين اثنين ، أولهما تكوين طبقة من المثقفين المحليين مكونة من المنصَّرين وحدهم ، لأنه ، حسب إيلْمِينْسْكي "لا يوجد خطر بالنسبة لروسيا أكبر من خطر المسلم المثقف ! " ، أما الهدف الثاني فكان يتمثل

 

(1/15208)

 

 

في إحداث ما اصطلح على تسميته آنذاك باللغات الأدبية لشعوب المنطقة واستبدال الحروف العربية لكتابتها بالحروف السلافية ، وذلك قصد القضاء على كل تأثير ثقافي وديني ( إسلامي ) في حياة هذه الشعوب (1) . وتجندت الكنيسة كذلك للقيام بحملات مناهضة للإسلام .لكن الأمور سرعان ما تغيرت مرة أخرى لصالح المسلمين بفضل تصديهم المنظم والمحكم لهذه السياسة في جميع ربوع الإمبراطورية .

__________

(1) لقد تبنى ستالين فيما بعد هذه السياسة وطبقها بالفعل .

 

(1/15209)

 

 

... ولقد كان لهذه الحملات المعادية للإسلام أثر عميق في نفوس المسلمين ووقفت النخبة المثقفة المسلمة في كثير من الأحيان وقفة رجل واحد لتدافع عن حقوقها القومية ولتتصدى للخطر الذي كان يتربص بالشعب التتاري ويهدف إلى " ترويسه " وتنصيره والقضاء على هويته بصفة نهائية (1)

__________

(1) توجد عدة كتب مخطوطة تعرض للأحوال القاسية لحياة المسلمين في روسيا القيصرية نذكر منها على الخصوص كتاب " أحوال المسلمين في الممالك الروسية " ، وهذا المخطوط يوجد في ملحقة مكتبة معهد الإستشراق بسان بيترسبورك ، رقمه 1219 A. ويرجع تاريخ هذه المخطوطة التي يجهل مؤلفها إلى عام 1902 . وقد كتبت باللغة العربية في مدينة قازان .

 

(1/15210)

 

 

.

... ولقد كتب المفكر التتاري علم جان إبراهيموف عن موقف ومشاعر المسلمين تجاه السياسة القيصرية : " إن السياسة القيصرية جنت من حملاتها عكس ما كانت تصبوإليه : فعوض استقطاب الناس صار الناس يبغضون كل ما هو روسي ..." (1) كما أن هذه النخبة المثقفة كانت واعية منذ أمد بعيد بالخطر الذي لايكمن في السياسة العدوانية للنظام القيصري فحسب ، بل يكمن ، ولربما كان هذا هو الأهم في التخلف العلمي والثقافي البين يتخبط فيه

__________

(1) علم جان إبراهيموف ، " التتر في ثورة 1905 " قازان ، 1926 ، ( الترجمة الروسية ) ، ص . 27 .

 

(1/15211)

 

 

المسلمون . غير أنه ومنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأت تظهر بوادر حركات إصلاحية تصبو إلى التخلص من جميع أشكال التخلف . وكان الشيخ أبو نصر الكَرْسَاوي(1783-1814 ) سباقا إلى هذه الدعوة . لكن العلماء من معاصريه داخل روسيا وخارجها حاربوه وتسببوا له في كثير من المصاعب . وكان هذا الشيخ في بدايته أستاذا بإحدى مدارس بخارى التقليدية ، وهنا بدأ يحاول القيام بإصلاحات في ميدان التعليم الديني . فحكم عليه بالإعدام في عهد الأمير حيضر البخاري بتهمة البدعة ، ثم فّر إلى تتارستان حيث أسس مدرسة من نمط جديد في قريته "

 

(1/15212)

 

 

كُرْسة " ، فاتهمه العلماء المحليون بالزندقة ، فاضطر إلى الهجرة إلى تركيا حيث توفي .

وترك الشيخ الكرساوي مؤلفا لا يزال مخطوطا عنوانه " إرشاء العباد " . وقد أنصفه وردّ له الاعتبار فيما بعد الشيخ شهاب الدين المرجاني في كتابه " تنبيه أبناء العصر بتنزيه أبناء أبي نصر " .

... وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتضح جليا أن التجديد والتقدم لن يتما إلا عن طريق إصلاح التعليم الديني احتفظ في شكله ومضمونه بنظامه القديم ، ويرجع سبب ذلك إلى أن الساهرين على التدريس كانوا كلهم من خريجي معاهد إمارة بخارى

 

(1/15213)

 

 

التي كانت تمثل آنذاك أهم مركز في آسيا الوسطى والتي لم يعرف التعليم بها أي تغيير يذكر منذ قرون . فالبرغم من انتشار الكتاتيب والمدارس الدينية العليا وتوفر الكتب المطبوعة بما فيه الكفاية فإن التعليم في تتارستان بقي ومتحجرا ...فتعالت من جديد وبشكل مثير للانتباه أصوات تنادي بالإصلاح ، غير أن النحافظين من العلماء حاربوا هذه الإتجاهات بقوة وعنف ، وهذا ما أدى إلى حدوث انشقاق خطير في صفوفهم ، وخرجت منهم فئتان من العلماء وهما كما اصطلح على تسميتها : أصحاب " الجديد " وأصحاب " القديم " . وكانت الغلبة

 

(1/15214)

 

 

للأولين الذين استطاعوا فرض آرائهم على الساحة بشعاراتهم التي كانت تنادي بالتخلي عن " العربة الأسيوية " وركوب " الآلة الميكانيكية الأوروبية " (1) .

... وهكذا بدأ عام 1880 تطبيق مشروع الإصلاح الذي قدمه إسماعيل باي (1851-1914 ) الذي كان يعرض أفكاره في المقالات التي كان ينشرها على صفحات جريدته"ترجمان"(2)

__________

(1) .A. Benningsen ,..., Les Mouvements nationaux ..., P.36 .

(2) يستحق موضوع تاريخ الصحافة عند مسلمي روسيا أن تكرس له دراسات لما له من أقدمية وأهمية . وتجدر الإشارة إلى أن أولى جرائدهم وهي " أخبار قازان " كان من المفروض ضأن تصدر عام 1808 لولا اعتراض النظام القيصري عليها . ونشير كذلك إلى أن المسلمين كانوا يصدرون من حين لآخر جرائد باللغة العربية خاصة في قازان وفي داغستان وسان بيترسبورك . ومن أهمها نذكر على الخصوص : " التلميذ " و " المرأة " ...

 

(1/15215)

 

 

التي كانت تصدر باللغة التتارية في مدينة " باختشي سراي " ( من 1883 إلى 1905 ) . وكان مشروع إسماعيل باي يهدف في واقع الأمر إلى توحيد صفوف المسلمين قاطبة داخل الإمبراطورية ، وكان شعاره : " وحدة اللغة ، وحدة الفكر ، وحدة العمل " (1)

... وقد واكبت إصلاحات التعليم حركات إسلامية تجديدية على نطاق واسع زيعتبر الشيخ شهاب الدين المرجاني (2)

__________

(1) .A. Benningsen ,..., Les Mouvements nationaux ..., P.39.

(2) من مؤلفات الشيخ شهاب الدين المرجاني نذكر على الخصوص : عرفة الحواكين ، " تاريخ آسيا الوسطى من القرن الرابع إلى القرن السادس الهجريين " ، قازان 1864 ( باللغة العربية ) ؛ " مستفاض الأخبار في أحوال قازان وبلغار " ، قازان ، ج 1 ، 1865 ،

ج 2 ،1900 ( بالتترية ) ؛ " وفيات الأسلاف " في سبعة أجزاء ، طبع منهم الجزء الأول فقط بقازان عام 1883 .

 

(1/15216)

 

 

(1818 -1889 ) خير ممثل لهذا الاتجاه التجديدي ومتمم العمل الذي بدأه من قبله الشيخ أبو نصر الكرساوي . وقام الشيخ المرجاني بنشاط ثقافي مهم لإقامة الدليل على أن لا تعارض بين الدين الإسلامي والعلوم الحديثة . ويمكن تلخيص أفكاره حول التجديد في ست نقط ، هي :

... 1 - الاجتهاد حر بالنسبة للجميع .

... 2 - التخلي عن التقليد الأعمى .

... 3 - التخلي عن الكتب المحافظة في مجال الفكر .

... 4 - الاعتناء بتدريس القرآن الكريم والحديث وتاريخ الإسلام .

 

(1/15217)

 

 

... 5 - تدريس العلوم الحديثة واللغات الأجنبية وخاصة منها الروسية في مدارس ... ... ... المسلمين.

... 6 - الرجوع إلى صفاء جو الدين الإسلامي في مراحله الأولى والأخذ من منابع الثقافة ... ... الإسلامية القديمة .

... وفي ختام هذا المقال المتواضع نريد أن نركز مرة أخرى على أهمية الحركات التجديدية الإسلامية وتاريخ الطباعة العربية عند مسلمي روسيا عامة وعند الشعب التتاري خاصة . ونتمى أن ترصد لهذين الموضوعين دراسات معمقة لما كان لهما من أثر بالغ على مستقبل العالم الإسلامي برمته . ويستحق ، في نظرنا، رواد

 

(1/15218)

 

 

هذه الحركات أمثال الشيخ أبو نصر الكرساوي والشيخ شهاب الدين المرجاني وإسماعيل باي وغيرهم أن يهتم الباحثون بهم وبمؤلفاتهم وبنشاطهم المتنوع في ميادين الدين والتدريس والسياسة والثقافة ...

 

(1/15219)

 

 

نقود الأمير عبد القادر الجزائري رمز السيادة والاستقلال

دراسة حضارية

 

... ... ... ... ... الدكتور صالح بن قربة

(1) (2) (3) (4)

__________

(1) H. Lavoix, Catalogue des monnaies musulmanes de la Bibliothèque Nationale

de Paris, Vol. II, (Espagne et l'Afrique), Paris, 1891, pp. 511- 513.

(2) S. Lanepoole, Catalogue of Oriental Coins in the British Museum, Vol. V,

S. London, 1880, IN 80, p. 117.

(3) S. D. Brethes, Contribution à l'Histoire du Maroc par les Recherches Numismatiques, Casablanca, 1939.

(4) Farrugia De Candia, Monnaies Algeriennes au Musée du BARDO R

Tunisienne, nos. 45, 46, 57, 1941.

 

(1/15220)

 

 

(1) ... ... ... ... ... معهد الآثار ـ جامعة الجزائر

... ... ... ... ...

تمهيد

... بالرغم من وفرة البحوث والدراسات التي ألفت عن حياة الأمير عبد القادر الجزائري والتي تعرضت لتاريخه قائداً، مفكراً وشاعراً ومتصوفاً، فإن معظمها قد اتجهت اتجاهاً واحداً يهتم بتسليط الأضواء على النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، ومحاولة إبراز الظروف التاريخية التي أظهرته قائداً عسكرياً محنكاً ورجل دولة من الطراز

__________

(1) M. Bouchenaki, La monnaie de l’Emir Abdelkader, S. N. E. D., Alger, 1976.

 

(1/15221)

 

 

الأول. فإن موضوعاً من المواضيع المتعلقة بهذه الشخصية التاريخية ـ التي قدّر لها أن ترفع لواء الجهاد في هذه الفترة المتميزة من تاريخ الجزائر الحديث من أجل استقلال البلاد وتطهيرها من آثار الاستعمار ـ ما زال في رأيي يحتاج لمزيد من البحث، إذ أن النتائج التي توصل إليها الباحثون وعلماء الآثار والمختصون في علم المسكوكات فيه، ليست قاطعة.

... الموضوع هو سكة أو نقود الأمير عبد القادر التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنظم الحكم ومفهوم الملك، والتي وصلتنا منها مجموعة هائلة هي الآن ضمن ممتلكات بعض المتاحف الوطنية

 

(1/15222)

 

 

والمغاربية والأجنبية. وبالرغم من أهميتها بصفتها وثائق رسمية معاصرة للأحداث التي شهدتها البلاد آنذاك، قد تساعد في تشخيص ومعرفة بعض الحقائق التي تتعلق بالفترة التي وجدت فيها، وبغض النظر عن الدور الذي تؤديه بما هي أدوات بحث، فلم تحظ بدراسة علمية وافية من قبل الباحثين، باستثناء بعض الدراسات القليلة النادرة التي نبهت الأنظار إلى هذا الموضوع الشائك واعتبرت أعمال هؤلاء الباحثين البدايات الأولى التي فتحت المجال واسعاً للاجتهاد والتعمق أكثر في دراسة نقود الأمير عبد القادر، ولكن يؤخذ عليها السطحية

 

(1/15223)

 

 

والعمومية، والتزامها المنهج التقليدي المعروف المبني على الوصف والاهتمام بجدولة النقود وبيان أرقامها ونوع المعدن الذي شكلت منه، وضبط أوزانها وأقطارها ومكان وتاريخ ضربها أو إصداراتها حسب تسلسلها الزمني، دون التركيز على أهميتها الحضاريّة، انطلاقاً مما تحمله من نصوص كتابية ورموز وربطها بمسائل التاريخ، ذلك بأن النقود تعتبر ذات أهمية كبيرة بما تلقيه من أضواء كاشفة على التاريخ، ومدى ارتباطها بالنظم المالية والسياسية. هذا، فضلاً عما تقدمه من معلومات حول التطور الصناعي والفني، ومدى الاستقلال الحضاريّ

 

(1/15224)

 

 

للدولة التي أشرفت على ضربها(1).

... وباختصار شديد، فدراسة النقود تعد أداة فعالة في أيدي الباحثين عامة والمشتغلين بالتاريخ الاقتصادي على وجه الخصوص، باعتبارها وسيلة ضرورية في المعاملات والتبادل، ووسيلة معيارية للقيم. ذلك بأن تحديد الأوزان والمكاييل والنقود من أصعب المهام المنوطة بالتاريخ الاقتصادي، حيث لا تخفى الأهمية الكبيرة لهذه الأدوات في الحياة العامة، ولا سيما المعاملات الدينية

__________

(1) محمد باقر الحسيني، »النقود مدرسة في التاريخ«، مجلة آفاق عربية، السنة الثالثة عشرة، بغداد، 1988، صص. 71 ـ 72.

 

(1/15225)

 

 

المرتبطة بتحديد الأنصبة الشرعية(1) (كمقدار الزكاة والدية والصداق، إلخ).

... ومهما يكن من أمر، فالذي لا جدال فيه أن دراسة نقود الأمير عبد القادر من وجهة نظر علم المسكوكات، ستكشف النّقاب عن جوانب كثيرة من حياته، وبحث الإشكاليات التي تطرحها هذه النقود، وما مدى انتشارها وتداولها، وما مركزها بين العملات الأجنبية التي شاع تداولها في عمليات البيع والشراء ، وإلى أي قاعدة كان يستند نظام النقد الأميري.

__________

(1) محمد الشريف، نصوص جديدة ودراسات في تاريخ الغرب الإسلامي، ط 1، المهدية ـ تطوان، 1996، ص. 49.

 

(1/15226)

 

 

... ونتساءل عن الأسباب التي جعلت نقود إمارة الأمير عبد القادر مجردة من الأسماء والألقاب، وخصوصاً اسمه بصفته حاكماً شرعيّاً لهذه الإمارة الجديدة. فهل من خلفية تاريخية يمكن أن نفسر بها هذه الظاهرة؟ وما سبب عزوفه عن نقش اسمه عليها، علماً بأنها (أي السكة) تعد في تقاليد نظم الحكم الإسلامية، شارة من شارات الحكم، ووظيفة ضرورية للملك والسلطان. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك تساؤلات كثيرة تتعلق بالقاعدة النقدية المستعملة، وعدم تعدد انتشار دور الضرب، واقتصار إنتاج النقود جميعها على دار السكة بتاقدمت فقط.

 

(1/15227)

 

 

... وهل يمكن اعتبار إصدارات دار السكة هذه تعكس المكانة القانونية للمدنية وعلاقتها بالسلطة المركزية؟

... وهي إشكالات عديدة تواجه الباحث في هذا الموضوع، وعليه أن يحاول البحث والاستقصاء والقراءة والمقابلة، لعله يتوصل إلى الإجابة الصحيحة في هذا المضمار.

... لكن ينبغي علينا قبل الخوض في مناقشة مسألة النقود الأميرية أن نتعرف طبيعتها وبيان أنواعها باختصار شديد، لأن ذلك ييسّر عملية فهمها وتصنيفها حسب موضوعاتها وتاريخ ضربها.

 

أولاً: تعريف السكة

 

(1/15228)

 

 

... تعريف السكة من وجهة النظر التاريخية يمثلها ابن خلدون الذي يصفها بأنها:

... الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع جديد ينقش فيه صوراً وكلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم، فتخرج تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيّار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى ويعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً، وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً… ولفظ »السكة« كان اسماً للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم

 

(1/15229)

 

 

نقل إلى أثرها وهي النقوش المائلة على الدنانير والدراهم، ثم إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه، وهي الوظيفة. فصار علماً عليها في عرف الدول(1).

 

... وإذا كانت هذه هي السكة الإسلامية كما عرفها ابن خلدون، فإن نظام السكة في دولة تاقدمت، قام على قاعدتي الفضة والنحاس أو البرونز اللتين كان يجري التعامل بهما جنباً إلى جنب مع العملات الأجنبية المتداولة هناك.

__________

(1) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1966، ج 2، ص. 808.

 

(1/15230)

 

 

... والواقع أن نقود تاقدمت انحصرت في هذين النوعين، أي النقود الفضية والفلوس بأجزائهما، وتميزا بتنوع موضوعاتها، كما اتضح من النماذج التي وصلتنا من هذه الفترة.

... وتأسيساً على ذلك، سنقوم بوصفها وتصنيفها حسب أنواعها ونصوصها الكتابية.

 

1 ـ النّصفية (شكل 1)

... نقود النصفية مستديرة الشكل من معدن الفضة، تتألف من كتابتين مركزتين في الوجه والظهر، تؤطرهما دائرتان أو حلقتان من خيوط معدنية رقيقة: الأولى خطية، والثانية من حبيبات متراصة تشبه حبّات اللؤلؤ، نفذت نصوصها بأسلوب الخط النسخي المغربي ذي الحروف

 

(1/15231)

 

 

المعجمة، بطريقة الحفر البارز، قطرها (8 و14 ملليمتر)، وزنها خفيف جداً قدّر بـ 0,40 غرام(1).

... واستعملت نقود النصفية، بالررغم من صغر حجمها وخفة وزنها بما هي وحدة نقدية، في مرونة العمليات التجارية خصوصاً البيع والشراء. هذا فيما يخص شكلها وقيمتها الشرائية؛ وبخصوص نصوصها الكتابية، نجد على الوجه كتابة مركزية من أربعة سطور أفقية تشير إلى هذا الاقتباس:

... ... 1 ـ الله

... ... 2 ـ حسبنا

__________

(1) انظر عبد الرحمن الجيلالي، حول سكة الأمير عبد القادر، ص. 10.

M. Bouchenaki, La monnaie de…, op. cit., p. 26.

 

(1/15232)

 

 

... ... 3 ـ ونعم

... ... 4 ـ الوكيل (شكل 1).

 

ويقرأ هذا الشعار هكذا: »حسبنا الله ونعم الوكيل«.

... وعلى الظهر كتابة مركزية أيضاً من أربعة سطور تشير إلى مكان الضرب وتاريخه.

... ... 1 ـ ضرب

... ... 2 ـ في

... ... 3 ـ تاقدمت (شكل 1)

... ... 4 ـ 1250.

 

... ويلفت الانتباه هنا كتابة التاريخ بالأرقام الهندية. وهذا الأسلوب في التعبير عن التاريخ ظهر مع الأتراك العثمانيين لأول مرة في تاريخ المسكوكات الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت، أصبح تقليداً في الجزائر حتى عهد الأمير عبد القادر الجزائري.

 

(1/15233)

 

 

2 ـ نقود فضية مجهولة الاسم

... حسب مجموعة باريس، أورد هنري لافوا (Lavoix) في دليل المسكوكات الإسلامية ـ المجلد الثاني "إسبانيا وإفريقيا" ـ وصفاً مقتضباً لنقد فضي نادر يحمل رقم 1098، يعتبر الفريد من نوعه في المجموعات النقدية المعروفة حتى اليوم.

... النقد مستدير الشكل من معدن الفضة، مؤطر من الوجهين بثلاث حلقات تضم الكتابتين المركزيتين، اثنتان خطيتان، والثالثة مدبّبة، قطرها 28 ملليميتراً ووزنه 6,03 غرام. وبعد هذا، نتساءل عن الأسباب التي جعلت هذا النمط من النقود يظهر على هذه الصورة. فهل كان بمثابة

 

(1/15234)

 

 

نقود المناسبات أو نقود دعاوية. المهم سوف نعتمد المنهج الوصفي التحليلي المقارن في دراسة نقود الأمير عبد القادر.

... أما فيما يتصل بنوع الكتابات المسجلة على هذا النمط الفريد، فهي جديدة في معناها ومغزاها والهدف الذي ترمي إليه. ففي مركز الوجه كتابة من أربعة سطور أفقية متوازية تشير إلى الآية القرآنية التالية، نفذت بطريقة الحفر البارز بأسلوب الخط النسخي المغربي كما سبق أن أشرنا.

 

... ... 1 ـ ربنا

... ... 2 ـ أفرغ علينا

... ... 3 ـ صبراً وتوفنا

 

(1/15235)

 

 

... ... 4 ـ مسلمين(1). (شكل 2).

 

... وخصصت كتابة مركز الظهر لتسجيل مكان الضرب وتاريخه بالطريقة المعروفة:

... ... 1 ـ ضرب

... ... 2 ـ في

... ... 3 ـ تاقدمت

... ... 4 ـ 1250.

 

... ومع أهمية الشعار من الناحية الدينية والسياسية، يبقى هذا النوع مجهولاً بين النقود الأميرية المعروفة. والسؤال الذي تثيره في هذا الصدد، هو: هل استعملت في التداول والمعاملات في الحياة اليومية والأنصبة الشرعية؟ وهل كانت من نقود الصلة والمناسبات ضربت خصيصاً لتخليد ذكرى أو حادثة معينة في تاريخ

__________

(1) الآية 126 من سورة الأعراف.

 

(1/15236)

 

 

الدولة. كل هذه التساؤلات ستبقى علامة استفهام في تاريخ النقود الجزائرية الحديثة، لندرة المعلومات حولها، ولعل الحفائر العلمية المنظمة التي ستنطلق في المستقبل القريب ـ إن شاء الله ـ كفيلة بإعطاء الإجابة العلمية المقنعة في هذا المجال.

...

3 ـ المحمدية (اللوحتان 1 ـ 2)

... تندرج نقود المحمدية، من حيث التصنيف النوعي، ضمن الفلوس النحاسية التي تمثل القاعدة النقدية الثانية في نظام سكة تاقدمت، وهي مستديرة الشكل من النحاس الأحمر، تتألف تصاميمها الهندسية من ثلاث حلقات من خيوط رقيقة، اثنتان خطيتان تتوسطهما

 

(1/15237)

 

 

حبيبات متراصة على أبعاد متساوية شبيهة بحبات اللؤلؤ، والثالثة مدبّبة، والحلقتان الخطيتان تؤطران الكتابة المركزية في الوجهين، قطرها يتراوح بين 16 و17 ملليميتر، ووزنها يتأرجح بين 0,9 غرام و1,24 غرام.

... تحمل الفلوس النحاسية نصوصاً كتابية على غرار سابقتها من حيث الشكل، وتختلف عنها من حيث المغزى والمعنى.

... في الوجه كتابة من ثلاثة سطور أفقية متوازية تشير إلى الآية القرآنية التالية:

... ... 1 ـ إن الدين

... ... 2 ـ عند الله

... ... 3 ـ تاقدمت

... ... 4 ـ الإسلام (لوحة)

 

(1/15238)

 

 

... أما كتابة مركز الظهر، فتحتوي هي أيضاً على مكان الضرب وتاريخه في أربعة سطور هي:

... ... 1 ـ ضرب

... ... 2 ـ في

... ... 3 ـ تاقدمت

... ... 4 ـ 1256(1).

4 ـ صنف آخر من فلوس تاقدمت

__________

(1) حسبما أشار الأستاذ أستاش (Eustache) في بحثه عن تيارات بعنوان: Le département de Tiaret المطبوع بالجزائر سنة 1962، ص. 75، يكون » الأمير عبد القادر قد ضرب بتاقدمت الخراريب والفلوس وأجزاءَها«. إلا أن الحقيقة غير ذلك، إذ أثبتت الشواهد النقدية التي وصلتنا عدم صحة هذا الرأي.

 

(1/15239)

 

 

... يعتبر هذا الصنف امتداداً لنقود »المحمدية« من حيث الشكل والحجم، ويختلف عنها من ناحية المحتوى أو الشعار المسجل عليها. فنقرأ في مركز الوجه:

... ... 1 ـ ربنا

... ... 2 ـ أفرغ لنا

... ... 3 ـ صبراً

... ... 4 ـ وثبت أقدامنا(1).

 

... وفي الظهر كتابة مركزية تنص على مكان الضرب وتاريخه. وبعد أن قدّمنا وصفاً مختصراً عن أهم الطرز النقدية التي أصدرتها دار السكة تاقدمت، وتتمة لهذا الموضوع، لابد من التطرق لدار السكة التي تعتبر في عرف الدول من مستلزمات مقومات الدول

__________

(1) الآية 250 من سورة البقرة.

 

(1/15240)

 

 

الاقتصادية، وإحدى ركائزها المالية. فظهور هذه المؤسسة يكشف عن اهتمام الدولة بإيجاد خزينة عامة تمدها بما تحتاج إليه من نقود لتغطية حاجاتها الاقتصادية ونفقاتها على المشاريع العمرانية والعسكرية. وبناء على ذلك، يمكن طرح هذا السؤال، وهو: هل أدت هذه المؤسسة الدور المنوط بها والغاية من إنشائها؟

 

5 ـ دار السكة(1)

__________

(1) راجع عن تأسيس دار السكة بتاقدمت: محمد بن عبد القادر، تحفة الزائر…، ص. 194؛ ووشاح الكتائب.

D. Eustache, Le Département de Tiaret, op. cit., p. 75; Duc D’Orléans., Compagne de l’armée d’Afrique : 1831-1839, Paris, 1870, p. 409; E. Daumas, Correspondance du capitaine Daumas-Consul à Mascara, 1837-1839, éditée par M. G. Yver, Alger, 1912; A. de France, Les prisonniers d’Abdelkader, Paris, 1837.

 

(1/15241)

 

 

بتاقدمت وظهور نقود الأمير

... مما لا جدال فيه أن عملية سك النقود العثمانية بالجزائر عامة، والنقود الجزائرية على عهد الأمير عبد القادر على وجه الخصوص، تعتبر من بين مواضيع مختلفة يصعب بحثها والتحدث عنها بسهولة ودقة متناهية. هذا، علماً بأن النقود العثمانية بأنواعها المتعددة من ذهب وفضة ونحاس، ضربت بالجزائر على نطاق محدود، واقتصر إنتاجها أيضاً على مناطق معينة. هذا إذا عرفنا أن بعضها كان يجلب من الآستانة، حاضرة الخلافة العثمانية. وقد عثر على كميات هائلة تحمل اسم سلاطين آل عثمان، وكانت كل المعاملات

 

(1/15242)

 

 

تتم في فلكها. واستمر الحال كذلك، ليست للجزائر عملة مستقلة لها شخصيتها، إلى أن أسس الأمير عبد القادر دار السكة بتاقدمت تتولى هذه المهمة وهي إصدار النقود وفق مواصفات ومعايير خاصة حددها وأشرف على تنفيذها بنفسه.

... والملاحظ أن نشاط دار السكة الجديدة التي لا نعرف تاريخ إنشائها على وجه التحقيق قد اقتصر على إنتاج النقود الفضية (الخراريب) والنحاسية، وهذان الصنفان أطلقت عليهما تسميات خاصة، تمييزاً لهما عن بقية العملات الأجنبية التي غزت السوق الجزائرية وأصبحت متداولة في المعاملات.

 

(1/15243)

 

 

... والمتتبع لهذا الموضوع يجد صعوبات تتمثل في قلة المعلومات الخاصة بتاريخ التأسيس أولاً وأساليب صناعة النقود ثانياً. هذا، فضلاً عن المراحل التي تمر بها النقود مذ كانت سبيكة معدنية إلى أن تصبح عملة نقدية قابلة للتداول والانتشار. والجدير بالملاحظة أن جل ما وصلنا بخصوص هذا الموضوع لا يعدو بيانات ضئيلة جداً لا تفي بالمطلوب(1).

__________

(1) انظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب "تحف الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر"، دار اليقظة العربية، بيروت، ط 2، 1964، ص. 197.

 

(1/15244)

 

 

... وهكذا، فمع غياب البيانات والمعلومات المتعلقة بالأعمال التي تجرى بدار الضرب وأهم الوظائف، نلجأ إلى النقود نفسها للوقوف على تقنيات الصنع والإنتاج النقدي. وبالاستناد إلى المجموعات النقدية التي ترجع إلى هذه الفترة والتي قمنا بفحص ودراسة نسبة كبيرة منها، يمكن القول إن النقوش أو الكتابات البارزة على وجهي السكة تساعد في تحديد الأسلوب المستعمل في حفرها، وهو قالب الضرب بطريقة معكوسة، خصوصاً وأن طريقة الضّرب هذه كانت التقنية التقليدية المعروفة في إنتاج النقود سواء كانت فضية أو نحاسية. وتمتاز هذه

 

(1/15245)

 

 

الطريقة بالكتابات الواضحة والحروف المحدّدة. ومن خصائص هذه التقنية أن سطح النقود خال من النتوءات في خامة السكة نتيجة الفقاقيع الهوائية التي قد تكون آثارها موجودة على سطح القوالب المصبوبة(1).

... وانتشرت فكرة عمل قوالب محفورة حفراً مباشراً في المغرب الإسلامي وصلنا منها قالب من حديد يرجع إلى عصر علي بن يوسف بن تاشفين(2)

__________

(1) عبد الرحمن فهمي، فجر السكة العربية، ص. 215.

(2) عن هذا القالب المرابطي، راجع:

 

G. Marçais, « Un coin monétaire almoravide du musée de stéphane Gsell », in Annales de l’institut d’études orientales, T. 2, Alger, 1936, pp. 182-184.

 

(1/15246)

 

 

المرابطي، يوجد الآن بالمتحف الوطني للآثار بالجزائر. والملاحظ أن القوالب نفسها انتشر استعمالها كذلك بالجزائر في العهد العثماني. وإذا أخذنا في الاعتبار الأعداد الهائلة من نقود تاقدمت التي ضربت في فترة القرن التاسع عشر الميلادي، فقد لا تتفق مع الأخذ بفكرة القوالب التي حفرت كل واحدة على حدة؛ لأنها لا تساير حاجة الدولة إلى نقودها اللازمة لكافة العمليات التجارية(1). هذا، فضلاً عن أن السك بقوالب محفورة حفراً مباشراً

__________

(1) محمد باقر الحسيني، النقود العربية الإسلامية، سلسلة الموسوعة الصغيرة، ص. 99.

 

(1/15247)

 

 

تحتاج إلى نسخ كثيرة تتناسب وأعداد النقود التي يمكن إنتاجها بالقالب الواحد، علماً بأن مثل هذه القوالب المحفورة لا تستطيع أن تقاوم عملية الضّرب المستمرة لمدة طويلة دون أن تتعرض للتشقق أو تتعرض حافات نقوشها للتلف. وفي هذه الحالة، لابد من أن تكون قوالب السك متوافرة بشكل كبير عن طريق صبها عن نسخ أصلية محفورة مباشرة.

... وبالرغم من قلة النماذج الفضية (النّصفية) التي وصلتنا، فهي تؤكد طريقة صنعها بالقالب المحفور حفراً مباشراً، وإن كان الانتفاع منها محدوداً بسبب عدم طواعيتها للمقاومة الشديدة على الضّرب

 

(1/15248)

 

 

لاستعمالها مرات عديدة لإنتاج أعداد كبيرة من النقود على طراز واحد بواسطة الطرق على هذه القوالب، هذا إلى أن إنتاج نقود معينة في السنة كان يتطلب توفير قوالب محفورة مباشرة بهذا التاريخ(1). ... ... ... ...

... ولما كانت العملية التقنية تقتضي السرعة في الإنتاج والاقتصاد في النفقات، ظهرت الحاجة إلى استبدالها بإنتاج قوالب مصبوبة. وباختصار، نشير إلى أن إعداد خامة السكة، أي النقود أو السبيكة التي تختم

__________

(1) لمزيد من تعرف تقنيات العملية، راجع: أبو يوسف علي الحكيم، الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة، ص. 33.

 

(1/15249)

 

 

بها قوالب السك، يمر بمراحل رئيسة، أهمها تلك التي تعرف باسم »الحافة«، وهي سبك الذهب المخلوط بالفضة أو بغيره من المعادن، وتخليص كل معدن مما قد يكون مختلطاً به من الشوائب. وتتم العملية في دار الضّرب حيث يصفّى ويضبط عيّاره لتضرب منه النقود(1).

... أما سبيكة الفضة، فإعدادها يكون أيسر من سبيكة الذهب. ولكن الإشكالية هنا تتعلق بإعداد سبيكة النحاس، ذلك بأن المراجع التي بين أيدينا لم توضح العملية تماماً باستثناء القلقشندي الذي أعطى معلومات هامة حول صناعة

__________

(1) صالح بن قربة، المسكوكات المغربية…، ص. 47.

 

(1/15250)

 

 

السكة وقسمها إلى صنفين: »مطبوع بالسكة، وغير مطبوع«(1). وفي هذا الشأن يقول: »أن يسبك النحاس الأحمر حتى يصير كالماء ثم يخرج فيضرب قضباناً ثم يقطع صغاراً ثم ترصع وتسك بالسكة. وسكتها أن يكتب على أحد الوجهين اسم السلطان ولقبه ونسبه، وعلى الآخر اسم بلد ضربه وتاريخ السنة التي ضرب فيها«(2).

... ويجب أن نذكر هنا أن النقود النحاسية التي ضربت بتاقدمت قد استعمل في سكها الطريقة التقليدية نفسها المعروفة في صناعة السكة النحاسية

__________

(1) القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، صص. 443 ـ 446.

(2) المصدر نفسه.

 

(1/15251)

 

 

الإسلامية، وذلك لأن معظم سك النقود إن لم يكن كلها قد صنعت بسبيكة مطروقة. يدل على ذلك أن كثيراً من هذه القطع النقدية جاءت مكسورة الحواف غير منتظمة في أغلب الأحيان، وأنه قلما نجد قطعة تشبه الأخرى؛ كما أن عدم تقابل مركز الوجه مع مركز الظهر في النقود الأميرية يفسر لنا أن صناع دار الضّرب عندما كانوا يسكونها تزحزح أحد القالبين تزحزحاً عارضاً من آثار الضّرب.

... وفي ضوء المعطيات السابقة، يتبين أن صناعة نقود الأمير عبد القادر كانت تتم بالقوالب المحفورة حفراً مباشراً. ومع ذلك، فإننا لا نستبعد استعمال

 

(1/15252)

 

 

القوالب المصبوبة، ولا سيما في حالة النقود الفضية (النّصفية).

... ومهما قيل بشأن هذه المسألة الشائكة، فإنه لا يعدو مجرد تفسيرات وتأويلات، تقربنا من الحقيقة. ويدعم رأينا هذا ما وصلنا من نقود تنطبق عليها تلك المعطيات التقنية.

... وموضوع صناعة النقود يجرنا إلى بحث الناحية الإدارية والفنية بدار الضّرب بتاقدمت. فحسب المعلومات القليلة التي تتعلق بهذه الناحية، نجد أن جل الموظفين بدار السكة، وخاصة منهم السكاكون والمكلفون بإنتاج النقود، كانوا من اليهود. ولكن يظهر أن النقاش (الفتاح) الذي يشرف على إعداد

 

(1/15253)

 

 

حفر قوالب ونقشها (أي حفر نصوفها الكتابيّة) كان من العرب الذين لهم دربة ودراية بهذا الفن.

... ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الشأن هو: ما مصادر إمداد دار السكة بالسبائك اللازمة لقيام صناعة النقود؟

... المعروف من الناحية الطبيعية توفر مناطق معينة ضمن مجال الدولة الحيوي على مناجم النحاس والحديد وغيرها، والتي اهتم بها الأمير شخصياً وعين من يشرف عليها ويراقب الأعمال فيها؛ نظراً لأهميتها الاقتصادية والمالية. يتجلى حرصه واهتماماته بذلك من الرسالة التي بعث بها إلى ممثله بالمغرب الأقصى يشرح له

 

(1/15254)

 

 

فيها عدم حاجته إلى شراء سبائك الرصاص التي كان يستوردها، بسبب ما توافر لديه من مناجم النحاس الكثيرة التي تم اكتشافها واستغلالها في إنتاج النقود أو الفلوس التي كانت رعاياه بحاجة إليها(1). ولعل وفرة النحاس

__________

(1) عن مشكلة استغلال المناجم أو عدم استغلالها في صناعة وإنتاج النقود، انظر:

E. Daumas, op. cit., lettre du 28 Janvier, 1838; M. Bouchenaki, La monnaie de l’Emir Abdelkader, pp. 63-64.

... وطبقاً لما ذكره Daumas، يكون الأمير عبد القادر قد استفاد في مجال صناعة النقود من خبرة ناظر السكة بالجزائر.

 

(1/15255)

 

 

في مجال نفوذ الدولة كانت من بين الأسباب التي أدت إلى الاعتماد على قاعدة النحاس نظاماً نقديّاً رئيساً.

... ومن ناحية أخرى، ما زلنا نجهل الأسباب أو الصعوبات التي حالت دون استعمال قاعدة الفضة (Silver Standard). هل يعود ذلك إلى قلة مناجم الفضة؟ أو يرجع إلى اعتبارات أخرى؟

... وما دمنا بصدد دراسة نقود الأمير عبد القادر، لابد من الإشارة إلى دار السكة، التي ما زال يكتنف تاريخ إنشائها الغموض. فالمعلومات بخصوص تاريخ ظهورها وموقعها في الحاضرة تاقدمت تكاد تكون منعدمة تماماً، باستثناء بعض الإشارات المقتضبة

 

(1/15256)

 

 

التي وردت ضمن تقارير وأوصاف لفرنسيين سواء كانوا قناصل أو باحثين(1).

... وهكذا، فبالرغم من أهمية هذه المؤسسة في إنتاج آلاف القطع التي تحتاج إليها الدولة كل سنة وعلاقتها القانونية بالسلطة، بالرغم من ذلك

__________

(1) من بين الإشارات أو التقارير التي وردت حول استعمال الفضة نذكر تقرير كَارسان (Garcin) الذي وصف فيه دار السكة في شهر مارس من سنة 1840، حيث يقول: »وقد جعل الأمير من تاقدمت مقراً لضرب النقود. غير أن قلة الإمكانات المالية لم تسمح له بضرب نقود فضية«. (Garcin, Mémoire au ministèrede la guerre, 1840).

 

(1/15257)

 

 

لم يولها المؤرخون المعاصرون، من رحالة وشاهدي عيان، ما تستحقه من التسجيل وحتى المخططات الطبوغرافية التي وضعت لمدينة تاقدمت لم تحدد موقعها ومركزها من عمران المدينة (انظر خريطة 1. 2. 3).

... ومهما يكن من أمر، فإن الحديث عن دار السكة بتاقدمت في الوقت الراهن يبقى احتمالات فقط.

... وموضوع إنشاء دار السكة يقودنا إلى بحث مسألة لا تقل أهمية عنه من حيث ارتباطها بمفهوم الملك ومستلزمات الدولة الجزائرية الناشئة، ونعني به تأريخ ظهور النقود بخصائصها الجديدة وبداية تداولها في ممتلكات الأمير عبد القادر

 

(1/15258)

 

 

الجزائري. الواقع أن هذه المسألة لم يحسم الخلاف فيها بين المختصين والمهتمين بتاريخ الأمير عبد القادر، إذ ليس بين أيدينا مصدر نستقي منه معلومات دقيقة بخصوص بداية إنتاج النقود وطرحها في الأسواق للتداول غير بيانات ضئيلة متفرقة مقتضبة أحياناً، ومبهمة غالباً. ولذلك فإننا نلجأ للحسم في مسألة تحديد التأريخ إلى النقود نفسها التي تعتبر وثائق رسمية معاصرة للأحداث.

... وحسب المجموعات النقدية المعروفة بين الباحثين وعلماء المسكوكات، فإن أقدم النماذج التي وصلتنا من النقود النحاسية ومن إصدارات دار السكة

 

(1/15259)

 

 

بتاقدمت ترجع إلى سنة 1250 هـ/ 1834 ـ 1835 م(1). وأحدث النماذج المؤرخة التي وصلتنا من النقود ترجع إلى سنة 1258 هـ/ 1841 ـ 1842 م.

... وبناء على ما تقدم، نستطيع القول إن أول عملة جزائرية طرحت للتداول كانت سنة 1250 هـ/ 1835 م تعبيراً عن قيام الدولة وسيادتها واستقلالها، وعليها شعار مؤسسها المتميز المقتبس من القرآن الكريم، نقش على وجهها في ثلاثة سطور أفقية (إن الدين ـ عند الله ـ الإسلام)، وفي

__________

(1) يمكن اعتبار سنة 1250 هـ تاريخاً لإنشاء دار السكة وبداية نشاطها في إنتاج النقود بنوعيها النحاسي والفضي.

 

(1/15260)

 

 

الوجه الآخر تاريخ الضرب ومكانه. والملاحظ عن هذه العملة التي تعتبر فاتحة عهد المسكوكات الجزائرية خلوها من الأسماء والألقاب الفخرية التي كانت صفة ملازمة في مسكوكات سلاطين آل عثمان بالجزائر والسكة الجزائرية بصيغتها الجديدة التي وصلتنا منها مجموعة كبيرة، تفند ما صرّح به القنصل Daumas والمصرفي Ernest Picard، من أنها ضربت باسم الأمير عبد القادر(1)، بل أن عملية الضرب اقتصرت على الفلوس النحاسية فقط دون غيرها من النقود الأخرى، حسب زعم Garcin

__________

(1) لمزيد من التفصيل، انظر: M. Bouchenak, op. cit., p. 70.

 

(1/15261)

 

 

الذي أعطى وصفاً مقتضباً لنشاط دار السكة ذكر فيه أن قلة الإمكانات المالية حالت دون ضرب نقود فضية(1). غير أن ما وصلنا من نقود ينفي صحة هذا الادعاء الذي لا يقوم على أسس علمية صحيحة(2).

__________

(1) Garcin, Mémoires au ministère de la guerre (août 1840), publiées par M. Emerit; L’Algérie à l’époque d’Abdelkader, 1950, pp. 295-297.

(2) أغلب الظن أن هؤلاء القناصلة وغيرهم من الباحثين الفرنسيين دوّنوا ملاحظاتهم عن طريق الأخبار المنقولة، لا عن طريق المشاهدة العينية.

 

(1/15262)

 

 

... وبخصوص النقود الجديدة بتاقدمت، فقد ذكر صاحب كتاب "تحفة الزائر"(1) وصاحب كتاب "وشاح الكتائب"(2) أن هناك نوعين مختلفين هما: المحمدية والنّصفية، وهما العملتان اللتان ساد التعامل بهما في الأسواق جنباً إلى جنب مع العملات الأجنبية التي غزت الأسواق الجزائرية وانتشر تداولها منذ العهد العثماني، وكانت تمثل في الحقيقة خليطاً معدنياً من نقود

__________

(1) محمد بن عبد القادر، تحفة الزائر...، المرجع السابق، ص. 197.

(2) رويلة قدور، وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب، تحقيق محمد بن عبد الكريم، الجزائر، 1968.

 

(1/15263)

 

 

العثمانيين والإسبان والفرنسيين والأنجليز والمغرب وتونس، إلخ.

... والحقيقة أن تعدّد العملات في الجزائر قد خلقت وضعاً نقدياً صعباً أدى إلى تعقيد عمليات البيع والشراء في داخل الجزائر وخارجها. فكيف عالج الأمير عبد القادر هذه المشكلة، خصوصاً عملية الصرف؟

 

6 ـ الوضع النقدي ومشكلة الصّرف

... كانت النقود المتداولة في أول عهد دولة الأمير عبد القادر خليطاً من النقود العثمانية المضروبة بأسماء سلاطين آل عثمان والتي عرفت بـ »السلطاني« و»نصف السلطاني« و»الربع«، وجميعها من معدن الذهب، بالإضافة إلى النقود

 

(1/15264)

 

 

الفضية العثمانية كذلك والتي اشتهرت بتسميات مختلفة مثل »ريال بوجو« (1) و»الصايمة« و»ريال دراهم« التي تساوي ثلث »ريال بوجو«، وتشمل نوعين آخرين هما: »ريال دراهم« قديمة وجديدة(2) . وضربت هذه الأنواع في القسطنطينية

__________

(1) يعتبر »ريال بوجو« من النقود الفضية العثمانية المضروبة بالجزائر وعرف في دفاتر المحاكم الشرعية باسم »ريال صغير«. (انظر: د. أبو القاسم سعد الله في بحثه: دفتر محكمة المدية أواخر العهد التركي 1255 هـ/ 1839 م، الثقافة، 1984، ص. 164).

(2) هذا النوع يتراوح وزنه بين 3,30 غرام و3,10 غرام.

 

(1/15265)

 

 

والولايات الجزائرية منذ أول عهد العثمانيين بها، فعرفت المدن الرئيسة، مثل الجزائر وقسنطينة، دور ضرب خاصة بها. واستمر الضرب جارياً بها حتى العهد الاستعماري. وإلى جانب النقود العثمانية بنوعيها الذهبي والفضي، عرفت الجزائر نتيجة ازدياد أهميتها التجارية في تلك الحقبة أنواعاً أخرى من النقود الأجنبية الشائعة في معاملاتها المالية مثل العملات الإسبانية والتونسية والمغربية والفرنسية(1)

__________

(1) عن رواج التداول بالعملات الأجنبية في الجزائر في العهد العثماني، راجع: د. ناصر الدين سعيدوني، »العملة الجزائرية«، النظام المالي للجزائر في العهد العثماني.

 

(1/15266)

 

 

.

... وإذا كانت هذه هي صورة الوضع النقدي بالجزائر عند قيام دولة الأمير عبد القادر، فإننا نتساءل عن دور نظامه النقدي بين هذه الأنظمة النقدية المختلفة وما مركز عملتي المحمدية والنّصفية في التداول اليومي؟ وما الإجراءات التي اتخذها إزاء هذا المشكل؟ يتبين من استقراء التاريخ السياسي لدولة الأمير أن هذا الأخير كان يعي المشكلة النقدية تماماً، وأنه بحث عن حلول لها في نطاق ما ضربه من نقود نحاسية وفضية. وأمام اضطراب المعاملات، لجأ إلى إصدار تسعيرة رسمية للنقود وصرفاً محدداً لها. وهو ما أشار إليه صاحب كتاب

 

(1/15267)

 

 

"تحفة الزائر" بقوله(1):

 

... إن مولانا جعل المسكوكات الجارية في البلاد صرفاً معلوماً، تتعامل به رعيته، وسك ـ نصره الله ـ نوعين من العملة، إحداهما المحمدية، والأخرى النصفية. فجعل صرف »الدورو أبو مدفع« (2) المعروف بـ »أبي عمود« أربعة ريالات، وكل ريال فيه ثلاثة أرباع »جزائرية«، وكل ربع جعل صرفه

__________

(1) محمد بن عبد القادر، تحفة الزائر...، ص. 197؛ وشاح الكتائب...، ص. 15.

(2) »الدورو بومدفع«، من نقود الفضة، نقش على أحد وجوهيها أعمدة هرقل فشبهوها بالمدفع. (عبد الرحمن الجيلالي، حول سكة الأمير...، ص. 25).

 

(1/15268)

 

 

ثمان »محمديات«، وكل »محمدية« فيها »نصفيتين« من السكة الجديدة المضروبة في دار السكة، بحيث إذا أطلق الريال لا ينصرف إلا إلى هذا الصرف، وجعل »الدورو الجزائري« ثلاثة ريالات إلاّ ثمان »محمديات«. وبهذا الصرف يعطي راتب العسكر بأصنافه.

ولم تكن النقود الجزائرية المحدودة كافية لسد حاجة السوق التجارية المحلية أو الخارجية، مما أدى إلى تداول النقود الأجنبية بكثرة. لذلك حدد لها الأمير عبد القادر أسعاراً رسمية، وجعل وحدتها الريال. وحسب البيانات التي حققها F. Patroni في زمانه، تكون المعادلات على هذا النحو(1)

__________

(1) F. Patroni, L’Emir Elhdj Abdelkader, Alger, 1890, p. 31.

 

(1/15269)

 

 

:

 

... ـ الدورو بومدفع ... ... 5,40 فرنكات وأربعون سنتيماً.

... ـ الدورو الجزائري ... ... 3,60 فرنكات.

... ـ الريال (أي ربع الدينار) ... 1,35 فرنكاً وخمسة وثلاثين سنتيماً.

... ـ ثمن الريال ... ... ... 0,45 سنتيماً (1).

... وبالمقارنة مع هذه المعادلات السابقة يكون صرف نقود الأمير مقابل الفرنك الفرنسي هكذا:

... المحمدية ... ... ... 0,05 سنتيماً.

__________

(1) H. Federmann, « Notices sur l’histoire et l’administration du Baylike de

Titteri », R. Africaine, T. XI, 1867, p. 218.

 

(1/15270)

 

 

... النّصفية ... ... ... 02,5 سنتيماً ونصف.

... أما »ريال بوجو«، فقد ذكر المصرفي إرنست بيكار (Ernest Picard) (1) أن قيمته مقابل الفرنك الفرنسي قد حدّدت بـ: 1,86 سنة 1830، لكن قيمة الصّرف تغيرت وانخفضت في عهد الأمير عبد القادر، فأصبحت 1,35 فرنك فرنسي.

... ومع ذلك، فإنه برغم الجهود التي بذلها الأمير في ميدان الإصلاح المالي، لم ينجح في إقرار نظام نقدي مستقل يخدم مصالح دولته في المجال الاقتصادي ويبعدها(2)

__________

(1) E. Picard, La monnaie et le crédit en Algérie, Paris, 1930, pp. 60-61.

(2) د. سعيدوني، »النظام الضريبي لدولة الأمير عبد القادر«، مجلة الثقافة، عدد خاص بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الأمير عبد القادر، العدد 75، 1983، ص. 131.

 

(1/15271)

 

 

عن التبعية النقدية الأجنبية.

... ومما زاد في سوء الأوضاع النقدية وعدم استقرارها، وما تركته من آثار سلبية على الحياة الاقتصادية، رفض بعض المتعاملين مع الأمير عبد القادر قبول عملاته الجديدة النحاسية والفضية في المبادلات التجارية الخارجية. ومن بين الدول التي وقفت هذا الموقف فرنسا وسلطنة المغرب. ومما زاد الطين بلة وأدّى إلى زعزعة أركان النظام النقدي الذي أسسه الأمير أن تقدير الضرائب والمرتبات ودفع أجور الموظفين والعسكريين كان يتم وفق الريال.

 

(1/15272)

 

 

... والواقع أن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسات الاقتصادية التحليلية المقارنة والإحصائيات المستقاة من النصوص والوثائق التاريخية المعاصرة. ولذلك نكتفي بهذا القدر من تداول النقود وطرق الصرف، لأن ذلك يخرج عن موضوع بحثنا الذي يرتبط بمفهوم السيادة والاستقلال كما يتراءى من نصوص السكة.

 

ثانياً: علاقة السكة بالسلطة ودلالتها الحضارية

... مما لاشك فيه أن ظهور مسكوكات الأمير عبد القادر في شكلها وصيغتها الجديدة جنباً إلى جنب مع المسكوكات العثمانية التي تمثل السلطة الشرعية في البلاد، فضلاً عن

 

(1/15273)

 

 

المسكوكات الأجنبية ذات الشارات والرموز المسيحية، يعد نقطة تحول كبرى في تاريخ الجزائر الحديث، ودليلاً قاطعاً على قيام نظام حكم جديد مستقل يختلف في اتجاهاته المذهبية وفلسفته عن أنظمة الحكم السابقة. يتجلى هذا الاتجاه الجديد في حكم البلاد من تحليلنا طرز المسكوكات التي أصدرتها دار السكة بتاقدمت، مبتدئين بمضامين الطراز الأول الذي لم يصلنا من نقوده سوى نصها.

 

1) مسكوكات الطراز الأول(1)

__________

(1) حسب ما ذكره الجيلالي في بحثه »حول سكة الأمير عبد القادر الجزائري«، فإن ملامح هذا الطراز كانت عبارة عن نقود تمثل ثلاث فئات أو قطع. فالنقد الرئيس يعادل فرنكين والنصف يعادل فرنكاً واحداً؛ أما الربع، فيعادل نصف فرنك فقط.

 

(1/15274)

 

 

... مسكوكات هذا الطراز مستديرة الشكل تحمل في الوجهين نصوصاً كتابية تتألف من ثلاثة سطور يفصلها خطان متوازيان وتشير إلى هذا الاقتباس:

... مركز الوجه ... ... مركز الظهر

... ... 1 ـ ومن يبتغ ... ... ... 1 ـ ضرب

... ... 2 ـ غير الإسلام دينا ... ... 2 ـ في 1250

... ... 3 ـ فلن يقبل منه(1) ... ... 3 ـ تاقدمت

... ... ... ... ... ... ... ... (شكل 1)

... هذا الاقتباس القرآني هو الشعار الأول الذي سجله الأمير عبد القادر على نقود هذا الطراز، وهو يكشف عن الغرض الذي قامت من

__________

(1) الآية 85 من سورة آل عمران.

 

(1/15275)

 

 

أجله الدولة الجزائرية في هذه الأوضاع المعقدة والظروف الصعبة لتحقيق استقلال البلاد ووحدة الأمة وتمسكها بدينها الإسلامي الحنيف، وبالتالي إحياء تراث السلف الصالح الذي زالت مظاهره أو كادت تختفي تماماً، ولا سيما أواخر العهد العثماني بالجزائر، وتكالب القوى الاستعمارية على غزو البلاد واستغلال ثرواتها.

... ولكن مع أهمية السكة بصفتها شارة من شارات الحكم، فإن نقود هذا الطراز لم تحمل اسم الأمير عبد القادر الذي رفع لواء الجهاد ضد الغزو الفرنسي، وإقامة دولة الحق.

 

... والمعروف من دراسة التاريخ السياسي أن السنوات الأولى من حكم الأمير قد تميزت بإحراز انتصارات كبيرة على الفرنسيين، الذين اضطروا أمام الضربات القوية إلى طلب الصلح ووقف الحرب. ولما كان الأمير بطبعه ميالاً للسلم ولا يدخل المعارك إلاّ عندما تكون مصالح بلاده مهددة، فقد قبل بالصلح الذي عرف باسم »معاهدة ديميشال« سنة 1834 م، حتى يتمكن من إصلاح الأوضاع الداخلية وتنظيم الإدارة على أسس حديثة. هذا، بالإضافة إلى حرصه على توسيع نطاق التبادل التجاري ليشمل مختلف أرجاء دولته.

... وإذا تركنا الجانب السياسي والإصلاحي في حياة الأمير عبد القادر، وتناولنا مسكوكاته التي تكمن أهميتها في ما تثيره من تساؤلات بين علماء المسكوكات، خصوصاً من ناحية شكلها ونصوصها الكتابية، فعلى الرغم من تشابهها مع المسكوكات العثمانية شكلاً، فقد خالفتها نصاً وروحاً بما تضمنته من آيات قرآنية ظهرت لأول مرة كتابة نقدية منذ دخول الأتراك العثمانيين إلى الجزائر. وهنا لابد من التساؤل عند هذه النقطة بالذات. فهل من خلفيات تاريخية أو حضارية نفسر بها هذه الظاهرة؟

 

... يبدو من استقرار التاريخ السياسي لسلاطين الخلافة العثمانية أن هناك تغيراً حدث في نظرتهم لشارات الخلافة والسلطنة. وقد امتد هذا التغيّر في مفهوم الملك إلى السكة نفسها التي كانت لا تقل أهمية عن ذكر اسم الخليفة في الخطبة من على المنبر.

... يظهر هذا التحول الجديد عند هؤلاء السلاطين فيما يخص السكة في عهد السلطان سليم الأول (918 ـ 926 هـ) الذي جعل من بين الحجج الدينية التي بنى عليها غزوه لمصر أنه وقف عند الشرع الشريف في حربه مع الدولة المملوكية. فقد استفتى المفتي علي جمال أفندي في مسائل ثلاث أوردها

 

المؤرخ النمساوي Hammar في مؤلفه "تاريخ الدولة العثمانية"(1)، يهمنا منها السؤال الثالث: »إذا كانت أمة (يعني المماليك) تنافق في احتجاجها برفع كلمة الإسلام، فتنقش آيات كريمة على الدنانير والدراهم مع علمها بأن النصارى واليهود يتداولونها هم وبقية الملاحدة من أهل الأهواء والنحل... فيدنسوها ويرتكبون أفظع الخطايا بحملها معهم

__________

(1) نقلاً عن عبد الرحمن فهمي، النقود العربية ماضيها وحاضرها، سلسلة المكتبة الثقافية، 103، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1964، ص ص. 112 ـ 113,

 

إذا ذهبوا إلى محل الخلاء لقضاء حاجتهم، فكيف ينبغي معاملة هذه الأمة؟ «.

... فكان جواب المفتي بأن هذه الأمة إذا رفضت الإقلاع عن ارتكاب هذا العار، جاز إبادتها. والحقيقة أن المسكوكات الإسلامية منذ تعريبها على يد الخليفة عبد الملك بن مروان وهي تحمل شهادة التوحيد والرسالة المحمدية وآيات من القرآن الكريم، ولم يعترض على ذلك أحد من الفقهاء أو الغيورين على الدين قبل السلطان سليم الأول.

... وبالرغم من أن العثمانيين جرّدوا المسكوكات العربية من روحها الإسلامية وأزالوا منها شهادة التوحيد والرسالة المحمدية

{محمد رسول الله أرسله الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، واستبدلوها بالألقاب الفخرية السلطانية (خاصة بالسلطان العثماني) مثل: »ضارب النضر صاحب العز والنصر في البر والبحر« أو »سلطان البرين(1) وخاقان(2) البحرين(3)«. فلم يقوموا بإجراء إصلاحات في الأنظمة النقدية، بل إن قيم النقود العربية أصبحت عرضة للتغيير المتتابع، ظهرت آثاره واضحة على النقود الجزائرية التي فقدت

__________

(1) سلطان البرين هما: براسيا وأوربا.

(2) الخاقان: الرئيس.

(3) البحرين هما: البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.

أهميتها الحضارية ودخلت مرحلة التدهور والانحطاط. ولم يكن هذا التدهور خاصاً بالجزائر فحسب، بل شمل معظم ممتلكات الدولة العثمانية. يدل على هذا الوضع النقدي المتردي أن نقود مصر وحدها قد عرفت أكثر من 34 تعديلاً مختلفاً لسعر المبادلة، وتحديد قيمة العملة الذهبية والفضية والنحاسية(1). حدث ذلك أثناء حكم أول الولاة العثمانيين.

... وفي ضوء هذا التحول يمكن اعتبار النقود الجزائرية منذ أصبحت إيالة عثمانية تابعة للآستانة، نقوداً تركية بكتابات عربية، لارتباط

__________

(1) عبد الرحمن فهمي، النقود العربية...، ص. 114.

أشكالها وأوزانها وأسلوبها وقيمها بالأوامر العثمانية، حتى قوالب الضرب نفسها التي كانت تسك بها هذه النقود تأتي من الآستانة وتسلم إلى الضربخانة الجزائرية لسك النقود عليها بأسماء سلاطين آل عثمان، إلى أن أسست دار السكة بالجزائر سنة 1236 هـ/ 1820 م(1)، حيث تولت مهمة إصدار النقود لصالح سلاطين الخلافة العثمانية.

__________

(1) أحمد الشريف الزهار، مذكرات أحمد الشريف الزهار، تحقيق توفيق المدني، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1974، ص. 147.

 

(1/15284)

 

 

... وأقدم النقود الذهبية العثمانية التي وصلتنا من ضرب الجزائر ترجع إلى عهد السلطان أحمد الثالث (1115 ـ 1143 هـ/ 1703 ـ 1790 م) سجلت على وجهها النصوص العربية التالية:

 

... ... مركز الوجه

... ... ... 1 ـ سلطان

... ... ... 2 ـ البرين وخاقان البحرين

... ... ... 3 ـ سلطان ابن

... ... ... 4 ـ السلطان

 

... ... مركز الظهر

... ... ... 1 ـ السلطان

... ... ... 2 ـ أحمد خان

... ... ... 3 ـ عز نصره ضرب في

... ... ... 4 ـ جزائر 1126.

 

(1/15285)

 

 

... واستمر هذا الطراز من المسكوكات بأنواعها المختلفة من ذهبية وفضية ونحاسية وحدات نقدية في التداول بديلاً عن المسكوكات العربية، يحمل أسماء السلاطين كما سبق أن أشرنا قبل قليل. وتواصل العمل ـ مع بعض العملات الأجنبية نتيجة التوسع الاستعماري والاكتشافات والتجارة ـ طيلة العهد العثماني إلى أن ظهرت حركة الأمير عبد القادر الجزائري التي كانت تتطلع إلى بناء دولة جزائرية عصرية دستورها الإسلام، تتولى مهمة الجهاد وتحرير البلاد من الاستعمار والأطماع الأجنبية.

 

(1/15286)

 

 

... وفي هذا النطاق وتخليداً لتأسيس الدولة واستقلالها وسيادتها، أصدر الأمير عبد القادر سلسلة من المسكوكات الفضية والنحاسية بدار الضرب بتاقدمت.

... يتبين من استعراضنا السابق حرص الأمير على إحياء تقاليد السكة العربية الإسلامية بشكل عام والمغربية على الخصوص، يحدوه في هذا الاتجاه الإسلامي الخالص ما قام به أسلافه من الزيّريين والمرابطين.

... ظهرت المحاولة الأولى نحو بلورة هذا الاتجاه السني في عهد الأمير المعز بن باديس (406 ـ 454 هـ) الذي أعلن الانفصال السياسي والمذهبي عن الخلافة الفاطمية سنة 440

 

(1/15287)

 

 

هـ(1). وعبر عن هذا الاستقلال بضرب سكة ذهبية بعبارات وشعارات جديدة تحمل التنديد بالفاطميين الإسماعيليِّين، وترميهم بالكفر والمروق عن الإسلام، على هذا النحو(2):

 

... ... مركز الوجه:

... ... ... 1 ـ لا إله إلاّ الله

... ... 2 ـ وحده لا شريك له

__________

(1) ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، نشر كولان، بيروت، 1948، ج 1، ص. 277.

(2) د. صالح بن قربة، المسكوكات المغربية من الفتح الإسلامي إلى سقوط دولة بني حماد، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986، ص. 485 وما بعدها.

 

(1/15288)

 

 

... ... ... 3 ـ محمد رسول الله

... الهامش: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً}.

 

... ... مركز الظهر:

... ... ... 1 ـ ومن يبتغ

... ... ... 2 ـ غير الإسلام ديناً

... ... 3 ـ فلن يقبل منه.

... الهامش الدائري: كتابة تشير إلى مكان الضرب وتاريخه.

 

... والجدير بالملاحظة، في هذا الصدد، أن المعز بن باديس هو أول من استعمل هذه الآية الكريمة كتابة نقدية في تاريخ المسكوكات المغربية. ولاشك في أن الغرض من نقشها على نقوده في تلك الفترة المتميزة من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، كان تحدياً

 

(1/15289)

 

 

للفاطميين الشيعة والإعلان عن رفض مذهبهم الشيعي والعودة إلى المذهب السني المالكي.

... ثم جاء المرابطون بعد سنوات قليلة من تأسيس دولتهم، فتبنّوا هذا الشعار واستعملوه على مسكوكاتهم الذهبية تعبيراً عن تمسكهم بالمذهب السني المالكي اقتداء بأبناء عمومتهم من الزيريين.

... والملاحظ أنه منذ ذلك التاريخ زال استعماله من قاموس السكة المغربية شعاراً له مبرّراته التاريخية والحضارية. واستمر الحال كذلك إلى أن جاء الأمير عبد القادر الجزائري، فأحيى استعماله على نقوده النحاسية المضروبة بحاضرة دولته تاقدمت. ويدخل

 

(1/15290)

 

 

هذا الاستعمال المتجدّد ضمن التواصل الحضاري.

... وإذا كان هذا الشعار السالف الذكر قد اختلفت أوجه استعمالاته من دولة إلى أخرى بحسب المناسبة التي ظهر فيها والغاية من اختياره(1)، فإن ظهور آية {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} على نقود الأمير عبد القادر يستوجب الوقوف والتأمل. ذلك بأن استعماله شعاراً

__________

(1) كان ظهور شعار {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه...} على نقود الزيريين والمرابطين تصويراً وتعبيراً عن الصراع بين مذهبين هما: المذهب الشيعي المشرقي والمذهب السني المالكي المغربي.

 

(1/15291)

 

 

دينيّاً على نقوده في هذه الفترة بالذات (1834 ـ 1835 م) كان يصور بطريقة إعلامية الصراع بين ديانتين سماويتين هما المسيحية الصليبية من جهة والدين الإسلامي من جهة ثانية، والصراع بين حضارتين غربية ومشرقية، كما يعبر عن الصراع بين قوتين عسكريتين غير متكافئتين، قوة استعمارية تريد استغلال البلاد والعباد، وقوة مظلومة هي صاحبة الحق في وطنها وهي دولة الأمير عبد القادر التي كانت تصبو إلى تحقيق الاستقلال والسيادة وتحرير البلاد من آثار الاستعمار الفرنسي. ومن هنا تتوضح لنا بجلاء أهمية دراسة نقود الأمير من

 

(1/15292)

 

 

الناحية الحضارية.

... ذلك لأن إعلان هذا الشعار على الوسائل الإعلامية للنقود، يعتبر المبدأ الديني الذي قامت على أسسه الدولة الجزائرية.

... 2) مسكوكات الطراز الثاني النحاسية المضروبة بتاقدمت منذ عام 1250 هـ/ 1835 م تمثل أهمية خاصة في تاريخ الصراع بين قوات الأمير عبد القادر وبين قوات الفرنسيين الذين راحوا يكتسحون أراضي الجزائر مقتحمين حدود دولته، خصوصاً في فترة حكم »تريزل« قائد حامية وهران، بعد أن سادت فترة من الهدوء والسلم بين الطرفين (فرنسا والأمير).

 

(1/15293)

 

 

... وكان اللقاء في معركة المقطع التي انتصرت فيها الجيوش الجزائرية وسجل الأمير أروع انتصاراته على الفرنسيين، وذلك سنة 1250 هـ/ 1834 ـ 1835 م. وفي هذه السنة، أي سنة الانتصارات والسنوات التي تلتها، أصدرت دار السكة بتاقدمت كميات من نقود »المحمدية« وعليها شعار جديد يعتبر امتداداً وتأكيداً للشعار السابق على هذا النحو:

... ... مركز الوجه: ... ... مركز الظهر:

... ... إن الدين ... ... ضرب في

... ... عند الله ... ... تاقدمت

... ... الإسلام (لوحة 2) ... 1250

 

(1/15294)

 

 

... يفصل كتابة الوجه صفان (خطان) أفقيّان، وقد نفذت بطريقة الحفر البارز بأسلوب الخط النسخي المغربي ذي الحروف المعجمة.

... وقد تواصل إنتاج هذه النقود ذات الشعار: {إن الدين عند الله الإسلام}(1) طوال الفترة الممتدة من 1250 إلى 1257 هـ/ 1834 إلى 1841 م، طبقاً للنماذج المحفوظة بالمتاحف حتى اليوم(2)

__________

(1) الآية 19 من سورة آل عمران.

(2) يوجد النقد المضروب سنة 1257 هـ ضمن مجموعة تونس (انظر: Ferrugia De Candida في بحثه حول: Monnaies algerienne du musée du Bardo, R. Tunisienne, T. 45, 46, 47, N° 135, 1941, pp. 171-172).

 

(1/15295)

 

 

.

... والمسكوكات بهذه المفاهيم والتصورات الجديدة عكست لنا أحداثاً ووقائع كثيرة عاشتها البلاد خلال الفترة الواقعة بين 1250 هـ و1257 هـ.

... ومن بين الأحداث البارزة التي عاصرتها النقود وضربت خصيصاً للتعبير عنها، تلك المعاهدات التاريخية الهامة التي عقدتها فرنسا مع الأمير عبد القادر وخصوصاً معاهدة »تافنا«(1)

__________

(1) راجع نص المعاهدة كاملاً في "تحفة الزائر..."، ص. 277؛ وتشرشل، حياة الأمير عبد القادر...، ص. 117؛ والبحث الأكاديمي الذي أنجزه: Raphael Danziger, Abdel-Qadir and Algerians, New-York - London, 1977, pp. 139-153.

 

(1/15296)

 

 

التي عقدت في 14 صفر سنة 1253 هـ/ 30 ماي 1837 م. فهذه المعاهدة كانت عند الأمير حجر الزاوية لاستكمال صرح الإصلاحات التي بدأ منذ أمد طويل، واستطاع خلال سنوات 1254 هـ ـ 1255 هـ/ 1838 ـ 1839 م أن يسير بخططه الإصلاحية إلى الأمام بسرعة فائقة.

... وهنا تتضح أسباب ضرب هذه النقود من قبل الأمير عبد القادر، كما تتضح أيضاً أسباب نقش {إن الدين عند الله الإسلام}، حيث أراد مؤسس الدولة من جهاده ضد الفرنسيين إقامة دولة تتوافر فيها شروط السيادة والاستقلال عن السلطنة العثمانية من جهة وسلطنة المغرب من جهة ثانية.

 

(1/15297)

 

 

ولعل الهدف الأسمى الذي كان يرمي إلى تحقيقه هو جعل عرب الجزائر الذين تشتتوا شعباً واحداً و»استمالتهم إلى المبادئ الإسلامية، واستدعاؤهم إلى فضائل أهل القرون الأولى للهجرة، وإيقاظهم من الغفلة«(1).

... يدل على هذا الاتجاه الإصلاحي الآيات الكريمات التي نقشتها على نقوده والتي تؤكد هذه الخطوات الإصلاحية. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن كل آية من تلك الآيات تكشف النقاط عن جوانب مختلفة من سياسة الأمير التي اتبعها في صراعه من أجل البقاء وإثبات السيادة

__________

(1) محمد بن عبد القادر، تحفة الزائر...، ص. 53.

 

(1/15298)

 

 

والوحدة الوطنية والدينية لشعب الجزائر.

... 3 ـ أما الطراز الثالث من نقود الأمير عبد القادر، فهو ما ضربه من الفضة وعرف باسم »النّصفية« (1). وبالرغم من صغر حجمها (14,8 ملم) وخفة وزنها (0,40 غ)، فقد حملت نصاً كتابياً في غاية الأهمية نفذ بطريقة الحفر البارز وبأسلوب الخط النسخي المغربي، وزعت عبارته بهذا الشكل:

 

... ... الوجه:

__________

(1) يوجد نموذجان بالمتحف الوطني للآثار بالجزائر. (انظر الجيلالي، المرجع السابق، ص. 10؛ وهناك نقد آخر ضرب سنة 1258 هـ في مجموعة باريس:(H. Lavoix, op. cit., Vol. 2, N°. 1106 .

 

(1/15299)

 

 

... ... ... الله

... ... ... حسبنا

... ... ... ونعم

... ... ... الوكيل(1) (لوحة 1)

... ... الظهر:

... ... ... ضرب في

... ... ... تاقدمت

... ... ... 1254.

... وتعد نقود »النّصفية« من النقود النادرة في العالم، إذ لا يوجد منها سوى ثلاث قطع فقط، اثنتان منها بالمتحف الوطني للآثار بالجزائر، مؤرختان بـ 1254 هـ، والثالثة في باريس مؤرخة عام 1258 هـ. وتدل الآية الكريمة المسجلة عليها على أبرز الأحداث والمستجدات التي عرفتها الدولة الجزائرية خلال سنوات: 1254 ـ 1255 هـ/ 1838

__________

(1) الآية 173 من سورة آل عمران.

 

(1/15300)

 

 

ـ 1839 م. وفي مقدمتها أتاحت معاهدة »تافنة« مكاسب معتبرة للأمير، وأعطته فترة من الهدوء والسلام تمكن خلالها من تثبيت سلطانه على القبائل وإجراء إصلاحات داخلية منها تنظيم جيشه وتدريبه. واتسعت رقعة دولته، ولم يبق لفرنسا سوى شريط ساحلي ضيق بوهران وآخر في الجزائر.

... ولكن من زاوية أخرى، يمكن استنتاج أن هذا الشعار كان يصور الوضع الصعب الذي عاشه الأمير. فقد اشتد ضغط الفرنسيين خلال السنوات التالية للمعاهدة وطلب المساعدة من الخلافة العثمانية(1)

__________

(1) وجه الأمير عبد القادر رسائل إلى السلطان العثماني عبد المجيد خان والوزير الأعظم ومصطفى رشيد باشا وغيرهم. تنصب في طلب المعونة. (انظر: مولود قاسم نايت بلقاسم، »الأمير عبد القادر والخلافة العثمانية«، مجلة الثقافة، عدد خاص، 1983، صص. 9 ـ 28). وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن تاريخ إرسال هذه الرسائل إلى السلطنة العثمانية كان سنة 1257 هـ/ 1841 ـ 1842 م.

 

(1/15301)

 

 

في جهاده ضد الفرنسيين ولكن دون جدوى. فالتجأ إلى الله سبحانه وتعالى يطلب نصره ويوكل إليه أمره.

... وفي ضوء ما سبق، يمكن استنتاج بعض الأمور والحقائق التاريخية التي تؤكد مدى الأهمية الكبيرة التي يوليها الأمير عبد القادر للسكة التي كانت بمثابة وسائل إعلامية ودعاوية عبر بواسطتها عن أهم القضايا والأحداث التي عاشها منذ إعلانه الجهاد على العدو الفرنسي. وقد أشرنا إلى بعض هذه القضايا التاريخية عند دراستنا للأصناف السابقة، ونستخلص البعض الآخر من النماذج التالية:

 

(1/15302)

 

 

... من بين الطرز النقدية الأخرى طراز رابع ضرب تاقدمت عام 1256 هـ/ 1840 ـ 1841 م(1). ونقرأ عليه نصوصاً كتابية نفذت بأسلوب الخط النسخي المغربي المعروف:

 

... ... الوجه: ... الظهر:

... ربنا ... ... ضرب في

أفرغ علينا ... تاقدمت

... ... صبراً وتوفنا ... ... 1256

... ... مسلمين ... (2) (شكل 2)

 

... واضح جداً أن الهدف من تسجيل هذه الآية على نقود الأمير هو التعبير عن حالة وأحوال المسلمين معه وعدم استقرار الأمور في الدولة بسبب الضغط الفرنسي على

__________

(1) يوجد النقد بباريس.

(2) الآية 126 من سورة الأعراف.

 

(1/15303)

 

 

أراضيه، وقلة الأنصار، والتخوف من المصير المحترم في نهاية المطاف.

... وقد جعل الأمير من هذه الآية وغيرها من الآيات شعاراً ودعوة إلى حمل جيوشه على المضي قدماً في تحرير أراضي الدولة واستعادة سيادتها، يوحي تاريخ 1256 هـ بقوة الدولة واحتفاظها بمدينة تاقدمت.

... ولم يكتف الأمير بهذه الآية، بل ضرب نقوداً تحمل شعاراً مشابهاً هو: »ربنا أفرغ علينا ـ صبراً وثبت ـ أقدامنا« (شكل 3). وتأسيساً على ما سبق، نستطيع القول إن الأمير عبد القادر الجزائري قد لجأ إلى الحرب النفسية عن طريق الوسائل الإعلامية والدعاوية

 

(1/15304)

 

 

الممثلة في النقود. وكان مصدر هذه السياسة القرآن الكريم ممثلاً في بعض الآيات الكريمات التي قصد من ورائها كسب الأنصار واستمالتهم وإثارة حماسهم إلى الجهاد في سبيل الله من أجل تحرير الوطن وقتال الغزاة. وجاءت نقوده خالية من اسمه لتكون شديدة المفعول في النفوس. ويتضح من منطوق نصوصها أنها تصوير واقعي ومرآة عاكسة لأهم الأحداث التي شهدتها الدولة وهي تحاول بناء أجهزتها والتمكين لنفوذها وبسط سيادتها على الجزائر.

 

(1/15305)

 

 

... ومهما يكن من أمر، فإن دراسة المسكوكات الفضية والنحاسية في عهد الأمير عبد القادر ما زالت مشكلة تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء، ومقارنة (أو مقابلة) نصوصها بما ورد بخصوصها في المراجع التاريخية، لعل ذلك كله يضيء لنا السبيل في هذا المجال.

... ويبقى السؤال الذي يُطرح أمامنا وهو: لماذا لم ينقش الأمير عبد القادر اسمه على النقود التي أصدرتها دار الضرب بالحاضرة تاقدمت؟

... ويبدو أن الزهد في نقش »الاسم على السكة« لم يكن يعني العزوف عن الملك أو الزهد فيه. فوقائع الأحداث السياسية التي عاشها مؤسس

 

(1/15306)

 

 

الدولة خير دليل على ذلك. على الرغم من أهمية السكة بصفتها شارة من شارات الملك ـ إذ لا تقل أهمية عن ذكر اسم الخليفة في الخطبة ـ، فلم يعبأ بها الأمير عبد القادر. ولعل موقفه هذا جاء اقتداء بمن سبقوه من الحكام المسلمين خصوصاً الأمويين والزيريين.

...

الخلاصة

... وبالرغم من قلة المعلومات التي تضمنتها نقود الأمير، فهي تكشف عن حقائق كان الأمير ينوي تحقيقها في الميدان حتى يثبت شخصية الدولة السياسية والاقتصادية على حد سواء، منها:

1 ـ الرغبة في القضاء على تعدد أنواع النقود التي كانت شائعة في التداول.

 

(1/15307)

 

 

2 ـ تحديد طرق التعامل في البيع والشراء طبقاً لمعايير السكة الجديدة التي حددت أقيامها بالنسبة للنقود الأجنبية.

3 ـ إحياء تقاليد السكة العربية اتلي فقدت شخصيتها الحضارية منذ عهد الأتراك العثمانيين الذين أفرغوها من محتواها الروحي.

4 ـ استعمال الآيات القرآنية لأول مرة على السكة المغربية، خاصة الآيات {ربنا افرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} و{ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا} و{إن الدين عند الله الإسلام}.

 

(1/15308)

 

 

نموذج من رسالة الكندي في اللثغة

المنطق في الفكر المغربي الوسيط

... ... ... ... الدكتور عبد السلام بن ميس

... ... ... ... ... ... ... ... كلية الآداب - الرباط

مقدمة

... أورد في البداية التنبيه إلى كلمة " مغرب " الواردة في العنوان أريد بها الإشارة إلى شمال إفريقيا والأندلس معا ، أي ما كان ممثلا في الإمبراطورية الموحدية في العصر الوسيط . هذا من الناحية الجغرافية . أما من الناحية التاريخية فإن المقصود بالفكر المغربي في العنوان هو النشاط الثقافي الذي أفرزته الحضارة المغربية منذ بداية اتصالها

 

(1/15309)

 

 

بالأندلس العربية الإسلامية . وحددنا هذه البداية بالنسبة للمنطق في القرن العاشر الميلادي . وبذلك نكون قد أهملنا الفكر المغربي القديم حيث اتصل المغاربة مباشرة باليونان والرومان ، لعدم تمكننا من الإطلاع على مصادر تحيل على هذه الفترة ، خاصة في ميدان المنطق .

... لماذا وقع اختيارنا على هذا الموضوع ؟

... إن السبب الرئيسي لهذا الاختيار هو كون موضوع " المنطق في الفكر المغربي " غير معروف بما فيه الكفاية ، لا فقط عند عماة المثقفين ، بل أيضا عند أغلبية الذين أرخوا للمنطق العربي الإسلامي بشكل عام . لكم

 

(1/15310)

 

 

كانت دهشتنا كبيرة عند رجوعنا إلى كتب تاريخ المنطق العربي الإسلامي حيث وجدنا مؤلفيها لا يعيرون للمنطق المغربي أي اهتمام . ففي كتابه "تطور عند العرب " (1) يعرض نيكولا ريشر قائمة بأسماء الناطقة العرب منذ الفارابي

( ؟ - 950 م ) حتى الأخضري ( ؟ - 1575 م ) أي منذ القرن 9 م حتى القرن 16 م ، دون

__________

(1) نيكولا ريشر ، تطزر المنطق العربي ، ترجمة محمد مهران ، دار المعارف ، 1985 ، صدر الأصل الإنجليزي سنة 1964 تحت عنوان : The Development of Arabic Logic , Univ . of Pittsburgh Press .

 

(1/15311)

 

 

أن يذكر من بينهم ولو منطقيا واحدا من المغرب الأقصى. تحتوي قائمته هذه على 166 منطقيا عربيا إسلاميا من بينهم 14 مفكرا أندلسيا كتبوا في المنطق ومفكرا واحدا من المغرب الأدنى وهو ابن خلدون وأربعة مفكرين من المغرب الأوسط، أي الجزائر الحالية وهم : محمد بن أحمد التلمساني ( ؟ - 1379 م ) ومحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني ( ؟ - 1438 م) وأبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي ( ؟ - 1488 ) وأبو زيد عبد الرحمان بن محمد الأخضري ( ؟ - 1575 م). وفي كتابه " منطق العرب" (1)

__________

(1) عادل فاخوري ، منطق العرب ( من وجهة نظر المنطق الحديث) ، بيروت، دار الطلية للطباعة والنشر، 1980.

 

(1/15312)

 

 

لا يحيل عادل فاخوري على أي منطقي مغربي، ويعتبر الجزائريين السنوسي والأخضري مجرد شراح ولا أصالة لهم. إن هذه المواقف من تاريخ الفكر المغربي بشكل عام ومن الإنتاج المغربي في المنطق بشكل خاص هي التي دفعتنا إلى محاولة التحقق من هذه الأحكام والرجوع إلى المصادر التاريخية للفكر المغربي لمحاولة فحص هذه المواقف وتقويمها إن اقتضى الحال.

تطور المنطق العربي الإسلامي بشكل عام

... من المعروف أن المنطق في الفكر العربي الإسلامي بشكل عام مر بمجموعة من المراحل نجملها فيما يلي :

 

(1/15313)

 

 

... 1- فترة الترجمة ودامت طيلة القرن 9 م .

... 2- فترة الشروح الأولى ودامت كل القرن 10 م. وفي هذه الفترة نشأت مدرسة بغداد ... المعروفة التي تمركز فيها المنطق العربي بصفة عامة خلال القرن 10 م. رغم هذا ... التمركز للمنطق في بغداد، فإن الأندلس أيضا، في نفس القرن، عرفت مناطقة أكفاء ... مثل الحمار ( ؟-1010 م) وابن بدر الأندلسي ( ؟ - 1020 م ) وابن البغونش الطليطلي ... ( ؟ - 1052 م ).أما المغرب في القرن 10 م فلم يكن يولي أي اهتمام للدراسات ... الفلسفية والمنطقية حسب نيكولا ريشر نفسه (1)

__________

(1) نيكولا ريشر، المرجع السابق، ص.163.

 

(1/15314)

 

 

.

 

... 3- فترة ابن سينا . وهي التي دامت كل القرن 11 م. وفيها ظهر بن حزم الأندلسي

... (؟ - ... 1064) والدارمي الأندلسي ( ؟ - 1070 م). وبقدر ما كان ابن سينا مسيطرا ... علىالفكر المشرقي بقدر ما كان ابن حزم مستقلا عن ابن سينا وحتى عن الغزالي ... الذي ظهر في نفس الفترة. ومنذ القرن 11 م تم إدخال المنطق في التعليم الديني تحت ... تأثيرالغزالي بالمشرق وابن حزم بالمغرب والأندلس.

... 4- الفترة الأندلسية. وهي المتمثلة في القرن 12 م. وفيها ظهر ابن رشد ( ؟ - 198 م) ... وأبوالصلت ( ؟ - 1134 م) وابن حسداي ( ؟

 

(1/15315)

 

 

- 1140 م) وابن باجة ( ؟ - 1138 م ) ... وابن زهر ( ؟ - 1162 م) وابن ميمون ( ؟ - 1204 م) وابن بندود ( ؟ - 1200 م) ... وسمي ... القرن 12 م الفترة الأندلسية لكون الأندلس ساهمت بنصف مناطقة العرب ... لهذا القرن. وكان أغلبهم من المتسوى الرفيع.

... 5- الفترة الذهبية في تاريخ المنطق العربي الإسلامي. وهي التي تمثلت في القرن 13 م. ... فقد كان عدد المناطقة وعدد المؤلفات في المنطق لهذه الفترة أكثر منها في أية فترة ... أخرى. وفيها ... انفصل المنطق عن الطبب واربتط بعلم الكلام وبالموضوعات العلمية ... خاصة

 

(1/15316)

 

 

الرياضيات والفلك. وفي هذه الفترة فتر نشاط مدرسة بغداد ونشط المنطق ... بفارس. أما الأندلس ... فلم تساهم إلا بمنطقيين هما : ابن طملوس ( ؟ - 1223 م) ... وابن سبعين ( ؟ - 1270 ... م). ويمكن تفسير هذا التراجع بالعداء الشعبي والديني ... للمنطق بالأندلس في هذه الفترة. ... أما في المشرق العربي فقد وصل المنطق العربي ... الإسلامي قمة تطوره مع ظهورا لخونجي( ؟ - 1249 م ) والأرموي ( ؟ - 1283 م) ... والأبهري ( ؟ - 1265 م )والقزويني الكاتبي( ؟ - 1292 ) وابن تيمية ( ؟ - 1328 م).

 

(1/15317)

 

 

... 6- فترة بداية الجمود التي تنطلق ابتداءا من القرن 14 م. وفيها توقف التعامل المباشر ... مع النصوص الأرسطية خاصة بالمشرق. وأصبح العلماء والدارسون يلتمسون المنطق ... من المختصرات والشروح المحلية، وهي ظاهرة سبق لابن خلدون أن اشتكى منها في ... مقدمته. وانطلاقا من هذه الفترة، لم يبق أي إبداع في المنطق العربي الإسلامي حسب ... ريشر وفاخوري وغيرهما من مؤرخي المنطق العربي. وأصبح المهتمون بهذا الأخير ... مجرد معلمين يشرحون النصوص ويضعون عليها حواشي. وفي هذه الفترة وبعدها ... سيطرت على دارسي ومدرسي

 

(1/15318)

 

 

المنطق أمهات الكتب التالية :

( أ) ... "مطلع الأنوار" للأرموري ( 1198 - 1283 م).

( ب ) الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية للقزويني الكاتبي ( ؟ - 1277 م). وعلى ... هذا الكتاب شروح كثيرة أهمها : "تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة ... الشمسية" للتحتاني ( ؟ - 1365 م) و " شرح الشمسية في المنطق" لمسعود بن عمر ... التفتازاني ( ؟ - 1390 م). ويعتبر عادل فاخوري كتاب " الرسالة الشمسية" من أهم ... للمنطق عند العرب. وفيه معظم الموضوعات المتسحدثة في هذا الميدان إلى جانب تلك ... التي عرضت في كتاب " مطالع

 

(1/15319)

 

 

الأنوار" للأرموري وهي : إحصاء شامل للقضايا ... المقيدة بالجهة والزمان وبناء صارم لنظرية المجموعات وبحث مستوف للقضايا ... الشرطية مع محاولة نظمها في نسق استنباطي وإشارات أولى إلى منطق العلاقات.

( ج ) كتاب إيساغوجي في المنطق للأبهري ( ؟ - 1964 م). وعلى هذا الكتاب أيضا شروح ... كثيرة نذكر منها : " شرح على إيساغوجي" لأحمد بن عبد الرحمان الأبدي البجائي ... ( ق 13 م)؛ "سروجي المشرق على إيساغوجي المنطق" لإبراهيم ... بن محمد بن عبد ... القادر التادلي الرباطي ( ؟ - 1893 م)؛ " شرح على الكليات المعروفة

 

(1/15320)

 

 

بإيساغوجي" ... لزكرياء الأنصاري؛ " شرح على إيساغوجي في المنطق" لمحمد

... بن يوسف السنوسي ( 1428 م - 1490 م)؛ "شرح إيساغوجي" لعلي بن محمد ... القلصادي الأندلسي؛ " فوائد في الرسالة الأثيرية" لمحمد بن حمزة الفناري.

( د ) مختصر في علم المنطق للسنوسي ( 1428 م - 1490 م ). وعليه شروح مختلفة أهمها : ... "شرح المختصر في علم المنطق" للسنوسي نفسه؛ "نفائس الدرر في حواشي ... المختصر" لابن مسعود اليوسي؛ "حاشية على شرح مختصر السنوسي في المنطق" ... للحسن اليوسي ( ؟ - 1102 هـ) ؛ " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر

 

(1/15321)

 

 

المنطقية" ... لأحمد بن عبد العزيز السجلماسي الهلالي ( ؟ - 1761 م).

... هذه باختصار هي أهم المراحل التي مر بها المنطق في العالم العربي الإسلامي بشكل عام.

تطور المنطق في الفكر المغربي الوسيط

... أما فيما يخص الكتابات المغربية في المنطق فإن مؤرخي هذه المادة لا يولونها الاهتمام الذي تستحقه في نظرنا. لقد بدأ مغاربة العصر الوسيط يكتبون في المنطق مباشرة بعد فترة انحطاط المنطق العربي الإسلامي المشرقي والأندلسي . وحسب المصادر التي اطلعنا عليها وجدنا أن الفكر المغربي الوسيط أفرز أكثر من ستين منطقيا لا

 

(1/15322)

 

 

تزال أغلب مؤلفاتهم عبارة عن مخطوطات في خزانات مغربية مختلفة. وعن هؤلاء المناطقة المغاربة سوف نتحدث الآن.

... حسب المعلومات التي مدتنا بها مصادر تاريخ الفكر المغربي، لم يظهر أي مؤلف في المنطق بالمغرب على عهد المرابطين ( 1070 م - 1147 م). ففي هذا العصر اهتم الناس بالعلوم الدينية واللغوية فقط. وحسب الأستاذ بن شريفة (1)، يمكن اعتبار أبي علي الماكري ( ؟ - 1270 م)، صاحب كتاب " أسهل الطرق إلى فهم المنطق " أول مغربي ألف في المنطق

__________

(1) محمد بن شريفة ، أول تأليف في المنطق، المناظرة ، عدد 2، 1989، ص.27-56.

 

(1/15323)

 

 

(1) . والماكري هذا تلميذ لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي ( ؟ - 1228 م) صاحب كتاب " لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول " (2) . ولقد عاصر ميلاد هذا الفيلسوف المغربي ظهور الدولة الموحدية ( 1147 م - 1269 م). في هذه الفترة

__________

(1) تم تحقيق كتاب الماجري من طرف الأستاذ بن شريفة، أنظر الخامس ( 4 ) أعلاه.

(2) أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي ، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، تحقيق فوقية حسين محمود، القاهرة، دار الأنصار، 1977. ننبه هنا إلى أن التحقيق الذي قامت به فوقية حسين سيء جدا.

 

(1/15324)

 

 

ظهرت مؤلفات مغربية أندلسية في المنطق على شكل مداخل، من بينها :

كتاب " أسهل الطرق إلى فهم المنطق" للماكري؛

كتاب "الضروري في المنطق" لابن لاشد ( ؟ - 1198 م) ؛

"شرح منظومة ابن سينا في المنطق" لابن بندود ( ؟ - 1200 م)؛

" مقال في صناعة المنطق" لابن ميمون ( ؟ - 1204 م)؛

كتاب " المدخل لصناعة المنطق " لابن طملوس ( ؟ - 1223 م ).

... كما ظهرت بالمغرب شخصيات أخرى اشتهرت بإتقانها للعلوم العقلية. ومن بين هؤلاء أبو عمر بن الكتاني الفاسي ( ؟ - 1202 ) و أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن حجاج بن الياسمين الفاسي (

 

(1/15325)

 

 

؟ - 1270 م) وأبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي( ق 13 م) وأبو محمد بن يحيى الأغماتي ( ق 13 م) وأبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالي ( ق 13 م ) الذي يقول عنه الأستاذ المنوني بأنه كان أعلم الناس بالمنطق على عهد الموحدين.

... وهكذا يمكن ملاحظة أن القرن 13 م الذي يعتبره مؤرخو المنطق العربي الإسلامي بداية لفتور الاشتغال بالمنطق في العالم الإسلامي بصفة عامة، هو في المغرب، على العكس من ذلك، قرن ازدهار ونشاط ثقافي مكثف فيما يخص العلوم العقلية بشكل عام والمنطق بشكل خاص. وقد يقول بأن هذا الإنتاج

 

(1/15326)

 

 

الثقافي في ميدان العلوم العقلية راجع إلى التشجيع الذي قدمته السلطة الموحدية لرجال الفكر بصفة عامة. هذا صحيح، ولكن ينبغي أن لا ننسى، من جهة أخرى، أن فقهاء هذه الفترة عرقلوا ما أمكنهم النشاط الفكري في ميدان المنطق على الخصوص وذلك بتحريم الاشتغال به. وهذا ما فعله ابن جبير وأبو زيد الفازازي وابن قسوم الإشبيلي وجابر بن محمد المالقي وأبو عبد الرحمان الركراكي (1) . بل حتى الصوفية، وعلى رأسهم ابن سبعين، صارعوا المنطق في صورته الأرسطية. ولكن،

__________

(1) أنظر : محمد بن شريفة، المرجع السابق، هامش ( 4 ) أعلاه.

 

(1/15327)

 

 

رغم كل تلك العراقيل، نشط التأليف في المنطق ودافع عنه مفكرون كثيرون.

... أما القرن 14، الذي يعتبره مؤرخو المنطق العربي الإسلامي فترة جمود، فيمثل بالنسبة للمغرب فترة ازدهار في ميدان العلوم العقلية. ففي هذه الفترة ظهر كتاب " الكليات في المنطق" لابن البناء المراكشي ( ؟ - 1322 م) و "شرح لمختصر الخونجي" لابن مرزوق التلمساني ( ؟ - 1379 ) و " ملخص في المنطق" لابن خلدون ( ؟ - 1406 م) لم يحفظه الزمن، لكنه خصص فصلا للمنطق في مقدمته. كما برع في هذا الميدان دون التأليف فيه كل من محمد بن محمد بن علي بن

 

(1/15328)

 

 

البقال ( ؟ - 1325 م) وأبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي

( ؟ - 1349 ) وأبو زيد عبد الرحمان بن أبي الربيع اللجائي ( ؟ - 1372 م).

... أما في القرن 15 م، فقد تقوت سلطة الفقهاء أكثر وتقلصت الفلسفة بالمغرب، وزامن كل ذلك بداية اختفاء المؤلفات الأندلسية، وبالتالي عرف التأليف في ميدان المنطق بالمغرب خمولا واضحا بحيث لم يظهر في قرن بكامله، وهو القرن 15 م، إلا كتابان هما : " شرح إيساغوجي" لعلي بن محمد بن يوسف السنوسي ( 1428 م - 1488 م) وباختفاء المؤلفات الأندلسية أصبح التدوين في ميدان المنطق متمغربا أكثر

 

(1/15329)

 

 

لكنه أيضا أصبح مدرسيا أكثر. فانتشرت المنظومات الرجزية المعدة للطلبة وكثرت الشروح وشروح الشروح. ومن النصوص التي كانت لها شهرة كبيرة على عهد السعديين ( أي القرنين 16 و 17 ) أرجوزة " الذرر المنطقية" لعبد العزيز بن عبد الواحد المراكشي ( ؟ - 1572 ) وأرجوزة " السلم المرونق" للأخضري ( ؟ - 1585 م) و " منظومة رجزية في المنطق" لأبي زيد عبد الرحمان البوعقيلي الجزولي ( ؟ - 1598 م) و " شرح سلم الأخضري" لحسن بن يوسف الفاسي الزياني

 

(1/15330)

 

 

( ؟ - 1614 م ) و " الطالع المشرق في أفق المنطق" لمحمد العربي الفاسي ( ؟ - 1642 م) وأبو العباس أحمد بن علي المنجور الفاسي ( ؟ - 1587 م) وأحمد التقليتي المراكشي ( ؟ - 1590 م) وأبو القاسم بن سودة الفاسي ( ؟ - 1595 م) وعلي الياصلوتي ( ؟ - 1630 م) وييبورك السملالي ( ؟ - 1648 م ) وياسين العليمي ( ؟ - 1651 م) وغيرهم. ومن خواص العلوم التجريبية والرياضيات والمنطق. ولقد عرف عهد السعديين مزيدا من الإقبال على علوم القرآن والدراسات اللغوية والأدبية. أما كتب العلوم العقلية فقليلة جدا. ففي المنطق مثلا لم يتعد

 

(1/15331)

 

 

عدد النصوص التي ألفت في هذا العلم خسمة وهي المذكورة آنفا. وفي هذه الفترة أيضا عمت ظاهرة الاختصار وقل الإبداع. وبعد وفاة المنصور الذهبي أصاب الحركة الفكرية، بشكل عام، فتور كبير. ولما جاء المولى محمد بن عبد الله حرم الاشتغال بعلم الكلام والمنطق والفلسفة. ومن تم اتجه اهتمام الشغوفين بالعلوم العقلية إلى الاشتغال بالرياضيات والهندسة. ومن بين المبرزين في هذه العلوم نذكر ابن سليمان الروداني ( ؟ - 1684 م) وأبو زيد الفاسي ( ؟ - 1685 م) وأحمد بن مبارك اللمطي وعبد الوهاب أدراق وعبد الله بن عزوز المراكشي.

 

(1/15332)

 

 

أما في يخص مادة المنطق، فرغم الحصار الذي ضربه عليها الفقهاء والسلطة السياسية فقد

ظهرت فيها مؤلفات لا يستهان بقيمتها العلمية. نذكر من بينها كتاب : "القول الفصل في تمييز الخاص عن الفصل" لأبي علي حسن بن مسعود اليوسي ( ؟ - 1691 م) الذي يصفه الهلالي بكونه "أعجوبة الزمان وعلامة الأوان"، ثم " حاشية على مختصر السنوسي" لنفس اليوسي و " تقييد في النسبة الحكمية بين الطرفين الموضوع والمحمول" له أيضا، و " الجواهر المنطقية" لعبد السلام بن الطيب القادري الفاسي ( ؟ - 1689 م) و " شرح سلم الأخضري"لمحمد بن مدين

 

(1/15333)

 

 

السوسي ( ؟ - 1709 م) وشرح آخر لسلم الأخضري لأبي بكر الفرجي السلاوي ( ؟ - 1726 م).

... وفي هذا العصر أيضا، أيام السلطان محمد بن عبد الرحمان، أسست المطبعة الحجرية بفاس وكان اختيار كتاب لطبعه بالمطبعة الحجرية هو في حد ذاته مقياسا لأهمية الكتاب. وبها طبع لأول مرة مؤلف مغربي في المنطق وهو كتاب : " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية" لأحمد بن عبد العزيز الهلالي ( ؟ - 1761 م). بن عبد الله الفاسي ( ؟ - 1773 م) و " حاشية على مختصر السنوسي في المنطق" لأبي عبد الله محمد بن الحسن بناني

 

(1/15334)

 

 

( ؟ - 1773 م) و " شرح السلم المرونق" لنفس بناني و "تقييد في الفرق بين الدلالة العادية والوضعية" له أيضا و " شرح منظومة الجرادي البوعقيلي" لمحمد بن عبد الله بن يعقوب، و "شرح إيساغوجي" لعالم من إيلالن و " تقييد في الفرق بين النسبة والحكم" للطيب بن عبد المجيد بن كيران ( ؟ - 1812 ) و " حاشية على شرح بناني للسلم" لعلي بن إدريس قصارة الحميري ( ؟ - 1843 م) و " سروجي المشرق على إيساغوجي المنطق" لإبراهيم بن محمد التادلي الرباطي ( ؟ - 1893 م) و " شرح على السلم" لأحمد بن الطالب بن سودة

 

(1/15335)

 

 

( ؟ - 1919 ) و "ختم سلم الأخضري في المنطق" للمكي البطاوري الرباطي ( ؟ - 1936 م) وهو كتاب طبع أيضا بالمطبعة الحجرية بفاس. وبالإضافة إلى هذه الشروح المحلية كان المغاربة يتعلمون ويعلمون المنطق حتى الخمسينات من القرن العشرين اعتمادا على المصادر الأساسية التالية :

... - كتاب " إيساغوجي في المنطق " لأثير الدين الأبهري ( ؟ - 1265 م)؛

 

... - كتاب " السلم المرونق" للأخضري ( ؟ - 1575 م) وهو كتاب طبع غير ما مرة بالمطبعة الحجرية بفاس نظرا لقيمته العلمية.

... - كتاب " الجمل " للخونجي ( ؟ - 1294 م).

 

(1/15336)

 

 

... - "مختصر في المنطق" للسنوسي ( 1428 م - 1490 ) الذي كان أهم كتب التدريس بالقرويين منذ القرن 15 م.

... - " الرسالة الشمسية" للقزوين الكاتبي ( ؟ - 1256 م) .

... - " شرح السلم المرونق" للقويسني. وهو أشهر الكتب المتداولة بمدارس سوس

العتيقة (1) .

ما هي القيمة العلمية لما كتبه المغاربة في المنطق ؟

... ... هذه عجالة تاريخية حول تطور التأليف في المنطق بالمغرب . ولقد لاحظنا أن ما دون في المنطق بالمغرب، من حيث الكم، كثير فعلا، رغم

__________

(1) أنظر : المختار السوسي ، سوس العالمة، مطبعة فضالة، المحمدية ، 1960.

 

(1/15337)

 

 

المعارضة الشديدة التي كان يبديها، من حين لآخر، بعض الفقهاء وبعض رجال السلطة ضد المنطق باعتباره مدخلا للفلسفة والفلسفة شر. ولكن مؤرخي المنطق العربي الإسلامي لم يأخذوا بعين الاعتبار الإنتاج الفكري المغربي في ميدان المنطق لاعتقادهم أن هذا الإنتاج لا يتعدى مستوى الشروح والحواشي. وبالتالي فلا إبداع فيه ولا أصالة. وهذا، في اعتقادنا، حكم يقتضي المراجعة. إذ يكفي أن نأخذ كتابا من بين الكتب المذكورة أعلاه، وليكن على سبيل المثال كتاب الهلالي الآنف الذكر يطلقه بعض مؤرخي المنطق العربي الإسلامي، عربا كانوا

 

(1/15338)

 

 

أو أجانب، على الفكر المغربي العلمي. يقول المرحوم عبد الله كنون في كتابه : " النبوغ المغربي" (1) عن الهلالي، مؤلف " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية" (2) ما يلي : "أبو العباس أحمد بن عبد العزيز ... الهلالي السجلماسي هو أحد الأئمة في المنطق والحساب والهندسة، وفاق جميع

__________

(1) عبد الله كنون ، النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثالثة، 1975.

(2) أحمد بن عبد العزيز الهلالي، الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقيةلأ، طبع بالمطبعة الحجرية بفاس سنة 1313 هـ، في 272 صفحة.

 

(1/15339)

 

 

أقرانه في تحقيق هذه العلوم . هو صاحب " الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية " ، وهو شرح ل " ـلمنظومة القادرية في المنطق " لأبي الفضل عبد السلام القادري . وشرحها هذا قل أن يكون له نظير . استقى من بحره من أتى بعده " . ولما رجعنا إلى هذا الكتاب وجدنا فعلا مؤلفا يستحق أن يقارن بما يعتبره عادل فاخوري قمة العطاء العربي الإسلامي في المنطق المتمثل في كتابي " مطالع الأنوار " للأرموي (؟ -1283 م ) و " الرسالة الشمسية " للقزويني الكاتبي ( ؟-1256 م ) . فكتاب الهلالي هذا ليس مجرد تقييد أو حاشية . ولكنه

 

(1/15340)

 

 

مؤلف تحتوي طبعته الحجرية ، وهي في 272 ص ، على إحصاء شامل لكل القضايا. وفي مبحث القضايا بالذات استفاض الكاتب على الخصوص في القضايا الشرطية . وله أيضا في مبحث الدلالة كلام طويل وملاحظات أساسية لا تخلو من أصالة . بل نجده أحيانا يمر من علم المنطق إلى فلسفة المنطق فيحلل ويناقش مفهوم الكذب ومفهوم التناقض ومفهوم الخبر في الجمل الخبرية ، ويربط كل ذلك بمبحث الدلالة . ونجده أيضا يمارس نوعا من علم النفس المعرفي فيميز بين الكلام النفسي والكلام اللساني والتصديق النفسي والتصديق اللساني . أما مبحث الموجهات

 

(1/15341)

 

 

فيعتبر في اعتقادنا من أغنى المباحث وأكثرها أصالة عند الهلالي . وأثناء حديثه عن القضايا الحملية و أصنافها تعرض الكاتب إلى أحوال المحمول في علاقته بالسور وهو أمر قل من يتحدث عنه في المناطقة العرب (1) .

... وهكذا نلاحظ أن المغاربة الذين اشتغلوا بالمنطق منذ القرن 13 م ليسوا مجرد معلمين للمنطق أو شارحين فقط للمشارقة الذين سبقوهم . فإذا كان المنطق بالمشرق قد دخل مرحلة الانحطاط منذ القرن الرابع عشر الميلادي ، فإن المنطق بالمغرب قد في نفس القرن

__________

(1) نجده مثلا عند الخونجي في كتابه : الجمل في المنطق .

 

(1/15342)

 

 

مرحلة الازدهار . وهذا هو الأمر الذي دعانا إلى إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي ككل والمغربي خاصة .

... إن للمنطق في الفكر المغربي أصالة تتعارض ومبدأ تعميم الأحكام التي تقال عادة على الفكر العربي الإسلامي بصفة عامة . وهذه الأصالة لا تقال فقط على المنطق كعلم مستقل ، بل أيضا على المنطق كتقنية طبقها المغاربة في ميادين أصول الفقه وأصول الدين والكلام واللغة . ولقد كتب المغاربة في هذه الميادين . ما لا يسمح المقام بإدراجه . يكفي أن نعرف أن الفكر المغربي احتضن مدارس في هذه الميادين تختلف إلى حد كبير

 

(1/15343)

 

 

عن مدارس المشرق العربي في نفس الميادين .

تختلف إلى حد كبير عن مدارس المشرق العربي في نفس الميادين . فمدرسة ابن حزم في الأصول ليست هي مدرسة الغزالي . وطريقة تطبيق الهلالي لنظرية الدلالة على الكلام الإلهي القديم أقرب إلى الواقعية الرشدية منها إلى العقلية المشرقية . وتصور علاقة المنطق باللغة عند ابن حزم يختلف عن تصور هذه العلاقة عند الفارابي مثلا .

... وإلى جانب هذه المدارس الأصولية الكلامية ، ظهرت أيضا مدرسة فلسفية مغربية أخرى استفادت من الفكر اليوناني بطريقة أصيلة لتطوير الدراسات البلاغية .

 

(1/15344)

 

 

تشكلت هذه المدرسة خلال القرنين 13 م و 14 م . ثم انتشرت بمراكز ثقافية مغربية مثل سبتة وفاس وسجلماسة ومراكش . وهي مدرسة لها مميزات تجعلها تختلف عن المدارس المشرقية في ميدان الدراسات اللغوية . ومن بين روادها يمكن الاكتفاء بذكر ابن البناء المراكشي في كتابه : "الروض المريع في صناعة البديع " ، وحازم القرطاجني ( ؟ - 1286 م ) في كتابه : " مناهج البلغاء وسراج الأدباء " ، والسجلماسي في كتابه " المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع" ، وابن عميرة في كتابه :" التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات " ،

 

(1/15345)

 

 

وغيرهم. لقد استطاعت هذه المدرسة أن تتجاوز الإرث اليوناني والأندلسي معا وتجعل من المنطق تقنية في خدمة اللغة (1)

... ومما يزيد في تمييز الفكر المغربي الوسيط وجود اتجاه معرفي بالمغرب يتبنى منطقا جديدا غير مؤسس على التمييز الكلاسيكي بين قيمتي الصدق والكذب كما هو معتاد في منطق أرسطو ، أو على مبدأ التناقض الذي هو أساس النطق الصوري الثنائي القيم . ويمثل هذا الاتجاه على الخصوص

__________

(1) انظر تفاصيل هذه المسائل في كتاب : محمد مفتاح ، التلقي والتأويل ، مقارنة نسقية ، المركز الثقافي العربي الطبعة الألوى ، 1994 .

 

(1/15346)

 

 

الفيلسوف المغربي محيي الدين ابن سبعين ( ؟ - 1270 م ) . فهو مفكر يبني منطقه على نفي الزمان ونفي العلة ونفي المتناقضات . ويذكر موقفه هذا بنظرية هيجل في التصور وبالاتجاه الحدسي في المنطق المعاصر وبموقف الفيلسوف بول فايرابند من مفهوم العقل وبموقف بعض الفيزيائيين المعاصرين من مفهوم الوعي . لقد حمل ابن سبعين على الفلاسفة لقولهم بعالم العقل وعالم النفس وعالم الطبيعة ولقولهم أيضا بالأول والعلة والواجب بذاته . فهذه التمييزات بالنسبة لها كلها أوهام . أما الفقهاء فلا مرتبة لهم بالنسبة لابن سبعين. وأما

 

(1/15347)

 

 

خصمه الألذ فهو ابن سينا . ويرى أن هذا الأخير " مموه ومسفسط ، كثير الطنطنة ، قليل الفائدة ، وما له من التأليف لا يصلح لشيء " . أما عن الغزالي فيقول ابن سبعين : " إنه لسان دون بيان ، وصوت دون كلام ، وتخليط بجميع الأضداد ، وحيرة تقطع الأكباد ، مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير . وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت " . ويواخد ابن سبعين على الفارابي كونه يتناقض ويضطرب . فهو يقول آراء مختلفة بحسب الكتب المختلفة . وينتقد أيضا ابن سبعين الفيلسوف ابن رشد لشدة تقليده

 

(1/15348)

 

 

لأرسطو إلى درجة أن ابن رشد لو سمع أرسطو يقول إن القائم قاعد في زمان واحد لقال هو أيضا بذلك واعتقده .لا يرغب ابن سبعين في اعتبار نفسه متأثرا بأي فيلسوف آخر مشرقيا أكان مغربيا . وهو فعلا شخصية غربية تستحق فلسفته كل العناية لما فيها من أصالة . يقول عنه بعض المستشرقين إنه قام بأول محاول لنقد، فساني لتاريخ الفلسفة الإسلامية .

... هذه باختصار بعض مميزات المنطق في الفكر المغربي الوسيط ، نتمنى أن ينصفه مؤرخو الفكر العربي الإسلامي عامة و أن يعوا أن الفكر المغربي فكر قائم بذاته وليس مجرد امتداد للفكر

 

(1/15349)

 

 

المشرقي .

علاقة المنطق بالفكر الديني بالمغرب الوسيط

... من المعروف أن مادة المنطق ، في شكلها الأرسطي على الأقل ، مادة دخيلة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي . أضف إلى ذلك أن المنطق ، باعتباره علما وضعيا ، يشوش على العقائد الإيمانية التي غالبا ما تتأسس على معطيات غير برهانية . جعل هذان العاملان الفقهاء وعامة الناس وبعض الفلاسفة ينفرون وينفرون من المنطق ويصدرون فيه فتاوي تصل أحيانا إلى حد تحريمه ، سواء بالمشرق أو بالمغرب . ففتاوي ابن الصلاح وابن تيمية ضد الاشتغال بالمنطق ومعروفة . ومعروفة كذلك

 

(1/15350)

 

 

بالغرب الإسلامي مواقف ابن جبير وابن قسوم المعادية للفلسفة والمنطق . وكم من مفكر لقي حتفه نظرا لتعاطيه للفلسفة وللمنطق : فلقد أعدم المكولي وحوكم ابن خمسين واضطر الآبلي إلى الفرار وحصلت نكبة ابن رشد لأسباب أهمها تعاطي هؤلاء المفكرين للفلسفة وترجيح المعقول على المنقول .

... لقد كانت علاقة المنطق بالدين علاقة صعبة منذ ترجمة كتب أرسطو في القرن 9 م . في هذه الكتب عرض أرسطو المنطق كمقدمة للفلسفة . وبما أن الفلسفة شر حسب الرأي السلفي ، فإن المنطق أيضا لا يمكن أن يكون إلا شرار . وبهذه السذاجة تم إبعاد

 

(1/15351)

 

 

المنطق من حظيرة الفكر الإسلامي لمدة غير قليلة . لكن رغم كل ذلك ، استطاع المنطق أن يشق طريقه عبر كل العراقيل الفقهائية بفضل علماء أجلاء أدركوا كنه العلم واستغلوه بذكاء في بناء مناهجهم المعرفية . وبذلك عمموا معيارية المنطق لتشمل كل المعارف البشرية بما فيها المعارف الدينية . فلم يعد المنطق مقصورا على الفلسفة وحدها ، بل يمكن اعتباره مدخلا لكل العلوم البشرية . وهكذا نجد أبا علي الماجري ، وهو أول مغربي مسلم كتب في المنطق الصوري ، ويعتبر هذا الأخير هبة من الله . ونجد ابن حزم الأندلسي يشترط معرفة

 

(1/15352)

 

 

المنطق في كل من يرغب في ممارسة الاجتهاد . ونجد أيضا ابن طملوس يؤلف كتابا بكامله فيه يحث على تداول المنطق والاستعانة به لفهم النص الديني سواء من حيث كونه بناء لغويا أو فكريا . ويقول الشيخ السنوسي في شرحه لكتاب "مختصر في المنطق " : " من يحرم المنطق ر معرفة له بتحقيقه " .

... وهكذا نخلص إلى القول بأن دور المغاربة في تطوير المنطق العربي الإسلامي دور حاسم سواء على مستوى المضمون أو على مستوى تداول العلم كتقنية . لقد ساهموا مساهمة لا يستهان بها في رد الاعتبار إلى علم المنطق وإلى كل العلوم العقلية

 

(1/15353)

 

 

الأخرى وذلك بإلحاحهم على إعمال العقل والاهتمام بعلومه واعتبار المنطق مادة مكملة لعلوم الدين وليست مادة معارضة لها . لهذا لابد من إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي الإسلامي والأخذ بعين الاعتبار ما دونه المغاربة في هذا العلم منذ القرن 14 م .

 

(1/15354)

 

 

وحدة الفكر العربي من الخليج إلى المحيط فُصحى العاميات مظهر لهذه الوحدة

 

... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الله

... عضو أكاديمية المملكة المغربية والمجامع العربية والمجمع العربي الهندي

 

... إن أغلب الأصول والقواعد الأساسية مشتركة بين الفصحى والعامية، حتى ما يتصل بالقلب والإبدال والتسهيل والترخيم والنحت وغير ذلك. وتمتاز العامية(1)

__________

(1) ... العامية هي ما يسميه الجاحظ بلغة المولدين والبلديين (البيان والتبيين، ج 1، ص. 111). وقد لاحظ أن في كل مدينة ألسنة ذلقة؛ غير أن اللحن كان فاشياً في العوام (ص. 111).

... وقد تحدث أحمد أمين عن العامية في القرن الرابع، فقال: »إن اللغة العامية اصبح معترفاً بها يبحث في ألفاظها وأساليبها وينتقي منها خيرها إلا بعض علماء كأبي العلاء المعري... «(ظهر الإسلام، ج 2، ص. 100).

 

(1/15355)

 

 

بمظاهر بسيطة تجعلها في بعض الأحايين أكثر إيغالاً في القلب والتسهيل.

... ونضرب لهذه الوحدة الأصلية أمثلة وجيزة لا تنفرد بها العامية في المغرب الأقصى وحده، بل تمس اللهجات الدارجة في معظم أجزاء العالم العربي(1)

__________

(1) ... توجد في مجمع اللغة العربية بالقاهرة لجنة للهجات من أهدافها استقراء الألفاظ والتراكيب الجارية على ألسنة أهل الأقطار العربية من الناحية الصوتية ومن ناحية المعنى وتدوين هذا في معاجم وأطالس لغوية. وقد اتخذت اللجنة لهجة القاهرة مقياساً. وترتكز اللجنة في هذا البحث على تنقل القبائل، لما له من أثر كبير في لهجات الأقاليم وتطورها واختلافها (مجلة المجمع، ج 7).

 

(1/15356)

 

 

. فمن مجالي التخفيف في اللسان الفصيح والتي أثرت في ألسنة العامة وجود مترادفات يختلف بعضها عن بعض بإضافة حرف واحدٍ. وقد اختار الدهماء لتخاطبهم اليومي أخفها نطقاً، وإن كان أكثرها أحرفاً، مما يؤكد أن عقلية العامة لا تنحرف عادة عن الأصيل إلا إذا لم تجد في صيغه ما يتفق وطبيعتها الميالة إلى التسهيل. ومن أمثلة ذلك: رز ـ أرز (رز) ـ سبل (سنبل) (سبولة في العامية) ـ سطل وسيطل (سطل) ـ قحوان وأقحوان (قحوان) ـ لوباء ولوبياء (لوبياء) ـ مونة ومؤونة (مونة) ـ وز ـ اوز (وز) ـ دغر ودغمرو، أي خلط (دغمر) ـ طلمس وطمس

 

(1/15357)

 

 

الكتابة بمعنى محاها(1) ـ فطحه وفرطحه، أي جعله عريضاً (فطح وفرطح) ـ قصم وقصمل، أي قطع (قصم) ـ هدم ودهدم (هدم).

... وهناك مترادفات يختلف ترتيب حروفها مثل جبذ وجذب وخربش وخرشب العمل، أي لم يتقنه وخشخش(2) وشخشخ السلاح (صوت) ـ دعس وعدس (داس) (3) ـ دعم وعمد ـ أدغم وأدمغ

__________

(1) ... استعملت العامة الكلمتين: طمس بمعنى مَحَا؛ وطلمس بمعنى أخفى (الطلامس، أي الطلاسم).

(2) ... يستعملان في معنيين متقاربين (شخشخ وجهه، أي جلب له العار).

(3) ... تطلق العامة لفظتي دحس (بالحاء بدل العين) وداس على مدلولين متقاربين.

 

(1/15358)

 

 

ـ تسكع وتكسع ـ فطس وطفس، أي مات ـ لطخ وطلخ (لطخ) ـ يئس وأيس. وقد تستعمل العامة الكلمتين مثل: كف وكفكف ـ كب وكبكب ـ هز وهزهز ـ ذر وذرذر، إلخ.

... أما النحت، فأمثلته كثيرة: ويلمه. وهي منحوتة من أصلها (ويل لأمّه).

... صبحه، أي قال له : صباح الخير.

... مساه : قال له : مساء الخير.

... تويل : قال : يا ويلي.

... فسقه : قال له : يا فاسق.

... ما شا الله (ما شاء الله) ـ ما طيبو (ما أطيبه) ـ محلاه (ما أحلاه)، إلخ.

 

(1/15359)

 

 

... ومن أمثلة الإتباع أو الإبدال بالمعنى نفسه: العجر والبجر ـ حيص بيص(1) ـ هين لين (سهل) ـ هش بش (مسرور) ـ الكوع والبوع (كعو وبعو) ـ الجوع والنوع ـ شيطان ليطان ـ حسن بسن، إلخ.

... وهناك مئات الكلمات تحكي الأصوات أو الحركات، وتتحد فيها اللهجتان. نذكر منها ما يلي: زرزور ـ صفصاف ـ ريح ـ رعد ـ قبقاب ـ ناقوس ـ طبل ـ بوق ـ نبح الكلب ـ قاقت الدجاجة ـ طن أو دن الذباب ـ وع الطفل الباكي ـ طنين الناقوس ـ خرير الماء ـ تفل ـ لحس

__________

(1) ... أفرد أبو البركات الأنباري كتاباً خاصاً لحيص بيص. وقد توفي عام 577 هـ.

 

(1/15360)

 

 

ـ نفخ ـ بح ـ قحب ـ أح ـ عطس ـ بخ ـ صاح ـ زعق ـ ناح ـ ضرط ـ فسا ـ زمر ـ قطع ـ شق ـ دق ـ تختخ ـ تمتم ـ جمجم ـ غمغم ـ بعبع ـ بقبق ـ قرقر ـ وسوس ـ همهم ـ نحنح ـ خنخن (تكلم من أنفه) ـ قهقه ـ قرقر ـ صرصر ـ لولو ـ وحوح ـ دقدق ـ وعوع ـ غرغر ـ طلطل ـ هرهر ـ زعزع ـ حثحث ـ ضعضع ـ شقشق ـ وقوق ـ زقزق ـ زرزر ـ طقطق ـ رشرش ـ رعرع ـ طنطن ـ تكتك .

... أما الصيغ، فكثيراً ما تتخذ الوزن نفسه في العامية والفصحى للتدليل على المدركات نفسها كالمبالغة والتفضيل والبقية والسقاطة والتظاهر والتشبيه أو التشبه والوصف مثل

 

(1/15361)

 

 

كنز(1) مكنوز وعلاج (دواء) ووقف (موقوف) وغصب (مغصوب) ونكَسه (نجسة، أي النجس) وشتامة (كثير الشتم) وعيابة ومصلحة (أي صلاح) ومطهرة ومفسدة وحثالة وثفالة (أي بقية الثفل) وقمامة ونخالة ونشارة ونجارة وأحمق (أكثر

__________

(1) ... كنز ومكنوز ذكره ابن سيده في "المخصص" في مادة »كنز«.

... وتوجد صيغ عربية كثيرة انفردت بعض الأقاليم العربية باستعمالها مثل مصدر فعل المضعف على وزن تَفعال: مثلاً، حمل تَحمالاً بدل تحميلاً في المغرب واليمن. قال الكسائي: »أهل اليمن يجعلون مصدر فعل تفعالاً وغيرهم من العرب يجعلونه تفعيلاً«.

 

(1/15362)

 

 

حمقاً) وأخوف وأطيب وأسلم وأخوأ وأعجب وأعرف وجهد وجاهد (أي شديد) وصيف وصائف وهول هائل وعيشة راضية ومكان عامر (أي معمور) وخبر كاذب (أي مكذوب) ويمين فاجرة (أي مفجور فيها) وتفاقر (أظهر الفقر) وتباكى وتحامق وتجاهل وتماوت وتناعس وتشيطن وتفحل وتفرعن وتفرنج وتمدن وتوحش وبخل وجهل وسفه وضعف وفسق وغلط وكفر وأحمق (أي موصوف بالحمق) وأبله وأعمى.

... ويجمع المذكر في اللسانين بإضافة تاء مربوطة إلى المفرد مثل: حمارة (أصحاب الخمير) وخيالة ورحالة وعسالة (أصحاب العسل). وتشترك الفصحى والعامية في الاشتقاق المنطقي من

 

(1/15363)

 

 

ألفاظ ذات معنى حسي مجرد كالحمام من حم الماء، أي سخنه ومخدَّة من الخد، والسماء من سما، أي ارتفع؛ والسِّمن من السَّمن والشباك من شبك والغمام من الغم، أي التغطية؛ والجارية، أي التي تجري في خدمة سيدها؛ والجمعة، أي يوم الاجتماع في الجوامع وحريم الرجل أي نساؤه (من تحريم المرأة على غير زوجها) والصداع، أي وجع الرأس من صدعه أي شقه، ومنه الشقيقة؛ والغلة الدخل من كراء بيت أو فائدة أرض من غل المكان إذا دخله.

 

(1/15364)

 

 

... ويكاد ينعدم في العامية التغليب بالمثنى (مثل القمرين والخافقين والعشائين والأصغرين والأسودين) واستعمال صيغة فِعّال المبني على الكسر (للدلالة على الأفعال والأسماء) أو المصدر نعتاً أو معظم صيغ المبالغة (مفْعيل وفُعْلة وفِعِّيل) أو مفعلة للكثرة أو المكان أو أفعل للتعظيم أو التصغير؛ أعنق (أي طويل العنق) وأعين وأورك (أي عظيم الورك) وأخفش (صغير العينين) أو أفعل للدخول (أَتهم وأشأم وأغلس وأنجد).

... ومما امتازت به الفصحى أيضاً أفعال السلوب الدالة على الزوال مثل أعتب، أي أزال العتاب وأشكى إذا أزال

 

(1/15365)

 

 

الشكوى وزيغ، أي أزال الزيغ والميلان (زيغ بالعامية أثار الزيغ) وتأثم وتحرج وتحنث إذا تجنب ذلك.

... وكذلك زيادة الميم للمبالغة كزرقم، أي شديد الزرقة.

... ويجب أن يعيد التاريخ نفسه في تفصيح العامية العربية وتوحيدها. فقد تعددت اللهجات في الجاهلية بتعدد القبائل الكبرى وخفت أوجه الاختلاف بما استوثق إذ ذاك من صلات في الأسواق الإقليمية والمبادلات التجارية والمصاهرات. وقد لعبت قريش دوراً هاماً في انتقاء أجود اللغات، فنسقت واجتبت أفضل لغات العرب حتى صارت لغتها أفضل لغاتهم ("لسان العرب".). فنزل القرآن بها

 

(1/15366)

 

 

وازدادت مظاهر الوحدة تحت راية الإسلام بالرغم من الفوارق القبلية البسيطة التي ساندتها أحرف القرآن السبعة. وقد احتفظت ألسنة جهوية بميزات خاصة »من حيث التصريف والهيئة والإبدال وأوجه الإعراب والبناء« (متن اللغة، ج 1، ص. 47). فقريش مثلاً تفتح نون المضارعة، وأسد تكسرها، والحجازيون يثبتون ما النافية، وتميم تهملها. أما الاختلاف في الأسماء، فلا يكاد يظهر إلا في لغة حمير التي ظلت محتفظة بكثير من مفرداتها (المدية الحميرية بدل السكين مثلاً).

 

(1/15367)

 

 

... ويتجلى الاختلاف بين لهجات العرب في نظاهر مختلفة كالإظهار والإدغام والإشمام والتفخيم والترقيق والمد والقصر والإمالة والفتح والتسهيل والإبدال، وهو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج الحروف مع وحدة اللفظ. وقد عرف العرب منها قديماً العنعنة عند تميم وقيس (إبدال الهمزة عيناً) والكشكشة والكسكسة عند ربيعة (إبدال كاف الخطاب شيناً) والغمغمة عند قضاعة (وهي إخفاء بعض الحروف) والفحفحة عند هذيل (إبدال الحاء عيناً مثل حتى وعتى) واللخلخانية في عمان واليمن (وهي حذف همزة ما شاء الله (ما شاء الله) والتلتلة في

 

(1/15368)

 

 

بهراء، وهي كسر تاء المضارعة (تلعب) (1) والوتم عند أهل اليمن (قلب السين المتطرفة تاء كالنات في الناس) والوكم والوهم عند ربيعة وكلب (كسر كاف الخطاب وهاء الضمير (عليكم، عنهم) والاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل

__________

(1) ... لاحظ الأستاذ فريد أبو حديد (مجلة مجمع اللغة العربية، ج 7، ص. 205) أن حركة الكسر تكاد تكون شائعة في كثير من الدول العربية. مثال ذلك كسر آخر الاسم المضاف إلى ضمير المؤنثة المخاطبة. فيقولون في الشرق أنت مالك (يقول المغاربة مالك بفتح اللام)، وهي لهجة لخم التي تكسر ما قبل كاف المخاطبة.

 

(1/15369)

 

 

والأزد وقيس والأنصار وهي قلب العين الساكنة قبل الطاء نوناً (أنطى ـ أعطى). وما زالت مظاهر ذلك إلى الآن عند الأعراب، مما بسط ذيله على العاميات في المناطق نفسها.

... والمشترك نفسه يرجع لتعدد الألفاظ للمدلول الواحد بين القبائل؛ كما أن في اللغة الموحَّدة نفسها اختلافاً في الأبنية من لغتين إلى ثلاث عشرة لغة (عباءة ـ عباية، إلخ).

... وقد أرجعت أصول الكلمات الواردة في القرآن إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، علاوة على وجود كلمات معربة.

 

(1/15370)

 

 

... وظهر الانحراف في الحركات الإعرابية منذ صدر الإسلام، فسار العوام في منهجهم المنحرف. واستفحل هذا الزيغ اللغوي باختلاط العرب بالأعاجم بعد الفتوح. فهب علماء اللغة لتقويم العامية وإرجاعها إلى أصالتها الفصحى. وتجلى هذا المجهود في "أدب الكاتب" لابن قتيبة و"درة الغواص" للحريري، فخف البون بين الفصحى والعامية؛ إذ روعيت شساعته في اللغات الراقية اليوم وبقيت العامية في جميع مظاهرها لغة عربية محرفة الشكل غير مضبوطة القواعد. غير أن العامية احتفظت أحياناً بألفاظ عريقة استعملها العرب وأهملها المحدثون. وقد

 

(1/15371)

 

 

راعت العامة مقتضيات التطور أكثر مما فعل اللغويون الذين جمد الكثير منهم وراء قواعد راسخة لا تنفعل للتيارات الحضارية المتجددة. وقد حاول عرب الجاهلية تطوير اللغة استجابة لهذا الناموس. وساعدهم على ذلك أن العربية كانت لغة منطوقة لا مقروءة، وسارت العامة على نهجهم؛ فاحتفظت ببعض الخواص الحية وعملت على تنميتها بما يتفق ولوازم التجديد ضماناً لاطراد الحياة. وقد اضطر بعض الشعراء أنفسهم كالفرزدق إلى مسايرة هذا الاتجاه عندما استعمل »ال« بمعنى اسم موصول »اليعمل« و»اليضرب« بمعنى الذي يعمل والذي يضرب. وهي شائعة

 

(1/15372)

 

 

في العامية، وخاصة منها المغربية.

... وقد حاولنا مقارنة بعض الألفاظ العامية في المغرب ومصر والشام. ويتجلى من موازنة كثير من هذه الألفاظ مع مرادفها في المعاجم أنها دخلت أولاً إلى اللغة الفصحى، ومنها تسربت إلى اللهجتين بسوريا ولبنان وكذلك بالمغرب؛ وإلا فيصعب تعليل وجودها في العامية المغربية التي لم تتأثر البتة باللهجة السريانية. ولا ننس أن الشام، وخاصة لبنان هو منبثق اللغة البونيقية أو اليونانية التي أثرت في البربرية المغربية منذ ثلاثة آلاف من السنين. والبونية عربية الأصل(1)

__________

(1) ... أكد الأستاذ توفيق المدني في "تقويم المنصور" عام 1348 (ص. 72) »أن الكشوف الحفرية ونقوش الحجارة أثبتت كنعانية الفينيقيين؛ كما أبرزت أن كلامهم كان عربياً شديد الشبه بالعربية العامية المستعملة خصوصاً بنواحي العاصمة التونسية وبجزيرة مالطة قبل أن تختلط اختلاطاً فاحشاً بمختلف اللغات الأوربية. وأهل مالطة هم بقايا العنصر الفينيقي الخالص... «. وقد نشر توفيق المدني (ص. 72) نص الحفرية القرطاجية التي وجدت في البرازيل، ويتضح منها تقارب البونيقية ولهجة شمال إفريقيا.

... ووجود هذه الحفريات بالبرازيل يدل على أن القرطاجنيين هم أول من اكتشف أمريكا قبل الميلاد بـ 125 سنة.

 

(1/15373)

 

 

؛ وقد سبقت لغة القرآن والفتح الإسلامي بالمغرب وكيفت كثيراً من المعطيات اللغوية، ولا سيما أن الفنيقيين الشاميين أسسوا في المغرب الأقصى عاصمة هي تشمش أو ليكس قرب العرائش منذ عام 1100 قبل الميلاد، أي قبل تأسيس قرطاج بثلاثة قرون (814 قبل الميلاد).

... وهنالك مئات الكلمات التركية اندرجت في عامية سوريا ولبنان طوال أربعة قرون من الحكم التركي، فأبعدت كثيراً من المقومات اللغوية عن عراقتها العربية. وقد دخل عدد قليل منها إلى المغرب منذ التاريخ نفسه تقريباً، أي في عهد السعديين الذين كان لهم ارتباط بالباب

 

(1/15374)

 

 

العالي، ولا سيما في الميدان الحضاري (الحياة والجيش والملاحة والإدارة، إلخ) (1).

... وقد أشار الثعالبي في "فقه اللغة" (طبعة 1378/ 1959)، القاهرة، ص. 450) إلى أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية أوصلها إلى مائة وواحد وأربعين منها البياع

__________

(1) ... راجع كتابنا "مظاهر الحضارة المغربية" و"معطيات الحضارة المغربية" (فصل: "تاريخ دخول اللغة العربية إلى المغرب"؛ وكذلك كتابنا "تاريخ المغرب" و"تاريخ إفريقيا الشمالية القديم" لكَزيل (Gsel)؛ والمؤرخ كَونبي، العصور الغامضة للمغرب (Siècles obscurs du Maghreb).

 

(1/15375)

 

 

والدلال والبقال والجمال والطراز والخياط والند والبخور والغالية والحناء والمضربة والقمري والربعة والخرج والدواة والمرفع والفتيلة والمجمرة والمزارق والطبل والشكال والقلية والهريسة والعصيدة.

... ثم ذكر (ص. 453) أسماء تفردت بها الفرس، فعربها العرب أو تركوها، منها: الإبريق والكوز والطبق والقصعة والسندس والياقوت والبلور والسميد والكعك والسكنجبين والجلجبين والفلفل والكروياء والقرفة والزنجبيل والسوسن والياسمين والمسك والعنبر والكافور والقرنفل.

 

(1/15376)

 

 

... وقد تأثرت العامية المغربية بالفارسية عن طريق الدخيل في المعجم العربي(1) لا بكيفية مباشرة، لأن المغرب ظل في منجى عن التأثيرات الفارسية.

__________

(1) ... وكذلك بألفاظ من اللغة التركية مثل باشا وبكرج (إناء معدني) وخازوق وتخوزق (التخوزيق) وسنجق وطابور وطز (للاستهزاء والاستياء) وطوبجي (مدفعي) وصابونجي وجبدولي (صدرية) وجامكية (مرئب عسكري في عهد الموحدين) وخواجي (تاجر) وبابوشة (بابوج) وبازار وباشدور وبرنامج، إلخ.

 

(1/15377)

 

 

... ومن أمثلة المشترك الفارسي في اللهجتين المغربية والشامية: بابا (أي الأب في لغة الأطفال) وبازار (سوق) وبازاري وباس (لثم) وشاويش (وشاوش) وخردة (وأصلها العربي الخرثي) وخواجه أو خواجي (غني) ودرويش (فقير) وزنزانة (سجن ضيق) وزيره (جعله في مكان ضيق) وسالف (خصلة شعر متدلية على الصدغ) وشبر، أي أشبار (وهو حبل رقيق جداً) وشنطة (حقيبة صغيرة) وشيت (نسيج قطني فيه رسوم وألوان) وصباهي (صبايحي، أي جندي) وطارمة (بيت خشبي ذو قبة) وطاقية (نوع من ملابس الرأس وأصله تقية) وقيطان (خيط مفتول من القطن أو الحرير) وكخ

 

(1/15378)

 

 

(كخ بالمغرب، أي رديء في لغة الأطفال) ومارستان (مستشفى المجانين) وميخانة (حانة، أي خمارة وتطلق على أحد الأحياء بالمغرب) ونيشان (وسام) ونيشن (نيش بالمغرب، أي صوب القذيفة نحو الهدف). أما اليونانية، فقد دخلت هي أيضاً إلى سوريا ولبنان قبل الميلاد بثلاثة قرون حيث استمر الحكم اليوناني مائتين وخمسين سنة قبل خضوعهما للرومان؛ كما اندرجت عن طريق المترجمين السريانيين واليهود والعرب منذ أواخر الأمويين بما أقحموه من ألفاظ دخيلة في القاموس العلمي العربي الذي اقتبس منه حكماء المغرب ونباتيوه أو عشابوه. وكتب

 

(1/15379)

 

 

الطب والعقاقير المغربية حافلة بهذه الألفاظ التي يتردد صداها في لغة العوام مع شيء من التحريف. إلا أن وجودها في عامية أهل الشام أبلغ، نظراً للاتصال المباشر خلال حقبة طويلة من تاريخ البلاد.

... ومن الكلمات العربية المقتبسة من اليونانية والتي دخلت إلى العامية المغربية على ما يقال: ياقوت، وملوخية، ومصطكى، ولوبياء، ولجنة، وكروياء، وكرنب، وكافور، وقيطون، وقيراط، وقيثارة، وقنطرة، وقنب، وقمقم، وقلم، وقصدير، وقرنفل، وقرميد، وقانون، وقالب، وقارب، وقادوس، وفندق، وفنار، وفلس، وفص، وفخ، وطاجن، ورطل، ودلفين،

 

(1/15380)

 

 

ودرهم، وثؤلول، وبلغم، وبجماط، وبطاقة، وبارود، وأوقية، وإقليم، وألماس، ورز.

... أما اللاتينية، فقد استمدت منها اللهجتان الفصحى والعامية ألفاظاً منها قسطاس، وإسطيل، وبوق، ودينار، وسجل، وصراط، وصاقور، وطرطور، وقر صان، وفرن، وقفة، وقلنسوة، وقميص، وقنديل، وقنطار، وكوفية، ومد (مكيال)، ومنديل، وميل، إلخ(1)

__________

(1) ... من الألفاظ الفارسية الدخيلة الدربكة، أي الطبل (وأصلها تابوراك) والدمغة بمعنى الختم والطابع.

... ويختلف هذا التأثير في الأقطار العربية الأخرى. ولعل الدخيل من الفارسية في لغة العراقيين يوازي الدخيل فيها من التركية، خلافاً لما عليه الحال في مصر؛ فإن معظم الدخيل فيها في لغتها الشائعة من التركية ثم من اللغات الإفرنجية (محمد رضى الشبيبي، مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية، ج 8، ص. 131).

... وديوان العراق لم ينقل من الفارسية إلى العربية إلا في عهد الحجاج الذي أمر بذلك كاتبه صالحاً ابن عبد الرحمن الذي كان يتقن اللغتين (تاريخ ابن خلدون، المجلد الأول، القسم الثاني، ص. 437).

 

(1/15381)

 

 

.

... وبينما كان التأثير الإسباني في اللهجة السورية واللبنانية نادراً جداً، إذا هو يتخذ طابعاً عميقاً في العامية المغربية، نظراً للتبادل الموصول بين الأندلس والمغرب خلال الحكم الإسلامي، أي طوال ثمانية قرون، ثم ثلاثمائة عام بعد ذلك احتل البرتغاليون والإسبان في غضونها مراكز هامة في شواطئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطيقي من المغرب(1)

__________

(1) ... ذكر برونو (Brunot) (هسبريس 1949 ـ العددان الثالث والرابع) أن اللغة الرومانية اللاتينية أمدت العامية عن طريق الفصحى بألفاظ مثل مد وقصر أو مباشرة بكلمات مثل الطابية وكرزية وكركور. وذكر أن لفظ Candi مقتبس من اللفظ العربي Quindid، وأن الكفتة مأخوذة من التركية.

... ولاحظ في مقدمة مذكراته حول المفردات البحرية بالرباط وسلا أن وفرة الألفاظ الإسبانية الدخيلة في هذه المفردات تدعو إلى نسبة بعض الكلمات إلى أصل يوناني لاتيني. وهذا الغلط هو الذي وقع فيه سيموني (Simonet) في كتابه Glosario حيث ذكر مثلاً أن الشابل (Alose) مستمد من اللفظ اللاتينيّ Sapidus. وقد أعطى برونو صورة عن مروح التأثيرات الأجنبية العامية البحرية بالرباط وسلا، فذكر أنه بالإضافة إلى 456 لفظ عربي يوجد 217 كلمة إسبانية و30 لاتينية يونانية و6 فرنسية وإيطالية ز6 إنجليزية وكلمة واحدة برتغالية وعشر كلمات بربرية وعشر تركية وإحدى عشرة كلمة مشكوك في مصدرها، وذلك من مجموع يبلغ 753 لفظة. ويلاحظ هنا قوة تأثير العربية الفصحى في موانئ أخرى في المغرب مثل مستغانم بالجزائر. ففي الرباط مثلاً تسمى Chaloupe بالعشارية، وفي مستغانم ببوطة من Bota الإسبانية. على أن البرتغالية قد تأثرت باللهجة المغربية حيث كان البرتغاليون يراسلون بالعجمية التي كانت عبارة عن برتغالية مملوءة بالألفاظ المغربية وكانوا يكتبونها بالحروف العربية (كواساك ده شافر بيير، تاريخ المغرب، ص. 273).

 

(1/15382)

 

 

.

 

* ... * ... *

... وقد عرف البربر كسائر البدو منذ اعرق العصور حياة بدائية لم تكن تخلو من مظاهر احتفظت بها قبائل صحراوية وأطلسية إلى الآن كالملكية الجماعية والاشتراكية الفلاحية والسكنى في أكواخ الطوب بالدساكر والاقتصار في الأكل على الكسكس والصيد وشرب الألبان والعسل والماء القراح ولبس الجبة والبرنس ووضع أكاليل الريش على الرؤوس واستعمال الحراب والأقواس والخناجر والدرقات الجلدية في الحروب. وكان المغربي يرسم على الجدران صوراً تمثل حياته اليومية في براعة فنية رائعة كما يتحلى ـ كالنساء ـ بالأسورة

 

(1/15383)

 

 

والعقود. وتمتاز المرأة بنقش الأواني الخزفية ونسج الزرابي في تعاريج هندسية. وبرز الإطار السياسي القبلي في شكل »جمهورية« صغيرة يمثلها مجلس منتخب. وقد طعمت الحضارة القرطاجية الشرقية هذه المعطيات الأولية بعادات جديدة كالطربوش والقميص الفضفاض والتكحل والاختضاب بالحناء والاختتان(1). وربما حدت البربر إلى التفكير في وضع أحرف »تفناغ« على غرار الهجائية الفينيقية التي تكونت منها الألفبائية العربية إذا لم يكن البرابرة قد اقتبسوا هذه البادرة مباشرة من

__________

(1) ... كَوتيي، ماضي إفريقيا الشمالية، ص. 148.

 

(1/15384)

 

 

الهيروغليفية المصرية في الجناح الشرقي لإفريقيا الشمالية. ويظهر أن اليهود النازحين من الشام وخيبر لم ينقلوا إلى المغرب شيئاً جديداً باستثناء الديانة الموسوية ونتف من العبرية لم تترك أثراً يذكر في اللهجات المحلية.

... ولعل أول نواة حضارية عربية تلقاها المغرب بعد الفتح الإسلامي قد جاءته عن طريق القيروان التي بدأت تنصهر فيها الحضارة الأموية بعد مرور ثلاثة أرباع قرن على الهجرة، فأقيمت المساجد والدواوين والمصالح والدور الصناعية على غرار ما عرفته دمشق آنذاك من روائع امتزج فيها العنصران الفارسي

 

(1/15385)

 

 

والرومي. وإذا اعتبرنا الصلة الوثيقة بين القيروان والمغرب قبل أن تزدهر بالأندلس الحضارة الأموية في إطارها الجديد، أمكننا القول بأن الشام كانت الينبوع المشترك للحضارتين ما لبث أن تعزز بمدد مباشر في عهد الأدارسة. فإذا ما حاولنا التنظير بين عناصر الحضارة الأموية من نشأتها في الشام إلى امتدادها بالأندلس، لاحظنا وحدة مقومات العمران والبناء والزخرفة والنقش والثقافة والاجتماع والترتيبات الإدارية والسياسية والقضائية في أشكالها ومصطلحاتها. إلا أن الأندلس لم تتصل بهذه المعطيات قبل وصول عبد الرحمان الداخل

 

(1/15386)

 

 

عام 137 حيث قضى خمس سنوات بالمغرب الشمالي يحاول عبثاً إقامة مملكة أموية، لأن أفواج اليمنيين والقيسيين ظلت في صراع حدا البربر أنفسهم إلى النزوح إلى الريف وطنجة وأصيلا بين عامي 134 و136 هـ. ولم تكد الدولة الأموية الجديدة تستقر حتى وضع الأدارسة بفاس أسساً عمرانية كانت وفرة مياهها وبساتينها وفنادقها وقيساريتها ومسجداها مظهراً خافتاً لعاصمة دمشق.

... وسواء كان هذا الاقتباس مباشراً أو بواسطة، فإن ألفاظاً فارسية دخلت منذ هذا العصر إلى المغرب ودخلت معها مسمياتها؛ كما انتقلت إلى المغرب في الفترة نفسها

 

(1/15387)

 

 

من الشام مصطلحات رومية(1) قليلة كالبستان، والقسطاس، والبطاقة، والأسطرلاب، والقنطار، والقرمود، والترياق، والقنطرة، والقيطون(2). والذي يجعلنا نرجح وجود هذه الألفاظ في المصطلح الدارج بالمغرب منذ هذا العصر هو أن معظمها يمثل المظهر الجديد للحضارة الإسلامية التي بقي الشعر والشعراء في منأى عن وصفها، لأنهم حتى في دمشق ظلوا في أبراجهم العاجية يبكون في أسلوبهم الجاهلي على الأطلال ويتغنون بالماء

__________

(1) ... فقه اللغة، طبعة 1378 ـ 1959، القاهرة، ص. 450 ـ 455.

(2) ... دار القيطون بفاس أسسها المولى إدريس.

 

(1/15388)

 

 

الآسن في عنفوان المدنية الناشئة.

... وأول مسجد على النسق المعماري الإسلامي في المغرب هو ذلك الذي بناه سعيد بن صالح الحميري في نكور(1) في نهاية القرن الأول استمد في تصميمه من جامع الإسكندرية التي ظلت مهبط الرواد المغاربة وعلى رأسهم الصوفي الفاسي أحمد البدوي دفين طنطا وأبو الحسن الشاذلي العماري الريفي. وكانت البساطة آنذاك هي طابع الفن المعماري الذي لم يعرف

__________

(1) ... مما يبرز تأثير الأندلس إحداث الموالي الصقالبة لقرية تحمل اسمهم فوق مدينة نكور (البكري، المسالك والممالك، طبعة الجزائر، 1911، ص. 97).

 

(1/15389)

 

 

بعد المقرنصات ولا التعاريج العربية (Arabesques). والواقع أن انعدام الاقتباس من الطبيعة والإمعان في دراسة الرياضيات ونزعة الإبداع حدت مسلمي الأندلس والقيروان ومصر ثم المغرب إلى التسطيرات الهندسية الساذجة التي يظهر أنها وسمت الزخرفة في أوائل العصر الإدريسي. وكان استمرار الصراع في الأندلس بين العناصر السلالية المختلفة من عرب وبربر وقوط عائقاً دون تفتق الفن حيث لم تكد تمر ست سنوات(1)

__________

(1) ... تبلغ الأسر الأندلسية التي هاجرت إلى فاس عام 202 هـ/ 818 م أربعة آلاف حسب عبد المالك الورَّاق وثمانية آلاف (روض القرطاس، ص. 25؛ ودوزي، تاريخ مسلمي الأندلس، 1932، ج 1، ص. 301) أو ثمانمائة (هنري طيراس، تاريخ المغرب، ج 1، ص. 118)؛ بينما بلغ عدد الأسر الإفريقية التي جاءت من القيروان عام 198 هـ ثلاثمائة. ويظهر أن عدد الربضيين تراوح بين أربعمائة وثمانمائة اعتباراً للغلط المحتمل الناتج عن إضافة صفر للعدد، ونظراً للتوازن الديموغرافي بين العدوتين. وقد تحدث المقري في النفح (ج 1، ص. 318) عن الوقعة التي أدت إلى طرد الأندلسيين، فذكر أن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل انهمك في لذاته، فخلعه العلماء بقرطبة، فأجلاهم عن الأندلس ولحقوا بفاس والإسكندرية، ومنها إلى جزيرة أقريطش.

 

(1/15390)

 

 

على تأسيس فاس حتى انحدرت إلى المغرب ثلاثمائة أسرة قيراونية تلتها بعد أربع سنوات ثمانمائة عائلة جاءت من أرباض قرطبة معظمها من الفلاحين والمزارعين الذين استقروا بعدوة الأندلس. ووصل بعضهم إلى فازار بالأطلس انتجاعاً للحقول والمراعي الخصبة وأشجار التوت لتربية دود القز وصناعة الحرير(1)

__________

(1) ... ذكر ليفي بروفنصال أن الأندلسيين نقلوا معهم إلى المغرب فن البستنة وكذلك تجربتهم للحياة الحضرية كالبناء والصناعة التقليدية (فاس قبل الحماية (Fez avant le Protectorat). وقد لاحظ لوطورنو (ص. 205) أنه إذا كان العرب قد نقلوا إلى فاس مظاهر نبلهم، فإن الأندلسيين قد نقلوا رقتهم والقيروانيين مهارتهم واليهود حيلهم والبربر صمودهم. وقد أعطانا الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه بساط العقيق صورة عن حضارة القيروان حيث تحدث عن سماطها (يوجد شبهه بفاس، وهو سماط العدول؛ إلا أنه أصغر منه) وحماماتها العمومية (49 حماماً) ومصانع الزربية (ذات الطابع القيرواني الخاص، بالرغم من أصلها الفارسي) والزجاج والبلور والورق ودار الطراز. وكان قاضي القيروان شيخاً للإسلام في تونس أو قاضياً للجماعة كما في فاس. وقد لاحظ الأستاذ التونسي في رسالة بالفرنسية أن الطبقة المتمدنة العتيقة من الأندلسيين قد نزلت مدينة تونس واختلطت بأهلها. وقلدهم الحفصيون الذين هم فرع عن الموحدين. وقد ذكر المقري عن ابن غالب (نفح الطيب، ج 2، ص. 764) أن أهل الأندلس تفرقوا في المغرب الأقصى مع إفريقية، فمال أهل البادية إلى ما اعتادوه فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وعلموا أهل البادية أشياء جديدة.

... ... ومعلوم أن الأندلسيين كانوا يحتكرون ببلادهم ـ حسب سرفانطيس مؤلف "دون كيشوط" ـ تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها. وهم لا يشترون العقارات، حفاظاً على حرية رواج أموالهم.

 

(1/15391)

 

 

، بينما كان مهاجروا حاضرة القيروان من الفعلة الذين أقاموا في عدوة القرويين الخلايا الأولى للحرف والصنائع اليدوية مدرجين بذلك في المصطلح الصناعي والتجاري مفردات دخلت منذ ذلك الوقت في التقاليد الحرفية لا نستطيع تحديدها بالضبط. وإذا اعتبرنا أن الوضع الحالي بفاس لا يختلف كثيراً عما كان عليه من حيث الهيكل العام، فإننا نلاحظ أن عدوة القرويين تضم معظم مقومات الاقتصاد والثقافة والاجتماع: ففيها القيساريات والحرف والمدارس والزوايا والفنادق، ويبلغ عدد أحيائها اثني عشر مقابل نصفها في عدوة الأندلس و17

 

(1/15392)

 

 

حماماً و96 كتاباً قرآنياً بدل 24 وست مدارس بدل اثنتين. هذا، وإن جامع القرويين الذي أسس عام 245 هـ مع شبيهه جامع الأندلس على يد أم البنين وأختها مريم الفهرية القيروانيتين لم يكن يثير الانتباه بفن جديد نظراً لعدم اختصاص بنائيه القيروانيين عدا تصميمه الغريب الذي تتوازى بلاطاته مع القبلة على غرار مسجد الشرفاء الإدريسي وجامع ابن طولون بالقاهرة وجامعي بعلبك ودمشق. وقد أضاف إليه الناصر الأموي عام 345، أي بعد مرور قرن كاملٍ على بنائه، اثني عشر بلاطاً جديداً وحول المنارة إلى مكانها الحالي مغشياً بابها

 

(1/15393)

 

 

»بصفائح النحاس الأصفر« مع »قبة صغيرة« محلاة »تفافيح مموهة بالذهب«(1). وبذلك انبثقت النواة الأولى للفن الأندلسي المغربي البارز في مسجد قرطبة ومدينتي الزهراء والزاهرة حيث امتزج العنصر السوري بالفارسي والبيزنطي. ولعل عهد الناصر الذي ازدهرت فيه الفلاحة والصناعة والتجارة والفنون والعلوم(2) بالأندلس كان عهد تحول وانقلاب في تاريخ الحضارة المغربية التي بدأت تتخذ بالعاصمة الإدريسية سمات جديدة في شتى المجالات، تقل مع ذلك روعة وفخامة عن أصولها

__________

(1) ... زهرة الآس، ص. 37.

(2) ... ابن حوقل، ج 2، ص. 77.

 

(1/15394)

 

 

بقرطبة إذا اعتبرنا المضافات الأموية بجامع القرويين. وقد انتشرت بدائع هذا الفن في حواضر إدريسية كالبصرة وأصيلا أصبحت تنافس مدينة فاس.

... ومن الصعب أن نتعرف العناصر الحضارية والمصطلحات التي تسربت إلى فاس في القرن الثالث الهجري، وإن كنا نعرف مما كتبه مؤرخون عرب أمثال الحميدي صاحب "جذوة المقتبس" وابن غالب صاحب "فرحة الأنفس" والحميري في "الروض المعطار" والمقري في "النفح" الكثير من ذلك عن الأندلس حيث اكتملت مظاهر المدنية في الإدارة والقضاء والشرطة والاقتصاد والصناعة والفلاحة والاجتماع والعمران، وأول

 

(1/15395)

 

 

ما يبده الباحث عند الأمويين هو امتزاج العناصر الحضارية بسبب تداخل الاختصاصات وعدم فصل السلط حيث تندرج كثير من مقومات الدولة ضمن البلاط كالجامع والصدقات والأعشار والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة والرسوم الموظفة على بيوع الأسواق والمكوس والمشرف(1) أو الأمين ودا السكة وخزانة الطب والحكمة. وإذا ما حاولنا أن نقارن بين مصطلحات هذا العصر والتعابير المغربية دون تحديد لإطارها الزمني، فإننا نلاحظ أن أغلبها

__________

(1) ... هذه الكلمة معناها أمين المال. وقد استعملها الموحدون (زهرة الآس، ص. 872).

 

(1/15396)

 

 

متقاربة عدا كلمات لم يعرفها المغرب مثل صاحب البنيان وصاحب البيازرة والأسجال الخراجية وصاحب القطوع (أي الجبايات المرسومة على الإقطاعات) وصاحب الرد (رئيس قسم الشكايات بالقصر الملكي) والكور المجندة والجند المتدون (أي المسجل في الديوان) وفحص السرادق (أي مكان تقام فيه حفلة البروز لتوديع البعوث العسكرية وعقد الألوية) والمهرجان (عيد موسمي منه العنصرة التي تعرف بالمغرب). على أن معظم أسماء الحرف موحدة؛ وكذلك أسماء الأزهار والأعشاب والمصنوعات اليدوية وغيرها(1)

__________

(1) ... راجع القائمة الكاملة بهذه المصطلحات في الملحق رقم 2 في كتابنا "تطور الفكر واللغة في المغرب الحديث، طبعة القاهرة، ص. 213.

 

(1/15397)

 

 

. واستمر هذا الاقتباس طوال قرن ونصف قرن بدافع من بني زيري وخلفاء المنصور بن أبي عامر إلى أن أصبحت الأندلس جزءاً من العدوة الجنوبية تحت حكم المرابطين الذين استدعى زعيمهم يوسف بن تاشفين رجال الحرف القرطبيين لإقامة المساجد والسقايات والحمامات والفنادق بفاس(1) ودار الأمة بمراكش، بينما استعان نجله علي بن يوسف بمهندسي الأندلس لمد قنطرة تنسيفت(2) وقنوات الماء وبناء دار الحجر بمراكش(3)

__________

(1) ... زهرة الآسا، ص. 87؛ وجذوة الاقتباس، ص. 27.

(2) ... الإدريسي، مقتطفات من النزهة، طبع الجزائر، 1957، ص. 69.

(3) ... الاستبصار، ترجمة، ص. 179.

 

(1/15398)

 

 

. وكان لوحدة إفريقية والمغرب الأقصى حينئذ أثرها في ضم الآثار القيروانية إلى المدد الأندلسي. غير أن من الصعب تمييز الأثرين بوضوح، لأن جامع القيروان نفسه دخلت فيه مواد أندلسية كالمرمر والآجر والجبص عند تجديده على يد محمد بن حمدون الأندلسي عام 252 هـ. ولم ينس المرابطون الصحراويون إقامة القصبات والحصون في عمرانهم العسكري الذي تعزز بتسوير الحواضر أيام علي بن يوسف بإيعاز من ابن رشد الأندلسي. وإذا أردنا دليلاً على مدى انسجام الصحراويين المغاربة مع روح العصر واستساغتهم للفن وأساليبه ومصطلحاته، فإن ذلك

 

(1/15399)

 

 

يتجلى بوضوح في الروائع الجديدة التي أضيفت لجامع القرويين الذي اتخذ حينذاك شكله الحالي بمنبره المصنوع من »الصندل والأبنوس والعناب والعاج«(1) وقبته التي كشفتها الحفريات عام 1952 كأنموذج للفن في أروع مجاليه.

... وهكذا، فالفعلة الأندلسيون الذين انتقلوا إلى المغرب في العصر المرابطي كانوا إذن أكثر اختصاصاً من سلفهم، وإن كان عملهم لم يتجاوز نطاق هندسة المساجد وبعض المآثر العسكرية؛ لأن بداوة الملثمين وتقشفهم حالا دون تقبل عناصر حضارية طريفة زخرت بها آنذاك قرطبة وإشبيلية

__________

(1) ... زهرة الآس، ص. 42.

 

(1/15400)

 

 

كموسيقى زرياب الذي أحدث في الأندلس ثورة جذرية في المودات، فكان ـ بحق ـ »مشرع إسبانيا العربية«، كما يقول دوزي. وظلت المرأة المغربية بدوية الطبع، بالرغم من سفورها(1). لم تتفتح للثقافة عدا القليلات أمثال زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين والبطلة الموحدية فانو وأم هانئ بنت القاضي عبد الحق بن عطية وحفصة الركونية أستاذة نساء دار المنصور(2)،

__________

(1) ... حتى الأميرات لم يكن يتحجبن، مما حدا المهدي بن تومرت إلى نقد سياسة البلاط الدينية للنيل منه سياسياً.

(2) ... الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، ص. 165.

 

(1/15401)

 

 

بل أستاذة عصرها(1) وأم عمرو بنت أبي مروان بن زهر طبيبة النساء في البلاط الموحدي وورقاء الفاسية الأدبية الشاعرة(2) وزينب القرقولية أستاذة القراءات السبع بمراكش وأغمات وزينب بنت يوسف بن عبد المومن التي ربيت بالأندلس، فكانت صاحبة الرأي في البلاط والشفوف في المجتمع. وإزاء هذه الندرة من المثقفات في المغرب، كانت نساء غرناطة يشهدن الحفلات العامة سافرات ويسبغن بوجودهن عليها روعة وسحراً ويتمتعن بقسط وافر من الحرية الاجتماعية؛ كما كان بالربض

__________

(1) ... ابن الخطيب، الإحاطة.

(2) ... جذوة الاقتباس، ص. 335.

 

(1/15402)

 

 

الشرقي لقرطبة وحده سبعون ومائة امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي الذي اتخذ في هذا العصر أشكالاً خاصة بالمغرب(1). فإذا استثنينا مثلاً الخط الحجازي، فإن ترتيب الحروف تختلف بين الشرق والمغرب ابتداء من الزاي؛ فهي عندنا:

... ... ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و لا ي

بينما هي في المشرق:

... ... س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ و لا ي

... والمغاربة يعجمون الفاء والقاف بنقط: الأول بنقطة من أسفل، والثاني بنقطة واحدة من أعلى؛ كما أن صور

__________

(1) ... راجع الملحق رقم 4 من كتابنا المذكور تطور الفكر واللغة، ص. 222.

 

(1/15403)

 

 

الأرقام في المغرب عربية أصيلة ليست منقولة عن الرسم اللاتيني. وقد أبرز ذلك الاختصاصيون في المؤتمر الذي انعقد بتونس عام 1963، حيث أكدت الجامعة العربية عزمها على إصدار تعليماتها إلى الدول الأعضاء لاعتبار الأرقام المغربية هي الأصل والاقتصار عليها في العد والترقيم.

... غير أن الموحدين قفزوا بالفن إلى مستويات راقية، بالرغم مما أبدوه في البداية من روح التزمت(1)

__________

(1) ... وقد أمر المنصور الموحدي »بقطع اللباس الغالي من الحرير والاجتزاء بالرسم الرقيق الصغير ومنع النساء من الطرز الحفيل والاكتفاء منه بالساذج القليل، وأمر بإخراج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير والديباج المذهب، فبيعت... «(ابن عذاري، البيان المغرب، ج 4، ص. 81).

... ففي زمن المنصور والناصر الموحديين كان عدد الأطرزة بفاس 3094 ودور الصابون 47 ودور الدباغة 86 والصباغة 161 وتسكيك الحديد والنحاس 12 والزجاج 11 وكوش الجير 135 وأفران الخبز 1170 وأحجار صنع الكاغد (أي الورق، وهي كلمة تركية) 400 ودور الفخارة 180 (الجزنائي، زهرة الآس، ص. 33). وقد بلغت الأرحي بفاس 600 في القرن السابع (حسب ياقوت المتوفى عام 626 هـ في معجمه، ج 6، ص. 331).

 

(1/15404)

 

 

، فأضافوا روائع جديدة إلى المآثر الأموية تجلت في المنارة الخالدة بإشبيلية وجامع حسان بالرباط والكتبية بمراكش والقصور الفخمة والحدائق الغناء (على غرار مسرة المرابطين المعروفة الآن بالمنارة). ونضرب مثلاً لهذه الروعة بمنبر الكتبية الذي يرجع إلى عهد عبد المومن(1) والذي قارنه ابن مرزوق بمنبر جامع قرطبة واعتبره طيراس وباسي »أجمل ما أبدعه الغرب الإسلامي، بل العالم الإسلامي«. ولعل الوحدة السياسية التي حققتها الدولة البربرية في المغرب الكبير قد تجلت خاصة في

__________

(1) ... المسند الصحيح الحسن، 1925، ص. 65.

 

(1/15405)

 

 

تجديد الاتصال بين الفن المغربي الأندلسي والفنين المصري والعراقي السائدين في بجاية ومهدية وتونس الخضراء(1). وبذلك تعززت الوصلة بين جناحي العروبة، واندرجت في المجتمع المغربي مصطلحات كانت عصارة الاحتكاك الموصول طوال خمسة قرون. وبذلك يكون في وسعنا اعتباراً لهذه المعطيات أن نستخلص بعض الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية من خلال أسماء الحرف التي ظلت إلى اليوم الصناعة الأساسية لنصف سكان الحواضر(2)

__________

(1) ... ويليام مارسي، تاريخ الفن الإسلامي.

(2) ... راجع إحصاء قام به ماسينيون عام 1923 ـ 1924 في كتابنا معطيات الحضارة المغربية، ج 2، ص. 78؛ الحناطي الإسلامية، باريس، 1925، ص. 38. وقد كان نظام الحناطي (أي النقابات العمالية) يتسم في جميع العصور بطابع الحرية حيث ظل المخزن يحترم مبدأ الحرية التجارية والاقتصادية قبل صدور ظهير 1917 القاضي بتنظيم البلديات.

 

(1/15406)

 

 

. فمصطلحات الحرف بمراكش كانت تحتوي، نظراً لقرب العاصمة من الصحراء، على كلمات بلدية أو حضرية معدودة مثل بعدي (أي إسكافي بدوي) وخطاطري (حفار الخطارات، أي السواقي الصحراوية) وتكموتي (صائغ) وقراشلي (حلاج)؛ في حين تزخر بالألفاظ العربية التي حرّف بعضها تسهيلاً للنطق بها مثل بامهاود (أي أبو المهاودة، وهو حكم يتدخل بين الناس للمهاودة) ومواكني (مصلح المنجانات) وغواسلي (بائع الغاسول). وظل معظمها مما ينيف على المائة في قابله العربي الفصيح مثل التبان (بائع التبن) والجرار والحراث والحمار والحمائمي (بائع

 

(1/15407)

 

 

الحمام) والخراط والرحوي (صاحب الرحى المائية) والطاحوني (صاحب المطحنة أو الطاحونة التي تدار بحركة بغل أو حمار) والرخايمي (صانع الرخام) والزيات والسفاط (صانع الأسفاط، أي السلال) والعشاب والقطارني (بائع القطران) واللباد (صانع اللبد). أما مصطلحات الحرف والمؤسسات العمومية وغيرها بفاس، فإذا استثنينا بعض الدخيل، فإن الكلمات البربرية أقل؛ بينما تظهر ألفاظ خاصة مثل مقدم الحومة ودار معلمة (وهي مدرسة لتعليم الخياطة والتطريز للبنات) وشيوخ الفلاحة (وهم خبراء في الشؤون الزراعية من أصل أندلسي) ودار العميان

 

(1/15408)

 

 

والمرقطان وسوق الفرش (أي صنع المخاد والحشايا) ومعاصر الزيت وكعب غزال (فارسي) والبلاجة (صانعو الأقفال) وصناع الأسلحة الاختصاصيين مثل الجعايبية (صانع جعاب المسدسات) والسرايرية (لصنع مقابضها) والجوايين (لصنع الأغمدة) والصقالة والذهابين والسكاكين والبراولية (باعة خيوط الحرير) والزرادخية (باعة القماش من نوع الزردخان) والنيارة (صانعو نول النساج). وإذا أخذنا مثالاً لباقي المدن المغربية في شخص أصغر مدينة، وهي ميناء أزمور، لاحظنا وجود معظم هذه الحرف عدا التنويع في النسيج وحرف جديدة كحرفة البغازة (وهم

 

(1/15409)

 

 

بائعو السمك بالجملة) والشراحة (وهم مجففو الحوت). وهنالك ألفاظ مغربية أندلسية مبتكرة مثل القبال والقابض بدل الجمركي والجابي. وقد استدل السيد محمد علي بهاتين الكلمتين للتدليل على أصالة الإبداع اللغوي في المغرب والأندلس ("عجائب اللهجات")، مجلة مجمع اللغة العربية، ج 7، ص. 128، عام 1953). ويلوح لأول وهلة من مقارنة نوع المصطلح في عاصمتي الشمال والجنوب مدى تأثر فاس بالحضارة الأندلسية حيث بدأت تظهر مؤسسات اجتماعية واختصاص أدق في بعض المرافق الصناعية بالعاصمة الإدريسية. ولا بدع في ذلك، إذا اعتبرنا أن

 

(1/15410)

 

 

مدينة فاس أصبحت في عصر الموحدين(1) »حاضرة المغرب« الفكرية اجتمع فيها علم القيروان وقرطبة، »ولا يوجد في الدنيا أكثر مرافق وأوسع معايش وأخصب جهات منها« كما يقول المراكشي بشيء غير قليل من الغلو. على أن الفن بفاس أصبح مزيجاً للكثير من العناصر العربية. فإذا ضربنا مثلاً بالزليج الذي عرف في الشرق بالفسيفساء(2)، لاحظنا أنه نوع من الترصيع هو التكفيت (كلمة تركية)

__________

(1) ... عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، سلا، عام 1357/ 1938، صص. 213 ـ 221.

(2) ... النفح، نقلاً عن ابن سعيد، ج 1، ص. 187.

لها مرادفات منها التلبيس والترسيب والتنزيل أصحها عند العرب في العهد العباسي التطبيق. وفن الترصيع سوري في أصله يعرف بأروبا إلى الآن بالفن الدمشقي (damasquinage). وقد دخل الفن العربي إلى إيطاليا. وبعد الحروب الصليبية غزت المنسوجات العربية الأقطار الأوروبية حتى اضطر أحد ملوك فرنسا إلى تحديد إيرادها(1).

... وقد شمل التعريب معظم المواد والآلات والأجهزة والأدوات التي استعملها الصانع المغربي إلى العصر الحديث. ويكفي إلقاء نظرة على معجمنا "الأصول العربية في

__________

(1) ... أعراف المسلمين وعاداتهم، ص. 247

العامية المغربية" لتعرف مدى فصاحة الاستعراب في هذه المفردات التي نجد منها في الصفحات الأولى للمعجم ألفاظاً كالإشفى (مخرز الإسكافي) والبريمة والبرمة والبرميل والبوطة والبلور والتبان والترس وتفصيلة الثوب وتكريشه تقبيضه) والتكة والتنجرة والتومة (القرط) والثلج والخبل (لفظة يمنية) والحنوط والخرقة والخميرة والخنجر. ثم إن الفكر العلمي الأندلسي الذي حماه البلاط الموحدي بمراكش لم يكن يخلو من مظاهر اجتماعية تمثله. مثال ذلك البيمارستان(1) الذي احتوى على »النقوش البديعة والزخارف

__________

(1) ... المعجب، ص. 177.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصحيح الكتاب المصحح من المقدمة والعشرون صفحة با استاذ حازم

الاخ حازم الفاضل انا راجعت تدقيق سيادتك جزاك الله خيرا هل يمكنك ان تسجل هذا الكلام فيديو   بأسلوب جذاب  = وقف عن أي تدقيق مؤقتا لحين...